المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌[مقدمة المؤلف] مؤتمر النجف - بسم الله الرحمن الرحيم - الحمد لله رب - مؤتمر النجف = الحجج القطعية لاتفاق الفرق الإسلامية

[السويدي]

الفصل: ‌ ‌[مقدمة المؤلف] مؤتمر النجف - بسم الله الرحمن الرحيم - الحمد لله رب

[مقدمة المؤلف]

مؤتمر النجف

- بسم الله الرحمن الرحيم -

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه الطاهرين.

أما بعد، لما يسر الله لي نصرة الشريعة الغراء، وردع أهل البدع والإغراء عزمت على حج بيت الله الحرام، شكرا له على ما وفقني من نيل المرام، وما به إصلاح أهل الإسلام، وإجراء الحق على يدي، وإخماد نار الباطل بمباحثتي وإرجاع الشيعة عما هم عليه من سب الصحابة وتكفيرهم وإدعائهم الفضل والخلافة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وتجوزيهم المتعة والمسح على الرجلين، وغير ذلك من قبائحهم وبدعهم وضلالتهم المشهورة المتواترة عنهم.

وقصة ذلك ـ باختصار ـ أن مملكة العجم لما اضمحلت، وملك الأفغان دار مملكتهم أصفهان (1) وملك آل عثمان ـ أيد الله بالتوفيق دولتهم ـ بعض البلدان، وذلك بعد قتل الأفغان شاه حسين، فظهر ابنه طهماسب ليأخذ بالثأر ويكشف العار، فجمع من حوله الأعاجم، فاجتمع عليه خلق كثير. ومن جملة من انضم إليه نادر شاه، وكان طهماسب قليل الفكر والاهتمام بأمور الرعية، منهمكا بشرب الخمر، فتقرب إليه نادر إلى أن

(1) وكان ذلك في سنة 1135 هـ على يد الأمير محمود الأفغاني من قبيلة كلزايي، وهو ابن الأمير أويس، وأصلهم من قندهار. انظر ترجمته في (قاموس للأعلام) لشمس الدين سامي بك ص 4222.

ص: 12

صار اعتماد دولته (1) وسلمه جميع أموره فشرع نادر هذا في رد الممالك فأخذ أصفهان من يد الأفغان وفرقهم شذر مذر، فلقب بطهماسب قلي، ومعناه: عبد طهماسب، وغلب عليه هذا اللقب إلى أنه لا يكاد يعرف اسمه الأول، ثم ثنى عنان عزمه على نحو الممالك التي بيد آل عثمان يخلصها من أيديهم، وجاء في عسكر عظيم ليحاصر بغداد، والوالي فيها الوزير الكبير والدستور المشير، عضد الدولة العثمانية ونظام المملكة الخاقانية الوزير بن الوزير أحمد باشا بن المرحوم حسن باشا، ولم يكن الوزير المشار إليه مأمورا بقتال هذا الباغي الخارجي؛ بل كان مأمورا بحفظ داخل القلعة، وأنه لو وقعت عمامته خارج السور لا يخرج إلى أخذها، وكان معه من الوزراء ثلاثة للمحافظة: قره مصطفى باشا، وصاري مصطفى باشا، وجمال أوغلي أحمد باشا فحاصر هذا الباغي بغداد ثمانية أشهر حتى نفد الزاد وأكلوا لحوم الخيل والحمير بل والسنانير والكلاب. فدفعه الله عن بغداد وسلمها منه، وذلك أن آل عثمان جهزوا عليه عسكرا، ورئيس العسكر طوبال عثمان باشا فتوجه نحو بغداد وهزم جنود الأعاجم حتى طهماسب قلي معهم وكسرهم لكن بعد قتال شديد. ثم بعد كسره وهزيمته جاء ثانيا وحاصرها الوزير الوالي أحمد باشا أيضا. فنجاها الله تعالى منه. ثم أنه توجه نحو الروم إلى أرض ارزن روم فنجاها الله منه. ولما رجع إلى صحراء مغان بايعه الأعاجم على السلطنة بتدبير منه، وكان تاريخ المبايعة (الخير فيما وقع) سنة 1148 ومن لم يرض بيعته قلب التاريخ المذكور وقال:(لا خير فيما وقع) وهو أيضا عين التاريخ الأول. ثم أنه توجه نحو الهند، ولم يزل يمر في تلك البلاد إلى

(1) أي وزيره، وكان من اصطلاحهم أن يلقبوا الوزير بلقب (اعتماد الدولة).

ص: 13

أن وصل إلى جهان آباد كرسي مملكة الهند فضبطها بعد قتال كثير، ثم أنه صالح سلطانها شاه محمد وأخذ من الهند أموالا كثيرة لا تعد ولا تحصى ورتب على شاه محمد كل عام أن يرسل خزينة من الأموال معلومة الأجناس والعدد، فارتحل من الهند وتوجه تحت تركستان واستولى على بلخ وبخاري والحاصل أن الأفغان والتركستان وجميع أهل إيران أطاعوه، وتزعم العجم أن الهند ـ شاههم شاه محمد ـ بايعوه، وأن الشاه محمد وكيل عنه، ولأجل ذلك لقب نفسه شاهنشاه وأمر أن لا يسمى إلا بهذا الاسم، وأوعد من يطلق عليه غير هذا الاسم. ثم توجه نحو داغستان يريد اللزك، وهو في هذه المدة لا تنقطع سفراؤه ورسله عن الدولة العثمانية، فتارة يطلب منهم حد الرها إلى ما وراء عبادان، وأن هذا ملكه بحسب الإرث عن تيمور الذي يدعى أنه وارثه ويطلب منهم أيضا التصديق بأن المذهب الشيعي الذي هم عليه الآن هو مذهب جعفر الصادق وأنه حق! ويقولون: مذاهب الإسلام خمسة، ويطلب أن يكون له ركن خامس في الكعبة! ويطلب أن يكون هو الذي يباشر طريق الحج من طريق زبيدة فيصلح البرك والآبار وغير ذلك، ويطلب أن يكون أمير الحاج، وإذا ذهب من طريق العراق يذهب واحد من طرفه بالناس ويرجع

ولم يزل هذا دأبه وديدنه وهو يسعى في الأرض بالفساد حتى أخرب أكثر أراضي العراقيين، وظهر الخلل فيها إلى عام 1156 فجاء إلى عراق العرب بجحافل متواترة وجنود متوفرة عدد الرمل والحصى، وبث سراياه وعساكره في تلك الأراضي، فأبقى لحصار بغداد نحو سبعين ألفا وأرسل لحصار البصرة نحو تسعين ألفا، فحاصروها مدة ستة أشهر إلا أن البصرة ضاربوها بالطوب (أي المدفع) والقنابر والبنادق،

ص: 14

أما بغداد فإنهم كانوا عنها على نحو فرسخ، وما ذلك إلا بتدبير واليها الوزير الكبير أحمد باشا. وأما نادر شاه وباقي عسكره فتوجه إلى شهرزور فأطاعه أهلها وكذلك عشائر الأكراد والأعراب، ثم توجه إلى قلعة كركوك فحاصرها ثمانية أيام ضرب عليها في هذه المرة عشرين ألف طوب ومثلها قنابر فسلموا وأطاعوه، ثم توجه إلى أربل فسلم أهلها وأطاعوه، ثم توجه إلى الموصل ـ وكان معه من العسكر نحو مائتي ألف مقاتل ـ فرمى عليها في خلال سبعة أيام نحو أربعين ألف طوب ومثلها قنابر، فسلموا الأمور لمدبرها وهو الله تعالى. ثم حفر لغوما وملأها بارودا ورصاصا وأشعلها بالنار فكانت وبالا عليه، فلما علم أنه لا يحصل من الموصل على طائل ارتحل عنها وتوجه بعسكره إلى بغداد، فجاء ونزل في قصبة سيدنا موسى بن جعفر (1) فزاره وزار محمدا الجواد، ثم عبر دجلة في قارب وزار الإمام أبا حنيفة (2) ولم تزل الرسل تختلف بينه وبين أحمد باشا إلى أن رفع مطالبة بالإقرار بصحة مذهب الشيعة والتصديق بأنه مذهب جعفر الصادق، ثم توجه إلى النجف لزيارة الإمام علي بن أبي طالب. وليرى القبة التي أمر بأن تبنى بالذهب.

فبينما أنا جالس قبيل المغرب من يوم الأحد الحادي والعشرين من شوال إذ جاء رسول الوزير أحمد باشا يدعوني إليه. فذهبت بعد صلاة المغرب ودخلت دار الحكم فخرج إلي بعض ندمائه وسماره (أحمد أغا) فقال: أتدري لم طلبك؟

(1) وتسمى الآن (الكاظمية).

(2)

ويسمى موضع قبره الآن (الأعظمية)

ص: 15

قلت: لا

قال: إن الباشا يريد أن يرسلك إلى الشاه نادر.

فقلت: ولم ذلك؟

قال: إنه (يعني نادر شاه) يريد عالما يبحث مع علماء العجم في شأن مذهب الشيعة ويقيم الدلائل على بطلانه والعجم يقيمون الدلائل على صحته فإن غلب عالمنا يجب أن يقر ويصدق بالمذهب الخامس.

فلما قرع سمعي هذا الكلام وقف شعري وارتعدت فرائصي وقلت: يا أحمد أغا، أنت تعلم أن الروافض أهل عناد ومكابرة فكيف يسلمون لما أقول؟ لاسيما وهم في شوكتهم وكثرة عددهم، وهذا الشاه ظالم غشوم فكيف أتجاسر على إقامة الدليل على بطلان مذهبه وتسفيه رأيه؟ وكيف تحصل المباحثة معهم وهم ينكرون كل حديث عندنا، فلا يقولون بصحة الكتب الستة ولا غيرها، وكل آية أحتج بها يؤولونها ويقولون: الدليل إذا تطرقه الاحتمال يبطل به الاستدلال، كما أنهم يقولون: شرط الدليل أن يتفق عليه الخصمان، على أن الأمور الاجتهادية تفيد الظن، فكيف أثبت لهم جواز المسح على الخفين وهو قد ثبت بالسنة؟ فإن قلت: روى حديث المسح على الخفين نحو سبعين صحابيا منهم الإمام علي، قالوا: عندنا ثبت عدم جواز المسح برواية أكثر من مائتي صحابي منهم أبو بكر وعمر، فإن قلت: إن هذه الأحاديث التي توردونها في عدم صحة المسح موضوعة مفتراة، قالوا: كذلك الأحاديث التي توردونها في صحة المسح موضوعة، فما هو جوابكم هو جوابنا. فكيف يلزمون بمثل هذه الأحاديث؟ فأرجو من جناب الوزير أن يرفع هذه المحنة عني، وليرسل المفتي الحنفي أو المفتي

ص: 16

الشافعي، فإنهما الأنسب في مثل هذه الحادثة.

فقال أحمد أغا: هذا أمر لا يمكن، وجناب الباشا اختارك لذلك فما يسعك سوى الامتثال فلا تحرك لسانك بخلاف مراده.

قال السويدي: ثم اجتمعت بالوزير أحمد باشا صبيحة تلك الليلة فتذاكر معي بخصوص هذا الأمر كثيرا وقال:

أسأل الله تعالى أن يقوي حجتك، ويطلق بالصواب لسانك وأنت مخير بين المباحثة وتركها. ولكن لا تترك البحث بالكلية، بل أورد بعض الأبحاث من خلال الصحبة بالمناسبة ليعلم العجم أنك ذو علم وإن رأيت منهم الإنصاف، وأنهم يريدون إظهار الصواب فابحث معهم، وإياك أن تسلم لهم.

ثم قال: إن الشاه في النجف وأريدك أن تكون عنده صبيحة يوم الأربعاء.

وأتى لي بكسوة فاخرة، ودابة، وخادم، وأرسل معي بعض خدام ركابه، وواجهنا مع رسل العجم الذين جاؤا في طلبنا. فخرجنا يوم الاثنين قبيل العصر لاثنتين وعشرين خلون من شوال، فلم أزل في الطريق أصور الدلائل من الطرفين وأخيل الأجوبة إذا وقع اعتراض. ولم يزل هذا دأبي وديدني، لا فكر لي إلا في تصوير الدلائل ودفع الشبه، حتى أني صورت أكثر من مائة دليل، وعلى كل دليل جعلت جوابا أو جوابين أو ثلاثة على حسب الشبه ومظنتها. وحصل لي في الطريق ضيق، حتى صار بولي دما عبيطا فدخلنا حلة دبيس بن زيد ـ وهي إذ ذاك في يد الأعاجم ـ فلقيت فيها بعض أهل السنة والجماعة، فأخبروني بأن الشاه جمع لهذه المسألة كل مفت في بلاده، وقد بلغوا الآن سبعين مفتيا كلهم روافض، فلما طرق سمعي ذلك

ص: 17

حوقلت واسترجعت (1) وزورت في نفسي كلاما وقلت: إن زعمت أني لست بمأمور بالمباحثة أجد نفسي لا تطيب بذلك، وإن باحثتهم أخشى أن ينقلوا للشاه خلاف ما يقع، فعزم رأيي وجزم فكري بأني لا أباحثهم إلا بحضور الشاه، وأقول له: إن مباحثتي تحتاج إلى حكم عالم لا يكون سنيا لئلا يتهم بأنه يريد مناصرتي، ولا شيعيا لئلا يتهم بأنه يريد مناصرتهم، فنحتاج حينئذ إلى عالم إما يهودي أو نصراني أو غير ذلك ممن لا يكون سنيا ولا شيعيا، وأقول له إنا قد رضينا بك، وأنت الحكم بيننا والله تعالى سائلك يوم القيامة فاسمع مقالنا لكي يظهر لك الحق.

ثم أني خليت لو مال رأيه إليهم، أخاصمه وأكالمه ولو أدى ذلك إلى قتلي، هذا كله أجريته في مخيلتي.

فخرجنا من الحلة المذكورة وقت العشاء الأخيرة ليلة الأربعاء المعهودة وكانت ليلة كثيرة الدث والضباب (2) لا يبصر الإنسان يده، وهي أشد وأبرد من الليلة التي قال فيها الشاعر:

في ليلة من جمادي ذات أندية

لا يبصر الكلب في أرجائها الطنبا

فلم نزل نسير تلك الليلة إلى أن جئنا (المشهد) المنسوب إلى ذي الكفل على نبينا وعليه الصلاة والسلام ـ وهو في نصف الطريق بين الحلة والنجف ـ فنزلنا خارج البناء واسترحنا قليلا، وسرينا، وصلينا الفجر عند بئر دندان، فلم نشعر إلا والبريد (3) يعدو عدوا شديدا، فقال لي:

(1) أي: قلت " لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون "

(2)

الدث: أضف المطر وأخفه. قال أعرابي: أمطرتنا السماء بدث لا يرضي الحاضر ويؤذي المسافر.

(3)

رسول الشاه.

ص: 18

ـ أسرع فإن الشاه يدعوك في هذا الوقت

وكانت المسافة بيني وبين مخيم الشاه فرسخين، فقلت للبريد:

ـ وكيف عادة الشاه إذا أرسل إليه رسول من بعض الملوك، أيطلبه كطلبي هذا من الطريق، أم يبقى مدة ثم يطلبه؟

قال: ما طلب أحدا غيرك من الطريق ولا طلب سواك.

فتحركت السوداء، وقلت في نفسي ما طلبك الشاه مستعجلا إلا ليلجئك على الإقرار والتصديق بمذهب الإمامية، فأولا يرغبك في الأموال فإن أجبته وإلا أكرهك على ذلك، فما رأيك؟ فخرجت على أني أقول الحق ولو كان فيه تلف نفسي، ولا يميلني ترغيب، ولا يزعجني ترهيب. وقلت: إن الإسلام وقف يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فمشى بسبب أبي بكر الصديق رضي الله عنه ووقف ثانيا في محنة القول بخلق القرآن، فدرج بسبب أحمد بن حنبل رحمه الله. وفي هذا اليوم وقف الإسلام ثالثا فإن توقفت وقف وقوفا أبديا (نعوذ بالله من ذلك) وإن درجت درج درجا سرمديا، ووقوفه ودرجه بسبب وقوف أهله ودرجهم. ولا ريب أن أهل تلك الأطراف لهم بهذا الفقير حسن ظن فيعتقدون بي: إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فجزمت نيتي وحسنت طويتي ووطنت نفسي على الموت حتى استسهلته وقلت: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله تعالى، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. وسقت دابتي وأنا أكرر الشهادتين، فتراءى لي علمان كبيران رفيعان كالنخلة السحوق فسألت عنهما، فقيل لي: إنهما علما الشاه يغرزهما ليعلم أكابر الجنود كيفية نزولهم في المخيم، فمنهم من ينزل عن يمين

ص: 19

العلمين ومنهم من ينزل عن شمالها

إلى غير ذلك من الأوضاع، فسرنا حتى رأينا الخيام، وخيمته على سبعة أعمدة كبار رفيعة، فجئنا إلى محل يعبر عنه عندهم بالـ (كشك خانه) وهي عبارة عن خيام متقابلة، في كل طرف خمس عشرة خيمة على هيئة القبلة التي لها إيوان، لكن بلا عمد وبين رأس الخيام مما يلي خيمة الشاه رواق متصل وفي وسطه باب عليه سجاف، ففي الخيام التي على اليمين نحو أربعة آلاف بنادقي ليلا ونهارا يحرسون، والتي عن الشمال فارغة كراسي منصوبة لا غير، فلما دنوت إلى الكشك خانه نزلت، فخرج لاستقبالي رجل، فرحب بي، وأكرمني ولم يزل يسألني عن الباشا وعن خواص أتباعه، وأنا أتعجب من كثرة معرفته بأتباع الشاه، فلما عرف ذلك مني قال:

ـ كأنك لا تعرفني!

قلت: نعم

فقال: أنا عبد الكريم بيك، خدمت في باب أحمد باشا مدة، وفي هذه الأيام أرسلت من طرف الدولة الإيرانية إلى الدولة العثمانية إيلجيا (سفيرا).

فينما هو يحدثني؛ إذا نحن بتسعة رجال أقبلوا، فلما وقع نظره عليهم قام على قدميه، فسلموا علي، فرددت عليهم وأنا جالس لا أعرفهم، فشرع عبد الكريم يعرفهم لي واحدا بعد واحد فقال لي:

ـ هذا معيار الممالك حسن خان، وهذا مصطفى خان، وهذا نظر علي خان، وهذا ميرزا كافي

فلما سمعت بذكر (معيار الممالك) قمت على قدمي فصافحني هو ومن

ص: 20

معه ورحبوا بي. ومعيار الممالك هو وزير الشاه، كرجي الأصل من موالي شاه حسين.

ثم قالوا لي: تفضل لملاقاة الشاه.

فرفعوا السجف التي وسط الرواق فبان وراءه رواق آخر، بينهما فسحة ثلاثة أذرع، فأوقفوني هناك وقالوا:

إذا وقفنا قف، وإذا مشينا امش!

فأخذنا ذات اليسار فانتهى الرواق وإذا ببرقع واسع يحيط به رواق يرى من البعد وفيه من الخيام كثير لنسائه وحرمه، فنظرت إلى خيمة الشاه وإذا هو عني مقدار غلوة سهم، جالس على كرسي عال. فلما وقع نظره علي صاح بأعلى صوته:

مرحبا بعبد الله أفندي! أخبرني أحمد خان (يعني أحمد باشا) يقول إني أرسلت لك عبد الله أفندي

ثم قال لي: تقدم!

فتقدمت مثل الأول، ووقفت ولم يزل يقول لي (تقدم!) وأنا أتقدم خطا صغيرا حتى صرت منه قريبا نحو خمسة أذرع، فرأيته رجلا طويلا كما يعلم من جلسته وعلى رأسه قلنسوة مربعة بيضاء كقلانس العجم وعليه عمامة من المرعز مكللة بالدرر واليواقيت والألماس وسائر نفائس الجواهر وفي عنقه قلائد در وجواهر على عضده كذلك. والدر والألماس واليواقيت مخيطة على رقعة مربوطة بعضده، ويلوح على وجهه أثر الكبر وتقدم السن، حتى أن أسنانه المتقدمة ساقطة، فهو ابن ثمانين عاما تقريبا

ص: 21

ولحيته سوداء مصبوغة بالوسمة (1) ولكنها حسنة، وله حاجبان مقوسان مفروقان وعينان تميلان إلى الصفرة إلا أنهما حسنتان. والحاصل صورته جميلة. فحينما وقع نظري عليه زالت هيبته عن قلبي، وذهب عني الرعب فخاطبني باللغة التركمانية (كخطابه الأول) وقال لي:

ـ كيف حال أحمد خان؟

فقلت: بخير وعافية.

فقال: أتدري لم أردتك؟

قلت: لا!

فقال: إن في مملكتي فرقتين تركستان وأفغان يقولون للإيرانيين (أنتم كفار) فالكفر قبيح ولا يليق أن يكون في مملكتي قوم يكفر بعضهم بعضا، فالآن أنت وكيل من قبلي: ترفع جميع المكفرات، وتشهد على الفرقة الثالثة يما يلتزمونه. وكل ما رأيت أو سمعت تخبرني وتنقله لأحمد خان

ثم رخص لي بالخروج، وأمر أن تكون دار ضيافتي عند اعتماد الدولة وأن اجتمع بعد الظهر مع الملا باشي علي أكبر.

فخرجت وأنا في غاية الفرح والسرور، لأن حكم العجم صار بيدي.

وأتيت دار الضيافة فجلست قليلا؛ فجاء الاعتماد إلى خيمته فدعاني إلى الطعام، وكان المهمندار نظر علي خان وفي صحبته عبد الكريم بك، وأبو ذر بك. كان هؤلاء في خدمتي.

فلما أقبلت على الاعتماد وسلمت عليه رد علي السلام وهو جالس

(1) نبت يختضب بورقه، ويقال هو العظلم وورق النيل.

ص: 22

فانفعلت ووجدت في نفسي حيث لم يقم على قدميه، فقلت في نفسي: إذا استقر بي الجلوس أقول للاعتماد: إن الشاه أمر برفع المكفرات ووكلني على ذلك، فأول كفر أرفعه الكفر الصادر منك حيث قصدت تحقير العلماء وإهانتهم، ولا أرضى برفعه إلا بقتلك. ثم أقوم من مجلسه وأذهب إلى الشاه لأخبره بالواقعة. هذا كله صورته في نفسي، فلما استقر بي الجلوس نهض على قدميه ورحب بي، وإذا هو رجل طويل جدا أبيض الوجه كبير العينين، لحيته مصبوغة بالوسمة إلا أنه رجل عاقل يفهم المحاورات ويعقل المذاكرات، في طبعه لين، وميل إلى السنة والجماعة. فلما قام علمت أن هذه عادتهم: يقومون بعد جلوس القادم، فأكلت عنده الغداء، فجاء الأمر باجتماعنا مع الملا باشي، فركبت دابتي وجماعة المهمندار يمشون أمامي. فعارضني رجل طويل في الطريق، زيه زي الأفغان. فسلم علي ورحب بي فقلت له: من أنت؟

فقال: أنا الملا حمزة القلنجاني مفتي الأفغان.

فقلت: يا ملا حمزة، أتحسن العربية؟

قال: نعم.

قلت: إن الشاه أمر برفع كل مكفر عند الإيرانيين، فربما ينازعونني في شيء من المكفرات، أو أنهم لا يذكرون بعض المكفرات ونحن لا نعرف أحوالهم ولا عبادتهم، فما اطلعت على مكفر فاذكره حتى أرفعه.

فقال: يا سيدي إياك أن تغتر بقول الشاه، إنه أنما أرسلك إلى الملا باشي ليباحثك أثناء الكلام وفي خلال المباحثة فاحترز منهم!

ص: 23

فقلت: إني أخشى عدم إنصافهم.

قال: كن أمينا من هذه فإن الشاه جعل على هذا المجلس ناظرا وعلى الناظر ناظرا آخر، ثم على الآخر آخر. وكل واحد لم يدر بحال صاحبه، فلا ينقل للشاه غير الواقع.

فلما قربت من خيمة الملا باشي خرج لاستقبالي راجلا، فإذا هو رجل قصير أسمر له صداغ (1) إلى نصف رأسه، فنزلت عن دابتي فرحب بي وأجلسني فوقه على المنصة وجلس كهيئة التلميذ، فدار الكلام بيننا إلى أن خاطب الملا باشي مفتي الأفغان فقال له:

ـ رأيت اليوم هادي خوجه بحر العلم؟

فقال: نعم

وهادي خوجه هذا قاضي بخارى، لقبه بحر العلم، جاء إلى أوردي الشاه (أي إلى المعسكر) قبل مجيئي بأربعة أيام ومعه ستة من علماء ما وراء النهر (2) فقال الملا باشي:

ـ كيف يسوغ له أن يلقب ببحر العلم وهو لا يعرف من العلم شيئا، فوالله لو سألته عن دليلين في خلافة علي لما استطاع أن يجيب عنهما، بل ولا الفحول من أهل السنة (وكرر الكلام ثلاث مرات) فقلت له:

ـ وما هذان الدليلان اللذان لا جواب عنهما؟

(1) سمة في الصدغ.

(2)

هو في اصطلاح السلف ما وراء نهر جيحون إلى شرقيه وكان يسمى ببلاد الهياطلة. فسمي في الإسلام ما وراء النهر. أما الذي يلي جيحون من غربيه فمقاطعتا خراسان وخوارزم.

ص: 24

قال: قبل تحرير البحث أسألك هل قول رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لعلي: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي من بعدي» ، ثابت عندكم؟

فقلت: نعم إنه حديث مشهور.

فقال: هذا الحديث بمنطوقه ومفهومه يدل دلالة صريحة على أن الخليفة بالحق بعد النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب.

قلت: ما وجه الدليل من ذلك؟

قال: حيث أثبت النبي لعلي جميع منازل هارون ولم يستثن إلا النبوة ـ والاستثناء معيار العلوم ـ فثبت الخلافة لعلي لأنها من جملة منازل هارون. فإنه لو عاش لكان خليفة عن موسى.

فقلت: صريح كلامك يدل على أن هذه القضية موجبة كلية فما سور هذا الإيجاب الكلي؟

قال: الإضافة التي في الاستغراق بقرينة الاستثناء.

فقلت: أولا إن هذا الحديث غير نص جلي وذلك لاختلاف المحدثين فيه، فمن قائل إنه صحيح ومن قائل إنه حسن، ومن قائل إنه ضعيف، حتى بالغ ابن الجوزي فادعى أنه موضوع، فكيف تثبتون به الخلافة وأنتم تشترطون النص الجلي؟!

فقال: نعم نقول بموجب ما ذكرت، وإن دليلنا ليس هذا وإنما قوله صلى الله عليه وسلم «سلموا على علي بأمرة المؤمنين» وحديث الطائر. ولأنكم تدعون أنهما موضوعان فكلامي في هذا الحديث معكم، لم لم تثبتوا أنتم الخلافة لعلي به!

ص: 25

قلت: هذا الحديث لا يصلح أن يكون دليلا .. من وجوه: منها أن الاستغراق ممنوع، إذ من جملة منازل هارون كونه نبيا مع موسى، وعلي ليس بنبي باتفاق منا ومنكم، لا مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا بعده، فلو كانت المنازل الثابتة لهارون ـ ما عدا النبوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ـ ثابتة لعلي لاقتضى أن يكون علي نبيا مع النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبوة معه لم تستثن وهي من منازل هارون عليه السلام وإنما المستثنى النبوة بعده. وأيضا من جملة منازل هارون كونه أخا شقيقا لموسى، وعلي ليس بأخ. والعام إذا تخصص بغير الاستثناء صارت دلالته ظنية، فليحمل الكلام على منزلة واحدة كما هو ظاهر التاء التي للوحدة فتكون الإضافة للعهد وهو الأصل فيها، و (إلا) في الحديث بمعنى (لكن) كقولهم: فلان جواد إلا أنه جبان، أي لكنه، فرجعت القضية مهملة يراد منها بعض غير معين فيها، وإنما تعيينه من خارج، والمعين هو المنزلة المعهودة حين استخلف موسى هارون على بني إسرائيل، والدال على ذلك قوله تعالى:{اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} (1) ومنزلة علي هي استخلافه على المدينة في غزوة تبوك. (2)

فقال الملا باشي: والاستخلاف يدل على أنه أفضل وأنه الخليفة بعد.

فقلت: لو دل هذا على ما ذكرت لاقتضى أن ابن أم مكتوم خليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لأنه استخلفه على المدينة، واستخلف أيضا غيره، فلم خصصتم عليا بذلك دون غيره مع اشتراك الكل في الاستخلاف؟ وأيضا لو كان هذا من باب الفضائل لما وجد علي في نفسه وقال (أتجعلني مع النساء والأطفال

(1) سورة الأعراف: جزء من الآية 142.

(2)

أي كاستخلاف موسى أخاه هارون لما ذهب إلى الجبل ليعود بالألواح.

ص: 26

والضعفة؟) فقال النبي صلى الله عليه وسلم تطييبا لنفسه (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟)

فقال: قد ذكر في أصولكم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

قلت: إني لم أجعل خصوص السبب دليلا وإنما هو قرينة تعيين ذلك البعض المهم.

فانقطع

ثم قال: عندي دليل آخر لا يقبل التأويل، وهو قوله تعالى:{فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} (1)

قلت له: ما وجه الدليل من هذه الآية؟

فقال: إنه لما أتى نصارى نجران للمباهلة، احتضن النبي صلى الله عليه وسلم الحسين وأخذ بيد الحسن، وفاطمة من ورائهم وعلي خلفهما، ولم يقدم الدعاء إلا الأفضل

قلت: هذا من باب المناقب، لا من باب الفضائل، وكل صحابي اختص بمنقبة لا توجد في غيره، كما لا يخفى على من تتبع كتب السير. وأيضا إن القرآن نزل على أسلوب كلام العرب، وطرز محاوراتهم، ولو فرض أن كبيرين من عشيرتين وقع بينهما حرب وجدال، يقول أحدهما للآخر: ابرز أنت وخاصة عشيرتك، وأبرز أنا وخاصة عشيرتي، فنتقابل ولا يكون معنا من الأجانب أحد، فهذا لا يدل على أنه لم يوجد مع الكبيرين أشجع

(1) سورة آل عمران: جزء من الآية 61.

ص: 27

من خاصتهما. وأيضا الدعاء بحضور الأقارب يقتضي الخشوع المقتضى لسرعة الإجابة.

فقال: ولا ينشأ الخشوع إذ ذاك إلا من كثرة المحبة.

فقلت: هذه محبة مرجعها إلى الجبلة والطبيعة، كمحبة الإنسان نفسه وولده أكثر ممن هو أفضل منه ومن ولده بطبقات فلا يقتضي وزرا ولا أجرا إنما المحبة المحدودة تقتضي أحد الأمرين المتقدمين إنما هي المحبة الاختيارية.

فقال: وفيها وجه آخر يقتضي الأفضلية، وهو حيث جعل نفسه صلى الله عليه وسلم نفس علي، إذ في قوله (أبناءنا) يراد الحسن والحسين، وفي (نساءنا) يراد فاطمة وفي (أنفسنا) لم يبق إلا علي والنبي صلى الله عليه وسلم.

فقلت: الله أعلم إنك لم تعرف الأصول، بل ولا العربية، كيف وقد عبر بأنفسنا و (الأنفس) جمع قلة مضافا إلى (نا) الدالة على الجمع، ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي تقسيم الآحاد، كما في قولنا (ركب القوم دوابهم) أي ركب كل واحد دابته، وهذه مسألة مصرحة في الأصول، غاية الأمر أنه أطلق الجمع على ما فوق الواحد وهو مسموع كقوله تعالى:{أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} (1) أي عائشة وصفوان رضي الله عنهما، وقوله تعالى:{فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (2) ولم يكن لهما إلا قلبان، على أن أهل الميزان (3) يطلقون الجمع في التعاريف على ما فوق الواحد، وكذلك أطلق الأبناء على الحسن والحسين والنساء على فاطمة فقط مجازا، نعم لو كان بدل أنفسنا (نفسي)

(1) سورة النور: جزء من الآية 26.

(2)

سورة التحريم: جزء من الآية 4.

(3)

أي علم المنطق.

ص: 28

لربما كان له وجه ما بحسب الظاهر، وأيضا لو كانت الآية دالة على خلافة علي لدلت على خلافة الحسن والحسين وفاطمة مع أنه بطريق الاشتراك ولا قائل بذلك لأن الحسن والحسين إذ ذاك صغيران وفاطمة مفطومة كسائر النساء عن الولايات، فلم تكن الآية دالة على الخلافة.

فانقطع

ثم قال: عندي دليل آخر وهو قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (1) أجمع أهل التفسير على أنها نزلت في علي حين تصدق بخاتمه على السائل وهو في الصلاة و (إنما) للحصر و (الولي) بمعنى (الأولى منكم بالتصرف).

فقلت: لهذه الآية عندي أجوبة كثيرة.

وقبل أن اشرع في الأجوبة قال بعض الحاضرين من الشيعة باللغة الفارسية يخاطب الملا باشي بشي معناه: اترك المباحثة مع هذا فإنه شيطان مجسم وكلما زدت في الدلائل وأجابك عنها انحطت منزلتك.

فنظر إلي وتبسم وقال:

ـ إنك رجل فاضل، تجيب عن هذه وعن وغيرها ولكن كلامي مع بحر العلم، فإنه لا يستطيع أن يجيب.

فقلت: الذي كان في صدر كلامك أن فحول أهل السنة لا يستطيعون الجواب، فهذا الذي دعاني إلى المعارضة والمحاورة.

فقال: أنا رجل أعجمي، ولا أتقن العربية فربما صدر مني لفظ غير مقصود لي

(1) سورة المائدة: الآية 55.

ص: 29

ثم قلت له: أريد أن أسألك عن مسألتين لا تستطيع أهل الشيعة الجواب عنها.

فقال: وما هما؟

قلت: الأولى: كيف حكم الصحابة عند الشيعة؟

فقال: ارتدوا (إلا خمسة: عليا والمقداد وأبا ذر وسلمان الفارسي وعمار بن ياسر) حيث لم يبايعوا عليا على الخلافة.

قلت: إن كان الأمر كذلك فكيف زوج علي بنته أم كلثوم من عمر بن الخطاب؟

فقال: إنه مكره؟

قلت: والله إنكم اعتقدتم في علي منقصة لا يرضى بها أدنى العرب، فضلا عن بني هاشم الذين هم سادات العرب وأكرمهما أرومة وأفضلها جرثومة وأعلاها نسبا وأعظمها مروءة وحمية وأكثرها نعوتا سنية، وإن أدنى العرب يبذل نفسه دون عرضه، ويقتل دون حرمه، ولا تعز نفسه على حرمه وأهله، فكيف تثبتون لعلي، وهو الشجاع الصنديد ليث بني غالب أسد الله في المشارق والمغارب، مثل هذه المنقصة التي لا يرضى بها أجلاف العرب؟ بل كم رأينا مَن قاتل دون عياله فقتل؟

قال: يحتمل أن تكون زفت لعمر جنية (1) تصورت بصورة أم كلثوم؟

قلت: هذا أشنع من الأول، فكيف يعقل مثل هذا؟ ولو فتحنا هذا الباب لانسد جميع أبواب الشريعة حتى لو أن الرجل جاء إلى زوجته لاحتمل

(1) أورد القطب الراوندي عن عمر بن أذينة قال: «قيل لأبي عبد الله عليه السلام: إن الناس يحتجون علينا ويقولون إن أمير المؤمنين عليه السلام زوج فلانا [أي عمر بن الخطاب رضي الله عنه] ابنته أم كلثوم، وكان متكئا فجلس وقال: أيقولون ذلك، إن قوما يزعمون ذلك لا يهتدون إلى سواء السبيل، سبحان الله ما كان يقدر أمير المؤمنين عليه السلام أن يحول بينه وبينها فينقذها، كذبوا لم يكن ما قالوا: إن فلانا [عمر رضي الله عنه] خطب إلى علي ابنته أم كلثوم، فأبى علي عليه السلام، فقال للعباس: والله لئن لم تزوجني لأنتزعن منك السقاية وزمزم، فأتى العباس عليا فكلمه، فأبى، فألح العباس، فلما رأى أمير المؤمنين عليه السلام مشقة كلام الرجل على العباس، وأنه سيفعل بالسقاية ما قال، أرسل أمير المؤمنين عليه السلام إلى جنيّة من أهل نجران يهودية يقال لها (سحيفة بنت جريرية)، فأمرها فتمثلت في مثال أم كلثوم وحجبت الأبصار عن أم كلثوم، وبعث بها إلى الرجل فلم تزل عنده حتى أنه استراب بها يوما فقال: ما في الأرض أهل بيت أسحر من بني هاشم، ثم أراد أن يظهر ذلك للناس فلما قتل حوت الميراث وانصرفت إلى نجران، وأظهر أمير المؤمنين أم كلثوم» . الخرائج والجرائح: 2/ 825؛ المجلسي، بحار الأنوار: 42/ 88.

ص: 30

أن تقول: أنت جني تصورت بصورة زوجي فتمنعه من الإتيان بها. فإن أتى بشاهدين عدلين على أنه فلان، لاحتمل أن يقال فيهما: إنهما جنيان تصورا بصورة هذين العدلين، وهلم جرا

ويحتمل أن يقتل الإنسان أحدا، أو يدعي عليه بحق، فله أن يقول ليس المطالب أنا في هذه الحادثة بل ويحتمل أن يكون جنيا تصور بصورتي ويحتمل أن يكون جعفر الصادق ـ الذي تزعمون أن عباداتكم موافقة لمذهبه ـ جنيا تصور بصورته وألقى إليكم هذه الأحكام الثابتة.

ثم قلت له: ما حكم أفعال الخليفة الجائر؟ هل هي نافذة عند الشيعة؟

فقال: لا تصح ولا تنفيذ.

فقلت: أنشدك الله من أي عشيرة أمّ محمد بن الحنفية بن علي بن أبي طالب؟

فقال: من بني حنيفة.

فقلت: من سبي بني حنيفة؟

قال: لا أدري (وهو كاذب).

فقال بعض العلماء الحاضرين من علمائهم:

ـ سباهم أبو بكر - رضي الله تعالى عنه -

فقلت: كيف ساغ لعلي يأخذ جارية من السبي ويستولدها، والإمام ـ على زعمكم ـ لا تنفذ أحكامه لجوره، والاحتياط في الفروج أمر مقرر!

فقال: لعله استوعبها من أهلها، يعني زوجوه بها.

ص: 31

قلت: يحتاج هذا إلى دليل.

فانقطع

والحمد لله.

ثم قلت: إنما لم آتك بحديث أو آية، لأني مهما بلغت في صحة الحديث أقول (رواه أهل الكتب الستة وغيرهم) فنقول: أنا لا أقول بصحتها، وشرط الدليل أن يتفق عليه الخصمان. ولو آتيك بآية وقلت (أجمع أهل التفسير على أن حكمها كذا وأنها نزلت في شأن أبي بكر) قلت إجماع أهل التفسير لا يكون حجة عليَّ، وتذكر تأويلا بعيدا وتقول: الدليل إذا تطرقه الاحتمال بطل الاستدلال، فهذا الذي دعاني إلى ترك الاستدلال بالآية أو الحديث.

ثم إن الشاه أخبر بهذه المباحثة طبق ما وقع، فأمر أن يجتمع علماء إيران وعلماء الأفغان وعلماء ما وراء النهر ويرفعوا المكفرات، وأكون ناظرا عليهم ووكيلا عن الشاه وشاهدا على الفرق الثلاث بما يتفقون عليه.

فخرجنا نشق الخيام، والأفغان والأزبك والعجم يشيرون إلي بالأصابع وكان يوما مشهودا.

ص: 32