الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخاصية السابعة: التعطش المخيف للدماء:
يعتقد البعض أن جلد الشيعة لظهورهم بالجنازير وضرب رؤوسهم بالسيوف وإسالة الدماء من جباه أطفالهم هو مجرد شعائر دينية تعبر عن ندم الشيعة لخيانتهم للحسين، والحقيقة أن الموضوع أخطر من ذلك بكثير، فعلماء النفس يقولون أن الإنسان الذي يسيل الدماء من جسده تهون عليه إسالة دماء الآخرين بعد ذلك من دون أن يكترث لذلك، ثم إن الكلب الذي يتعود على رائحة الدماء يتحول إلى كلب مسعور ينهش بمن حوله، وربما يفسر هذا مدى الإجرام الفظيع الذي رأيناه بالعراق في السنوات الأخيرة، ولقد وصف هذه الظاهرة الخطيرة الشاعر الأعظم زهير بن أبي سلمى فأحسن وصف تلك الأجيال التي تتعود على الدماء فقال: فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم * * كأحمر عادٍ ثم ترضع فتفطم.
ولكن. . . . من أين جاء الشيعة بعقيدة الطعن بشرف الأنبياء؟ ومن هي المرأة الطاهرة التي طُعن بشرفها في أرض فلسطين قبل عائشة بمئات السنين؟ وما هي أوجه الشبه التي تربط بينها وبين عائشة؟ ولماذا اعتبرها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من بين أعظم نساء الأرض في التاريخ؟ فمن هي تلك العظيمة الإِسلامية التي ورد اسمها في القرآن الكريم في أربعةٍ وثلاثين موضعًا؟
يتبع. . . . .
(مريم)
(اللَّه)
الإِسلام دين يحمل في جنباته كل مقومات العظمة والسؤدد، لا يلتزم به أحد من البشر إلا وشعر بقوةٍ عجيبة تجري في دمائه كجريان النهر في وديان الصحراء، لتجعل منه إنسانًا عظيمًا تظهر عظمته في بريق عينيه المتلألئة! فليس هناك في الإِسلام ما يدعو للخجل أبدًا، فالإِسلام دين السلام، وتحيتنا هي السلام، ودارنا في الآخرة هي دار السلام، وصلاتنا تنتهي بالسلام، ونبينا هو نبي السلام، وهو الذي كرّم موسى عليه السلام الذي ينتسب إليه اليهود، وهو الذي كرَّم عيسى عليه السلام الذي ينتسب إليه النصارى، وهو الذي كرَّم علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي ينتسب إليه من يطعنون بشرف ابن عمه في الغداة والعشي، وهو الذي كرّم بني الإنسان وعظم إنسانيتهم بغض النظر عن ألوانهم وأعراقهم، وواللَّه إننا لو أحسنا الدعوة لهذا الدين لملكنا به قلوب الناس جميعًا حتى ولو لم يعتنق هؤلاء الإِسلام!
ومريم ابنة عمران هي الإنسانة التي لم يخلق اللَّه إنسانة مثلها من لدن حواء إلى قيام الساعة! نحن نتحدث عن العذراء البتول، وعن الطاهرة المطهرة، وعن التقية النقية، وعن العابدة القانتة، نحن نتحدث عن الإنسانة التي كرّمها الإِسلام، فجعلها المرأة الوحيدة التي توجد سورة كاملة باسمها، والتي ورد اسمها في القرآن بأكثر من ثمانية أضعاف ما ورد فيه اسم نبي الإِسلام نفسه!
ولن نبدأ الحديث عن مريم من مولد المسيح المعجز، ولن نبدأ من جذع النخلة التي هزته هذا المرأة البطلة، فكما اعتدنا في هذا الكتاب. . . نحن هنا لا نبحث عن الأبطال، بل نبحث عن سر صناعة الأبطال، وذلك لكي نصنع من أنفسنا وأبنائنا وبناتنا أبطالًا يعيدون إحياء هذه الأمة. . . .
وصناعة البطلة مريم بدأت مع عصفورة صغيرة على شجرة من أشجار أرض
فلسطين المباركة، هناك على غصون تلك الزيتونة كانت تلك العصفورة تطعم فرخًا صغيرًا لها، فصادف ذلك وجود سيدة كريمة من بني إسرائيل اسمها (حِنّة بنت فاقود) كانت زوجة لعالم جليل من بني إسرائيل اسمه (عمران) وهو رجلٌ من ذرية داود وسليمان عليهما السلام، المهم أن حِنة هذه لم يكن لها ولد، فلمّا رأت تلك العصفورة تطعم فرخها الصغير اشتهت الولد، فاستيقظت في داخلها عاطفة الأمومة، فدعت اللَّه أن يرزقها بالولد، فاستجاب اللَّه لدعائها، فلمّا أحست بالجنين يتحرك في داخلها أرادت أن تشكر اللَّه عز وجل، فنذرت ما في بطنها لخدمة بيت المقدس، فلما جاء المولود أنثى أسماها الزوجان باسم (مريم) وهو اسمٌ يعني (العابدة) باللغة العبرية، ولكن عمران وزوجته احتارا في أمر مريم، فلقد كان الذكور فقط هم من يُسمح لهم بالخدمة في القدس، ولكنهما على الرغم من ذلك ذهبا بها إلى القدس لكي يربياها تربية تصنع منها عظيمة من عظيمات التاريخ، وهنا يأتي دور الوالدين المهم والأساسي في صناعة العظماء، فما إن وصلا للقدس حتى تدافع علماء بني إسرائيل نحو تلك الرضيعة كلهم يريد أن ينال شرف تربية ابنة عالمهم الشهير عمران، فاختلفوا فيما بينهم أيهم يكفلها، فاتفقوا على أن يقترعوا فيما بينهم بقرعة عجيبة، وذلك بأن يرمي كل عالم منهم بقلمه في نهر الأردن، فيكون صاحب القلم الذي يسبح عكس التيار هو صاحب شرف تربية مريم، فجرف التيار كل الأقلام إلا قلمًا واحدًا وجدوه يجري عكس التيار، فلما أحضروا ذلك القلم وجدوه قلم رجلٍ صالحٍ يعني اسمه بالعبرية (مذكور اللَّه) وهو نبي اللَّه (زكريا)! فرباها زكريا عليه السلام خير تربية، فنشأت مريم الطاهرة كوردة بيضاء في بستان طاهر، حتى أصبحت تلك العذراء العظيمة التي يعتبرها المسلمون سيدة من نساء أهل الجنة، بينما يعتبرها اليهود امرأة زانية زنت مع رجل اسمه (يوسف النجار) لتحمل بعيسى الذي لا يعترفون بنبوته (وربما كانت الأصول اليهودية لمؤسس المذهب الشيعي عبد اللَّه بن سبأ سببًا في طعن الشيعة بزوجات الرسول وزوجة إمامهم الحسن بن علي. . . . العربية!)، وبسبب هذه التربية الصالحة أصبحت السيدة مريم العذراء مثالًا للعفة والطهارة لكل نساء العالمين، وليختارها اللَّه بعد ذلك لكي تحمل كلمته التي ألقاها عليها جبريل، لتكون بذلك صاحبة أطهر بطن، وأصفى حمل، وأسعد ميلاد. ولم يكتف اليهود بالطعن
في شرف هذه السيدة الطاهرة، بل قاموا أيضًا باضطهادها وتعذيبها، حتى خرجت بوليدها الصغير هربًا إلى أرض مصر، قبل أن تعود إلى فلسطين بعد ذلك بسنوات!
وفي مصر بالتحديد. . . . وُلدت سيدة أخرى من بني إسرائيل قبل ميلاد مريم بأكثر من 1230 عام ليغير اللَّه بهذه السيدة البطلة حال أمة بأسرها؟
يتبع. . . . .
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى}
(أم موسى)
{لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا}
(اللَّه)
كنت أتعجب فيما مضى عن سر تفصيل القرآن لقصة سيدنا موسى بالذات، فلقد ورد ذكر اسم موسى في القرآن 136 مرة في 34 سورة، ذكر اللَّه فيها جميع مراحل حياته، ابتداء من قصة ميلاده، وحتى انتصاره على عدو اللَّه فرعون وحكاياته المريرة مع معاندي بني إسرائيل. فدار في خاطري وأنا أقرأ دعاء موسى في سورة طه:{وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27)} ، أن اللَّه ربما اختار موسى ليتكلم عنه بهذه الكثرة، بل وليكلمه بذاته العلية، ليثبت للبشر حقيقة إلهية خالدة، ألا وهي أن العظمة الإنسانية تكمن في أفعال الإنسان وليس كما يظنها البعض بفصاحة اللسان وحلاوة الكلام ووضوح المنطق! فموسى كان صعب اللسان، قليل الفصاحة، فكلمه رب الفصاحة بعظمة جلاله! فربما كان هذا سببًا من أسباب ذلك التفصيل لقصة موسى! ولكن الشيء الذي أنا متأكدٌ منه هو أن قصة موسى بالذات هي قصة بناء الأمم بامتياز، فأراد اللَّه تفصيلها للمسلمين لكي ينهلوا منها سُبل النهوض بأمتهم في أي وقت أرادوه، حتى ولو طال زمان الانحدار بهم، فقصة موسى وفرعون هي قصة نصر اللَّه لعباده المستضعفين في كل الأزمنة، وهي سنة اللَّه التي جرت في الخلق منذ الأزل، والتي تتلخص بأن اللَّه تعالى سوف يأخذ بيد المستضعفين ليرفعهم على المستكبرين ويورثهم أرضهم وديارهم ولو طال زمن الظلم والعدوان، لذلك أمر اللَّه رسول اللَّه في بداية روايتها بأن يقصها على المؤمنين لكي يتعظوا منها فقال تعالى:{نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3)} ولنستمع الآن إلى 7 آيات من سورة القصص أعتبرها ملخص قصة القيام الإِسلامي بعد سنوات الهزيمة والانحدار، يقول اللَّه: {طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ
طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)}.
وبدأ التنفيذ. . . .
يقول اللَّه مباشرة بعد أن تلك الآيات: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى. . .} .
فلقد كانت أم موسى هي أساس قيام الأمة بعد سنوات الهزيمة والانحدار، ولقد كان بناء أمة بأسرها يبدأ بامرأة واحدة، بل كانت هزيمة أكبر قوة إجرامية على على مر التاريخ الإنساني تبدأ بتلك المرأة، هزيمة أعظم جبارٍ عرفه الإنسان بدأت بامرأة فقيرة تسكن في بيت صغيرِ على ضفاف النيل، وهنا يأتي دور المرأة المسلمة في صناعة النصر، فالمرأة هي التي أراد اللَّه من خلالها أن يمن على الذين استضعفوا في الأرض ويجعلهم أئمة، فواللَّه لن تقوم أمة من هزيمتها وهي تحتقر نساءها! فزوجتك التي عودتها على الذل والهوان لن تنجب لك إلا ذليلًا! وأختك التي تضربها في الغداة والعشي لن تربّي إلا إمعة! وأمك التي لا تحترمها لن تدعو لك إلا بالهزيمة والخذلان! وابنتك التي تمنعها من العلم لن تكون إلا تافهة تضاف إلى التافهات في هذه الأمة! فاللَّه اللَّه في النساء، فهن أساس البناء الصحيح، وهن أساس القيام!
وقصة أم موسى بدأت قبل ذلك بكثير، وبالتحديد قبل 300 عام أو يزيد، في ذلك الوقت بيع طفل بثمن بخس في أرض مصر بعد أن وجدته سيّارة في بئرٍ من آبار فلسطين، هذا الطفل كان يُقال له (يوسف)! ليصبح يوسف بذلك عبدًا عند ملك من ملوك (الهكسوس) الذين كانوا يحتلون مصر في حينها، ثم أصبح بعدها وزيرًا مقربا للملك، ليأتي بأهله جميعًا إلى مصر ليعيشوا في رعاية الملك في سلامٍ وأمان. ولكن المشكلة تبدأ بعد ذلك بسنوات عندما جاء الفرعون (أحمس الأول) ليُنهي دولة الهكسوس، وليعتبر أحفاد يوسف وإخوته خونة تعاونوا مع الاحتلال الهكسوسي لمصر، فكان ذلك هو سبب استعباد الفراعنة لبني إسرائيل، فلقد كان يوسف هذا هو يوسف بن يعقوب أو يوسف بن إسرائيل عليه وعلى أبيه وعلى جده وعلى أبي جده السلام، وكان ذرية يوسف وإخوته الأحد عشر هم أسباط بني إسرائيل الاثنى عشر!
المهم أن بني إسرائيل رضوا بحياة الذل والإهانة في مصر لمدة 300 عام، وهذه الأعوام الـ 300 هي التي كونت الشخصية المميزة لأولئك القوم، فقد تعوّدوا خلالها على حياة الذل والاستعباد، حتى جاء فرعون من الفراعنة يسمى (رمسيس الثاني)، هذا الفرعون كان سفاحًا مجرمًا، فلقد رأى ذلك الفرعون في منامه أنه سيولد في بني إسرائيل مولودٌ سيدمر حكمه ويزيل سلطانه، فقام هذا المجرم بقتل كل مواليد بني إسرائيل من الذكور، وبعد أن نقص عدد العبيد في قصره نتيجة لتقلص أعداد الإسرائيليين أمر فرعون بقتل الأولاد في سنة وإبقائهم في سنة، فوُلد لامرأة من بني إسرائيل (يقال لها في كتب التاريخ اليهودية اسم يُكابد) مولودٌ ذكر اسمه (هارون) في السنة التي ليس لها قتل، ثم وُلد لها في سنة القتل مولودٌ ذكر، فخافت عليه خوفًا شديدًا، فأوحى اللَّه إليها عن طريق الإلهام أمرًا عجيبًا، فقد أوحى اللَّه إليها أن تضعه في تابوت، فتقُذفه في نهر النيل، فما كان من هذه السيدة العظيمة إلا أن استجابت لأمر اللَّه من دون أي تردد، ولكنها بعثت بابنتها لتترقب ذلك الصندوق المبحر في مياه النيل!
فما الذي رأته أخت موسى؟ وماذا حصل بعد ذلك في هذه القصة العجيبة؟ ومن هي تلك المرأة المسلمة التي اعتبرها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من أعظم نساء العالمين؟ من هي تلك البطلة العملاقة التي أعتبرها شخصيًا أقوى امرأةٍ في تاريخ الإنسانية؟!
يتبع. . . . .
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ}
(آسية بنت مزاحم)
" كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام"
(رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم)
واللَّه إن القلب ليرتجف وأنا أهم بالكتابة عن هذه الملكة العظيمة، فنحن الآن على موعدٍ مع الصديقة الولية، والراضية المرضية، والمؤمنة التقية، الراسخة الثابتة الأبية، الزاهدة الصفية، الشهيدة الهنية، نحن الآن على موعدٍ مع البطلة التي انتصرت بإيمانها على أقوى جبّارٍ عرفته الأرض في التاريخ من لدن آدم إلى أن يرث اللَّه الأرض ومن عليها، نحن الآن على موعد مع أقوى إنسانة خلقها اللَّه في الدنيا، نحن الآن على موعد مع إنسانة عجزت كلمات الشعراء على تخليد سيرتها، فخلدها رب الشعراء في كتابه بكلماته، نحن الآن على موعد مع زينة الملكات، وسيدة السيدات، ورمز الأبيات، نحن الآن مع موعدٍ مع الأم الرحيمة والبطلة العظيمة آسية بنت مزاحم امرأة عدو اللَّه فرعون!
وآسية رحمها اللَّه لم تكن مجرد زوجة عادية لرجلٍ عادي، بل كانت ملكة متوجة لديها من الذهب والمجوهرات ما لا يحصى ولا يعد، نحن نتحدث عن ملكة من ملكات مصر القديمة التي كانت جنة اللَّه في أرضه، آسية بنت مزاحم رحمها اللَّه تركت كل ذلك في سبيل اللَّه، والحقيقة أن سر اختياري لهذه السيدة الطاهرة لأطلق عليها لقب أقوى إنسانة في التاريخ لا ينبع من كونها انتصرت على فرعون الجبّار فحسب، بل إنني أعتقد أن سر عظمة وقوة آسية ينبع من من انتصارها على نفسها! فلقد تركت هذه البطلة الذهب والمجوهرات وقصور فرعون، مضحية بذلك بأعظم كنوز الحضارة الفرعونية في سبيل اللَّه عز وجل، لتنتصر هذه البطلة العملاقة على نفسها، ثم تنتصر بعد ذلك على فرعون! لقد انتصرت على الرجل الذي قال للناس أنا ربكم الأعلى! فباعت آسية بذلك دنياها من أجل آخرتها، تركت قصرها، أو لنقل قصورها، من أجل أن تسكن في بيتٍ بجوار اللَّه،
لتكون جارة للَّه!
وآسية هي آسية بنت مزاحم بن عبيد الديان بن الوليد، وهي ترجع لأصول عربية من جزيرة العرب! وكان أبوها يحكم مملكة من الممالك التي خضعت للحكم المصري في عصر الدولة الفرعونية الحديثة، وكان من عادة الملوك أن يصاهروا بعضهم البعض، فتزوجها فرعون ليجعلها أثيرة إلى قلبه دون زوجاته الأخريات على الرغم من كونها امرأة عقيم!
لذلك ما إن رأت آسية التابوت الذي ألقت به أم موسى في النيل حتى تعلق قلبها به، ولنتحول الآن إلى نهر النيل، ولنتخيل أخت موسى وهي تمد الخطى لتراقب ذلك التابوت الذي قذفت به أمها في مياه النيل:
وكأني بقول اللَّه تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50)} ، فكما أن موسى خرج من بيت فرعون، فما يدرينا. . . لعل اللَّه يخرج لنا من بيت أشد أعداء الإِسلام في هذا الزمان من يعيد إحياء هذا الدين كما خرج موسى الذي كان يسمى موسى بن فرعون ليعيد إحياء أمته بعده 300 عامٍ من الذل والهوان! ولكن السؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا: هل هناك من نسائنا من هي مثل أم موسى التي تخلت عن رضيعها من أجل طاعة اللَّه؟ وهل هناك من نسائنا امراة صابرة مثل آسية بنت مزاحم؟ أتعلمون على ماذا صبرت الملكة آسية التي تعودت على الفرش الحريرية والوسائد الذهبية؟ لقد خيرهّا عدو اللَّه فرعون ما بين الكفر أو العذاب فاختارت هذه البطلة بكل
ثقة وبكل إيمان العذاب على الكفر، وأبت أن تعطي الدنية في دينها، لذلك أشرف فرعون شخصيًا على تعذيبها حيث عَزَّ عليه أن تخرج زوجته على عقيدته، لتتبع عدوه موسى، فأمر بإنزال أشد أنواع العذاب عليها، حتى تعود إلى ما كانت عليه، لكنها بقيت مؤمنة محتسبة صابرة، فأمر فرعون جنوده أن يطرحوها على الأرض، ويربطوها بين أربعة أوتاد، لتنهال السياط على جسدها، وهي صابرة محتسبة على ما تجد من أليم العذاب، ثم أمر المجرم فرعون بوضع رحًى على صدرها، وأن تُلقى عليها صخرة عظيمة، وقبل أن يتم تنفيذ ذلك جاءها فرعون ليعرض عليها العفو مقابل أن تكفر باللَّه، فنظرت إليه نظرة استحقار، ثم نظرت في السماء وهي معلقة بين الأوتاد الأربعة فدعت اللَّه بأعجب دعاءٍ دعته امرأة في التاريخ فقالت:{رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)} .
فاختارت هذه البطلة الجوار قبل الدار، اختارت أن تكون جارة للَّه! فقالت:{عِنْدَكَ} قبل {بَيْتًا} ، فكان لها ذلك! فارتفعت روحها إلى بارئها، تظلِّلُها الملائكة بأجنحتها، لتسكن في الجنة، لتستحق هذه البطلة العظيمة أن تكون من أعظم نساء التاريخ على الإطلاق لتكون بذلك سيدة من سيدات أهل الجنة!
ولكن هل انتهت قصة ذلك المجرم فرعون عند ذلك الحد؟ وهل انتهى ظلمه وعذابه للناس بعد أن قتل زوجته بيديه؟ أم أن هناك مزيدًا من الضحايا لهذا المجرم؟ فما هي قصة تلك الأم البطلة التي عذبها فرعون مع أبنائها؟ وما هو سر تلك الرائحة الطيبة التي اشتمها رسول اللَّه في ليلة الإسراء والمعراج؟
يتبع. . . .
{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}
(ماشطة بنت فرعون)
" مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبةُ يَا جِبْرِيلُ؟! "
(رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم)
كثيرٌ منا من يعتقد أنه قد أصبح مسلمًا مؤمنًا لمجرد التزامه بفروض اللَّه! فهناك من الناس من يتصدق بثلاثة دنانير ليرفع يديه عاليًا إلى السماء وهو يقول: "اللهم لا تضيعها عندك"! وهناك من يدفع زكاة ماله -المفروضة عليه- ليشترط على اللَّه القصر الأبيض في جنات الفردوس! ومنّا من يقوم للَّه ليلة يتيمة ليعتقد بعدها أن اللَّه سيبني له منزلًا في الجنة بجوار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم! ومن الناس من يذهب للدعوة إلى سبيل اللَّه فإذا قوبل بالرفض من أول مرة رفع يديه إلى السماء ليقول "اللهم هل بلغت، اللهم فاشهد"! وهناك من الدعاة من إذا سُبَّ أو استهزئ به لمرة واحدة فقط رجع حزينًا وهو يقول "اللهم إني أشكو لك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس"! فيظن هؤلاء بذلك أنهم قد وصلوا إلى مرتبة الصدّيقين والشهداء!!! ولكن الإيمان الحقيقي لهو أعظم من ذلك بكثير. . . . والحقيقة هي أنك إذا لم تتعرض لابتلاء، فأعلم أنك لم تصل إلى مرحلة الإيمان!
وبطلتنا الآن هي إنسانة دخلت في قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ، فهذه الإنسانة لم يبتليها اللَّه فحسب، بل ابتلاها اللَّه بأحقر وأسفل خلقه في التاريخ: فرعون! إننا نتحدث عن هي ماشطة بنت فرعون، والتي لم تكن أكثر من مجرد امرأة صالحة كانت تعيش هي وزوجها في ظل مُلك فرعون، فقد كان زوجها مقربًا من فرعون، بينما
كانت هي ماشطة لبنات فرعون، فمن اللَّه عليهما بالايمان، فلم يلبث أن علم فرعون بإسلام زوجها، فقتله على التو واللحظة، فأخفت زوجته إسلامها، واستمرت في العمل في قصر فرعون تمشط بناته، وتنفق على أولادها الخمسة. وفي يومٍ من الأيام وبينما هي تمشط ابنة فرعون، وإذ بالمشط يقع من يدها على الأرض، فتناولته هذه المرأة المؤمنة من الأرض وهي تقول:"بسم اللَّه"، فقالت ابنة فرعون:"اللَّه أبي! " فصاحت الماشطة بابنه فرعون: "كلا! بل اللَّه ربي، وربك، ورب أبيك" فذهبت تلك المجرمة ابنة المجرم إلى أبيها لتخبره بأمر ماشطتها، فثارت قيامة فرعون بوجود من يعبد اللَّه بقصره، فأحضرها، وقال لها:"من ربك؟ " فقالت: "ربي وربك اللَّه" فأمرها فرعون بالرجوع عن دينها، وإلا حبسها وعذبها، فأبت تلك البطلة أن ترتد عن الإسلام، فأمر فرعون بقدر من نحاس فملئت بالزيت، ثم أحمي حتى غلا، فأوقفها أمام القدر، فلما رأت العذاب، أقبلت على القدر تريد الشهادة، فعلم فرعون أن أحب الناس إليها هم أولادها الخمسة، الذين كانت تربيهم بعد أن قتل أباهم، فأراد ذلك المجرم أن يزيد في عذابها، فأحضر الأطفال الخمسة إلى غرفة التعذيب الفرعونية، فلما رأوا أمهم تعلقوا بها يبكون، فانكبت عليهم تقبلهم وتضمهم إلى حضنها باكية، فأخذت أصغرهم وضمته التي صدرها وأرضعته، فأمر فرعون بأكبرهم، فجره الجنود ودفعوه التي الزيت المغلي والغلام يصيح بأمه ويستغيث ويسترحم الجنود ويتوسل الى فرعون ويحاول الفكاك والهرب، ولكن الجنود كانوا يصفعونه ويدفعونه إلى الزيت المغلي دفعًا، كل هذا وأمه تنظر اليه وتودعه بدموعها بعد أن عجز لسانها عن الحركة، وما هي إلا لحظات، حتى ألقي الصغير في الزيت، والأم تبكي وتنظر إلى طفلها وهو يحترق، بينما فرعون يقهقه، وإخوته يغطون أعينهم بأيديهم الصغيرة من هول المنظر، حتى إذا ذاب لحمه على جسمه النحيل، وطفت عظامه البيضاء فوق الزيت، نظر إليها فرعون مرة أخرى وأمرها بالكفر لكي يعفو عن البقية، فأبت هذه الفدائية، فزاد غضب فرعون، فأمر بولدها الثاني، فسُحب من عند أمه وهو يبكي ويستغيث، فما هي إلا لحظات حتى ألقي في الزيت، والأم تنظر إليه وتبكي، حتى طفت عظامه البيضاء واختلطت بعظام أخيه، فما زاد ذلك المنظر الأم إلا ثباتًا على الإسلام، ثم أمر فرعون بالثالث ففعل به نفس الشيء، ثم أمر السفاح فرعون أن
يطرح الرابع في الزيت، وما هي إلا ثوانٍ حتى غاب الجسد وانقطع الصوت، فجاهدت الأم نفسها أن تتجلد وأن تتماسك، فالتفتوا إليها وتدافعوا، وانتزعوا الخامس الرضيع من بين يديها، فلما انتزع منها صرخ الصغير فانهارت الأم ودموع الرضيع تغطي يديها، فكادت أن تتقاعس من أجل رضيعها المظلوم، عندها حصل شيء لم يتكرر في تاريخ الأرض إلا أربع مرات! فلقد تكلم ذلك الرضيع، وقال لها:"يا أماه اصبري فإنك على حق" ثم انقطع صوته عنها بعد أن ألقوه في الزيت المغلي، لتختلط عظامه بعظام إخوته الأربعة، فها هي عظامهم يلوح بها القدر، ولحمهم يفور به الزيت، لتنظر المسكينة الى هذه العظام الصغيرة وهي تتذكر أطفالها الصغار يمرحون بين يديها، ثم اندفع أولئك المجرمون نحوها وأقبلوا عليها كالكلاب الضارية، وقبل أن يلقوها في الزيت المغلي، التفتت إلى فرعون وقالت:"لي إليك حاجة" فصاح المجرم فرعون: "ماحاجتك؟ " فقالت: "أن تجمع عظامي وعظام أولادي فتدفنها في قبر واحد" فقال فرعون وهو يقهقه: "لك ذلك" فألقى الجند بها في الزيت المغلي، لتستشهد في سبيل اللَّه، وتختلط عظامها بعظام أطفالها الصغار. . . . . .
وبعد ذلك بما يزيد عن 1500 سنة وبينما رسول اللَّه مع جبريل في ليلة الإسراء والمعراج، وإذ به يشتم رائحة طيبة، فيسأل جبريل عنها قائلأ:"مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ يَا جِبْرِيلُ؟ " فيجيبه جبريل: "هَذِهِ رَائِحَةُ مَاشِطَةِ بِنْتِ فِرْعَوْنَ، وَأَوْلادِهَا"!
ولكن وبعد هذا الإجرام الذي ارتكبه فرعون، أكبر مجرمٍ عرفته البشرية، ما الذي حدث له؟ وما هي العقوبة الربانية الفريدة من نوعها التي التي لم ينزلها اللَّه إلا عليه؟ وكيف اختفى هذا الفرعون ليظهر عام 1881 م مجددًا؟ وكيف كان ظهوره سببًا لبزوغ نجم عظيم جديدٍ من عظماء أمة الإسلام المائة؟
يتبع. . . . .
" العالم الفرنسي"(موريس بوكاي)
(اللَّه)
في مساء يومٍ من أيام عام 1871 م، جلس الأخوان محمد وأحمد عبد الرسول ليشربا الشاي بالقرب من قطيع الماشية الذي كان يرعي أمامهما، ولكن أحد الأخوين لاحظ أن خروفا من بين القطيع قد توارى بين التلال ليختفى أثره بعد ذلك! فصُعق الأخوان الفقيران من غياب ذلك الخروف الذي كان يمثل لهما ثروة ضخمة، فهلعا يتتبعان أثر الخروف الضائع، حتى وجدا بئرًا مهجورة بين الصخور، فاقتربا من تلك البئر لينزل أحدهما فيه ليسأله أخوه إن قد وجد الخروف، ليجيبه أخوه وهو يصيح ضاحكًا:"أي خروفٍ تتحدث عنه؟! لقد وجدت كنزًا يا أخي! ".
بعد ذلك بعشرة سنوات وفي عام 1881 م لاحظ أحد مهربي الآثار المصريين أن هناك رجلان ثريان في إحدى القرى النائية يقال لهما الأخوان عبد الرسول قد أشيعت حولهما الأساطير، فقام بمراقبتهما وتتبع مكان البئر، ليخبر بعدها مدير الآثار المصرية الفرنسي (جاستون ماسبيرو) بأمر ذلك البئر المهجور، لينزل هذا العالم إلى ذلك البئر ليعلن بعدها للعالم أنه قد عثر على مجموعة من المومياءات، كان من بينها مومياء عجيبة لم تتغير كثيرًا على الرغم من بقائها لأكثر من 3500 عام، فلقد كانت هذه الجثة لأحد ملوك الدولة الحديثة وهو الملك (رمسيس الثاني)، هذا الملك هو نفسه فرعون موسى!
وفي عام 1981 م تسلم الرئيس الفرنسي الراحل (فرانسوا ميتران) زمام الحكم في فرنسا عام ليطلب من الحكومة المصرية في نهاية الثمانينات استضافة مومياء الفرعون لإجراء اختبارات وفحوصات أثرية عليه، وفعلًا تم نقل جثمان أشهر طاغوت عرفته الأرض فرعون إلى باريس، فحُملت على إثرها مومياء الطاغوت بموكب لا يقل حفاوة
عن استقباله، وليتم نقله بعدها إلى جناح خاص في مركز الآثار الفرنسي ليستدعى لها أكبر عالمٍ في فرنسا، ألا وهو البروفيسور (موريس بوكاي)، وذلك لدراسة تلك المومياء واكتشاف أسرارها، وبينما كان المعالجون مهتمين بترميم المومياء، كان اهتمام موريس منصبًا على محاولة اكتشاف كيفية موت هذا الفرعون، فجثة رمسيس الثاني لم تكن كباقي جثث الفراعين التي تم تحنيطها من قبل، فوضعية الموت عنده غريبة جدا، فلقد فوجيء المكتشفون عندما قاموا بفك أربطة التحنيط بيده اليسرى تقفز فجأة للأمام! أي أن من قاموا بتحنيطه أجبروا يديه على الانضمام لصدره كباقي الفراعين الذين ماتوا من قبل!! فأخذ البروفوسور بوكاي يحلل الجثة لعله يجد حلًا لذلك اللغز، وفي ساعة متأخرة من الليل ظهرت النتائج النهائية للبروفيسور موريس: لقد كانت هناك بقايا للملح معلقةً في جسد الفرعون، وتبين أيضا مع صورة بأشعة إكس أن عظام فرعون قد انكسرت من دون أن يتمزق الجلد المحيط بها! فاستنتج البروفسور الفرنسي من ذلك أن الفرعون قد مات غرقًا، وأن سبب انكسار عظامه دون تمزق اللحم كان بسبب الضغط الرهيب الذي سببته المياه في أعماق البحر الساحقة، ولكن الغريب أن جثة فرعون رغم سقوطها في قاع البحر العميق يبدو عليها أنها طفت بشكل غريب على سطح البحر بسرعة ليتم تحنيطها فورًا قبل تحلل الجثة! واستطاع بوكاي أيضًا تفسير الوضعية الغريبة ليد رمسيس اليسرى، فلقد وضح بوكاي أن فرعون كان يمسك لجام فرسه أو السيف بيده اليمنى، ودرعه باليد اليسرى، وأنه في وقت الغرق رأى شيئًا غريبًا أدى لتجنش أعصابه بشكل فظيع ساعة الموت، ونتيجة لشدة المفاجأة وبلوغ حالاته العصبية لذروتها ودفعه الماء بدرعه فقد تشنجت يده اليسرى وتيبست على هذا الوضع، فاستحالت عودتها بعد ذلك لمكانها! وهذه الحالة تشبه تمامًا حالة تيبس يد الضحية وإمساكها بشيء من القاتل كملابسه مثلًا، ولكن سؤالًا أخيرًا بقي يحير البروفسور موريس بوكاي، وهو: كيف بقيت هذه الجثة أكثر سلامة من غيرها رغم أنها استُخرجت من البحر الذي من المفروض أن يعمل أكثر على سرعة تحلل الجثة؟!! فأعد البروفيسور الفرنسي موريس بوكاي تقريرًا نهائيا لكي يعلن للعالم.
عن اكتشافه الجديد، أو لنقل ما كان يعتقد أنه اكتشاف جديد، فقرر أن يعقد مؤتمرًا
صحفيًا لكي يعلن ذلك، قبل أن يهمس أحد معاونيه في أذنه:"لا تتعجل يا مسيو بوكاي، فإن المسلمين يعرفون هذا الشيء بالفعل! " فتعجب البروفيسور من هذا الكلام، واستنكر بشدة هذا الخبر واستغربه، فمثل هذا الإكتشاف لا يمكن معرفته إلا من خلال أجهزة حاسوبية حديثة بالغة الدقة، ثم (وهو الأهم) أن مومياء رمسيس تم اكتشافها أصلا عام 1898! فازداد البروفيسور ذهولا وأخذ يتساءل: كيف يستقيم في العقل هذا الكلام؟ والبشرية جمعاء وليس العرب فقط لم يكونوا يعلمون شيئا عن قيام قدماء المصريين بتحنيط جثث الفراعنة أصلا إلا قبل عقود قليلة! فجلس موريس بوكاي ليلته بالمختبر محدقا بجثمان فرعون، وهو يسترجع في ذهنه ما قاله له زميله أن قرآن المسلمين يتحدث عن نجاة هذه الجثة بعد الغرق! في الوقت الذي لا يوجد أي ذكر في الكتاب المقدس عندهم لمصير الجثة بعد غرقها، وانهالت التساؤلات على ذهن موريس، ثم قرر أن يطلب نسخة من الكتاب المقدس، فأخذ يقرأ:"فرجع الماء وغطى مركبات وفرسان جميع جيش فرعون الذي دخل وراءهم في البحر، ولم يبق منهم أحد! ".
وبقي موريس بوكاي حائرًا، فحتى الكتاب المقدس الذي يزعم علماء النصارى أن محمدًا قد سرق منه قصص الأنبياء السابقين لم يتحدث عن قريب أو بعيد عن نجاة هذه الجثة وبقائها سليمة! فمن أين أتى هذا البدوي بهذه الحقيقة العلمية وهو في أعماق الصحراء؟!
عند ذلك الوقت حزم البروفسور الفرنسي مورشى بوكاي أمتعته واتجه إلى بلاد المسلمين يريد مقابلة عدد من علماء التشريح المسلمين، وهناك كان أول حديث تحدثه معهم فيه عما اكتشفه من نجاة جثة فرعون، فابتسم له عالم مسلم وأعطاه كتاب الترجمة الانجليزية للقرآن وقال له اقرأ هذا يا بروفسور:{فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)} [يونس: 92] فما إن قرأ بوكاي هذه الكلمات القليلة حتى كاد أن يسقط من على قدميه، فصرخ بالحاضرين:"لقد آمنت برب هذا الكتاب، لقد آمنت بالرسول الذي جاء به! لقد دخلت الإسلام وآمنت بهذا القرآن" ثم رجع موريس بوكاي إلى فرنسا بغير الوجه الذي ذهب به، وهناك مكث عشر سنوات
ليس لديه شغل يشغله سوى دراسة مدى تطابق الحقائق العلمية والمكتشفة حديثا مع القرآن الكريم، فكانت ثمرة هذه السنوات التي قضاها الأخ الفرنسي المسلم موريس: أن خرج بتأليف كتاب من أعظم كتب القرن العشرين، هذه الكتاب وقع كالزلزال في أوساط الكنيسة في روما، فلقد كان عنوان الكتاب (القرآن والكتاب المقدس والعلم) ومن أول طبعة له نفد من جميع المكتبات في أوروبا! ثم أعيدت طباعته بمئات الآلاف بعد أن ترجم من لغته الأصلية (الفرنسية) إلى العربية والإنكليزية والإندونيسية والتركية والألمانية، لينتشر بعدها في كل مكتبات الشرق والغرب، وليدخل من خلاله آلاف الناس في الإسلام، فكما أن فرعون المجرم ربى موسى بيديه ليصبح له حزنًا في حياته، فها هو الآن بعد مماته يصبح سببًا في إسلام الآلاف، لتبقى جثته دليلًا على هزيمة كل من يحارب الإسلام والمسلمين في جميع العصور والأزمنة!
ومن نفس الأرض التي خرج منها فرعون، خرج عظيم إسلامي من صعيد مصر، لا ليقول للناس أنا ربكم الأعلى، بل ليسافر إلى أقصى بقعة في مشارق الأرض ليقول للناس هناك: اللَّه هو ربكم الأعلى! فمن هو إذًا ذلك الصعيدي البطل الذي فتح إمبراطورية اليابان بمفرده؟
يتبع. . . . . .
" الصعيدي فاتح إمبراطورية اليابان"(علي الجرجاوي)
" وبهذه الطريقة أفهمنا اليابانيين الإسلام وبدأوا يدخلون فيه بكثرة مادحين تعاليمه. وكلما زدناهم معرفة بالإسلام زاد عدد الداخلين حتى انتشر صيت جمعيتنا بالمدينة إنتشارًا عجيبًا. وكنا نسمع الثناء على الإسلام من الذين اعتنقوه لأنه دلهم على الإله الحق وأخرجهم من الظلمة الى النور"
(من كتاب الرحلة اليابانية للجرجاوي)
كنت أستغرب فيما مضى عن سر اختيار "الصعايدة" بالذات ليُستهزأ بهم من قبل السفلة من الممثلين والساقطات من الممثلات، وكنت أستغرب أكثر عن تلك الصورة النمطية التي ينقلها الإعلام العربي عن أولئك القوم بالتحديد، والحقيقة أن ذلك الاستغراب قد زال عني بعد أن قرأت التاريخ المشرف للمصريين المنحدرين من صعيد مصر، فأولئك القوم ليسوا أناسًا عاديين، بل هم رجالٌ أشداء نصروا الإسلام بأرواحهم عبر جميع مراحل تاريخ الإسلام العظيم، فالذي لا يعرفه الكثير من المسلمين أن صعيد مصر أخرج للإسلام أعظم العلماء وأصدق الرجال وأشجع الأبطال، ولا يساورني أدنى الشك بأن غزاة التاريخ وعملاءهم هم الذين نشروا تلك النكات الساذجة عن أولئك المسلمين الأبطال، ولعل الشموخ والإباء الذي أظهره "الصعايدة" في وجه نابليون وحملته الصليبية على مصر كان من أهم الأسباب لهذه الحملة الإعلامية البشعة على أولئك الرجال الشرفاء، فهناك قاعدة يجب علينا جميعًا أن نحفظها جيدًا ألا وهي: أن أبطال هذه الأمة هم الهدف الرئيسي للحملات الإعلامية الشرسة، فإذا ما وجدت تشويهًا لشخصية تاريخة أو لشريحة بشرية معينة من أمة فاعلم أن في الأمر أصابعًا قذرة لغزاة التاريخ!
وقطار التاريخ لعظماء أمة الإسلام يأبى إلا أن يمر بعجلاته على صعيد مصر في سنة 1906 م، لتكون محطته هذه المرة قرية "أم القرعان" في مركز "جرجا" بصعيد مصر،
هناك يشتري شيخٌ أزهري اسمه (علي الجرجاوي) الصحيفة ليقرأ بها خبرًا انتفضت له جوارحه، فلقد قرأ الشيخ أن رئيس وزراء اليابان الكونت (كاتسورا) أرسل خطابات رسمية إلى دول العالم ليرسلوا إليهم العلماء والفلاسفة والمشرعين وكل أصحاب الديانات لكي يجتمعوا في مدينة "طوكيو" في مؤتمر عالمي ضخم يتحدث فيه أهل كل دين عن قواعد دينهم وفلسفته، ومن ثم يختار اليابانيون بعد ذلك ما يناسبهم من هذه الأديان ليكون دينًا رسميًا للإمبراطورية اليابانية بأسرها، وسبب ذلك أن اليابانيين بعد انتصارهم المدو على الروس في معركة "تسوشيما" عام 1905 م، رأوا أن معتقداتهم الأصلية لا تتفق مع تطورهم الحضاري وعقلهم الباهر ورقيهم المادي والأدبي الذي وصلوا إليه، فأرادوا أن يختاروا دينًا جديدًا للإمبراطورية الصاعدة يكون ملائمًا لهذه المرحلة المتطورة من تاريخهم. عندها أسرع هذا الصعيدي البطل إلى شيوخ الأزهر يستحثهم بالتحرك السريع لانتهاز هذه الفرصة الذهبية لنقل دين محمد إلى أقصى بقاع الأرض، في مهمة لو قدّر لها النجاح لتغير وجه الكون، فلم يستمع الشيخ الجرجاوي إلا لعبارات "إن شاء اللَّه"، "ربنا يسهل"! فكتب الشيخ علي الجرجاوي في صحيفته الخاصة "الإرشاد" نداء عامًا لعلماء الأزهر لكي يسرعوا بالتحرك قبل أن يفوتهم موعد المؤتمر، ولكن لا حياة لمن تنادي! فهل فوَّض الشيخ علي أمره للَّه وقال اللهم إني قد بلّغت؟ هل استسلم هذا الشيخ لأولئك المثبطين وواسى نفسه بأنه قد عمل ما عليه؟ لقد قام هذا الصعيدي البطل فحمل همّ أمة كاملة على كتفيه، وانطلق إلى قريته الصغيرة ليبيع خمس أفدنة من الأرض كانت جل ثروته، لينفق على حسابه الخاص تكاليف تلك المغامرة العجيبة التي انتقل فيها على متن باخرة من الإسكندرية إلى إيطاليا ومنها إلى عدن، ومنها إلى بومباي في الهند، ومنها إلى كولمبو في جزيرة سيلان (سيريلانكا الآن!)، ومن هناك استقل باخرة لشركة إنجليزية متجهة لسانغفورة، ثم التي هونج كونج، فسايغون في الصين، ليصل أخيرًا إلى ميناء "يوكوهاما" الياباني بعد مغامرةٍ بحرية لاقى فيها هذا الصعيدي البطل ما لاقاه من الأهوال والمصاعب. وهناك في اليابان كان العجب! وانظروا الآن إلى عظمة هذه الأمة -أمة محمد صلى الله عليه وسلم فلقد تفاجأ هذا الشيخ الصعيدي على الميناء بوجود شيخٍ هنديٍ من مشايخ مدينة "كلكتا"، وشيخٍ بربريٍ من مشايخ
"القيروان" في تونس، وشيخٍ صينيٍ من "التركستان الشرقية"، وشيخٍ قوقازي من مسلمي "روسيا"، كل هؤلاء جاءوا مثله على نفقتهم الخاصة، ليجدوا أن الخليفة العثماني البطل (عبد الحميد الثاني) جزاه اللَّه خيرًا كان قد أرسل وفدًا كبيرًا من العلماء الأتراك، ليجتمع أولئك الدعاة جميعًا ويكونوا وفدًا إسلاميًا ضخمًا مكونًا من مسلمين من أقطارٍ مختلفة، يحمل كل واحدٍ منهم رسالة محمد بن عبد اللَّه في وجدانه، ليوصلها إلى إمبراطور اليابان شخصيًا، فأكرم بهذه أمة!
وهناك في طوكيو أسلم الآلاف على أيدي تلك المجموعة الربانية، وكاد إمبراطور اليابان "ألماكيدو" نفسه أن يسلم على يد ذلك الصعيدي البطل بعد أن أبدى إعجابه بالإسلام، إلا أنه خاف على كرسي الإمبراطورية بعد أن احتج الشعب على ذلك المؤتمر، فأخبر ألماكيدو الشيخ الجرجاوي أنه إذا وافق الوزراء على تغيير دين الآباء فإنه سيختار الإسلام بلا أدنى شك، فخرج الجرجاوي رحمه الله إلى شوارع طوكيو برفقة الترجمان، ليُسلم على يديه آلاف اليابانيين، وليعود بعدها إلى مصر ليصف تلك الرحلة العجيبة إلى بلاد الشرق في كتاب من أجمل كتب أدب الرحلات في القرن العشرين أسماه "الرحلة اليابانية" وضع فيه نفائس القصص الممتعة وغرائب الحكايات الشيقة التي عايشها في رحلته الدعوية إلى اليابان.
والَان وبعد أن قرأت حكاية هذا الرجل الأمة، هل ستقهقه عندما يأتيك أحد السفهاء ليحكي لك نكتة يستهزئ بها من أحد الصعيديين؟ أم أنك ستقول له اخرس فإن أولئك القوم هم رجال الإسلام؟ والحقيقة أنه ليس أهل الصعيد هم وحدهم الأبطال، بل إن جل الموحدين في مصر كان لهم فضلٌ كبير على الإسلام بأسره! فما هو أعظم فضلٍ قدمه المصريون للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؟ وكيف أنقذ المصريون الإسلام بل والبشرية بأسرها من أعظم خطرٍ مرّ على البشر عبر كل العصور؟
يتبع. . . . .
" قاهر التتار"(سيف الدين قطز)
" واإسلاماه. . . واإسلاماه. . . واإسلاماه"
(قطز)
هناك من المصريين من لا يفتخر بكونه مسلمًا بقدر ما يفتخر بكونه من الفراعنة الذين كان منهم فرعون المجرم الذي رأينا بعض أشكال إجرامه مع زوجته وماشطة ابنته، ونسي هؤلاء الذين يفتخرون بالأهرامات بأن تلك الأهرامات لم تكن سوى قبور الفراعنة التي سخروا من أجلها شعبهم بأسره لعشرات السنين لينعم الفرعون بقبرٍ يليق به! وصدق اللَّه عز وجل حين وصف قوم فرعون فأحسن وصفهم بقوله:{فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)} ، وأما القسم الآخر من مسلمي مصر فيعتقد أن سرَّ عظمة المصريين يكمن في أرض مصر نفسها وليس في الإسلام الذي جعل منهم أناسًا عظماءً، فذكروا أن سر عظمة المصريين ينبع من كون أن كلمة "مصر" وردت في القرآن خمس مرّات! ولم يعلم هؤلاء أن أن اللَّه ذكر ثمود وعاد ومدين أكثر من ذكر مصر، وأن ذكر أرض مصر جاء في القرآن على سبيل القصص في معرض قصتي نبيي اللَّه موسى ويوسف عليهما السلام، وأن من بين تلك المرات الخمس قول موسى لبني إسرائيل:{أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} . وعزى قسمٌ ثالث من المصريين سرّ عظمتهم إلى "ماء النيل"، وأعجبتهم كثيرًا مقولة المؤرخ الإغريقي (هيرودوت) الذي زعم أن مصر هبة النيل. ولكن الشيء المهم الذي نسيه كل هؤلاء هو الإنسان المصري المسلم نفسه!
فالإنسان المصري المسلم لم ينقذ الإسلام فحسب من خطر التتار، بل أنقذ البشرية بأسرها من شرهم! فالجيش المصري البطل هو صانع انتصار معركة "عين جالوت المجيدة"، والتي قضت على أسطورة الجيش المغولي الذي لا يُقهر، هذه المعركة
الخالدة خاضها أبناء الكنانة تحت قيادة عظيم إسلامي سطر اسمه في سجل الخلود الإسلامي بكل جدارة واستحقاق، إننا تنكلم عن الملك المظفر سيف الدين قطز.
وقبل الحديث عن هذا البطل العظيم ما قدمه للإسلام، ينبغي علينا أولًا أن نتكلم قليلًا عن قصة التتار، وذلك لما في هذه القصة من تشابه عجيب بين أحداثها وبين الأحداث التي نعيشها الآن، فحال المسلمين وقت التتار يشبه إلى حدٍ بعيد حال المسلمين الآن، والخونة الذين فتحوا أبواب بغداد للتتار سنة 1258 م هم نفسهم الخونة الشيعة الذين فتحوا أبواب بغداد للغزاة سنة 2003 م، والتحالف الدولي على المسلمين من التتار والصليبيين يشبه ما نراه الآن على الساحة الدولية، كما أن معرفة مقدار القوة التي وصل إليها التتار قبل عين جالوت يوضح لنا مدى عظمة هذا القائد الرباني العظيم الذي أنقذ هو وجنوده العنصر البشري بشكلٍ عام من وحشية التتار.
وقصة التتار تبدأ سنة 603 هـ من على قمم "جبال خنتي" في أرض "منغوليا" الواقعة شرق آسيا، هناك ظهر رجلٌ مغولي اسمه (تيموجين)، وهو نفس الرجل الذي أطلق التتار عليه فيما بعد اسم (جنكيزخان) وهي كلمة تعني:(قاهر العالم) باللغة المنغولية. وكان هذا الرجل سفاحًا مجرمًا، لا هم له في الحياة إلا القتل والتخريب، فالعجيب في قصة التتار أن الجيش التتري لم يكن يأخذ الغنائم أبدًا، بل كان هدف التتار من حروبهم تلك هو القتل لمجرد القتل! فكان التتار يقتلون كل كائنٍ حيٍ يجدونه أمامهم، لا يفرقون في ذلك بين رجل وامرأة، ولا بين رضيع وشاب، ولا بين صغير وشيخ، مدني أو محارب، وكأنهم حيوانات متوحشة تعشق رائحة الدماء وحسب! ولقد وصفهم المؤرخ الإسلامي (الموفق عبد اللطيف) في "خبر التتار" بقوله:"وكأن قصدهم إفناء النوع، وإبادة العالم، لا قصد الملك والمال! ". والمضحك في الأمر أن (مايكل هارت) صاحب كتاب "العظماء المائة" صنف المجرم (جنكيز خان) ضمن عظمائه المائة!
وما هي إلا سنيّات قليلة حتى استطاع التتار بوحشيتهم أن يبنوا إمبراطورية كبيرة ممتدة من "كوريا" شرقًا إلى "بولندا" غربًا ومن "سيبيريا" شمالًا إلى "كمبوديا" جنوبًا، قبل أن تتحرك غريزة الخيانة المغروسة في كيان الشيعة لكي يراسلوا (هولاكو خان) قائد المغول والمعروف اختصارًا (هولاكو) ليطلبوا منه القدوم "لتحريرهم من نير
الديكتاتورية الإسلامية! "، فما إن تشيع الخليفة العباسي (الناصر لدين اللَّه)، حتى كان أول شيء صنعه هو اتباع الخاصية اللأولى للشيعة: الخيانة!! فلقد ذكر المؤرخ العظيم (الحافظ ابن كثير) في كتابه الرائع "البداية والنهاية" أن هذا الملك المتشيع قام بمراسلة التتار لكي يطمعهم ببلاد المسلمين، إلا أن هولاكو لم رفض العرض الشيعي بدخول عاصمة الخلافة الإسلامية بغداد خوفًا من أن تحل عليه لعنة من السماء (كما نصحه بذلك حكماء المغول)، فما كان من شيخ الطائفة الشيعة الأكبر عبر التاريخ (نصير الدين الطوسي) إلا أن تطوع لطمأنة هولاكو بدخول بغداد، وإخباره بأن شيئًا من الأذى لن يصيبه إذا ما قتل الخليفة العباسي، وفي نفس الوقت قام الخائن الأعظم في تاريخ الشيعة الاثني عشرية الوزير الشيعي (مؤيد الدين بن العلقمي) بفتح أبواب بغداد للمغول مقابل عرضٍ يجعله فيه هولاكو واليه في المدينة المنورة لكي ينبش قبر أم المؤمنين عائشة وقبر أبي بكر وعمر (وربما قبر رسول اللَّه أيضًا!)، وطلب الخائن ابن العلقمي من خونة الشيعة في العراق رفع رايات مميزة فوق بيوتهم عند ساعة الصفر لكي يقتل التتار المسلمين السنة فقط، وفي يوم 4 صفر من سنة 656 هـ الموافق لـ 20 فبراير من سنة 1258 م دخل التتار بغداد أكبر مدينة في العالم آنذاك، فقتل التتار 1000000 مسلم خلال أربعين فقط بفضل خيانة الشيعة، وكأن التاريخ يعيد نفسه! بل وكأن الأرقام تعيد نفسها! وتعفنت الجثث في شوارع بغداد، وحرق التتار الهمجيون "مكتبة بغداد" أكبر مكتبة في العالم، وأصبح الطريق مفتوحًا أمام المغول لتدمير "الكعبة" بعد أن احتلوا الشام، وصار مصير الإسلام -وليس المسلمين فقط- لأول مرة في التاريخ مهددًا بالفناء، قبل أن يحدث شيءٌ عجيب!
فلقد بعث اللَّه للأمة رجلًا اسمه (محمود بن ممدود الخوارزمي)، هذا الرجل عُرف في التاريخ باسم آخر هو:(سيف الدين قطز)! وقصة قطز تمثل ترجمة فعلية لقول رب العالمين: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50)} ، فكما أن فرعون هو الذي ربى موسى في بيته لكي يدمره بعد ذلك، فإن التتار هم الذين صنعوا قطز، بل هم الذين أطلقوا عليه اسم (قطز) ويعني "الحيوان المتوحش"، وذلك بعد أن لاحظوا أنه طفل متمرد، وقطز هو ابن أخت (جلال الدين بن خوارزم شاه) ملك "المملكة الخوارزمية
الإسلامية" في آسيا الوسطى، والتي كانت أول ضحايا التتار، فقد قام التتار بقتل جميع أهل قطز وإبقائه حيًا لكي يبيعوه بعد ذلك في سوق النخاسة، والمضحك في القصة أن التتار أنفسهم هم الذين نقلوه من مجاهل آسيا الوسطى إلى أرض الشام بالتحديد والتي سوف ستشهد تدمير إمبراطوريتهم على يدي نفس ذلك الطفل الذي نقلوه هم بأيديهم إلى هذه الأرض!!! فقد قام الملك الأيوبي المجاهد (نجم الدين أيوب) رحمه الله بشراء قطز وغيره من العبيد ليربيهم تربية دينية وعسكرية صارمة، ليكون كتيبة ربانية مجاهدة من أعظم الكتائب التي عرفتها أمة محمد، هذه الكتيبة الخاصة عُرفت فيما بعد باسم "المماليك".
والحقيقة أن سر اختياري لقطز ليكون ضمن قائمة المائة لا ينبع لمجرد انتصاره في معركة "عين جالوت" الخالدة التي أنهت الزحف المغولي إلى الأبد، بل إن السر الحقيقي لعظمة هذا العملاق الإسلامي يتمثل في إمكانية هذا الرجل بمفرده من تغيير حال أمة بأسرها من قمة الهزيمة إلى قمة النصر، كل هذا في أحد عشر شهرًا وثلاثة عشر يومًا هي كل مدة حكم سيف الدين قطز! وهذا الذي نحاول دراسته في هذا الكتاب "كيفية بناء الأمة بعد انكسارها"، فقطز كان رجلًا واحدًا، ولكنه كان رجلًا بأمة، وعين جالوت ما هي إلا نتيجة، ولكن الأهم منها هو العمل الذي أدى لعين جالوت! ولنستمع الآن إلى رسالة الإنذار التي بعثها هولاكو لقطز قبل عين جالوت والتي حملها له أربعون سَفيرًا من وحوش التتار:
"من ملك الملوك شرقًا وغربًا القائد الأعظم: باسمك اللهم، باسط الأرض، ورافع السماء، يعلم الملك المظفر قطز الذي هو من جنس المماليك الذين هربوا من سيوفنا إلى هذا الإقليم، يتنعمون بأنعامه، ويقتلون من كان بسلطانه بعد ذلك، يعلم الملك المظفر قطز وسائر أمراء دولته وأهل مملكته بالديار المصرية وما حولها من الأعمال، إنا نحن جند اللَّه في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على مَن حَلَّ به غضبه، فلكم بجميع البلاد معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم وأسلموا لنا أمركم. قبل أن ينكشف الغطاء، فتندموا ويعود عليكم الخطأ، فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرقّ لمن شكر، وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد، وقتلنا معظم العباد، فعليكم
بالهرب، وعلينا الطلب، فأي أرض تؤويكم، وأي طريق تنجيكم، وأي بلاد تحميكم؟! فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص، فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال، فالحصون عندنا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يُسمع، فإنكم أكلتم الحرام، ولا تعفُّون عند كلام، وخنتم العهود والأيمان، وفشا فيكم العقوق والعصيان، فأبشروا بالمذلة والهوان، فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، فمن طلب حربنا ندم، ومن قصد أماننا سلم، فإن أنتم لشرطنا وأمرنا أطعتم، فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن خالفتم هلكتم، فلا تهلكوا نفوسكم بأيديكم، فقد حذّر من أنذر. وقد ثبت عندكم أنا نحن الكفرة، وقد ثبت عندنا أنكم الفجرة، وقد سَلَّطَنا عليكم من له الأمور المقدّرة، والأحكام المدبرة، فكبيركم عندنا قليل، وعزيزكم عندنا ذليل، فلا تطيلوا الخطاب، وأسرعوا برد الجواب، قبل أن تضرم الحرب نارها، وترمي نحوكم شرارها، فلا تجدون منا جاهًا ولا عزًا، ولا كافيًا ولا حرزًا، وتدهون منا بأعظم داهية، وتصبح بلادكم منكم خالية، فقد أنصفناكم إذ راسلناكم، وأيقظناكم إذ حذرناكم، فما بقي لنا مقصد سواكم، والسلام علينا وعليكم، وعلى من أطاع الهدى، وخشي عواقب الردى، وأطاع الملك الأعلى.
وما إن قرأ قطز رسالة التهديد التترية حتى قتل جميع السفراء المغول ثم علق رؤوسهم في شوارع القاهرة لكي يرفع الروح المعنوية في أوساط الشعب المصري الذي كانت تأتيه أخبار التتار المخيفة، وفي يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة 658 هـ، وبشروق الشمس، أضاءت الدنيا على فجر جديد انبثق من سهل عين جالوت، فالتقى المسلمون والتتار هناك، ليقاتل قطز بنفسه بين صفوف الشعب، ليتفاجأ المسلمون بأعداد الجيش التتري الهائلة والمخيفة، وفعلًا كاد التتار أن ينتصروا بالفعل، عندها أدرك الفارس الإسلامي البطل قطز أن الإسلام هذه المرة مهددٌ كدين على وجه الأرض، فإذا سقطت مصر، سقطت آخر قلاع المسلمين في الكرة الأرضية، لتصبح بعدها مكة والمدينة تحت رحمة المغول وعملائهم من الشيعة، عند هذه اللحظة. . .
توقفت ساعة الزمن عن الدوران في وجدان وكيان هذا المجاهد الإسلامي، فنزل سيف الدين قطز من على ظهر فرسه وأخذ يصيح في السماء بصوتٍ زلزل الأرض:
واإسلاماه. . . . واإسلاماه
واإسلاماه
ثم خلع الملك المظفر قطز خوذته ومرَّغ رأسه على التراب وهو يتضرع للَّه قائلًا: "يا اللَّه. . . انصر عبدك قطز على التتار! فما إن انتهى قطز من دعائه، حتى دارت رحى الحرب في صالح المسلمين، فانتصر الجيش المصري، تحت قيادة القائد التركي، على أرض فلسطين المباركة، لتعلو بذلك راية الإسلام العالمي إلى الأبد!
ولكن. . . . ما هي الخطوات المنهجية التي قام بها قطز رحمه الله ليحول حال الأمة من حالة الهزيمة إلى حالة النصر؟ ومن هو ذلك الشيخ المغربي الذي كان هو الصانع الحقيقي لهذا النصر؟ وكيف كان قطز لا يتخذ أيَّ قرارٍ بدون الرجوع إليه؟ ولماذا أطلق عليه المؤرخون لقب "سلطان العلماء"؟
يتبع. . . . .
" سلطان العلماء"(العز بن عبد السلام)
" يا بني. . . . إني استحضرت هيبة اللَّه عز وجل فرأيت السلطان أمامي كالقط! "
(العز بن عبد السلام)
الإسلام دين يبعث بالعزة والسؤدد في قلب كل إنسانٍ يتمسك به، فلا يعود الإنسان بعدها يأبه بأي شخصٍ أمامه حتى ولو كان ملكًا من الملوك! ولقد رأينا كيف وصف الجنرال الإيطالي (غراتسياني) المجاهدَ الليبي (عمرَ المختار) بأن له هالة من نور تحيط به، والحقيقة أن ذلك الجنرال الإيطالي كان صادقا في وصفه لتلك الهالة النورانية، ولكن المسكين لم يستطع إدراك كنهها! إنها هالة العزة التي تحيط بالمسلم الذي يتمسك بالكتاب والسنة، فتجعل منه إمبراطورًا أمام ملوك الأرض جميعًا. وعظيمنا الحالي يعتبر خيرَ مثالٍ لتلك العزة الإسلامية، فكان اسمًا على مسمى، فنحن نتحدث عن سلطان العلماء، وبائع الأمراء، إنه المجاهد الهمام، الفصيح الكلام، رمز العزة ورمز السلام: الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام.
وسبق وأن ذكرنا أن لعظماء أمة الإسلام خصائصًا ثلاث لا يقاسمهم فيها أحدٌ من البشر، ألا وهي:(تنوع العنصر، ووحدانية العقيدة، وسمو الهدف)، والعز بن عبد السلام يجمع في شخصه تلك الخصائص الثلاث، فهو مغربي الأصل، شامي المولد، مصري الممات، فعائلة الشيخ هاجرت من المغرب إلى أرض الشام، ليولد الشيخ في بيتٍ من بيوت دمشق حاضرة الأمويين، حيث نشأ نشأة عادية للغاية بين أقرانه، والمفارقة العجيبة أن هذا الشيخ العظيم لم يطلب العلم إلا متأخرًا! ولعل سيرته تمثل خير مثالي لأولئك الشباب الذين يتحججون بأن قطار العلم قد فاتهم، فبالرغم من بدايته المتأخرة جدًا، ظل الشيخ يثني الركب في مجالس العلماء حتى بلغ من العلم مبلغًا عظيمًا، فأصبح إمام الجامع
الأموي في دمشق، وكان هذا أعلى منصب يمكن للعالم أن يناله في بلاد الشام. في ذلك الوقت أقدم أمير دمشق (الصالح إسماعيل) إلى موالات الصليبين، فأعطاهم حصن "الصفد" و"الثقيف" وسمح لهم بدخول دمشق لشراء السلاح والتزوّد بالطعام. فاستنكر العزّ بن عبد السلام ذلك وصعد المنبر الأموي وخطب في الناس خطبة عصماء، أفتى فيها بحُرمة بيع السلاح للفرنجة، وبحُرمة الصلح معهم، وقال في آخر خطبته "اللهم أبرم أمرَ رشدٍ لهذه الأمة، يعزّ فيه أهل طاعتك، ويذلّ فيه أهل معصيتك"، ثم نزل من على المنبر دون الدّعاء للحاكم الصالح إسماعيل، فاعتبِر الملك ذلك عصيانا لولي الأمر وشقًا لعصا طاعته، فغضب على العزّ وسجنه بخيمة بجانب خيمته، وبينما هو في سهرةٍ مع حلفائه الفرنجة، سمع الصليبيون صوت الشيخ وهو يقرأ القرآن في منتصف الليل، فقال الصالح إسماعيل للصليبيين وهو يبتسم ابتسامة الذليل ليقول لهم: إنه سجن هذا الرجل من أجلهم! فنظر الصليبيون إلى حليفهم السلطان إسماعيل بكل احتقارٍ وقالوا له: "إن هذا الرجل لو كان قسيسًا لدينا لغسلنا قدميه بأيدينا وشربنا الماء الذي يقطر من قدميه"!
وبعد ذلك هاجر الشيخ ابن عبد السلام بدينه إلى مصر ليكرمه السلطان (نجم الدين أيوب) ويجعله إمام جامع (عمرو بن العاص) في القاهرة، ولكن الشيخ رغم ذلك أبي على نفسه أن يكون عالمًا للسلطان، بل اختار الشيخ العز بن عبد السلام أن يكون سلطانًا للعلماء! فرغم المناصب الهامة التي تولاها الشيخ في مصر، التزم العز بن عبد السلام بقول كلمة الحق ومجاهرة الحكام بها في القاهرة، فلم يكن العز يكتمها إذا رأى أنها تحول دون الصدع بالحق وإزالة المنكرات. ففي أحد الأيام تيقن الشيخ ابن عبد السلام من وجود حانة تبيع الخمور في القاهرة، فخرج إلى السلطان نجم الدين أيوب في يوم عيد إلى القلعة، فشاهد العساكر مصطفين بين يديه، ورأى ما فيه السلطان من الأبهة في يوم العيد، وقد خرج على قومه في أبهى زينته، فأخذت الأمراء تقبل الأرض بين يدي السلطان، فالتفت الشيخ إلى السطان وناداه بصوتٍ مرتفع:"يا أيوب! ما حجتك عند اللَّه إذا قال لك: ألم أبوِّئ لك ملك مصر ثم تبيح الخمور؟ " فقال السلطان: هل جرى هذا؟ فقال الشيخ: نعم، فقال السلطان للشيخ: يا سيدي، هذا ما عملته أنا، هذا من زمن أبي! فقال الشيخ: أأنت من الذين يقولون إنا وجدنا آباءنا على أمة؟ عندها رسم السلطان
بإبطال تلك الحانة. وعندما عاد الشيخ إلى تلاميذه سأله أحد التلاميذ: يا سيدي كيف استطعت أن تقف أمام السلطان العظيم وتصرخ به أمام أمرائه وتناديه باسمه مجردًا؟ فقال الشيخ: يا بني. . . رأيته في تلك العظمة فأردتُ أن أهينه لئلا تكبر نفسُه فتؤذيه! فقال التلميذ: يا سيدي، أما خفتَه؟ فابتسم الشيخ ابن عبد السلام في وجه تلميذه وقال:"واللَّه يا بني إني كلما استحضرتُ هيبة اللَّه تعالى، صار السلطان أمامي كالقط! ".
وعندما تولى السلطان قطز مقاليد الحكم في مصر، أراد أن يجمع المال من الشعب لتجهيز الجيش، فطلب الفتوى من الشيخ العز بن عبد السلام، فرفض الشيخ أن يحابي السلطان في دين اللَّه، وقال له إنه يجب عليه أولًا أن يجمع الذهب والمجوهرات الموجودة عند أمراء المماليك لكي لا يبقى معهم إلا أسلحتهم وخيولهم التي سيحاربون بها، وعندها يصبح الأمراء في نفس مستوى عامة الشعب، وقتها فقط يمكن له أن يأخذ تلك الفتوى! وفعلًا نفذ السلطان المظفر سيف الدين قطز ما قاله شيخه، وتم تجهيز كل الجيش بالأموال التي حصل عليها من بيع مجوهرات الأمراء، بل إن المال زاد عن الحاجة، عندها وقف الشيخ البطل العز بن عبد السلام في جوامع مصر المحروسة يحرض الناس على الجهاد ويذكرهم بقصص الصحابة والسلف الصالح، فاستطاع الشيخ ابن عبد السلام زرع روح النصر من جديد في نفوس المصريين، وخرج الشيخ بنفسه إلى ساحة الجهاد لينال شرف دحر التتار عن أمة الإسلام، لينتصر المسلمون في معركة "عين جالوت" الخالدة بفضل رجالٍ من أمثاله، ليظل الشيخ يجاهد في سبيل اللَّه ويدعو للَّه حتى بلغ الثالثة والثمانين من عمره، ليتوفى رحمه الله سنة 660 هـ، ليصلي عليه جميع أهل مصر وهم يبكون على خسارة أعظم علمائهم، وظن الناس أن زمن العلماء انتهى بموت هذا العالم العظيم، ليحدث شيءٌ عجيب!!!
فبعد سنة واحدة فقط من وفاة الشيخ العز بن عبد السلام في مصر، وُلد في الشام طفلٌ اسمه أحمد ابن عبد الحليم، هذا الطفل حمل اسم جدته من أبيه، ليجعلها أشهر جدة في تاريخ الأرض! فهذا الطفل سيكون فيما بعد شيخا لا على مصر أو على الشام فقط. . . بل سيكون شيخ الإسلام بأسره! فمن هو ذلك الشيخ الشامي الذي لا يسمع باسمه صاحب بدعة في أي عصر من العصور إلا وتصيبه حالة من الرعب؟
يتبع. . . .
" شيخ الإسلام"(أحمد بن تيمية)
" واللَّه ما يبغض ابن تيمية إلا جاهل أو صاحب هوى، فالجاهل لا يدري ما يقول، وصاحب الهوى يصده هواه عن الحق بعد معرفته به! "
(أبو البقاء السبكي)
أمة الإسلام أمة لا تموت أبدًا!
فالشيخ العز بن عبد السلام توفي في سنة 660 هـ، والشيخ أحمد ابن تيمية ولد سنة 661 هـ، وكأن اللَّه سبحانه وتعالى يرسل إشارات للبشرية بأن أمة الإسلام لن تموت أبدًا، فما الذي يجعل ابن تيمية يُولد بعد سنة واحدة فقط من موت الشيخ ابن عبد السلام؟ بل إن هناك سؤال يطرح نفسه بقوة، ألا وهو: لماذا لم تنتهِ هذه الأمة إلى اليوم رغم كل المصائب والحروب التي مرَّت بها؟ فأين الفراعنة؟ لماذا لم تبقَ إلا قبورهم؟ أين لغة الفراعنة؟ أين ذهب التتار الذين حكموا الأرض؟ أين هم الآن؟ أين الإغريق القدماء؟ لماذا لم تبق إلا معابدهم المدمرة في أثينا؟ أين الهكسوس؟ أين اختفى الفينيقيون؟ لماذا اختفت هذه الأمم كلها ولم تبقَ إلا أمة الإسلام؟ لماذا استمرت هذه الأمة في البقاء رغم حملات الصليبيين، ومجازر التتار، وويلات الاستخراب الأوروبي؟ بل لماذا تصنف الأمم المتحدة الإسلام كأسرع ديانة تنتشر على وجه الكرة الأرضية رغم الفقر والأمراض التي تفتك بشعوب هذه الأمة؟! ما الذي يدفع آلاف الأوروبيين والأمريكان إلى دخول الإسلام رغم كل حملات التشويه الإعلامي التي تهاجم الإسلام كدين؟
الإجابة بسيطة. . . . . إن هذه الأمة أمة محميَّة من اللَّه سبحانه وتعالى، فلا سبيل لإزالتها أبدًا! وربما كان ذلك هو السبب الذي دعى أعداء الأمة إلى نشر البدع والخرافات بين المسلمين عن طريق أناس يدعون العلم الشرعي، والحقيقة أن كشف
هؤلاء العلماء المزيفين سهلٌ للغاية، فلا يحتاج المرء إلا أن يذكر اسم (ابن تيمية) على مسامعهم، فإذا رأيت الشخص لم يهتز البتة، فاعلم أنه على خير إن شاء اللَّه، أما إذا رأيته ترتعش أوصاله ويسودّ وجهه من ذكر اسم الشيخ (أحمد ابن تيمية) فاعلم أنك أمام رجلٍ مبتدع! والشيء الذي يدعو حقًا للسخرية أن الشيعة يعتبرون ابن تيمية هو المؤسسَ للوهابية، وهذا ضرب من ضروب المستحيل لسببين اثنين: أولهما أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وُلد بعد وفاة ابن تيمية بمئات السنين، وثانيهما وهو الأهم أنه ليس هناك في الدنيا شيءٌ اسمه (الوهابية)! ولكنهم كباقي أصحاب البدع، لا يطيقون سماع اسم هذا الشيخ المجاهد الذي حارب عبَّاد القبور بكتاباته العظيمة التي أصبحت تلقى رواجًا بين جيل الصحوة الإسلامية، والحقيقة أن اسم ابن تيمية بات يتردد كثيرًا في الآونة الأخيرة عبر وسائل الإعلام التي تشن عليه حملة شرسة لا تستهدفه كشخصية تاريخية فحسب، بل تستهدف فكره المبني على الكتاب والسنة بفهم سلف هذه الأمة، فأصحاب البدع لا تروق لهم فتاوى ابن تيمية التي تحارب عبادة القبور والتبرك فيها، فكثير من هؤلاء يتكسبون من الحمقى الذين يأتون بالأموال ليضعوها عند قبر الميت لكي تحل عليهم البركة المزعومة، والحقيقة أن البركة تحل فقط على أولئك الشيوخ المنافقين الذين يأخذون الأموال في عتمة الليل من عند القبور لكي ينفقوها على ملذاتهم الدنيئة. أما الشيعة فقد اعتدنا منهم أن يحاربوا رموزنا التاريخية بشكل عام، والحقيقة أنني أشفق على الشيعة أحيانا، فتاريخهم لا يزخر بأبطالٍ على الإطلاق، فرموز الشيعة ليسوا إلا خونة كالطوسي وابن سبأ وابن العلقمي، فهم يعلمون قبل غيرهم أنه ليس هناك بطل شيعي على الإطلاق في كل تاريخهم الأسود، فهم يلعنون صلاح الدين الأيوبي، ويلعنون خالدًا، وسعدًا، وعكرمة، وابن الخطاب، وأبا حنيفة والشافعي وابن حنبل ومالك وابن عبد الوهاب، ويلعنون الأمويين والعباسيين والعثمانيين وأهل السنة بالمجمل! فلا عجب أنهم لا يحبون الشيخ ابن تيمية، فأبطالنا أعداءٌ لهم، وأبطالهم -أو لِنقل خونتهم- أعداءٌ لنا! فابن تيمية كتب مؤلفاتٍ عظيمة يفضح فيها حقيقة الرافضة وخياتاهم، فلقد جاهد ابن تيمية ضد التتار وضد أصحاب البدع على حد سواء. والشيء الطريف في سيرة شيخ الإسلام أحمد ابن تيميّة، أن أعظم مصنفاته كتبها وهو نزيلٌ في
المعتقلات المتنوعة في كل من مصر والشام، فلقد أثنى أكابر العلماء على كتب الشيخ أحمد بن تيمية ومصنّفاته، حتى أطلق عليه علماء المسلمين من بعده لقب "شيخ الإسلام"! وأذكر هنا ما وصفه به العلامة (كمال الدين بن الزملكاني) بقوله:"كان إذا سُئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم أن أحدًا لا يعرفه مثله، وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جلسوا معه استفادوا في مذاهبهم منه ما لم يكونوا عرفوه قبل ذلك، ولا يعرف أنه ناظر أحدًا فانقطع معه ولا تكلم في علم من العلوم، سواء أكان من علوم الشرع أم غيرها إلا فاق فيه أهله! "
ومن الطرائف أيضًا أن (تيميَّة) وهي جدة الشيخ أحمد من أبيه، كانت واعظة عظيمة، فنسبه الناس إليها، أما اسم الشيخ أحمد بن تيمية الكامل فهو: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد اللَّه، تقي الدين أبو العباس النميري العامري الحرّاني، وحرّان هي المدينة التي وُلد فيها الشيخ أحمد بن تيمية، وحرّان هذه شهدت قبل ميلاده بأكثر من 400 سنة ميلادَ عالمٍ عظيمٍ من علماء الإسلام، أو لنقل علماء الإنسانية!
فمن هو ذلك العالم الإسلامي الكبير الذي ولد في "حرّان" والذي كان أول إنسان في العالم يحدد عدد أيام السنة الشمسية بدقة بالغة حيرت علماء وكالة الفضاء الأمريكية "ناسا"؟ ولماذا اعتبره مؤرخو الغرب المؤسس الحقيقي لعلم "التفاضل والتكامل"، والمؤسس الحقيقيي لعلم "طب العيون"، والمؤسس الحقيقي لعلم "الهندسة التحليلية"، والمؤسس الحقيقي لعلم "الجبر" وأول إنسانٍ نقل للبشرية مؤلفات (إقليدس) و (أرشميدس) و (بطليموس) و (أبولونيوس) و (أوتوسيوس) و (فيثاغورس)؟ فمن تراه يكون ذلك العالم الإسلامي العظيم الذي كان وبحق موسوعة علمية تمشي على قدمين؟!
يتبع. . . . .
" إقليدس العرب"(ثابت بن قرة)
" إن العالم الإسلامي ثابت بن قرة هو العالم الذي أفاد علماء الغرب فيما بعد في تطبيقاتهم وأبحاثهم الرياضية في القرن السادس عشر والتي كانت أساسًا لظهور الحضارة الغربية المعاصرة! "
(المؤرخ الأوروبي يورانت وول)
لا شك أن تحامل وإجحاف كثير من المؤرخين الغربيين على التراث العربي الإسلامي كان سببًا مهمًا لضياع تاريخ علماء أمة الإسلام، إلا أنني أعتقد جازمًا أن إهمال المسلمين أنفسهم لتراثهم وتاريخهم كان السبب الرئيسي الأول لذلك الضياع! فقبل أن نتطرق لسيرة هذا العبقري الفذ ينبغي على كل واحدٍ فينا أن يسأل نفسه سؤالًا بسيطا: هل سمعت في حياتك ولو لمرة واحدة عن العالم الإسلامي ثابت بن قرة؟ الحقيقة التي لا يعلمها الكثير منا أن هذه الأمة لن تعيد أمجاد تاريخها وفيها أناسٌ لا يعرفون تاريخهم أصلًّا! فلن يرضع أطفالنا إلا حليب الذل والهوان طالما بقي تاريخ عظمائنا في طي النسيان. ففي الوقت الذي يحلم به الطفل المسلم أن يصبح فيه مثل البطل المزيف (سوبر مان)، نجد أن ذلك الطفل لا يعرف شيئًا بالأساس عن بطل أسطوري حقيقي اسمه (القعقاع بن عمرو)! وفي الوقت الذي نجد فيه شبابنا متيمين بقصة بطلين مزيَّفيْن اسمهما (الأخوان رايت) نجد أن أحدًا من شبابنا لم يسمع البتة عن بطليْن حقيقيَّن اسمهما (الأخوان بربروسا)!! وفي الوقت الذي تعظم فيه مناهجنا الدراسية المتعفِّنة سيرَ (أديسون) و (آنشتاين)، نجد أن نفسى تلك المناهج لا تذكر شيئًا عن عالمٍ إسلامي مثل (ثابت بن قرة)! هذا مع الوضع في الحسبان أن العلوم التي برع فيها هذا العالم الإسلامي العظيم في مرحلة مراهقته فقط تفوق كل العلوم التي قضى أولئك العلماء الغربيّون سنين عمرهم كلها في تحصيل بعضٍ منها!!!
لذلك. . . . سنحاول جاهدين من خلال الصفحات القليلة القادمة أن نختار نماذج مشرقة من علماء هذه الأمة العظيمة لنسبر أغوارها، ونقدّمها بشكلٍ ممتعٍ لشباب الصحوة الإسلامية، لتكون هذه الصفحات مجرد حافزٍ لأولئك الشباب الذين يريدون إعادة مجد أمّتهم من جديد. أما إذا سألني أحد الفشلة المثبِّطين: لماذا تبكي على الماضي وتذكر تاريخ علماء سابقين أكل الزمان عليهم وشرب، في الوقت الذي نتذيل نحن فيه قاع السلم الحضاري محاطين بالتخلف والأمراض من جميع الاتجاهات؟! وقتها سأقول لهذا المثبّط الفاشل أن التخلف لم ينتشر في أوصال أمتنا إلا بسبب أمثاله من الإنهزاميين المكسورين داخليًا! أما أنا فسأحاول في هذا الكتاب أن أشعل شمعة، وليبقى هو وأمثاله ليلعنوا الظلام ألف مرة!
الغريب أنني لاحظت من خلال دراستي التاريخية لعلماء الإسلام أن جميع العلماء المسلمين يشتركون في ثلاث خصائص اجتماعية ميَّزتهم عن باقي علماء الأرض عبر التاريخ، هذه الخصائص الثلاث هي:
(الخلفية الدينية):
لا تجد عالمًا من علماء المسلمين في مجالات الفلك أو الرياضيات أو الأدب أو حتى الطب، إلا وتجده حافظًا لكتاب اللَّه، وعالمًا بأصول الحديث، وذا حظٍ كبير في علوم الفقه والشرع! ولعل هذا من أهم أسباب تخلف الأمة في الوقت الحالي، فكثيرًا ما تجد طبيبًا أو مهندسًا لا يعرف قراءة آيتين من آي الكتاب الحكيم، فاللَّه سبحانه وتعالى لا يوفق إلا من كان مخلص العمل له وحده، والذي لا يعرفه الكثيرون أن كبير علماء آل عثمان الدينيين الشيخ الشامي (شمس الدين آق) والذي كان هو من غرس في وجدان (محمد الفاتح) روح البطولة وحثه على فتح "القسطنطينية"، كان في نفس الوقت مخترعًا عظيمًا من مخترعي أمة الإسلام، فلقد كان كان هذا الشيخ الجليل هو أول إنسان يكتشف "الميكروب"!
(التنوع المعرفي):
من الأشياء التي كنت أسمعها سابقًا في أيام الدراسة عند سؤالي لأحد الزملاء عن عاصمة إحدى الدول، أنه كان يقول لي: "لا أعرف، فأنا أدرس في القسم العلمي وليس
في الأدبي! " والحال نفسه مع طلاب القسم الأدبي إذا سُئلوا عن درجة غليان الماء مثلًا! أما علماء الإسلام فلم يكونوا بهذا التخاذل، فلقد برع العالم الواحد في الفقه والحديث والفلك والشعر والجبر واللغة والفلسفة والكيمياء في آن واحد.
(التميز الأدائي):
كان الشعار الموحد لعلماء المسلمين هو: إذا غامرت في شرفٍ مروم. . . . فلا تقنع بما دون النجوم فالعلماء المسلمون تميزوا عن باقي علماء البشر بأنهم على الرغم من انفتاحهم على علوم من قبلهم دون تعصب، فإنهم لم يقلدوا، بل ابتكروا، فابتكر المسلمون علومًا جديدًا لم تكن معروفة قبلهم (كما سنرى)!
وثابت بن قرة جمع في عبقريته الفذة هذه الصفات الثلاث، فكانت بدايته كبداية كل عالم مسلم بالمساجد والكتاتيب، فتعلم اللغة العربية (أساس البداية الصحيحة!) والشعر والفقه والحديث وعلوم القرآن الكريم. وعندما أتم ثابت الخامسة عشرة من عمره، التحق بحلقات العلم في المسجد الجامع بحرّان، ليتلقى تعليمه العالي وليتعلم بجانب العربية اللغتين السريانية واليونانية، ثم تلقى ثابت بحلقات هذا المسجد دروس الفلسفة والرياضيات والفلك والمنطق والطب بهذه اللغات الثلاث، ودرس الكتب المعتمدة في العلوم البحتة، وهي كتب: أرسطو وأفلاطون وإقليدس وجالينوس ثم برز ثابت بين أقرانه في المسجد الجامع الكبير، وتميز بعقليته الموسوعية في الفلسفة والرياضيات خاصة، فأجيز ثابت في العلم والتدريس، فصار له الحق في كشف أسرار العلم، وتفسير كتب أرسطو وأفلاطون وإقليدس وغيرهم، ليتصدر ثابت بن قرة التدريس بالمسجد الجامع الكبير وهو في العشرين من عمره فقط عام 230 هـ، فذاعت شهرته في الآفاق، وأخذ يدرس طلاب العلم بالمسجد الجامع كتاب "المخروطات" لأبولونيوس الصوري، وكتاب "الإيقاع الهرموني" لأرستكسينوس التارنتي. وبرع ثابت في علم الهندسة حتى قيل عنه أنه أعظم هندسي مسلم على الإطلاق، وقال عنه المؤرخ العالمي المشهور "يورانت ول": "ثابت بن قرة أعظم علماء الهندسة المسلمين، فقد ساهم بنصيب وافر في تقدم الهندسة، وهو الذي مهد لإيجاد علم التكامل والتفاضل، كما استطاع أن يحل المعادلات الجبرية بالطرق الهندسية، وتمكن من تطوير وتجديد
نظرية فيثاغورس، واستطاع أن يعطي حلولا هندسية لبعض المعادلات التكعيبية التي عجز عنها علماء الإغريق العظام".
كما كان ثابت بن قرة من المولعين بالفلك، فأخذ يدرس الشمس وحركتها دراسة دقيقة، فقد كتب عنه المؤلف (سيدني فيش) في كتابه "الشرق الأوسط":"درس العالم الإسلامي ثابت بن قرة حركة الشمس وحسب طول السنة الشمسية فوجدها 365 يومًا و 6 ساعات و 9 دقائق و 10 ثوان بالضبط، أي أكثر من الحقيقة بأقل من نصف ثانية! ". وبرع عالمنا الإسلامي أيضًا في الرياضيات بجميع فروعها، وأضاف إليها إضافات عظيمة أثارت إعجاب علماء الغرب ودهشتهم، والجدير بالذكر أن تعميم نظرية فيثاغورس وابتكار قانونين أحدهما في إيجاد الأعداد المتحابة، والأخر للمربعات السحرية، لا يرجع إلى لأي عالم غربي، بل يعود في الأساس إلى عالمنا العظيم ثابت بن قرة. والشيء الذي لا يعلمه الكثيرون من أبنائنا من المنبهرين بالحضارة الغربية وعلمائها أن أساس نظريات (جاليليو) و (جاوس) و (نيوتن) و (اويلر) و (فارادي) مستمدٌ بالكلية من نظريات العالم الإسلامي العظيم ثابت بن قرة الذي لم يسمعوا عنه في حياتهم! فقد اكتشف ابن قرة قبل حوالي 1200 سنة من الآن نظرية حيَّرت العلماء إلى يوم الناس هذا! فلقد اكتشف هذا العالم المسلم في ذلك الوقت المتقدم من التاريخ الظاهرة الفلكية المعروفة باسم "هزة الاعتدالين"، وقد فسر ثابت بن قرة هذه الظاهرة بأن محور دوران الأرض يهتز أو يترنح كما تترنح النحلة، وهي تقف وتدور حول محورها، فتروح متمايلة هنا وهناك! وقال بأن ترنح محور الأرض له دورة كاملة تستغرق نحوًا من ستٍ وعشرين ألف سنة، بمعنى أن المحور لا يشير دائما إلى النجم القطبي. (أكد علماء وكالة الفضاء الأمريكية "ناسا" قبل عدة سنوات فقط وبواسطة أجهزة الكمبيوتر العملاقة صحة هذه النظرية!). ولثابت أعمال جليلة وابتكارات مهمة في الهندسة التحليلية التي تطبق الجبر على الهندسة، ويُعزى إليه العثور على قاعدة تستخدم في إيجاد الأعداد المتحابة، كما يعزى إليه تقسيم الزاوية ثلاثة أقسام متساوية بطريقة تختلف عن الطرق المعروفة عند رياضيي اليونان وأبدع العالم الإسلامي ثابت بن قرة في الطب أيضًا، فكان أول إنسان على وجه الأرض يشرِّح العين تشريحًا علميًا
تفصيليًا، فكان ثابت وبجدارة أبا طب العيون على مر العصور، وقد أحصى مؤرخو العلوم والعلماء في موسوعاتهم لثابت بن قرة 180 كتابا في علوم: الرياضة، والطب، والطبيعة، والفلسفة، والفلك، والأخلاق، والفقه، والحديث، والأحياء، والهندسة، والجبر، والتفاضل.
وبعد أن استعرضنا بعض منجزات هذا العالم الإسلامي العملاق، ينبغي علينا أن نقف قليلًا مع أنفسنا لكي نتأمل أحوالنا قليلًا، فكم منّا يعرف أساسًا ما هو علم التفاضل والتكامل؟ أما آن الأوان لكي نخجل من أنفسنا قليلًا ونبدأ بتنفيذ أول أمر إلهي إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم. . . "اقرأ"؟!
وعالمنا القادم هو أكثر مدعاة للدهشة من سابقه! لذلك ننتقل الآن معًا من شرق العالم الإسلامي في الشام المباركة، إلى غرب العالم الإسلامي في الأندلس الرائعة، ولكن هذه المرة ليس بقطار التاريخ الإسلامي، بل بطائرة التاريخ الإسلامي! لنراقب من نافذة غرفة الاختراعات الإسلامية في "قرطبة" عالما إسلاميًا جديدًا، وهو منهمكٌ في عمله لاختراع أول طائرة في تاريخ العنصر البشري! هذه الطائرة مكتوبٌ على جناحها الأيمن بأحرفٍ عربية واضحة عبارة:"صُنعَ في بِلادِ الإسْلام"!
يتبع. . . . . .
" أول رائد فضاء في التاريخ"(عباس بن فرناس)
" تفرد العلم الإسلامي بأنه لم ينفصل عن الدين قط، والواقع أن الدين كان ملهمه وقوته الدافعة الرئيسة، ففي الإسلام ظهر العلم لإقامة الدليل على الألوهية"
(روم رولان)
"نحن مدينون للمسلمين بكل محامد حضارتنا في العلم والفن والصناعة، وحسب المسلمين أنهم كانوا مثالًا للكمال البشري، بينما كنا مثالًا للهمجية"
(ليوبولد فايس)
"إن ما يدين به علمنا لعلم العرب ليس فيما قدموه لنا من كشوف مدهشة ونظريات مبتكرة فحسب، بل إنه مدين لهم بوجوده ذاته"
(بريفولت)
"إن انتصارات المسلمين العلمية المتلاحقة جعلت منهم سادة للشعوب المتحضرة، لدرجة تجعلها أعظم من أن تُقارَن بغيرها"
(زيغريد هونكه)
"من أراد الدليل فليقرأ القرآن وما فيه من نظرات ومناهج علمية، وقوانين اجتماعية، وإذا طُلبَ مني أن أحدّد معنى الإسلام فإني أحدده بهذه العبارة: الإسلام هو الحضارة! "
(ويلز)
"ما يدرينا أن يعود العقل الإسلامي الوَلود إلى إبداع الحضارة من جديد؟ فإذا كان المسلمون يمرون الآن بمرحلة انحدار حضاري، فإن أوروبا المتعجرفة نفسها كانت كذلك قبل نهوضها"
(رينان)
"أيها المسلمون! ما دام كتابكم المقدس عنوان نهضتكم موجودًا بينكم، وتعاليم نبيكم محفوظة عندكم، فارجعوا إلى الماضي لتؤسسوا المستقبل"
(غريسيب)
لعل هذا العالم الإسلامي العظيم -عباس بن فرناس- كان من بين الأسباب الرئيسية التي دفعتني إلى كتابة هذا الكتاب! فقصة عباس بن فرناس بالذات تلخص حكاية الحضارة الإسلامية بأكملها، فهذا العالم البربري ظهر في الأندلس منبع الحضارة الإنسانية، وكغيره من باقي علماء الإسلام أبدع عباس ابن فرناس في كل شيء، فالذي لا يعرفه الكثير منا أن ابن فرناس لم يكن أول رائد فضاء في التاريخ فحسب، بل كان هذا العالم الإسلامي العبقري شاعرًا مفوَّهًا وفقيهًا ورِعًا وفلكيًا وطبيبًا وصيدليًا ورياضيًا وكيميائيًا وفيزيائيًا وفيلسوفًا ونحويًا ومخترعًا! فكان أول إنسان في التاريخ يخترع صناعة الزجاج من الحجارة والرمل، واخترع ابن فرناس أيضًا "المنقالة"(آلة لحساب الزمن)، واخترع "ذات الحلق"(آلة للرصد الفلكي)، وكان سقف بيت هذا الإنسان العبقري عبارة عن قبة عجيبة صممها على هيئة السماء بنجومها وغيومها وبروقها ورعودها والشمس والقمر والكواكب كما ذكر (الزركلي) وغيره من المؤرخين والمترجمين لحياة عباس بن فرناس، ولكن الأهم في قصة عباس بن فرناس أنها قصة تتلخص فيها نظرية "الغزو التاريخي"، فتاريخ هذا العالم الإسلامي العبقري تعرض للتشويه والتزوير بشكل مخيف للغاية، لدرجة تحول فيها هذا العالم الإسلامي العظيم إلى مجرد رجلٍ مجنون!
وبغض النظر عن تلك التجربة الرائدة في عالم الطيران، وبغض النظر عن أن عباس بن فرناس نجح بالطيران وحلق في سماء قرطبة قبل أن يهبط على الأرض من دون أن يموت (على عكس ما تعلمناه في مدارسنا)، فإني في الحقيقة أشفق على أمثال أولئك الشباب المهزومين داخليًا، والذين فقدوا احترامهم لأنفسهم قبل أن يفقدوه من الآخرين، إلا أنني لا أضع كل اللوم على أولئك المساكين، بل أضعه على عاتق علمائنا الذين أهملوا الجانب التاريخي للحضارة الإسلامية، ولذلك فإننا سنحاول من خلال ذكر قصة بطلنا الإسلامي القادم أن نبين عظم الخديعة الكبرى التي نعيشها أنا وأنت، ومدى التزييف التاريخي الفظيع الذي لحق بتاريخ البشرية بشكل عام، قبل أن يلحق بتاريخ الإسلام بشكلٍ خاص!
فإذا كنت تعتقد أن (كريستوفر كولومبوس) هو الذي اكتشف أمريكا، فما عليك إلا أن تنزل من طائرة ابن عباس التي طرنا بها إليه، لتستقل هذه المرة سفينة التاريخ الإسلامية، لنبحر بها سويةً إلى بحر "مرمرة" نحو تركيا، فنرسوا هناك في ميناء مدينةٍ تركيةٍ يقال "غاليبولي" حيث وُلد عظيمنا القادم!
يتبع. . . . .
" مكتشف أمريكا"(بيري رئيس)
" إن أبناء غاليبولي أمضوا حياتهم في البحر كالتماسيح، وكانت أسرّتهم القوارب، وهدهدتهم البحر والسفن ليلًا ونهارًا"
(المؤرخ العثماني: ابن كمال)
هناك معلومات تاريخية رضعناها منذ الصغر وكأنها حقائق كونية أنزلها اللَّه على البشر فلم تعد قابلة للنقد "بالدال" أو النقض "بالضاد"! بل إنه في كثير من الأحيان ما يُتهم فيها مكذب هذه الحقائق المزيفة بالجهل والتخلف، وقد ذكرنا خلال فصول سابقة في هذا الكتاب أن من أهم بنود "نظرية الغزو الثقافي" هو تشويه تاريخ أبطالنا ورموزنا والمبالغة في تمجيد أبطال الغرب وتعظيمهم، وذكرنا أيضًا أن هناك بندٌ آخر مهم: ألا وهو طمس سيرة أبطال الإسلام الحقيقيين وإبدالها بحكاياتٍ أبطالٍ خرافيين لا مكان لهم في التاريخ فضلًا عن الوجود، والحقيقة أن بطلنا الإسلامي هذا نال الشرفين من أولئك الغزاة، فهو معروفٌ في الأدب الغربي كقرصان بحار، على الرغم من كونه أمير بحر إمبراطورية آل عثمان الإسلامية، أما في الأدب العربي. . . . فلا ذكر له أصلًا، ففي الوقت الذي نجد أن وسائل الإعلام العربية ومناهجنا التربوية لا تذكر اسمه من قريب أو بعيد، نجد أن تلك الوسائل ذاتها هي التي تمجد شخصية خرافية مثل "سندباد" والتي لا محل لها في الوجود التاريخي أصلًا، فمن هو سندباد؟ وما اسم أبيه؟ وأي كتاب ترك؟ لا شيء على الإطلاق طبعًا، فهو شخصية عديمة الوجود زرعها في أدمغتنا غزاة التاريخ لكي نكون نحن أيضًا عديمي الوجود مثله!! وقصص سندباد الخرافية مع طائر العنقاء ومغامراته لا تساوي شيئًا أمام مغامرات هذا البطل الإسلامي الحقيقي: بيري رئيس رحمه اللَّه تعالى.
وقصة هذا العظيم تعود إلى (الأخوان بربروسا) اللذان سبق لنا وأن تحدثنا عنهما في بداية الكتاب، فلقد قام بيري رئيس أيضًا بالمساهمة في إنقاذ المسلمين الأندلسيين من
الإرهابيين الإسبان بعد أن حرر النساء والأطفال من أقبية الكنائس المظلمة حيث غرف التعذيب المخيفة، ثم قام هذا البطل الإسلامي الفذ بمحاربة البرتغاليين الصلبيين الذين أرادوا نبش قبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فحاربهم في عدن وعمان وهرمز، ثم توجه إلى أمواج البحر المتوسط ليحارب قراصنة القديس يوحنا الذين طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد، ورغم جهاد هذا البطل الإسلامي الطويل، نراه في نفس الوقت عالمًا عبقريًا قل نظيره، فلقد أتقن اليونانية والإسبانية والبرتغالبة والإيطالية لكي يعرف لغة أعدائه، ثم تقدم بأبحاثه للخليفة سليم الأول رحمه الله يوضح فيها آخر اكتشافاته الجغرافية، حتى جاء ذلك اليوم الذي غير تاريخ الإنسان، يوم إكتشاف أمريكا. . . .
ففي عام 870 هـ 1465 م أي قبل اكتشاف كولومبوس بحوالي 27 عامًا، اكتشف أمير البحرية الإسلامية بيري أمريكا، بل وقام برسم خارطة لهذه القارة أذهلت العلماء بعد أن وجدوا التطابق العجيب بينها وبين صور الأقمار الصناعية، فلقد قام بيري رئيس برسم سواحل أمريكا بمنتهى الدقة، قبل أن يقدمها إلى السلطان سليم الأول في مصر عام 1517 م وهي موجودة الان في متحف "إسطانبول" وعليها توقيع الرئيس بيري شخصيًا. فقد رسم بيري جزر البحر الكاريبي، ورسم جزيرة كوبا بشكل ممتاز، ولم يكتف بذلك وحسب، بل قام برسم خارطة لنهر الأمازون العظيم، فرسم مصباته ومنابعه المتعددة، ورسم في خريطته العجيبة أنواع الحيوانات المتواجدة في أدغال الأمازون، ووضع فيها مقياسًا دقيقًا لخطوط العرض والطول التي أخترعها العلماء المسلمون من قبل، والجدير بالذكر أن هذه الخريطة التي رسمها الريس بيري لأمريكا هي الخريطة الأولى لأمريكا في التاريخ. ونذكر هنا أنه بتاريخ 26 أغسطس
عام 1956 م عُقدت في جامعة "جورج تاون" الأمريكية ندوة عن خرائط الريس بيري اتفق الجغرافيون المشتركون فيها بأن خرائط بيري لأمريكا "اكتشاف خارق للعادة" فلقد كان الرئيس بيري على معرفة بوجود أميركا قبل اكتشافها بعشرات السنين، والدليل على ذلك ما يقوله في كتابه الماتع المليئ بالمغامرات المدهشة "كتاب البحرية" "إن بحر المغرب -يقصد المحيط الأطلسي بحر عظيم يمتد بعرض 2000 ميل تجاه الغرب من بوغار سبته وفي طرق هذا البحر العظيم توجد قارة هي قارة أنتيليا وبذلك استحق أمير البحرية الإسلامية العثمانية بيري رئيس رحمه الله أن يخلد اسمه في صفحات التاريخ الإنساني، وقد آن الأوان لكي ننفض الغبار عن تاريخ عظمائنا، لكي نقدمه إلى أبنائنا، ليكونوا لهم نباريسًا تضيئ لهم درب النهوض الإسلامي القادم والقريب بإذن اللَّه.
ولكن. . . . هناك شيء غريب وجده بيري الرئيس عندما وصل إلى أمريكا! لقد وجد أناسًا يتكلمون بالعربية هناك!!! ليكتشف بذلك سرًا من أخطر أسرار التاريخ الإنساني.
فإذا كنت مستعدًا لمعرفة تفسير هذا اللغز الخطير الذي لو علمه سكان الأرض لتغير وجه التاريخ، فخذ نفسًا عميقًا ستحتاجه لمتابعة القصة العجيبة التالية!
يتبع. . . . . .
" المسلمون الذين لا يعرفهم المسلمون"(الهنود الحمر!)
" إن كريستوفر كولومبس كان واعيًا الوعي الكامل بالوجود الإسلامي في أمريكا قبل مجيئه إليها"
(ليون فيرنيل)
بروفسور جامعة هارفرد
في كتابه "أفريقيا واكتشاف أمريكا"
Africa and the discovery of America""
عندما بدأت هذا الكتاب لم أكن أطمع بأكثر من عظيم إسلامي واحدٍ من قارتي أمريكا الشمالية والجنوبية لكي أضيفه إلى صفحات هذا الكتاب لأثبت أن هذا الدين دين عالمي، ولكنني صُعقت من المفاجأة عندما علمت أن سكان أمريكا بأسرهم كانوا مسلمين!!! وقبل أن يتهمني البعض بالجنون لما سأعرضه من معلومات تاريخية خطيرةٍ، ينبغي علينا أولًا، أن نراجع معًا ما تعلمناه سابقًا في كتب التاريخ المدرسية التي هي انعكاسٌ طبيعيٌ لكتب التاريخ الغربية: فلقد تعلمنا أن قارتي أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية كانتا قارتين مجهولتين حتى عام 1492 م عندما اكتشفها بحار إيطالي اسمه (كريستوفر كولمبوس)، وهناك وجد هذا البحار الإيطالي الذي كان يعمل لصالح ملكي إسبانيا (فرناندو) و (وايزابيلا) أناسًا يعيشون في تلك الأرض، فظن أنهم من الهنود، فأسماهم (الهنود الحمر) للونهم الأسمر المائل للحمرة، ثم جاء (أميركو فاسبوتشي) وهو أحد البحارة الإيطاليين ليكتشف أن تلك الأرض ليست الهند وإنما هي قارة جديدة (ومنها جاءت تسمية أمريكا!)، ولأن الهنود الحمر لم يكونوا متحضرين، ولأنهم كانوا من آكلي لحوم البشر (كما تصورهم السينما الأمريكية دائمًا) فلقد تطوع الأوروبيون البيض بنشر الحضارة والثقافة في أوساط الهنود الحمر، ولكن الغريب أن عشرات
ملايين الهنود الحمر تم قتلهم من قبل الأوروبيين البيض في تلك الفترة التي كان من المفروض أن تكون لنشر الحضارة والمدنية في أوساطهم! انتهت الرواية الغربية.
الحقيقة أن هذه الرواية التاريخية لا تعدو مجرد هراء أراد الأوروبيون فيه تبرير إبادتهم للشعب الهندي الأحمر، والمحزن في الأمر أننا تقبلنا هذه الرواية وكأنها حقيقة تاريخية، ولكن هذا الوقت قد فات وولى، فلقد آن الأوان لشباب هذه الأمة أن ينتفضوا في وجه غزاة التاريخ، وأن يعيدوا كتابة التاريخ لا أقول من منظور إسلامي، بل من منظور إنساني شامل، بعيدًا عن التزييف والتحيز لأي طرف، فالسر الخطير الذي ظل طي الكتمان في أرشيفات إسبانيا والبرتغال لمئات السنين هو أن الهنود الحمر كانوا شعوبًا إسلامية تمت إبادتهم من دافعٍ صليبي حاقد على الإسلام والمسلمين، وقبل أن يظن القارئ أن هذا الكلام ما هو إلا خيال كاتب يؤمن بنظرية المؤامرة، ينبغي علينا أن نستعرض الحقائق التاريخية التي توصلت إليها من خلال دراستي لهذا الموضوع الخطير، والآن لنستعرض سوية تاريخ الإسلام في أمريكا، وأترك المجال للقارئ الكريم بعد ذلك ليحكم بنفسه:
(القرن الأول الهجري) بداية قصة الإسلام في أميركا بدأت مبكرًا من على ظهر فرس عربية أصيلة كانت تجري على الضفة الشرقية للمحيط الأطلسي في عام 63 هـ، وفوق هذه الفرس كان يركب فارسٌ من بني أمية اسمه (عقبة بن نافع) هو ابن خالة الفاتح الإسلامي العظيم -الأموي أيضًا- (عمرو ابن العاص)، هذا الفارس المسلم نظر إلى المحيط الأطلسي وعيونه تفيض بالدموع ليرفع يديه في علياء السماء ويقول بصوتٍ خالطت نبراته هدير أمواج بحر الظلمات:"اللهم لو كنت أعلم ان وراء هذا البحر أرضًا لخضته إليها في سبيلك حتى أعلي عليها كلمة لا إله إلا اللَّه"!
(القرن الأول الهجري) الإمام الشعبي قال شيئًا عجيبًا ورد في كتاب (الحث على التجارة) لأبي بكر الخلال حيث قال "إن للَّه عز وجل عبادًا من وراء الأندلس كما بيننا وبين الأندلس ما يرون أن اللَّه تعالى عصاه مخلوق رضراضهم الدر والياقوت، جبالهم الذهب والفضة لا يحرثون ولا يزرعون ولا يعملون عملا لهم شجر على أبوابهم لها ثمر هي طعامهم وشجر لها أوراق عراض هي لباسهم"!!!!
(القرن الرابع الهجري) ذكر المؤرخ المسعودي كتابه "مروج الذهب ومعادن الجوهر" المكتوب عام 956 م وأبو حامد الغرناطي أن أحد المغامرين من قرطبة واسمه الخشخاش بن سعيد بن الأسود، عبر بحر الظلمات مع جماعة من أصحابه إلى أن وصل إلى الأرض وراء بحر الظلمات، ورجع سنة 889 م، وقال الخشخاش لما عاد من رحلته بأنه وجد أناسا في الأرض التي وصلها، ولذلك لما رسم المسعودي خريطة للعالم، رسم بعد بحر الظلمات أرضا سماها: الأرض المجهولة بينما يسميها الإدريسي بالأرض الكبيرة أي إنه في القرن التاسع الميلادي كان المسلمون يعرفون أن ثمة أرضا وراء بحر الظلمات (وردت سيرة هؤلاء المغامرين وهم أبناء عمومة في كتابات المؤرخ الجغرافي كراتشكوفسكي وتم توثيقها عام 1952 م في جامعة وايتووتر البرازيلية)
(القرن الخامس الهجري) الشيخ البربري ياسين الجزولي (والد الشيخ عبد اللَّه بن ياسين مؤسس جماعة المرابطين) قطع المحيط الأطلسي وذهب إلى المناطق شمال البرازيل مع جماعات من أتباعه، ونشر فيها الإسلام وأسس منطقة كبيرة كانت تابعة للدولة المرابطية ولا تزال هناك مدنًا تحمل أسماء مدنٍ إسلامية مثل (تلمسان) و (مراكش) و (فاس) إلى يوم الناس هذا.
(القرن السادس الهجري،) الشريف الإدريسي الذي عاش في القرن الثاني عشر الميلادي بين 1099 - 1180 م، ذكر في كتابه "الممالك والمسالك" قصة الشباب المغامرين وهم: جماعة خرجوا ببواخر من إشبونة " Lisbon"(عاصمة البرتغال الآن) وكانت في يد المسلمين وقتها، وقطع هؤلاء المغامرون بحر الظلمات، ورجع بعضهم، وذكروا قصتهم وأنهم وصلوا إلى أرض وصفوها ووصفوا ملوكها. والغريب في الأمر أنهم ذكروا أنهم وجدوا أناسا يتكلمون بالعربية هناك!!! وإذا كان أناس يتكلمون بالعربية هناك فهذا دليل على أن أناسا كثيرين وصلوا قبلهم إلى هناك، حتى تعلم أهلها العربية ليكونوا ترجمانا بينهم وبين الملوك المحليين، وعلى أنه كان هناك وجود إسلامي في ذلك التاريخ على تلك الأرض. والوصف الذي أعطاه هؤلاء المغامرون يظهر أنه وصف للجزر الكارابية، كوبا أو إسبانيولا.
(عام 1327 م) المؤرخ الإسلامي شهاب الدين العمري يذكر قصة عجيبة في كتابه
"مسالك الأبصار وممالك الأمصار" بأن سلطان إمبراطورية مالي المسلم (منسا موسى) رحمه الله لما ذهب للحج عام 1327 م، أخبره بأن سلفه أنشأ مائتي سفينة وقطع المحيط الأطلسي نحو الضفة الأخرى المجهولة وأنابه عليه في حكم مالي ولم يعد قط! وبذلك بقي هو في الملك وقد وُجدت بالفعل كتابات في البيرو والبرازيل وجنوب الولايات المتحدة تدل على الوجود الإفريقي الإسلامي من كتابات إما بالحروف الكوفية العربية أو بالحروف الإفريقية بلغة الماندينك؛ وهي لغة لشعب كله مسلم الآن، يسمونهم:"الفلان"، وكذلك تركت اللغة المانديكية آثارا لها في الهنود الحمر إلى يومنا هذا (وهناك قبائل هندية إلى يومنا هذا ما زالت تكتب بحروف لغة الماندينك الإسلامية!)
(عام 1493 م) كريستوفر كولومبوس نفسه يكتب في مذكراته "إن الهنود الحمر يلبسون لباسا قطنيا شبيها باللباس الذي تلبسه النساء الغرناطيات المسلمات" وذكر أنه وجد في كوبا مسجدًا، والجدير بالذكر أن أول وثيقة هدنة بين كرستوفر والهنود الحمر كانت موقعة من طرف رجل مسلم (الوثيقة موجودة في متحف تاريخ أمريكا بتوقيع بحروف عربية من رجل من الهنود الحمر اسمه محمد!!!)
(عام 1564 م) رسم الأوروبيون خريطة لفلوريدا في أمريكا تظهر فيها مدنا ذات أسماء توجد في الأندلس والمغرب مثل (مراكش) و (ميورقة) و (قادس)، ولكي تكون أسماء عربية هناك، فبالضروري كانت هجرة عربية قبل مائة أو مائتي عام من ذلك التاريخ على الأقل.
(عام 1929 م) اكتشف الأتراك صدفة خريطة للمحيط الأطلسي رسمها بيري رئيس، الذي كان رئيس البحرية العثمانية في وقته، وذلك سنة 919 هـ/ أي: حوالي: 1510 - 1515 م، (وهي نفس الخريطة التي عرضناها في هذا الكتاب) الغريب فيها أنها تعطي خريطة شواطيء أمريكا بتفصيل متناه غير معروف في ذلك الوقت بالتأكيد، بل ليس الشواطيء فقط، بل أتى بأنهار وأماكن لم يكتشفها الأوروبيون إلا أعوام 1540 - 1560 م، فهذا يعني -وكما ذكر بيري رايس- بأن هذه الخريطة مبنية على حوالي تسعين خريطة له وللبحارين الأندلسيين والمغاربة الذين قدموا قبله، فسواء هو أو المسلمون قبله سيكونون عرفوا قطعا تلك المناطق، وعرفوا اسمها قبل الأوروبيين
والغريب في الأمر أنه أظهر بالتفصيل جبال الأنتس التي هي جبال تشيلي في أقصى غرب قارة أمريكا الجنوبية، التي لم يصلها الأوروبيون إلا عام 1527 م، وأظهر أنهارا في كولومبيا، ونهر الأمازون بالتفصيل، ومصبه الذين لم يكونا معروفين عند الأوروبيين ولا موجودين في خرائطهم.
(عام 1920 م) البروفيسور ليون فيرنيل الذي كان أستاذا في جامعة هارفرد، كتب كتابًا اسماه:
" أفريقيا واكتشاف أمريكا"، " Africa and the discovery of America"
يقول فيه: "إن كريستوفر كولومبس كان واعيا الوعي الكامل بالوجود الإسلامي في أمريكا"، وركز في براهينه على براهين زراعية ولغوية وثقافية، وقال بأن المانديك المسلمين بصفة خاصة انتشروا في وسط وشمال أمريكا، وتزاوجوا مع قبيلتين من قبائل الهنود الحمر، وهما:"إيروكوا" و"الكونكير" في شمال أمريكا، وانتشروا -كما ذكر- في البحر الكاريبي جنوب أمريكا، وشمالا حتى وصلوا إلى جهات كندا!
(عام 1960 م) جيم كوفين "كاتب فرنسي ذكر في كتابه: " Les Berberes d Amerique" " بربر أمريكا"، بأنه كانت تسكن في أمريكا قبيلة بربرية مسلمة اسمها "المامي"، " Almami"، وهي كلمة معروفة في أفريقيا الغربية ومعناها: "الإمام"، وهي تقال عن زعماء المسلمين، وذكر بأن أكثريتهم كانت في الهندوراس في أمريكا الوسطى، وذلك قبل كريستوفر كولومبس.
(عام 1978 م) كذلك في كتاب "التاريخ القديم لاحتلال المكسيك"، " Historia Antigua de la conquesta de Mexico " لمانويل إيروسكو إيبيرا، قال:"كانت أمريكا الوسطى والبرازيل بصفة خاصة، مستعمرات لشعوب سود جاؤوا من أفريقيا وانتشروا في أمريكا الوسطى والجنوبية والشمالية".
(عام 1775 م) اكتشف الراهب فرانسسكو كارسيس، عام 1775 م قبيلة من السود مختلطة مع الهنود الحمر في نيوميكسيكو في الولايات المتحدة الأمريكية "المكسيك الجديدة"، واكتشف تماثيل تظهر في الخريطة المرفقة تدل دلالة كاملة بأنها للسود. وبما أنه لا يوجد في أمريكا سود، فلا شك أنهم كانوا هم المسلمون الأفارقة الذين ذهبوا لنشر الإسلام في أمريكا.
(عام 1946 م)"مييراموس" في مقال في جريدة اسمها: "ديلي كلاريون"، " Daily Clarion" في "بيليز"، وهي إحدى الجمهوريات الصغيرة الموجودة في أمريكا الوسطى، بتاريخ عام 1946 م:"عندما اكتشف كريستوف كولومبس الهند الغربية، أي: البحر الكاريبي، عام 1493 م، وجد جنسا من البشر أبيض اللوق، خشن الشعر، اسمهم: "الكاريب"، كانوا مزارعين، وصيادين في البحر، وكانوا شعبا موحدا ومسالما، يكرهون التعدي والعنف، وكان دينهم: الإسلام، ولغتهم: العربية"!
(عام 2000 م) لويزا إيزابيل أل فيريس دو توليدو، " Luiya Isabel al ferris Do Tolido"، وهي دوقة مدينة سيدونسا" Cedonia "، اكتشفت بالصدفة وهي ترمم قصرها في مدينة باراميدا " San Luca De paramida"، وثائقًا إسلامية مكتوبة بالعربية ترجع إلى العهد الأندلسي، في هذه الوثائق وصف كامل لأمريكا والمسلمين فيها قبل كريستوفر كولومبس، خبأها أجدادها الذين كانوا حكام إسبانيا وكانوا جنرالات في الجيش الإسباني، وكانوا حكام الأندلس وأميرالات البحرية الإسبانية. وقد خافت أن يحرقها الإسبان بعد موتها، فقامت بوضعها في كتاب قبل أن تموت سنة 2008 م، وهذا الكتاب اسمه " Africa versus America". وفيه تفاصيل الوجود الإسلامي في أمريكا.
يجدر الإشارة أن الإكتشافات الأثرية الحديثة أثبتت وجود كتابات بالعربية منحوتة على جدران الكهوف في أمريكا، وفي عاصمة بورتوريكو القديمة سان خوان اكتشفت بعض الأحجار الصخرية مكتوبًا عليها لا غالب إلا اللَّه باللغة العربية! ووُجد على باب أحد المنازل القديمة بنفس المدينة فوق الباب وعلى جانبيه باللغة العربية على الفسيفساء الجميل نفس الكلام. . . . . لا غالب إلا اللَّه! وقد وُجدت نقوش في سقوف كنائس باهيا والسلفادور فيها عدة آيات من القرآن الكريم دون أن يشعر أحدٌ لأن أيًا منهم لا يجيد العربية، فهل كانت هذه الكنائس في الأصل مساجدًا للهنود الحمر؟!
أما بعد. . . . فكما رأينا يتضح أن المسلمين كانوا قد هاجروا إلى أمريكا قبل مئات السنين من دخول كولمبوس لها، ولكنهم لم يهاجروا ليسرقوا الذهب وليبيدوا السكان الأصليين، بل ذهب المسلمون إلى أمريكا ليحملوا رسالة السلام، رسالة العدل، رسالة
لا إله إلا اللَّه، محمدٌ رسول اللَّه، هذه الرسالة التي دخلت قلوب وأرواح السكان المحليين الذين سماهم الإسبان الصليبيون بـ "الهنود الحمر" كما سموا من قبل البطل عرج بـ "برباروسا صاحب اللحية الحمراء"، وعلى ما يبدو أن الصليبيين مغرمون باللون الأحمر، فهو لون الدّم الذي يسفكونه في كل العصور، فلقد كان في الأمريكتين 100 مليونًا من الهنود الحمر أكثرهم المسلمين (إن لم يكن جميعهم!) يعيشون في أمانٍ مع المسلمين العرب والبربر والأفارقة الذين عاشوا بسلامٍ معهم، وتزاوجوا وتخالطوا معهم، وصلوا جميعًا جنبًا إلى جنب، فأين ذهب هؤلاء؟ أين ذهب إخوتنا؟ الآن وبعد مرور أكثر من 500 عام على دخول الكاثوليكية إلى أمريكا لم يبقَ إلا هذه الأعداد الصادمة التي أهديها لكل قذرٍ قال إن الإسلام انتشر بحد السيف وأن الصليبيين هم أهل السلام: من بين 100 مليون هندي لم يبقَ إلا: 200 ألف في البرازيل، 140 ألف في حماية التونا (جماعة تشى جيفارا)، 150 ألف هندى في الولايات المتحدة، 500 ألف في كندا يعيشون في الاقامات الجبرية. 150 ألف في كولومبيا، 250 ألف في الاكوادور، 600 ألف في جواتيمالا، 800 ألف في المكسيك، وعشرة ملايين في البيرو، ومع الأخذ بالإعتبار الزيادة الطبيعية للسكان بعد 500 عام كان من المفترض أن يكون عدد إخواننا من الهنود الحمر الآن ممن يشهدون بشهادة التوحيد يعادل 1000000000 مسلم! أبادوهم أولئك السفلة لسحق الإسلام، فالذي لا يعرفه الكثير منا للأسف أن سنة (اكتشاف!) كولمبوس لأمريكا 492 م هي نفسها السنة التي احتل فيها الصليبيان (فرناندو الثاني من أراجون)، (وايزابيلا الأولى من قشتالة) مدينة غرناطة الإسلامية، آخر معقل للمسلمين في الأندلس، فأرادت هذه القذرة إيزابلا (والتي كانت تفتخر بأنها لم تغتسل في حياتها إلا يوم ولادتها سنة 1451 وليلة دخلتها سنة 1461) أن تسحق المسلمين في أمريكا كما ستسحقهم قريبًا في محاكم التفتيش. والآن وبعد أن اطلعنا على هذه المعلومات الخطيرة التي تعب في جمعها المئات من المسلمين وما كنت أنا إلا مجرد ناقلٍ لها، آن لهذه الأمة أن تتحرك على مستويين اثنين:
(المستوى الرسمي): مطالبة الدول الاستخرابية (خاصة إسبانيا والبرتغال) بالكشف عن أرشيفهم السري لمعرفة مصير إخواننا من الهنود الحمر وتعويض من بقي منهم.
(المستوى الشعبي): من كان يستطيع ترجمة هذه المعلومات الخطيرة (للإسبانية بالذات) فليترجمها ولينشرها في ربوع الأرض، ومن كان يستطيع نشرها في الانترنت فليفعل، فلو علم سكان أمريكا الجنوبية من بقايا الهنود الحمر بالذات تاريخ أجدادهم الإسلامي، لأقبلوا على هذا الدين أفواجًا، فمن كان يعرف أي هندي أحمر فلينقل له هذه المعلومات عن تاريخه الذي لا يعرفه، فلعل اللَّه يفتح قلبه للإسلام، كما أسلم من قبل أجداده على يد أجدادنا!
ولكن الصليبيين نسوا شيئًا مهمًا في المسلمين. . . . لقد نسوا أننا أمة لا تموت أبدًا فبعد أكثر من قرنٍ ونصف من القتل والتعذيب والتنصير الإجباري، خرج من بين الرماد والركام في أدغال الأمازون البرازيلية، ماردٌ إسلاميٌ عظيم، انتفض على أولئك القتلة الصليبيين، ليقيم دولة البرازيل الإسلامية!
يتبع. . . . . . .
" رئيس دولة البرازيل الإسلامية"(زومبي)
" كان هؤلاء المسلمون الأفارقة يشكلون عنصرًا نشيطا مبدعًا، ويمكن أن نقول إنهم من أنبل من دخل إلى البرازيل خلقًا"
(جلبير تو فريري)
قبل أن نستعرض قصة هذا القائد الإسلامي العظيم الذي أقام دولة الإسلام في البرازيل، أستأذن القارئ الكريم لكي نستعرض سويةً بعض المعلومات التاريخية التي ستعطينا صورة بسيطة عن خلفية الموضوع:
فبعد دخول الأوروبيين البيض النصارى إلى الأمريكتين الشمالية والجنوبية، قسّم الأوروبيون الأراضي الجديدة بيينهم على النحو التالي: أمريكا الشمالية بيد الإنجليز والفرنسيين، والجنوبية بين البرتغاليين والإسبان، والحقيقة أن الفرق بين تلك القوى الأوروبية أن فرنسا وإنجلترا قررا البقاء في أمريكا الشمالية والإستيطان فيها، فكان شعارهم مع السكان الأصليين هو:"الهندي الجيد هو الهندي الميت فقط"! أما الصليبيون الإسبان والبرتغاليون فلم يقرروا الاستيطان هناك، فكان شعارهم في أمريكا الجنوبية:"اقتل ثم انهب ثم انقل"! وربما يفسر لنا هذا الفرق الكبير بين اقتصاديات أمريكا وكندا من جهة وبين اقتصاديات دول أمريكا الجنوبية الفقيرة، أما أمريكا الشمالية فسنتعرض قصتها لاحقًا بالتفصيل في غير موضع، وأما الجنوبية فقد تقاسمتها البرتغال وإسبانيا على النحو التالي: تأخذ البرتغال أرض البرازيل الواسعة والغنية، وتأخذ إسبانيا بقية الدول، وفعلًا احتلت البرتغال البرازيل بقوة النار، وقامت بقتل السكان الأصليين هناك لكي تنهب خيراتهم، وكانت عملية النهب الواسعة لنقل أهرامات الذهب إلى البرتغال تحتاج إلى مزيد من الأيدي العاملة، فقاموا بالهجوم على سواحل الدول الإسلامية في الغرب الأفريقي، لكي يدخلوا على القرى الآمنة في منتصف الليل، ليأسروا جميع سكان القرية بشباكهم كالحيوانات، ومن ثم ينقولنهم في سجون في قيعان السفن إلى البرازيل، حتى وصلت أفواج العبيد المسلمين إلى البرازيل لأول مرة عام 1538 م، ولم تمضِ 40 سنة حتى نقل إليها 14 ألف مسلم مستضعف والسكان لا يزيدون على 57 ألفًا، وفي السنوات التالية أخذ
البرتغاليون يزيدون من أعدادهم إذ جلبوا من أنغولا وحدها 642 ألف مسلم زنجي، وجاءوا بجلّ هؤلاء الأفارقة المسلمين من غرب أفريقيا، وتؤكد الوثائق التاريخية المحفوظة في المتاحف البرازيلية، أن أكثرية المنحدرين من الأفارقة الذين جاءوا "كعبيد" إلى البرازيل هم من جذور إسلامية، وأنهم كانوا يقرأون القرآن باللغة العربية، فتعرض هؤلاء المسلمون لحملات قاسية من التنصير، قبل أن يحاول بعضهم الثورة عليهم، ولكن البرتغاليين قمعوا هذه الثورات وأرغموا من بقي من المسلمين على التنصر بقوة النار والحديد.
وعندما ظن الصليبيون أنهم أطفأوا نار الإسلام في البرازيل إلى الأبد، خرج من بين رماد تلك النار بطل إسلامي عظيم اسمه (زومبي)، فأشعلها نارًا للانتفاضة الشعبية الإسلامية في جميع أرجاء البرازيل، فقام هذا القائد الإسلامي البطل ومن معه من شيوخ الإسلام بالتوجه إلى أفراد الشعب المضطهد والمستعبد، يعظونهم ويرشدونهم ويفقهونهم في الدين، وينزلون معهم الأكواخ ويعلمونهم القرآن ومبادئ الشريعة الإسلامية السمحاء، وبعد أن ازداد عددهم، وقويت عزيمتهم، أعلن الزعيم زومبي قيام "دولة البرازيل الإسلامية" عام 1643 م، وأعلن في البند الأول في دستورها أن الحرية هي أساس الحكم، فأعلنت البرتغال الحرب على تلك الدولة الإسلامية الناشئة، فانتصرت قوات القائد الإسلامي زومبي عليهم المرة تلو الأخرى، فتوسعت الدولة الإسلامية بشكل كبير، فاحتل البطل زومبي أكثر من عشرين موقعًا لولاية "باهاية" البرازيلية. واستمرت هذه الدولة الإسلامية البرازيلية لأكثر من 50 عامًا قدَّم فيها المسلمون الأحرار أروع صور الإباء والصمود، فقد أظهر السود المسلمون فنونًا من التضحيات الجليلة جعلتهم يصمدون أمام البرتغاليين، عندها قرر إمبراطور البرتغال أن يتدخل شخصيًا لينهِ هذا الحلم الإسلامي الوليد قبل أن ينتشر أكثر فأكثر، فأرسلت البحرية الإمبراطورية آخر ما توصلت إليه آلة القتل البرتغالية ليحاصروا الثوار المسلمين عام 1695 م، قبل أن يستشهدوا واحدًا تلو الآخر!
وإذا كان زومبي قد وقف في وجه الصليبيين في أقصى غرب الكرة الأرضية في البرازيل، فإن هناك زومبي آخر وقف في وجه أولئك المجرمين في أقصى شرق الكرة الأرضية في الفلبين، فلم يدمر سفن الصليبيين فحسب، بل قتل بيديه الاثنتين القائد الأعلى للبحرية الإسبانية الصليبيية: القسيس البرتغالي الذي سمّا الغرب مضيق ماجلان على اسمه!
يتبع. . . . .
" سلطان دولة الفلبين الإسلامية"(لابو لابو)
" بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"
من سلطان المسلمين في الفلبين لابو لابو إلى القس البرتغالي ماجلان، وصلني تحذيرك الذي تطلب فيه منا باسم المسيح أن نسلمك أرضنا لزعمك بأن العرق الأبيض أحق وأولى بأرضنا منا، أما أنا فأقول لك باسم اللَّه. . . إن الدين للَّه، وإن الإله الذي نعبده نحن المسلمون هو إله جميع البشر على اختلاف أعراقهم وألوانهم فتقدَّم إلينا يا كلب الصليب!
قرأت كتابًا تاريخيًا وأنا في مرحلة الصِّبا يتحدث عن المستكشف البرتغالي البطل (فرديناندو ماجلان)، الذي كان -على حد زعم الكتاب- أول من اكتشف أن الأرض كروية، فاستطاع أن يعبر بسفنه مضيقًا يقع بين أمريكا الجنوبية وجزيرة أرض النار (سمُّي بعدها باسمه) ليصل بعدها للمحيط الهادي، قبل أن يقتله فلبيني من آكلي لحوم البشر في جزر الفلبين، لتنتهي بذلك حياة ذلك الرحالة البرتغالي العظيم. أذكر حينها جيدًا أنني تأثرت بقصة هذا المستكشف البرتغالي، أما الآن وبعد هذه السنين. . . . أدركت جيدًا كم كنت أحمقًا في حينها!
فالذي لم تذكره كتب التاريخ العربية والغربية على حد سواء، أن ذلك المستكشف البرتغالي الشجاع لم يكن سوى قسيسٍ صليبيٍ لص، هرب من كنيسته في البرتغال بعد أن اكتشف الناس هناك سرقاته الهائلة من فقراء النصارى، ليتوجه إلى الملك الإسباني الذي كان عدوًا للبرتغال، ليصبح ماجلان جاسوسًا على بلده البرتغال، قبل أن يساهم في سفك دماء المسلمين في محاكم التفتيش الإسبانية، ومن ثم يتوجه للمغرب لقتل الفارين من المسلمين المدنيين، وفي سنة 1519 م، قام هذا القسيس اللص بعقد صفقة خبيثة مع ملك إسبانيا يقوم ماجلان بموجبها بالهجوم على ديار المسلمين الآمنة عن طريق الشرق، ليعمل على تنصير المسلمين بقوة النار في الفلبين، وفعلًا وصل هذا المنصر المسيحي إلى الفلبين سنة 1521 م، ليسرق أموال الأهالي الآمنين فيها، وليغتصب جنود هذا القسيس المسيحي نساء الفلبين، عندها قاومهم الأهالي بأسلحتهم البدائية، فأضرم الإسبان النار في أكواخ السكان، ليفرَّ الفيليبينيون -المسلمون منهم وغير المسلمين- إلى
جزيرة "ماكتان" التي يحكمها حاكمٌ مسلم اسمه (لابو لابو) رفض التسليم لماجلان على الرغم من أن ملوك الجزر الفلبينية الأخرى استسلموا لهذا القس الصليبي، فأدرك ماجلان أنه أمام نوعية أخرى من البشر، هذه النوعية هي نوعية المسلمين الذين خبرهم جيدًا في الأندلس والمغرب، فبعث له برسالة يتوعده فيها ويقول: "إنني باسم المسيح أطلب إليك التسليم لأننا العرق الأبيض أصحاب الحضارة أولى منكم بهذه البلاد، فنظر هذا القائد الإسلامي البطل إلى هذه الرسالة التي تطفح بالعنصرية القذرة، وقارنها برسالة السلام التي جاء بها المسلمون قبل ذلك على يد التجار العرب والدعاة القادمين من الصين وسومطرة، قبل أن يسلم أهل الفلبين طواعية عام 1380 م وليس بقوة النار كما أراد لهم الصليبيون، فأعلن لابو لابو الثورة الكبرى على ماجلان في الجزر الفليبينية!
وفعلًا، قام هذا القائد الإسلامي البطل بتشكيل جيشٍ قوامه من المدنيين المسلحين بالأسلحة البدائية، ليحارب به أقوى جيشٍ في العالم حينها، جيش الإمبراطورية الإسبانية، وما أن التقى الجيشان في جزيرة "ماكنتان" الفليبينية، حتى علت صيحات اللَّه أكبر من أفواه المسلمين الفليبينيين هناك، قبل أن يتقدم القائد لابو لابو بنفسه في ميدان المعركة، ليقتل كل الحرس الإسباني المحيطين بالصليبي الجبان ماجلان، ليقوم برفع سيفه في علياء السماء، فيطيح برأس ماجلان من عنقه، لينتصر المسلمون على الإسبان الغزاة، وليهرب من استطاع منهم الهرب بأرواحهم على سفينة واحدة بقيت لهم ليبلغوا الملك الإسباني بخيبتهم التي حلت عليهم على يدي القائد الإسلامي الأسطورة لابو لابو.
إلا أن الإسبان عادوا مرة أخرى بجيوشهم الجرارة إلى شعب الفليبين المسلم لينصِّروهم بقوة النار، وفعلًا تم لهم ذلك بعد ملايين الأرواح التي أزهقوها، ليحوِّلوا عاصمتها من "أمان اللَّه" إلى "مانيلا"، فتحولت الفليبين بذلك إلى الدولة الكاثوليكية الوحيدة في آسيا، ولكنها تحولت أيضًا إلى عاصمة الدعارة العالمية، ولعل الفليبينيين وجدوا ما يدفعهم إلى ذلك من القصص الجنسية الفاضحة الموجودة في الكتاب المقدس!
وبعد أن استعرضنا جرائم البرتغاليين في البرازيل وجرائم الإسبان في الفليبين، جاء الوقت لكي نعطي إنجلترا حقها في هذا الكتاب! لنذكر الجرائم التي ارتكبها الإنجليز في أمريكا، من خلال أبشع حكايةٍ عرفتها الإنسانية، حكاية العبودية، يرويها لنا عظيم جديد من عظماء أمة الإسلام، بقصةٍ كتب هو حروفها بمدادٍ أحمر من دمه، فحُفظت صفحاتها في متاحف الولايات المتحدة الأمريكية!
يتبع. . . . . .
" أمير العبيد"(عبد الرحمن إبراهيم بن سوري)
الشيء الذي لا يعرفه الكثيرون منّا -أو الذي لا يريد لنا الكثيرون أن نعرفه- أن حكاية العبيد في أمريكا ما هي إلا فصلٌ من فصول الصراع الإسلامي الصليبي الطويل الأمد، فجلُّ العبيد الذين استقدمتهم إنجلترا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال ما هم إلا إخوان لنا على ملة الإسلام، قامت تلك الدول باستعبادهم من دول الغرب الأفريقي التي دخلها الإسلام طواعيةً بفضل الدعاة من العرب والبربر، ولعل الشيخ البطل أبو بكر اللنتوني كان مثالًا حيًا من هؤلاء المسلمين، وشتان ما بين الإسلام وبين أولئك المجرمين، فالإسلام العظيم دخل قلوب الأفارقة بعد أن رأوا ما فيه من العدل والسواسية بين البشر، أما أولئك القتلة فكانوا يغيرون على القرى الآمنة للأفارقة في عتمة الليل، ليحرقوا أكواخهم بالنيران، ومن ثم يلقون شباكهم على المستضعفين من السود الذين هربوا من ألسنة اللهب، ليجدوا أنفسهم في شباك البيض الأوروبيين، لينقلهم هؤلاء القتلة في سجونٍ في قيعان السفن، ليموت أكثر من نصفهم في رحلة العذاب عبر الأطلسي، قبل أن يتخلص البيض من جثثهم برميها في أعماق بحر الظلمات، لتكون طعامًا لوحوش البحر، بعد أن كانت ضحية لوحوش البشر!
أما من بقي حيًا من أولئك الأفارقة المساكين، فقد كانت حياتهم أصعب من الموت نفسه، فالميت يموت ميتة واحدة، أم هؤلاء فكانوا يموتون في اليوم ألف مرة، فيوم العبد عند أولئك سيده الأبيض كان يبدأ من شروق الشمس، وينتهي مع غروبها، يتخلل ذلك العمل الشاق. . . ثم العمل الشاق. . . ثم العمل الشاق! فيظل العبد الأفريقي المسلم يعمل عند أولئك السفلة حتى يموت من العذاب أو قلة الغذاء. إنسانٌ واحدٌ فقط استطاع النجاة ليروي للإنسانية قصة العبودية بكتاباته التي كان يكتبها بالعربية التي تعلمها في صغره عندما كان يدرس مسجد مدينة "تمبو" في دولة "غينيا" الإفريقية، هذا البطل الإسلامي الذي لا يعرفه أحد منا، قام بتسجيل حكايات العبيد المؤلمة في أوراقٍ كان
يخبؤها عن سيده الأبيض النصراني، لتكون هذه الكتابات المرجع الرئيسي الأول لقصة العبودية التي أقدم عليها النصارى الأوروبيون بحق الأفارقة المسلمين، وحسبك أن تعلم أن جميع المباني المهة في أوروبا وأمريكا ما هي إلا أبنية اختلطت مادة بنائها بعرق العبيد السود ودمائهم، ولك أن تعلم أن "البنك المركزي البريطاني" أقدم بناءٍ في وسط العاصمة الإنجليزية "لندن"، والذي لا يزال في موقعه إلى الآن، هو أول بناءٍ على وجه الأرض اختلطت أحجاره بدماء الأفارقة السود المسلمين الذين استقدمتهم إنجلترا من سواحل السنغال المسلمة، و"سكة الحديد الأمريكية" الأكبر في العالم، والتي تربط المحيط الأطلسي بالمحيط الهادي، بُنيت على جثث عشرات الآلاف من الأفارقة المسلمين الذين لا ذنب لهم إلا أنهم كانوا يمتلكون لون بشرة يختلف عن لون بشرة أولئك المرضى العنصريين، ولا ذنب لهم إلا أنهم اختاروا أن يعبدوا اللَّه على عبيدة الصليب!
وبطلنا العظيم عبد الرحمن إبراهيم بن سوري لم يُخلق عبدًا مسلوب الإرادة، بل وُلد هذا البطل المسلم أميرًا على مملكة غينيا الإسلامية، قبل أن يستيقظ في ليلة من الليالي الآمنة لصلاة الفجر، ليجد أن الإنجليز أحرقوا مدينته بالكامل، ليتفاجأ هذا الأمير الأفريقي النبيل بأنه قد أصبح عبدًا بين ليلة وضحاها، قبل أن يقتاده تجار البشر الإنجليز بسفنهم عام 1788 م إلى ولاية "أوهايو" الأمريكية، ليعمل عبدًا بالسخرة عند مزارع تبغ أبيض نصراني يُدعى (توماس فوستر)، ليعمل عنده عبدًا ليس لسنة أو سنتين بل لـ 40 سنة ماتت فيها زهرة شبابه، ولم يذق فيها طعمًا الراحة، وعلى الرغم من حياة العبودية القاسية التي عاشها هذا البطل الإسلامي العظيم، فإنه كعادة عظماء أمة الإسلام لم يرضخ للواقع، بل اتجه إلى العبيد من أبناء جلدته ليعلمهم قراءة القرآن بالعربية، وليصبح إمامًا للمسلمين في ولاية اوهايو الأمريكية، حتى ذاع صيته بين صفوف العبيد في الولايات المتحدة الأمريكية بأسرها، قبل أن يطلب الرئيس الأمريكي (جون كوينسي آدمز) مقابلته شخصيًا سنة 1828 م، ليستمع منه إلى قصته العجيبة التي ذاعت في أرجاء الولايات المتحدة، فيصدر أمرًا رئاسيًا هو الأول من نوعه في تاريخ أمريكا بتحرير عبد الرحمن إبراهيم بن سوري. فهل عاد هذا البطل إلى بلاده ليتسلم عرش المُلك بعد موت
أبيه؟! لقد آثر هذا البطل الإسلامي الشهم البقاء بين إخوانه السود الأفارقة، ليتنقل من ولايةٍ أمريكية إلى أخرى يعلم الأفارقة دينهم الذي أنسوه بالقوة! وليقيم لهم المحاضرات التعليمية عن معنى الحرية، ومعنى السواسية في الإسلام، وليعيد هذا البطل الإسلامي لوحده إحياء دين الإسلام من جديد بين صفوف الأفارقة الذين أجبروا من قبل أسيادهم على التنصر، وعندما أحس هذا البطل الشهم بدنو أجله، ركب سفينة قاصدًا وطنه غينيا، فكان أول شيءٌ يصنعه عند نزوله من السفينة هو صلاته للَّه صلاة الشكر، قبل أن يبحث عن أمه، ليرتمي في أحضانها كالطفل وهو شيخُ ناهز السابعة والستين من عمره، لتنزل دموعه على على وجنتيه كشلالات متدفقة من الذكريات، ولتختلط تلك الدموع بدموع أمه التي فقدت بصرها حزنًا عليه، وما هي إلا أيام حتى توفي البطل الحر عبد الرحمن إبراهيم بن سوري وهو يتنقل في الحدائق الخضراء التي كان يلعب بها صغيرًا مع الأطفال قبل أن يأتيه أولئك السفلة المجرمون ليدمروا حياته.
وللأسف. . . استمرت هذه الأوضاع المأساوية للعبيد في أمريكا لعشرات السنوات، حتى خرج للعالم عظيم آخر من عظماء أمة الإسلام، ليعلن ثورة تحرير العبيد، بعد مئات السنين من الظلم والاستعباد!
يتبع. . . . . .
X
(مالكوم إكس)
" عزيزتي باتي. . . . . ربَّما لن تصدقي ما سأكتبه لك في هذه الرسالة، فأنا الآن في مكة أصلي بجانب رجل أبيض خلف رجل أسود، وآكل من نفس الطبق الذي يأكل منه رجل بعينين زرقاوين، وأشرب من نفس الكأس الذي شرب منه شيخ عربيٌ ببشرة فاتحة، لقد أدركت الآن وأنا في رحاب هذه المدينة المقدسة بأن جميع مشاكل أمريكا العنصرية لا يمكن لها أن تحل إلا بتعاليم الإسلام العظيم"
الحاج: مالك الشباز
Malcolm X
كم منا يعرف قصة أخينا المسلم مالكوم إكس؟ بل كم منا سمع باسمه أصلًا؟ واللَّه إن العيب كل العيب يقع علينا عندما نكرس كل أوقاتنا في قراءة الصحف الصفراء لكي نتتبع آخر أخبار طلاق الفنانة الفلانية وآخر مستجدات انتقال اللاعب الفلاني إلى النادي الفلاني وآخر أحداث قضية مقتل المغنية الفلانية، في الوقت الذي لا نستقطع خمس دقائق فقط من حياتنا الممتدة لقراءة شيء عن أخٍ لنا دفع حياته كلها في سبيل الإسلام، وفي الوقت الذي يشتكي فيه شبابنا من الملل وأوقات الفراغ التي تقتلهم، نراهم لا يحفظون شيئًا من كتاب اللَّه، أو حديثًا نبويًا صحيحًا، فضلًا عن قراءتهم لتاريخ عظماء أمتهم!
ومالكوم إكس أمريكي أسود تربى على يد أبيه الذي كان يعمل قِسًا في إحدى الكنائس، ولكنه تفاجأ في صغرة بمقتل أبيه من قبل رجالٍ بيض يعتنقون نفس الدين الذي يعتنقه أبوه! فلم يقتلوه فحسب، بل فجَّروا رأسه تحت تحت عجلات قطار سريع ليستمتعوا بمنظر الدماء وهي تتطاير منه، فتعجب هذا الفتى من سر الحقد الذي تمتلؤ به نفوس أولئك العنصريين على أبناء جلدته على الرغم من كونهم من نفس الدين. وحتى عندما دخل مالكوم المدرسة ليكون إنسانًا محترمًا لاحظ فيها التمييز العنصري المقيت، فالإنسان الأسود لا يساوي حتى حيوان الإنسان الأبيض! لذلك اجتهد مالكوم في دراسته ليثبت للأطفال البيض أنه لا يقل عنهم في
شيء، فأصبح أكثر التلاميذ المتميزين في المدرسة، فكافأته مدرسته بأن فصلته من التعليم كله! ليجد نفسه متشردًا في شوراع نيويورك، وليتنقل بعدها بين الأعمال المختلفة المهينة التي تليق بالزنوج، من نادل في مطعم، فعامل في قطار، إلى ماسح أحذية في المراقص، حتى أصبح راقصًا مشهورًا يشار إليه بالبنان، وعندها استهوته حياة الطيش والضياع فبدأ يشرب الخمر وتدخين السجائر، وكان يجد في لعبة القمار المصدر الرئيسي لتوفير أمواله، إلى أن وصل به الأمر لتعاطي المخدرات بل والاتجار فيها، حتى وقع هو ورفاقه في قبضة الشرطة، فأصدروا بحقه حكمًا مبالغًا فيه بالسجن لمدة عشر سنوات مقارنة بخمسٍ لرفاقه البيض، ولكن اللَّه أراد له الخير بذلك، فقد اعتنق الإسلام في السجن، وأصبح داعية في سجون نيويورك، قبل أن تطلق سراحه السلطات بعد القلق الذي خلقه بإسلام مئات المساجين السود على يديه، وعند خروجه من السجن قام مالكوم بتغيير اسمه من (مالكوم ليتيل) إلى (مالكوم إكس)، وإكس (X) تقابل سين (س) بالعربية، وهي القيمة المجهولة في الرياضيات، لأنه كان يؤمن أن اسم عائلته الحقيقي ليس ليتيل، بل هو اسم السيد الأبيض الذي كان يعمل عنده أجداده الأفارقة، فلقد كان كل سيد أبيض يسمي آلاف العبيد السود باسمه وكأنهم حيواناتٍ يمتلكها! ثم أصبح مالكوم إكس بعد ذلك المتحدث الرسمي باسم منظمة "أمة الإسلام" التي كانت تواجه العنصرية البيضاء بنفس العنصرية السوداء، ولكن مفهوم مالكوم إكس للإنسانية تغير عندما ذهب في رحلة إلى الحج، ليقوم علماء السعودية جزاهم اللَّه كل خير بتعليمه الإسلام الحقيقي ليرجع مالكوم إكس إلى أمريكا، ليعلن للعالم أن الحل الوحيد للأمريكان بيضًا وسودًا يكمن في التمسك بتعاليم الإسلام، وما هي إلا أيام على إعلانه هذا، حتى أغتيل هذا البطل الإسلامي أمام أعين أطفاله في ظروفٍ غامضة إلى يومنا هذا!
والحقيقة أنه ليس كل البيض الأمريكيين مقتنعين بالعنصرية التي كانت -ولا زالت- سائدة في أمريكا! فلقد كان هناك رئيسٌ أمريكي عملاق غير من مصير عشرات الملايين من العبيد الأفارقة في أمريكا، ولكن ما هو السر الخطير الذي دفع ذلك الرئيس بالتحديد دون غيره إلى تحرير العبيد؟!! ولماذا كان هذا الرئيس الأمريكي أول رئيس أمريكي في تاريخ الولايات المتحدة يتم اغتياله في ظروفٍ غامضة؟!!
يتبع. . . . . .
" الرئيس الأمريكي المسلم"(أبراهام لينكولن)
" أنا رئيس الولايات المتحدة الأمريكية: أبراهام لينكولن. . . أعلن بشكلٍ رسمي انتهاء مرحلة العبودية منذ صباح هذا اليوم"
January 1، 1863
الحقيقة أنني ترددت كثيرًا في ذكر اسم هذا العظيم الإسلامي في هذا الكتاب لعدة أسباب: أولها أن أحدًا من الكتاب المعاصرين أو حتى السابقين لم يذكر شيئًا صريحًا بخصوص إسلام هذا الرئيس الأمريكي، وثانيها أنني لست إلا مجرد كاتبٍ مبتدئ ليس لي من الرصيد الأدبي ما يساعد على إثبات مصداقية ما أدعو إليه من الناحية الأكاديمية، وثالثها أنني لا أتحدث عن رئيسٍ مغمورٍ من رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية، بل أتحدث عن رجلٍ يعتبره الأمريكيون أعظم رئيسٍ للولايات المتحدة الأمريكية في تاريخها بعد المؤسس (جورج واشنطن)، ورابعها يتمثل في تلك العلاقة الحساسة التي تربط المسلمين بالولايات المتحدة الأمريكية والتي تختلط فيها الحقائق التاريخية بنظرية المؤامرة في كثير من الأحيان! لهذه الأسباب وغيرها رأيت أن من الحكمة أن أنأى بنفسي عن هذا الموضوع الشائك ولو مؤقتًا، وقد أعرضت بالفعل عن ذكر اسم هذا الرئيس الأمريكي في كتابي هذا عند أول عند مرة توصلت فيها لمعلومات تاريخية عن إسلامه في معرض بحوثي في موضوع "الآريسية"، إلا أنني وعن طريق الصدفة البحتة توصلت قبل عدة أيامٍ فقط لمعلوماتٍ تاريخية موثقة تؤكد إلى حدٍ كبيرٍ إسلام هذا الرئيس الأمريكي، مع اعترافي الواضح بأن هذه المعلومات لا تثبت تمام الإثبات قضية إسلام إبراهام لنكولن! إلا أنني رأيت فيها ما يؤكد ما توصلت إليه سابقًا من معلومات، وعندما تعمقت في سيرة هذا الرئيس الأمريكي، زاد يقيني بأن سيرة هذا الرئيس الأمريكي لا تصلح إلا أن تكون سيرة لرجلٍ مسلم!
والآن لنستعرض سوية هذه المعلومات التاريخية الخطيرة:
(أولًا) انتماؤه لأصول الميلونجونس: وهي عائلات أندلسية من مسلمي البرتغال هاجرت إلى أمريكا هربًا بدينها من محاكم التفتيش، وقد كتب أمريكي اسمه "براند كينيدي"" Brand Kennedy" كتابًا أسماه " The Malingers" بتمويل من جامعة فرجينيا الغربية عن أصول الميلونجونس، تبين فيه أن أصولهم إسلامية من أندلسيي البرتغال، وذكر الكاتب فيه أنه بقيت فيهم عادات إسلامية إلى الآن، ومن أهم الشخصيات التي تنتمي إلى هذه الطبقة من الناس:"أبراهام لينكولن " Abraham Lincoln"، وقد ذكر هذا الكاتب الأمريكي أن تحرير أبراهام لينكولن للعبيد كان انتقاما للأندلس من النصارى بطريقة غير مباشرة، إلا أنه ينبغي على من باب الأمانة العلمية أن أذكر أن هذا الكاتب لم يذكر من قريب أو بعيد شيئًا عن إسلام لنكولن من عدمه!
(ثانيًا) الغموض الذي يحيط بخلفيته الدينية: إبراهام لنكولن هو أكثر رئيسٍ أمريكي تحاك حول هويته الدينية -بالذات- كثير من القصص والألغاز!
(ثالثًا) تحريره للعبيد: على الرغم من عرقه الأبيض كانت قضية تحرير العبيد السود تمثل كل شغله الشاغل حتى قبل توليه الحكم، ولا ننسى أن العبيد الأفارقة كانوا بالجملة من المسلمين، وربما كان هذا هو سر إخفاء أبراهام لنكون لإسلامه، فمصير ملايين المسلمين الأفارقة كان معلقًا بين يديه، ولعله لنكولن قرأ في كتب التاريخ كيف أخفى النجاشي ملك الحبشة إسلامه ليحمي عشرات المسلمين المهاجرين!
(رابعًا) شكله!: قد يظنه البعض دليلًا تافهًا، إلا أنني أراه من الأهمية بمكان، ولطالما استخدمت العرب علم الفراسة لتحديد هوية الرجل! لذلك بحثت في جميع صور رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية ابتداءً من جورج واشنطن وحتى جورج بوش الابن، فلم أرَ أحدًا تظهر عليه ملامحٌ إسلامية بدماءٍ عربية مثل أبراهام لِنكولن! والعجيب أنني كنت أشك قديما بأن بيهودية هذا الرئيس بسبب شكله المميز ودمائه الشرقية الواضحة! أضف إلى ذلك أن أبراهام كان أول رئيسٍ للولايات المتحدة في التاريح يطلق لحيته، ويجز شاربه!
(خامسًا) اغتياله: أبراهام لنكولن كان أول رئيسٍ أمريكي يتم اغتياله بطريقة غامضة
للغاية! ولم يُقتل بها تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية رئيس إلا هو ورئيسٌ آخر اسمه (جون إف كِندي). الغريب أن كِندي اغتيل بطريقة غامضة أيضًا، والأغرب أنه كان هو الآخر بخلفية دينية تختلف عن باقي رؤساء أمريكا عبر التاريخ، فلقد كان كندي كاثوليكيًا، على عكس باقي الرؤساء الذين ينتمون للطائفة البروتستانتية الإنجيلية!
لهذه الأسباب الخمسة: رأيت أن الرئيس الأمريكي أبراهام لنكولن يستحق أن يضاف لقائمة العظماء المائة، نظرًا لإنقاذه لملايين الأرواح من العبيد المسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية، أما من بقي في قلبه ذرة شك في إسلام أبراهام لنكولن بعد كل هذه "الدلائل" معللًا ذلك بأن لنكولن لم يُظهر إسلامه على الملأ، فعليه أن يتحول إلى الصفحة القادمة ليرى بنفسه الأهوال الفظيعة التي لحقت بمسلمي الأندلس في محاكم التفتيش عندما كشف أمرهم، وليضع نفسه في مكانه ثم يسأل نفسه إن كان سيعلن إسلامه أو يخفيه، فإذا كنت من أصحاب القلوب الضعيفة فتحول مباشرة إلى حكاية العظيم الإِسلامي الذي يلي بطلنا القادم، أما إذا كنت متعودًا على قصص الرعب والجرائم الدموية المخيفة. . . . . . فتابع معي!
يتبع. . . . .
" قائد انتفاضة الموريسكيين" محمد بن أمية (سليل عائلة الأبطال)
" ثم انتقلنا إلى غرف أخرى، فرأينا فيها ما تقشعر لهوله الأبدان، عثرنا على آلات رهيبة للتعذيب، منها آلات لتكسير العظام، وسحق الجسم البشري، كانوا يبدأون بسحق عظام الأرجل، ثم عظام الصدر والرأس واليدين تدريجيا، حتى يُهشم الجسم كله، ويخرج من الجانب الآخر كتلة من العظام المسحوقة، والدماء الممزوجة باللحم المفروم"
(من مذكرات الكولونيل الفرنسي ليموتسكي، الذي كان أحد الذين أَكتشفوا محاكم التفتيش)
كما قرأت أكثر في تاريخ أمة الإِسلام، وجدت صفحات مشرقة لأبطالٍ عظام ينتمون لعائلة بني أمية بالتحديد، ففهمت أكثر سبب الهجوم الشرس عليهم من المستشرقين الصليبيين وعملائهم من الشيعة الروافض، فواللَّه الذي لا إله إلا هو، ما رأيت عائلة ضحت في سبيل الإِسلام والمسلمين عبر جميع مراحل التاريخ الإِسلامي من الصين إلى الأندلس مثل عائلة بني أمية البطلة، وبذلك أصبح تشويه تاريخ هذه العائلة يساوي بالضرورة تشويه تاريخ الإِسلام بمجمله، فالحذر الحذر في الطعن بهذه العائلة الإِسلامية البطلة من قريبٍ أو بعيدٍ، فلقد سمعت بأذني شيوخًا محسوبين على أهل السنة والجماعة يهاجمون بني أمية، من دون أن يعلم هؤلاء أنهم بذلك يطعنون بتاريخ أمتهم بقصدٍ أو بغير قصدٍ!
وبطلنا الآن بطلٌ تخرج من مدرسة بني أمية بن حرب، وسرّ عظمة هذا البطل يكمن في أنه قد ظهر وقتٍ من أصعب أوقات المسلمين في التاريخ على الإطلاق، فقد ظهر هذا القائد الإِسلامي العظيم في الأندلس، ولكنه لم يظهر في زمن الخلافة الأموية القوية هناك، أو زمن صقر قريش عبد الرحمن الداخل الأموي رحمه الله، أو حتى في زمن ملوك
الطوائف على علاته، بل ظهر هذا البطل بعد سقوط الأندلس بعشرات السنوات، وبالتحديد في زمن محاكم التفتيش!. . . . . . وما أدراك ما محاكم التفتيش؟!!
وقبل أن نخوض في قصة البطل الأموي محمَّد بن أمية، أرى أنه من الفائدة بمكان أن نعطي لمحة بسيطة عن محاكم التفتيش الكاثوليكية لسببين اثنين، أولهما: هو تقدير لمدى عظمة هذا البطل الإِسلامي والذي يكمن سر عظمته بظهوره في وقت صعب للغاية مثل هذا الوقت بالتحديد. والثاني وهو الأهم: هو وضع أكبر قدر من المعلومات الموثقة من مؤرخي الغرب أنفسهم لشباب هذه الأمة لكي يتسلحوا بها ليخرسوا لسان كل قذر يحاول وصم الإِسلام بالإرهاب، فنحن لا ننكر أن هناك من شباب المسلمين المغفل من هو إرهابي، ولكننا لم نجد في تاريخ المسلمين على الإطلاق مباركة من علماء هذه الأمة لأي مجرم يعمل على قتل الآمنين، ولكننا في حالة محاكم التفتيش لا نرى مباركة من القساوسة النصارى فحسب، بل نرى اشتراكا لهم بالتعذيب بمباركةٍ من بابا الفاتيكان نفسه، ولقد آن الأوان للكنيسة الكاثوليكية في الفاتيكان أن تقدم الاعتذار لجرائم المسيحيين في حق المسلمين الأندلسيين، كما سبق وأن قدمت اعتذارًا رسميًّا على جرائم المسيحيين ضد اليهود! أما شباب هذه الأمة، فعليهم أن يتسلحوا بالعلم، لا بالعنف، فأنت عندما تستخدم العنف لإسكات صوت قذرٍ واحدٍ من أولئك الذين يطعنون بالإِسلام ونبيه، فسيخرج لك مكانه ألف صوت يشتمون رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أما إذا رددت عليه بالعلم والوثائق التاريخية، فإنك ستخرسه إلى الأبد، وما يدريك لعله يتحول إلى مسلمٍ بعد ذلك، وقد كان كثيرٌ من الصحابة في جاهليتهم لا يسبون النبي وحسب، بل يتمنون قتله بأيديهم، فالعلم سلاح المؤمن، وهو سلاح الأمة الأقوى الذي حكمت به مشارق الأرض ومغاربها، أما الآن فلنستعرض سويةً قصة محاكم التفتيش ولنبدأها من ساعة الصفر، وبالتحديد من يوم 2 يناير من عام 1492 م يوم سقوط الأندلس:
1492:- 2 يناير/ كانون الثاني: السلطان أبو عبد اللَّه الصغير يسلم مفاتيح غرناطة واضعًا بذلك نهاية للحكم الإِسلامي في الأندلس الذي دام ثمانية قرون، تضمنت شروط التسليم تعهد السلطات الإسبانية باحترام عقائد وعادات المسلمين الأوروبيين في الأندلس والذين يقدرون بالملايين. ولكن ذلك السلطان المسكين نسي أن أولئك القوم
لا يلتزمون بعهودهم أبدًا، ولعله اطمأن على التزام المسيحيين بتلك الإتفاقية بعد أن طلب من بابا الفاتيكان نفسه أن يوقع على تلك الإتفاقية، وطبعًا وقع البابا المجرم بالعشرة على تلك الإتفاقية، التي ما لبث أن نكث بها خروج السلطان مباشرة، فياله من دينٍ هذا الذي يحيى الغدر والخيانة! وما هي إلا أيام حتى طرد المسيحيون اليهودَ الذين كانوا يعيشون في الأندلس بأمان وسلام في ظل حكم المسلمين، وطبعًا لم يجد اليهود إلا الخلافة الإِسلامية العثمانية لاستقبالهم على أرضها ليعيشوا في سلام بعد أن طردهم المسيحيون، المضحك في الموضوع أن هؤلاء اليهود بالتحديد الذين أنقذهم المسلمون العثمانيون هم الذين سيعملون بعد ذلك على تدمير الخلافة الإِسلامية العثمانية بعد ذلك بأربعة قرون ونيف! (وسنتطرق إلى ذلك بالتفصيل في نهاية هذا الكتاب)، المهم أن الملكة القذرة إيزابيلا (التي لم تكن تغتسل) وزوجها الملك فرديناند أصدروا أمرًا ملكيًا بتنصير كل الموريسكيين، والموريسكيون: هم المسلمون الإسبان الذين بقوا في بلادهم ظنًا منهم أنهم سيلاقون المعاملة الحسنة من إخوتهم الإسبان المسيحيين المشتركين معهم في القومية والعنصر، هؤلاء الموريسكيون المساكين والذين لا يعرف عنهم شباب المسلمين شيئًا، كانوا ضحية أكبر عملية إرهابية شهدها التاريخ الإنساني منذ آدم وإلى يوم الناس هذا، فلقد رفض الموريسكيون تغيير دين الإِسلام، فحاول القساوسة في البداية أن يغرّوهم بالطرق السلمية لتنصيرهم، ولكن هيهات! فأنى لهذا القلب الذي عرف معنى التوحيد أن يعبد صليبًا من خشب أو حتى من ذهب؟! عند ذلك بدأ الإسبان عملياتهم الإرهابية الحقيرة بقتل المسلمين الموريسكيين، فانتفض المسلمون الموريسكيون في جميع أنحاء الأندلس ليعلنوها ثورة ضد النصارى، قبل أن يستخدم هؤلاء المجرمون أبشع وسائل القتل في حق الموريسكيين لإخماد انتفاضاتهم الشعبية.
والسائل يتساءل هنا:
لماذا لم يهاجر الموريسكيون المسلمون من بلادهم الأندلس بعد سقوط الحكم الإِسلامي فيها وتولي النصارى لمقاليد الحكم؟ ألم يكن الأجدر بهم أن يهربوا بدينهم إلى المغرب الإِسلامي ويتركوا الأندلس؟
والحقيقة أن هذا السؤال شغلني شخصيًا، فقد تساءلت عن سر بقاء الموريسكيين في
إسبانيا رغم كل ما كانوا يعانوه من قتل واضطهاد، بل إنني لا أخفيكم سرًا بأنني في لحظة معينة ظننت أن أولئك الموريسكيين رضوا بالذل والإهانة في حكم النصارى حتى لا يفقدوا بيوتهم وحدائقهم الغناء في الأندلس! والحقيقة أنني عثرت على معلومة تاريخية أثبتت لي خَطأ ذلك الظن السوء، فلقد قامت الملكة المجرمة (إيزابلا) بمشورة من كبير القساوسة الكاثوليك الكاردينال (ثيسنيروس) بإصدار مرسوم ملكي تأمر فيه المسلمين الإسبان باعتناق المسيحية أو مغادرة البلاد. لكنها فرضت على الراغبين في الرحيل إتاوات وغرامات مستحيلة لا يملكها فقراء المسلمين، ولكن الأنكى من ذلك أنها فرضت على كل من ينوي المغادرة من المسلمين التخلي عن أطفالهم الصغار ليتم تنصيرهم! وهنا يتساءل الإنسان مرة أخرى: كيف لقلب امرأة المفترض أنها أنثى وأم لعدة أطفال أن تصدر قرارًا إجراميًا مثل هذا القرار المخيف الذي يفرق بين الأمهات وأطفالهن؟! والحقيقة أنني لم أجد إلا تفسيرًا منطقيًا واحدًا يفسر هذه القسوة المرعبة لهذه الملكة الإسبانية، إلا أنني عثرت على معلومة جانبية ذكرها مؤرخو الإسبان قد تفسر لنا هذه القسوة: فالتفسير الوحيد الذي أجده هو أن قلب إيزابلا قد مات بالفعل بسبب بسيط هو بعدها عن الماء!!! وأنا لا أنقل إلا ما كتبه مؤرخو الإسبان بأنها لم تغتسل إلا مرتين: الأولى يوم ولادتها سنة 1451 م والثانية ليلة دخلتها سنة 1469 م، وبغض النظر عن يوم ولادتها التي اغتسلت فيه بدون إرادتها، فإن جسدها القذر لم يلمس الماء طيلة 52 سنة إلا مرة واحدة، واللَّه سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه:{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} ، فلا شك إذا أنها كانت بقلب ميت لتصدر مثل ذلك القرار اللا إنساني بفصل الأطفال عن أمهاتهم، زاد من ذلك طبعا إيمانها الصليبي القوي وما كانت تجده من نصوص قتل الأطفال في الكتاب المقدس! هذا كله دفع الموريسكين لإخفاء إسلامهم وإظهار أنهم تنصروا، انتظارًا لفرج اللَّه من أحد المسلمين ليحررهم من ظلم النصارى. ولكن فرج اللَّه لم يأتِ للمورسكيين، فأتى مكانه ابتلاء اللَّه! فقد أراد اللَّه أن يختبر قوة إيمانهم بمحاكم التفتيش، ومحاكم التفتيش هو مصطلح للإجراءات المرعبة التي كان الإسبان النصارى يمارسوها بحق المسلمين من إخواننا الموريسكيين، تبدأ هذه المحاكم باقتحام بيوت كل من يُشتبه بأنه يخفي إسلامه، فإذا وجدوا في بيته
ورقة صغيرة فيها آية من كلام واللَّه، أو إذا وجدوا البيت خاليًا من لحم الخنزير أو الخمور، عندها تبدأ أصعب مرحلة من التعذيب والذي لا يُوصف بكلمات، ولقد استغربت بالفعل خلال زيارتي لمدينة "غرناطة" قبل عامٍ من الآن، من سر شراهة سكان ولاية الأندلس الإسبانية بالتحديد للحم الخنزير الذي يبيعونه في كل مكان، بل إنني عندما أردت أن أطلب طبق طعامٍ مكونٍ من الأسماك البحرية، تفاجأت أنهم يخلطون لحم الخنزير مع السمك!
والآن لنبقى مع شهادة أحد الجنود الفرنسيين المسيحيين الذين أرسلهم نابليون بونابرت سنة 1808 م في حملة عسكرية على إسبانيا، ليروي لنا بنفسه ما الذي وجده الفرنسيون في كنائس الإسبان بعد مرور أكثر من 300 سنة من التعذيب المستمر للمورسكيين المسلمين:
"أخذنا حملة لتفتيش أحد الأديرة التي سمعنا أن فيها ديوان تفتيش، وكادت جهودنا تذهب سدى ونحن نحاول العثور على قاعات التعذيب، إننا فحصنا الدير وممراته وأقبيته كلها. فلم نجد شيئًا يدل على وجود ديوان للتفتيش. فعزمنا على الخروج من الدير يائسين، كان الرهبان أثناء التفتيش يقسمون ويؤكدون أن ما شاع عن ديرهم ليس إلا تهمًا باطلة، وأنشأ زعيمهم يؤكد لنا براءته وبراءة أتباعه بصوت خافت وهو خاشع الرأس، توشك عيناه أن تطفر بالدموع، فأعطيت الأوامر للجنود بالاستعداد لمغادرة الدير، لكن اللفتنانت "دي ليل" استمهلني قائلًا: أيسمح لي الكولونيل أن أخبره أن مهمتنا لم تنته حتى الآن؟!! قلت له: فتشنا الدير كله، ولم نكتشف شيئًا مريبًا. فماذا تريد يا لفتنانت؟! قال: إنني أرغب أن أفحص أرضية هذه الغرف فإن قلبي يحدثني بأن السر تحتها. عند ذلك نظر الرهبان إلينا نظرات قلقة، فأذنت للضابط بالبحث، فأمر الجنود أن يرفعوا السجاجيد الفاخرة عن الأرض، ثم أمرهم أن يصبوا الماء بكثرة في أرض كل غرفة على حدة -وكنا نرقب الماء- فإذا بالأرض قد ابتلعته في إحدى الغرف. فصفق الضابط "دي ليل" من شدة فرحه، وقال ها هو الباب، انظروا، فنظرنا فإذا بالباب قد انكشف، كان قطعة من أرض الغرفة، يُفتح بطريقة ماكرة بواسطة حلقة صغيرة وضعت إلى جانب رجل مكتب رئيس الدير. أخذ الجنود يكسرون الباب بقحوف البنادق،
فاصفرت وجوه الرهبان، وعلتها الغبرة. وفُتح الباب، فظهر لنا سلم يؤدي إلى باطن الأرض، فأسرعت إلى شمعة كبيرة يزيد طولها على متر، كانت تضئ أمام صورة أحد رؤساء محاكم التفتيش السابقين، ولما هممت بالنزول، وضع راهب يسوعى يده على كتفي متلطفًا، وقال لي: يا بني: لا تحمل هذه الشمعة بيدك الملوثة بدم القتال، إنها شمعة مقدسة. قلت له، يا هذا إنه لا يليق بيدي أن تتنجس بلمس شمعتكم الملطخة بدم الأبرياء، وسنرى من النجس فينا، ومن القاتل السفاك!؟! وهبطت على درج السلم حتى وصلنا إلى آخر الدرج، فإذا نحن في غرفة كبيرة مرعبة، وهي عندهم قاعة المحكمة، في وسطها عمود من الرخام، به حلقة حديدية ضخمة، وربطت بها سلاسل من أجل تقييد المحاكمين بها. وأمام هذا العمود كانت المصطبة التي يجلس عليها رئيس ديوان التفتيش والقضاة لمحاكمة الأبرياء. ثم توجهنا إلى غرف التعذيب وتمزيق الأجسام البشرية التي امتدت على مسافات كبيرة تحت الأرض. رأيت فيها ما يستفز نفسي، ويدعوني إلى القشعريرة والتقزز طوال حياتي! فقد رأينا غرفًا صغيرةً في حجم جسم الإنسان، بعضها عمودي وبعضها أفقي، فيبقى سجين الغرف العمودية واقفا على رجليه مدة سجنه حتى يموت، ويبقى سجين الغرف الأفقية ممدًا بها حتى الموت، وتبقى الجثث في السجن الضيق حتى تبلى، ويتساقط اللحم عن العظم، وتأكله الديدان، ولتصريف الروائح الكريهة المنبعثة من جثث الموتى فتحوا نافذة صغيرة إلى الفضاء الخارجي، وقد عثرنا في هذه الغرف على هياكل بشرية ما زالت في أغلالها. كان السجناء رجالًا ونساءً، تتراوح أعمارهم ما بين الرابعة عشرة والسبعين، وقد استطعنا إنقاذ عدد من السجناء الأحياء، وتحطيم أغلالهم، وهم في الرمق الأخير من الحياة. كان بعضهم قد أصابه الجنون من كثرة ما صبوا عليه من عذاب، وكان السجناء جميعًا عرايا، حتى اضطر جنودنا إلى أن يخلعوا أرديتهم ويستروا بها بعض السجناء. أخرجنا السجناء إلى النور تدريجيًا حتى لا تذهب أبصارهم، كانوا يبكون فرحًا، وهم يقبّلون أيدي الجنود وأرجلهم الذين أنقذوهم من العذاب الرهيب، وأعادوهم إلى الحياة، كان مشهدًا يبكي الصخور. ثم انتقلنا إلى غرف أخرى، فرأينا فيها ما تقشعر لهوله الأبدان، عثرنا على آلات رهيبة للتعذيب، منها آلات لتكسير العظام، وسحق الجسم البشري، كانوا يبدؤون
بسحق عظام الأرجل، ثم عظام الصدر والرأس واليدين تدريجيا، حتى يهشم الجسم كله، ويخرج من الجانب الآخر كتلة من العظام المسحوقة، والدماء الممزوجة باللحم المفروم، هكذا كانوا يفعلون بالسجناء الأبرياء المساكين، ثم عثرنا على صندوقٍ في حجم جسم رأس الإنسان تمامًا، يوضع فيه رأس الذي يريدون تعذيبه بعد أن يربطوا يديه ورجليه بالسلاسل والأغلال حتى لا يستطيع الحركة، وفي أعلى الصندوق ثقب تتقاطر منه نقط الماء البارد على رأس المسكين بانتظام، في كل دقيقة نقطة، وقد جُنّ الكثيرون من هذا اللون من العذاب، ويبقى المعذب على حاله تلك حتى يموت. وآلة أخرى للتعذيب على شكل تابوت تثبت فيه سكاكين حادة، كانوا يلقون الشاب المعذب في هذا التابوت، ثم يطبقون بابه بسكاكينه وخناجره. فإذا أغلق مزق جسم المعذب المسكين، وقطعه إربًا إربًا. كما عثرنا على آلات كالكلاليب تغرز في لسان المعذب ثم تشد ليخرج اللسان معها، ليقص قطعة قطعة، وكلاليب تغرس في أثداء النساء وتسحب بعنفٍ حتى تتقطع الأثداء أو تبتر بالسكاكين. وعثرنا على سياط من الحديد الشائك يُضرب بها المعذبون وهم عراة حتى تتفتت عظامهم، وتتناثر لحومهم"
أكتفي بهذا القدر من شهادة هذا الضابط الفرنسي، لكي لا أعكر مزاج القارئ الكريم أكثر من ذلك، ولعلنا الآن فهمنا لماذا أخفى الرئيس الأمريكي (أبراهام لِنكون) إسلامه، فهذا الذي ذكرته لا يمثل إلا الشيء اليسير من ألوان التعذيب المرعبة التي قام بها المسيحيون بمباركة من بابا الفاتيكان نفسه، أما الكلاب القذرة التي تدعي أن الإِسلام انتشر بحد السيف وأن دينهم هو دين المحبة فأهديهم بعض كلمات المؤرخ الفرنسي (غوستاف لوبون) في كتابه "حضارة العرب" حيث يقول عن محاكم التفتيش:"يستحيل علينا أن نقرأ دون أن ترتعد فرائضنا من قصص التعذيب والاضطهاد التي قام بها المسيحيون المنتصرين على المسلمين المنهزمين، فلقد نصّروهم عنوة، وسلموهم لدواوين التفتيش التي أحرقت منهم ما استطاعت من المجموع. واقترح القس "بليدا" قطع رؤوس كل المسلمين دون أي استثناء ممن لم يعتنقوا المسيحية بعد، بما في ذلك النساء والأطفال، وهكذا تم قتل أو طرد ثلاثة ملايين مسلم".
وكعادة عظماء أمة الإِسلام. . . . . خرج من رحم هذه العذابات شابٌ من
المورسكيين تبدو عليه ملامح قرشيّة اسمه:
(فرناندو دو قرطبة وبالور)(Fernand de cordoba y Valor) ومثل مالكوم إكس كان يعلم أن هذا الاسم ليس اسمه الحقيقي، بل اسم مسيحي سماه به النصارى، وكان يعلم أنه من سلالة رجالٍ عظماء يُقال لهم "بنو أمية"، فغير فرناندو اسمه إلى محمَّد بن أمية، ليقود أروع انتفاضة عرفتها الأندلس بعد سقوطها، ليعيد توحيد صفوف المورسكيين، وليكوِّن جيشا شعبيًا قوامه من المدنيين المورسكيين، ليحارب به الإمبراطورية الإسبانية، فيحقق به المستحيل!. . . . . فقد يندهش البعض حين يعلم أن القوات الشعبية لمحمد بن أمية الأموي استطاعت من أن تحرر مدينة "ألمرية" ومدينة "مالقا" من أيدي النصاري الكستاليين، وللتذكير فقط: نحن نتحدث عن وقت سقطت فيه الأندلس منذ أكثر من 75 سنة! بل إن هذا القائد الإِسلامي العظيم سليل الشرفاء من بني أمية، استطاع أن يشعلها انتفاضة إسلامية في ربوع إسبانيا سميت في التاريخ بـ "انتفاضة جبال البشرات"، فاضطر الملك الإسباني "فيليبي الثاني" أن يطلب العون من "إمبراطورية النمسا" لإنقاذ إسبانيا من ذلك الصقر القرشي، وفعلًا استطاعت هذه القوات الإمبراطورية أن تقمع هذه الإنتفاضة الشعبية، ليُستشهد البطل الأموي العظيم محمَّد بن أمية في سبيل اللَّه، ليطوي بذلك صفحة مشوقة في سجل أبيض كتبه رجالٌ من قريش ينتمون إلى آل أمية بن حرب، فيضيف بذلك اسمه إلى أسماء أجداده: عمرو بن العاص، وأبي سفيان ابن حرب، وعقبة بن نافع، ويزيد بن معاوية، وعبد الرحمن الداخل، وعبد الرحمن الناصر، وعمر بن عبد العزيز، والفارس الإِسلامي البطل: معاوية بن أبي سفيان رحمهم الله جميعًا. (سيظهر في نهاية الكتاب من على قمة جبال الهملايا في الهند بطل أموي آخر وذلك التاسع عشر الميلادي!).
ولكن كيف ولماذا سقطت الأندلس؟ ومن هو الرجل العظيم الذي أنقذ تراث الأندلس من الضياع؟!
يتبع. . . . .
" الرجل الذي أنقذ تراث الأندلس"(أبو يوسف يعقوب المنصور الماريني)
(اللَّه)
كنت واقفًا على قمة أعلى نقطة في مدينة مالقة الإسبانية، في قلعة يقال لها (القصبة)(Alkazaba)، هناك كنت أتأمل بهذه المدينة الحصينة وأتساءل في قرارة نفسي: كيف لمدينة بهذا التحصين الطبيعي العجيب أن تسقط من أيدي المسلمين؟! فمالقة التي كانت المدينة القبل الأخيرة التي تسقط بيد الجيش القشتالي، ما هي إلا مدينة محصنة بالجبال الشاهقة من ثلاث اتجاهات، وبالبحر الأبيض المتوسط من الجهة الرابعة، ولكنني عند قراءتي لتاريخ آخر ملوك الأندلس، أصبح سؤالي الذي أسأله لنفسي: كيف للأندلس كلها ألا تسقط وبها أناسٌ بهذا الشكل؟!! ولا أقصد بهذا السؤال آخر ملوك بني الأحمر وحسب، بل أقصد الشعب الأندلسي قبل قادته، فلقد وصل المسلمون في تلك الفترة إلى مرحلة قصوى في حب الدنيا، وعندما يصل المسلمون إلى هذه المرحلة، لا بدّ معها أن ينهزموا، بل لا بد معها أن يُذلوا، ليحق اللَّه عز وجل وعده الذي ذكره في سورة التوبة، فهذه الكلمات تصف حال المسلمين في الأندلس قبل سقوطها بشكل يدعو المرء للاعتقاد بأنها نزلت في أهل الأندلس بالتحديد! فيقول تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة: 38، 39]، أما رِضى الأندلسيين بالحياة الدنيا فقد كان، وأما استبدال اللَّه قومًا غيرهم فقد كان أيضًا، وأما يعذبكم عذابًا أليمًا فقد كان أعظم وصف لمحاكم التفتيش!
وبطلنا الآن ظهر في المغرب قبل سنيات قليلة من سقوط الأندلس، ولكنه ظهر أيضًا في نفس العصر الذي ظهر فيه (محمد الفقيه) أحد ملوك بني الأحمر، وواللَّه إنني لا أعتبر محمد الفقيه ملكًا مجرمًا ضيع الأندلس فحسب، بل إنني أعتبره شخصًا مسكينا لأبعد الحدود، فهناك من البشر صنفٌ غريبٌ للغاية، ملأ قلبه بحب الدنيا لدرجة الجنون، فأصبح كالمعتوه الذي يجري في الشوارع يمنة ويسرى يريد أن يلحق بالدنيا، فلا هو الذي كسب شيئًا من تلك الدنيا، ولا هو الذي كسب آخرته، ولا هو الذي كسب بياض الوجه في صفحات التاريخ، ومحمد الفقيه ينتمي لهذا الصنف من البشر!
فلقد قام هذا الملك ومن قبله من ملوك بني الأحمر بأفعال مخزية، كان لا بد معها أن تسقط فيها الأندلس بهذا الشكل الدرامي، ففي ظل كل هذه الهزائم والانكسارات انشغل بنو الأحمر ببناء "قصر الحمراء" الذي يعتبر وبحق أجمل شيءٍ مكانٍ رأيته في حياتي عند زيارتي لغرناطة، فقد احتجت لخمس ساعاتٍ من المشي في هذا المبنى الضخم للمشي في طرقاته وحدائقه فقط، حينها نظرت على جدران هذا البناء فوجدت أن بني الأحمر قد نقشوا على كل حجرٍ من حجارة الجدران والسقف عبارة "لا غالب إلا اللَّه"، فابتسمت في قرارة نفسي لعلمي بتاريخ هؤلاء الملوك المساكين الذين كانوا يتحالفون مع النصارى على بعضهم البعض ولسان حالهم يقول:"لا غالب إلا ألفونسو! ". وفي ظل ذلك الانحطاط الأخلاقي الذي وصل إليه المسلمون في الأندلس، كان لا بد للنصارى أن يتوجهوا بجيوشهم لاحتلال باقي مدن الأندلس، والتي لم يبق منها إلا "إشبيلة" و"غرناطة"، فما كان من محمد الفقيه ملك غرناطة في ذلك الوقت إلا أن يتوجه بجيشه ليساعد الصليبيين في حصار شيوخ ونساء وأطفال أشبيلية، وفعلًا سقطت إشبيلية بفضل خيانة بني الأحمر، فكافأه الصليبيون بأن توجهوا إلى مدينته لينتزعوها من حكمه، فلم يستطع هذا الملك الخائن أن يحاربهم، فشعبه تعود على السهر على ألحان "زرياب" الموسيقية، وقصائد الغزل الأندلسي، فأنى لشابٍ تربى على الأغاني الماجنة أن يحمل السيف في سبيل اللَّه، وأنى لشيخٍ تعود لسانه على قول:"أيها الساقي اسقني لا تأتلِ" أن ينادي حيَّ على الجهاد؟! عند ذلك استغاث محمد الفقيه بملك المغرب، وهو البطل المجاهد (أبو يوسف يعقوب المنصور الماريني)، فانطلق هذا البطل الإِسلامي المؤمن
إلى نصرة إخوانه في الأندلس، فاستطاع هذا القائد الإِسلامي البطل بخمسة آلاف جندي مغربي أن ينتصر على جحافل الصليببيين في غرناطة، ليس هذا وحسب، بل استطاع أن يعيد تحرير إشبيلية أيضًا، وصدّق أو لا تصدق. . . . استطاع أن يحرر "قرطبة" والتي كانت قد سقطت قبل ذلك بعشرات السنين!!! كل هذا بخمسة آلاف مجاهد تربوا على الإِسلام الحقيقي، أما الذين تربوا على الرقص على ألحان زرياب، فقد ذهبوا مرة أخرى للصليبيين لكي يتحالفوا معهم لطرد القائد أبي يوسف يعقوب المنصور الماريني الذي جاء أصلًا لنجدتهم!!!! فانتصر أبو يوسف يعقوب المنصور الماريني على تحالف الصليبيين ومحمد الفقيه، ولكنه كعادة العظماء عفا عن محمد الفقيه، وترك له كل الغنائم التي غنمها من النصارى، وترك أيضًا حامية من مجاهدي المغرب الأشداء لكي يدافعوا عن المسلمين في الأندلس وقت الحاجة، وكعادة الجبناء خاف محمد الفقيه على ملكه، فتحالف مرة أخرى مع النصارى ضد تلك الحامية، ومرة أخرى أبحر إليهم أبو يوسف يعقوب المنصور الماريني لينتصر عليهم، واستمر الوضع كذلك ما بين خيانة الفقيه مع النصارى، وانتصار الماريني عليهم، ثم عفوه على الفقيه، حتى أدرك القائد المجاهد أبو يوسف يعقوب بن منصور الماريني أن الوضع ميئوس منه في تلك البلاد، أو كما نقول نحن الفلسطينيون بلهجتنا "صارت الحكاية مهزلة! "، ففي آخر انتصار له على النصارى عرضوا عليه الأموال والجزية، فرفض ذلك، وطلب منهم أن يعطوه كتب المسلمين التي استولوا عليها بدلًا من الأموال، وفعلًا تم له ذلك، وبذلك استحق أبو يوسف يعقوب المنصور الماريني أن يُكتب اسمه في سجل العظماء إلى يوم القيامة. وفعلًا ما هي إلا سنوات قليلة حتى تحققت رؤية هذا الصقر المغربي، فسقطت الأندلس، وأحرق المسيحيون كل كتب المسلمين، بعد أن حوّلوا مكاتبهم إلى كنائس!
ولعل البعض قد تساءل عن سر تكراري للاسم الطويل للقائد (أبي يوسف يعقوب المنصور الماريني)، والحقيقة أنني فعلت ذلك لغاية في نفسي، فلقد ظهر قبله بعشرات السنين، ومن نفس بلاد المغرب، عظيم آخر من عظماء أمة الإِسلام المائة، فكان -للمفارقة- بنفس الاسم الطويل ولكن بلقبٍ آخر!
يتبع. . . . .
" بطل معركة الأرك الخالدة"(أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي)
" فلما وصل كتاب ألفونسو إلى الأمير يعقوب مزّقه وكتب على ظهر قطعة منه: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)} الجواب ما ترى لا ما تسمع! "
لم أشأ أن أنهي الحديث عن تاريخ الأندلس بدون ذكر هذا القائد الإِسلامي العظيم، فلقد أبحرنا سويًا في هذا الكتاب في تاريخ الأندلس منذ موسى بن نصير وطارق بن زياد، وحتى سقوط الأندلس وانتفاضة محمد بن أمية، مرورًا بيوسف بن تاشفين وعبد الرحمن الناصر والمتوكل بن الأفطس رحمهم الله جميعًا، والحقيقة أنني تعمدت أن أفصِّل في تاريخ الأندلس بالذات، ليس من أجل البكاء على اللبن المسكوب كما قلنا، بل لأن تاريخ الأندلس بما يحمله من انتصارات وأمجاد وحتى هزائم يمثل منهاجًا واضح المعالم لشباب هذه الأمة، فلقد رأينا كيف كان المسلمون ينتصرون بأقل الأعداد وأضعف الأسلحة عندما تمسكوا بتعاليم هذا الدين، ورأينا في نفس الوقت كيف أنهم كانوا ينهزمون شر هزيمة ويدفعون الجزية للنصارى عندما دخل في قلبهم حب الدنيا وكراهية الموت، ورأينا أيضا كيف استطاع رجالٌ قليلون أن يغيروا من وضع المسلمين من حالة الهزيمة النكراء إلى حالة النصر المؤزر، وكيف استطاع رجلٌ بفرده مثل الشيخ عبد اللَّه بن ياسين أن يحول مجموعة صغيرة من رعاة الإبل على حدود السنغال إلى ملوك أعظم إمبراطورية عرفتها أفريقيا، ورأينا في نفس الوقت رجلًا مثل محمد الفقيه الذي ضيع الأندلس بحبه للدنيا، رأينا كيف كان رجال المغرب العظماء ينقذون الأندلس بين الحين والآخر، ورأينا خيانات الشيعة العبيديين (الفاطميين) الذين كانوا يمدون الصليبيين في الأندلس بالسلاح، فقصة الأندلس هي بالفعل مختصر قصة الإسلام بما فيه من انتصارات وخيانات، فلو قرأها شباب الأمة لعرفوا كيفية النهوض بحالة هذه الأمة التي تشبه إلى حد بعيد حالة المسلمين إبان عهد ملوك الطوائف،
فسيتنبط منها المسلمون أسباب النصر، التي نحن بأمس الحاجة إليها في هذه الفترة الزمنية الحرجة.
وبطلنا الآن هو أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي، والموحدون هم الذين حكموا بلاد المغرب الإِسلامي والأندلس بعد انهيار دولة المرابطين، وأقف هنا قليلًا عند بلاد المغرب، فالمغرب الآن يواجه حملة شرسة من الصليبيين وأذنابهم من العملاء لتلطيخ سمعة هذا البلد الإِسلامي العظيم، بل إننا بتنا نسمع في الآونة الأخيرة أبواقًا قذرة تنال من سمعة نساء المغرب الشريفات، وليس عندي أدنى شك، بأن الذي يطلق مثل هذه الشائعات على نساء المغرب العفيفات يعلم علم اليقين أن تلك النساء هن نفس النساء اللواتي أنجبن رجالًا مثل يوسف بن تاشفين وأبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي، أبو يوسف يعقوب المنصور الماريني، ومحمد بن عبد الكريم الخطابي، فاللَّه اللَّه في سمعة نساء المسلمين، واللَّه اللَّه في الدفاع عن أعراض هذه الأمة.
وقد يتعجب البعض إذا علم أن دولة الموحدين التي خرج منها بطلنا كانت في الأساس دولة خبيثة، فلقد تأسست هذه الدولة على يد رجل اسمه محمد بن تومرت، وابن تومرت هذا رجلٌ منحرف العقيدة والفكر، تعلم في مدارس العراق الشيعية التي كانت خليطا من فلسفات المجوس وفلسفات الإغريق، فأخذ منها ما أخذ، وأخذ من المعتزلة ما أخذ، حتى بات يعتبر نفسه بأنه هو المهدي المنتظر، فذهب إلى المغرب، وأسس دولة الموحدين على أنقاض دولة المرابطين، وأشاع فيها ذلك الفكر المنحرف، حتى جاء البطل أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي، فأعلن فساد أفكار ابن تومرت، وبهذه الحركة التصحيصية، ضمن أبو يوسف يعقوب بن منصور الموحدي النصر حتى قبل أن يخوض أي معركة، فليس عيبًا أن يصحح الإنسان أفكاره إذا ما اكتشف أنها خاطئة، ولكن العيب كل العيب أن يستمر عليها الإنسان.
وفي هذا الوقت ظهر في في مملكة قشتالة ملك مجرمٌ اسمه ألفونسو الثامن، وألفونسو هذا ليس ألفونسو الذي هزمه ابن تاشفين في معركة الزلاقة الخالدة، فالنصارى كانوا يكثرون من تسمية ألفونسو، المهم أن ألفونسو هذا عاث فسادًا في بلاد الأندلس الإِسلامية، فقتل الشيوخ واغتصب النساء، وقد تعودنا أن تستورد الأندلس النصر من
بلاد المغرب في السنوات الأخيرة، فتحرك أبو يوسف بجيشٍ قوامه 200 ألف مجاهد من مسلمي الشمال الأفريقي إلى نصرة إخوانهم في الأندلس، يرد به على رسالة مهينة بعث بها ألفونسو إليه، أما النصارى فقد أعلنوا حالة الطوارئ القصوى بعد أن أعلن بابا الفاتيكان حالة النفير العام، فتجمعت للصليبيين قوات هولندية وألمانية وفرنسية وإسبانية لتكون جيشًا جرارًا تعداده ربع مليون مقاتل نصراني، ورفعوا الصلبان بين جنودهم عاليًا لعلمهم بأنهم أمام المعركة الفاصلة التي ستحدد مصير المسلمين في الأندلس، أما المسلمون فرفعو نداء: اللَّه أكبر تحت قيادة أبي يوسف يعقوب المنصور الموحدي، والتقى الجمعان في التاسع من شهر شعبان لسنة 591 هـ، في معركة الأرك الخالدة، لينتصر المسلمون أعظم انتصارٍ في تاريخ الأندلس كله، فقد فاق نصر الأرك نصرَ الزلاقة، وطارت أخبار النصر في كل مكان، ودوت أخبار ذلك الانتصار العظيم على منابر المسلمين في أطراف دولة الموحدين الشاسعة، بل وصلت هذه الأخبار إلى المشرق الإِسلامي، فصلى المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها صلاة الشكر ابتهاجًا بهذا النصر العظيم.
وإذا كان كثيرٌ منا لم يسمع في حياته عن المنصور الموحدي ولا عن معركة الأرك الخالدة، فليس عندي أدنى شك بأن جميعنا من دون أي استثناء سمع بقصة عظيم من عظماء أمة الإِسلام انتصر على الصليبيين قبل معركة الأرك الخالدة بثماني سنوات فقط بمعركة حرر بها القدس، ليتزامن انتصاره في الشرق الإِسلامي مع انتصار المسلمين في الأرك في الغرب الإِسلامي!
فمن هو بطل أشهر شخصية إسلامية على وجه الأرض بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ ولماذا ذاع صيته في الغرب والشرق على حدٍ سواء؟ وما حكاية معركة حطين الخالدة؟ وكيف أمكنه صنع هذا النصر العظيم؟
يتبع. . . . .
" بطل معركة حطين الباسلة"(صلاح الدين الأيوبي)
" واللَّه إني لأستحي من اللَّه أن أضحك والمسجد الأقصى ما زال محتلًا"
(الناصر صلاح الدين)
لن أسلك مسلك أغلب الكتّاب في الحديث عن القائد المجاهد الناصر صلاح الدين الأيوبي، فأغلب الذين يتحدثون عن صلاح الدين الأيوبي يبدأون كلامهم بنصر حطين، أمّا أنا فلن أكتب شيئًا على الإطلاق عن معركة حطين الخالدة، لسببين اثنين، الأول هو أن الصغير قبل الكبير بات يعرف حكاية هذه المعركة الخالدة التي حرّر بها صلاح الدين الأيوبي القدس من قبضة الصليبيين، أم السبب الثاني فهو أنني في هذا الكتاب لا أحاول أن أركز على ماهية النصر بقدر ما أحاول التركيز على كيفية النصر! فالخطأ الكبير الذي وقع فيه بعض شبابنا في هذه الأيام أنهم يعتقدون أن النصر يأتي في يومٍ وليلة بمجرد حمل أحدهم للسلاح، والحقيقة التي يغفلها أولئك الشباب المساكين أن القتال العسكري ليس إلا المرحلة الأخيرة من مراحل صناعة النصر، بل إن النصر يأتي أحيانًا من دون الحاجة لحمل السلاح أصلًا! فالنصر لا يعتبر أكثر من خطوة صغيرة في طريق طويل اسمه طريق صناعة النصر. والمتأمل في قصة سيدنا موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يجد شيئًا عجيبًا للغاية، يجد أن اللَّه سبحانه وتعالى على قدر عظمته وقدرته عندما أراد أن يهلك فرعون، لم يرسل ملك الموت إليه ليقبض روحه بلمح البصر، بل بدأ اللَّه سبحانه وتعالى عملية صناعة النصر بوحيٍ أوحاه إلى أم موسى، ثم بتربية موسى في بيت فرعون، ثم بهجرته إلى مدين، فرجوعه إلى مصر، ثم مناظرته لفرعون بالكلام (لا بالسلاح!)، ثم بدعوته الشاقة والطويلة لبني إسرائيل، ثم بخروجه بهم من مصر، ليلحقه فرعون بجيشه، ليموت فرعون غرقًا في الماء، ولينتصر موسى على فرعون من دون أن أي قتال على الإطلاق، والسؤال هنا: لماذا لم يُغرق اللَّهُ فرعونَ من
بداية القصة؟ الجواب: لكي نتعلم أنا وأنت أن طريق النصر طريق طويل، أما النصر بعد ذاته فلا يحتاج إلا إلى ثوانٍ معدودة، بل لا يحتاج أصلًا إلى جهدٍ يذكر كما رأينا في قصة موسى! ولعل استعجال النصر من كثير من الحركات الإِسلامية المعاصرة التي حملت السلاح، هو سبب تفككها السريع وفشلها في تحقيق أي إنجازٍ يُذكر، لا من الناحية السياسية، ولا من الناحية الدعوية، اللهم إلا أنها ألقت بأبنائها في السجون، وشوَّهت صورة الإِسلام في أعين المسلمين وغير المسلمين، من قصد أو من غير قصد!
وقبل أن نخوض في كيفية صناعة النصر على يد صلاح الدين الأيوبي، ينبغي علينا أن نأخذ لمحة بسيطة عن تاريخ الحروب الصليبية، والحقيقة أنني أحب أن أؤرخ بداية الحروب الصليبية قبل بدايتها بشكلٍ عملي بدعوة البابا (أوربان) لقتال المسلمين من مدينة "كليرمونت" الفرنسية في الـ 27 من في نوفمبر سنة 1095 م (488 هـ)، بل إنني أرجع البداية الحقيقية للحروب الصليبية إلى ما قبل ذلك بكثير، بل إلى ما قبل ولادة محمد بن عبد اللَّه صلى الله عليه وسلم، وبالتحديد إلى يوم إلى 20 من مايو سنة 325 م وهو اليوم الذي عُقد فيه مؤتمر "نيقية" الذي أعلن فيه الصليبيون الحرب على المسلمين بقيادة (آريوس)! أما إذا أردنا التأريخ للحروب الصليبية بمفهومها الدارج، ففعلًا بدأت تلك الحروب من تلك المدينة الفرنسية بالتحديد (وربما يفسر هذا سبب عداء فرنسا بالذات لكل ما هو إسلامي إلى هذا اليوم!) والملاحظ لهذا التاريخ الذي عُقد فيه مؤتمر "كليرمونت" أنه تاريخ سبقه مرور ألف سنة كاملة على ميلاد السيد المسيح عليه السلام، ولمن لا يعرف الكثير عن تاريخ المسيحية عليه أن يعلم أن البابوات في روما كانوا يأخذون الأموال من فقراء النصارى بعد أن أقنعوهم بأن يوم القيامة سيكون في سنة 1000 م، فعندما جاءت هذه السنة لاحظ أولئك الفقراء -الذين باعوا بيوتهم وأملاكهم للكنيسة لكي يشتروا بها صكوك الغفران- أن الأرض لم تتزلزل بهم البتة! وأن السماء لم تنشق عليهم!! فاكتشفوا أن رجال دينهم ما هم إلا لصوص سرقوا أموالهم بالباطل، فأوهمهم الباباوات أن الأمر يتطلب بعض الوقت حتى يستعد فيها الرب لهذه المهمة الشاقة، ولكن شيئًا لم يحدث! وسنة بعد سنة كان بابا روما يخترع فيها كذبة جديدة، وسنة بعد سنة كان النصارى يتململون من كذب رجال دينهم، حتى جاء الباب (أوربان) بالحل،
وهو أن يوجه أولئك الثوار إلى بلاد المسلمين قبل أن يثوروا على الكنيسة! وفعلًا حدث هذا، فتوجهوا أولًا إلى (القسطنطينية) ليقتلوا إخوانهم من الأرثوذكس في أبشع مذابح شهدها الأرثوذكس في تاريخهم، ولازالت هذه المذابح هي سبب القطيعة بين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الأرثوذكسية إلى يوم الناس هذا (قارن ما فعله الكاثوليك بإخوتهم بالدين من قتل واغتصاب بما فعله محمد الفاتح بالأرثوذكس عند دخوله القسطنطينية من عفوٍ وتسامح!!!)، وسنة بعد سنة استطاع الصليبيون أن يستولوا على جلّ بلاد الشام، ساعدهم على ذلك تفكك العالم الإِسلامي، قبل أن يصلوا أخيرًا إلى القدس في سنة 492 هـ، وفي هذه المدينة المقدسة قتل الصليبيون الأطفال واغتصبوا النساء ومثلوا بالشيوخ، وهدموا المساجد، وأحرقوا البيوت، وذبحوا الآلاف من شباب المسلمين الأبرياء، فاحتمى المسلمون بالمسجد الأقصى ظنًا منهم أن الصليبيين لن يقتحموا الأماكن المقدسة، وهذه هي مشكلة المسلمين المزمنة: يظنون أن كل الناس لديهم نفس الأخلاق التي تعلموها من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم! فقد اقتحم الصليبيون المسجد الأقصى بخيولهم، فقتلوا في ليلة واحدة: 70000 مسلمٍ ما بين سيدة وقاصر وحتى طفلة! ووصل مستوى الدم في الحرم القدسي الشريف إلى ركب الخيول، فسبحت خيول الصليبيين الأنجاس بدماء أطفال المسلمين الطاهرة!!!
وفي سنة 532 هـ وُلد طفلٌ كردي في مدينة "تكريت" اسمه يوسف بن أيوب، وهو نفسه الذي سيحمل لقب صلاح الدين عندما يكبر! فنشأ ذلك الطفل تنشأةً إسلامية خالصة، ولما وصل إلى سن البلوغ، أرسله والده إلى مدرسة المدينة، فتعلم القراءة والكتابة باللغة العربية، وحفظ القرآن الكريم، حتى أصبح صلاح الدين معروفًا بين زملائه بالذكاء الشديد، وهدوء الطبع، وحبه الشديد للمطالعة ودراسة الكتب.
الشيء اللافت للنظر الذي لاحظته من خلال مطالعتي لسيرة صلاح الدين الأيوبي، أنني وجدت أن والد صلاح الدين الأيوبي كان يقص عليه قصص الأبطال والمجاهدين في أمة الإِسلام! ولعل هذا ما يؤكد صدق ما كنا قد ذكرناه سابقًا بالنسبة لأهمية التاريخ في صناعة الأبطال، فلا بد لنا أن نربي أطفالنا منذ الصغر على قصص العظماء في هذه الأمة، لكي يخرج لنا ألف صلاح الدين، ليعيدوا لنا مسجد هذه الأمة.
المهم أن أمير الشام لاحظ مدى شجاعة هذا الفتى، فقام بتعيينه قائدًا في جنده، فأثبت صلاح الدين الأيوبي أنه أهل لهذه الثقة، وتوالت انتصارات المسلمين على الصليبيين، غير أن المسلمين ما كانوا ينتصرون على جيوش الصليبيين حتى يعود الصليبيون من جديد أكثر تسليحًا من سابق عهدهم! فلمّا فتش المسلمون على مصدر هذه الإمدادات الهائلة التي تأتي للصليبيين، وجدوا أنها تأتيهم من قومٍ ينتسبون إلى الإِسلام، ولكنهم يحملون في قلوبهم مرضًا لا يستطيعون التخلص منه أبدًا، مرض الخيانة! وكأن الخيانة أصبحت عادة عند الشيعة لا يستطيعون تغييرها أبدًا، وصدق اللَّه العظيم إذ قال "أتواصوا به" أي هل أوصى كل واحدٍ منهم الآخر على نفس العمل لدرجة أصبح فيها ذلك شيئًا متكررًا في التاريخ؟! وقد كنت أظن فيما مضى أن مشكلة الشيعة هي فقط مع عائلة بني أمية، إلا أنني تفاجأت في هذه السنة بالتحديد أن الشيعة يطلقون على صلاح الدين الأيوبي اسم خراب الدين الأيوبي!! وواللَّه إني عاشرت العرب والعجم، الأوروبيين منهم والأمريكان، وقابلت أقوامًا من جنسياتٍ أذكر بعضها وأنسى معظمها، فما وجدت منهم إلا الاحترام الشديد لسيرة هذا البطل الإِسلامي الذي شهد العدو له قبل الصديق ببسالته وسموّ أخلاقه. . . . . إلا الشيعة! وكأن لا همَّ لهم في الدنيا إلا الطعن في رموز هذه الأمة!!!
أما نصر حطين فلم يبدأ من يوم المعركة بالتحديد، بل بدأ من اليوم الذي قرر فيه صلاح الدين الأيوبي التخلص من خيانات الشيعة المتمثلة بالدولة العبيدية (الفاطمية)، وهذا درسٌ يجب علينا أن نتعلمه من صلاح الدين إذا ما أردنا أن ننتصر كما انتصر هو على الصليبيين، ففي عصر صلاح الدين كان الصليبيون يحتلون القدس، وعلى الرغم من ذلك لم يحارب صلاح الدين الصليبيين أولًا، بل حارب الدولة الشيعية أولًا، وهذا شيء تكرر مع كل قادة المسلمين الذين صادف عصرهم ظهور عدوين أحدهما الشيعة، فواللَّه ما رأيت أحدهم يبدأ إلا بخونة الشيعة، وبعد ذلك ينتصر بكل سهولة على العدو الآخر، وما قصة السلطان العثماني سليم الأول رحمه الله ببعيدة عنا، عندما ترك الصليبيين البرتغاليين، ليقاتل الخونة الصفويين في إيران، فما أن دمّر سليم الأول دولة إسماعيل الصفوي، حتى هرب الصليبيون من دون قتال، وصدق اللَّه العظيم إذ يقول في
كتابه الكريم يصف المنافقين {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} !
والدولة الفاطمية الشيعية التي تشيد بها معظم مناهج التاريخ العربية للأسف، هي نفسها الدولة التي قتلت ثلث الشعب المصري بأكمله، وقصة هذه الدولة الخبيثة التي عاونت الصليبيين في الأندلس والقدس، تعبدًا مع رجلٍ يهودي اسمه (عبيد اللَّه بن مأمون القداح) هذا الرجل هرب إلى المغرب ليدَّعي كذبًا أنه من نسل فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، قبل أن يحتل أحد خلفائه وهو (المعز لدين اللَّه الفاطمي) مصر، ليقتل جميع علماء السنة فيها، وينشر الموالد والبدع في أرضها، ويعلن صراحة سب الصحابة في المساجد، بل وفي بعض الأحيان سب الرسول الكريم! حتى جاء ملوكٌ من بعده ليعاونوا الصليبيون في القدس، بعد أن عاونوهم من قبل في الأندلس، حتى جاء قرار صلاح الدين الأيوبي بإزالة هذه الدولة الخبيثة من على وجه الأرض، وبعد أن تم له ذلك. . . . أصبح نصر حطين مسألة وقت لا أكثر!
ولكن. . . . من هو ذلك القائد التركي الذي أهدى للأمة الإِسلامية صلاح الدين الكردي؟ ولماذا يعتبره كثيرٌ من المؤرخين سادسَ الخلفاء الراشدين؟
يتبع. . . . .
" الشهيد"(نور الدين زنكي)
" قد طالعت تواريخ الملوك المتقدمين قبل الإِسلام وفيه إلى يومنا هذا، فلم أر بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين"
(ابن الأثير)
هو ريحانة بلاد الشام، وأستاذ صلاح الدين الأيوبي، سماه بعض المؤرخين "سادس الخلفاء الراشدين" لعدله ودينه وحسن سياسته، هذا الرجل الذي لا يعرفه كثير منّا هو الصانع الحقيقي لنصر حطين، إننا نتحدث عن نورٍ أضاء اللَّه به الدين في أشد أوقات الأمة عتمة وسوادًا، إننا نتحدث عن نور الدين محمود ابن عماد الدين زنكي، المشهور باسم "نور الدين الشهيد"!
وقبل أن نبحر سويًا في سيرة هذا البطل العطرة، أرى أن أقف قليلًا عند لقب "سادس الخلفاء الراشدين"، فأنا لا أرى أن هذا اللقب صحيح من الناحية التاريخية على الإطلاق! وليس هذا انتقاصًا من قدر هذا القائد العظيم الذي قدّم للإسلام الشيء الكثير، بل لأن الذين يطلقون عليه لقب سادس الخلفاء الراشدين هم أنفسهم الذين يطلقون على عمر بن العزيز رحمه الله لقب خامس الخلفاء الراشدين، ومع إيماني اليقين أن كليهما من أعظم من أنجبت أمة الإِسلام، إلا أن في هذه الألقاب انتقاصٌ كبير لأمير المؤمنين الحسن ابن علي رضي الله عنهما، والذي كان خامس الخلفاء الراشدين بدليل حديث رسول اللَّه الذي نص فيه بأن الخلافة بعده ثلاثين عامًا، أما إذا أردنا أن نطلق لقب سادس الخلفاء الراشدين على أحدٍ من البشر، فالأوْلى إذَا أن نطلقه على صاحب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وكاتب وحي السماء معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما والذي لو أنفق عمر بن عبد العزيز ونور الدين زنكي وصلاح الدين كنوز الأرض في سبيل اللَّه ما بلغوا شيئًا من فضله أو فضل
صحابي واحد من صحابة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الذين هم أفضل خلق اللَّه على وجه الأرض بعد الأنبياء والرسل!
ولكن الحقيقة أن سيرة نور الدين زنكي تشبه إلى حد بعيد سيرة الخلفاء الراشدين بالفعل، فهذا الملك التركي الأسمر هو الرجل الذي أحيى اللَّه به أمة الإِسلام بعد أن كادت تموت في القرن السادس الهجري، فيكفيك أن تعلم أن نور الدين الشهيد ظهر في زمانٍ استولى فيه الشيعة الرافضة على معظم بلاد الإِسلام، فلقد استولى (البويهيون) الشيعة على دولة الخلافة في بغداد، واستولى (العبيديون) الشيعة على مصر والمغرب الإِسلامي، ففتح الشيعة بذلك المجال للصليبيين لكي يستولوا على القدس، وكعادة عظماء أمة الإِسلام، فإن هذه الأوقات هي الأوقات التي يخرجون فيها للنور، وفعلًا. . . . . خرج للنور نور الدين، فأنار الدروب، ووحد الصفوف، وجمع الشمل، وما هي إلا سنوات قليلة، حتى كانت دولته تمتد من بلاد فارس في الشرق إلى حدود ليبيا في الغرب، ومن هضبة الأناضول في الشمال، إلى جبال اليمن في الجنوب، فأصبحت مسألة النصر على الصليبيين مسألة وقتٍ ليس أكثر، بل إن محمود نور الدين لم يرَ نصر حطين بعينيه، على الرغم من أنه كان مؤمنًا بالنصر، لدرجة دعته لبناء منبر لكي يوضع في المسجد الأقصى بعد تحريره، ولكنه مات قبل ذلك، فلم يُقدّر له أن يحضره بنفسه إلى القدس، فأحضره تلميذه صلاح الدين الذي أكمل طريقه في مقارعة الصليبيين، فالمنبر المعروف باسم منبر صلاح الدين هو في الأصل ذلك المنبر الذي بناه نور الدين الشهيد رحمه الله (بقي هذا المنبر في المسجد الأقصى حتى يوم 21 آب (أغسطس) سنة 1969 م عندما أحرقه إرهابي صهيوني اسمه مايكل روهان!).
وعلى الرغم من مكانة الملك محمود نور الدين زنكي العظيمة، وعلى الرغم من عظمة سلطانه واتساع ملكه، فإنه كان يتوسل إلى اللَّه قبل كل معركة بخشوع المؤمن، ففي ليلة من الليالي، خرج نور الدين في عتمة الليل إلى فناء مهجور، وقد استعد بجيشه الصغير لقتال جحافل الصليبيين الذين يحاصرون مدينة "دمياط" المصرية، فرفع الملك محمود يديه في السماء، وسجد على الأرض، ولطخ رأسه بالتراب وأخذ يبكي ويدعو اللَّه بانكسار:
"اللهم إنك إن نصرت فدينك نصرت، فلا تمنعهم النصر بسبب محمود إن كان غير
مستحق للنصر، اللهم انصر دينك ولا تنصر محمودًا، من الكلب محمود حتى ينصر"
عندها رأى شيخ كبير من شيوخ المسلمين رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يقول له: "أعلم نور الدين أن الفرنج رحلوا عن دمياط هذه الليلة" فقال الشيخ: يا رسول اللَّه ربما لا يصدقني فاذكر لي علامة يعرفها، قال:"قل له بعلامة ما سجدت على تل حارم وقلت يا رب انصر دينك ولا تنصر محمودا من هو محمود الكلب حتى ينصر" فأسرع هذا الشيخ إلى المسجد الذي كان نور الدين يقوم فيه الليل وأخبره بالرؤيا والعلامة ولكنه لم يذكر لفظة (الكلب)، فقال له نور الدين رحمه الله:"اذكر العلامة كلها! "، فاستحى الشيخ أن يذكرها، فألح نور الدين في ذلك، فقالها له، فبكى نور الدين وصدق الرؤيا وكانت هذه الليلة بالفعل هي ليلة هزيمة الصليبيين ورحيلهم عن دمياط!
فرحم اللَّه نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي، ورحم اللَّه تلميذه صلاح الدين يوسف الأيوبي لما قدماه للإسلام والمسلمين، فهذا رجل تركي، والآخر كردي، فيا لروعة الإِسلام الذي نصره اللَّه بالتركي والكردي، فالإِسلام لم ينتصر بالعروبة، ولا بالقبلية، ولا بالأكراد أو الأتراك، الإِسلام انتصر بالمسلمين!
وإذا كنا قد تكلمنا عن البربر وعن الاكراد وعن الأتراك، فقد جاء الوقت لكي نتكلم عن رجالٍ خرجوا من عباءة قومية معينة، حملوا راية الإِسلام، ليرفعوها في علياء السماء، ليكونوا أعظم فرسانٍ للعلم في أمة الإِسلام العظيمة على الإطلاق، وليبشر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بهم من دون أن يراهم!
يتبع. . . . . .
(مُؤْمِنو الفُرْس)
" لَوْ كَانَ الإيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَنالَهُ رِجَالٌ مِنْ هَؤُلاءِ"
(رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم)
ربّما لاحظ البعض أنني من خلال هذا الكتاب ركزت على الهجوم على خونة الفرس في غير موضع، وهذا شيءٌ لا أنكره البتة، وليس عندي من الشك أدناه أنني لو أعدت كتابة هذا الكتاب من جديد، لتركت المجال لقلمي لكي ينزل على مرازبة فارس ما هو أشد وطأة مما كتبت! ليس ذلك من قبيل الحقد القومي أو النزعة العنصرية التي لا يحتاج القارئ الكريم لكثيرٍ من التأمل في صفحات هذا الكتاب ليكتشف أن كاتبه بعيدٌ كل البعد عنها، بل كان ذلك من باب إعطاء كل ذي حقٍ حقّه. . . . . .
فلقد مدحت البربر الأمازيغ في هذا الكتاب حتى خِلت نفسي بربريًا، ومدحت الأتراك في غير موضع حتى ظننت أنني أحد أحفاد عثمان أرطغرل، وأشدت بصلاح الدين وسليمان الحلبي بعد أن ذكرت أنهما كرديان، وترجمت لأبطالٍ منسيين من أمثال لابو لابو الفلبيني، وزومبي البرازيلي، والفرنسي موريس بوكاي، والأمريكي مالكوم إكس، والغيني عبد الرحمن بن سوري، والصعيدي علي الجرجاوي، والفارسي البطل سلمان الفارسي، ولمن كان له صبرٌ لمتابعة بقية أحداث هذا العمل لآخره سيجد أنني أذكر عظماء الإِسلام من الهنود بشكل يليق بعظمتهم، بل إن أول كتاب كتبته في حياتي كان عن عملاقٍ من أمة الفرس بالتحديد اسمه سلمان الفارسي، وواللَّه ما مدحت هؤلاء وهؤلاء في هذا الكتاب إلا إنصافا للتاريخ وابتغاءً لوجه اللَّه، وواللَّه ما هاجمت مجرمي الفرس في هذا الكتاب إلا إنصافا للتاريخ وابتغاءً لوجه اللَّه أيضًا!
فلقد اختار الفرس كقومية منذ ظهور المجرم (إسماعيل الصفوي) أن ينسلخوا من إسلاميتهم وأن ينضوا تحت عباءة فارسيتهم المجوسية، فاختاروا بذلك أن يكونوا في الصف المعادي لأمة الإِسلام، فكان حقًا علي محاربتهم بقلمي، وأقسم بالذي أنزل القرآن العربي على عبده العربي لو أن العرب كانوا قد انسلخوا من إسلاميتهم وفضلوا
الرجوع إلى جاهليتهم كما فضل الفرس الرجوع إلى مجوسيتهم، لهجوت العرب في هذا الكتاب بهجاءٍ يفوق هجاء جريرٍ للفرزدق!
ولا يحتاج المرء لأكثر من تذكرة سفر لطائرة متوجهة إلى حاضرة الفرس "طهران" لكي يرى بأم عينيه مظاهر انسلاخ الفرس عن الإِسلام، ولست في حاجة هنا إلى ذكره الأرقام التي تذكرها الحكومة الإيرانية عن نسب الدعارة المنتشرة في شوارع طهران أو مظاهر الانحلال الفاضحة التي يراها المرء في حدائق أصفهان، فهذا ليس لبّ الموضوع الذي يهمنا الآن، فالموضوع في أصله موضوعٌ عقائدي، فلقد لاحظت من خلال احتكاكي مع شباب فارس في أوروبا بأنهم يلبسون على أعناقهم سلاسلًا عليها نسرٌ مميز الشكل، ظننته في بادئ الأمر نوعًا من أنواع الزينة، ولكنني عندما رأيت هذا الأمر يتكرر، بحثت في حقيقة ذلك النسر لاكتشف أنه "نسر زرادشت المقدس"! وزرادشت يا سادة هو مؤسس الدين المجوسي!! ليس هذا فحسب، بل إن شعار الدولة الإيرانية المعاصرة والذي يعتقد كثيرٌ من المخدوعين بأنه عبارة عن رسمٍ للفظ الجلالة (اللَّه) ليس إلا شعار السيخ الهنود الذين انبثق من رحمهم الخميني، ولا أدري لماذا لا يرسم الفرس كلمة (اللَّه) بشكلٍ واضح كما رسمت المملكة العربية السعودية الشهادتين على علمها أو كما رسم الشهيد بإذن اللَّه صدام حسين على علمه بخط يده عبارة (اللَّه أكبر)! الغريب في الأمر أن إيران ما زالت تصر على تسمية الخليج العربي بالخليج الفارسي، على الرغم من أنها تدّعي الانتساب لشيعة علي العربي القرشي! بل إن إيران رفضت مقترحًا من منظمة المؤتمر الإِسلامي بتسميته بالخليج الإِسلامي!!! والذي لا يعلمه الكثير منّا أن العيد الوطني الرابع في إيران هو عيد مقتل الفاروق عمر الذي قتله الفارسي الإرهابي أبو لؤلؤة! وإيران الفارسية هي الدولة التي ما زالت تحتل أرضًا عربية متمثلة في الجزر الإماراتية والأحواز التي تمنع أهلها عن مجرد تعلم العربية لغة القرآن. وإذاعة إيران الرسمية تفتح إشارتها بلعن أصحاب محمد، ناهيك عن دور إيران القذر في العراق الجريح وتدريبها لميليشيات الغدر لقتل أهل السنة
والجماعة، وناهيك أيضًا عن دورها القذر في الاضطرابات التي يحدثها جواسيسها في المنطقة!
من أجل هذه الأسباب وغيرها هاجمت خونة الفرس، ولكنني في نفس الوقت سأدافع عن الفرس المسلمين الذين يلعنهم الفرس الصفويين ليل نهار، فالذي لا يعلمه الكثيرون أن أبا حنيفة الذي نبش شيعة الصفويين الأنجاس قبره في بغداد عند احتلالها هو فارسي الأصل، فالفرس كانوا منا وكنا منهم، بل إن أعظم علماء أهل السنة والجماعة كانوا جميعًا من الفرس، فلقد كان 90 % من الفرس من أهل السنة والجماعة حتى جاء القذر إسماعيل الصفوي ليغير دين الفرس بعد أن قتل مئات الآلاف منهم، لينسى عامة الفرس انتسابهم لعظماء أمة الإِسلام، مفضلين على ذلك انتسابهم لكسرى يزدجرد!
وهاكم قائمة ببعض أسماء علماء بلاد فارس الذين يتبرأ منهم الفرس الحاليون:
الإِمام البخاري، الإِمام أبو حنيفة النعمان، الإِمام النسائي، الإِمام الترمذي، الإِمام ابن ماجة، الإِمام أبو داود، الإِمام البيهقي، الإِمام الحاكم النيسابوري، الإِمام الدارقطني، الإِمام السجستاني، الإِمام الطبري، الإِمام الكسائي، أبو بكر الرازي، فخر الدين الرازي، الخوارزمي، سيبويه، وغيرهم الكثير من الذين لا يتسع المقام لعدّهم، والذين كانوا من أهم بناء هذه الحضارة الإِسلامية العربية!
وإذا جاء ذكر علماء الفرس، جاء ذكر أعظم عالم فارسي. . . . جاء ذكر عالم إسلامي عظيم كان كتابه ومازال أعظم كتاب موجودٍ على وجه الكرة الأرضية بعد كتاب اللَّه مباشرة!
يتبع. . . . .
" الهدف القادم لغزاة التاريخ"(البخاري)
" ما تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مثل هذا الرجل"
(إمام الأئمة ابن خزيمة)
تعجب تلاميذ إحدى الكتاتيب الصغيرة الواقعة في إحدى مدن خراسان من أمر طفلٍ يتيمٍ دون العاشرة كان يأتي إلى الكتّاب من دون ورقةٍ أو قلم، فقد كان شيخ الكُتّاب يروي عليهم أحاديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيسارعون هم إلى تدوينها، إلا ذلك الطفل لم يكن يكتب شيئًا على الإطلاق! ومرّت الأيام وهذا الطفل على حاله تلك، يأتي في صمت، ويعود في صمت، حتى جاء ذلك اليوم الذي سَخِر فيه التلاميذ من هذا الطفل الغريب، وعايروه بأنه لا يكتب شيئًا، فنظر الطفل الصغير إليهم نظرة الواثق وقال لهم: أخرجوا كراريسكم لأراجعها لكم! فأخرج التلاميذ كراريسهم وهم ينظرون بدهشة لهذا الطفل الصغير الذي بدأ يراجع لهم الأحاديث التي كتبوها على مدى أشهر حديثا حديثًا وهم يطابقون صحتها في كتبهم، فراجع لهم هذا الطفل الصغير الذي لم يبلغ العاشرة من عمره 15000 حديثٍ بمتونها وأسانيدها!!! لقد كان هذا الطفل الأعجوبة يُدعى (محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة ابن بردزبه)، وهو نفسه الذي سيطلق عليه بعد ذلك بسنوات قليلة وإلى يوم القيامة اسم: الإِمام البخاري!
والحقيقة أنني عثرت على روايةٍ عجيبةٍ في خضم إبحاري في سيرة الإِمام البخاري قد تفسر لنا سرّ تلك الذاكرة العجيبة التي كان يتمتع بها البخاري، تقول هذه الرواية أن البخاريّ كان قد عمي في صغره، ففقد بصره بالكلية، فأخذت أمه تبكي على ابنها الوحيد بكاءً شديدًا وتدعو اللَّه أن يرجع له بصره، وفي ليلة من الليالي رأت تلك الأمة الصالحة في المنام نبي اللَّه إبراهيم الخليل عليه السلام فقال لها: يا هذه قد رد اللَّه على ابنك بصره! فاستيقظت الأم من نوها وأسرعت إلى طفلها لتجد أن بصره قد عاد إليه! الشاهد في هذه
الرواية أمران، الأول هو أن سر ذاكرة البخاري القوية يكمن في فقده لبصره في طفولته، فالمعلوم طبيًا أن هناك خاصية عجيبة خلقها اللَّه في جسم الإنسان، ألا وهي خاصية "التعويض الوظيفي" وتنص على أن الجسم البشري إذا ما فقد حاسة من حواسه، فإن قوة الحواس الأخرى تزيد بشكل يعمل على سد الثغرة الحسية التي نتجت عن فقده لتلك الحاسة، وهذا ما يفسر قوة السمع والحفظ للطفل الأعمى، أما في حالة البخاري فقد اكتسب دماغه أثناء عماه تلك الخاصية الاستثنائية على ما يبدو، ثم ردّ اللَّه عليه بصره، فصار البخاري يجمع بين ذاكرة الأعمى، ونظر المبصر، فأصبح إنسانًا استثنائيًا! أما الشاهد الثاني فهو أن البخاري مختارٌ من اللَّه الذي هيأه لهذه المهة الخطيرة، مهمة حفظ وحي السماء الذي جاء على صورة أحاديث رسول اللَّه، فهناك خطأ شائع لدى البعض ممن يعتقدون بأن اللَّه تكفل بحفظ القرآن فقط بقوله:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} ، فالذكر هو الوحي الإلهي الذي نزل على صورة القرآن أو الأحاديث القدسية أو أحاديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الذي لم يكن ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} ، وحفظ هذا الذكر يتطلب رجالا يحفظون القرآن كعثمان ابن عفان، ويحفظون الأحاديث كالبخاري ومسلم، ويحفظون سيرة الرسول وسيرة أصحابه الذين حفظوا لنا القرآن والسنة: وهذا ما قام به أئمة المؤرخين من أمثال الطبري وابن كثير، ويتطلب أيضًا رجالًا مثلي ومثلك يقومون بالدفاع عن سيرة أولئك كلهم، والذين نقلوا الإِسلام لنا، والذين لو استطاع غزاة التاريخ أن ينالوا من سمعتهم وسيرتهم، لسقط هذا الدين بالكلية، ولأصبحنا أنا وأنت مجرد قطيعٍ بلا راعي!
وهذا بالضبط ما نحاول صنعه في هذه السطور القليلة، فليس الغرض من هذا الكتاب مجرد سرد الحكايات والقصص المسلية، بل الهدف الأساسي منه هو الدفاع عن دين اللَّه في هذه الفترة الزمنية الحرجة التي يحاول فيها غزاة التاريخ أن ينالوا من دين اللَّه بالهجوم على ثوابته ورموزه بعد أن عجزوا لمئات السنين من أن يتخلصوا من المسلمين أنفسهم بعد ما قضوا مئات السنين يحاولون ذلك بمجازرهم ومذابحهم، فما وجدوا إلا ازديادًا لأعداد المسلمين رغم كل ذلك!
فهناك ظاهرة طفت على السطح في السنوات الأخيرة بالذات، أحسب أنني لم أسمع
بظهورها في تاريخ المتقدمين أو المتأخرين، لقد خرج علينا أناسٌ من بني جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، وينتسبون إلى الإِسلام، بل ويدعون التقوى والصلاح، ليطعنوا بالبخاري وصحيحه بالذات، والذي يعتبر أصح كتابٍ على وجه الأرض بعد كتاب اللَّه عز وجل، ولو علم هؤلاء المنافقون أن الإِمام البخاري قضى 16 عامًا من زهرة شبابه في كتابة هذا الكتاب فقط لما تجرأوا على جريمتهم تلك، بل الأخطر من ذلك أنه ظهرت في الآونة الأخيرة مجموعة خطيرة من المنافقين ممن يُسمّون بـ "القرآنيين" هؤلاء المجرمون لا يطعنون في البخاري فحسب، بل لا يعترفون بالسنة النبوية أصلًا، ويدّعون كذبًا وبهتانًا أن المصدر الوحيد للتشريع الإِسلامي هو القرآن فقط، وأن أحاديث المصطفى كانت تخص الصحابة فقط، وإلى أولئك السفلة الذين يعلمون أننا نعلم أنهم يكاذبون أقول: ألم يقل اللَّه سبحانه وتعالى في القرآن الذي تتشدقون به: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} ، فهل طاعة الرسول تكون بغير الإلتزام بأحاديثه؟! أم أننا يجب أن نذهب إلى قبره لكي ننتظر منه الأوامر؟!! فقبحًا لكم ماذا أبقيتم لنا من هذا الدين؟ وأي دين تتبعون يا عبّاد الدولار؟ الغريب أن الفضائيات صارت تعطي كل من يطعن بالبخاري بالتحديد المجال الواسع لبث سمومه على عامة المسلمين! فصار كل من هبَّ ودبَّ يطعن في البخاري، وكأن الإِمام البخاري كان طفلًا يلعب معهم في رياض الأطفال! فاللَّه اللَّه في البخاري، واللَّه اللَّه في الدفاع عن السنة التي حفظها لنا الإِمام!
وإذا كان اللَّه قد أخرج لأمة النبي العربي رجلًا فارسيًا ليحفظ لها أحاديث رسولهم الصحيحة بعد موته بـ 200 عام، فإن اللَّه سبحانه تعالى أخرج للمسلمين من على قمم جبال البلقان في أوروبا رجلًا ألبانيًا حمل راية الجرح والتعديل للأحاديث النبوية بعد 1300 عام من موت النبي، ليصبح هذا الرجل الأوروبي بكل استحقاق "محدِّث الأمة"!
يتبع. . . . . .
" مُحَدِّث الأمَّة"(محمد ناصر الدين الألباني)
" ما رأيت تحت أديم السماء عالمًا بالحديث في العصر مثل العلامة محمد ناصر الدين الألباني"
(الشيخ عبد العزيز بن باز)
ما أعظم هذا الدين! فكلما تعمقت أكثر في تاريخ الإِسلام وتاريخ عظماء أمة الإِسلام، أدركت حجم النعمة التي نحن فيها، وأدركت عِظم هذا الدين الذي نحن عليه. فما الذي جعل رجلًا من أقاصي بلاد فارس ينذر حياته كلها في جمع أحاديث بلغة ليست بلغته، لنبي ليس من قوميته؟ وما الذي دفع رجلًا أوروبيًا ليس فيه جذورٌ عربية -عدنانية كانت أو قحطانية- أن يسخر كل حياته لكي يصحح الأحاديث المروية عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليفصل منها الغث من السمين، وليحمل راية الجرح والتعديل في أصعب زمنٍ مرت به الأمة الإِسلامية على الإطلاق؟! إننا في صدد الحديث عن رجلٍ اعتبره كبار علماء هذه الأمة مجدد الإِسلام في القرن الأخير، إننا نتحدث عن الشيخ محمد ناصر الدين الألباني -رحمه اللَّه تعالى- الذي سخر عمره في تصحيح وتحرير سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
وقبل أن نتحدث عن الشيخ الألباني رحمه الله، أرى أنه من الواجب أن نتكلم قليلًا عن "ألبانيا"، البلد الذي ينتسب إليه هذا العالم الإِسلامي العظيم، فمن منا يعلم أن في قلب أوروبا المسيحية بلدٌ إسلامي اسمه ألبانيا؟ من منّا سمع باسم "تيرانا" تلك العاصمة الإِسلامية لهذا البلد؟ بل من منا سمع باسم ألبانيا أصلًا في حياته كلها؟!! واللَّه يا إخوة إن حال هذه الأمة لن يتغير إذا لم نغير نحن من أنفسنا أولًا، فلا يستقيم أبدًا أن نحمل شرف أن يقال علينا أننا أتباع محمد بن عبد اللَّه الذي علّم البشرية كلها معنى العلم
ونحن بهذه الدرجة المتخلفة من الثقافة! ولا يستقيم أبدًا -وأوجه كلامي هنا خاصة لطلبة العلم الشرعي- أن نهتم بحفظ القرآن الأحاديث ودراسة الفقه والعقيدة ونهمل الاضطلاع على أمور العالم من حولنا لدرجة تجعلنا معزولين بالكلية عن العالم الخارجي وما يدور من حولنا! فما هكذا كان أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الذين كانوا أعلم منا بألاف المرات بالقرآن والسنة، فالذي لا يعرفه الناس عن الصحابة الكرام رضوان اللَّه عليهم أنهم كانوا يتعلمون اللغات الأجنبية، وكانوا يحفظون الشعر وينظمونه دفاعًا عن دين اللَّه، وكانوا على دراية كبيرة بعلوم الزراعة والتجارة والصناعة بل وحتى علوم التاريخ والجغرافيا، والذي لا يعرفه الكثيرون عن أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه أنه كان عالمًا كبيرًا من علماء التاريخ الإنساني وعلماء الأنساب على مستوى الجزيرة العربية كلها، مما أهله لكي يكون مستشار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في مفاوضاته مع القبائل العربية قبل الهجرة. وزيد بن ثابت الأنصاري رضي اللَّه وأرضاه (وهو الشاب الذي كلفه عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه بقيادة فريق الصحابة لجمع القرآن الذي هو بين أيدينا الآن) تعلم العبرية في وقت قياسي بناءً على أمر شخصي من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأضاف إليها السريانية، مما أهله ليكون ترجمان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وليسأل كل واحدٌ فينا نفسه: هل لو كنت تعيش في زمن الصحابة، أكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سيستعين بك في شيء، أم أن ما في جعبتك من علوم الدنيا لا يؤهلك لخدمة رسول العالمين في شيء؟!!
وألبانيا يا سادة دولة إسلامية في منطقة البلقان الأوروبية، التي كانت جزءً من ديار الإِسلام لما يزيد عن 500 عام في ظل الخلافة الإِسلامية العثمانية الراشدة، وقد يُفاجأ البعض عند علمهم أن الإِسلام دخل إلى ألبانيا مبكرًا، وبالتحديد مع القرن الأول الهجري في ظل دولة الأمويين! فلقد بعث بنو أمية الدعاة والتجار إلى البلقان لينشروا الإِسلام هناك، فأسلم الألبان عن بكرة أبيهم، ليبدأ مسلسل مجازر الصرب الأرثذوكس على المسلمين منذ ذلك الوقت المبكر، وحتى الآن!
وفي عام 1333 هـ - 1914 م وُلد لشيخٍ طيبٍ من شيوخ عاصمة ألبانيا القديمة "أشقدورة" هو الحاج (نوح بن نجاتي بن آدم الأشقودري) طفل أسماه محمدًا تيمنًا
برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وصادف ذلك الزمن ظهور رئيسٍ مجرمٍ في ألبانيا اسمه (أحمد زوغلو)، هذا الرئيس كانت له اتجاهات غربية، فمنع النساء من ارتداء الحجاب، وأغلق، المدارس الدينية، وفرض الفكر الغربي على المسلمين هناك. فقرر الحاج نوح أن يترك الدار والأهل ليهاجر في سبيل اللَّه إلى أرض الشام المباركة، وصدق رسول اللَّه إذ قال:"من كانت هجرته للَّه ورسوله، فهجرته للَّه ورسوله"، فقد كافأ اللَّه الحاج نوح على تضحيته بأن جعل من ابنه محمد إمام عصره وزمانه، ليكون بالفعل ناصر الدين في هذا الزمن، فلقد علم الحاج نوح ابنه محمدًا على يديه، فوضع له برنامجًا صارمًا في حفظ القرآن والحديث والنحو والتصريف، وفي نفس الوقت علمه مهنة إصلاح الساعات ليكون واحدًا من أشهر أرباب هذه المهنة في الشام كلها، فالألباني يا إخوة الذي صحَّح أحاديث محمد بن عبد اللَّه في مصنفاتٍ ضخمة لم يكن "دكتورًا جامعيًا" أو "أكاديميًا مروموقًا" بل كان "ساعاتيًا"! فهل قدمتم يا دكاترة هذا الزمان عُشر مِعشار ما قدمه هذا الساعاتي للإسلام؟ فإذا ما قرأت حديثًا لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ووجدت من تحته عبارة "صححه الألباني" فاعلم أن فضل ذلك يعود لهذا العالم الإِسلامي العظيم!
ولكن الألباني ومِن قبله البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم، ما كانوا ليكونوا ما كانوا عليه، لولا كينونة كائن نحيلٍ كان لا يكُنُّ في كيانه أيَّ شيءٍ كان يقوله أعظم كائنٍ كان في الكون. . . . كونوا معنا!
يتبع. . . . .
"فما خُلق مؤمن يسمع بي ولا يراني إلا أحبني! "
(أبو هريرة)
" أنت أعلمنا يا أبا هريرة برسول اللَّه وأحفظنا لحديثه"
(عمر بن الخطاب)
في السنة العاشرة من البعثة النبوية، قدم إلى مكة سيدٌ من أعظم أشراف اليمن وشعرائها يقال له:(الطفيل بن عمرو الدوسي)، فما إن وصل مكة حتى استقبلته قريشٌ استقبالًا يليق بسيدٍ من سادات العرب، وبينما هو بينهم اقتربوا منه ليحذروه من رجلٍ من بني هاشم اسمه محمد بن عبد اللَّه قائلين له:"يا طفيل. . . . إنك قدمت بلادنا، فاحببنا أن نحذرك من رجلٍ ظهر في قومنا، وقد فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر يفرق بين الرجل وبين أبيه وبين الرجل وبين أخيه وبين الرجل وبين زوجته، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمنه ولا تسمعن منه شيئًا! " وظل كفار قريش يحذرون هذا السيد اليماني حتى خاف بالفعل وقرر في نفسه أن لا يسمع من ذلك الرجل ولا يكلمه بأي شيء، ليس ذلك فحسب، بل إن آلة قريش الإعلامية خوفت هذا الرجل الغريب من ذلك (الإرهابي) لدرجةٍ جعلت الطفيل يحشو أذنيه بشيء مثل القطن حتى لا يسمع شيئًا من ذلك الرجل! فانطلق الطفيل إلى الكعبة، فإذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة ويتعبد، فقام الطفيل منه قريبًا، فأبى اللَّه إلا أن يسمعه بعض قوله بالرغم من أن أذنيه محشوتان بالقطن، فسمع الطفيل كلاما حسنًا، فقال في نفسه:"واثكل أمك يا طفيل! واللَّه إنك لرجل لبيب شاعر ما يخفى عليك الحسن من القبيح، فما يمنعنك أن تسمع من هذا الرجل ما يقوله، فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلته، وإن كان قبيحا تركته! " فمكث الطفيل يستمع خفية إلى الرسول حتى انصرف إلى بيته، فتبعه الطفيل سرًا، حتى إذا دخل بيته دخل عليه وقال: "يا محمد إن قومك قالوا لي كذا وكذا، فواللَّه ما برحوا يخوفونني أمرك حتى سددت أذني بكرسف لئلا أسمع قولك، ثم أبي اللَّه
إلا أن يسمعني قولك، فسمعته قولا حسنا، فأعرض علي أمرك" فعرض عليه رسول اللَّه الإِسلام وتلا عليه القرآن، ويقول الطفيل وهو يروي هذه القصة: "فلا واللَّه ما سمعت قولًا قط أحسن منه ولا أمرا أعدل منه، فأسلمت، وشهدت شهادة الحق". وبعد ذلك رجع الطفيل بن عمرو الدوسي إلى اليمن وأخذ يدعو قومه للإسلام، حتى جاءت السنة السابعة للهجرة، فتفاجأ المسلمون بمجيئ الطفيل بن عمرو الدوسي بسبعين عائلة من أهل اليمن أسلموا كلهم على يديه! كان من بينهم شاب نحيل لم يتجاوز الـ 26 من عمره تبدو عليه ملامح الفقر المتقع والبؤس الشديد اسمه: (عبد الرحمن بن صخر الأزدي)، كانت له هرة صغيرة يحملها على كتفيه يطعمها ويعطف عليها، ستصبح فيما بعد أشهر هرةٍ خلقها اللَّه منذ بداية الخلق، فلقد كنّى الناس هذا المسكين بـ (أبي هريرة)، وهو نفس الاسم الذي سيتردد بعد ذلك في سجل العظماء إلى يوم القيامة. وقبل أن نغوص أكثر في قصة هذا الشاب الرائع، أستسمح القارئ الكريم عذرًا لنقف قليلًا عند قصة إسلام السيد العظيم الطفيل ابن عمرو الدوسي رضي الله عنه وأرضاه، والحق أقول أن هذه القصة لها دلائل عظيمة يصعب حصرها، ولكن الملاحظة المهة هي أن الكفار شوّهوا صورة الإِسلام وصورة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لدرجة دفعت هذا السيد الشاعر أن يحشو أذنيه بالكرفس خوفًا من ذلك الرجل المسلم الذي صورته "وكالات الأنباء القرشية" بـ "الإرهابي الخطير! "، فلم يكتفِ اللَّه سبحانه وتعالى بأن جعله مسلمًا فحسب، بل جعله سببًا لإسلام أبي هريرة، أعظم "وكالة أنباء" إسلامية في التاريخ الإِسلامي بأسره! وكأن هذه القصة تفسر قول اللَّه تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} ولاحظ هنا أن اللَّه قال "بأفواههم"، والفوه -أي الفم- هو مصدر الكلام والدعايات، فما أشبه اليوم بالأمس! فلا تكاد تجد وسيلة إعلام عالمية حتى تجد أمامك تشويه مخيف لصورة المسلمين، فأبشروا عباد اللَّه بفتحٍ قريب، كالفتح الذي جاء به الطفيل بن عمرو الدوسي جزاه اللَّه خيرًا، والذي ربّما لو لم تذكر له قريش محمدًا، لما استمع إليه أصلًا، ولما جاء بعد ذلك بأبي هريرة أكثر من نقل حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على وجه البرية. وإذا كان المرء قد تعجب من قصة "ذي النور" الطفيل ابن عمرو الدوسي رضي الله عنه وأرضاه، فإن المرء ليتعجب أكثر من قصة أبي هريرة نفسه! فعبد الرحمن
الأزدي والذي لا يخلو كتاب يتحدث عن الإِسلام من ذكر كنيته الشهيرة "أبي هريرة"، لم يصحب الرسول لأكثر من 4 سنوات فقط من أصل 23 سنة هي عمر الدعوة المحمدية، وهو مع ذلك أكثر من نقل الحديث من الصحابة!. . . . فكيف نفسر ذلك؟! والحقيقة أن اللَّه تعالى وعلى الرغم من قدرته اللامحدودة يسخر الأسباب لكل شيء، فكما كان عمى البخاري سببًا في قوة ذاكرته، فإنه سبب الأسباب أيضًا لعبده أبي هريرة لكي يحفظ هذا القدر الكبير من الأحاديث في تلك الفترة الوجيزة (حوالي 4026 حديث)، فلقد كان أبو هريرة مسكينًا لا يملك تجارة يعمل بها ولا أرضا يحرثها ولا عائلة يرعاها! أي أن أبا هريرة كان باختصار شابًا معدمًا لا يملك حتى قوت يومه، لذلك استغل كل وقته في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، ولِندع طلحة بن عبيد اللَّه يفسر لنا سر كثرة أحاديث أبي هريرة بنفسه:"واللَّه ما نشك أنه قد سمع من رسول اللَّه ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، إنا كنا قومًا أغنياء، لنا بيوتات وأهلون، وكنا نأتي رسول اللَّه طرفي النهار ثم نرجع، وكان هو مسكينًا لا مال له ولا أهل، وإنما كانت يده مع رسول اللَّه وكان يدور معه حيث دار، فما نشك أنه قد علم ما لم نعلم، وسمع ما لم نسمع".
فجزاك اللَّه كل خير يا أبا هريرة لما قدمته للإسلام وللمسلمين، وإن كنت مسكينًا في حياتك، فهنيئًا لك الجنة أيها الشاب اليماني البطل، فأبشروا يا أهل اليمن، فواللَّه لو لم يكن فيكم إلا أبو هريرة لكفاكم شرفًا في التاريخ، ولكنكم أيها اليمانيون أبيتم إلا أن تقدِّموا للأمة أعظم رجالها، وأشجع فرسانها، فبورك فيكم يا أهل اليمن، وبورك في يمنكم التي أخرجت للبشريية بعد ما يزيد عن أحد عشر قرنًا من موت أبي هريرة اليماني عظيمًا يمانيًا آخر من عظماء أمة الإِسلام، خلّد اسمه في سجل المائة بكتاب عظيمٍ يحمل توقيعه، أطلق عليه اسم "نيل الأوطار"، فطار ذكره، وعلا صيته، وأصبح مرجعًا لا يستغني عنه أي طالب العلم!
يتبع. . . .
"يا أهل اليمن. . . . اقبلوا البشرى! "
(الإمام الشوكاني)
" يطلع عليكم أهل اليمن كأنهم السحاب، هم خيار من في الأرض"
(رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم)
ما اختص رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أهل أرضٍ بالمديح والثناء، بمثل ما اختص به أهل الشام وأهل اليمن، فلقد أكثر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالدعاء لأهل تلك البلاد بالذات، فكان يكثر بالدعاء لهم بالبركة عن باقي شعوب الأرض، ففي الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري عن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما أنه قال:"اللهم بارك لنا في شامنا وبارك لنا في يمننا" إلى آخر الحديث. وأخرج البخاري عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "أتاكم أهل اليمن، هم أرق أفئدة وألين قلوبًا، الإيمان يماني، والحكمة يمانية". والحقيقة أنني استشعرت شخصيًا معنى هذا الحديث الشريف من خلال معاشرتي للشباب اليمانيين في أوروبا، فالشباب اليماني له ميزة خاصة في الأدب ودماثة الأخلاق قلّما تجدها في غيرهم، ولا ريب من ذلك بعد أن شهد لهم أصدق رجل في تاريخ البشرية بامتلاكهم لهذه الأخلاق الحميدة، فهذه الأرض هي التي أنبتت للمسلمين رجالًا مثل الطفيل بن عمرو الدوسي وأبي هريرة وأبي موسى الأشعري وأويس القرني وغيرهم من صحابة اليمن رضوان اللَّه عليهم أجمعين، وهذه الأرض هي التي خرج منها المجاهدون الذين فتحوا الشام ومصر والعراق، وهذه الأرض هي التي خرج منها التجار الحضارمة الذين نشروا الإِسلام في أفريقيا الشرقية وأندونيسيا وماليزيا وجنوب شرق آسيا كله، وهذه الأرض هي نفسها التي أنبتت للإسلام بطل قصتنا الحالي!
ففي سنة 1173 هـ الموافق 1759 م، وُلد في بلدة "هجرة شوكان" من بلاد "خولان" باليمن طفل لعائلة زيدية كبيرة أسماه أبوه محمدًا، هذا الطفل سينسب بعد ذلك إلى بلدته تلك، ليعرف في التاريخ باسم "الإِمام الشوكاني"، فيكون بذلك من أهم علماء الإِسلام على
الإطلاق، بعد أن ترك كتابًا للإنسانية، صُنّف كواحدٍ من أروع كتب العقيدة الإِسلامية، إننا نتحدث عن الإِمام المجتهد المفسر الفقيه (محمد بن علي ابن محمد الشوكاني الصنعاني اليماني) صاحب الكتاب الأعجوبة "نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار".
واستسمحكم مرة أخرى. . . . . لنقف قليلًا قبل الخوض في بحار سيرة الشوكاني، ولكن هذه المرة لكي نأخذ خلفية بسيطة عن إخواننا من المذهب الزيدي الذي ينتمي إليه الإِمام الشوكاني، أو بالأصح المذهب الذي كان ينتمي إليه الشوكاني قبل أن يرجع لأصول هذه الأمة التي لا تعرف المذاهب، وأحدد أكثر، المذهب الذي وُلد عليه الشوكاني قبل أن يتركه ويترك كل المذاهب ليعود إلى الدين الإِسلامي الذي كان عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين قبل إنشاء الفرق والمذاهب!
فالزيدية مذهب من مذاهب الشيعة، إلا أنهم لا يتركون بناتهم للمتعة، ولا يسبُّون أبا بكر وعمر، ولا يتهمون زوجات الرسول بالزنى، والأهم من ذلك. . . . لا يخونون! أي أنهم أقرب للسنة منهم للشيعة، إلا أنهم يرون أن علي بن أبي طالب أفضل من أبي بكر وعمر! وهذا شيء لا يخرجهم أبدًا من دائرة الإِسلام، ولا يخرجهم من كونهم إخوة لنا (وهذا لا يعني أنهم على حق باعتقادهم بأفضلية علي!). أما لماذا سمّوا بالزيدية، فلإنهم ينتسبون إلى الإِمام (زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب)، وقد كان إمام كل الشيعة في زمانه، ولكن طائفة من أتباعه سألوه عن رأيه في أبي بكر وعمر، فترحَّم عليهما، فأبوا عليه ذلك وطلبوا منه أن يلعنهما، فرفض حفيد رسول اللَّه أن يلعن أصحاب جده، فرفضوه، وانشقُّوا عن فرقته، وتلك الفرقة اللعّانة هي التي سمِّيت في التاريخ باسم الرافضة، ذلك لأنهم رفضوا رأي زيد بن علي، وهؤلاء سيكون منهم من يؤسّس بعد ذلك مذهب "الاثني عشرية"، وهم أغلبية الشيعة في هذا الزمان وهو مذهب شيعة فارس وأتباعها والذي قتلناه بحثًا في هذا الكتاب، أم الشيعة الذين لم يخونوا إمامهم زيد بن علي رحمه الله، فهم إخوتنا الزيدية الذين يتمركزون باليمن. ولكن قبل أن نترك موضوع الزيدية بقي أن أنبه على نقطة خطيرة، ففي السنوات الأخيرة اتجه (الخميني) وأتباعه لإحياء مسجد إمبراطوريتهم الفارسية المجوسية (التي كانت اليمن جزء منها في عهد الساسانيين!)، فقامت إيران برشوة أحد زعماء الزيدية ويدعى بـ (حسين بدر الدين
الحوثي)، فأخذوه إلى وكر الإرهاب في "قم" ليعلموه هناك لعن الصحابة الكرام واتهام أم المؤمنين عائشة بالزنى، وفعلًا عاد هذا الرجل إلى اليمن بأموالٍ فارسية لينشأ ميلشيات مسلحة في مدينة "صعدة"، فيشعل نار الفتنة بأسلحته الإيرانية، وأشرطته الصوتية التي ينشر فيها ثقافة اللعن التي تعلمها في فارس، وليمهد بذلك لعودة الفرس من جديد لليمن العربي، لتشتعل نار الفتنة بسببه، وليكون أغلب ضحاياها من إخواننا الزيديين، الذين لا يعلمون شيئًا عن خطر المخطط الفارسي في المنطقة، والذي يسعى لإعادة استعباد العرب. أما الإِمام الشوكاني الذي كان سيدًا من سادات الزيدية فقد كان على العكس من الحوثي، فلم يستجب لنداءات الفرس الراغبة في استعادة اليمن العربي إلى سيطرتها، بل استجاب لنداء العقل، فتحرَّر من قيد التقليد، وحارب البدع التي انتشرت عن قبور الصالحين، وقاوم كل من يحاول سب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وسأل نفسه أسئلة منطقية كانت سببًا في خلوده في صفحات الزمان، فقد سأل الشوكاني نفسه: أي المذاهب كان رسول اللَّه يتبع؟ هل كان شيعيًا؟ زيديًا أم اثني عشريًا؟ هل كان عمر مالكيًا؟ أم هل كان بلال حنفيًا؟ هل كان الأنصار شافعيين؟ أم تراهم كانوا على مذهب أبي حنيفة النعمان؟!! ومن خلال هذه الأسئلة المنطقية أدرك الشوكاني أن الأجدر به أن يعود للمصادر الأصلية للإسلام التي كانت قبل ظهور الفرق والمذاهب، وفعلًا كتب كتاب "نيل الأوطار" الذي يوضح فيه للمسلمين أساس العقيدة الصحيحة المبنية على الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة الكرام، ليكتب اللَّه لهذا الكتاب القبول الأرض، ولتطير أخباره في الهند والمغرب ومصر والشام، ليخلد التاريخُ الإمامَ الشوكاني بحروفٍ من ذهب، بعد أن حرر نفسه من عبودية التقليد الأعمى.
ومن اليمن نفسها. . . . نركب فرسًا عربيةً أصيلة لنرافق قبيلة "الأزد" اليمانية وهي تهاجر إلى الشمال بعد انهيار "سد مأرب" الشهير، ليستوطن بعض رجال هذه القبيلة القحطانية مدينة في شمال الحجاز يقال لها "يثرب"، ليغير أولئك العرب الأقحاح بعد ذلك بسنوات تاريخ البشرية إلى الأبد!
يتبع. . . . .
"لا يحبهم إلّا مؤمن، ولا يبغضهم إلّا منافق"
(الأنصار)
" فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد"
(سعد بن معاذ الأنصاري)
على الرغم من ذكري للصحابة في بداية هذا الكتاب، إلا أنني رأيت أنه لا يستقيم أبدًا أن أكتب كتابًا عن العظماء من أمة الإسلام من دون أن تكون هذه الفئة البشرية النادرة إحدى النماذج العظيمة التي يجب أن تأخذ بعض حقها في هذا الكتاب، فالأنصار حالة استثنائية من الصحابة، أو بالأصح حالة استثنائية من البشر، فلقد تميز الأنصار بميزة ميَّزتهم عن بني آدم كلِّهم، هذه الميزة هي ميزة "الإيثار"! والإيثار: يعني أن تعطي غيرك كل ما لديك وأنت في أمس الحاجة إليه! ولنستمع إلى قول اللَّه يفسر لنا هذه الخاصية العجيبة للأنصار: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} [الحشر: 9]، والخصاصة لغة تعني الفقر، فالحقيقة التي تغيب عن كثيرٍ منّا أن الأنصار كانوا فقراء شديدي الفقر، وربما ظنهم البعض أغنياءً من كثرة عطاءاتهم لإخوانهم من المهاجرين، وسرّ فقر الأنصار يكمن في كونهم أصلًا من المهاجرين! فالأنصار جزءٌ من قبيلة "الأزد" اليمانية التي كانت تسكن في اليمن السعيد مستفيدة من الرخاء الإقتصادي الذي كان يوفره لهم سد مأرب، ولكن مع انهيار سد مأرب عام 542 م، دخلت اليمن في مرحلة كبيرة من القحط والفقر، فلقد أرسل اللَّه على اليمن سيلًا سُمّي بـ "سيل العَرِم" وهو السيل الذي ذكره اللَّه في القرآن بقوله:{فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} [سبأ: 16] فهلكت بذلك كل البساتين والكروم والحدائق التي بقي السبئيون يرعونها لعدة قرون، فعانى السبئيون بعد انهيار السد من فترة ركود طويلة
لم تقم لهم قائمة بعدها، لتهاجر القبائل اليمانية من اليمن بعد أن انعدمت سُبل الحياة هناك، وكان فيمن هاجر قبيلة يقال لها "قبيلة الأزد"!
والأزد هو الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر (وهو هود عليه السلام ابن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه وعلى نبينا السلام. فهاجرت قبيلة الأزد إلى الشمال، فانقسمت عدة انقسامات، فاستوطن فرعٌ منها يُسمى بـ "الغساسنة" جنوب سورية وشمال الأردن ليكونوا مملكة "الغساسنة"، وسكن في مكة فرعٌ آخر لم يستطع أن يكمل الهجرة إلى الشمال فتخزّع (أي تأخّر) في الطريف فسُمّي لذلك بـ "خزاعة"، وسكن قسم ينتمي لرجل اسمه عمرو بن عبد اللَّه في المنطقة التي تعرف ببلاد "غامد" في السراة وشبه السراة وتهامة، وقد وقع بين عمرو هذا وبين عشيرته شر فتغمّد ذنوبهم -أي غطاها- ومنه الغمد، فسميت قبيلته بـ "غامد"، واستوطن أزدي آخر اسمه عامر بن حوالة بن الهنو بن الأزد ويقال له "الباقم" بوادٍ خصيب ذي زرعٍ وافر يقع شرقي مدينة مكة اسمه "وادي تربة"(وإليه يُنسب الترابين أجداد مؤلف هذا الكتاب!) أما القسم الأهم والذي يعنينا هنا هو قسم استوطن مدينة "يثرب" شمال الحجاز، هذا القسم كان ينقسم بدوره إلى قبيلتين هما "الأوس" و"الخزرج" وهما من أولاد خزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو ابن عامر بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، وهم الذين سينصرون بعد ذلك اللَّه ورسوله، ليسمّوا باسم جديدٍ سيبقى محفورًا في ذاكرة التاريخ: الأنصار!
وفي الوقت الذي امتنعت فيه أعظم القبائل من نصرة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى بعد معرفتهم بصدق دعوته (كقبيلة "شيبان" مثلًا) عرض "الأوس" و"الخزرج" على رسول اللَّه إيواءه ونصرته في مدينتهم بسرعة مدهشة!، وسأعرض الآن خمس عوامل ساعدت على الإسلام السريع للإنصار:
العامل الأول: اليهود!
قد يعجب البعض أن "اليهود" كانوا أهم عنصرٍ عمل على إسلام الأنصار السريع!، فلقد كان اليهود يهددون الأوس والخزرج بأنهم سيقتلونهم قتل عاد وإرم عندما يأتي نبي آخر الزمان الذي سيتبعونه!! فما إن اجتمع رسول اللَّه بنفرِ من الأوس والخزرج في مكة
يدعوهم للإسلام حتى قال بعضهم لبعض: "يا قوم، تعلمون واللَّه إنه للنبي الذي تدعوكم به اليهود، فلا تسبقنكم إليه" فأعلنوا إسلامهم على التو واللحظة. ولكن السؤال الذي غاب عن ذهن الكثيرين من دارسي السيرة، ألا يستغرب البعض بأن اليهود استوطنوا "يثرب" بالذات وما حولها من بلدات مثل "خيبر" و"تيماء"؟!! الحقيقة أن اليهود كانوا ينتظرون نبي آخر الزمان في تلك المنطقة لعلمهم بأنه سيهاجر إليها، ولقد رأينا في قصة سلمان الفارسي أن صاحب عمورية أوصاه بالهجرة إلى يثرب وإن لم يحددها بالاسم، ولقد وجدت في "الكتاب المقدس" شيئًا عجيبًا يدل على معرفتهم التامة بمكان هجرة الرسول، فقد ورد في (سفر أشعياء) الإصحاح 21 ما يلي:" (وحي من جهة بلاد العرب. في الوعر في بلاد العرب تبيتين يا قوافل الددانيين 13 هاتوا ماء لملاقاة العطشان يا سكان ارض تيماء وافوا الهارب بخبزه 14 فانهم من امام السيوف قد هربوا. من امام السيف المسلول ومن امام القوس المشدودة ومن امام شدة الحرب 15 فإنه هكذا قال لي السيد في مدة سنة كسنة الاجير يفنى كل مجد قيدار 16) وتيماء تقع شمال المدينة، والمتمعن لهذا الإصحاح يرى فيه قصة الهجرة التي هاجر فيها المسلمون خوفًا من بطش قريش، وقيدار اسم من أجداد قريش، بل يجد أيضًا حربًا ستحدث "في مدة السنة" بعد الهجرة، وهي المدة التي حدثت بعدها معركة بدر الكبرى!!!
العامل الثاني: يوم بُعاث
وهو اسم لمعركة طاحنة وقعت بين أبناء العمومة من الأوس والخزرج بمكيدة من يهود يثرب قبل الإِسلام بخمس سنوات فقط! قتل فيها أعظم زعمائهم وقادتهم الكبار، فأحس الأوس والخزرج أنهم بحاجةٍ إلى رجلٍ حكيمٍ يوحّد صفوفهم من جديد، فكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمثابة المنقذ للأنصار.
العامل الثالث: الجذور اليمانية!
وهو عنصر مهم أيضًا، فسكان اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبًا من باقي القبائل العربية، واليمنيون هم من رعاة الغنم، والعرب العدنانيون من قريش وغيرهم من رعاة الإبل، فالملاحظ أن رعى الغنم بالذات يحتاج إلى السكينة والهدوء والتأمل الطويل (لهذا رعى كل الأنبياء الغنم!) كما قال موسى:{وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} ، وهذا الحديث
النبوي يفسر لنا هذه الميزة: "أتاكم أهل اليمن، هم أرق أفئدة وألين قلوبا، الإيمان يمان والحكمة يمانية، والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم".
العامل الرابع: العملاق مصعب بن عمير
وهو أول سفير في الإِسلام، بعثه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مع الأنصار لكي يعلمهم دينهم، ويدعو قومهم للإسلام، فكان رضي الله عنه وأرضاه خير داعية لخير داع، ففي سنة واحدة فقط، هي جلُّ وقت المهمة الدعوية لمصعب، أسلم أكبر قادة الأنصار على يديه بأسلوبه اللين الرائع، ورقيه الأخلاقي المتميز.
العامل الخامس: البطل سعد بن معاذ
هو سيد الأوس، والذي عندما أسلم على يدي مصعب بن عمير قام إلى قومه فجمعهم، وأخبرهم بأنه براءٌ منهم إن لم يسلموا في التو واللحظة، فأسلموا عن بكرة أبيهم حبًا له، وتصديقًا لرأيه، وقد استشهد سعد بن معاذ بعد الأحزاب نتيجة لخيانة "يهود بني قريظة" ولقد بكى عليه أبو بكر وعمر حتى سُمع بكاؤهما في شوارع مكة، وسعد رحمه الله هو الإنسان الذي اهتز لموته عرش الرحمن!
وبعد. . . . فقد كانت هذه لمحة بسيطة عن هذه الفئة البشرية العظيمة، التي لم يكن لها مثيل في تاريخ العنصر البشري بأسره، فئة تعطي ولا تأخذ، فئة أعطت كل شيء، ولم تأخذ أي شيء، فلقد كان الأنصار فقراءً قبل الإِسلام، وقد ظل الأنصار فقراء بعد الإِسلام! وعلى الرغم من كل ما قدموه للإسلام، فإن التاريخ لا يذكر أبدًا أنهم طلبوا منصبًا واحدًا في أي دولة من دول الإِسلام، فلم يعرف التاريخ الإِسلامي أن هناك أنصاريًّا تقلد منصب الخلافة، أو حتى الوزارة، على الرغم من أن المدينة عاصمة الخلافة الراشدة هي مدينتهم، وهم سكانها الأصليين، وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي بل ومحمد نفسه كانوا لاجئين لديهم، فهل سمعت يومًا عن قومٍ في التاريخ الإنساني جعلوا اللاجئين لديهم حكامًا عليهم؟ اللهم إلا أنصار محمد بن عبد اللَّه صلى الله عليه وسلم، فجزاكم اللَّه كل خير أيها الأنصار، ولا أقول لكم إلا ما قاله الرسول:"اللهم اغفر للأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار" فاللَّه اللَّه يا شباب الإِسلام بأنصار نبيكم، واللَّه اللَّه بأصحاب محمد، فلقد آن الأوان لِتخرسوا ألسنة كلاب إيران النجسة التي تطعن في شرف الصحابة
في الغداة والعشي، فيا شباب الإِسلام، يا من تدعون حب محمد، انصروا أنصار محمد، كما نصروا هم محمدًا من قبل، فإن أنصارًا نصروه بأرواحهم، ليستحقون منا النصرة بألسنتنا وأقلامنا! {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} .
ونبقى الآن مع أنموذجٍ فريدٍ من الأنصار أخشى أن معظمنا لم يسمع باسمه البتة! على الرغم من حكايته العجيبة، وبطولته الأسطورية، فلقد كان هذا الأنصاري البطل: قائد قوات الكوماندوز المحمدية!
يتبع. . . . .
" قائد قوات الكوماندوز النبوية"(محمد بن مسلمة)
" يا محمد بن مسلمة. . . . جاهد بهذا السيف في سبيل اللَّه، حتى إذا رأيت أمتي يضرب بعضهم بعضًا، فائت به أُحَدًا (أي: جبل أحد) فاضرب به حتى ينكسر، ثم اجلس في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة أو منية قاضية"
(رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم)
تعجب الناس من صنيع رجلٌ من الأنصار أخذ سيفه وذهب به إلى "جبل أحد" عند أطراف المدينة، ليضرب به الصخور الصمَّاء لذلك الجبل الشامخ، فلقد كان هذا الرجل الطويل الأسمر الشديد السمرة يضرب بيديه الضخمتين ذلك الجبل بضرباتٍ تزلزل الأرض من حوله، فيتردد صداها في عنان السماء، ليتطاير الشرر في كل اتجاه، وهو يضرب بالسيف وكأنه يريد أن يُحطم أحدًا تحطيمًا، حتى جاءت تلك اللحظة التي انكسر بها نصل ذلك السيف، ليقف ذلك الرجل لبرهة وهو ينظر إلى سيفه المكسور متأملًا، قبل أن يرجع بهدوء إلى بيته في المدينة، ليأخذ متاعه، ويرحل إلى صحراء "الربذة" ليعتزل الفتنة التي قامت بين المسلمين رافضًا أن يلطخ سيفه بدماء المسلمين أيًا كان السبب، فلقد كان ذلك السيف هو نفسه السيف الذي أعطاه إياه قائده الأعلى محمد بن عبد اللَّه صلى الله عليه وسلم شخصيًا ليجعله رجل المهمات الصعبة، فلقد كان هذا القائد العسكري الأسمر هو الصحابي العملاق: محمد بن مسلمة!
أعلم علم اليقين أننا جميعًا نعرف قصة أبي بكر، ونعرف أيضًا قصص الفاروق الشيقة، ولا شك أننا سمعنا بكرم ذي النورين عثمان، وبطولة ابن أبي طالب، وفروسية خالد، وربَّما سمع البعض منّا عن أبي عبيدة، وربما مررنا مرور الكرام أمام طلحة والزبير، ولكن هل هؤلاء فقط هم أصحاب محمد؟!! ألا يستحق صحابة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قليلًا من الذكر لما قدّموه لصاحبهم الذي نزعم نحن حبَّه؟ كم اسمًا من أسماء الصحابة
تحفظ؟ عشرة؟ عشرين؟ خمسين؟ مائة؟ كم اسمًا من أسماء المغنيين واللاعبين تحفظ؟ أهؤلاء من تريد حقًا أن تُحشر معهم يوم القيامة أم أصحاب رسول اللَّه؟! لقد آن لنا أن نستيقظ من سباتنا العميق، ونصحح أخطاءنا قبل فوات الأوان، فواللَّه إن أمة لا تعرف تاريخ رموزها، لهي أمة حقيرة لا تستحق إلا أن تكون غياهب النسيان. فهلمُّ يا شباب الأمة لكي نستعرض سويةً قصة عظيم جديد من عظماء أمة الإِسلام المائة، والذي كانت سيرته البطولية أسطورة حقيقية من أساطير قوات الكوماندوز عبر التاريخ البشري. . . .
وقوات الكوماندوز: هو مصطلحٌ عسكري لقسمٍ خاصٍ من القوات الحربية التي تختص بالمهمات الشبه مستحيلة، ويعادلها بالعربية مصطلح "قوات المهمات الخاصة"، ولقد آثرت استخدام المصطلح الأجنبي "الكوماندوز"، " Commandos" على الرغم من مقتي الشديد لمن يبدلون اللسان العربي باللسان الأعجمي، وذلك لغاية في نفسي، فكثير من شباب هذه الأمة متيمون بأفلام الحركة الأمريكية التي يظهر فيها رجال "الكوماندوز الأمريكي" وكأنهم رجالٌ من المريخ، ولمّا يعلم شباب الأمة أن في تاريخهم المشرق أبطالٌ للكوماندوز الإِسلامي والذين ما كانوا مجرد أبطالٍ وهميين كأولئك الذين يظهرون بأفلام هوليوود، بل كانوا أبطالًا حقيقيين، نذكر في هذا الكتاب قصة أحدهم، وهو القائد البطل محمد بن مسلمة.
والحقيقة أن المهات العسكرية الخاصة التي قام بها هذا القائد الأنصاري بناءً على تكليفٍ شخصي من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أو من الخلفاء الراشدين من بعده لهي أكثر من أن تحصى في كتابٍ مثل كتابي هذا، ولكنني سأذكر بعضها هنا، تاركًا المجال للقارئ الكريم أن يفتش عن بقيتها في كتب التاريخ الإِسلامي، ليستمتع بقصصٍ بطولية عجيبة قام هذا البطل الإِسلامي الذي لا يكاد يسمع باسمه أحدٌ منا! وبداية المهمات الخاصة التي قام بها هذا البطل هو القضاء على أكبر محرضٍ على المسلمين: كعب ابن الأشرف، هذا الشاعر اليهودي كان يذكر نساء المسلمين بسوءٍ في شعره المنحط، ولم يكتفِ بذلك، بل كان هو من ذهب إلى قريش يحرضهم على قتال المسلمين والقضاء عليهم، ليتحول بذلك إلى عدوٍ للدولة الإِسلامية في المدينة، عندها جاء القرار السياسي الرسولي: "من لكعب بن
الأشرف؟!! فإنه آذى اللَّه ورسوله" عندها وقف هذا الشاب الأسمر الذي كان من بين القلائل من العرب الذين كانوا يحملون اسم "محمد" قبل الإِسلام، فقال محمد بن مسلمة لمحمد بن عبد اللَّه: "أنا له يا رسول اللَّه"، فما هي إلا أيام حتى انطلق هذا البطل في عملية فدائية إلى عقر دار العدو ليرجع حاملًا رأس ذلك المجرم! وفي الحديبية وبينما كان المسلمون نائمون، تسللت مجموعة مقاتلة من شباب قريش مكونة من خمسين فارسٍ في عتمة الليل إلى معسكر المسلمين ليباغتوهم وهم نيام، وإذ بهم يُصعقون برجلٍ أسمر يحيط بهم بمن معه من الفرسان الساهرين، ليقيدوهم ويربطوهم بالأحبال جميعًا، لقد كان ذلك الفارس الأسمر هو قائد العمليات الخاصة للمسلمين الذي لا ينام محمد بن مسلمة لينزل اللَّه قرآنًا يخلد هذه العملية البطولية. ولقد أمَّر رسول اللَّه هذا القائد العسكري الأعجوبة على نحو 51 سرية! وكان يرسله أيضًا ليأتي بالصدقات من الإمارات الإِسلامية. وقد شارك محمدٌ محمدًا في كل الغزوات المحمدية، إلا في تبوك عندما أوكله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قيادة جبهة المدينة في غيابه. أما في عهد أبي بكر فقد كان هذا البطل الأسطوري قائدًا من قادة الجيوش الإِسلامية المحاربة للمرتدين، وفي عهد عمر بن الخطاب، وعندما طال حصار المسلمين لمصر، بعثه الفاروق على رأس كتيبة فدائية تضم من بين رجالها الرجل الأسطورة الزبير بن العوام، لتستطيع هذه الوحدة الفدائية بمجرد وصولها إلى أرض مصر من تحقيق النصر. أما الفاروق فقد عينه بمنصب "المفتش العام على ولاة الإمبراطورية الإِسلامية"، ليدور هذا القائد بين الولايات الإِسلامية، ليضمن تطبيق ولاتها لأحكام الشريعة، وحكمهم بالعدل بين رعيتهم.
والحقيقة أن أغرب مهمة قرأتها في سيرة هذا القائد الإِسلامي: هي المهمة التي أوكلها إليه الفاروق في "الكوفة" بعد شكوى وصلته من أهلها أعتبرها أنا أوقح شكوى بعثها شعبٌ في تاريخ الأرض! فلقد اشتكى أهل الكوفة الخونة (والذين سيُسمّون بالشيعة بعد ذلك بسنوات) أن واليهم لا يُحسن الصلاة بشكل صحيح! الشئ الذي يدعو للاشمئزاز حقًا من أهل الكوفة، أن هذا الوالي الذي يدعون أنهم يفهْمون في الصلاة أكثر منه، هو نفسه الرجل الذي أدخل الإِسلام إلى أرض أولئك السفلة!!!
يتبع. . . . .
"يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة"
مدمِّر الإمبراطورية الفارسية (سعد بن أبي وقاص)
" بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"
"من سعد بن أبي وقاص، إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته. . . . وبعد،
فإن اللَّه نصرنا على أهل فارس ومنحهم سنن من كان قبلهم من أهل دينهم بعد قتال طويل، وزلزال شديد، وقد لقوا المسلمين بعدة لم يَرَ الراءون مثل زهائها فلم ينفعهم اللَّه بذلك، بل سلبهموه ونقله عنهم إلى المسلمين. وقد اتبعهم المسلمون على الأنهار، وعلى طفوف الآجام، وفي الفجاج"
كان ذلك الشيخ العربي الفقير يخرج كل صباح بعد صلاة الفجر إلى الصحراء القاحلة على حدود المدينة ليبقى هناك حتى انتصاف النهار وهو يحدّق قبالة المشرق، حتى جاء ذلك اليوم الذي شاهد فيه من بعيد فارسًا عربيًا على ظهر ناقة عربية أصيلة تسرع الخطى نحو المدينة، فركض نحوه ذلك الشيخ الفقير يسلم عليه ويسأله من أين أتى، ليجيبه ذلك الفارس العربي أنه قد أتى من القادسية في أرض العراق رسولًا من القائد الأعلى للقوات الإِسلامية المجاهدة هناك، فتغير وجه ذلك الشيخ قبل أن يسأل الفارس العربي بلهفة قائلًا: يا عبد اللَّه حدثني ماذا فعل المسلمون؟ فنظر إليه ذلك الفارس العربي بعينيه السوداوين ونظرة ثاقبة وقال له: أيها الشيخ الطيب. . . لقد هزم اللَّه العدو! أما الآن فدعك عني، فإني على عجلة من أمري أريد إيصال كتاب النصر من سعد بن أبي وقاص إلى خليفة المسلمين. وما أن فرغ ذلك الفارس من قولته تلك حتى انطلق على ظهر ناقته مسرعًا نحو المدينة، وذلك الشيخ الفقير يجري وراءه كالطفل الصغير
بثيابه الممزقة يستوضح منه خبر النصر، حتى وصل الفارس العربي إلى المدينة، ووصل بعده بلحظات ذلك الشيخ الفقير وأنفاسه كادت تنقطع بعد أن تلطخت ثيابه البالية بالتراب الذي أحدثه غبار الناقة، فنظر المسلمون الملتفون حول الفارس العربي إلى ذلك الشيخ وقالوا: السلام عليك يا أمير المؤمنين! فصُعق الفارس من شدة الصدمة، وتمنى أن لو ابتلعته الأرض في قفارها، فلقد كان ذلك الشيخ ذو الثياب الممزقة والذي تركه يجري وراءه في صحراء العرب المحرقة كالطفل الذي يجري وراء أمه هو نفسه خليفة رسول اللَّه وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب الذي مزقت جيوشه للتو جيوش أعظم إمبراطورية عرفتها القارة الآسيوية! فحاول أن يعتذر إليه وعمر يأخذ أنفاسه بعد تلك الجولة الماراثونية في الركض قبل أن يبتسم في وجه ذلك البشير ويقول له: لا عليك يا أخي!
اللَّه! اللَّه! ما أعظم الإِسلام!
فواللَّه لقد قرأت تاريخ الإغريق القدماء، وتاريخ الفراعنة، وتاريخ الرومان بشقيه الشرقي والغربي، وتاريخ فارس، والهند، والجزر اليابانية، والصين، وأوروبا، وأمريكا، فما وجدت تاريخًا قط بعشر معشار عظمة التاريخ الإِسلامي المجيد، فأين فرعون مصر "خوفو بن سنفرو" الذي استعبد شعبه لمدة 10 سنوات من أجل أن يبنوا له قبرًا من عمر بن الخطاب ذي الثياب الممزقة؟ وأين "كسرى أنوشروان" إمبراطور الفرس الذين كان يفرض على الوزراء من حوله لبس الكممات كي لا يلوثوا الهواء من حوله من عمر بن الخطاب الذي ملأ الغبار أنفه وهو يجري وراء ناقة بشير القادسية؟! وأين إمبراطور الرومان "فِسبازيانوس" الذي بني أكبر مسرح في الأرض لكي يشاهد الأسود وهي تمزق العبيد بأنيابها من عمر بن الخطاب الذي كان يذهب فجر كل يوم لعجوزٍ عمياء ليكنس لها بيتها ويطبخ لها طبيخها؟!! فواللَّه إن تاريخ الإِسلام لعظيم، وإن تاريخهم لقذر، وإننا أولى الناس برفع رؤوسنا عاليًا به!
وقبل أن نتكلم عن "القادسية" والتي تُعتبر مع شقيقتها التوأم "اليرموك" وأختهما الكبرى "اليمامة" أعظم معارك أمة محمد بعد انقطاع الوحي، ينبغي علينا أن نتكلم عن البطل الذي حقق اللَّه على يديه ذلك النصر العظيم، فلِتصمت الحناجر، ولتخشع
القلوب، ولتشخص الأبصار، فنحن في صدد الحديث عن خالِ رسول اللَّه، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الثمانية السابقين للإسلام، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر الصديق، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين اختارهم عمر بن الخطاب قبل موته، وأول من رمى سهمًا في تاريخ الإِسلام، وأحد البدريين، وأحد الـ 1400 صحابي من أصحاب بيعة الرضوان، وصاحب الدعوة المستجابة، والذي فداه النبي بأبيه وأمه، إنه القائد الذي حطم أسطورة فارس بكتائب الخلاص، إنه رمز البطولة والإخلاص، إنه البطل سعد بن أبي وقاص!
والحقيقية أنني لم أحتر في إيجاد مقدمة أدخل بها لقصة بطلٍ من أبطال الكتاب المائة بمثل ما احترت في إيجاد مقدمة أقدِّم بها هذا الصحابي العظيم، فقصص بطولاته ليست فقط كثيرة، بل هي بالإضافة إلى ذلك بالغة العظمة، فصار من الصعب بل من المستحيل الاختيار ما بينها، فضلًا من أن أستطيع إن أحصرها! إلا أنني أرى في القصة التالية أمرًا يمكنه أن يفسر لنا كيفية تكون شخصية هذا العملاق الإِسلامي العظيم، فهذه القصة حدثت معه في أخطر سنٍ يمر به الإنسان، وهي المرحلة التي يبين فيها علماء النفس المعاصرون أنها السنن التي يبني فيها الإنسان شخصيته التي سترافقه طيلة حياته، هذه السنن سماها العلماء النفس بـ "سن المراهقة" وهي الفترة العمرية من سن 11 سنة إلى سن 21 سنة، وسُميت بذلك لقربها من مرحلة النضوج الفكري، ففعل "راهق" بالعربية يعني اقترب من الشيء.
فعندما كان سعد بن أبي وقّاص مراهقًا في السابعة عشرة من عمره، أسلم هو وأربعة من المبشرين بالجنة على يد أبي بكر جزاه اللَّه كل خير، عند ذلك علمت أمه بإسلامه، وقد كان يحبها أكثر من نفسه، فحاولت رده إلى دين الأجداد دون جدوى، فلمَّا أخفقت جميع محاولات رده وصده عن الإِسلام، لجأت أمه إلى وسيلة لم يكن أحد يشك في أنها ستهزم روح سعد وترد عزمه إلى وثنية أهله وذويه. فلقد أعلنت إمه إضرابها الكلي عن الطعام والشراب حتى يعود سعد إلى وثنيته، أو تموت هي فيعايره العرب بأنه سبب موت أمه! ومضت هذه الأم في تصميم مستميت تواصل إضرابها عن الطعام والشراب حتى وصلت على الهلاك. وحين كانت تشرف على الموت، أخذه بعض أهله إلى أمه
ليلقي عليه انظرة الوداع الأخيرة، مؤملين أن يرق قلبه حين يراها في سكرة الموت، فذهب سعد ورأى مشهد أمه وهي تموت ببطء، وانتظر الناس أن يستجيب لأمرها لعلمهم بحبه العظيم لأمه، فنظر سعدٌ إليها وهي تأن وقال لها:
"واللَّه يا أمّه. . . . لو كانت لك مائة نفس، فخرجت نفسًا نفسًا ما تركت ديني هذا لشيء، فكلي ان شئت أو لا تأكلي! "
فلمَّا رأت أمه هذا الإيمان العميق من ولدها عدلت عن صومها، فنزل الملك جبريل بوحي من السماء إلى الأرض بكلماتٍ قالها الرب الذي خلق الكون يخلّد لسعدٍ هذه القصة في قرآن ستتلى آياته إلى يوم القيامة:
ومن مرحلة المراهقة إلى مرحلة الشباب، ففي ليلة من الليالي، أرِق رسول اللَّه ولم يستطع النوم، خوفًا من غدر المشركين به وهو نائم، فيضيع بذلك الإسلام قبل أن يوصل رسالته للبشر، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لعائشة:"لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا مِنْ أَصْحَابِي يَحْرُسُني اللَّيْلَةَ" فما إن فرغ رسول اللَّه من قولته تلك حتى سمع الرسول وزوجه الطاهرة صوت خطوات تقترب من البيت في الخارج ويقترب معها صوت السلاح، فنادى رسول اللَّه قائلًا:"مَنْ هَذَا؟ ". فجاء الصوت من الخارج: "أنا يَا رَسُوْلَ اللَّهِ سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَاصٍ" فقال له الرسول: "ما الذي جاء بك؟ " فقال سعد: "وقع في نفسي خوفٌ على رسول اللَّه فجِئْتُ احْرُسُه الليلة! " ففرح رسول اللَّه بهذا الصاحب الوفي، فَنَامَ بأبي هو وأمي مطمئنًا حتى سَمِعْت عائشة غَطِيْطَهُ!
والآن وبعد أن رأينا كيفية تكون شخصية هذا القائد الإسلامي العظيم، جاء الوقت لنستعرض معًا بعضًا من بطولاته الأسطورية الحية. . . . .
ففي بدرٍ: كان سعد بن أبي وقاص أول من رمى بسهمٍ في سبيل اللَّه في تاريح أمة محمد، وقد كان رسول اللَّه يقول لسعد:"اللهم أجب دعوته وسدد رميته" فكان إذا دعا أتت الإجابة من السماء كفلق الصبح، وكان إذا رمى لا تخطئ رميته البتة، حتى قال أحدهم:"إني لأظن سعدًا لو رمى في المشرق يريد المغرب لأوقعها اللَّه في المغرب! "
وقد ذكر (الإمام الذهبي) في "سير أعلام النبلاء" قصة عجيبة بقوله: "فمن العجائب أن سعدًا رمى بسهم ثلاث مرات يقتل بكل سهم ويعود السهم إليه ويرمي به، أي أنه كان يأخذ سهمًا فيرمي به في المشركين فيقتل رجلًا، فيأخذ المشركون السهم فيعيدونه لسعد فيرمي به فيقتل به مرة ثانية، فيعيدون له السهم فيقتل ثالثة! " وقد افتخر سعد بهذه الموهبة بقوله:
ألا هل قد أتى رسول اللَّه أني
…
حميت صحابتي بصدور نبلي
فما يعتد رامٍ من معدٍ
…
برميٍ يا رسول اللَّه قبلي
وفي أحد: كنا قد ذكرنا في معرض حديثنا عن (طلحة بن عبيد اللَّه) أنه كان أحد بطلين ثبتا بجانب رسول اللَّه عندما حاصره المشركون، وكنت قد تركت اسم البطل الثاني معلقًا محاولة مني لتشويق القارئ الكريم كي لا يضيق ذرعًا بهذا الكتاب الطويل، واعدًا إياه بذكر اسم ذلك البطل في نهاية هذا الكتاب، وبما أن هذا الكتاب قد شارف على النهاية بالفعل، فإن الوقت قد جاء للوفاء بالوعد، فلقد كان ذلك البطل يُدعى بـ (سعد بن مالك بن أهيب) والذي عُرف بالتاريخ باسم (سعد بن أبي وقاص)! ففي الوقت الذي كان فيه طلحة يبارز بسيفه كالأسد الثائر فرسان المشركين من أحد الجوانب، تناول سعد قوسه في الجانب الآخر ليصوب ناظريه على الجنود المتقدمين وكأنه الصقر الجارح، فأخذ يرمي بسهامه كل من سولت له نفسه الاقتراب من حبيبه ورسوله، ورسول اللَّه يناوله السهام بيديه الطاهرتين وينظر إلى ضرباته ويضحك من دقة إصاباتها ويقول له:"ارمِ سعد، فداك أبي وأمي"!
وفي سنة 15 هـ الموافق 635 م، وصلت أخبار إلى المدينة أن كسرى يحضر بنفسه جيشًا عرمرمًا لكي يرسله إلى مدينة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فينهي بذلك الإسلام من الوجود، فعقد الخليفة عمر ابن الخطاب اجتماعًا طارئًا للقيادة العليا في الدولة الإسلامية يضم بين أفراده رجالًا عمالقة مثل عثمان ابن عفان وعلي بن أبي طالب، فقرر القائد البطل عمر بن الخطاب أن يتقدم بجيوش المسلمين بنفسه إلى أرض فارس قبل أن يأتي الفرس إلى مدينة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، إلا أن علي بن أبي طالب خاف على صديقه عمر من غدر
الفرس المجوس، فأشار عليه أن يولي رجلًا من المسلمين على قيادة الجيش، وبعد شدٍ وجذبٍ بين الفاروق وأصحابه جاءت القرارات العمرية الثلاث:(أولًا) إعلان حالة الطوارئ القصوى والنفير العام في أرجاء الدولة الإسلامية. (ثانيًا) تعيين سعد بن أبي وقاص قائدًا عامًا للجيوش المجاهدة المتجهة إلى فارس (ثالثًا) إعلان الحرب الشاملة على الفرس المجوس!
فماذا حصل بعد ذلك؟ وما هي قصة "معركة القادسية العظمى"؟ ومن هم أبطالها العظماء؟ وما هو ذلك الوصف العجيب الذي وصفهم به القائد الإسلامي العظيم سعد بن أبي وقّاص؟
يتبع. . . . .
"ابتعثنا اللَّهُ لنخرح العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد"
(أسود القادسية)
" ورجال من المسلمين لا نعلمهم اللَّه بهم عالم، كانوا يدوون بالقرآن إذا جن عليهم الليل دوي النحل، وهم آساد لا يشبههم الأسود"
(سعد بن أبي وقاص)
أجد نفسي أمام مهمة صعبة للغاية، ألا وهي مهمة إنصاف عظماء الأمة، وخاصة الذين لم يأخذوا حقهم في التاريخ بالتأريخ لهم، فقلما تجد أحدًا يعرف شيئًا عن أبطال القادسية الذين دمّروا الإمبراطورية الفارسية التي عجزت جيوش الإغريق والرومان على تدميرها على مدار مئات السنين، وأخشى ما أخشاه أن هناك من لم يسمع أصلًا عن قائد القادسية سعد بن أبي وقاص فضلًا أن يعرف الاثنين والثلاثين ألفا من جنودها! والحقيقة أنني أردت أن أكتب عن جندي واحد من جنود القادسية اسمه "ربعي بن عامر" ليكون نموذجًا عن ذلك الجيش، ولكني تفاجأت عن قراءتي لأحداث يوم القادسية أن هناك 32000 نموذج بطولي في هذه المعركة كلٌ منها يختلف عن الآخر، لذلك آثرت أن أضم ذلك الجيش بأسره لقائمة العظماء المائة، فلقد خلد أولئك الأسود أنفسَهم بأنفسِهم في سجل الخلود الإنساني بحروفٍ من نور بعدما قدّموا للبشرية أعظم صور الفداء والتضحية، فكانوا رحمهم الله كما وصفهم قائدهم سعد بن أبي وقّاص في رسالة النصر التي بعثها إلى الخليفة عمر كالأسود المفترسة صباحًا في ميدان المعركة، وفي الليل كالنحل من كثرة قراءتهم للقرآن، فمن حق هؤلاء الأبطال علينا أن نذكرهم ولو قليلًا، فلقد كان شهداء القادسية أكثر شهداء الفتوحات الإسلامية عددًا على الإطلاق، فتعالوا نستعرض معًا قصة أولئك العظماء، ولنبدأها من بداية القصة، قبل معركة القادسية بعشرات السنوات، أو لنقل قبل القادسية بمئات السنوات، مع بداية تكون الأمة الفارسية. . . .
في عام 1500 ق. م. هاجرت قبيلتان رئيسيتان من الآربيين من أبناء (يافث بن نوح) من "نهر الفولغا" شمال "بحر قزوين" واستقرا في "إيران" الحالية، وهاتان القبيلتان هما "الفارسيون" و"الميديون". فأسس الميديون الذين استقروا في الشمال الغربي "مملكة ميديا". وعاشت الأخرى في الجنوب في منطقة أطلق عليها الإغريق فيما بعد اسم "بارسيس"" Persis" ومنها اشتق اسم فارس! في عام 559 ق. م. أسس الفرس "الأخمينيون" إمبراطورية عظيمة، امتدت من حدود أفغانستان إلى حدود ليبيا، ومن اليونان إلى الهند، وقام ملكها (قورش) بتحرير اليهود الذين استعبدهم (نبوخذ نصر) الملك البابلي الشهير (ومنذ ذلك التاريخ بدأت العلاقات الفارسية اليهودية التي ستستمر بعد ذلك إلى لأبد!) في عام 226 م أسس الفرس "الإمبراطورية الساسانية" نسبة إلى الكاهن الزردشتي (ساسان)، الذي كان جد أول ملوك الساسانيين (أردشير الأول) وهذه الإمبراطورية هي نفسها التي سيدمرها صحابة محمد صلى الله عليه وسلم سنة 651 م لتنتهي بذلك أسطورة أرض فارس الكبرى إلى الأبد.
والآن وبعد أن أخذنا صورة سريعة عن التاريخ السياسي، للدولة التي أبادها "أسود القادسية"، دعونا نتحول سوية إلى الجانب الثقافي لهذه الدولة لنستعرض، تاريخها الديني والإجتماعي:
كانت "الزردشتية" أو "المجوسية" هي الديانة الرسمية للدولة الفارسية (وما زالت!)، والمجوس يعبدون النار من دون اللَّه، ويحرصون على أن تظل مشتعلة طيلة الوقت، وكتاب المجوس المقدس هو "الأفيستا" وقد كان من أهم مميزات الفرس المجوس الدينية إيمانهم بـ "عصمة الأكاسرة! " فكسرى كان بمثابة الإله، وقسم الفرس أنفسهم إلى عدة أقسام: أعلاها "السيد" وهو الذي يحمل دماءً ملكية، وأدناها عامة الشعب الذين يُربطون بالسلاسل كالكلاب، وانتشر الانحطاط الجنسي بين الفرس بدرجة مخيفة كانت تعيِّرهم بها الإغريق، فلقد انتشرتا "المتعة" الجنسية بينهم بشكل يدعو للاشمئزاز، فلقد كان كسرى (يزدجرد الثاني) يتمتع بأمه جنسيًا، وكان كسرى (بهرام جوبين) يتمتع بأخته، وغير ذلك من النجاسات القذرة التي لا أريد أن أذكرها في كتابٍ به أسماءُ أناسٍ طاهرين من أمثال عمر بن الخطاب!
والآن جاء الوقت لنبدأ حكاية الصراع الإسلامي الفارسي:
البداية كانت بعد "صلح الحديبية" مباشرة، في شهر شوال من العام السادس للهجرة (مارس 628 م)، والبداية لم تكن عسكرية كما يظنها البعض، بل البداية كانت برسالة رقيقة من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى كسرى (خُسرو الثاني) يدعوه بها للإسلام، فقام كسرى بتمزيق رسالة رسول العالمين، ومحاولة قتل حامل الرسالة الصحابي الجليل (عبد اللَّه بن حذافة) الذي نجح بالهرب من غدر كسرى، ولما علم رسول اللَّه بفعلته دعا عليه وقال "مزق اللَّه ملكه مثل ما مزّق الكتاب" وفعلًا ما هي إلا أيام حتى قتله ابنه (شيركويه)، وماهي إلا سنوات حتى مزق اللَّه إمبراطوريته على يد أسود القادسية.
الغريب أنني وجدت شيئًا مثيرًا للعجب عبر قراءتي لتفاصيل الصراع الإسلامي الفارسي، ألا وهو أن الفرس كانوا دائمًا هم الذين يتحرشون بالمسلمين عبر جميع مراحل التاريخ، والمضحك أيضًا أنهم كانوا دائمًا ينهزمون من المسلمين في كل حِقب التاريخ! فلقد تحرش كسرى برسول اللَّه شخصيًا حين أرسل إليه عامله في اليمن لكي يعتقله ويربطه بالسلاسل! وتحرش الفرس بعد ذلك بالمسلمين في عهد الفاروق لدرجة جعلت الفاروق يقول:"ليت بيننا وبين فارس جبل من نار، لا يأتون إلينا ولا نأتي إليهم! " فالمسلمون لم يطلبوا الاحتكاك بالفرس أبدًا، بل على العكس، هم الذين جهزوا جيش الإمبراطورية الفارسية للتوجه للمدينة لإنهاء الإسلام بالكلية، ما اضطر المسلمين لمحاربتهم في القادسية وسحقهم، والشيء الغريب أن الفرس لم يتعلموا من هزائمهم شيئًا على ما يبدو، فمنذ أن رجع (الخميني) إلى إيران عام 1979 (على ظهر طائرة عسكرية فرنسية!) والفرس لا يفتأون يتحرشون بالمسلمين ومشاعرهم، فتارة يلعنون أصحاب نبينا، وتارة أخرى يسبون نساء نبينا، وتارة يثيرون الفتن، وتارة يحتلون جزر الإمارات العربية، وتارة يغدرون بالعراق، فيا أهل فارس كُفّوا عنا شركم، وتعلموا من التاريخ! فلقد بلغ السيل الزبى، ولكم في القادسية عبرة يا آل فارس، ولكم في أسود القادسية اثنان وثلاثون ألف عبرة!
والآن لنبقى مع بعض أسود معركة القادسية المجيدة والذين أذل اللَّه بهم ربع مليون فارسي قذر:-
زهرة بن الحُوِيَّة: طلب قائد الفرس (رَستم) -بفتح الراء- أن يتفاوض مع المسلمين قبل المعركة، فتقدم له أول الأسود وهو الليث العربي (زهرة بن الحُوِيَّة)، فقال له رستم: أنتم جيراننا، وكنتم تأتوننا وتطلبون منا الطعام، وكنا نعطيكم ولا نمنعكم، وكنا نحسن جواركم، وكنا نُظِلُّكم بظلِّنا، ونطعمكم من طعامنا، ونسقيكم من شرابنا، وكنتم تأتوننا ولا نمنعكم من التجارة في أرضنا، فلم جئتم الآن تحاربوننا؟ فتبسَّم زهرة وقال: صدقت في قولك عمَّن كانوا قبلنا، فلقد كانوا يطلبون الدنيا، ولكن نحن نطلب الآخرة! كنا كما تقول حتى بعث اللَّه إلينا رسولًا، وأنزل عليه كتابًا، فدخلنا معه في دينه، وقال له اللَّه: إني مسلِّطٌ هذه الفئة على من خالفني، ولم يَدِنْ بديني، فإني مُنتقِمٌ منهم، وأجعل لهم الغلبة ما داموا مُقرِّين بي! ربعي بن محامر: في اليوم التالي أرسل رستم يطلب من المسلمين التفاوض للمرة الثانية، فانطلق ربعي على فرسه الصغير ذي الذيل القصير، وذهب به لمقابلة رستم، وقد ربط سيفه في وسطه بشيء غنمه من الفُرْسِ (إمعانًا باحتقارهم)، فدخل بفرسه ووقف على باب خيمة رستم، فطلب منه الفرس أن ينزع سلاحه، فقال: لا، أنتم دعوتموني، فإن أردتم أن آتيكم كما أُحِبُّ، وإلا رَجعتُ! فأخبروا رستم بذلك، فقال: ائذنوا له بالدخول. فدخل بفرسه على البُسُطِ الممتدة أمامه، وعندما دخل بفرسه وجد الوسائد المُوَشَّاة بالذهب؛ فقطع إحداها، ومرر لجام فرسه فيها وربطه به! ثم أخذ رمحه، واتجه صوب رستم وهو يتكئ عليه، والرمح يدب في البسط فيقطعها، فلم يترك بساطًا في طريقه إلا وقطعه، ووقف أهل فارس في صمت عجبًا من ثقة هذا العرب الذي يحتقرهم في عقر دارهم، فبدأ رستم بالكلام؛ فقال له رستم: ما جاء بكم؟ فقال له: لقد إبتعثنا اللَّهُ لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فمن قَبِلَ ذلك منا قبلنا منه، وإن لم يقبل قبلنا منه الجزية، وإن رفض قاتلناه حتى نظفر بالنصر! فقال رستم: قد تموتون قبل ذلك. فقال: وعدنا اللَّه عز وجل أن الجنة لمن مات منا على ذلك، وأن الظفر لمن بقي منا، فقال: فهل لك أن تؤجلنا حتى نأخذ الرأي مع قادتنا وأهلنا؟ فقال له ربعي بكل
استخفاف: نعم، أعطيك، كم تحب: يومًا أو يومين؟ فأحس قائد الجيش الإمبراطوري الفارسي رستم بأنه صار هُزْأةٌ بين فرسان العرب وهو الذي يقدسه كل أهل فارس، لكنه تحامل على نفسه وقال مستعطفًا ربعي بن عامر: أعطني أكثر! فقال ربعي: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سنَّ لنا أن لا نمكن آذاننا من الأعداء، وألا نؤخرهم عند اللقاء أكثر من ثلاث! حذيفة ابن محصن: في اليوم التالي بعث رستم برسالة إلى المسلمين يطلب فيها مقابلة ربعي من جديد، فأرسل المسلمون له رجلًا ثالثًا، وكأنهم يتبارون أيهم يهين الفرس أكثر من غيره! فدخل عليه حذيفة ابن محصن وهو راكب فرسه (دلالة على شدة الاستهانة بهم)، ودخل حذيفة بجواده يمشي به على البُسط، وظل راكبًا حتى وصل إلى رستم بجواده!!! ولنا أن نتخيل هذا الموقف: حذيفة فوق حصانه يكلمه، فقال له رستم: انزل يا عربي. فقال له ذلك العربي: لا أنزل؛ أنتم دعوتموني، فإن أردتم أن آتيكم كما أُحِبُّ، وإلا رجعت! فقبل رستم على مضض ثم قال له: ما جاء بكم؟ فقال له: إن اللَّه عز وجل مَنَّ علينا بدينه، وأرانا آياته فعرفناه، وكنَّا له منكرين، ثم أمرنا بدعاء الناس إلى ثلاث فأيُّها أجابوا قبلناه: الإسلام وننصرف عنكم، أو الجزاء (أي الجزية)، أو المنابذة. فقال له رستم: هل من الممكن أن تعطينا فرصة؟ فقال له حذيفة: نَعَمْ، ثلاثة أيام. فقال: إذن تقاتلونا في اليوم الرابع. فقال الأسد العربي بكل عزة وثقة: ثلاثة أيام ليس من اليوم بل من أمس!!! المغيرة بن شعبة: في اليوم الثالث طلب رستم التفاوض من جديد، فجاء الدور على صاحب رسول اللَّه المغيرة بن شعبة الثقفي لكي يهين الفرس قليلًا بطريقته الخاصة. وعلى الرغم من أن المغيرة يتقن الفارسية، إلا أنه لم يتكلم معهم إلا بالعربية، من شدة عزته بلغة محمد صلى الله عليه وسلم، فدخل عليه المغيرة بن شعبة وقد ترك حصانه بالخارج؛ ففرح رستم وظن أنه سيحترمه هذه المرة ولن يكون كسابقيه من الرسل، فظل المغيرة يمشي حتى وصل إلى رستم، فجلس بجانبه على السرير المُذهَّب، فصرخ الفرس في وجهه، إذ أن الفُرْسُ جميعهم يقفون بعيدًا جدًّا عن رستم، حتى لا يلوثوا الهواء من حوله! فقامت الحاشية بسرعة لكي تجذبه من مكانه، فقال لهم المغيرة: "واللَّه جلوسي جنب أميركم لم يزدني شرفًا! ولم ينقصه شيئًا، واللَّه يا أهل فارس إنَّا كانت تبلغنا عنكم الأحلام (أي نسمع عنكم أنكم عقلاء)، ولكني أراكم أسفهَ قوم، واللَّهِ الآن أدركتُ أن أمركم
مضمحلٌّ، وأن أمر الغَلَبَة والملك لا يقوم على مثل ما أنتم عليه" فسمع المغيرة الحاشية من خلفه وهي تقول بالفارسية: واللَّهِ صَدَقَ العربي! ثم قال المغيرة لرستم: "فنحن ندعوكم إلى واحدة من ثلاث: إما الإسلام، وإما الجزية عن يدٍ وأنت صاغر، وإن أبيت فالسيف" فقال له رستم: وكيف يدفع المرء الجزية وهو صاغر؟ فقال له: "أن يقوم أحدكم على رأس أميرنا فيطلب منه أن يأخذ الجزية، فيحمده إن قبلها، فكن يا رستم عبدًا لنا تعطينا الجزية؛ نكف عنك ونمنعك! وعندما سمع رستم من المغيرة "كن عبدًا لنا" لم يتحمل رستم أكثر من هذه الإهانات اليومية المتكررة من فرسان العرب، فاستشاط غضبًا، واحمرَّت عيناه وقال له: واللَّهِ ما كنت أظن أني أعيش حتى أسمع هذا الكلام من عربي! ثم حلف بالشمس أن لا يرتفع الصباح حتى يدفنهم في القادسية، ثم قال له: ارجع إلى قومك، لا شيء لكم عندي، وغدًا أدفنكم في القادسية. فرجع المغيرة وأثناء مروره على القنطرة أرسل رستم رجلًا يناديه، فنظر إليه، فقال له: مُنَجِّمُنا يقول: إنك تُفقَأ عينُك غدًا. (وذلك ليخوفه)، فتبسَّم تلميذ محمد بن عبد اللَّه الصحابي البطل المغيرة بن شعبة الثقفي وقال للفارسي القذر:
"واللَّهِ لولا أني أحتاج الأخرى لقتال أشباهكم، لتمنيت أن تذهب الأخرى في سبيل اللَّه"!
والآن وبعد أن أخذنا خلفية بسيطة عن النفسية العربية التي دمرت الإمبراطورية الفارسية، جاء الوقت لكي نأخذ صورة عن الخلفية العسكرية لأولئك الأبطال. فبعد هذه المفاوضات التي أذل بها أسود العرب قادة الفرس، جاء الوقت لبدء العملية العسكرية الحاسمة التي سيخلدها التاريخ لكونها جعلت من شيءٍ اسمه الإمبراطورية الفارسية مجرد ذكريات في كتب التاريخ المنسية! فلقد بدأت هذه المعركة الفاصلة بسلاحٍ من أسلحة الدمار الشامل الإسلامي، والذي لا تنتجه إلا المصانع العسكرية المحمدية، هذا السلاح استخدمه أيضًا بعد ذلك الجيش المصري البطل في معركة العاشر من رمضان عام 1973 م، وفي نفس وقت الظهيرة الذي حارب به أبطال القادسية أيضًا، وإن كان العدو وقتها آل فارس، والذين لا يختلفون كثيرًا عن آل صهيون، هذا السلاح استخدمه قائد أركان الجيش المصري السابق (سعد الدين الشاذلي) في حرب رمضان هو نفسه السلاح الذي استخدمه (سعد بن أبي وقاص)، هذا السلاح الذي
استخدمه السعدان هو سلاح: اللَّه اكبر!
"خطة اللَّه أكبر الرباعية الأبعاد":-
جمع القائد الإسلامي سعد بن أبي وقاص قادة جيوشه قبل بدء الزحف الإسلامي الكبير على جحافل الفرس ليحدد لهم خطة سير المعركة الحربية الفاصلة فقال لهم: "اعلموا عباد اللَّه أن اللَّه رزقكم التكبير، وأن التكبير لم يُعطه أحدٌ من قبلكم، واعلموا أنكم أعطيتموه تأييدًا لكم، فإذا صليت الظهر، فإني سأكبر أربعًا، تكون فيها إشارة الهجوم الإسلامي الكبير بعد التكبيرة الرابعة"! وفعلًا صلى المسلمون الظهر ليكبر بعدها سعد بن أبي وقاص أربع تكبيرات، لتكون التكبيرة الرابعة هي كلمة السر لانطلاق الزحف الإسلامي العظيم الذي سيخلده التاريخ إلى يوم الدين، فعلت صيحة اللَّه أكبر في علياء السماء، وبدأت ملحمة القادسية، لتبرز بطولات أسود القادسية القتالية والتي كان من أبطالها:
القبائل العربية: كانت القبائل العربية الأصيلة هي بطلة "يوم أرماث"، وهو اليوم الأول من أيام القادسية الأربعة، فقد كانت القبائل العربية هي خط الهجوم الأول على جيوش الإمبراطورية الفارسية، فبرزت قبائل عربية عظيمة مثل قبيلة "دجيلة" وقبيلة "تميم" وقبيلة "الأسد" وقبيلة "كندة"، فصد فرسان العرب هجومًا مباغتًا حاول فيه الفرس أن يحطموا فيه الصفوف الأمامية بواسطة 13 فيل هائج مدرب على القتال، فاستطاعت تلك القبائل الأصيلة أن تقطع وضون الفيلة (والوضون هي الأحزمة التي تربط مراكب الجنود فوق الفيلة) فسقط جنود فارس من فوقها، فقطعهم مجاهدي يعرب بسيوفهم تقطيعًا، لتكون هذه بداية دمار فارس (ولعل هذا هو سبب حقد الفرس على القبائل العربية إلى يوم الناس هذا!)
الخنساء: برزت الخنساء في اليوم الثاني من أيام القادسية والذي سُمِّي بـ "يوم أغواث"، فقد باتت الخنساء ليلتها السابقة تحفز أبناءها الأربعة على الجهاد في سبيل اللَّه، فقاتل الأبطال الأربعة قتالًا ما عرفت العرب مثله، فاستشهد الأربعة جميعًا، فلمَّا وصلها خبر استشهادهم، رفعت يدها إلى السماء وقالت:"الحمد للَّه الذي شرفني باستشهادهم، وإني لأرجو اللَّه أن يجمعني بهم في الجنّة"! والذي لا يعرف من هي الخنساء، فله أن
يعلم أن هذه السيدة العربية هي نفسها التي أتحفت الشعر العربي بقصائد الرثاء عندما مات أخوها (صحر) في جاهليتها، وها هي الآن تحمد اللَّه على استشهاد أبناءها الأربعة!
الأخوان: القعقاع بن عمرو وعاصم بن عمرو: أحس الفرس باقتراب نهايتهم، فحاولوا محاولة أخيرة لتغيير مسار المعركة، فقاموا بتطوير خطة الهجوم في اليوم الثالث من أيام القادسية والذي عُرف بـ "يوم عماس"، فقاموا بربط المراكب على الفيلة، ولكنهم هذه المرة وضعوا حرس حول الفيلة، ليحولوا دون قطع المسلمين لأحزمتها، وكان قائد هذه الفيلة فيلٌ أبيض مجنون، درَّبه الفُرس على الحروب، فأصبح يفتك في صفوف المسلمين فتكًا، فتقدم الصحابيان الأخوان القعقاع وعاصم ابنا عمرو رضي الله عنهم نحو الفيل الأبيض، فتوجه أحدهما نحو الميمنة، وتقدم الآخر نحو الميسرة، ليرفع كل منها رمحه، ثم يكبرا في نفس الوقت، ليفقأ البطل الأسطوري القعقاع العين اليمنى للفيل الأبيض، ويفقا أخوه البطل عاصم عينه الفيل اليسرى، لتتفجر الدماء شلالًا من رأس الفيل الأبيض، قبل أن يترنح يمينا وشمالًا، ليلحقه القعقاع بضربة من حسامه قطع به خرطومه، ليسقط ذلك الفيل العملاق على الأرض سقطة اهتزت لها أرض اليرموك، لتتخبط بقية الفيلة بعد مقتل كبيرها الفيل الأبيض، ولتهرب فيلة الفرس من أسود المسلمين!
دريد بن كعب النخاعي: كان هذا الرجل شيخ قبيلة "نخاع" العربية، فأراد أن ينافس القبائل العربية الأخرى، ولكنه لم ينافسها بقصائد الفخر والرقص الشعبي، بل نافسها بمسابقة "من سيربح الجنّة أولًا"، فجمع شباب قبيلته نخاع في عتمة الليل بعد غروب شمس اليوم الثالث، وقال لهم بخفية من أمره:"إن المسلمين تهيأوا للمزاحفة، فاسبقوا المسلمين الليلة إلى اللَّه والجهاد، فإنه لا يسبق الليلة أحد إلا كان ثوابه على قدر سبقه، نافسوهم بالشهادة، وطيبوا بالموت نفسًا، فإنه أنجى من الموت إن كنتم تريدون الحياة، وإلا فالآخرة من أردتم" ولأول مرة في تاريخ المعارك الحربية على الإطلاق، قامت هناك معركة كبيرة في منتصف الليل! قام بها أسودٌ من شباب قبيلة نخاعة في تلك الليلة التي سميت في التاريخ بـ "ليلة الهرير" لكثرة القتال فيها (الذي علا فيه هرير الأسلحة)،
فلما رأى شباب القبائل العربية الأخرى ذلك، غاروا منهم، فهبوا على صفوف الفرس يدكّونها دكًا، ليتطاير شرر السيوف في عتمة الليل، فعلت سحابة من الغبار فوق سماء المعركة، ولم يعلم بقية المسلمين مصير أولئك الفدائيين حتى جاء الفجر، فرأوا شباب الإسلام يرجعون من هناك وهم يضحكون بعد أن قتلوا آلاف الفرس. هلال بن علفة: وفي اليوم الرابع للقتال والذي عُرف بـ "يوم القادسية"، وأثناء اشتداد القتال بالقرب من البغال التي تحمل مؤونة الجيش الفارسي، تقدم أسد عربي اسمه هلال بن عُلَّفة ليدكدك بسيفه جمامجم الفرس كالأسد في قفاره، وفجأة وعن طريق الصدفة البحتة، طاش سيفه وهو يضرب به، فقطع حملًا من أحمال هذه البغال، فسقط هذا الحمل على الأرض، ليسمع هلال بن علفة صراخًا كصراخ النساء من خلف البغل، ليتفاجأ هلال أن ذلك الصراخ لم يصدر من مرأة، بل كان مصدره رجلًا فارسيًا مختفيًا وراء البغال! فصُعق ذلك الرجل عندما رأى وجهًا عربيًا أمامه، فأخذ يصرخ صراخ النساء ويسرع بالفرار وكأنه رأى وحشًا من وحوش الأرض! فنظر إليه هلال بن علفة مستغربًا من هذا الفزع الذي حلَّ به، ولكنه لاحظ عليه مظاهر الأبهة والعظمة، فقال لنفسه: أهو هو؟! إنه رستم قائد الفرس!!! فلما رآه هلال بن علفة يجري بهذه السرعة وهذه الأبهة التي كانت عليه، قال: لا أفلحت إن نجا! وبالفعل أسرع وراءه حتى يلحق به، ورستم يجري! وتخيلوا معي ذلك المنظر المضحك، فارسٌ عربي بثيابٍ ممزقة يجري خلف قائد الإمبراطورية الفارسية العظمى رستم وهو يهرب كالكلب الطريد لابسًا تاجه الذهبي وثوبه الحريري الأحمر، عندها أخذ رستم يلتفت وهو يجري ويصرخ فيه:"بابيه! "(ومعناها بالفارسية: قِفْ كما أنت!)، ولكن هلالًا ظل يجري وراءه كالأسد المفترس الذي يجري وراء طريدته مصممًا على الظفر بها بمخالبه، فقذفه رستم برمح كان في يده، فأصاب قدم هلال بن علفة فأصابها، فوقع هلال أرضًا من شدة الإصابة، ولكنه في لحظة من الزمن. . . عاد ليقف على رجله المصابة، ليستمر في مطاردة رستم، فقذف رستم نفسه في النهر، وبدأ يعوم، فتحول ذلك الفارس العربي من أسدٍ بري إلى تمساحٍ مائي! فسبح وراءه، ورستم يسبحُ بكل قوته، والتمساح الإسلامي من ورائه، حتى أحس رستم بيدٍ تجذبه من قدمه إلى خارج النهر، لقد كانت هذه يد البطل العربي هلال بن علفة، وهي نفسها اليد التي
سترتفع عاليًا في السماء، حاملة سيفًا إسلاميًا لامع النصل، لتضرب رستم بضربة على رأسه، لتقسم جسمه إلى قسمين متماثلين، عندها وقف هلال بن علفة على كرسي القيادة الذهبي في موكب رستم، ورفع سيفه في عنان السماء، وصاح بصوت كاد يهز الجبال:
اللَّه أكبر، قتلت رستم ورب الكعبة، إليَّ أيها المسلمون!
فانهارت معنويات الفرس بذلك، وحاولوا الهرب بعبور دجلة، ولكنهم كانوا مقيدين بالسلاسل كالكلاب من قبل قادتهم، فاندفع 30 ألفًا من قطعان آل فارس في النهر هربًا من أسود العرب، فغرقوا بسلاسلهم الحديدية في أعماق دجلة، ليصبحوا طعامًا شهيًا لأسماك النهر، بعد أن كانوا فريسة لأسود البر! وبأسودٍ مثل هؤلاء الأسود، انتصر العرب المسلمون على آل فارس المجوس، فدمَّروا بذلك الإمبراطورية الساسانية إلى الأبد، ولكن انتصارهم هذا ولَّد حقدًا تاريخيًا دفينًا ظل مغروسًا في وجدان الفرس!
فلماذا يؤمن الشيعة الفرس بأن المهدي سيقتل القبائل العربية عن بكرة أبيها عند خروجه من السرداب؟ ولماذا يعتقد اليهود في التلمود أن اللَّه ندم على خلقه أبناء إسماعيل "العرب"؟! فما هي قصة العرب؟ ولماذا اختار اللَّه العرب من دون سائر البشر ليبعث من بين إحدى قبائلهم أعظم مخلوقٍ في الكون؟ فلماذا يُعتبر حب العرب دليلًا على حب الإسلام؟ ولماذا يُعتبر كره العرب دليل نفاق؟
يتبع. . . . . . .
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}
(العرب)
" العرب مادة الإسلام"
(عمر بن الخطاب)
ما ترددت في شيء في هذا الكتاب منذ بدايته إلى حد الآن بمثل ما ترددت في الكتابة عن هذا العنصر البشري المتمثل في أحد شعوب أمة الإسلام المتنوعة، ألا وهو العنصر الإسلامي العظيم "العرب"! فمن ناحية تاريخية بحتة لا يمكن لباحث تاريخي أن يكتب كتابًا يضم في صفحاته مائة نموذجٍ إسلامي كان لهم دور رائد في الإسلام، دون أن يذكر العرب من بينهم، فلقد ذكرت في هذا الكتاب عظماء الإسلام العظماء متنقلًا ما بين رجل وسيدةٍ ومجموعاتٍ فكرية وقومياتٍ إثنية، ولقد ذكرت من قبل البربر والكرد والأتراك ومؤمني فارس والهنود الحمر كقوميات إثنية ضحت من أجل السلام، فأصبح لزامًا علي ذكر قومية العرب التي كانت أول قومية تؤمن عن بكرة أبيها برسالة محمد بن عبد اللَّه الذي هو عربي بالأساس! ورغم كل هذا، ترددت طويلًا في ذكر القومية العربية بالتحديد لدرجة دفعتني أن ألغي بالفعل فكرة الكتابة عنهم من الأساس، قبل أن أرجع عن قراري بعض مفاوضات طويلة بيني وبين نفسي استغرقت أسابيعًا طويلة، توصلت من خلالها إلى ضرورة الكتابة عن العرب، بل إلى وجوب الكتابة عنهم في هذه الفترة الزمنية بالذات، والتي يُهاجم فيها العرب من جميع الاتجاهات! والحقيقة أن ترددي ذلك لم يكن نتيجة إغفالي لقيمة العرب القيادية في تاريخ الحضارة الإسلامية العربية، بل كان ذلك التردد يرجع بالأساس إلى عاملين اثنين:
(أولًا): الجذور العربية القبلية لكاتب هذا العمل، والتي ترجع إلى قبيلة "الأزد" العربية القحطانية!
(ثانيًا): الحساسية السياسية المعقدة التي تربط بين أصحاب الفكر القومي وكثير من الجماعات الإسلامية!
أما في الأولى فقد خشيت أن أتحيز فيها للعرب من منظورٍ عنصري بحت، فيختلط بذلك لدي العام بالخاص، فأخسر في النهاية نعمة الإخلاص التي أرجو اللَّه أن يرزقنيها في هذا الكتاب. أما في الثانية فقد خشيت أن يُفسَّر دفاعي عن العرب على غير محله من قبل بعض مفكري الجماعات الإسلامية السياسية، والذين تصيبهم حالة عصبية عند سماعهم باسم العرب أو العروبة!
والحق أقول أن السبب الأول كان أهم عندي ألف مرة من السبب الثاني، فهجوم الجماعات الإسلامية السياسية على الكتاب أو صاحبه هو شيءٌ لا أرجوه، ولكنني لا أهتم له كثيرًا! فلا أنا عضو في جماعةٍ إسلامية سياسية أخشى أن أقال فيها من منصبي، ولا أنا أفكر أساسًا في الإنضمام في المستقبل القريب أو البعيد لأيٍ من تلك الجماعات التي كرَّست حياتها لتولي سدة الحكم في بلدانها، معظمة بذلك من شأن السياسة على حساب العقيدة، لدرجة دفعت بعضها إلى التحالف حتى مع إيران التي تطعن بشرف زوج رسول اللَّه وتلعن صحابته! مبررة تحالفها الإستراتيجي مع الرافضة بتحالف رسول اللَّه بعد الحديبية مع قبيلة "خزاعة" التي كانت مشركة في وقتها، ناسين بذلك -أو متناسين- أن خزاعة لم تكن تسب أصحاب محمدٍ يومًا، ولم تتهم زوجته عائشة يومًا ما بالزنى كما تفعل إيران وملاليها! فإلى أولئك "الإسلاميين السياسيين" أو بالأصح "السياسيين الإسلاميين" أقول: آن الوقت لكي تراجعوا أنفسكم، فواللَّه إن أيًّا منكم لا يقبل كلمة سوء تمس شرف أمه، فكيف يقبل على أمه عائشة زوجة رسول اللَّه أن تهان بأسفل التهم، فكيف بكم يوم الحشر أمام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يسألكم إن كنتم قد دافعتم عن عرضه وشرفه، فواللَّه إنكم بتحالفكم مع إيران ستخسرون الدنيا والآخرة، فلا كرسيًا ستأخذون، ولا شفاعة من محمد ستنالون. . . . إن أنتم لم تذوذوا عن عرضه!
أما بالنسبة للسبب الأول. . . . فقد توصلت بعد أشهر من المفاوضات الشاقة مع نفسي إلى نتيجة واقعية بالنسبة للكتابة عن العرب، فأنا فعلًا حين أكتب عن العرب أكتب مفتخرًا بانتسابي لهم! بل وأفتخر كثيرًا بانتسابي للعروبة كقومية! ولكنني في نفس الوقت لا أفتخر بذلك من منظورٍ قبلي قومي عنصري ضيق، لا يفرق بين أبي لهب العربي وأبي بكر العربي، بل على النقيض تمامًا، فأنا حين أفتخر بقوميتي الغربية فإنني أفتخر بانتسابي
لأولئك القوم الذين بعث اللَّه من بينهم أعظم مخلوقٍ على وجه الكون، وأفتخر بانتسابي إلى القوم الذين كان من بينهم الصحابة أعظم مخلوقات اللَّه بعد الأنبياء، وأفتخر بالعرب الذين نشروا الإسلام في أرجاء الدنيا، وأفتخر بالقبائل العربية التي أطفأت نار المجوس الفارسية إلى الأبد، وأفتخر بأولئك القوم الذين ضحوا بأرواحهم من تحرير الشعوب من عبادة أباطرتها، أفتخر بقبائل نجدٍ البطلة التي لطالما دافعت عن الإسلام، وأفتخر بقبائل الحجاز العملاقة التي أضاءت نور الإسلام للدنيا، وأفتخر بقبائل اليمن العربية القحطانية التي حملت الإسلام إلى مجاهل المحيطات في آسيا وأفريقيا، أفتخر بالقعقاع التميمي الذي دكَ حصون الفرس، وأفتخر بخالدٍ المخزومي الذي أباد جيوش الروم، وأفتخر بعثمان الأموي الذي تستحي منه الملائكة، وأفتخر ببني عدي الذين خرج منهم رجال كعمر وزيد، أفتخر بالمغيرة بن شعبة الثقفي الذي أذل فارس بكلماته العربية الفصيحة، أفتخر بقبيلة تيم العربية الأصيلة التي أنبتت للإنسانية رجالًا مثل أبي بكر وطلحة، أفتخر بأبي عبيدة عامر بن الجراح الفهري، وعبد الرحمن بن عوف الزهري، وأويس القرني، أفتخر بالزبير البطل العربي الأصيل، وأفتخر بعمته خديجة زوجة رسول اللَّه، أفتخر بآل هاشم الذين أنجبوا بطلًا اسمه علي، وأفتخر بآل أمية الأبطال الذين نشروا دين محمد في أرجاء المعمورة، وأفتخر بالعباس بن عبد المطلب الذي كان من نسله بطل اسمه هارون، وأقولها بملء فمي: أفتخر بعروبتي وبانتسابي لقبيلة الأزد القحطانية أصل العرب العاربة، والتي قال عنها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالحديث النبوي الذي رواه أحمد وصححه الألباني:"الملك في قريش، والقضاء في الأنصار، والأذان في الحبشة، والشرعة في اليمن، والأمانة في الأزد"، أفتخر بأبناء عمومتي الأوس والخزرج الذين ناصروا محمدًا، وأرفع رأسي عاليًا في عنان السماء بأن منا أبا هريرة الأزدي، أفتخر بالحضارمة العرب الذين حملوا راية التوحيد إلى أندونيسيا والفلبين، أفتخر بسعدٍ بن معاذ الأنصاري الأزدي العربي الذي اهتز لموته عرش الرحمن، أفتخر بجعفر الهاشمي، أفتخر بأبي ذرٍ الغفاري، أفتخر بأبي أيوب الأنصاري، وشرحبيل بن حسنة الكِندي، أفتخر بإمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل الشيباني، وأفتخر قبل كل هؤلاء بالنبي العربي الهاشمي القرشي محمد بن عبد اللَّه بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن
مرة بن كعب ابن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نذار ابن معد بن عدنان!
نعم. . . . . أفتخر بكل أولئك، وأرفع رأسي عاليًا بين شعوب الأرض لأناطح به أفق السماء بانتسابي لهذه القومية البطلة، فليس عيبًا أبدًا أن يفتخر المسلم بقوميته، فلو كنت بربريًا لشرفني أن أنتمي لطارق ابن زياد، ولو كنت تركيًا لافتخرت بمحمد الفاتح وبألب الدين أرسلان، أما وقد اكرمني اللَّه بانتسابي للقومية التي كان منها محمد بن عبد اللَّه وصحابته الأبطال، فحيْهَلا بها قومية! فالخطأ الذي تقع به كثير من الحركات الإسلامية الحديثة أنها تعتقد أن الإسلام أنهى مفهوم القومية والقبلية، وهذا غير صحيح على الإطلاق، فلقد كان رسول اللَّه يقسّم جنوده على حسب قبائلهم، فتفتخر كل قبيلة منهم أن العدو لا يأتي المسلمين من خلالها، ولقد رأينا كيف أن القبائل كانت تحارب في كتل مجتمعة في القادسية، فالإسلام لم يحارب القومية أو القبلية، بل قام بتحويلها إلى الإتجاه الصحيح الذي يخدم الإسلام، أما من أراد أن يفتخر بقوميته لمجرد إثارة النعرات القبلية، فإلى أولئك أقول ما قاله رسول اللَّه:"دعوها فإنها منتنة"! فاللَّه ليس بينه وبين أحد نسب، فحذاري من العنصرية، فواللَّه إن بلالَ الحبشي لهو خيرٌ عند اللَّه من أبي لهب الهاشمي عم رسول اللَّه، وإن سلمان الفارسي لهو خيرٌ من أبي جهل القرشي خال عمر بن الخطاب!
فالبرغم من أن الإسلام لاقى كثيرًا من الصد في بداية الدعوة نتيجة لرفض زعماء العرب التخلي السريع عن موروث الآباء والأجداد، إلا أنه في نفس الوقت وجد أمامه أناسًا لديهم قابلية إجتماعية كبيرة لتقبل هذا الدين، فكثيرٌ من الأخلاق التي جاء بها الإسلام كانت منتشرة أصلًا بين العرب حتى قبل إسلامهم! ويرجع ذلك إلى تفسيرين اثنين:
(أولًا) تأثر العرب بالدعوة الإبراهيمية التي ظلت بقاياها الاجتماعية بالرغم من اندثار بقاياها العقائدية! (ثانيًا) البيئة البدوية الصحراوية الغالبة التي كان يعيش فيها العرب! حيث يرى المؤرخ الأمازيغي الإسلامي ومؤسس علم الاجتماع (ابن خلدون) في مقدمته الشهيرة: "أن سكان القفار البدو الذين يقتصرون في غالب أحوالهم على
الألبان، ويفتقرون إلى الحبوب والأدم، هم أحسن حالًا في جسومهم وأخلاقهم وأذهانهم من أهل التلول الحضر المنغمسين في العيش الرغيد! " ويستشهد ابن خلدون للدلالة على صحة رأيه بمقارنة البدو من عرب وبربر في مناطق شمال أفريقيا بغيرهم من الحضر، بل يتجاوز ذلك إلى مقارنة غير الإنسان من حيوانات في القفار بنظائرها في الأمصار، فيجدها متفوقة في الأولى على الأخيرة، كما هو حال المها مع البقرة، والحمار الوحشي مع الحمار الأهلي، والغزلان مع الماعز!
لذلك لم تكن المرأة العربية الحرة قبل الإسلام تزني كنساء فارس مثلًا، ولم يكن العرب يكذبون أصلًا كما رأينا في قصة الصحابي الجليل أبي سفيان مع هرقل، ولم يكن العربي يجبن أمام العدو أو يُربط بالسلاسل حذر الهرب! بل إن قريشًا قامت بعقد "حلف الفضول" الذي مدحه الرسول بعد الإسلام، فتصوير العرب في الجاهلية بأنهم أناسٌ حمقى متخلفون ما هو إلا شيءٌ عارٍ تمامًا من المصداقية التاريخية، بل إن في ذلك طعنٌ في أصل رسول اللَّه، فالرسول قالها علانية:"ما بُعثت إلا لأتمم مكارم الأخلاق" ولم يقل لكي أصنع أخلاقًا جديدة! فمكارم الأخلاق كانت موجودة بالفعل عند العرب، ولكنها كانت تحتاج إلى توجيه، فبدلًا من الموت في سبيل القبيلة، أصبح هناك مفهوم جديد اسمه "الموت في سبيل اللَّه"، وبدلًا من الكرم الحاتمي، أصبح هناك مفهوم "الزكاة"، والإيمان باللَّه كان موجودًا أصلًا بين القبائل العربية، ولكنه كان يحتاج إلى تصحيحه نحو التوحيد! فتخيل معي لو أن محمدًا قد بُعث بين الفرس الذين يؤمنون بأن النار هي اللَّه، وبأن الرجل يحق له التمتع جنسيًا بأمه، فهل كانت مهمته ستكون أسهل أم أعقد؛ ولقد وجدت عند النصارى في "الكتاب المقدس" في سفر "التكوين" بشارة من اللَّه لنبيه (إبراهيم) يبشره بأمة عظيمة من نسل (هاجر):(12: 12. . وابن الجارية أيضًا سأجعله أمة عظيمة)!
وعلى عكس ما يعتقده البعض. . . فإن كثيرًا من الصحابة العرب كانوا يقرأون ويكتبون، ولكن أيًا منهم لم يكن فيلسوفًا (وللَّه الحمد!)، والطريف أنني سمعت عالمًا شيعيًا يذم العرب لأنهم كانوا بدوًا مفتقدين للتفسيرات الفلسفية، لذلك لم يفهموا القرآن كما فهمه الفرس أصحاب الفلسفة الزرادشتية، والحقيقة أن ذلك الشيعي الفارسي
الحاقد أصاب كبد الحقيقة بهذا القول الذي أراد منه ذم الصحابة، فالصحابة كانوا بدوًا بالفعل، والقرآن الذي نزل على محمد نزل على العرب البدو الذين لم تكن فيهم فلسفات الإغريق وخزعبلات الفرس التي كانت ستجعل تقبل القرآن شيئًا مستحيلًا! فقد كانوا رحمهم التبما يسمعون كلام اللَّه ليطبِّقُوه مباشرة، وصدق اللَّه تعالى إذ يصفهم:{قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} ، فتخيلوا لو أن رسول اللَّه بُعث في الإغريق، أكانوا سيتركونه وشأنه من دون مناقشته في شكل اللَّه، وشكل كرسيه، وهل الموت شيء وجداني أم شيء فيزيقي؟ وغير ذلك من الأسئلة التي لا علاقة لها بجوهر الدعوة: التوحيد! وما تفرقت الفرق الإسلامية الضالة مثل المعتزلة والشيعة إلا بعد دخول الفلسفة الإغريقية والفارسية إلى ديار المسلمين، وتخيلوا أن الرسول بُعث بين اليهود، هل كانوا سيحترمونه كما احترمه الصحابة العرب؟ أم أنهم سيفعلون به ما فعلوه بنبيهم موسى من قبل؟ هذه العوامل وغيرها جعلت من اختيار العرب كقومية حاضنة للدعوة الإسلامية ليس مجرد خيارٍ منطقيٍ وحسب، بل خيارًا وحيدًا لا ثاني له، وقد أثبت هذا الاختيار الإلهي للعرب من الناحية التاريخية البحتة أنه اختيار لا مثيل له، ففي غضون مائة عام فقط نقل بنو يعرب هذا الدين من صحراء الحجاز إلى البحر الأصفر شرقًا ونهر الراين على حدود باريس غربًا، ومن جبال القوقاز شمالًا، إلى أدغال أفريقيا جنوبًا، فأثبت العرب بحق أنهم خير سفراء لهذا الدين.
فاللَّه اللَّه في أصل نبيكم، واللَّه اللَّه في العرب، فالعرب الآن يهاجمون من جميع الإتجاهات، فالفرس الشيعة يؤمنون أن مهديهم سيبيد العرب عن بكرة أبيهم (عندما يعجل اللَّه فرجه)! واليهود كتبوا في تلمودهم أن اللَّه ندم على أربع أشياء، من بينها خلقه للشر وخلقه للإسماعليين الذين هم العرب، والسينما الأمريكية ما تفتأ تصور العربي في أفلامها بأنه إرهابي. . . أو مدمن جنس. . . أو عاقر خمر! والمخرجون العرب من الشيعة يصورون بطلًا عربيًا مثل (الزير سالم) بأنه رجل جبان يسلم بناته للأعداء كي ينجو هو بنفسه، والرافضة يسمون العرب أسماءً مثل "العربان" و"الأعراب" و"البدو" و"راعة الإبل والبعير"، ونسي أولئك "العلوج" أن هؤلاء البدو هم الذين أبادوا إمبراطوريتهم، وأن تلك الإبل هي نفسها التي انتصر بها أولئك البدو على فيلتهم، فيا شباب الإسلام. . . .
ذبّوا عن العرب! وارفعوا رؤوسَكم عاليًا بانتسابكم العربي! فطالما أن الجميع يحاربونكم، فأبشروا بالخير، فهذه إشارة على قوتكم!
وبعد أن تحدثنا عن العربية كقومية، حان الموعد للحديث عنها كلغة! فلماذا اختار اللَّه هذه اللغة لتكون لغة قرآنه؟ ولماذا اختارها من بين كل لغات الأرض لتكون لغة أهل الجنّة؟ فما هو سر جمال هذه اللغة؟ ولماذا تحارب هذه اللغة بكل شراسة؟ ومن هو ذلك الشاعر العربي الذي غزل من حروف هذه اللغة العجيبة شعرًا يفوح منه عبق التوحيد رغم موته قبل البعثة النبوية؟ وماهي تلك الرؤيا العجيبة التي رآها في منامه تبشر بالإسلام قبل موته بسنوات؟ ولماذا أعتبره شخصيًا. . . . . أعظم شاعرٍ في تاريخ البشر!
يتبع. . . . . .
" أعظم شاعرٍ في تاريخ الإنسانية"(زهَيْر بن أبي سُلمى)
فَلَا تَكْتُمُنَّ اللَّهَ مَا فِي نُفُوسِكُمْ
…
لِيَخْفَى وَمَهْمَا يُكْتَمِ اللَّهُ يَعْلَم
يُؤَخَّرْ فَيُوضَعْ في كِتَابٍ فَيُدَّخَرْ
…
لِيَوْمِ الحِسَابِ أَوْ يُعَجَّلْ فَيُنْقَمِ
(زهير بن أبي سلمى)
العربية. . . . . .
لغة تمتلك من سحر البيان وجزالة الألفاظ وروعة العبارات ما يسرق الألباب من رؤوس ذويها، وما يخطف القلوب من أولي النُّهى! لغة تمتلك من مقومات العظمة ما يجعلها سيدة لغات الأرض من دون أي منازع، ليس هذا تعصبًا أو تحيزًا، بل هو كلامٌ نابع من إيمان كاتبٍ غاص في بحار هذه اللغة، ليكتشف أعماقها، ويستخرج كنوزها، فيلتقط محارها الدفين، ويرفع عنه الغشاوة، ليجد بداخله اللؤلؤ المكنون يبرق كأنه الشمس في ضياها، فهذه اللغة اختارها اللَّه من بين 6500 لغة حية موجودة على سطح الأرض لتكون لغة أهل الجنّة، ولغة القرآن، الكتاب الوحيد الباقي من وحي السماء المنزل على البشر.
وفي الوقت الذي تفتخر فيه كل أمة بلغتها بالرغم من ضحالتها، نجد أن شباب العرب لا يكادون يفقهون قولا بالعربية، فضلًا عن أن يحسنوا الكتابة بها، فكيف نرجوا النصر وفينا من لا يفرقون بين "الذال" و"الزاي"، والكاف و"القاف"؟ وكيف نرجوا من اللَّه أن ينصرنا وفينا من يكتبون لفظ الجلالة بهذا الشكل:"اللة"؟! وكيف يفلح قومٌ لا يعرفون الفرق بين "الألف المقصورة" و"الياء"؟ وبين "همزة الوصل" و"همزة القطع"؟ وبين "الضاد" و"الظاء"؟ ناهيك عن أولئك الذين يرفعون المنصوب ويجرون المرفوع بشكلٍ يدعو للشفقة والحزن عليهم في كثيرٍ من الأحيان! فواللَّه لن تقوم لهذه الأمة قائمة ونحن ساقطون في الإملاء، فقبل أن يفكر شباب هذه الأمة في الجهاد والتدرب على
حمل السلاح، عليهم أن يجاهدوا أنفسهم قليلًا ليتدربوا على الكتابة الصحيحة الخالية من الأخطاء الإملائية! فلن يُنشر هذا الدين بين شعوب الأرض بشباب ساقطين في لغتهم الأم من الأساس! ولن تعلو للإسلام راية وأبناء العرب يتربون في أحضان الخادمات الأجنبيات، فتصبح لغة "الأردو" و"الهندي" اللغة الرسمية من منازل العرب! فرسول اللَّه لم يتربى كذلك، فقد بعثه جده (عبد المطلب) إلى بادية "بني ساعدة" ليتربى تربية بدوية أصيلة، فيرضع من (حليمة السعدية) لبنها، ويرضع منها كذلك اللغة الجزلة القوية، فخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من عندهم وهو أفصح العرب. فعلموا أولادكم لغة العرب، فهذه اللغة هي جدار الدفاع الأول للإسلام، فإذا ضيَّعناها، ضيَّعنا الإسلام، وإذا أراد أحدكم أن يجاهد في سبيل اللَّه، فليجاهد أولًا نفسه بتعلم قواعد العربية لكي يحسن قراءة القرآن، فتعلم العربية فرض وليس اختيار، أما للذين ملأوا الدنيا صراخًا حبًا في رسول اللَّه، فليسألوا أنفسهم سؤالًا: هل تتقنون لغة رسول اللَّه الذي تدّعون محبته؟ هل إذا قابلتموه ستسلمون عليه بقولكم "هاي" كما تفعلون مع أصحابكم أو "الشلة" كما تسمونهم؟!! هل ستشكرون أبا بكر لما قدّمه للإسلام بقولكم "مرسي"؟ أم هل سيجرأ أحدكم أن يقول للمارد الإسلامي عمر عند وداعه: "باي باي"؟ واللَّه وكأني بابن الخطاب يرفع سيفه ويلحق بأحدنا بعد سماعه تلك الكلمات الأعجمية التي تنم عن هزيمة نفسية مغروسة في أنفسنا! وصدق (الإمام الثعالبي) رحمه الله عندما قال في كتابه "فقه اللغة وأسرار العربية": "من أحب اللَّه تعالى أحب رسوله ومن أحب رسوله العربي أحب العرب ومن أحب العرب أحب العربية ومن أحب العربية عني بها، وثابر عليها، وصرف همته إليها! ". وصدق أيضا الكاتب الأديب الشاعر (مصطفى صادق الرافعي) حينما قال: "ما ذلت لغة شعب إلا ذل! ". وهذه الحقيقة عرفها الغزاة منذ بداية الاستخراب "الاستعمار" في الدول الإسلامية، فمن يراجع الوثائق التي بدأت بها عملية الاحتلال البريطاني لمصر يكتشف أن أول أعمال الاحتلال هو وضع خطة لتحطيم اللغة العربية، يبدو ذلك واضخا في تقرير (لورد دوفرين) عام 1882 م حين قال:"إن أمل التقدم الاستعماري ضعيف في مصر، ما دامت العامة تتعلم اللغة العربية الفصيحة! ".
وهناك الكثير الكثير من مثل هذه الاقوال التي تضع محاربة اللغة العربية أولى
أولويات الاحتلال. فقد صرّح الحاكم الفرنسي في الجزائر في ذكرى مرور مائة عام على استعمار الجزائر "إننا لن ننتصر على الجزائريين ما داموا يقرؤون القرآن، ويتكلمون العربية، فيجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم، ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم" وهنا أحذر الإخوة الأمازيغ. . . فأنتم لديكم كل الحق في تعلم اللغة الأمازيغية، ولكن اللَّه اللَّه في لغة القرآن، لا تهملوها، فهي سلاحكم، وهي اللغة التي فسر بها (ابن كثير) كتاب اللَّه، وهي اللغة التي رسم بها جدكم (عباس بن فرناس) خرائط طائرته الشهيرة، أما إلى شباب العرب فأقول، إن تحدَّثكم بالمفردات الأجنبية في لغة خطابكم اليومي تنم على ثلاثة أشياء:(أولًا) أنكم مهزومومن نفسيًا! (ثانيًا) أنكم تعانون من عقدة نفسية، فأنتم لا تحسنون تلك أي لغة أجنبية، لذلك تحاولون أن تخفوا ذلك بترديد بعض المفردات الأجنبية! (ثالثًا) أنكم أقرب إلى النفاق منه إلى الإيمان! وقد قال الإمام (ابن تيميَّة)"إذا رأيت الرجل يتحدث بغير العربية من دون حاجة، فاعلم أن ذلك علامة من علامات النفاق! " وواللَّه لقد صدق شيخ الإسلام. . . . فما رأيت أحدًا يترك العربية إلا وكانت فيه بقية خصال المنافقين! فيا شباب الإسلام، أعيدوا مجد العربية، فقد كانت العربية هي لغة العلم الأولى في العالم، وستعود إن شاء اللَّه كذلك بفضلكم، وكانت اللغة العربية هي الحروف التي يكتب بها الأتراك والروس والأوروبيون والهنود والأفارقة إلى وقت قريب، فعودة اللغة العربية إلى سابق مجدها يعني بالضرورة عودة المسلمين إلى سابق عهدهم!
وزهير بن أبي سلمى هو أفضل من قال الشعر باللغة العربية، وبما أن اللغة العربية هي أفضل لغة في العالم، نستنتج من ذلك أنه أفضل شاعر في تاريخ الإنسانية! يشهد على ذلك (عمر بن الخطاب) بنفسه، بدليل رواية (ابن عباس) التي قال فيها "خرجت مع عمر بن الخطاب في أول غزاة غزاها فقال لي: أنشدني لشاعر الشعراء، قلت: ومن هو يا أمير المؤمنين؟ قال: ابن أبي سلمى، قلت: وبم صار كذلك؟ قال: لا يتبع حوشي الكلام ولا يعاظل في المنطق، ولا يقول إلا ما يعرف ولا يمتدح أحدًا إلا بما فيه". وأيّد هذا الرأي العمري كثرة من بينهم عثمان بن عفان، وعبد الملك بن مروان، وآخرون، واتفقوا على أنّ زهيرًا صاحب "أمدح بيت. . . وأصدق بيت. . . وأبين بيت".
أما عن سر اختياري لهذا الشاعر العظيم بالتحديد ليكون ضمن قائمة المائة رغم أنه لم يلحق بزمان البعثة المحمدية فيعود إلى سببين:
(أولًا) أنه فعلًا مسلم على الدين الحنيفي الإبراهيمي، وأن شعره المليئ بمعاني التوحيد وجماليات المنطق يعطيه الأحقية بذلك، إضافة لأنه كلامٍ عظيمٌ في التوحيد الذي كان على وشك الاندثار.
(ثانيًا) أنه في ذكر زهيرٍ فائدةٌ كبيرة في رد شبهات النصارى والمستشرقين، فلقد ارتفعت في السنوات الأخيرة أصوات الصليبيين وإخوانهم من المنافقين يزعمون أن رسول اللَّه قام بسرقة القرآن من الشعراء من قبله، مدللين على ذلك بأن كثيرًا من معاني القرآن ومفرداته قد وردت بالفعل في شعر الجاهلية!
والحقيقة أن في أقوال أولئك الكذابين حق يُراد به باطل، فأما قولهم بأن بعض معاني القرآن وألفاظه قد تكررت من قبل. . . فهذا صحيح! وأما قولهم أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد سرق قرآنه من الشعراء فهو إفكٌ واضح وشرٌ فاضح! والحقيقة أن أولئك السفلة ما كانوا ليجترأوا على ذلك القول لولا تشويه بعض الدعاة المسلمين -بقصدٍ أو بغير - قصد- لتاريخ لعرب في أيام جاهليتهم، فالعرب عرفت الإسلام وعرفت التوحيد قبل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فالإسلام كدين وكمفهوم ليس اختراعًا جديدًا أتى به محمد بن عبد اللَّه، بل هو دين اللَّه على الأرض الذي دان به الأنبياء جميعهم للَّه، فليس غريبًا أن تتطابق بعض آيات القرآن بما كان يقوله أدباء العرب من المسلمين الحنيفيين من أمثال (زهير ابن أبي سلمى) و (قس بن ساعدة الأيادي). أما للنصارى الذين يزعمون أن النبي العربي جاء بقرآنٍ تتطابق بعض آياته مع بعض ما ورد لديهم في "الكتاب المقدس" فأقول: هذا شيءٌ لا نستحي منه، فربنا هو ربكم، وكلامه في كتابكم هو نفسه كلامه في كتابنا، ولكن المشكلة في كتابكم أنكم أضفتم إليه وحذفتم منه، أما نحن فلم نبدل ولم نغير، فإن وجدتم في كتباكم ما يتطابق بما في كتابنا، فاعلموا أن ذلك هو ما تبقى من وحي موسى وعيسى! ولا تنسوا أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف الكتابة والقراءة لكي يسرق من كتابكم الذي لم ينقل أصلًا للعربية إلا في بداية القرن الحادي عشر! (الشيء العجيب الذي يدعو للتساؤل هو أن الشيعة بدأوا ينشرون مؤخرًا أن رسول اللَّه لم يكن أميًا!
فلمصلحة من يحاول الشيعة نشر هذه الأكاذيب التي تدعم الموقف الصليبي؟!).
وزهير بن أبي سلمى كان واحدًا من أصحاب "المعلقات السبع"، وهي أعظم ما قالت العرب، والناظر لمعلقة زهير يجد فيها من التوحيد ما يثبت إسلامه وحسن أخلاقه، فمعلقته هي أجمل المعلقات، تناول فيها الحكمة الإنسانية النابعة من إيمانه الحنيفي الإبراهيمي، ولكنني سأترك معلقته لأذكر قصيدة له هي للأسف غير مشهورة، لأترك المجال للقارئ الكريم ليستشعر فيها عبق التوحيد الذي لا يخفى على عاقل يفقه شيئًا من لغة الضاد:
ألا ليت شعري هل يرى الناس ما أرى
…
من الأمر أو يبدو لهم ما بدا ليا
بدا لي أن اللَّه حق فزادني
…
إلى الحق تقوى اللَّه ما كان باديا
بدا لي أن الناس تفنى نفوسهم
…
وأموالهم ولا أرى الدهر فانيا
وإني متى أهبط من الأرض تلعة
…
أجد أثرا قبلي جديدا وعافيا
أراني إذا ما بت بت على هوى
…
وأني إذا أصبحت أصبحت غاديا
إلى حفرة أهدى إليها مقيمة
…
يحث إليها سائق من ورائيا
كأني وقد خلفت تسعين حجة
…
خلعت بها عن منكبي ردائيا
بدا لي أني لست مدرك ما مضى
…
ولا سابقا شيئا إذا كان جائيا
أراني إذا ما شئت لاقيت آية
…
تذكرني بعض الذي كنت ناسيا
وما إن أرى نفسي تقيها كريهتي
…
وما إن تقي نفسي كرائم ماليا
ألا لا أرى على الحوادث باقيا
…
ولا خالدًا إلا الجبال الرواسيا
وإلا السماء والبلاد وربنا
…
وأيامنا معدودة واللياليا
ألم تر أن اللَّه أهلك تبعًا
…
وأهلك لقمان بن عادٍ وعاديًا
وأهلك ذا القرنين من قبل ما ترى
…
وفرعونَ أردى جندَه والنجاشيا
ألا لا أرى ذا إمةٍ أصبحت به
…
فتتركه الأيام وهي كما هيا
ألم تر للنعمانِ كان بنجوةٍ
…
من الشرِ لو أن امرأ كات ناجيًا
فغير عنه ملك عشرين حجةٍ
…
من الدهر يوم واحد كان غاويا
فلم أر مسلوبًا له مثل ملكِه
…
أقل صديقا باذلا أو مواسيا
فأين الذين كان يعطي جياده
…
بأرسانهن والحسان الغواليا
وأين الذين كان يعطيهم القرى
…
بغلاتهن والمئين الغواديا
وأين الذين يحضرون جفانه
…
إذا قدمت ألقوا عليها المراسيا
رأيتهم لم يشركوا بنفوسهم
…
منيته لما رأوا أنها هيا
فقال لهم خيرا وأثنى عليهم
…
وودعهم وداع أن لا تلاقيا
وأجمع أمرا كان ما بعده له
…
وكان إذا ما اخلولج الأمر ماضيا
وفي ليلة من الليالي الهادئة في جزيرة العرب، رأى زهير بن أبي سلمى رؤيا عجيبة في منامه، فجمع أولاده، وقال لهم "إني لا اشكّ أنه كائن من خبر السماء بعدي شيء! فإن كان فتمسكوا به، وسارعوا إليه! " وفي نفس السنة التي مات فيها هذا الشاعر العظيم في نجد، بُعث رجل اسمه محمد ابن عبد اللَّه في الحجاز، ليكون ابن زهير شاعرًا من شعراء الرسول! فمن هو ذلك الشاعر بن الشاعر الذي كان صاحب قصيدة "البردة"؟ ومن يكون رفاقه الذين شكلوا وإياه وزارة خطيرة في حكومة محمد؟
يتبع. . . . . .
" وزراء الإعلام في حكومة محمد بن عبد اللَّه صلى الله عليه وسلم"(شعراء الرسول صلى الله عليه وسلم)
" هؤلاء النفر أشدُّ على قريشٍ من نضحِ النبل"
(رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم)
الإسلام هو دين الإعلام بامتياز! فقلما تجد دينًا في الدنيا يحظى بهذه التغطية الإعلامية الكبيرة التي يحظى بها الإسلام، بل إن الإسلام والإعلام مرتبطان ببعضهما البعض منذ فجر الرسالة، فالحرب الحقيقية التي خاضها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة هي الحرب الإعلامية، هذه الحرب هي أصعب ألف مرة من الحرب التقليدية، فهي حربٌ مفتوحة دائمًا من الطرف المعادي للإسلام، يستخدم فيها العدو أشرس أنواع الأسلحة الإعلامية في بعض الأحيان، وفي أكثر الأحيان يستخدم أقذرها! لذلك انتبه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بحكمته المعهودة لهذه الحرب، فأسس وحدة من المجاهدين الأبطال، مهمة هذه الوحدة كانت تفوق باقي المهمات العسكرية بالأهمية في كثيرٍ من الأحيان، هذه الوحدة هي وحدة الإعلام الإسلامي، شكَّلها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الشعراء بالتحديد، وسبب اختيار الشعراء بالذات يكمن في أن الشعر كان هو وسيلة الإعلام الوحيدة بين العرب، وليس عندي من الشك أدناه، بأنه لو كانت هناك صحفٌ في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، لجنّد لها بعض الصحافيين الإسلاميين! فقوة الكلمة في الإسلام لا تقل عن قوة السيف أبدًا، بل إنها كما وصفها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أشد على الكفار من نضح الإبل! وما انتشر الإسلام في الجزيرة العربية إلا بكلمات خرجت من فم محمد بن عبد اللَّه، وما حكمنا العالم من أقصاه إلى أقصاه إلى بكلمات من أفواه الدعاة، وما تخلفت هذه الأمة إلّا بعد إهمال المسلمين للإعلام والإعلاميين، فصارت أمنية الوالد المسلم أن يجعل من ولده طبيبًا أو مهندسًا، أم الإعلامي فهي مهنة ابتعد عنها المسلمون، مع العلم أن الإعلام الإسلامي يعتبر فرضًا من الفروض! فالإعلام هو الكلمة المرادفة للدعوة، ودعوة البشر
للإسلام وتوضيح صورة الإسلام لغير المسلمين هو فرض على المسلمين، فأقوى سلاح يملكه المسلم هو الكلمة، فبالكلمة أسلم عمر بن الخطاب الذي كان يريد قتل الرسول، وبالكلمة تحول خالد بن الوليد من أشد أعداء الإسلام إلى أعظم فاتحٍ في تاريخه، وبالكلمة ناظر موسى فرعون أشرس جبارٍ في الأرض، وبالكلمة دعا إبراهيم أباه، وبالكلمة كان عيسى، وبالكلمة طار هُدهُد سليمان إلى بلقيس، وبالكلمة دعا يونس ربه في بطن الحوت، وبالكلمة نادى زكريا ربه نداء خفيًا، وبالكلمة -لا بالسلاح- دعا نوح قومه 950 سنة! وبالكلمة ملكنا قلوب الشرق والغرب، وبالكلمة بنينا حضارتنا العظيمة، وبالكلمة كتبنا أعظم كتب الدنيا، وبالكلمة دافع إعلاميو الرسول عن الإسلام!
فلقد كون أعظم قائدٍ سياسيٍ في تاريخ الإنسانية -رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وزارة للإعلام الإسلامي المجاهد، مهمتها الدفاع عن سمعة الإسلام والمسلمين، فرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يكن كقادة بعض الجماعات الإسلامية الذين لا يحركون ساكنًا لشرف الصحابة وأمهات المؤمنين، بل كان رسول اللَّه غيورًا على شرف أصحابه ونسائه، فشكل على الفور مجموعة من خيرة شعراء الإسلام على رأسهم الأسماء العملاقة التالية:
(حسان بن ثابت - عبد اللَّه بن أبي رواحة - كعب بن مالك - كعب بن زهير بن أبي سلمى)
هؤلاء الإعلاميون الإسلاميون قاموا بالدفاع عن الإسلام والمسلمين خير دفاع بكلامهم وشعرهم، فالشعر في الإسلام ليس حرامًا، ولكن الإسلام حدد الاتجاهات الشعرية التي يجوز فيها للمسلم أن ينظم الشعر، وهو يتلخص بقول اللَّه عز وجل في سورة الشعراء:{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)} ، وهذه الآيات لا تنطبق فقط على الشعراء، بل تنطبق جميع الكتّاب والمؤلفين بل وعلى جميع الإعلاميين بشكلٍ عام، فنصرة الإسلام تعتبر شرطًا أساسيًا في شرعية العمل الإعلامي، فليسأل كل أديبٍ وكل شاعرٍ وكل مذيعٍ نفسه سؤالًا، هل العمل الذي أقوم به فيه نصرة للإسلام أم لا؟ فإذا كان كذلك فبها ونِعم، وإلا فإنه يعرض نفسه للخطر!
فلقد جاء الوقت للأمة الإسلامية أن تنهض إعلاميًا، وأن تهتم بكليات الإعلام، ففي
هذا الوقت بالتحديد، يستخدم أعداء الإسلام الإعلام بشكلٍ بشعٍ للغاية لتشويه صورة الإسلام ورسوله، ونحن ما زلنا في سباتنا العميق، فدونكم رسول اللَّه!. . . . احموه بالإعلام! فأين أنتم يا إعلامي الإسلام، أين أنتم يا كتّاب المسلمين، فشرف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في حاجة إلى من يدافع عليه، فهل من مدافع؟!
وكما كان الشاعر الإسلامي أديبًا عظيمًا ينسج من الكلمات ما يزلزل به كيان المشركين، فقد كان الشاعر أيضًا مجاهدًا عسكريًا عظيمًا، يحمل السلاح وقت الحاجة للدفاع بروحه عن دين اللَّه، فلقد برز من بين شعراء الرسول قائدٌ عسكريٌ بطلٌ حمل راية الإسلام عاليًا، فسقاها بدمائه تضحية، كما سقاها قبل ذلك بمداده شعرًا، فكان هذا الشاعر الإسلامي البطل أحد ثلاثة قوّادٍ إسلاميين، قدّموا حياتهم وهم يحملون نفس الراية، فكانوا وبحق أعظم ثلاثة قِوادٍ في تاريخ الجنس البشري يسقطون دفعة واحدة: فأوَّلهم كان أحد العشرة المبشرين بالجنّة! وثانيهم كان "الطيّار"! وثالثهم كان شاعر رسول اللَّه شخصيًا!
يتبع. . . . .
"حتى يقولوا إذا مرّوا على جَدثي
…
أرشده اللَّه من غازٍ وقد رشدا! "
(الفرسان الثلاثة)
" أخذ الراية زيدٌ فأصيب، ثم أخذها جعفرٌ فأصيب، ثم أخذها ابنُ رواحة فأصيب"
(رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم)
في عام 1844 م ألّف كاتب فرنسي اسمه (أليكساندر دوما) رواية من محض خياله أسماها رواية "الفرسان الثلاثة"" Les Mousquetaires"، هذه الرواية الخيالية تسرد قصة ثلاثة حراسٍ ملكيين - (آثيوس) و (بوثوس) و (أراميس) - هؤلاء الثلاثة كانوا مدمني خمور يعملون خدمًا للملك الفرنسي (لويس الثالث عشر)، المهم أن الفرنسيين نشروا هذه القصة الخيالية في أرجاء الدنيا فجعلوا من ثلاثة فرنسيين مدمنين للكحول فرسانًا أسطوريين، تضرب بهم الأمثلة في البطولة والشرف، على الرغم من كونهم ثلاث شخصياتٍ خيالية لم تقدم شيئا فيه بطولة حتى في أحداث الرواية نفسها!
قبل ذلك بنحوه 1200 عام، خرج من صحراء العرب ثلاثة فرسانٍ حقيقيين، اتجهوا شمالًا نحو بلاد الشام على رأس سرية صغيرة مكونة من 3 آلاف مجاهد إسلامي، لتقابلهم جحافل الإمبراطورية الرومانية العظمى بكامل جيشها الإمبراطوري الضخم المكون من 200 ألف مقاتل! هدفهم إفناء تلك السرية! لتنتصر هذه السرية الصغيرة على قوات إمبراطورية بيزنطة انتصارًا لم تشهد الأرض مثله من قبل، ولكن ذلك الانتصار الأسطوري جاء بعد أن ضحى الفرسان الثلاثة بأرواحهم في ميدان المعركة، لا في سبيل ملك من ملوك الأرض، بل في سبيل ملك ملوك الأرض والسماء، هؤلاء الفرسان الثلاثة هم على الترتيب:(زيد بن حارثة) - (جعفر بن أبي طالب) - (عبد اللَّه ابن أبي رواحة)!
لا ألوم الفرنسيين على اختلاقهم لأبطالٍ وهميين لينشروا قصصَهم في مشارق الأرض ومغاربها، ولكنني ألوم المسلمين الذين ضيَّعوا قصص أبطالهم الحقيقيين! ففي الوقت الذي نرى فيه فرنسا تدرِّس قصة الفرسان الثلاثة في مدارسها، وتصنع لأطفالها
رسومًا متحركة تروي مغامراتهم الوهمية، نجد أن أطفال المسلمين -بل وشيوخهم- لا يعرفون شيئًا عن قصة الفرسان الثلاثة الحقيقيين! هذه المأساة جعلت أطفالنا يحلمون أن يصبحوا مثل "سبايدر مان" و"سوبر مان"، أما القعقاع الذي فقأ عين الفيل الأبيض في القادسية فلا يعرفه أحدٌ منهم! فهل آن الأوان لهذه المناهج العفنة أن تتغير؟! أما آن الأوان لكي نقف وقفة صدق مع أنفسنا لنعيد أسلوب كتابة التاريخ الإسلامي بشكل شيقٍ وممتعٍ يتقبله أطفالنا؟
(الفارس الأول) زيد بن حارثة: كان يُدعى بزيد بن محمد! فهو ابن رسول اللَّه بالتبني قبل أن يَلغي الإسلام نظام التبني، وهو حِبُّ رسول اللَّه، وهو الذي اختار محمدًا على أبيه، وهو من أول البشر الذين آمنوا بدعوة الإسلام، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وهو القائد العسكري الأول للسرايا النبوية المجاهدة، وهو الصحابي الوحيد الذي ذكر اسمه في القرآن:{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا} !
(الفارس الثاني) جعفر بن أبي طالب: عُرف بـ "جعفر الطيار"، ابن عم الرسول، وأخو علي بن أبي طالب، وأمير المسلمين بالحبشة، وهو الرجل الذي وقف أمام النجاشي يتحدث عن الإسلام!
(الفارس الثالث) عبد اللَّه بن أبي رواحة: شاعر الرسول، وأحد نقباء الأنصار الاثني عشر، قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم:"رحم اللَّه عبد اللَّه بن رواحة، إنه يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة"!
وقصة مؤتة تبدأ برسالة سلام ودية بعثها رسول السلام إلى ملك "بُصرى" بيد أسدٍ من أسود قبيلة "الأزد" هو الصحابي البطل (الحارث بن عمير الأزدي)، فقام ملك الغساسنة النصراني (شرحبيل بن عمرو) بقتل رسول رسول اللَّه، فاشتدّ ذلك على رسول الئْه، فأمر بتجهيز جيش من ثلاثة آلاف مجاهد لتأديب من غدروا بصاحبه، ووضع على رأس الجيش زيد بن حارثة، وقال:"إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد اللَّه بن رواحة"، وعقد لهم لواء أبيض، ودفعه إلى زيد بن حارثة، وأوصاهم رسول الرحمة بقوله:
"اغزوا بسم اللَّه، في سبيل اللَّه، مَنْ كفر باللَّه، لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تقتلوا وليدًا ولا
امرأة، ولا كبيرًا فانيًا، ولا منعزلًا بصومعة، ولا تقطعوا نخلًا ولا شجرة، ولا تهدموا بناء".
فخرجت نساء المسلمين لتوديع أزواجهن قائلات لهم: "ردَّكم اللَّه إلينا صابرين" فرد أحد المسلمين على زوجته قائلًا: "أما أنا فلا ردني اللَّه"! لقد كان هذا قول أحد الفرسان الثلاثة، عبد اللَّه بن رواحة!
وعند مدينة "معان" الأردنية وفي سهلٍ يقال له "مؤتة" غدر الروم بالمسلمين، فقاد الإمبراطور هرقل بنفسه جيشًا يقترب من ربع مليون مقاتل لقتال ثلاثة آلاف مجاهد فقط لم يأتوا أساسًا لقتال الروم! فتشاور المسلمون في القتال أو الرجوع، فأصر الشاعر البطل عبد اللَّه بن أبي رواحة على القتال، وفعلًا قاتل المسلمون جحافل النصارى، فكان القائد زيد أول شهداء المعركة، فتناول جعفر الراية قبل أن تسقط وأخذ يقاتل كالأسد المفترس، فقطعوا يده اليمنى، فتناول الراية باليسرى، فقطعوها له، فحملها بعضديه، فغرسوا رماحَهم في قلبه ليستشهد، ليتناولها ابن رواحة من صدر جعفر منشدًا:
يا نفس إن لم تُقتلي تموتي
…
هذا حياض الموت قد صليتِ
وما تمنيت قد لقيتِ
…
إن تفعلي فعلهما هديتِ
وإن تأخرت فقد شقيتِ!
فاستشهد الفرسان الثلاثة، واستشهد معهم تسعة آخرون، ليكون مجموع الشهداء في هذه الملحمة الأسطورية اثني عشر شهيدًا فقط! من بينهم القادة "الفرسان الثلاثة"، بينما قتل المسلمون 3350 فارسٍ من الأعداء (حسب مصدر أجنبي!)، لينتصر خالد بن الوليد بتنفيذ الخطة الخالدية!
الجدير بالذكر أنه كان من ضمن أولئك المجاهدين شابٌ دون العشرين من عمره اسمه عبد اللَّه، هذا الشاب كون فيما بعد مع ثلاثة رجالٍ يحملون نفس الاسم "عبد اللَّه" رباعيًا لم تعرف البشرية مثله أبدًا، فقد كان لهذا الرباعي العظيم الدور الأكبر في حفظ سنة رسول اللَّه إلى الأبد!
يتبع. . . . .
" الرباعي العظيم"(العبادلة الأربعة)
" وهؤلاء عاشوا حتى احتيج إلى علمهم، فإذا اتفقوا على شيء قيل: هذا قول العبادلة، أو فعلهم، أو مذهبهم"
(الحافظ البيهقي)
اشتُهرت في أيامنا هذه فرقٌ فنية تكونت من عدة أشخاص يحملون نفس الأسلوب والطابع، فقد تجد هنا ثنائيًا غنائيًا شهيرًا، وقد تجد هناك ثلاثيًا آخر للمسرح، وقد تجد رباعيًا مختصًا في الرقص وفنونه، وفي بعض الآحيان تجد خماسيًا استعراضيًا مهرِّجًا. الغريب في الأمر أن أيًا من تلك الفرق الفنية المشتركة لم يُكتب لها النجاح والاستمرار لأكثر من بضع سنوات، بل إنه في أغلب الأحوال يتحول أعضاء تلك الفرق إلى أعداءَ شرسين يحارب كل منهم الآخر، والأمثلة التاريخية المعاصرة أكثر من أن تُحصى!
أما فريقنا الرباعي العجيب الذي خرج من من قبيلة عربية أصيلة يقال لها "قريش" لم يكن كذلك! هذا الفريق لم يستمر في تقديم عروضه الناجحة لمدة سنة أو سنتين أو حتى مائة سنة فحسب، بل نجح هذا الرباعي العظيم في تقديم أعظم عرضٍ إنساني ناجحٍ في مسارح الزمن لمدة عرض قياسية جاوزت الألف والأربعمائة عام إلى حد الآن! الغريب أن هذا الفريق الرباعي ازدادت نجاحاته في السنوات القليلة الماضية بشكلٍ ملفتٍ للانتباه، حتى بات كثيرٌ من الشبان يُقبل محلى عروضهم باستمرار، هذا الرباعي لم يجتمع على آلة موسيقية، ولم يجتمع على حلبة رقص، هذا الرباعي اجتمع على راية بيضاء مكتوب عليها بلغة عربية صحيحة:"لا إله إلا اللَّه، محمد رسول اللَّه"، في أسفلها عبارة صغيرة مكتوبٌ عليها:"صُنع في بلاد الإسلام" وعلى يمينها ختم الجودة الصناعية المسجلة المحتوي على ثلاث كلمات من المنتج: "محمد رسول اللَّه"!
وليس عندي ذرة شكٍ واحدة، بأن أولئك العبادلة الأربعة تم اختيارهم من فوق سبع
سماوات من قبل اللطيف الخبير ليكوِّنوا هذا الرباعي العجيب، فكل شيءٍ فيهم مختارٌ بصورة تدعو للتعجب فعلًا! حتى في أسمائهم المتشابهة، وحتى في أسماء آبائهم العملاقة، فهذا ابن عمر بن الخطاب ثاني أعظم إنسانٍ في التاريخ بعد الأنبياء، وهذا هو ابن العباس بن عبد المطلب عمِّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ورفيقهما الثالث هو ابن حواري رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ابن البطل الأسطوري الزبير بن العوام، أما رابعهم فأكرم به وبأبيه، فهو ابن رمز الإيمان والبطولة، رمز الشرف والكرامة، أشهر فاتحٍ في تاريخ الإسلام القائد الكبير عمرو بن العاص عليه وعلى بقية أصحاب نبينا رضوان اللَّه ومرضاته.
الحقيقة أن سرَّ اختياري لهذه الأسماء الأربعة لتكون ضمن خانةٍ واحدة في كتاب العظماء المائة، لا يعني أبدًا انقاصًا لمكانتهم، فواللَّه إن حروف هذا الكتاب مجتمعة لا تكفي لحصر عظمة واحدٍ منهم فقط، ولكنني آثرت أن لا أفرق أسماءهم بعد مماتهم، وهي الأسماء التي مجتمعة على ذكر اللَّه في حياتهم. ثم إن سِيَرَ هؤلاء الأربعة فيها من العناصر التاريخية والخصائص الفكرية ما يجعل منهم كيانًا متينًا واحدًا، فهؤلاء الأربعة هم من أعظم فقهاء الإسلام على الإطلاق، بل إنني لا أشطط حين أقول: أن الإسلام الذي بين أيدينا الآن ما هو إلى ثمرة من ثمار أولئك العلماء الأربعة بالتحديد، والذين سخرهم اللَّه للإنسانية لكي يحفظوا لنا سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والتي بدونها لا يقوم الإسلام أبدًا، حتى بوجود القرآن نفسه، فالذي يعتقد أن القرآن هو المشرِّع الوحيد لهذا الدين فهو إمّا مجنون لا يفقه شيئًا في الدين، وإمّا مجرمٌ قذر يريد تدمير هذا الدين! وقد حذَّرنا من قبل في هذا الكتاب من ظهور مجموعات من شذّاذ الآفاق مؤخرًا ممن يطلقون على أنفسهم أسماءً برَّاقة مثل "القرآنيين" و"الإصلاحيين" و"المفكرين الإسلاميين"، وغير ذلك من الأسماء التي توهم بصلاح أصحابها، هذه المجموعة الشريرة والتي تأخذ تمويلها من جهات أجنبية معروفة، تبث سمومها على عامة المسلمين من خلال أوكارٍ لبث السموم يقال لها تمويهًا:"مراكز البحوث الإسلامية"، هؤلاء السفلة ليس لهم شاغلٌ في الحياة إلا الطعن في سنة رسول اللَّه عليه الصلاة والسلام، بل إنهم وسَّعوا من دائرة نشاطاتهم مؤخرًا ليطعنوا في صحابة الرسول، وزوجاته، بل في الرسول نفسه في بعض الأحيان! مدَّعين أن السنة التي بين أيدينا ما هي إلا روايات كُتبت بعد مئات
السنين من وفاة الرسول، فاعتدّوا بذلك أن السنة التي بين أيدينا الآن باطلة، وأن هذا الدين الذي بين أيدينا ليسس دينًا صحيحًا، لذلك وجب على شباب الأمة أن يدافعوا عن سنة رسولهم، ليس من خلال العنف الذي لا يزيد هؤلاء الخونة إلا صيتًا وشهرة، بل من خلال العلم والحقائق التاريخية الموثقة التي تسحب البساط من تحت أرجل أولئك المنافقين، فينكشف بذلك الستار عنهم، لتظهر للناس سوءاتهم، فيرى بذلك مريدوهم عمالتهم الواضحة وخيانتهم للأمة، ليُتركوا بعدها معزولين منبوذين، ليسقط الواحد فيهم في نهاية الأمر كما تسقط الثمرة العفنة!
والعبادلة الأربعة لم يكونوا وحدَهم من يحملون اسم "عبد اللَّه" من بين ما يزيد عن 100000 من الصحابة الكرام رضوان اللَّه عليهم أجمعين، فقد ذكر (الإمام النووي) رحمه الله أنه يعلم أن يوجد في الصحابة رضي الله عنهم مائتين وعشرين رجلا يُسمّى بـ "عبد اللَّه"، لكنه اشتهر إطلاق اسم العبادلة على أربعة منهم فقط وهم:(عبد اللَّه بن عمر، وعبد اللَّه بن عباس، وعبد اللَّه بن الزبير، وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص)، فهكذا ذكرهم أهل الحديث وغيرهم من العلماء. وقد علّل العلامة الفارسي العظيم الحافظ (أبو بكر أحمد بن الحسن البيهقي) إفراد العلماء لقب العبادلة على هؤلاء الأربعة فقط بقوله:"هؤلاء عاشوا حتى احتيج إلى علمهم، فإذا اتفقوا على شيء قيل: هذا قول العبادلة، أو فعلهم، أو مذهبهم".
ولأن الحديث عن العبادلة الأربعة طويل طويل، ولأن عظمتهم ناطحت سحب السماء سموًا وسؤددًا، فقد قررت أن أنجو بقلمي الضئيل من الغوص في سِير أولئك العمالقة العظام، فلو أردنا أن نستعرض فقط تلك الخدمات الجليلة التي قدمها الصحابي الورع (عبد اللَّه ابن عمرو بن العاص) للإسلام والمسلمين، لما كفانا كتابة عشر مجلدات ضخمة، من دون أي مبالغة في ذلك، لذلك سأذكر فقط رؤوس أقلام عن كلِّ واحدٍ منهم، تاركًا مجال البحث في سيرهم للقارئ الكريم من أمهات كتب التاريخ الإسلامية:
عبد اللَّه بن عمرو بن العاص: المؤسس الرائد لعلم الحديث، وأول إنسانٍ على وجه الكرة الأرضية يكتب حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال عنه أبو هريرة: "ليس أحد من أصحاب
الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر حديثا عن الرسول صلى الله عليه وسلم مني إلا عبد اللَّه بن عمرو بن العاص فإنه كان يكتب وكنت لا اكتب! ". فلقد كتب ابن عمرو رضي الله عنهما الحديث في حياة الرسول وبتوجيه خاصٍ منه، فجمع بذلك مئات الأحاديث من فم رسول اللَّه مباشرة، وهذا رد مباشر على "القرآنيين" الذين يدَّعون أن كتابة الحديث بدأت في عهد (عمر بن عبد العزيز) رحمه الله، فهذا الخليفة الأموي البطل أمر بجمع الأحاديث المحفوظة أساسًا إما في قرطاس وإما في صدور المسلمين تواترًا، وحتى الأحادث التي كُتبت لاحقًا تم جمعها بطريقة علمية ابتكرها المسلمون، هذه الطريقة العلمية لم يستخدمها إنسان قط قبل المسلمين (أو بعدهم)، ألا وهي طريقة "الإسناد"، وعلم السند ينص على ذكر الرواة بالتسلسل بطريقة علمية بحتة يُذكر فيها كل ما يتعلق بكل راوي على حدة، فلو اتضح أن هناك راويًا واحدًا فقط من بينهم اشتهر بالكذب والوضع في حياته، بطل الحديث بالكلية! وعبد اللَّه هو الابن الأكبر لعمرو بن العاص الذي شوَّه المستشرقون الصليبيون سيرته، وطعن فيها الشيعة أبشع الطعونات، ولعل السبب الرئيسي لهؤلاء وهؤلاء أنهم يعلمون علم اليقين أن ابن عمرو بن العاص هو الذي جمع سنة محمد نبي الإسلام، لذلك كان الطعن في عمرو وأولاده طعنًا للإسلام من جذوره!
عبد اللَّه بن عمر: أعتبره شخصيًا مؤسس علم العقيدة الإسلامية، تعلّم مباشرة على يد أستاذه الذي علم البشرية -محمد بن عبد اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو على الرغم من إنه من أعظم رواة الحديث، إلا أنني أراه أنه الشارح الأكبر لمفهوم العقيدة. والعقيدة مشتقة من الفعل العربي "عقد" أي ربط وأوثق، العقيدة في اللغة من العَقْد: وهو الرَّبطُ، والإبرامُ، والإحكامُ، والتَّوثُّقُ، والشَّدُّ بقوة، والتماسُك، والمُراصَّةُ، والإثباتُ؛ ومنه اليقين والجزم. فالعقيدة هي أهم شيء في الدين الإسلام، فإذا كانت العبادات هي أركان الإسلام، فالعقيدة هي الأساس الذي تقوم عليه تلك العبادات، فمن كانت عباداته من صلاة وزكاة وصوم وحج قائمةً على عقيدة خاطئة مثل الاعتقاد بقدرة الأولياء والتبرك بالقبور، فعباداته باطلة، لأن الأساس وهو العقيدة باطل، فما بُني على باطل هو بالضرورة باطل! والمضحك أن الشيعة يعتبرون أن عبد اللَّه بن عمر هو المؤسس الفعلي لـ "الوهابية"! علمًا أن الإمام (محمد بن عبد الوهاب) رحمه الله وُلد بعد مئات السنين
من موت ابن عمر، إلا أنني أرى أن الشيعة أصابوا كبد الحقيقة في اعتقادهم هذا، فإذا كانت الوهابية هي تطبيق القرآن والسنة والبعد عن التقليد الأعمى فقد صدقوا باستنتاجهم! فعبد اللَّه بن عمر لم يكن يُحَكم إلا القرآن والسنة بفهم سلف الأمة، فلم يكن ابن عباس يأخذ إلا بالقرآن وما صحَّ من أحاديث رسول اللَّه بفهم إجماع الصحابة، ضاربًا بعرض الحائط ما يتعارض مع ذلك حتى ولو كان صادرًا من أسماءٍ عملاقة، وهو صاحب المقولة الشهيرة:"ومن أبي؟! ". وقد رُوي رواية للترمذي أن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما رأى رجلا يعطس ويقول: الحمد للَّه والصلاة على رسول اللَّه! فنظر إليه ابن عمر وقال له: وأنا أيضا أحمد اللَّه وأصلى على رسوله لكن ما هكذا علمنا رسول، لقد علمّنا أن نقول الحمد للَّه!
عبد اللَّه بن الزبير: ابن حواري رسول اللَّه، وابن ذات النطاقين أسماء، وابن اخت أم المؤمنين عائشة، وحفيد أبي بكر الصديق، فرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان زوج خالته عائشة، وابن خال أبيه، وزوج عمة أبيه "خديجة"، فمن هذا الأصل الطاهر وُلد النبت الطاهر عبد اللَّه بن الزبير ليكون أوّل مولودٍ في الهجرة، ليتربى في مدرسة النبوة، لينهل منها دروس الفداء والتضحية، فهذا البطل بن البطل يرافق أباه طفلًا في معركة اليرموك، فقد كان أبوه الزبير يردفه على فرسه وهو يقتحم صفوف الأعداء ليعلمه فنون البطولة الإنسانية في أبهى صورها، فشهد يوم اليرموك، كما شهد فتح أفريقيا والمغرب وغزو القسطنطينية، ويوم الجمل مع خالته السيدة عائشة وكان يضرب المثل بشجاعته، وكانت خالته الطاهرة عائشة تعتبره ابنها الذي لم تنجبه، فكانت تكنى به فيقال لها "أم عبد اللَّه"!
عبد اللَّه بن عباس: حَبر الأمة، وترجمان القرآن، مؤسس علم التفسير، وأعظم مفسر للقرآن في أمة محمد، هو ابن العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم، وابن عم علي، وابن عم جعفر، وابن أخ حمزة، ولد ببني هاشم قبل عام الهجرة بثلاث سنين، وكان النبي محمد صلى الله عليه وسلم دائم الدعاء له، فقد دعا له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يملأ اللَّه جوفه علمًا وأن يجعله صالحًا. وكان النبي يدنيه منه وهو طفل صغير ويربّت على كتفه وهو يقول:"اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل". ولابن عباس قصة طريفة تعتبر مثالًا لكيفية التفوق العلمي لجميع بني البشر بدون استثناء، فقد توفي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعمر ابن عباس لا يتجاوز ثلاث عشرة
سنة، فقال ابن عباس لصاحبٍ له: دعنا نتعلم من أصحاب رسول اللَّه فإنهم اليوم كثير (أي قبل أن يموتوا واحدًا واحدًا)، فضحك منه زميله وقال: واعجبًا لك يا ابن عباس! أترى الناس يحتاجون إليك وفي الناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من ترى؟! فترك ذلك الفتى العلم، وأقبل ابن عباس على سؤال الصحابة والتعلم منهم، فكان إذا سمع أن هناك حديثًا عند رجلٍ منهم، ينطلق كالبرق إلى بيته في عز الظهر، ليفرد رداءه على الرمل أمام بيته ينتظر خروجه، فتسفي الريح عليه التراب، حتى يخرج الصحابي فيراه على تلك الحال والتراب يغطيه، فيقول له: يا ابن عم رسول اللَّه ألا أرسلت إلي فآتيك (أي آتيك لبيتك لأعلمك)، فيقول له ابن عباس بأدب طالب العلم: أنا أحق أن آتيك فأسألك! ومرت الأيام والسنين، حتى رآه صاحبه الذي رفض العلم وقد أحاط الناسُ به من كل اتجاه يريدون التعلم منه، فنظر إلى ابن عباس بحسرة وقال: هذا الفتى أعقل مني! وعندما قرر الحسين رضي الله عنه الخروج للعراق كان العباس أحد الذين نصحوا الحسين بقوله له: "إن أهل العراق قوم غدرٍ فلا تقربنهم" ولكن الحسين رحمه الله أصرَّ على المسير للعراق بعد ان اطمأن من مئات الرسائل التي بعثها الشيعة إليه من هناك، ليقوم نفس الذين بعثوا إليه الرسائل بحمل السيوف ضده، ليغدروا به ويقتلوه، ليصدق ظن ترجمان الأمة بأولئك القوم الخونة!
العجيب أن اللَّه شاء أن يُولدَ لعبد اللَّه بن عباس ولدٌ اسمه علي، ليولد لعلي ولدٌ اسمه محمد، ليُولد لمحمدٍ ولا اسمه عبد اللَّه، ليُولد لعبد اللَّه ولدٌ اسمه محمد، ليولد لمحمد طفلٌ في غاية الوسامة والجمال، هذا الطفل سيحمل عندما يكبر راية سوداء مكتوبٌ عليها باللون الأبيض "لا إله إلا اللَّه، محمدٌ رسول اللَّه" ليرفعها عاليًا في ثلاث قارات، فيكون عصره أكثر عصور دولة الإسلام ازدهارًا على الإطلاق، ليستحقَّ أن يسجَّل اسمه في سجل العظماء في أمة الإسلام. فمن تراه يكون ذلك الخليفة الإسلامي الرشيد؟ ولماذا شوِّهت صورته من قِبَل الإعلام العربي والغربي على حد سواء؟ وهل حقًّا كان رجلًا سِكيّرًا مغرمًا بالراقصات؟ أم تراه كان من أتقى وأورع وأعظم من حكم أمة محمد في تاريخها بأسره؟!
يتبع. . . . . .
ألف الحج والجهاد فما
…
من سفرتين في كل عامِ
" الخليفة الناسك"(هارون الرشيد)
" من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم قرأت كتابك يا ابن الكافرة والجواب ما تراه لا ما تسمعه"
كلّما تقدمت أكثر في هذا الكتاب، أدركت عِظمَ حجمِ الكارثة التاريخية التي حلّت علينا جميعًا! أعترف أنني ما كنت أحسب الخليفة العباسي هارون الرشيد -وإلى وقتٍ قريب- إلا سكّيرًا ماجنًا ليس له همٌ في الدنيا إلى معاقرة الخمر والاستمتاع باللذات الدنيئة! فلقد كنت كغيري ممن نالتهم سهام غزاة التاريخ لا أكاد أسمع باسم هارون الرشيد بالذات، إلا ويدور في خلجي ما رسمه لنا أولئك الغزاة عن تلك الليالي الماجنة في قصور بغداد، والتي تزينها الرقصات الرشيقة من قِبل الجواري الحسان اللائي تتراقصن بدورهن على أنغام الموسيقى، في الوقت الذي يحمل فيه غِلمان صغارٌ أباريقًا من خمرٍ تزيد من مجون الخليفة ووزرائه، والذين علت أصوات قهقهاتم حتى وصلت إلى خارج أسوار بغداد! لذلك أعتقد أن الوقت قد حان لكي نعترف أننا وقعنا بالفعل في شباك غزاة التاريخ، بل إنني أرى أنه ينبغي علينا أن تكون لدينا الشجاعة الكافية لكي نعترف أننا هُزمنا في الحرب التاريخية التي شُنَّت علينا خلال المائة أو المائتين عامٍ الماضية، وهذا ليس عيبًا أبدًا، فمعرفة الخطأ هي بداية عملية تصحيح المسيرة، فإن كان غزاة التاريخ قد انتصروا بدون أدنى شك في جولتهم السابقة، فإنهم بدأوا يواجهون في السنوات الآخيرة بالتحديد، رجالًا أبطالًا حملوا راية الجرح والتعديل لتاريخ هذه الأمة المجيدة، ليعيدوا كتابة تاريخها من جديد، ليخلِّصوها من الشوائب التي علِقت بها من قِبل المستشرقين وعملائهم، ليتغير بذلك مسار رحى المعركة التاريخية الشرسة بيننا وبينهم لصالح هذه الأمة، وإن كنّا نسلم بأن ذلك التغيير ما زال بطيئًا إلى حد الآن، إلا أن
المهم أن يستمر الجميع في عمله، فدرب الألف ميل يبدأ بخطوة، فمن كان يستيطيع الكتابة فليكتب شيئًا يساهم به في تلك الحرب الشرسة، ومن قرأ شيئا فليبلغه لأهله وزملائه، فيا من تطلبون الجهاد وتصرخون من أجله، هذه هي ساحتكم، فليس الجهاد أن تحمل رشاشا لتقتل به الأبرياء، وليس الجهاد أن تلقي بنفسك وبأمتك إلى التهلكة، بل الجهاد هو أن تنصر أمتك، والأمة الآن تحتاج إلى رجالٍ صادقين، وإلى نساءٍ صادقات، يصحح كل منهم تلك المفاهيم التاريخية الخاطئة التي تعلمناها في مدارسنا، أو شاهدناها في إعلامنا، ولعلكم ستعجبون الآن عند اضطلاعكم على القصة الحقيقية للتاريخ الحميد، للخليفة الرشيد، والمجاهد الصنديد، والمقاتل العتيد، البطل الإسلامي المجيد: هارون الرشيد رحمه اللَّه تعالى وأسكنه فسيح جناته.
وهذا الخليفة العباسي الهاشمي العظيم كان على العكس تمامًا من الصورة الذي أشاعها غزاة التاريخ عنه، فقد كان رحمه الله من أكثر خلفاء الإسلام جهادًا وغزوًا واهتمامًا بالعلم والعلماء، وليس كما يدعي الغزاة أنه كان منشغلًا بالجواري والخمر والسكر، فكتب التاريخ الإسلامي الأصلية مليئة بمواقف رائعة للرشيد في نصرة الإسلام والمسلمين، وزاخرة بمواقف زهده وورعه وتقواه، بل إن هارون الرشيد كان معروفًا أنه "الخليفة الذي يحج عامًا ويغزو عامًا"! فقد كان رحمه الله ديِّنًا محافظًا على التكاليف الشرعية، وصفه مؤرخو الإسلام أنه كان يصلي في كل يوم مائة ركعة إلى أن فارق الدنيا، ويتصدق من ماله الخاص بدون حساب، ولا يتخلف عن الحج إلا إذا كان مشغولًا بالغزو والجهاد، بل إن جمعًا كبيرًا من العلماء كانوا يذكرون أن هارون الرشيد كان من أكثر الناس تقريبًا للعلماء، ومن أشد الناس بكاءً عند سماعه للمواعظ، فقد قال عنه الإمام العظيم (أبو معاوية الضرير):"ما ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي الرشيد إلا قال صلى اللَّه على سيدي ورويت له حديثه وددت أني أقاتل في سبيل اللَّه فأقتل ثم أحيى ثم أقتل فبكى حتى انتحب". بل إن أبا معاوية الضرير (الذي كان ضريرًا بالفعل) روى قصة عجيبة عن هارون الرشيد الذي كان يملكها من الصين إلى الأطلنطي فقال: "صبّ على يدي بعد الأكل شخصٌ لا أعرفه فقال الرشيد تدري من يصب عليك قلت: لا. قال: أنا إجلالا للعلم! ". وكان علماء الأمة يبادلونه نفس التقدير، فقد رُوي عن (الفضيل بن
عياض! أنه قال: "ما من نفس تموت أشد علي موتا من أمير المؤمنين هارون، ولوددت أن اللَّه زاد من عمري في عمره". وقال الإمام (منصور ابن عمار): "ما رأيت أغزر دمعًا عند الذكر من ثلاثة الفضيل بن عياض والرشيد وآخر" وقد قال له العالم الرباني الفضيل ذات مرة: "يا حسن الوجه (وقد كان الرشيد جميلًا جدًا) أنت المسئول عن هذه الأمة، فجعل هارون يبكى ويشهق حتى كاد يُغمى عليه"، ورُوي أن (ابن السماك) دخل على الرشيد يومًا فاستسقى فأتى بكوز فلما أخذه قال:"على رسلك يا أمير المؤمنين لو منعت هذه الشربة بكم كنت تشتريها؟ " قال هارون: "بنصف ملكي" فلما شربها قال له: "أسألك لو منعت خروجها من بدنك بماذا كنت تشترى خروجها؟ " فقال هارون: "بجميع ملكي! " عنده انظر العالم الجليل إلى أمير المؤمنين هارون الرشيد وقال له: "إن ملكًا قيمته شربة ماء وبَولة، لجديرٌ أن لا يُنافسَ فيه! " فبكى هارون الرشيد بكاء شديدا حتى أشفق عليه من حوله.
وعلى الرغم من ورع الرشيد وتفرغه للعبادة وقيام الليل، فإنه لم يهمل شئون الدولة الإسلامية البتة، فقد كان عهد الخليفة العباسي العظيم هارون الرشيد أعظم عهدٍ في تاريخ الدول الإسلامية على الإطلاق من ناحية الازدهار الاقتصادي، والتقدم العلمي المبهر، والتطور الحضاري العظيم، فقد أنشأ هارون الرشيد بمشورة من زوجته الصالحة المجاهدة (زبيدة) طرقًا ممتدة توصل بلاد المسلمين بمكة والمدينة، وأقام على جوانب هذه الطرق الفنادق المجانية لزوار الحرم، كما أنشأ الرشيد أول جامعةٍ علمية في تاريخ البشرية أسماها "بيت الحكمة"، وزودها بأعداد كبيرة من الكتب والمؤلفات من مختلف بقاع الأرض كالهند وفارس والأناضول واليونان، وكانت تضم غرفًا عديدة تمتد بينها أروقة طويلة، خُصِّصت بعضها للكتب، وبعضها للمحاضرات، وبعضها الآخر للناسخين والمترجمين والمجلدين وكان الرشيد يشرف عليها شخصيًا هو وكبار رجال دولته، فكانوا يقفون وراء هذه النهضة بكل ما أوتوا من قوة (قارن ذلك بصورة سهرات الأنس التي صوَّرها الإعلام عن الخليفة ووزراءه!)، فكانوا يصلون أهل العلم والدين بالصلات الواسعة، ويبذلون لهم الأموال تشجيعًا لهم، وكان الرشيد نفسه يميل إلى أهل الأدب والفقه والعلم، ويتواضع لهم حتى إنه كان يصب الماء في مجالسه على أيديهم
بعد الأكل، فغدت حاضرة الرشيد "بغداد" قبلة لطلاب العلم من جميع البلاد، ليجدوا فيها كبار الفقهاء والمحدثين والقراء واللغويين وعلماء الرياضيات والترجمة وعلوم الطبيعة والفلك، وكانت المساجد تحتضن دروسهم وحلقاتهم العلمية التي كان كثير منها أشبه بالمدارس العليا، من حيث غزارة العلم، ودقة التخصص، وحرية الرأس والمناقشة، وثراء الجدل والحوار (قارن ذلك بحال المساجد هذه الأيام!)، وأُنفق الرشيد الأموال الطائلة في النهوض بالدولة الإسلامية العظمى، وتنافس كبار رجال الدولة في إقامة المشروعات كحفر الترع والأنهار، وبناء الحياض، وتشييد المساجد، وإقامة القصور، وتعبيد الطرق، بل إن الخليفة الإسلامي العظيم هارون الرشيد وضع بنفسه خطة علمية متكاملة، وميزانية ضخمة، لحفر قناةٍ بحريةٍ عملاقة، تربط بين البحر الأبيض المتوسط (بحر الروم) والبحر الأحمر (بحر القلزم)، إلا أنه رحمه الله وجزاه كل خير خشي أن يفتح المجال بذلك للروم للعبور من خلال تلك القناة، فتكون مكة والمدينة في متناول أيديهم. (وبذلك يكون هارون الرشيد هو صاحب فكرة إنشاء "قناة السويس" قبل أن تُنسب بعد ذلك بألف عام للص الفرنسي "فرديناندو ديليسبس" والذي سرق أموالها بعد ذلك لسنواتٍ طوال!).
أما "بغداد" فقد أصبحت قبلة الدنيا، وأصبحت معروفة في عهد الرشيد باسم "مدينة السلام"، فقد حظيت هذه المدينة التي بناها العباسيون حاضرة العالم بأسر بنصيب وافرٍ من العناية والاهتمام من قبل الخليفة الرشيد وكبار رجال دولته الأبطال، حتى بلغت في عهده قمة مجدها وتألقها، فاتسع عمرانها، فزاد عدد سكانها حتى بلغ نحو مليون نسمة (وقد كانت أعلى نسبة سكان لمدينة في العالم بأسره، تلتها مدينة إسلامية ثانية هي قرطبة الأندلسية، وإشبيلة الإسلامية في المركز الثالث على مستوى العالم)، فبُنيت في بغداد المساجد الضخمة، والمدارس المتنوعة، والمعاهد العلمية المتطورة، والقصور الفخمة، والأبنية الرائعة التي امتدت على جانبي دجلة، فأصبحت بغداد من اتساعها كأنها مدن متلاصقة، فصارت أكبر مركز للتجارة الحرة في العالم، حيث كانت تأتيها البضائع من الصين والهند وأوروبا وأفريقيا، فهاجر إليها فقراء النصارى واليهود، فاستقبلهم المسلمون بكل تسامحٍ ديني (سيتعامل هؤلاء فيما بعد مع هولاكو لإسقاط
بغداد وقتل أهلها المسلمين الذين استقبلوهم!!!). كما جذبت بغداد الأطباءَ والمهندسين وسائر الصناع، فأصبحت بغداد في عهد الرشيد المدينة الأولى في العالم بأسره من حيث التقدم الحضاري والتفوق العلمي والازدهار السكاني والعمراني، في ذات الوقت الذي كانت فيه مدنًا مثل باريس ولندن وبرلين غارقة في أوحال الظلام والتخلف الحضاري الرهيب!
أما في مجال الجهاد. . . فحدِّث ولا حرج! فهذا الخليفة الإسلامي العملاق والذي صوَّروه لنا وكأنه طبَّالٌ راقص، لم يكن من أعظم فاتحي المسلمين فحسب، بل كان من أعظم فاتحي البشرية على الإطلاق، فلا (نابليون) الذي تتغنى به فرنسا، ولا (تشرشل) الذي يفتخر به الإنجليز، ولا حتى (الإسكندر المقدوني) نفسه كانوا يملكون نصف ما ملكه الرشيد رحمه الله، فقد حكمها الرشيد من صينها إلى مغربها، ومن صحرائها الكبرى في قلب أفريقيا إلى قوقازها في مجاهل أوروبا، والعجيب أن هارون الرشيد تمكن من إدارة هذه الإمبراطورية الضخمة، المختلفة البيئات، والمتعددة العادات والتقاليد، وهو في سن التي 25 فقط! آخذين في عين الاعتبار صعوبة وسائل الاتصال والمواصلات في ذلك الوقت المبكر من التاريخ. فقد قام الرشيد بتنظيم الثغور المطلة على بلاد الروم على نحو لم يعرف من قبل، وعمّر الرشيد بعض مدن الثغور، وأنشأ الرشيد مدينة جديدة عرفت باسم "الهارونية" على الثغور، وأعاد الرشيد إلى الأسطول الإسلامي نشاطه وحيويته، ليواصل ويدعم جهاده مع الروم ويسيطر على الملاحة في البحر المتوسط، فأقام دارًا لصناعة السفن، وفكر في ربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط كما أسلفنا، وفي عهد الرشيد عاد المسلمون إلى غزو سواحل أوروبا، ففتحوا بعض الجزر واتخذوها قاعدة لهم، مثلما كان الحال في زمن الأمويين طيّبي الذكر، فأعاد الرشيد فتح "رودس" في جنوب إيطاليا سنة 175 هـ - 791 م، وأغارت الأساطيل الهارونية على "أقريطش"(كريت) و"قبرص" سنة 195 هـ - 806 م. واضطرت دولة الروم أمام ضربات الرشيد المتلاحقة إلى طلب الهدنة والمصالحة، فعقدت (إيريني) ملكة الروم صلحًا مع الرشيد، مقابل دفع الجزية السنوية له في سنة 181 هـ - 797 م، حتى قتلها متمردٌ اسمه (نقفور) واستولى على الحكم في بلاد الروم، 186 هـ -802 م،
فما إن تسلم هذا الإمبراطور الأحمق الأخرق الحكم حتى بعث برسالةٍ وقحة إلى أعظم إمبراطور في الدنيا خليفة الدولة الإسلامية أمير المؤمنين هارون الرشيد يقول فيها: "من نقفور ملك الروم إلى ملك العرب (لم يذكر اسم الرشيد!)، أما بعد فإن الملكة إيريني التي كانت قبلي أقامتك مقام الأخ، فحملت إليك من أموالها، لكن ذاك ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فأردد ما حصل قبلك من أموالها، وافتد نفسك، وإلا فالحرب بيننا وبينك! فما إن فرغ الخليفة هارون من قراءة تلك الرسالة الوقحة حتى ثارت ثائرته، واحمر وجهه الأبيض (وقد كان هارون الرشيد رحمه الله مثل جده رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يحمر وجهه الأبيض ساعة الغضب)، فتناول هارون الرشيد الرسالة وكتب على ظهرها بعزة العربي القرشي، وشهامة المسلم الموحد: "من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه لا ما تسمع! " فانطلق هذا الصقر العربي المسلم بنفسه إلى مدينة الروم، بجيشٍ ما عرفت الأرض مثله،، حتى وصل "هرقلة" وهي مدينة بالقرب من "القسطنطينية"، فدكها دكًا جعل منها نسيًا منسيًا، فلم يبق منها إلا اسمها وبقايا ذكريات! فحرقها عن بكرة أبيها، وانطلق بعد بسرعة يريد إزالة العاصمة "القسطنطينية" من على وجه الأرض، فأسرع الكلب نقفور بالكنوز والمجوهرات يحملها بنفسه إلى هارون الرشيد، يستحلفه بمحبته لنبي اللَّه عيسى أن يقبل منه هذه الكنوز كجزية، بعد أن صار يناديه بأمير المؤمنين، فرفض هارون ذلك، واشترط عليه لقبول تلك الكنوز كجزية أن يطلق سراح كل المسلمين من سجونه أولًا، فما كان من كلب الروم إلا أن أطلق سراح آلاف الأسارى من السجون الصليبية، فلم يبقَ شخصٌ يوحِّد اللَّه في أي سجني رومي بفضل هذا البطل الإسلامي العملاق هارون الرشيد، والذي استُشهد وهو في طريقه للجهاد في بلاد الشرق، وهو في سن -المفاجأة الكبرى- 46 سنة فقط!!! فرحمك اللَّه يا أبا الأمين، أيها الأسد الهاشمي العربى، وجزاك اللَّه كل خير لما قدمته للإسلام، وأعاننا اللَّه أن نعطيك حقّك في التاريخ، وأن ندفع عنك الشبهات، فمثلك أحق أن يُنصر، ومثلنا أحق أن يَنصر، فجزاك اللَّه كل خير لما قدّمته أنت وأمثالك لأمة الإسلام!
ودبل أن نترك هذا العظيم، لكي ننتقل إلى عظيم إسلامي آخر، ينبغي علي أن أذكر
على وجه السرعة أمرين اثنين أرى أنهما من الأهمية بمكان:
(أولهما) أن هناك قصة شهيرة يرددها بكل أسف المسلمون وهم يظنون أنها قصة تدعو للفخر والاعتزاز، هذه القصة هي قصة هدية هارون الرشيد للملك الألماني (شرلمان)، مختصر هذه القصة أن الرشيد بعث لشارلمان بهدية عبارة عن ساعة ضخمة، ليتعجب منها ذلك الملك الأوروبي ويظنها أنها مسكونة بالجن، وهذه القصة وإن كانت تبدو أنها قصة تبين مدى الرقي العلمي الذي وصل إليه المسلمون، إلا أنني أعتبرها من أخبث القصص التي انتشرت بين المسلمين، وسبب ذلك أن من روج لهذه القصة بين أن سبب الهدية هو دعم الرشيد لشارلمان الصليبي في قتاله للخلافة الأموية في الأندلس! وهذا إفكٌ واضح، وشرٌ فاضح، فأي تحالفٍ هذا الذي يعقده مجاهدٌ بتدين الرشيد مع صليبي مثل شارلمان؟! وأي قوة يرجوها إمبراطور مثل هارون الرشيد من ملكٍ من ملوك أوروبا المظلمة؟! فلو أراد الرشيد أن يستولي على الأندلس بأسرها من أيدي أبناء عمومته الأمويين، لاستولى عليها بلمح البصر، بل إنه لو كان يرى في أوروبا نفسها ما يستحق عناء غزوها في ذلك الوقت المظلم، لما أبقى فيها مدينة من دون أن يضمها إلى إدارة بغداد المركزية، ولقد بحثت شخصيًا عن مصدر هذه المعلومة، والحمد للَّه صدقت توقعاتي، فهذه المعلومة مصدرها الوحيد مستشرقة ألمانية تُدعى (زيغريد هونكه)!
(ثانيهما) أكثر من تكرر ذكرهم في هذا الكتاب: "قوم كالعادة"، والذين مللت شخصيًا من ذكرهم وذكر خياناتهم، فواللَّه لا أقصد أبدًا تكرار قصص خياناتهم في هذا الكتاب، لكنني ما بحثت في قصة من قصص الإسلام إلا ووجدت خيانة شيعية مغروسة في قلبها! وكأن القوم قد رضعوا الغدر رضاعة! فالخطا الوحيد الذي ارتكبه الرشيد في خضم هذه السيرة العظيمة هو أنه آمن للشيعة، فجعل لأحدهم منصبًا وزازيا، المشكلة ليس في ما فعله الرشيد رحمه الله الذي ربّما أراد أن يعطي أولئك الخونة فرصة ليصلحوا بها ماضيهم القذر المليئ بالخيانات، المشكلة تكمن في الجريمة التي فعلها الوزير نفسه! والتي نقلها رواة الشيعة أنفسهم، كالعالم الشيعي الملقب بصدر الحكماء ورئيس العلماء (نعمة اللَّه الجزائري) في كتابه المعروف "الأنوار النعمانية" (2/ 308 طبعة تبريز
إيران)، و (محسن المعلم) في كتابه "النصب والنواصب" (ص 622 ط دار الهادي - بيروت) ونصها:"وفي الروايات أن علي ابن يقطين وهو وزير هارون الرشيد قد اجتمع في حبسه جماعة من المخالفين (يعني بهم مسلمين سنيين!)، وكان من خواص الشيعة، فأمر غلمانه فهدموا سقف الحبس على المحبوسين فماتوا كلهم وكانوا خمسمائة رجل تقريبًا، فأرادوا الخلاص من تبعات دمائهم فأرسل إلى الإمام مولانا الكاظم فكتب عليه السلام إلى جواب كتابه، بأنك لو كنت تقدمت إلي قبل قتلهم لما كان عليك شيء من دمائهم، وحيث إنك لم تتقدم إليَّ فَكَفِر عن كل رجل قتلته منهم بتيس والتيس خير منه! ". (وهذه الرواية ذكرها علماء الشيعة يستدلون بها على جواز قتل الناصبي، والناصبي بتعريف الشيعة: هو كل من لا يعترف بأن الحسين ونسله (من شاه زنان الفارسية!) لديهم قدرة كونية على الخلق وعلم الغيب، ويعني ذلك بالمختصر المفيد أن دمي ودمك مستباحٌ من قِبل أولئك الإرهابيين شريطة أن يضحوا عن كلِّ واحدٍ منّا بتيس!
وبعد الرشيد. . . . نظل مع العباسيين أيضًا، ولكننا هذا المرة لن نستخدم قطار (الخلود الإسلامي)، أو طائرة (ابن فرناس)، أو سفينة (بيري رئيس) أو جمال (ابن تاشفين) للوصول إلى بطلنا الإسلامي القادم، فلقد حان الوقت لكي نستخدم وسيلة نقل جديدة هي "الزلاجات الجليدية" لنصل بها إلى بطلنا القادم، لكي نسبر أغوار مغامراته العجيبه في القطب الشمالي، حيث الثلوج المتراكمة، والبحيرات الجليدية. فمن يكون ذلك المغامر العباسي الذي الذي ألهم خيال السينما الأمريكية بمغامراته الشيّقة، وحكاياته العجيبة؟
يتبع. . . . . .
" المحارب الثالث عشر"(أحمد بن فضلان)
" فأخبرته الساحرة الشمطاء (ملك الموت) أنه يجب عليه أن يُكوّن فريقًا كاملًا مؤلفًا من ثلاثة عشر محاربًا أحدهم من غير أهل الشمال، فتم اختياري لأكون ذلك المحارب الثالث عشر! فحاولت الاعتذار بكافة الطرق للهرب إلى بغداد، ولكن دون جدوى، فاعتبرت نفسي في عداد الأموات، وسافرت مع أولئك المجانين الشقر عبر الثلوج إلى إسكندنافيا، لأرى هناك العَجب العُجاب. . . "
(من رسالة أحمد بن فضلان)
لن أكون متشائمًا إذا ما قلت أنه من بين كل عشرة آلاف فردٍ منّا سنجد إنسانًا واحدًا فقط سمع باسم هذا المغامر الإسلامي العظيم، ولن أكون متفائلًا إذا ما ادّعيت أن من بين كل عشرة آلاف سنجد خمسة عشر ألفًا يعرفون اسم السندباد! فجميعنا من دون أي استثناء سمع بقصص السندباد، ونصفنا على الأقل يفرق بين قصص السندباد البّري وقصص السندباد البحري، فتكون بذلك شعبية السندباد بين المسلمين تساوي 150 %، بينما تكون شعبية أحمد بن فضلان تساوي 0.01 % على أحسن التقديرات!
واللَّه إن العيب كل العيب أن نجهل تاريخ أبطالنا الحقيقيين إلى هذه الدرجة المخيفة! فسندباد ليس إلا شخصية خيالية وضعها المستشرقون لنا في كتاب قذرٍ مليءٍ بالقصص الجنسية المخجلة اسمه: "ألف ليلة وليلة"! وعلاء الدين الذي نروي قصصه لأطفالنا كل ليلة لم يكن قبل أن يعثر على مصباحه السحري إلا شابًا فاشلًا لم يعمل في حياته البتة! وعلي بابا الذي نغني باسمه ما هو إلَّا لصٌ سرق من اللصوص الأربعين ما كانوا قد سرقوه هم بالأصل من فقراء بغداد! ليُكوِّن هذا "الحرامي الواحد والأربعون" ثروته من أموالٍ حرامٍ! فأي قدوة ترجوها لطفلك وأنت تروي له مثل هذه القصص؟! وكيف لأمةٍ تريد النهوض بنفسها من سنوات الهوان والتبعية أن تردد على مسامع
أطفالها قصصًا ساذجةً في نفس الوقت الذي تضيِّع فيه تاريخَ أبطالٍ حقيقيين مثل المغامر ابن فضلان؟ ولا أقولها تحيزًا أو عنصريةً، فلقد بحثت في كتب المتقدمين والمتأخرين، فما وجدت في تاريخ الأرض منذ نشأة آدم وإلى يوم الناس هذا عظيمًا واحدًا من عظماء الأمم والشعوب لديه عُشر مِعشار عظمة عظيمٍ واحدٍ من عظماء أمة الإسلام العظيمة! وأنا هنا أتكلم بنظرةٍ تاريخيةٍ بحتةٍ نابعةٍ من باحثٍ تاريخيٍ يزعم أنه قرأ تاريخ الحضارات من أول "الحضارة الصينية" التي أسسها الملك (شانغ) في الصين، إلى أيام "الحضارة الغربية" التي تسود العالم الآن، بل إني اكاد أجزم بأن تاريخ الأرض وتاريخ البشرية لا يساوي شيئًا على الإطلاق بدون تاريخ المسلمين، بل إن تاريخ الإسلام هو تاريخ الأرض نفسها!
ولقد خدعوك فقالوا لك في كتب التاريخ المدرسية أن "الحضارات قامت على ضفاف الأنهار"، فبربكم أي نهرٍ هذا الذي كان يجري بين مكة والمدينة عندما حمل محمد بن عبد اللَّه شعلة الحضارة الإنسانية ليضيئ بها ظلام الدنيا بأسرها؛ فهل سمع أحدٌ منكم نهرًا كان يُسمَّى نهر مكة؟ أو بحيرة الحارث بن حِلّزة مثلًا؟ وأي حضارة هذه التي قامت قديمًا على مصاب أنهار أوروبا اللامعدودة؟ فواللَّه لا أكاد أمر بمدينة أوروبية إلا وأجد فيها نهرًا أو نهرين يمران بها، بل إنني رأيت مدينة تجري بها ثلاثة نُهُرٍ!
وقصة مغامرنا الإسلامي -أحمد بن فضلان- توضح بشكلٍ بعيد مفهوم الحضارة ومقومّاتها، وفي نفس الوقت توضح لنا مدى القصور المعرفي المخيف الذي نحن عليه، فكيف لأطفالنا وشبابنا بل وحتى شيوخنا أن يجهلوا شخصية عظيمة مثل شخصية المغامر الإسلامي الرائع فعلًا أحمد بن فضلان، فحكايات هذا البطل العربي تفوق في غرابتها وتشويقها قصصر السندباد الخرافية، بل إن السينما الأمريكية والأوروبية صنعت له أفلامًا عالمية من شدة روعة مغامرته، كان أبرزها فلم أنتجته استديوهات السينما في هوليود سنة 1999 م اسمه "المحارب الثالث عشر، The 13 th Warrior"، وهذا الفلم بما يحمله من تشويه للقصة الأصلية لطلنا الإسلامي إن دلَّ على شيء فإنه يدل على إهمالنا الفظيع بتاريخنا وتراثنا الإسلامي، الذي استخدمه الغرب في أدبه وفنونه.
وتبدأ قصة بطلنا يوم الخميس الموافق الحادي عشر من شهر صفر لسنة 309 هـ الموافق
لحزيران سنة 921 ميلادية عندما قاد عالم إسلامي جليل اسمه الشيخ (أحمد بن فضلان) بعثة دعوية خرجت من "بغداد" -عاصمة النور آنذاك- بتكليف من الخليفة العباسي (المقتدر باللَّه) رحمه الله إلى قلب القارة الآسيوية تلبية لطلب ملك الصقالبة البلغار (ألمش بن يلطوار) الذي طلب التعريف بالدين الإسلامي، عله يجد تفسيرًا للغز الكبير المثار وقتها ألا وهو "كيف استطاع هذا الدين الآتي من قلب الصحراء أن يكوّن تلك الإمبراطورية الضخمة التي لم تضاهها أي إمبراطورية في تاريخ الأرض؟ "
وأستسمح القارئ الكريم مرة أخرى لأقف عند نقطتين مهمتين قبل أن نغوص في مغامرات بطلنا الشيقة.
(النقطة الأولى): كثيرٌ منّا للأسف يعتقد أن الدولة العباسية كانت دولة مفككة، والحقيقة أن هذا شيء عارٍ عن الصحة التاريخية، فلا شك أن الدولة العباسية -كحال كل دول الأرض- ضعفت في نهاياتها، ولكن الشيء الذي لا يعرفه الكثير أن أبرز علماء الأمة -بما فيهم البخاري نفسه- ظهروا في العهد العباسي، وكما كان الأمويين يرسلون البعثات إلى العالم للدعوة للإسلام تحت مسمى "رجال الملابس البيضاء"، فقد كان للعباسيين رحمهم الله دعاة عُرِفوا في أرجاء العالم باسم "رجال الملابس السوداء"!
(النقطة الثانية): التشويه الرهيب الذي صنعه الغرب بتاريخ المسلمين ومن بينهم أحمد بن فضلان بطبيعة الحال، فالشيء المضحك المبكي في الأعمال الفنية التي صنعها الغرب لأحمد بن فضلان من روايات وأفلام، أنهم ادّعوا أن الخليفة العباسي "المقتدر باللَّه" رحمة اللَّه عليه إنما اختار ابن فضلان لهذه البعثة لكي يبعده عن عشيقته التي كان الخليفة الإسلامي متيمًا بها، وأنا لا أعجب من أولئك المزوِّرين الذين زوروا كتب اللَّه من قبل، ولكني أعجب من الشعوب الأوروبية والأمريكية من عوام الناس الطيبين، أليس بهم رجلٌ رشيدٌ يتساءل كيف للخليفه الإسلامي الذي يحكمها من شرقها إلى غربها أن يعجز من التخلص من رجل واحدٍ من رعيته بدون استخدام هذه الطريقة الرخيصة؟! والحق أقول أنني أضحك الآن وأنا أكتب هذه الكلمات، فلقد تذكرت الآن قصة وردت في "الكتاب المقدس" أعتقد أنها مصدر التحريف الذي وضعوه لابن فضلان، فهذه القصة متطابقة تمامًا مع القصة المحرفة التي وضعوها لصاحبنا، فهذه
القصة الجنسية التي وردت في "الكتاب المقدس" في سِفر صموئيل الثاني [11: 1]، تدّعي زورًا وبهتانًا على نبي اللَّه داود عليه السلام أنه استخدم نفس هذه الحيلة الرخيصة لكي يشبع شهوته الجنسية، ففي يومٍ من الأيام وبينما داود يتمشى على سطح البيت، رأى من على السطح امرأة عارية تستحم، فأعجب بجمالها (كما تزعم رواية الكتاب المقدس!)، فأرسل وسأل عن المرأة، ليكتشف أنها (بشثبع بنت اليعام) امرأة (أوريا الحثى)، ولكن داود على حد زعمهم لم يأبه لكونها متزوجة، فقام باغتصابها، لتأتيه المرأة بعد ذلك لتقول له أنها قد حبلت، فقام داود بتدبير حيلة رخيصة للتخلص من زوجها (هي نفسها الحيلة التي ينسبونها للخليفة العباسي)، وأترك "الكتاب المقدس" ليكمل لنا هذه القصة التي يستحي القلم قبل صاحبه في إكمالها:"وَفِي الصَّبَاحِ كَتَبَ دَاوُدُ رِسَالَةً إِلَى يُوآبَ، بَعَثَ بِهَا مَعَ أُورِيَّا، جَاءَ فِيهَا: اجْعَلُوا أُورِيَّا في الْخُطُوطِ الأُولَى حَيْثُ يَنْشُبُ الْقِتَالُ الشَّرِسُ، ثُمَّ تَرَاجَعُوا مِنْ وَرَائِهِ لِيَلْقَى حَتْفَه، فأرسل داود وضم امراة اوريا الي بيته وصارت له امراة وولدت له ابنا"(ملاحظة مهمة: اكتشفت مؤخرًا من مناقشتي مع زميل شيعي أن الشيعة يؤمنون بهذه القصة المفتراة التي وضعها أبناء عمومتهم اليهود على نبي اللَّه داود، وأنهم يعتقدون أن داود كان زانيًا والعياذ باللَّه، وأن الذي أنقذه من الخطيئة هو إيمانه بولاية الأمة من أبناء شاه زنان بنت كسرى يزدجرد!!!)، الشيء المحزن الذي وجدته خلال بحثي في قصة هذا الداعية الإسلامي، أن الأدباء العرب قاموا بترجمة ما كتبه الغربيون عن ابن فضيل وكأنه قرآن منزل، فجعلوا منه صعلوكًا لا هم له إلا الزنى وشرب الخمر، فرددوا كالببغاوات ما يردده الغرب عن أبطالنا، لكي يغيروا مسار القصة من كونها بعثة دعوية قام بها داعية إسلامي، إلى قصة جنسية قام بها مسلم منحرف!
وبعد أن عرفنا مصدر الطعونات الجنسية التي يكيلها الصليبيون بين التارة والأخرى لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والرموز الإسلامية من هارون الرشيد وغيره جاء الوقت لكي نكمل مغامرتنا مع ابن فضلان. فقد توغل أبن فضلان في بلاد الروس حتى وجد أناسًا من "الفايكنج" وهي القبائل التي تسكن السويد والنرويج والدنمارك وإيسلندا، ولنترك ابن فضلان نفسه الذي جاء من بغداد رمز الحضارة الإسلامية يصف لنا ما شاهده بأم عينه:
"كان أعظم ما يعلمه أولئك القوم من الحلي هو الخرز الأخضر! يشترون الخرزة
بدرهم، وينظمونه عقودًا لنسائهم. وهم أقذر خلق اللَّه لا يستنجون من غائط ولا بول، ولا يغتسلون من جنابة، ولا يغسلون أيديهم من الطعام، بل هم كالحمير الضالة، يجيئون من بلدهم فيُرسون سفنهم بإتل، وهو نهر كبير، ويبنون على شطه بيوتًا كبارًا من الخشب. ولا بد لهم في كل يوم من غسل وجوههم ورؤوسهم بأقذر ماء يكون وأطفسه. وذلك أن الجارية توافي كل يوم بالغداة، ومعها قصعة كبيرة فيها ماء، فتدفعها إلى مولاها فيغسل فيها يديه ووجهه، وشعر رأسه فيغسله ويسرّحه بالمشط في القصعة، ثم يتمخط ويبصق فيها، ولا يدع شيئًا من القذر إلا فعله في ذلك الماء، فإذا فرغ مما يحتاج إليه حملت الجارية القصعة إلى الذي جانبه ففعل مثل فعل صاحبه، ولا تزال ترفعها من واحد إلى واحد حتى تديرها على جميع من في البيت. وكل واحد منهم يتمخط ويبصق فيها ويغسل وجهه وشعره فيها. وساعة توافي سفنهم إلى هذا المرسى يخرج كل واحد منهم ومعه خبز ولحم وبصل ولبن ونبيذ، حتى يوافي خشبة طويلة منصوبة، لها وجه يشبه وجه الإنسان، وحولها صور صغار، وخلف تلك الصور خشب طوال قد نصبت في الأرض، فيوافي إلى الصورة الكبيرة ويسجد لها، ثم يترك الذي معه بين يدي الخشبة -ويقول لها:"يا ربي! أريد أن ترزقني تاجرًا معه دنانير ودراهم كثيرة فيشتري مني كل ما أريد ولا يخالفني فيما أقول"؛ ثم ينصرف. فإذا تعسر عليه بيعه وطالت أيامه، عاد بهدية ثانية وثالثة، فإنْ تعذر ما يريد، حمل إلى كل صورة من تلك الصور الصغار هديةً، وسألها الشفاعة، وقال:"هؤلاء نساء ربنا وبناته وبنوه"، لا يزال يطلب إلى صورة صورة يسألها، ويستشفع بها ويتضرع بين يديها، فربما تسهّل له البيع فباع، فيقول:"قد قضي ربي حاجتي، وأحتاج أن أكافيه". فيعمد إلى عدة من الغنم أو البقر فيقتلها ويتصدق ببعض اللحم، ويحمل الباقي فيطرحه بين يدي تلك الخشبة الكبيرة والصغار التي حولها. ويعلق رؤوس البقر أو الغنم على ذلك الخشب المنصوب في الأرض. فإذا كان الليل وافت الكلاب فأكلت جميع ذلك، فيقول الذي فعله:"قد رضي ربي عني وأكل هديّتي! " وإذا مرض منهم الواحد ضربوا له خيمة ناحيةً عنهم، وطرحوه فيها، وجعلوا معه شيئًا من الخبز والماء، ولا يقربونه ولا يكلمونه، بل لا يتعاهدونه في كل أيام مرضه لا سيما إن كان ضعيفًا أو مملوكًا. فإن برئ وقام رجع إليهم، وإن مات أحرقوه، فإن كان
مملوكًا تركوه على حاله تأكله الكلاب وجوارح الطير. وكان يقال لي إنهم يفعلون برؤسائهم عند الموت أمورًا أقلها الحرق. فكنت أحب أن أقف على ذلك، حتى بلغني موتُ رجل منهم جليل، فجعلوه في قبره، وسقفوا عليه عشرة أيام حتى فرغوا من قطع ثيابه وخياطتها. وذلك أن الرجل الفقير منهم يعملون له سفينة صغيرة، ويجعلونه فيها ويحرقونها. والغني يجمعون ماله، ويجعلونه ثلاثة أثلاث. فثلث لأهله، وثلث يقطعون له به ثيابًا، وثلث ينبذون به نبيذًا يشربونه يوم تقتل جاريتُه نفسها، وتُحرَق مع مولاها. وهم مستهترون بالنبيذ يشربونه ليلًا ونهارًا، وربما مات الواحد منهم والقدح في يده. عندما يموت رجل جليل منهم، أو أحد رؤسائهم يقومون بوضعه في قبره ويقفلون عليه القبر لمدة عشرة أيام، حتى يفرغوا من تفصيل وحياكة الملابس اللازمة لهذه المراسم، مراسم حرق الميت، ومن ضمن هذه المراسم أن تحرق معه إحدى جواريه، فسأل سائل: من منكن يموت معه؟ فوافقت إحداهن طائعة راضية بمحض إرادتها، فهذا حسب معتقداتهم شرف لها، ومن لحظة موافقتها، تسهر بقية الجواري علي خدمتها، لدرجة أنهن يغسلن رجليها بأيديهن وهم يستعدون لتفصيل وحياكة الملابس اللازمة للحرق والجارية في كل يوم تشرب وتغني فرحة مستبشرة. ولما كان اليوم الذي سيحرق فيه الميت وجاريته، قامت الاستعدادات لذلك أمام النهر الذي ترسو فيه سفينته، التي يجري إعدادها بشكل فائق الجودة والبذخ بما فيه السرير الذي سوف يمدد عليه الرجل المتوفى، وتشارك في هذه المراسم، امرأة عجوز شمطاء، تسمي عندهم (ملك الموت) وهي التي تتولي قتل الجارية التي وافقت علي الموت مع سيدها وفي اللحظة المحددة يخرجون الميت من قبره، ويلبسونه سراويل جديدة، ويضعونه في الخيمة التي علي السفينة، ويجلسونه وقد اسندوه بالمساند، ووضعوا أمامه الفاكهة والريحان والنبيذ والخبز واللحم والبصل، ثم يقطعون كلبًا إلى نصفين ويلقونه في السفينة، ويضعون جنب المتوفى جميع سلاحه، ثم يجيئون بفرسين يذبحونهما بعد الغرق ويقطعون لحمهم بالسيف ويلقونه بالسفينة، ثم يفعلون الشيء ذاته ببقرتين وديكا ودجاجة، وأثناء ذلك تقوم الجارية التي سوف تحرق معه بالمرور داخل الخيم المنصوبة علي شاطئ النهر أمام السفينة، فينكحها كل صاحب خيمة ويقول لها: سلّمي على مولاكِ وقولي له إنما
فعلت هذا حبًا به! وبعد حركات متعددة تقوم الجارية أمام الحضور مع العجوز (ملك الموت) لتصعد إلي السفينة، فتشرب النبيذ، قدحًا بعد قدحٍ، وملك الموت تقتلها بخنجر عريض النصل، والرجال يضربون بالخشب علي التراس، لئلا يسمع صوت صراخها، فتجزع بقية الجواري، فلا يوافقن بعد ذلك علي الموت مع أسيادهن، ثم يتم حرق السفينة بكل ما فيها: الرجل السيد المتوفى وجاريته المتوفاة، وكل الأشياء والحاجات التي تم جمعها في السفينة، في أثناء تلك المراسم العجائبية".
وبعد هذه المناظر الهمجية التي رآها ابن فضلان في مغامرته، صلى للَّه ركعتين شكرًا للَّه على نعمة الإسلام، وقرر الرجوع إلى البلاد الإسلامية وترك أولئك الهمجيين، واعتقد ابن فضلان أنه بعد مشاركته في مراسم الميت ودفنه، سوف يسمح له بالمغادرة، لكن ظنه خاب، فقد بدأ الصراع الداخلي بين زعماء أهل الشمال لخلافة الزعيم المتوفى، وانحصر الصراع بين زعيمين منهم. وكان كل واحد يحشد لمناصرته الأعيان وذوي النفوذ، ووإن أحدهما ويدعى (توركيل) يتطلع لمساندته ضد الآخر ويدعى (بولييف) في صراعهما علي الزعامة، خاصة أنه (توركيل)، كان طيلة الوقت يعتقد أن ابن فضلان مشعوذ وساحر يتمتع بقوة معينة، بسبب قراءته للقرآن وقيامه الليل، لذلك سمع ابن فضلان نصيحة الترجمان، وقرر البقاء وعدم اللجوء للهرب، لأنه سيعامل في حالة إكتشاف أمره كلص، حيث يقوده الناس إلي شجرة ضخمة، ويوثقون حبلا قويا حوله ويشنقونه ثم يتركونه معلقا حتى يبلي جسمه ويتناثر إربًا إربًا بفعل الريح والمطر. ثم حدثت مفاجأة غيرت من مجري الصراع على الزعامة، فقد وصل رسول من بلاد الشمال البعيدة "السويد" من قبيلة بولييف ليخبره أن هناك أخطارا جمة تحيق ببلاده البعيدة وأنه علي بولييف الاستعداد للعودة إلي بلاده لإنقاذها من هذه الأخطار، فقام بولييف باستدعاء العجوز الشمطاء (ملك الموت) فقامت ببعض حركات الشعوذة لتخبر بعدها بولييف أنه دُعي من قبل الآلهة لترك هذا المكان بسرعة، وأن ينصرف كبطل لصد ما يهدد بلاد الشمال من الخطر، وأخبرته أيضًا أن فريقه كاملا يجب أن يكون مؤلفًا من ثلاثة عشر محاربًا أحدهم من غير أهل الشمال، لذلك كان الثالث عشر غير الشمالي هو أحمد بن فضلان، ومنذ تلك اللحظة حمل صفة المحارب الثالث عشر،
رغم كل الاعتذارات والتبريرات التي قدمها لاستثنائه من تلك المهمة، لذلك كانت هذه الحالة الإجبارية كارثة حقيقية لابن فضلان، مما حدا به للقول:"بالنسبة لشخصي اعتبرت حالي كحال الشخص الميت".
لتبدأ بذلك مغامرة جديدة لا يتسع كل كتابي هذا لذكرها، فقد كان الهدف الذي أردته هو تنبيه الأمة بتاريخها المنسي، أما من أراد متابعة مغامرات ابن فضلان فعليه أن يقرأ رسالته الشهيرة، على أن يحذر من التشويه العظيم الذي وضعه المستشرقون فيها من طعونات في شرف هذا الداعية الإسلامي العظيم!
أما الآن. . . فلنترك هذه الأجواء الباردة، لننتقل إلى أجواءٍ حارة ملتهبة، لنتابع معًا قصة عظيم إسلامي آخر، حمل راية الإسلام عاليًا في شبه القارة الهندية، ليكون سببًا في إسلام 500 مليون مسلم، أي أن عظيمنا القادم ساهم في إسلام واحد من كل ثلاثة مسلمين موجودين في عالمنا المعاصر! فمن يكون ذلك السلطان الإسلامي العظيم؟ وكيف أنقذ الإسلام من الاندثار في الهند؟ وما هي قصة الإسلام في الهند؟ ولماذا دخل ملايين الهنود في الإسلام بسرعة البرق؟ وكيف قسم الهنود البشر إلى 4 طبقات؟ وما هي علاقة بطلنا القادم بـ "تاج محل"؟ ولماذا يعتبره الهنود أعظم إنسانٍ حكم شبه القارة الهندية في التاريخ؟
يتبع. . . . . .
" السلطان العالم"(أورانج زايب عالَم قير)
" إن الأسى ليعتصر قلبي، وأنا أرى إخواني وأخواتي لا يعرفون هذه الشخصية، ولا يدركون عظمتها، ولم يسبروا كنهها وغورها، وهذا واللَّه يحز في نفسي، أن يغيب عن ذاكرتنا رجلٌ عظيم، جليل القدر، رفيع المكانة، غزير العلم، مثل أورانج زايب عالم قير"
(الشيخ المؤرخ: محمد الشريف)
لن أبدأ الحديث عن هذا البطل الإسلامي بالسؤال الشهير الذي أطرحه عند بداية ترجمتي لمعظم أبطال هذا العمل، فلن أسأل إن كان أحدنا يعرف شيئًا عن هذا السلطان الهندي العظيم، فأنا على يقينٍ تامٍ، أن جلَّ معلوماتنا عن الهند تقتصر على تلك الأفلام الهندية التي تنتجها هوليود الشرق "بوليود"، والتي يدمن كثير من شباب المسلمين على مشاهدتها، وفي بعض الأحيان في تقليد حركات أبطالها البهلوانية أيضًا! ولو علم شباب الإسلام أننا حكمنا تلك الأرض لما يقرب من ألف عام، رفعنا فيها راية الإسلام الخفاقة، فصدحنا بأذان اللَّه أكبر في جميع أرجائها، لما حرصوا على متابعة تلك الأفلام بقدر حرصهم على قراءة تاريخ أمتهم! ولغيَّر شبابنا بعضًا من نظريتهم العنصرية تجاه إخوتهم الهنود، فالمسلمون الهنود (وأعني هنا مسلمي القارة الهندية من بنغلادش إلى باكستان مرورًا بالهند الحالية) يمثلون ثلث عدد المسلمين بالكلية، أي أنه من بين ثلاثة مسلمين يعيشون على الكرة الأرضية هناك هندي مسلمٌ بينهم! والفضل الأكبر لإسلام هؤلاء الإخوة من الهنود يرجع أولًا وأخيرًا إلى رجالٍ من أمثال بطلنا الذي نحن في صدد الترجمة له، وليت شعري أي ترجمة يمكن لي أن ترجمها لرجلٍ بمثل عِظم قدره، وسمو مكانته، وعلو همته، وعظيم سلطانه، إلا أنني أرى أنه من الضروري لهذه الأمة، إذا ما أرادت النهوض من حالة الغثيان التي تمر بها حاليًا، أن تستذكر بعض قصص أبطالها، كي يجد الجيل القادم نبراسًا يضيئ لهم جنبات الطُرق المظلمة، لذلك رأيت ضرورة
الكتابة عن هذا العملاق الإسلامي، مستعينًا بجل ما سأكتب عنه باللَّه أولًا، ثم بالأبحاث الجليلة التي قام بها الشيخ الدكتور (محمد بن موسى الشريف) جزاه اللَّه خيرًا، الداعية المشهور، وصاحب موقع التاريخ www.altareekh.com.
وكما تعودنا في هذا الكتاب بأخذ خلفية تاريخية عن كل قصة نخوض في غمارها، أرى أن نأخذ خلفية عن قصة الإسلام في الهند، والحقيقة أنني أرى أن قصة الإسلام في الهند بدأت في وقتٍ مبكرٍ للغاية، وبالتحديد مع رسول الرحمة، وبالتحديد أكثر مع رحلة الطائف عندما رفض رسول اللَّه عرض ملك الجبال أن يدمر المشركين بإذن اللَّه، بعد أن أهانوه أشد الإهانة في الطائف، حين أجاب رسول الرحمة على عرض ملك الجبال بقوله:"بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا". وفعلًا، مرت الأيام والسنون، فدخلت مكة كلها في الإسلام، ودخلت بعدها الطائف، وتحققت نظرة رسول اللَّه المستقبلية، فخرج من أصلاب هؤلاء من لا يكتفي فقط بأن يعبد اللَّه وحده، بل يقوم أيضًا بحمل راية لا إله إلا اللَّه إلى كل بقعة في الأرض، فمن صُلب المجرم الوليد بن المغيرة خرج خالد ابن الوليد، ومن صلب أبي جهل خرج عكرمة بن أبي جهل، ومن صلب العاص بن وائل خرج عمرو ابن العاص، ومن صلب عتبة بن ربيعة خرج أبو حذيفة بن عتبة، وبعد عشرات السنين، ومن قبيلة ثقيف في الطائف التي أهانت الرسول في جاهليتها، خرج شابٌ عمره 17 سنة، حمل راية الإسلام الأموية، ليحملها إلى شبه القارة الهندية، ليخلفه رجالٌ أشداء نشروا الإسلام في جميع أرجاء القارة شبه الهندية.
وهنا وقفة قصيرة أيضًا عن سر الانتشار السريع للإسلام في صفوف الهنود، والسبب يرجع لما وجده فقراء الهند في سماحة الإسلام وعدله، فلقد ذكرنا فيما سبق (في معرض
حديثنا عن آريوس) أن الهنود كانوا يعبدون كل شيء في الطبيعة، من أول الشر وحتى الأعضاء التناسلية، ولكن أشهر الأديان في الهند كان دينًا قائمًا على فكرة الثالوث المقدس (كأغلب الأديان الوثنية)، فكان إله الهندوس ينقسم إلى ثلاثة آلهة هي:
1 -
(براهما): الموجد والخالق.
2 -
(فشنو): الحافظ.
3 -
(سيفا): المهلك.
فكان الهنود يعتقدون أن من يعبد أحد الآلهة الثلاثة فقد عبدها جميعًا، ومن عبدها جميعًا فقد عبد أحدها! (قارن ذلك بفكرة الثالوث المقدس في المسيحية المعاصرة!). ولكن الكارثة الكبرى لم تكمن في ذلك فحسب، بل كانت أيضًا في النظام الطبقي العنصري الذي كان سائدًا في الهند قبل أن يُشرق الإسلام بنوره عليها، فمنذ أن وصلت القبائل الآرية إلى الهند إلى الهند، تشكل في الهند نظامٌ طبقي ما عرفت الأرض مثله، فقد قسم الهنود البشر إلى أربعة أقسام:
1 -
(البراهمية): وهم الذين خلقهم الإله براهما من فمه: منهم المعلم والكاهن، والقاضي، ولهم يلجأ الجميع في حالات الزواج والوفاة، ولا يجوز تقديم القرابين إلا في حضرتهم.
2 -
(الكاشتر): وهم الذين خلقهم الإله من ذراعيه: يتعلمون ويقدمون القرابين ويحملون السلاح للدفاع.
3 -
(الويش): وهم الذين خلقهم الإله من فخذه: يزرعون ويتاجرون ويجمعون المال، وينفقون على المعاهد الدينية.
4 -
(الشودر): وهم الذين خلقهم الإله من رجليه، وهم المنبوذين من عامة الشعب من الزنوج الأصليين، ويشكلون طبقة المنبوذين، وعملهم مقصور على خدمة الطوائف الثلاثة السابقة الشريفة ولا يمتهنون إلا المهن الحقيرة والقذرة! لذلك عندما جاء المسلمون إلى الهند بدين محمد بن عبد اللَّه الذي لا يفرق بين البشر، دخل عامة الشعب من المنبوذين في دين اللَّه أفواجًا، ليكون الإسلام هو الدين الرئيسي للهند لما يقرب من ألف عام. صدح فيها الأذان في جميع أرجائها.
والآن وبعد أن أخذنا صورة بسيطة للغاية عن وضع الهند المعقد، جاء الوقت لكي نأخذ نبذة مختصرة للسيرة العظيمة لبطلنا العظيم: أورانج زايب عالم قير رحمه اللَّه تعالى وأسكنه فسيح جناته.
والعجيب أن هذا السلطان العظيم كان من سلالة المجرمَيْن "جنكيز خان" و"تيمور لنك"، ولكن اللَّه شاء أن يكون من نسلهما من يرفع راية الإسلام عاليًا، فأورانج زايب
عالم قير هو ابن السلطان المغولي "شاه جيهان" الذي حكم الهند في القرن السابع عشر الميلادي، ولكن هذا السلطان تحول إلى رجلٍ مجنون بعد وفاة زوجته الجميلة "ممتاز محل"، فقام هذا السلطان -كعادة أصحاب الهوى دائمًا- بتحكيم العاطفة على الشرع، فأمر ببناء ضريحٍ يخالف الشرع لزوجته الجميلة التي فارقت الحياة الدنيا، فأنفق أموال المسلمين لمدة 7 سنوات سخّر فيها جهود 20000 عامل لبناء قبر حبيبته، وفي الوقت الذي أحاط به أعداء الإسلام بدولة الهند الإسلامية من كل جانب، كان هذا المحب المجنون يبكي على حبيبته ليل نهار، وفعلًا كاد الإسلام أن يضيع بالهند بسببه، وواللَّه ما ضاع الإسلام وضعف إلا بسببٍ شبابٍ حمقى مثل هذا العاشق الولهان، والذين يحوّلون العاطفة إلى ربٍ لهم من دون اللَّه! فلقد استولى ابنه الأكبر (درشكوه) على زمام الحكم، وأصبح هو الحاكم الفعلي للإمبراطورية، ولكن الخطر كان يكمن في أن درشكوه أراد إحياء مذهب كفري اسمه "المذهب الإلهي" وهو مذهب يجمع بين جميع الأديان في دين واحد، فتحرك بطلنا نحو العاصمة "دهلي"(وليس دلهي كما يشاع)"فاستولى على الحكم ليمنع أخاه من نشر المذهب الإلهي في الهند، ثم قام بعزل أبيه الذي جن من كثر البكاء على زوجته، ووضعه في قصرٍ معزول بعد أن صنع له أضخم مرآة في العالم ينظر من خلالها على تاج محل حيث ترقد زوجته الحسناء، فظل هذا العاشق الولهان ينظر على قبر حبيبته حتى دُفن بجانبها! أما البطل الإسلامي أوارنج زايب، فكانت حياته أكبر من هذه التفاهات، فقد أحيى السنة النبوية في أرجاء الهند، وقضى على البدع، وجاهد في سبيل اللَّه في أرجاء الأرض ينشر دين التوحيد، فحارب ملوك الهندوس العنصريين، وقطع أرجل الشيعة الروافض من الدخول للهند أبدًا، بعد أن اكتشف خيانتهم وتحالفهم مع الهندوس (كالعادة!)، ليس هذا فحسب، بل كان الإمبراطور العظيم شاعرًا عظيمًا، وأديبًا رقيقًا، فكتب الأشعار في نصرة الإسلام، وأصدر كتابًا لا يزال يُدرس إلى يومنا هذا في الجامعات الإسلامية اسمه "الفتاوى العالم قيرية" وهو معروف لطلبة العلم باسم "الفتاوى الهندية"، وظل 27 سنة يجاهد الهندوس والصليبيين البرتغاليين من جهة والشيعة الرافضة من جهة أخرى، فانتشر العدل في زمانه أيّما انتشار، وزاد عدد المسلمين بشكلٍ رهيب، بعد ما رأوه من عدله وزهده، فتكونت له
إمبراطورية ضخمة من جبال الهملايا إلى المحيط الهندي، ومن البنغال حتى طاجكستان. وعلى الرغم من اتساع رقعة دولته وكثرة مشاغله، اهتم السلكان أورانج زايب بالعلم، فحفظ القرآن وهو في سن الأربعين! فلم يكن السلطان ممن يقولون أنه لا وقت لديهم لحفظ القرآن، ليس ذلك فحسب، بل كان السلطان فنانًا خطاطًا لا يشق له غبار، فلقد كان يكتب القرآن بخط يده، ليعيش على ذلك، وقد كتب نسختين عظيمتين للقرآن بخط يده، أرسل إحداها إلى مكة والثانية إلى المدينة، فنشر العلم في أرجاء الهند في مدة حكمه التي استمرت 50 سنة بالتمام والكمال، ليحافظ على هذا الدين في تلك البلاد البعيدة، قبل أن تحين ساعة فراقه للدنيا، فيأمر أولاده بتكفينه بكفنٍ اشتراه بخمس روبيات جمعها بنفسه، بعد أن كان يغزل الصوف بيديه ليبيعه إلى في السوق سرًا، ليعيش على ذلك المال، ليدل أبناءه قبل موته على مكان ثروته، يوصيهم أن ينفقوها على الأيتام والأرامل، فذهب الأبناء إلى ذلك المكان الذي دلهم عليه أبوهم، ليجدوا فيه 300 روبية هي كل ثروة إمبراطور أعظم إمبراطورية هندية في التاريخ! فرحم اللَّه السلطان العظيم أورانج زايب عالِم قير.
ولكن. . . . ماذا حدث للإمبراطورية الهندية الإسلامية من بعده؟ وكيف استولى الإنجليز عليها؟ وكيف قُسِّمت الهند إلى عدة دول؟ ومن هو القائد الإسلامي العظيم الذي أسس دولة باكستان الإسلامية؟ ولماذا ركّز الغرب على (غاندي) وأهملوا ذكره، على الرغم من كونه أستاذًا لغاندي في حركة الكفاح الهندي؟!
يتبع. . . . . .
" قائدي أعظم"(محمد علي جناح)
" ليس هناك ما يجمعنا بكم، فأبطالنا التاريخيون، أعداءٌ لكم، ومن تعتبرونهم أبطالًا تاريخيين، هم في نظرنا خونة، انتصارتنا التاريخية أيام حزنٍ لكم، وأنتصارتكم نكباتٌ لنا، البقرة إلهٌ لكم، وطعامٌ لنا، أنتم وثنيون، ونحن مسلمون، لن يزول الخلاف بيننا وبينكم، لن يحكمنا هندوسٌ بعد اليوم، أملنا الوحيد يكمن في باكستان الإسلامية! "
(محمد علي جناح)
الحقيقة أنني كلّما تقدمت أكثر في هذا الكتاب، وفتشت أكثر في صفحاتٍ خلت من التاريخ، وجدت أن أمة الإسلام هي أكثر أمةٍ تعرضت للتشويه في تاريخ الأرض منذ نشأتها، فلماذا يركز الإعلام الغربي على القس المسيحي (مارتن لوثر كنج) الزعيم الأمريكي الأسود الذي طالب بالمساواة مع البيض، في نفس الوقت الذي يهمش فيه نفس الإعلام شخصية إسلامية مثل (مالكوم إكس)، والذي سبق رفيقه المسيحي بسنواتٍ طوالٍ في كفاحه ضد العنصرية؟ ولماذا يركز الإعلام العالمي (الغربي منه والعربي!) على القائد الهندوسي (ألمهاتما غاندي) في الوقت الذي يُهمَّش فيه دور القائد المسلم (محمد علي جناح) أول من نادى بتحرير الهند من سيطرة التاج البريطاني؟
الإجابة عندي لا تخرج عن سببين:
(أولًا): طمس تاريخ كل قائد مسلم، ليكون ذلك مقدمة لتشويه صورته "قتل الشخصية"!
(ثانيًا): تحويل أنظار الناس نحو الطرق التي انتهجها القادة الغير مسلمين، لأن المسلمين لم يتعلموا من محمد بن عبد اللَّه أن يقاوموا المحتل بالإضراب عن الطعام ورعي الغنم (كما فعل غاندي)، بل إن المسلم مستعدٌ أن يضحي بآخر نقطةٍ من دمه في
سبيل أرضه وعرضه!
وأذكر أنني شاركت ذات مرة في برنامجٍ إعلامي لقناة أجنبية كان السؤال فيها يدور حول إستعداد العرب للتحول لاستراتيجية (غاندي) السلمية في المطالبة بالحقوق الوطنية بدلًا من العنف "المقاومة"، فكان تعليقي بسيطًا للغاية حين قلت للمذيع: إذا كانت طريقة (غاندي) قد نجحت في الهند، فطريقة (مانديلا) التي تستخدم العنف قد آتت أكلها أيضًا في جنوب أفريقيا! فالشعب الواقع تحت الاحتلال هو الشعب الوحيد الذي يحق له أن يختار طريقة المقاومة التي تناسبه، فالمحتَل (اسم مفعول) لا المحتَل (اسم فاعل) هو صاحب القرار الأول والأخير في اتباع المنهج الذي يناسبه!
ومحمد علي جناح الذي لا يعرفه أكثرنا كان قائد المسلمين في الهند، وعندما نقول الهند في ذلك الوقت فإننا نقصد بها شبه القارة الهندية، والتي تضم الآن كلًا من "الهند" و"باكستان" و"بنغلادش". فقد رأينا فيما سبق أن المسلمين هم الذين كانوا يحكمون الهند لأكثر من ألف سنة، إلا أن الوضع تغير بوصول المنصر الصليبي البرتغالي (فاسكو دي غاما) عام 1498 م إلى سواحل الهند، ليقيم جيوبًا للبرتغاليين في أرض الهند الإسلامية، وبعد ذلك دخل الإنجليز إلى الهند تحت مسمى (شركة الهند الشرقية)(Honourable East India Company)، لتكون هذه الشركة نواة لفترة استعمارية "استخرابية" طويلة دامية في شبه القارة الهندية. وفي نهاية القرن التاسع عشر تحرك الهنود لنيل حقوقهم الوطنية، فكان المسلمون الهنود هم دعاة الاستقلال، قبل أن ينضم الهندوس إلى تلك الحركة التحررية، فأسس الهنود المسلمون والهندوس "المؤتمر الوطني الهندي" الذي أعلنوه عام 1884 م. لتبدأ عملية المطالبة بالاستقلال، برز على ساحتها أولًا محامي مسلم فصيح اللسان، قوي الشخصية، اسمه (محمد علي جناح)، قبل أن يفتح الإنجليز الأبواب لشخصية هندوسية تدعى بـ (موهانداس كارما شند غاندي) الشهير بـ (المهاتما غاندي) خوفًا منهم لبزوغ نجم القائد الإسلامي للهند! فكان جناح يدعو في بداية الأمر إلى دولة موحدة للهنود متساوية الحقوق، إلا أن الأغلبية الهندوسية كانت ترفض إعطاء الأقلية المسلمة (كانت تبلغ وقتها 100 مليون!) حقوقًا متساوية مع الهندوس، وبعد أن لاحظ القائد الإسلامي محمد علي جناح تحيز بريطانيا
لصالح الهندوس، أعلن تأسيس "العصبة الإسلامية"، وفي عام 1930 م دعا شاعر الهند الأعظم (محمد إقبال) إلى فكرة استقلال الجزء الإسلامي من شبه القارة الهندية، وفي سنة 1933 م ظهرت للوجود كلمة "باكستان" كاسم لدولة إسلامية مستقلة، وهو اسم اقترحه طالب مسلم في جامعة "كمبردج" اسمه (تشودرى رحمت علي). وهى كلمة عجيبة في غاية البلاغة، فلكل حرف منها مغزاه وتعنى ككل "الأرض الطاهرة"! فحرف "الباء" يرمز إلى إقليم "البنجاب" وحرف "الألف" يأتى من "الأفغانية" والتى هى اسم قديم لإقليم الحدود، و"الكاف" منها يأتى من إقليم "كشمير" والذى لا يزال الجزء الكبير منه يرزخ تحت نير الإحتلال الهندي، وحرف "السين" يرمز إلى إقليم "السند" و"تان" من إقليم "بلوشستان". ويعنى الجزء الأول منها "باك" الطاهرة والجزء الثانى "ستان" الأرض. فتولى محمد على جناح (قائدي أعظم كما يسميه الهنود) مهمة قيادة كفاح المسلمين بتميزه القيادى وعزيمته الصلبة حتى وصل بها فى نهاية المطاف إلى الاستقلال عن البريطانيين والهنادكة، وبعد أشهر قليلة من إعلانه استقلال المسلمين، توفي القائد الأعظم محمد علي جناح من شدة التعب والإرهاق الذي بذله في سبيل تأسيس دولة الباكستان، التي أصبحت فيما بعد، أول دولة إسلامية تمتلك سلاح الردع النووي!
ومن الهند نفسها، هاجر خياط مسلم اسمه (حسين كاظم ديدات) إلى جنوب أفريقيا بحثًا عن لقمة العيش، مصطحبًا معه طفلًا صغيرًا سيُكتب اسمه حين يكبر بحروفٍ من نور في سجل الخلود الإسلامي!
يتبع. . . . . .
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}
" أسد جنوب أفريقيا"(أحمد ديدات)
" أيها العرب. . . إنهم يريدونكم أنتم بالذات! فأنتم الهدف الأول لحملات التنصير العالمية، أيها العرب، أقولها لكم بكل وضوح. . . أنتم التحدي القادم! "
(الشيخ أحمد ديدات)
كانت ليلة عاصفة، رجع فيها كل الموظفون إلى بيوتهم، ولم يبقَ في المصنع إلا شابٌ فقيرٌ لوحده، فهو من جهة لا يملك أن يترك المصنع قبل أن ينجز عمله، ومن جهة أخرى لم يكن ذلك الشاب المسكين يملك بيتًا أصلًا لكي يرجع إليه! لذلك أخذ ذلك الشاب شمعة صغيرة لكي يذهب بها إلى مخزنٍ مهجورٍ تابعٍ للشركة التي كان يعمل بها، فقد طلب منه رئيسه في العمل أن يرتب البضائع المتراكمة في ذلك المخزن القديم قبل أن يخلد إلى النوم، فبذلك فقط يتسنى له الحصول على قوت يومه الذي يسد به رمقه، فنزل ذلك الشاب الفقير ذو الساقين الرفيعتين إلى جنبات المستودع المظلم، وهزيم الرعد يزمجر أرجاء المستودع المهجور من حوله، ليتردد صدى الصوت في أرجاء الغرفة المظلمة، فيضفي ذلك جوًا من الرعب في أرجاء ذلك المكان المرعب من الأساس، فأخذ الشاب الفقير يرتب البضائع القديمة لوحده، وسحابة من الغبار تنطلق من بين ثنايا البضائع المهملة لتملأ أرجاء الغرفة المهجورة، ليضطر أن يحمل شمعته بيده ليفتح نافذة صغيرة موجودة في أعلى الغرفة قبل أن يختنق من الغبار الذي كاد أن يقتله، وما إن استطاع من فتح النافذة، حتى دفعته الرياح العاصفة من الخارج بقوة أسقطت جسمه النحيل أرضًا، لينطفأ بذلك وميض الشمعة الخافت الذي كان ينير له زوايا الغرفة المظلمة، فيضطر بعدها أن يعمل وحده في الظلام الدامس، منتظرًا ضوء البرق المنعكس بين الفينة والأخرى من نافذة ذلك المستودع المهجور، ليستدل من خلاله على موضعٍ
جديدٍ يرتبه في ذلك المخزن المهجور.
وانتصف الليل. . . . . والعاصفة في الخارج تزداد شدة وهيجانًا، وصاحبنا ما زال يعمل كالأعمى يتحسس البضائع الملقاة في تلك الغرفة الموحشة، وكأن مدير المصنع تذكر هذا المخزن المهجور بعد سنينٍ طويلة من إقفاله، ليستغل حاجة هذا الشاب المعدم للمال في تنظيفه تلك الغرفة. وعندما أوشك الشاب المسكين على الوقوع أرضًا من شدة الجوع والتعب، حدث شيءٌ غريب!! فلقد ارتطمت قدماه بجسمٍ مجهولٍ على الأرض، فرفعه بيديه ليكتشف أنه كتابٌ ملقى في ثنايا الصناديق المهملة، فحاول عبثًا أن يقرأ عنوان ذلك الكتاب مستعينًا بضوء البرق المنعكس على الغرفة، ولكن دون جدوى، فلم يكن وميض البرق الخافت كافيًا لكي يميز من خلاله الحروف المنقوشة على الغلاف المتهالك لذلك الكتاب القديم، ولكن فضول الشاب وشغفه الشديد بالقراءة دفعه إلى يحمل الكتاب ويذهب به إلى تلك النافذة التي طرحته أرضًا من قبل، ليقاوم بجسمه النحيل قوة الرياح المندفعة من خلالها، منتظرًا ظهور البرق في سماء تلك الليلة الليلاء، علَّه يستطيع بذلك قراءة عنوان الكتاب، وبعد طول انتظار. . . . سقط نصلٌ لامعٌ من البرق، وكأنه سهمٌ انطلق من قوسٍ في علياء السماء، ليستقر على ذلك الكتاب بالتحديد، لتصبح الحروف المنقوشة على غلافه وكأنها حروفٍ من نور انعكست في عيني ذلك الشاب، فلقد ظهر للشاب الفقير أن اسم ذلك الكتاب هو "إظهار الحق"! وهو نفسه الكتاب الذي سيغير من حياته رأسًا على عقب بعد قراءته، ليتحول بعدها ذلك الشاب المسكين المعدم الذي لا يملك قوت يومه، إلى بطلٍ عظيمٍ من عظماء أمة الإسلام، يملأ عبقه الآفاق ذكرًا وشهرة، ليغير بعد ذلك مجرى التاريخ الإنساني إلى الأبد، فلقد كانت هذه الليلة العاصفة وتلك الغرفة المظلمة بداية الانطلاق لأسطورةٍ إسلاميةٍ حيةٍ اسمها: الشيخ أحمد ديدات!
قبل ذلك بنحو قرنٍ ونصف من الزمان، وُلد مؤلف هذا الكتاب في الهند في غرة جمادى الأولى سنة 1233 هـ الموافق التاسع من مارس سنة 1818 م، وهو الشيخ (محمد رحمت اللَّه -بالتاء المفتوحة- ابن خليل الرحمن الكيرانوي العثماني الأموي الهندي ثم المكي)، ونسبه الأموي ينتهي إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه عند الجد الرابع
والثلاثين (وليت شعري أي شرفٍ تركتم لمن بعدكم يا بني أمية!). فبعد أن احتلت بريطانيا الهند، أيقن الإنجليز أنهم إذا تعرضوا لأية مشاكل في المستقبل فلن تأتي إلا من قبل المسلمين الهنود، لأن المسلمين هم وحدهم الذين لا يسكتون على ضيم، بعكس الهندوس، فإنهم مستسلمون ولا خوف منهم. وعلى هذا الأساس خطط الإنجليز لتنصير المسلمين للبقاء في الهند لألف عام، وبدؤوا فعلًا في استقدام موجات المنصرين إلى الهند، هدفهم الأول في ذلك هو تنصير المسلمين الهنود بالتحديد، مستعينين بذلك بقسيسٍ فصيح اللسان اسمه (الأب فندر)، فكان هذا القس يتحرش بالمسلمين في الغداة والعشي يريد تنصير المسلمين بأي شكلٍ من الأشكال، فأخذ يكيل الاتهامات وينشر الشبهات في صفوف المسلمين، والمسلمون عاجزون عن الرد إما خوفًا من بطش الجنود الإنجليز أو جهلًا باللغة الإنجليزية، حتى ظهر هذا الصقر الأموي من على قمم الهملايا، فطلب مناظرة القس فندر علانية أمام الملأ، فتجمع عشرات الآلاف من الهنود المسلمين والهندوس في الساحة الرئيسية للعاصمة الهندية دهلي (دلهي) في أكبر مناظرة دينية عرفتها الهند، فظن القس النصراني أن الفرصة صارت مواتية له لتنصير عشرات الآلاف من المسلمين دفعة واحدة، فبدأ فندر المناظرة بكيل سيل من الاتهامات في شرف النبي وسمعته، ولما انتهى من كلامه تقدم الشيخ رحمت اللَّه العثماني الأموي أمام الملأ ليفند تلك الاتهامات واحدة بعد الأخرى، حتى إذا ما انتهى من تفنيدها بدأ مرحلة الهجوم الكاسح على القس، ليقرأ له من كتابه المقدس ما يثبت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبطلان ألوهية عيسى، لتعلوا صيحات اللَّه أكبر من عشرات الآلاف من الجمهور، والشيخ رحمت اللَّه يقرأ أسفار الكتاب المقدس سفرًا سفرًا لمدة ساعات من دون أن يتلعثم ولو في كلمة واحدة، حتى إذا ما فرغ من كلامه، تقدم مئات الهندوس من المستمعين ليعلنوا إسلامهم أمام القس الذي ولّى القهقرة، لينتصر رحمت اللَّه الأموي في مناظرته الشهيرة، وتنتشر أخبار هذه المناظرة في أرجاء الهند من دكا إلى كراتشي تحت اسم "المناظرة الكبرى"، قبل أن يُجبر الشيخ البطل رحمت اللَّه الأموي إلى الهروب متخفيًا إلى مكة بعد أن صار المطلوب رقم واحد للإمبراطورية البريطانية، فرصد الإنجليز ألف روبية لاعتقاله (مبلغ ضخم وقتها)، وهناك في مكة استقبله المسلمون أيّما استقبال بعد أن
طارت أخبار المناظرة الكبرى إليهم، ليطلبه الخليفة العثماني (عبد العزيز خان) رحمه الله شخصيًا لمقابلته في "إسطانبول" وذلك بعد أن وصلت أخبار المناظرة الكبرى إلى الباب العالي في عاصمة الخلافة، ليقابل رحمت اللَّه الأموي خليفة المسلمين هناك، ويقص عليه قصة المناظرة الكبرى، ليفرح به الخليفة ويطلب منه أن يدون أحداث تلك المناظرة الكبرى في كتاب بتمويل من الخليفة نفسه حتى يستفيد منه المسلمون في سائر أرجاء الخلافة الإسلامية، وفي كل الأزمنة، ليدون الشيخ محمد رحمت اللَّه الكيرانوي العثماني الأموي الهندي ثم المكي هذه الأحداث في كتابٍ أسماه "إظهار الحق"، ليشاء اللَّه لبطلنا أحمد ديدات أن يجد نسخة نادرة منه بعد ذلك بمائة عام، ليكون هذا الكتاب العظيم أحد أسباب فتح آفاق الشيخ ديدات للرد على شبهات النصارى، وبداية لمنهج حواري علمي مع أهل الكتاب، وتأصيل ذلك تأصيلًا شرعيًا يوافق المنهج القرآني في دعوة أهل الكتاب بالتي هي أحسن إلى الحوار وطلب البرهان والحجة من كتبهم المحرفة، ليتحول ديدات من خلاله إلى المناظر الأول للنصارى في تاريخ أمة محمد عبر جميع مراحل التاريخ الإسلامي!
وقد يعجب البعض حين يعلم أن النصارى أنفسهم هم الذين صنعوا هذا العملاق الإسلامي! فقد كان الشيخ أحمد ديدات مجرد صبي فقير لا يعرف في الإسلام غير "الشهادة" على حد قوله، ففي أربعينات القرن الماضي كان المنصرون في مدينة "ديربن" في جنوب أفريقيا يمرون عليه في دكان الملح الذي كان يعمل به ليوجّهوا له أسألة استفزازية من قبيل:"يا هذا. . . هل تعلم أن نبيك محمد سرق قرآنه من التوراة والإنجيل؟ يا هذا. . . هل تعلم أن نبيك محمد كانت له نساء كثيرات؟ هل تعلم أن نبيك نشر دينه بحد السيف؟ " والحقيقة أن أحمد ديدات لم يكن يعرف ماذا يريد أولئك المنصرون بالضبط، فهو بالكاد يعرف أن اسم نبيه هو محمد، فضلًا من أن يعرف عدد زوجاته! ولكن ذلك الصبي الفقير لم يكن يحتاج إلى كثيرٍ من الذكاء ليستنتج أن هناك نبرة استهزاء وعنصرية في كلام أولئك المنصرين، ففهم أن سبب عجزه عن الإجابة ينبع من جهله، فقام بتنفيذ أول أمرٍ إلهي للمسلمين "اقرأ"!، فقد أدرك هذه الصبي الجنوب أفريقي الذي هاجر مع أبيه إلى الهند بعد أن ماتت أمه أنه بالقراءة فقط يمكن له أن يصبح
قويًا، فصار يقرأ كلَّ شيء يجده أمامة، فلا يترك صحيفة ملقاة، أو كتابٍ مهمل، أو إعلانٍ دعائي إلا وقرأه، ثم اتجه إلى مكتبة المدينة، فصار يقرأ فيها كل شيء، يلتهم الكتب التهامًا، يقرأ عن أشياءٍ يعرف معناها وأشياءٍ لم يسمع بها البتة، فقرأ في التاريخ والأدب والفيزياء والهندسة واللغات وكل ما يخطر على بال إنسان، ثم قرأ عن المسيحية: كتبها - تاريخها - فلسفتها - تفاسيرها، كل شيء من دون استثناء، حتى جاء وقت على الشاب أحمد ديدات لم يجد به كتابًا يقرأه في مكتبة ديربن بعد أن قرأ كل الكتب والمجلات والوثائق الموجودة في المكتبة! فأصبح ذلك الشاب القارئ يمتلك حصيلة لغوية وموسوعة معرفية واضطلاع ثقافي واسع، وعندما انتهى الشاب أحمد ديدات من مرحلة بناء الشخصية، بدأ ديدات مرحلة الهجوم المضاد، فصار ينتظر أولئك المنصرين انتظارًا في دكان الملح الذي كان يعمل به أجيرًا، ليرد على أسألتهم، فيفحمهم بإجاباته، ثم يلقي الكرة في ملعبهم، مستعينًا بما يحفظه من كتبهم، فقد حفظ الشيخ الأناجيل الأربعة "لوقا - يوحنا - مرقص - متّى" عن ظهر قلب، بعد أن حفظ القرآن بأرقام آياته وسوره، ليتحول هذا الشاب الفقير بفضل أولئك الحمقى إلى ماردٍ إسلامي ضخم، فامتنع القساوسة من المجيئ للدكان بعدما رأوا ما رأوه منه. المضحك في القصة، أن أحمد ديدات صار ينتظر يوم عطلته الإسبوعية انتظارًا ليتوجه بنفسه إلى كنائسهم يبحث عنهم ليناظرهم! وبعد أن عثر شيخنا على كتاب "إظهار الحق" للعلامة (رحمت اللَّه الأموي) في القصة التي ذكرناها سابقًا، أصبح الشيخ أحمد ديدات أهم مناظر إسلامي على وجه الكرة الأرضية، ليجوب القارات الخمس مناظرًا للنصارى وداعية للإسلام، عندها قرر المنصرون أن يرموه بأعظم منصر في العالم، وهو المنصر الأمريكي (جيمي سويغارت)، فاستخدم ذلك المنصر الخدعة المستهلكة في الطعن في شرف النبي، فناظره الشيخ أحمد ديدات في عقر داره في "الولايات المتحدة"، ليقضي عليه بالضربة القاضية وينتصر عليه في المناظرة. (قبض على سويغارت عام 1988 وهو يمارس الجنس مع مومس محترفة في سيارته!)، ليحاول عبّاد الصليب محاولة أخيرة مع الشيخ ديدات، فبعثوا إليه بأكبر منصر عربي، هو المنصر الفلسطيني الصهيوني (أنيس شروش)، فلقنه بطلنا درسًا في فنون اللغة العربية وانتصر عليه. (قبض على شروش عام 2008 في ولاية ألاباما الأمريكية وهو
يحاول حرق وثائق تثبت اختلاسه لأموال الكنيسة متخفيًا بزي عربي لإيهام السلطات بأن الفاعل إرهابي عربي مسلم قبل أن يُكتشف أمره ويوضع في غياهب السجون مع المجرمين من أمثاله). فقام الشيخ الجليل بتسجيل هذه المناظرات وغيرها على أشرطة فيديو، لتنتشر هذه الأشرطة في العلام الإسلامي من أندونيسيا إلى السنغال. وفي إبريل عام 1996 أصيب الشيخ ديدات بجلطة في الدماغ، فنصحه الأطباء بالراحة، إلا أن ذلك الأسد المخضرم رفض الاستماع لنصائح الأطباء، فسافر إلى أستراليا لعرض الإسلام على الشعب الأسترالي، فتحدى هناك عددًا من المنصرين الأستراليين الذين أساءوا للإسلام، وكان لا يناظر ولا يبادر إلا المنصرين الذين يتعدون على الإسلام، فيستدعيهم الشيخ للمناظرات ويرد عليهم بالحجة والبرهان، وعلى الرغم من مرضه وكبر سنه الذي قارب من الثمانين، طاف الشيخ ديدات ولايات أستراليا محاضرًا ومناظرًا ومدافعًا عن دين محمد بن عبد اللَّه عليه الصلاة والسلام، غير آبهٍ بنصائح الأطباء، حتى وقع الشيخ أرضًا من شدة الإرهاق والتعب، فأصيب بجلطة في الدماغ، فأصبح داعيتنا البطل طريح الفراش لا يستطيع أن يحرك إلا عينيه، ولكنه رغم ذلك لم ييأس، فقد استخدم لوحة ضوئية يختار منها بعينيه حروف الكلمات التي يريد التعبير بها، ليستمر هذا الأسد الإسلامي في مسيرة العلم التي بدأها صغيرًا يوم كان يعمل في دكان الملح، ويوم كان يذهب خلسة إلى مكتبة ديربن، ويبقى على تلك الحالة الثابتة مدة تسع سنوات يعلم تلاميذه بنظرات عينيه. وفي صباح يوم الاثنين الثامن من أغسطس 2005 م الموافق الثالث من رجب 1426 هـ فقدت الأمة الإسلامية الداعية الإسلامي الكبير، أسد جنوب أفريقيا الإسلامي، الشيخ المجاهد أحمد ديدات، فعليه من اللَّه جزيل الرحمات، وواسع المغفرة والكرامات.
ولكن لماذا يحمل الصليبيون كل هذا الحقد على الإسلام؟ ومتى بدأ الصراع الإسلامي الصليبي؟ وما هي قصة "تبوك"؟ وما حكاية "المُخلّفين الثلاثة"؟ ولماذا خلّدهم اللَّه في قرآنٍ يُتلى إلى يوم القيامة؟
يتبع. . . . . .
{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا}
(المخلَّفون الثلاثة)
" ولبثت بعد ذلك عشر ليالٍ حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول اللَّه عن كلامنا، فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة على سطح بيت من بيوتنا بينا أنا جالس على الحال التي ذكر اللَّه تعالى، قد ضاقت عليَّ نفسي، وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفى من جبل سلع بأعلى صوته، يا كعب بن مالك: أبشر! فخررت ساجدًا"
(كعب بن مالك)
تطرق هذا الكتاب إلى قصة التتار، وفصّل بشكلٍ مطول -نوعًا ما- تاريخَ الأندلس، وشرح قصةَ الفتنة من أول شرارة لها، وكشف الغطاء عن قصة الإسلام الخفية في أمريكا، وقتل موضوع الشيعة الرافضة وخياناتهم من الهند إلى الأندلس بحثًا وتحذيرًا، وحاول بشكلٍ أو بآخر أن يعطي القارئ الكريم فكرة عن دولِ الإسلام المختلفة، من بداية الخلافة الراشدة، وحتى الخلافة العثمانية، مرورًا بالخلافتين الأموية والعباسية، ولكني أعتقد أن أهم قصة وردت في هذا الكتاب هي قصة الإسلام نفسه! والحقيقة أنني أرى أن كثيرًا من أساتذتي المختصين في مجال التاريخ الإسلامي يفوتهم شيءٌ مهمٌ للغاية، فالكثير منهم يعتقد أن تاريخ الإسلام يبدأ مع نزول الروح الأمين جبريل عليه السلام، على الصادق الأمين محمد عليه الصلاة والسلام، وثلة قليلة منهم تبدأ حديثها عن الإسلام من عام الفيل! والحقيقة أن أيًا من الفريقين جزاهمهما اللَّه خيرًا لم يُصب كبد الحقيقة في اجتهاده. فحصر قصة الإسلام لتُبدأ من بداية البعثة النبوية شيءٌ لا يستقيم أبدًا، فتاريخ الإسلام قديم قديم، بقِدم ظهور الإنسان نفسه، فالإسلام كشريعة (مثل الحج مثلًا) بدأ فعلًا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولكن الإسلام كعقيدة (توحيد اللَّه) سبق ظهور رسول اللَّه نفسه، فلقد رأينا أن هناك من العرب من كانوا مسلمين قبل البعثة النبوية، ورأينا بعض النصارى المسلمين (الآريسيين)، ورأينا زوجة فرعون المسلمة،
وأصحاب الكهف المسلمين، ومؤمني ثمود، وغيرهم الكثيرين من المسلمين الموحدين، فالإسلام هو تاريخُ الإنسانية، وليس تاريخًا في الإنسانية!
وفي ضوء هذا المفهوم الأوسع للإسلام، يصبح من الخطأ بمكان أن نؤرخ لبداية الحروب الصليبية من الـ 27 من نوفمبر سنة 1095 م يوم انعقاد مؤتمر "كليرمونت"، فالبداية الحقيقية للحروب الصليبية بدأت في يوم الـ 20 من مايو سنة 325 م! وهو اليوم الذي تم فيه عقد مؤتمر "نيقية" الذي أعلن فيه الصليبيون الحرب على المسلمين الموحدين بقيادة القس البطل (آريوس) الذي رفض قرارات المؤتمر!
أما بالنسبة للمسلمين من أمة محمد، فقد بدأت الحرب الصليبية فعليًا من العام السابع للهجرة، وبالتحديد مع رسالة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، والمفارقة أن أول شهداء الحروب الصليبية في تاريخ أمة محمد كان كبير أساقفة الإمبراطورية الرومانية (صغاطر) رحمه اللَّه تعالى الذي قتله الصليبيون فورَ إسلامه! ثم رأينا كيف دعا رسول الرحمة النصارى بالحسنى والطرق السلمية إلى الإسلام، ليقابله النصارى بقتل رسوله، قبل أن يغدر جيشٌ مكونٌ من 200000 مقاتل نصراني بسرية إسلامية صغيرة مكونة من 3000 مجاهد لم يذهبوا في الأساس لقتال الرومان. ورأينا كيف استشهد "الفرسان الثلاثة" في ملحمة بطولية نادرة لا تتكرر في التاريخ!
وللقصة بقية. . . . فلقد قرر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم منذ تلك اللحظة إعلان حالة الحرب الشاملة على الإمبراطورية الرومانية التي غدرت بالمسلمين، والسائل يتساءل هنا: هل أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم الحرب على أكبر إمبراطورية موجودة في العالم آنذاك من أجل 12 صحابيًا فقط كانوا قد سقطوا في مؤتة؟ الإجابة: نعم! فأولئك الشهداء لم يكونوا جنودًا يُربطون بالسلاسل كجنود الفرس، ولم يكونوا عبيدًا ملزمين بالتجنيد الإجباري كجنود الروم، بل كانوا محمد بن عبد اللَّه أعظم إنسانٍ خلقه اللَّه في الكون بأسره، فرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هو أكثر إنسان في الدنيا يقدر معنى الوفاء للصاحب، والصحابة رضوان اللَّه عليهم هم خير البشر بعد الأنبياء منذ بدء الخلق وإلا يوم القيامة، لذلك أعلن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الحرب على أكبر إمبراطورية في الدنيا من أجل 12 صحابيًا فقط! وواللَّه ما أعلنت الحرب على علماء الشيعة الرافضة في هذا الكتاب إلى حبًا بمحمدٍ واقتداءً به، فالعيب
كل العيب أن ندفن رؤوسنا في الرمال ومائة ألفٍ من أصحاب محمدٍ يُلعنون من شذّاذ الآفاق في فارس وأتباعهم، فواللَّه لن أكفنَّ عنهم إلا إذا كفّوا عن لعن أصحاب نبيّنا، فإن كفوّا نكف. . . . . وإلا فلا كرامة!
وبالفعل. . . . حرَّك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جيشًا مكونًا من 30000 مجاهدٍ هو أكبر جيشٌ جمعته العرب في تاريخها، فتوجه به نحو "تبوك" لملاقاة الروم، فكانت المفاجأة. . . . لقد هرب الروم!!! فظل الرسول صلى الله عليه وسلم في تبوك لثلاثة أيامٍ معسكرًا ليثبت للروم أنه ينتظرهم بدون أي خوف، ولكن أحدًا منهم لم يظهر، لينتصر المسلمون في معركة تبوك الخالدة بدون قتال!
وليتحملني القارئ الكريم هذه المرة أيضًا، فقد شارف الكتاب على الانتهاء، وعندها سيرتاح القارئ من الكاتب ووقفاته المتكررة، فهناك ملاحظة مهمة لا يجب أن تفوت علينا: فلماذا شارك الإمبراطور الروماني بنفسه مع ما يقرب من ربع مليون مقاتل في قتال سرية صغيرة من ثلاثة آلاف مسلم، في الوقت الذي يمتنع فيه عن قتال رسول الإسلام نفسه الذي جاءه بقدميه؟ بل حتى تجنب إرسال كتيبة لقتالهم؟! الحقيقة أن الجواب ينقسم إلى شقين اثنين:(الأول) الرعب الذي ملأ قلب الرومان بعد رؤيتهم لبسالة جيش مؤتة والفرسان الثلاثة، فلقد انتصر ثلاثة آلاف مسلم فقط على ما يقرب من ربع مليون نصراني في مؤتة، فما بالك بجيش تبوك الذي كان عشرة أضعاف جيش مؤتة؟!! (ثانيًا): رأينا من القصة التي رواها الصحابي الجليل أبو سفيان بن حرب والتي أخرجها البخاري في صحيحه، أن هرقل كان مؤمنًا تمام الإيمان بنبوة رسول اللَّه، إلا أنه ضنَّ بملكه، ففضل الدنيا على الآخرة، فلما علم القيصر أن رسول اللَّه جاء بنفسه على رأس جيشٍ لقتاله، ولّى القهقرة، ولم يعقب!
والآن لنبقى مع قصة المخلفين الثلاثة، فمتى ذكِرت غزوة تبوك ذكِر معها ذلكم الحدث العظيم، الذي عاشته المدينة وتقلبت مع أحداثه خمسين ليلة، إنه خبر الثلاثة الذين خلفوا:(كعب بن مالك ومرارة ابن الربيع وهلال بن أمية)، وهؤلاء الثلاثة كانوا الوحيدين من بين المؤمنين الذين تخلفوا عن الجيش، لا عن نفاق أو جبن، بل بسبب التسويف، ولنترك الحديث للشاعر كعب بن مالك ليروي لنا فصول تِلكم الواقعة:
"قد جمعت راحلتين، وأنا أقدر شيء في نفسي على الجهاد، وأنا في ذلك أصغي إلى الظلال، وطيب الثمار، فلم أزل كذلك حتى قام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم غاديًا بالغداة، فقلت: أنطلق غدا إلى السوق فأشتري جهازي ثم ألحق بهم، فانطلقت إلى السوق من الغد، فعسر علي بعض شأني، فرجعت فقلت: أرجع غدًا إن شاء اللَّه فألحق بهم، فعسر عليَّ بعض شأني أيضًا، فقلت: أرجع غدًا إن شاء اللَّه، فلم أزل كذلك، حتى مضت الأيام، وتخلفت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فجعلت أمشي في الأسواق وأطوف بالمدينة، فلا أرى إلا رجلًا مغموصًا عليه في النفاق، أو رجلًا قد عذره اللَّه، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك، وأقبل راجعًا إلى المدينة، جعلت أتذكر بماذا أخرج به من سخطه، وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، حتى إذا وصل المدينة، عرفتُ أني لا أنجو إلا بالصدق، وكان من عادته إذا جاء من سفر أو غزاة أن يبدأ بالمسجد، فيصلي ركعتين ثم يجلس للناس. فجاءه المخلفون (المنافقون)، فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، هذا يشكي مرضه، وذاك قلة ذات اليد عنده، وآخر نساءه وعوراته، كانوا بضعة وثمانين رجلًا، فقبل منهم علانيتهم، وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى اللَّه، فجئت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه، فتبسم تبسّم المغضب، ثم قال لي: تعال، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ما خلفك، ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ فقلت: بلى، إني واللَّه لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلًا، ولكني واللَّه لقد علمت أن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عليَّ، ليوشكن اللَّه أن يسخطك عليَّ، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه، إني لأرجو فيه عفو اللَّه عني، واللَّه ما كان لي من عذر، واللَّه ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، فقال رسول اللَّه: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي اللَّه فيك، فقمت، وثار رجال من بني سلمة، فاتبعوني يؤنبوني فقالوا لي: واللَّه ما علمناك كنت أذنبت ذنبًا قبل هذا، ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول اللَّه بما اعتذر إليه المخلفون فقد كان كافيك ذنبك واستغفار رسول اللَّه لك، قلت: فواللَّه ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي، ثم قلت: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا نعم، رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك، فقلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العامري، وهلال بن أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين شهدا بدرًا فيهما
أسوة، فمضيت حين ذكروهما لي فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا، حتى تنكرت لي الأرض، فما هي بالتي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي، فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشبَّ القوم وأجلدَهم فكنت أخرج، فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد، وأتي رسول اللَّه، فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه بود السلام عليَّ أم لا؟ ثم أصلي قريبًا منه، فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي، أقبل إليَّ وإذا التفت نحوه، أعرض عني، حتى إذا طال عليَّ ذلك في جفوة المسلمين، مشيت حتى جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي، وأحبُّ الناس إليَّ فسلمت عليه، فواللَّه ما رد عليَّ السلام، فقلت: يا أبا قتادة، أنشدك اللَّه، هل تعلمني أحُب اللَّه ورسوله فسكت، فعدت، فناشدته، فسكت، فعدت فناشدته فقال: اللَّه ورسوله أعلم! ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسورت الجدار، فبينا أنا أمشي بسوق المدينة، إذا نبطي من أنباط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك، فطفق الناس يشيرون له حتى إذا جاءني، دفع إليَّ كتابًا من ملك غسان (النصراني)، فإذا فيه: أما بعد: فإنه بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك اللَّه بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك! (عرض للخيانة!) قال كعب: وهذا أيضًا من البلاء فتيممت التنور فسجرتها، (أي أحرقتها). حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول اللَّه يأتيني فقال: إن رسول اللَّه يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها؟ قال: لا، ولكن اعتزلها ولا تقربها، وأرسل إلي صاحبي مثل ذلك فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك، فكوني عندهم حتى يقضي اللَّه في هذا الأمر، فجاءت امرأة هلال بن أمية فقالت: يا رسول اللَّه إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه قال: لا، ولكن لا يقربك، قالت: إنه واللَّه ما به حركة إلى شيء، واللَّه ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا، قال كعب فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول اللَّه في امرأتك كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه، فقلت: واللَّه لا أستأذن فيها رسول اللَّه وما يدريني ما يقول رسول اللَّه إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شاب. ولبثت بعد ذلك عشر ليالٍ حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول اللَّه عن كلامنا، فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة على سطح بيت من بيوتنا بينا أنا جالس على الحال التي ذكر اللَّه تعالى (في الآية
القرآنية التي تصف حالهم)، قد ضاقت عليَّ نفسي، وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفى من جبل سلع بأعلى صوته، يا كعب ابن مالك: أبشر، فخررت ساجدًا فعرفت أن قد جاء فرج من اللَّه، وآذن رسول اللَّه بتوبة اللَّه علينا حين صلى الفجر فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل صاحبي مبشرون فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيَّ فكسوته إياهما ببشراه، واللَّه ما أملك غيرهما! واستعرت ثوبين، فلبستهما، فانطلقت إلى رسول اللَّه فتلقاني الناس فوجًا فوجًا يهنئونني بالتوبة يقولون: ليهنك توبة اللَّه عليك، حتى دخلت المسجد، فإذا رسول اللَّه جالس حوله الناس، فقام إليَّ طلحة بين عبيد اللَّه يهرول حتى صافحني وهنأني، ولست أنساها لطلحة، فلما سلمت على رسول اللَّه قال: وهو يبرق وجهه من السرور: أبشر بخير يومٍ مر عليك منذ ولدتك أمك، قلت: أمن عندك يا رسول اللَّه أم من عند اللَّه؟ قال: لا بل من عند اللَّه، وكان رسول اللَّه إذا سُر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول اللَّه، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى اللَّه، وإلى رسوله فقال: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك. قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر، فقلت: يا رسول اللَّه، إن اللَّه إنما نجاني بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقًا ما بقيت". وقد خلّد اللَّه قصة هؤلاء المخلفين الثلاثة، الذين علّموا الدنيا معنى التوبة الحقيقية في قرآنٍ تُتلى آياته إلى يوم القيامة بقوله عز من قائل:
غزوة تبوك. . . . . كان من أبطالها عملاقٌ عظيم من عمالقة الإسلام، هذا العملاق دفع نصف أملاكه دفعة واحدة لتجهيز الجيش الإسلامي المتجه إلى تبوك! فمن يكون الصحابي الجليل الذي أسس علم الاقتصاد الإسلامي؟
يتبع. . . .
" مؤسس علم الاقتصاد الإسلامي"(عبد الرحمن بن عوف)
" دلَّني على السوق! "
(عبد الرحمن بن عوف)
الإسلام ليس دين الفقراء كما يظن البعض، وليس دين الأغنياء كما يتمنى البعض الآخر، الإسلام هو دين المسلمين! دين الفقراء والأغنياء على حدٍ سواء، فليس صحيحًا أنه ينبغي عليك أن تكون معُدمًا كي تكون تقيًا مؤمنًا، وليس صحيحًا أن الغنى هو المرادف للتسلط والجبروت، فالخطأ الكبير الذي يقع به بعض المسلمين أنهم يظنون أن الإسلام الصحيح هو في ترك الدنيا والانعزال عن العالم الخارجي والتفرغ للدروشة، فما هكذا كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وما هكذا كان السلف الصالح الذي فتح الدنيا، فقد كانوا رحمهم الله يزاولون حياتهم بشكلٍ طبيعي، فالإسلام يحتاج للغني كما يحتاج للفقير، فمن الذي قال أنه هذه الأمة هي أمة الفقراء؟ فأمة الإسلام على أيدي رجالٍ أثرياء مثل أبي بكر وعثمان وعبد الرحمن، فاللَّه سبحانه وتعالى هو الذي سخر لهذه الأمة تجّارًا يحملونها على أيديهم، فلولا ثراء أبي بكر لبقي بلالٌ يُعذب تحت حجارة مكة، ولولا ثراء عثمان لبقي الصحابة عَطاشى ينتظرون شربة ماء من اليهودي الذي كان يملك بئر رومة، ولولا ثراء ابن باديس لما صنع جيلًا حرر به الجزائر، فواللَّه لن تقوم هذه الأمة بدون أغنيائها أبدًا، فالأمة تحتاج إلى رجال أعمالٍ أثرياءٍ ينفقون على الدعوة ويحملون همّ قيام هذه الأمة من جديد، فالمال قوة، والقوة هي ما نحتاج في هذه المرحلة الحساسة!
وقبل أن نخوض في قصة هذا الصحابي العظيم، أرى أن أذكر قصة طريفة تسهِّل علينا فهم هذه العقلية الاقتصادية الإسلامية الجبارة، فقد رُوي في الأثر أن أحد التجار خرج في التجارة ليرجع من حيث أتى في اليوم التالي، فلما رجع إلى مدينته سأله صاحبه عن سر رجوعه بقافلته، فقال له: "يا أخي، لقد رأيت حمامة عرجاء عمياء في منتصف
الطريق، فقلت في نفسي: كيف لهذه الحمامة أن تعيش وهي في هذه الحالة، وبعد لحظات جاءت حمامة أخرى حاملة بعض الطعام إلى تلك الحمامة العمياء، فقلت: لا إله إلا اللَّه! إن الذي رزق هذه الحمامة العمياء في جوف الصحراء لقادرٌ أن يرزقني بدون أن ألهث وراء الدنيا، فما إن رأيت ذلك حتى قررت أن أرجع بتجارتي لأهلي وأولادي" فنظر إليه صاحبه ووضع يده على كتفه وقال له وهو يحاوره:"سبحان اللَّه يا أخي! لم ترضى على نفسك أن تكون حمامة عرجاء تنتظر طعامها من الغير، ولا ترضى أن تكون حمامة قوية تطعم غيرها من الحمام؟!! ".
وعظيمنا الحالي هو أحد أغنى أغنياء المسلمين في التاريخ، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الخمسة العظماء الذين أسلموا على يد الصدّيق (جزاك اللَّه خيرًا يا أبا بكر!)، وأحد الستة أصحاب الشورى، وأحد البدريين، وأحد أصحاب بيعة الرضوان، صاحب الهجرتين، المصلي إلى القبلتين، إنه رمز العطاء، وقدوة الأغنياء، إنه الثري الذي كان يتصدق بلا خوف، إنه البطل العظيم عبد الرحمن بن عوف.
وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه لم يكن غنيًا ومؤمنًا فحسب، بل كان عبد الرحمن ابن عوف وأبو بكر الصِّديق المخلوقين الوحيدين على وجه الكون الذين صلى خلفهما رسول العالمين محمد صلى الله عليه وسلم الذي صلى خلفه جميع الأنبياء والرسل في رحلة الإسراء الشهيرة!
وعبد الرحمن بن عوف أراد أن يكون في خانة العطاء، لا في خانة الأخذ، فعندما هاجر بطلنا إلى المدينة، آخى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بينه وبين الصحابي الجليل (سعد بن الربيع)، وقد قدم عبد الرحمن بن عوف المدينة صفر اليدين كغيره من المهاجرين الأبطال الذين خلفوا منازلهم وأسواقهم وأموالهم خلف ظهورهم في مكة وتركوها لوجه اللَّه تعالى، فعرض عليه أخوه الأنصاري سعد بن الربيع رضي الله عنه نصف ما يملك فاعتذر عبد الرحمن بعفاف النبلاء قائلًا:"بارك اللَّه في مالك وأهلك ولكن دلني على السوق" فانطلق رضي الله عنه إلى سوق المدينة فباع واشترى، واشترى وباع وما هو إلا زمن قصير فإذا به يصبح من أرباب الملايين! يقول الإمام (ابن حجر العسقلاني): "خلّف عبد الرحمن بن عوف أربع زوجات فورثت كل واحدة 100000 دينار، ومعلوم إن الزوجات يشتركن في
الثمن، وبحسبة بسيطة يكون الثمن 400000، فتكون التركة الكاملة التي تركها لورثائه تساوي (8400000) × (3200000)، أي ثلاثة ملايين ومائتي ألف دينارٍ (ذهبي)! " هذا باستثناء الأموال التي كان ينفقها على المسلمين، والقوافل التي كان يوقفها في سبيل اللَّه، كل هذا لأنه لم ينتظر أن تأتيه "الوظيفة" كما يفعل خريجو جامعاتنا، فكلمة السر هي: "دلّوني على السوق! "
ومع نهاية قصة هذا الصحابي الإسلامي العظيم، أكون قد انتهيت من ذكر قصص الصحابة في هذا الكتاب، بدأتها بقصة أول العشرة المبشرين بالجنة (أبو بكر الصديق) وانتهيت بقصة عاشر العشرة المبشرين بالجنة (عبد الرحمن بن عوف)، ذاكرًا قصص بعض الصحابة بينهما، فلو كان الأمر بيدي، لكتبت قصص أصحاب محمد الذين يزيدون عن المائة ألف، فكل واحدٍ فيهم لديه قصة عجيبة جعلت منه واحدًا من أعظم خلق اللَّه في الكون. فوداعًا أصحابَ محمد، والعفو والسماح إن كنت قد قصّرت في حقكم، فأنّى لإنسانٍ أن ينصف من مثلكم، فعظمتكم ناطحت علياء السماء، فتعدت النجوم والثريا، فواللَّه إني ما كتبت عن واحدٍ منكم إلا وعشت معه وكأني أراه أمامي، ولا أعرف إن كان لمثلي أن يتمنى أن يرزقه اللَّه رؤيتكم في حضرة نبيه يوم القيامة، ولكني أعلم أن اللَّه على كل شيء قدير.
ومن عبد الرحمن إلى عبد العزيز، ومن صحاري الحجاز، إلى حدائق تونس الخضراء، نطير معًا برفقة نسرٍ إسلاميٍ عملاق، حلّق فوق قمم جبال الأطلس، يرفع بجناحيه راية الإسلام، لتعانق بذلك سُحب السماء! فمن هو ذلك القائد الإسلامي العظيم الذي لقن فرنسا درسًا في معنى النضال الإسلامي في تونس، ولقن الإنجليز درسًا آخرًا في معنى الحرية المحمدية في العراق؟ فتعالوا معًا لنسبر أغوار هذا النسر الإسلامي العملاق الذي رفع بجناحيه راية التحرير في تونس الخضراء، ليعلنها ثورة حتى النصر!
يتبع. . . . .
" نسر تونس الخضراء"(عبد العزيز الثعالبي)
" الثعالبي هو أعظم خطيب عربي عرفه هذا القرن"
(الشاعر العراقي معروف الرصافي)
"فلِيكن الهم الأول لكل مسلم فينا هو التفكير في كيفية استرجاع مجد هذه الأمة، ثم العمل على تحقيق ذلك بالفعل"
(الثعالبي في مؤتمر القدس)
من بين بنود نظرية "الغزو التاريخي" التي فصّلناها في بداية هذا الكتاب، بندٌ يُسمى بـ "قتل الشخصية"، هذا البند ينص على تحويل البطل أو الرمز إلى عدم، وفي أحسن الظروف إلى سراب! فيقوم بذلك غزاة التاريخ بعملية تشويهٍ منظّمة مستمرة، يتحول في نهايتها البطل إلى جبان، والمناضل إلى خائن، والعالم إلى مجنون، بحيث لا تكون الشخصية نفسها هي الهدف الرئيسي من هذه العملية الخبيثة، بل يكون فيها الهدف الأول والرئيسي هو: أنا وأنت! ليسقط بعد ذلك مفهوم القدوة في أعيننا، فلا نجد بطلًا تاريخيًا نستلهم منه سُبل النصر والتمكين، وبالتالي لا يكون أمامنا في نهاية بحثنا اليائس عن البطل المنشود إلّا أن نسلّم أننا أمة بلا تاريخ، وفي بعض الأحيان أمة بتاريخٍ قذر!!! فنصغر في أعيننا شيئًا فشيئًا، حتى نتلاشى تدريجيًا، فنتحول في نهاية المطاف. . . . . إلى ذكرى منسية في التاريخ!
وبطلنا الإسلامي العظيم الذي نحن في صدد الحديث عنه يُمثل نوعًا خاصًا من تلك الفئة المنسية التي تم قتلها في التاريخ، فكم منّا سمع في حياته ولو لمرة واحدة عن هذا النسر التونسي الذي حلق عاليًا ليس فوق جبال الأطلس في تونس فحسب، بل فوق جبال الهملايا في الهند، وهضاب الأناضول في تركيا، وقمم الألب في فرنسا؟! وكأن سُحب السماء وقمم الجبال ما فتأت تعانق أجنحته، لتجعل منه بطلًا عظيمًا من عظماء أمة الإسلام المائة، فلِتخشع القلوب، ولتشخص الأبصار، ولتصمت الألسنة، فنحن في صدد
الحديث عن أسطورة نسرٍ إسلامي عملاق، انطلق من سماء تونس الصافية، ليخترق بجناحيه حاجز الزمان والمكان، إننا نتكلم عن سيرة رجلٍ من أعظم العظماء، وأفصح الخطباء، وأنبل الشرفاء، إنه زعيم تونس الخضراء: القائد البطل عبد العزيز الثعالبي.
ليس عندي مثقال ذرة من خردل من شكٍ أنه لو كان في زماننا عشرة فقط من نفس طينة هذا القائد العظيم، لتغير وضع المسلمين رأسًا على عقب! فالثعالبي كان رجلًا بأمة، حمل على عاتقه مسؤولية إعادة مجد الإسلام، من دون أن ينتظر مساعدة من أي إنسان، فلقد كان الثعالبي يسافر بين قفار الأرض وبحارها وكأنه أحد الرَّعين الأول من الصحابة البواسل الذين طافوا فيافي الأرض نشرًا لدعوة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فهيا بنا لنسبر معًا أغوار هذه الأسطورة الإسلامية الحية. . . . .
والبداية تبدأ في يومٍ من أيام سنة 1881 م، حينها افتقدت إحدى الأمهات التونسيات طفلَها الصغير، فأخذت تفتش عليه في شوارع مدينة "تونس" العاصمة، حتى وجدته جالسًا لوحده على الرمال الناعمة لشواطئ تونس، فما إن رأت تلك المرأة الصالحة طفلها الذي لم يتجاوز السابعة من عمره حتى هرعت إليه لتضمه إلى صدرها بلهفة الأم، ولكنها تعجبت من دموعه الغزيرة التي تبلل قسمات وجهه الصغير! عندها ظنت الأم أن أحدًا من الأطفال قام بضرب صغيرها، فسألته عن سر بكائه، فنظر الطفل الصغير إلى أمه والدموع تتساقط من عينيه ليقول لها بصوتٍ ملائكي:"يا أمي. . . لم يضربني أحد، ولكن ألا ترين الفرنسيين يدخلون إلى بلادنا؟! إنهم يحتلون تونس. . . . ولن يرحلوا عنها إلا إذا حاربناهم! ". كانت هذه اللحظة الإنسانية الفارقة في حياة هذه الطفل ذي السبع سنوات، هي لحظة ميلاد جديدة لأسطورة القائد المجاهد عبد العزيز الثعالبي، فمنذ ذلك الموقف الذي مر به في طفولته، حمل عبد العزيز همَّ تحرير تونس من الفرنسيين، ليتحول هذا الطفل الشجاع إلى شابٍ مناضل حمل راية الكفاح في بلاده ضد جنرالات فرنسا، والذين احتلوا تونس بنفس الحجة المستهلكة التي يستخدمها الغزاة في كل زمان:"نشر الحضارة والقضاء على الرجعية! " ولكن الشيء الذي لا يعرفه الكثيرون منا أن تونس في ذلك الوقت كانت بلادًا مزدهرة علميًا وحضاريًا، فقد كانت تونس في ذلك الوقت قد خطت خطوات ثابتة إلى الحضارة والعمران على يد (خير الدين التونسي) و (الشيخ محمود قابادو) وآخرين. لكن ذلك لم يدم إذ سرعان ما سقطت البلاد في
قبضة الفرنسيين سنة 1881 م إثر مناوشات قبلية حدودية بين تونس والجزائر اتخذتها فرنسا ذريعة لاحتلال تونس ومن ثم إعلان الحماية عليها في الثاني عشر من مايو سنة 1882 م، وعلى إثر ذلك عينت فرنسا فرنسيًا مستعربًا يدعي (لويس ماشويل) رئيسًا لإدارة المعارف وأطلقت يده في البلد فاستولى على كل ما له علاقة بالتعليم والثقافة، ليغير نظام التعليم الإسلامي في "الجامعة الزيتونية"، ويضع قوانين تقدم الفرنسية على العربية في مناهج التدريس، فأوقف بذلك النهضة العلمية في الزيتونة التي كانت قد جمعت آنذاك بين العلوم الشرعية والعصرية. ثم قامت فرنسا بتقييد الحريات المدنية للتونسيين، وحولت الإدارة إلى النظم الفرنسية وجعلت اللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية في البلاد، وأهملت المؤسسات التي خطت خطوات متقدمة في الطريق إلى الحضارة والعمران كـ "الزيتونة" و"مدرسة باردو الحربية" التي جمعت بين العلوم العسكرية والهندسية والرياضية، وكان غياب (خير الدين التونسي) عن تونس مؤثرًا في الروح المعنوية لأهلها، فقد استقال من الوزارة قبل الاحتلال الفرنسي لتونس وصار صدرًا أعظم -رئيسًا للوزراء- في الدولة العثمانية وبقي عندها برز إلى الساحة (الشيخ سالم بوحاجب) و (البشير بن مصطفى صفر) فأسسا معًا جمعية سموها "الحاضرة" وأصدروا جريدة أسبوعية لها الاسم نفسه، ومن ثم أسَّسا "المدرسة الخلدونية" سنة 1896 م. وفي تلك المدة برز الشيخ (عبد العزيز الثعالبي) الذي ولد سنة 1293 هـ، 1874 م في تونس، وهو من أصول جزائرية، فاهتم به جده المجاهد (عبد الرحمن الثعالبي) الذي قاوم الفرنسيين في الجزائر، فقام على تعليمه وتحفيظه القرآن ومبادئ النحو والعقيدة. ولما تألف في تونس "الحزب الوطني" الذي كان أول حزب يطالب بتحرير تونس سنة 1895 م انضم إليه الثعالبي، قبل أن يؤسس بنفسه "الحزب الوطني الإسلامي"، فأسس جريدة "سبيل الرشاد" التي استمرت عامًا قبل أن توقف، وهنا رأى الثعالبي أن تونس ضاقت عليه فقرر الخروج منها، فخرج منها إلى عاصمة الخلافة "إسطانبول" عن طريق اليونان وبلغاريا فوصلها سنة 1898 م وتحدث مع رجال الدولة العثمانية وناقشهم في القضية التونسية، ثم عاد إلى تونس فوصلها سنة 1902 م بعد أن بقي أربع سنوات خارجها، فوجد أن الفرنسيين قد شجعوا الفكر الصوفي بما يحمله من خمول ودروشة، فأخذ الشيخ الثعالبي يقاوم أفكار هذا الفكر المصطنع، ويدعو الناس إلى دعاء اللَّه وحده وترك التبرك بالقبور والأولياء الأحياء منهم والأموات، فرأت فرنسا
أن ما يدعو إليه الثعالبي من الرجوع إلى القرآن والسنة يمثل خطرًا على استمرارهم في تونس، فقبضوا عليه سنة 1906 م ووضعوه في السجن بتهمة "محاربته للأولياء"! بعد أن رفع علماء الصوفية المتعاملين مع الاحتلال الفرنسي أعلامًا بيضاء عليها عبارة بالفرنسية:"اقتلوا الثعالبي الكافر!! ". ولما احتلت إيطاليا ليبيا سنة 1911 م حاول الثعالبي مساعدة المجاهدين وإرسال المساعدات لهم، فنقم عليه الفرنسيون صنيعه، فقبضوا عليه مرة أخرى سنة 1912 م وأخرجوه خارج البلاد، فأضربت البلاد وأصر الشعب على رجوعه فعاد الشيخ الثعالبي إلى تونس سنة 1914 م، ليظل يعمل في مجالات الإصلاح إلى أن اعتقل سنة 1920 م، حتى سُجن، قبل أن يخرج من البلاد سنة 1923 م، فغادر تونس إلى إيطاليا ففرنسا، ثم إلى مصر فالحجاز، ثم استقر به المقام في العراق حيث أصبح أستاذًا في جامعات بغداد منذ سنة 1925 م إلى سنة 1930 م، ولما رأى العراقيون فصاحته المنقطعة النظير، انتدبه العراق للإشراف على البعثة الطلابية العراقية إلى مصر، فمثّل العراق في "مؤتمر الخلافة" بمصر سنة 1925 م الذي دعا إليه شيخ الأزهر عقب إسقاط الخلافة. ثم ترك الثعالبي العراق إلى مصر، ومنها سافر إلى الصين وسنغافورة وبورما والهند، فأخذ يدعو الناس إلى الإسلام، فدرس حالة المنبوذين من الهندوس، فكتب في الصحف أن الحل الوحيد لمشكلتهم هي في الإسلام! فأسلم الآلاف من الهنود على يد هذا البطل التونسي، قبل أن يعود إلى تونس للمرة الأخيرة، حيث استقبل استقبالًا حافلًا من الشعب التونسي المسلم، فأخذ الشيخ الثعالبي يجاهد الفرنسيين بمقالاته وكتاباته حتى توفي رحمه الله سنة 1944 م بعد حياة حافلة من النضال والكفاح، وسنينٍ من السفر والترحال بدون كللٍ أو مللٍ في سبيل رفع راية الإسلام من جديد.
وفي الوقت الذي كان الثعالبي يجاهد فيه الفرنسيين في تونس، كان هناك من يجاهد الفرنسيين والإنجليز والطليان والصهاينة في قلب العالم الإسلامي!
فمن هو ذلك المجاهد الإسلامي العظيم الذي نقش اسمه في فلسطين بحروفٍ من نور؟ وكيف دخل الصهاينة إلى هذه الأرض المقدسة؟ وهل فعلًا باع الفلسطينيون أرضهم لليهود؟!! وما قصة ثورة القسّام الكبرى؟
يتبع. . . . .
" قائد ثورة فلسطين"(عز الدين القسّام)
" أن نموت شهداء في سبيل اللَّه. . . . خير لنا من الاستسلام للكفرة! "
(عز الدين القسام)
حديثنا الآن عن بطل استثنائي في أمة الإسلام العظيمة، نحن نتحدث عن رجلٍ بأمة، رجلٌ أيقظ اللَّه به روح الجهاد في المسلمين بعد سباتٍ طويل! إننا نتحدث عن مفجر ثورة فلسطين الأولى، إننا نتحدث عن أسد الإسلام، والبطل المقدام، القائد الفذ الهمام، إنه مفجر ثورة القسام. . . . . الشيخ عز الدين القسام.
الحقيقة أن القارئ لتاريخ عظماء أمة الإسلام يجد شيئًا عجيبًا للغاية! فهناك شيء لاحظته من خلال دراسةٍ للتاريخ -أحسب أنها مستفيضة- واطلاع لا بأس به، أن أبطال الإسلام بصفة خاصة ليسوا كغيرهم من أبطال الأمم الأخرى! فلقد حارب البطل اللاتيني (بوليفار) الإمبراطورية الإسبانية، وحارب الثائر الفيتنامي (هو شي منه) الإمبراطورية الأمريكية، وحارب قبلهم القائد القرطاجي (هانيبعل) الإمبراطورية الرومانية، إلا أننا لا نرى بطلًا حارب عدة إمبراطوريات في نفس الوقت إلا في حالة أبطال أمة الإسلام!!! فكما رأينا من خلال هذا الكتاب كيف حارب الصديق الإمبراطوريتين الساسانية والبيزنطية في آنٍ واحد، وكيف حارب الخطابي فرنسا وإسبانيا وإنجلترا في نفس الوقت، وكيف حارب سليم الأول الصفويين والبرتغاليين، وكيف حارب صلاح الدين الأيوبي العبيديين الشيعة والصليبيين. . . . والآن جاء الدور على رجل حارب كلًا من: الإمبراطورية الفرنسية، والإمبراطورية البريطانية، والإمبراطورية الإيطالية، والعصابات الصهيونية، في آن واحد!!! فحكمت عليه فرنسا بالإعدام، ولاحقته إيطاليا بسبب دعمه لثورة عمر المختار، وأصبح المطلوب رقم واحد من قبل القوات الإنجليزية، والعدو الرئيسي لإرهابيى عصابات الهاجانا الصهيونية، ليقضي
زهرة شبابه مطاردًا من قبل جبابرة الأرض، هدف كل واحدٍ منهم القضاء على أسطورة رجلٍ شامي. . . . . يقال له عز الدين القسام!
والبداية تبدأ -كمعظم أبطال أمة الاسلام- من المساجد، ففي بلدة "جبلة" في محافظة "اللاذقية" في سوريا وُلد عزّ الدين عبد القادر مصطفى يوسف محمد القسام في سنة 1300 هـ 1882 م، ليتعلم القسام في مساجد تلك البلدة الشامية قبل أن يرحل في شبابه إلى مصر حيث درس في الأزهر. وفي سنة 1920 م اشترك القسام في قيادة الثورة ضد الفرنسيين في سوريا، عندها حاولت السلطة العسكرية الفرنسية شراءه وإكرامه بتوليته القضاء، فرفض القسام ذلك، فكان جزاؤه أن حكم عليه الديوان السوري العرفي بالإعدام! لينجح القسام بالهرب إلى فلسطين عام 1921 م، ليقوم بتأسيس خلايا سرية للمقاومة الشعبية الفلسطينية في "حيفا".
وبعد أن نال اليهود وعد بلفور من الإنجليز، أراد بعض الشباب المتحمسين البدء بالقتال، إلا أن الشيخ القسام فضل التريث لإعلان الثورة الكبرى، فالأمور في رأي القسام لا تؤخذ بالعاطفة، وإنما بالإعداد الجيد والمنظم، فقام الشيخ بتعليم أبناء القرى وتدريبهم على السلاح في معسكرات خاصة. وفي 15 نوفمبر 1935 م أطلق الشيخ عز الدين القسام الرصاصة الأولى للثورة الفلسطينية الكبرى والتي عُرفت في التاريخ باسم "ثورة القسام"، ليقدم المجاهدون الفلسطينيون أروع صور الكفاح والنضال، وليسقط البطل تلو البطل دفاعًا عن أرض فلسطين، حتى أضحى القسام علمًا من أعلام الجهاد يتردد اسمه في بلاد فلسطين كلها، قبل أن يستشهد الشيخ المجاهد عز الدين القسام على أرض هذه الأرض المقدسة، أرض أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، مسرى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ومهد الأنبياء، أرض فلسطين المقدسة!
وقبل أن ننتقل إلى البطل القادم. . . . . أرى أنه من الضرورة بمكان أن أعرِّج على موضوعٍ هام للغاية، وهو موضوع شبهةٍ ألقيت على الشعب الفلسطيني البطل، واللَّه ما كنت أعلم أن هناك من على وجه الأرض من يرددها حتى سمعتها بأذني، ألا وهي أن الفلسطينيين هم من باعوا أرضهم لليهود! والحقيقة المرة التي اكتشفتها مؤخرًا أن هذه الشبهة الشنيعة منتشرة بشكلٍ مخيف بين أوساط الشباب العربي! ولا أنكر بأنني من
خلال هذه السطور أدافع عن شرف شعبي المناضل في فلسطين، ولكني واللَّه أدافع قبل ذلك عن مصداقية محمد بن عبد اللَّه عليه الصلاة والسلام الذي قال فيما صححه العلامة الألباني:
"ألا إن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام"
"ألا إن عقر دار المؤمنين الشام"
ففي دراسة تاريخية لا يتسع المجال لذكرها (الدراسة موجودة على شبكة الإنترنت!) نجد أن الصهاينة لم يحصلوا على تلك الأراضي من خلال البيع والشراء، وإنما من خلال هزائم الجيوش العربية المتلاحقة ضد اليهود! أما النسبة الضئيلة التي حصل عليها بنو صهيون من دون قتال فهو إما من خلال الأراضي التي منحها الانتداب البريطاني لليهود، أو من خلال بعض العائلات المسيحية -اللبنانية والسورية والفلسطينية- التي باعت أراضيها لليهود، أو من خلال حكومة "الإتحاد والترقي" التابعة ليهود "الدَوْنمة"!
فمن هم يهود الدونمة؟ وما قصة حكومة الإتحاد والترقي؟ ومن هو كمال أتاتورك؟ وكيف سقطت الخلافة الإسلامية العثمانية؟ ومن هو ذلك الخليفة الإسلامي العظيم الذي رفض بيع شبرٍ واحدٍ من فلسطين لليهود؟ وما هو المصير الذي لاقاه نتيجة لعدم تفريطه بأرض فلسطين للصهاينة؟
يتبع. . . . . .
" الخليفة الذي ضحى بالمُلك من أجل فلسطين"(عبد الحميد الثاني)
أنصح السيد "هرتسل" أن لا يفكر مرة أخرى في هذا الموضوع، ففلسطين ليست ملكًا لي لكي أستطيع أن أبيع شبرًا واحدًا من أرضها، فلسطين ملك للمسلمين كلهم، ولقد جاهد أجدادي العثمانيون لمئات السنين من أجل هذه الأرض، وروت أمتي ترابها بدماء المسلمين، ونصيحتي لليهود أن يحتفظوا بملايينهم، فإذا تجزّأت دولة الخلافة يومًا ما فإنكم قد تأخذونها بلا ثمن، أمَّا وأنا حيٌّ، فواللَّه إنَّ عمل السكين في بدني لأهون عليَّ من أن أرى فلسطين وقد بُترت من ديار الإسلام.
خادم المسلمين
عبد الحميد الثاني
هناك شيءٌ عجيبٌ لاحظته من خلال دراسة -أحسب أنها مستفيضة- لتاريخ دول الإسلام، شيءٌ قد يظنه كثيرٌ من المؤرخين ضربًا من ضروب الجنون! فعلى عكس ما يعتقده الناس، لاحظت أنه في نهاية كل دولة إسلامية، يبرز إلى الساحة قائدٌ عظيم يكون من أواخر زعماء تلك الدولة المنهارة! هذا القائد يبلغ من العظمة ما يؤهله لكي يحتل المركز الثاني أو الثالث في سلم العظمة لتلك الدولة! فلقد ظهر (عبد الرحمن الداخل) في نهاية الخلافة الأموية، وظهر في نهاية الخلافة العباسية خليفة عباسي لا يعرفه الكثيرون اسمه (المستنصر باللَّه العباسي)، هذا الخليفة شبهه المؤرخون بالصحابة من شدة عدله وعلمه، وكان السلطان البطل (نجم الدين أيوب) آخر سلطان للأيوبيين وثانيهم في العظمة بعد (صلاح الدين الأيوبي)، وظهر قبل سقوط الأندلس مباشرة (أبو يوسف
يعقوب المنصور الماريني) والذي حقق انتصارات عظيمة للمسلمين هناك بعد أن غابت عنهم لعشرات السنين، وكان آخر سلاطين المماليك (قلنصوة الغوري) هو الذي أنقذ "مكة" و"المدينة" من الاحتلال الصليبي الشيعي المشترك (تابع المهمة بعده السلطان العثماني سليم الأول)، بل إن الغوري أبحر بسفنه إلى "الهند" لمحاربة فلول الصليبيين البرتغاليين! أما في دولة الخلافة العثمانية، فقد ظهر في نهايتها بطل إسلامي عظيم، يقارب في عظمته عظمة أجداده العثمانيين من أمثال (الفاتح) و (القانوني)، هذا البطل الإسلامي العظيم اسمه الخليفة (عبد الحميد بن عبد المجيد)، وهو نفسه الذي تخلده كتب التاريخ الإسلامي بحروفٍ من ذهب تحت اسم (السلطان عبد الحميد الثاني).
وقبل أن نسبح في بحر عظمة هذا الخليفة الإسلامي، أرى أن نفسر هذه الظاهرة الغريبة التي ذكرناها للتو، فلماذا يظهر العظماء في نهاية كل دولة؟ ولماذا لم تحل عظمة أولئك العظماء دون سقوط دولهم التي سقطت بعدهم مباشرة؟
الحقيقة أنني لم أجد تفسيرًا علميًا لهذه الظاهرة العجيبة (والتي تظهر في تاريخ دول المسلمين فقط!)، إلا أنني أفترض عدة افتراضات منهجية قد يكون إحداها أو جميعها يمثل حلًا لهذا اللغز العجيب:
(1)
إما أن تكون فترة حكم ذلك القائد قصيرة بشكل لا يكفي لإحداث تلك الإصلاحات.
(2)
وإما أن يكون ذلك القائد العظيم قد ظهر في زمانٍ لا تنفع في الإصلاحات أصلًا بسبب تركة الهزائم والديون والفوضى التي أورثها إياه سبقوه من قادة ضعاف.
(3)
وإما أنه يكون ضحية للمؤامرة!
وباستثناء قصر فترة الحكم، فإن جميع ما سبق ينطبق على الخليفة عبد الحميد الثاني، فلقد تسلم الخليفة العثماني مقاليد الخلافة في "إسطانبول" بعدد سلسلة من السلاطين الذي أضعفوا الدولة العثمانية بترفهم وتبذيرهم، فعمل الخليفة عبد الحميد على إصلاح دولة الخلافة، وفعلًا كاد أن ينجح في ذلك، لولا حدوث المؤامرة التي أسميها شخصيًا بـ "المؤامرة الكبرى"، هذه المؤامرة لم تبدأ مع حكم عبد الحميد الثاني، بل بَدأت قديمًا جدًا، كانت بدايتها بالتحديد مع الأخوين (برباروسا)! هل ما زلنا نذكر
هذين الأخوين؟
قبل أن أفصل أكثر أحب أن أفسر سبب اقتصار ظهور القادة العظماء في زمن انهيارات الدول الإسلامية بالذات، والحقيقة أن السبب يكمن في أمرٍ وحيدٍ يميز المسلمين بشكلٍ عامٍ -قادة وشعوبًا- ألا وهو:
أن عظمة المسلم لا تظهر إلى في وقت الشدة!
وكنّا قد ذكرنا أن الأخوين باربروسا (عروج وخير الدين) رحمهما اللَّه، كانا قد أنقذا المسلمين الأوروبيين في الأندلس من محاكم التفتيش، فقاما بتنفيذ أمر الخلفاء العثمانيين -جزاهم اللَّه كل خير- بنقل عشرات الآلاف من المسلمين إلى الجزائر وشمال أفريقيا على متن سفن الأسطول العثماني، والحقيقة أن الإسبان المسيحيين لم يقتلوا المسلمين فحسب، بل قتلوا كل من هو ليس كاثوليكي حتى ولو كان مسيحيًّا بروتستانتيًا! فكان اليهود أيضًا ضحية لإرهاب الإسبان الكاثوليك على الرغم من كل الخدمات التي قدمها اليهود للإسبان ضد مسلمي الأندلس! حينها لم يجد اليهود غير المسلمين لإنقاذهم من إرهاب المسيحييين المتطرفين في إسبانيا! فقام الأخوان بارباروسا بحملهم على سفن الخلافة العثمانية إلى ديار المسلمين، ليلقن الإسلام البشرَ درسًا كبيرًا في معنى الإنسانية والتسامح الديني، ليس ذلك فحسب، فلقد قامت الخلافة الإسلامية العثمانية باستقبال العائلات اليهودية الهاربة من روسيا وفرنسا وإنجلترا بعد أن طردوا اليهود من بلدانهم مدّعين أن أحدًا لا يستطيع العيش مع اليهود لغدرهم وخياناتهم -على حسب ادعاءاتهم! والحقيقة أن المسلمين بصفة عامة تعلموا من محمد رسول الرحمة عدم الحكم المسبق على البشر، فلقد عاش الرسول مع اليهود بسلام في المدينة المنورة، ولم يحاربهم إلا بعد خياناتهم المتكررة (قام بنو قريظة بفتح بوابات المدينة للأحزاب ليتمكنوا من قتل المسلمين المدنيين!)، فقد حرَّم الإسلام قتل اليهودي لكونه يهوديًا أو قتل المسيحي من أجل دينه، ولقد تجسد هذا الدرس المحمدي بشكل لم تعرفه البشرية من قبل (ولا من بعد) في قرطبة الأندلسية حين كان اليهود والنصارى يعيشون في كنف الدولة الإسلامية!
المهم أن المسلمين العثمانيين قاموا باستضافة اليهود المضطهدين من أوروبا، فأكرموهم كرمًا بالغًا، وأعطوهم بعض الإقطاعيات في مدينة "سالونيك" اليونانية (وكانت تابعة للخلافة العثمانية)، ليعيش اليهود في كنف دولة الإسلام في غاية الأمن والاستقرار (قام رئيس الوزراء التركي أردوغان بتذكير شمعون بيريس بما صنعه أجداده العثمانيون لليهود وذلك عقب حرب غزة 2009 م!)، إلا أن بعض اليهود أراد أن يرد الجميل للعثمانيين، فعملوا على تدمير دولتهم!!! فادّعوا اعتناقهم للإسلام (تقية!) لأخذ مناصب عليا في الدولة، فسُموا بـ "يهود الدَوْنمَة"، وهي كلمة تعني بالتركية العثمانية "اليهود الذين ارتدوا عن اليهودية". ليصلوا إلى بعض المناصب الرفيعة في الدولة، وعندها تعاونوا في السر مع إنجلترا وفرنسا والحركة الصهيونية لإسقاط الخلافة العثمانية إلى الأبد، إلا أن مشروعهم تعطل عند ظهور خليفة قوي اسمه السلطان عبد الحميد الثاني، فلقد أرسل زعيم الحركة الصهيونية (ثيودور هرتسل) رسالة إلى السلطان عبد الحميد الثاني يعرض عليه رشوة تبلغ 150 مليون جنيه إسترليني، على أن يعمل السلطان على تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ومنح اليهود قطعة أرض يقيمون عليها حكمًا ذاتيًا. فرفض سليل صقور آل عثمان ذلك العرض المغري الذي كان بإمكانه حل مشاكل الدولة المالية، عندها قرر اليهود إزالة هذا الخليفة الإسلامي من على خارطة القرار! فقام يهود الدونمة بإنشاء جمعية تسمى "جمعية تركيا الفتاة" تدعو الأتراك من خلالها إلى الأفكار العلمانية والقومية، ومناهضة كل ما هو إسلامي، ليلتحق بهذه الجمعية عدد كبير من أفراد الجيش مُكوِّنين ما عُرف بحزب "الاتحاد والترقي"، وهو الجناح العسكري لجمعية تركيا الفتاة، بعدها قام حزب الاتحاد والترقي بالانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني سنة 1909 م بعد أن سلمه ثلاثة جنرالاتٍ قرار العزل (اثنان منهم يهود!)، ليقوم هؤلاء الإنقلابيون بنفي بطلنا إلى مدينة "سلانيك"(وهي نفس المدينة التي استضاف بها الخلفاء العثمانيون اليهود المضطهدين من أوروبا!!!) حيث بقي هناك منفيًا إلى توفي رحمه الله في 10 فبراير 1918 م. ولكن الخليفة الإسلامي استطاع أن يسرب من منفاه سرًا خطيرًا للغاية!
ويسرني ونحن في نهاية هذا الكتاب أن أعلن عن مفاجأة للقارئ الكرام: فلقد
حصلت (بطريقةٍ ما!) على صورة لوثيقةٍ سريةٍ للغاية بخط يد السلطان عبد الحميد الثاني شخصيًا، تضمن رسالة كان قد سرَّبها السلطان سرًا من منفاه بعد خلعه إلى أحد الشيوخ الأتراك، يشرح له من خلالها سرَّ خلعه،
[مخطوطة]
ويبين فيها دور اليهود الأساسي في خلعه من كرسي الخلافة بعد رفضه بيع فلسطين لليهود، وفيما يلي ترجمة بالعربية لبعض ما جاء في الرسالة السرية المكتوبة باللغة العثمانية (كانت بالأبجدية العربية) والتي استطاع أحد الخدم المخلصين للخليفة إيصالها خفية للشيخ التركي المسلم:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للَّه رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد رسول رب العالمين وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين إلى يوم الدين أرفع عريضتي هذه إلى شيخ أهل عصره الشيخ محمود أفندي أبي الشامات، أقبل يديه المباركتين راجيًا دعواته الصالحة. بعد تقديم احترامي أعرض أني تلقيت كتابكم المؤرخ في 22 مايس من السنة الحالية، وحمدت المولى وشكرته أنكم بصحة وسلامة دائمتين. سيدي: إنني
بتوفيق اللَّه تعالى مداوم على الأوراد ليلا ونهارا، وأعرض أنني مازلت محتاجا لدعواتكم القلبية بصورة دائمة بعد هذه المقدمة أعرض لرشادتكم وإلى أمثالكم أصحاب السماحة والعقول السليمة المسألة المهمة الآتية كأمانة في ذمة التاريخ:
إنني لم أتخل عن الخلافة الإسلامية لسببٍ ما، سوى أنني -بسبب المضايقة من رؤساء جمعية الاتحاد المعروفة باسم (جون تورك) وتهديدهم- اضطررت وأجبرت على ترك الخلافة. إن هؤلاء الاتحاديين قد أصروا وأصروا علي بأن أصادق على تأسيس وطن قومي لليهود في الأرض المقدسة (فلسطين)، ورغم إصرارهم فلم أقبل بصورة قطعية هذا التكليف، وأخيرًا وعدوا بتقديم 150 مائة وخمسين مليون ليرة إنجليزية ذهبًا، فرفضت هذا التكليف بصورة قطعية أيضًا، وأجبتهم بهذا الجواب القطعي الآتي إنكم لو دفعتم ملء الأرض ذهبا -فضلا عن 150 مائة وخمسين مليون ليرة إنجليزية ذهبًا فلن أقبل بتكليفكم هذا بوجه قطعي، لقد خدمت الملة الإسلامية والمحمدية ما يزيد عن ثلاثين سنة فلم أسوِّد صحائف المسلمين آبائي وأجدادي من السلاطين والخلفاء العثمانيين، لهذا لن أقبل تكليفكم بوجه قطعي أيضًا. وبعد جوابي القطعي اتفقوا على خلعي، وأبلغوني أنهم سيبعدونني إلى (سلانيك) فقبلت بهذا التكليف الأخير. هذا وحمدت المولى وأحمده أنني لم أقبل بأن ألطخ الدولة العثمانية والعالم الإسلامي بهذا العار الأبدي الناشئ عن تكليفهم بإقامة دولة يهودية في الأراضي المقدسة فلسطين. . . وقد كان بعد ذلك ما كان، ولذا فإنني أكرر الحمد والثناء على اللَّه المتعال، وأعتقد أن ما عرضته كافٍ في هذا الموضوع الهام، وبه أختم رسالتي هذه. وألثم يديكم المباركتين، وأرجو واسترحم أن تتفضلوا بقبول احترامي بسلامي على جميع الإخوان والأصدقاء يا أستاذي المعظم لقد أطلت عليكم التحية، ولكن دفعني لهذه الإطالة أن نحيط سماحتكم علما، ونحيط جماعتكم بذلك علما أيضًا والسلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته.
في 22 أيلول 1329 هـ
خادم المسلمين: عبد الحميد
رحمك اللَّه أيها الخليفة البطل، وجزاك اللَّه كل خير من شابٍ فلسطيني ضاعت بلاده
بلا ثمن بعد انهيار دولتك وكما توقعت أنت بالضبط يا سليل العثمانيين الأبطال، فجزاكم اللَّه كل خير يا آل عثمان لما قدمتموه للإسلام، وقد كنت أقرأ في مدارسنا أنكم المحتلون الأتراك الذين احتللتم بلادنا، وأنكم سبب تخلف هذه الأمة، فبعد أن كبرت وقرأت كتبًا غير تلك الكتب الدراسية المتعفنة، علمت أن فضلكم كبير كبير، فلقد أنقذتم قبر الرسول من النبش، ونشرتم الإسلام في أوروبا، وفتحتم مدينة هرقل، وأنقذتم المسلمين في الأندلس، وأنقذتم الإسلام من خطر كلاب الصفويين، فجزاكم اللَّه كل خير يا صقور الأناضول الجارحة!
وبعد التخلص من السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله، ظهرت بعد ذلك شخصية من أسوأ الشخصيات التي حاربت الإسلام، هي شخصية أحد يهود الدونمة المدعو (كمال أتاتورك)، فقد كان هذا الرجل كارهًا للإسلام تمامًا، ومواليًا للصهاينة بشكلٍ كاملٍ، فقد ألغى الخلافة العثمانية تمامًا، وأتبع ذلك بعدة قوانين منعت كل مظهر إسلامي في تركيا، كإلغاء الحروف العربية من اللغة التركية، واستخدام اللاتينية عِوضًا عنها، وإلغاء منصب شيخ الإسلام، ومنع الأذان للصلاة باللغة العربية، ومنع الحجاب، وتحويل العطلة من الجمعة إلى السبت والأحد. فظن الجميع أن الإسلام قد انتهى وإلى الأبد في تركيا، حتى حدث بعد ذلك بنصف قرن شيءٌ لا يصَّدقّ! بطريقة لا تُعقل! بتدبيرٍ لا يمكن إلا أن يكون من اللَّه الحكيم!
يتبع. . . . . .
{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}
(العثمانيّون الجدد)
" إنهم يقولون عنّا إننا العثمانيون الجدد، نعم. . . . . نحن العثمانيون الجدد! "
(وزير الخارجية التركي: أحمد داود أوغلو)
واللَّه إن قصة الإسلام لهي أعجب من العجب، ولولا أننا نرى فصولها تتكرر أمام أعيننا، لقلنا أنها حكاية من نسج الخيال! فمن الذي ربّى موسى سوى فرعون نفسه؟ ومن الذي جعل الأوس والخزرج يسلمون سوى يهود يثرب؟ ومن الذي سمّى قطز غير التتار؟ ومن الذي صنع ديدات غير المنصِّرين أنفسهم؟
إن اللَّه سبحانه وتعالى لهو قادر على أن ينتصر لأوليائه بدون استخدام أعدائه وأعدائهم، ولكن اللَّه أراد زيادة إذلال أولئك الطغاة، فجعل دمارهم على أيديهم، ليكونوا عبرة لكل من يخطر على باله محاربة اللَّه والمسلمين، وقصة العثمانيين تعتبر اكبر مثالٍ على هذا النوع الرباني من التأديب والعقاب، فالذي لا يعرفه أغلبنا أن الأتراك لم يكونوا سوى قبائل متفرقة في شعاب آسيا الوسطى، وبالرغم من كونها قبائلًا مسلمة (أسلمت على يد الخليفة يزيد بن معاوية جزاه اللَّه كل خير)، إلا أنها لم تكن تمثل أي مظهر من مظاهر القوة، المضحك في الأمر أن التتار هم الذين صنعوا العثمانيين أيضًا! ولعمري كم خدم المغول الإسلام من دون يشعروا! {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50)} [النمل: 50]. فقد هاجرت قبيلة تركية من بطش متوحشي الجيش التتري، فشدّوا الرحال من "التركستان الغربية" في وسط آسيا، إلى "آسيا الصغرى" وهي بلاد تركيا الحالية، هناك قام زعيم هذه القبيلة التركية واسمه (عثمان أرطغرل) بمساعدة أحد ملوك السلاجقة بدافعٍ من النخوة والشهامة (السلاجقة الأبطال كانوا أيضًا أتراكًا)، فكافأه الملك بان أقطعه إحدى المقاطعات الصغيرة، فظل عثمان الكبير يحارب الروم ويتوسع حتى اتسعت مقاطعته لتصبح شبه دولة، قبل أن يأتي السلطان (يزيد الصاعقة) ليضم أراضٍ واسعة للعثمانيين، إلى أن جاء (الفاتح) و (القانوني)، وبقية القصة تعرفونها
من خلال تطرقنا لها في هذا الكتاب تباعًا.
وقد ذكرنا كيف عمل "يهود الدونمة" بقيادة اليهودي (كمال أتاتورك) على تدمير دولة الخلافة العثمانية، ففي 27 - رجب - 1342 هـ الموافق 3 - 3 - 1923 م قام أتاتورك بإنهاء دولة الخلافة الإسلامية، هذا التاريخ الأسود هو أول يوم في تاريخ الأرض ينقطع فيه خلفاء محمد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقد كان آخر الخلفاء العثمانيين (عبد المجيد الثاني بن عبد العزيز) رحمه الله آخر خلفاء الإسلام وهو الخليفة الثاني بعد المائة للمسلمين منذ الخليفة الأول (أبي بكر الصديق) رضي الله عنه وأرضاه. وهنا بدأ المجرم أتاتورك بإنهاء كل ما هو إسلامي في تركيا، ففصل تركيا فصلًا كاملًا عن كل بلاد العالم الإسلامي، ثم قام بوضع دستور الدولة التركية، وفيه أكّد بوضوح وصراحة على أن دولة تركيا علمانية لا دين لها، وألقى الشريعة الإسلامية، وصاغ القانون من القانون السويسري والإيطالي، وأتبع ذلك بعدة قوانين منعت كل مظهر إسلامي في البلد، كإلغاء الحروف العربية من اللغة التركية واستخدام اللاتينية بدلًا منها، بعد أن منع الأذان للصلاة باللغة العربية (لاحظ أن كل من يحقد على الإسلام يبدأ بالعربية ويحقد بالضرورة على العرب!)، وقام أيضًا بإلغاء منصب شيخ الإسلام، ومنع الحجاب من المؤسسات الحكومية والجامعات والمدارس، وإغلاق عدد كبير من المساجد، وقتل أكثر من 150 عالمًا من علماء الإسلام، وغير ذلك من القوانين والمواقف التي رسّخت العلمانية في تركيا. وبحكم أن مصطفى كمال أتاتورك كان قائدًا من قوّاد الجيش، فإنه أعطى للجيش التركي صلاحيات هائلة، ووضع في بنود الدستور ما يكفل للجيش التدخُّل السافر لحماية علمانية الدولة! وأصبحت العلمانية والبُعد عن الإسلام هدفًا في حد ذاته، بل إن أغلب أعضاء حزب "الاتحاد والترقي" -الذين صاروا قادة الجيش التركي- لهم جذور يهودية معروفة (يهود الدونمة) أو انتماءات ماسونية يعرفها الجميع. فسيطر أتاتورك وآلته العسكرية الجبارة على الإعلام والتعليم، ومن خلالهما غيّروا أفكار الشعب التركي تمامًا (أو هكذا اعتقدوا!) وحوّلوه إلى العلمانية المطلقة، ولعدة عشرات من السنين. وبعد قيام "إسرائيل" في 1948 م، اعترفت تركيا العلمانية مباشرة بها، فكانت هي الدولة الإسلامية الأولى التي تصدر هذا الاعتراف، قبل أن تلحق بها دولة الفرس
المجوسية إيران (كالعادة!) بالاعتراف بإسرائيل، فأعلن بن جوريون قيام "حلف الدائرة"، وهو الحلف المحيط بالدول العربية، وكان هذا الحلف مكوَّنًا من تركيا العلمانية في الشمال، وأثيوبيا الصليبية في الجنوب، وإيران المجوسية في الشرق (ملاحظة: كانت العلاقات بين إيران وإسرائيل في عهد الشاه بشكل علني، قبل أن يختار الخميني تحويلها إلى علاقات خفية لكي يتسنى له المتجارة بالقضية الفلسطينية لنشر دين الروافض بين أوساط الشباب المتحمسين، فقد أسقطت القوات العراقية أيام حكم الشهيد صدام حسين رحمه الله طائرة إيرانية في شمال العراق، ليكتشف العراقيون أنها محملة بأطنان من الأسلحة الإسرائيلية، مهداة من حكام تل أبيب إلى الخميني، زاد من صدقية هذا الخبر ما فضحه الإعلام الأمريكي من فضيحة "إيران كونترا" والتي عرفت بـ " Iran gate" . المهم أن أتاتورك مات عام 1939 م، بعد أن حذف اسم مصطفى من اسمه الكامل، وأوصى أن لا يُصلّى عليه، وأن لا يدفن على الطريقة الإسلامي! فخلف أتاتورك أتباعًا مخلصين قاموا على نهجه، حتى حدث شيءٌ عجيب غير المعادلة الأتاتوركية رأسًا على عقب!
فكما ذكرنا في البداية أن اللَّه يمعن في إذلال أعدائه، فقد جعل اللَّه قيام الإسلام في تركيا على يد رجلٍ من رفاق أتاتورك نفسه! الغريب أن هذا الرجل ليس له علاقة من قريبٍ أو بعيدٍ بالإسلاميين! ففي سنة 1950 م قام رجلٌ من رفاق أتاتورك اسمه (عدنان مندريس) بتأسيس حزبٍ سياسي، أراد به أن يصل إلى الحكم بأي وسيلة ممكنة، فأراد أن يمكر بالمسلمين في القرى التركية النائية باعطائهم بعض الحقوق الدينية مقابل أن يعطوه صوته، الجميل في ذلك أن أول مطلب كان للأتراك المسلمين هو تحويل الأذان من اللغة التركية إلى اللغة العربية! وفعلًا فاز مندريس بالانتخابات التركية العامة، فعمل على إعطاء أهل القرى (وهم أغلبية الشعب) مزيدًا من الحقوق الدينية ليضمن فوزه المتكرر لا غير، فكان له ذلك، فقد استمر في الحكم طيلة 10 سنوات متصلة، وكان بإمكانه أن يستمر 10 سنوات أخرى، لولا أن الجيش التركي أدرك خطورة هذه اللعبة، فقاموا بالانقلاب عليه وإعدامه سنة 1962 م، ومنذ ذلك الحين أسس الجيش (وأغلب قادته من يهود الدونمة) مجلسًا عسكريًا أسموه "مجلس الأمن القومي"، هذا المجلس
هو الجهة السياسية الأقوى في تركيا إلى وقت كتابة هذه الحروف، ليقوم هذا المجلس السياسي العسكري بحل أي حكومة لا تتناسب مع التوجهات العلمانية للدولة التركية.
ولكن كما قال (ضبة بن أدٍ المضري): "سبق السيف العذل! "، فقد تذوق الشعب التركي المسلم طعم الإسلام بعد سنواتٍ من اضطهاد أتاتورك وملئِه، فأي قوة في الأرض يمكنها أن تعيدهم مرة أخرى إلى العلمانية؟ فقد خرج من رحم الشعب التركي المسلم شخصية إسلامية كان لها شرف السبق في إشعال مشكاة الإسلام من جديد في ظلام تركيا العلمانية، هذه الشخصية هي شخصية العالم المخترع (نجم الدين أربكان) جزاه اللَّه كل خير، فمن حكم ترؤسه لقسم الاختراعات في إحدى شركات صناعة الدبابات الألمانية في مدينة "كولون" الألمانية، كان أربكان متمرسًا على مواجهة الدبابات وحل المعضلات الحسابية المعقدة! فأخذ يلاعب العلمانيين بنفس لعبتهم بعد أن فهم قواعد اللعبة السياسية، فأنشأ حزبًا سياسيًا دخل من خلاله الانتخابات ليفوز من أول ظهور له بمقاعد عديدة في البرلمان التركي، قبل أن يقرر الجيش التركي حل الحزب بتهمة -ستكرر كثيرًا بعد ذلك- "عدم موافقة الحزب للمبادئ الأتاتوركية" واتجاهات أربكان "الرجعية"! ولكن هذا البطل الإسلامي العظيم -كديدن عظماء أمة الإسلام- لم يستسلم البتة، فقام بإنشاء حزبٍ ثانٍ، وثالث، وهكذا دواليك حتى استطاع أن يفوز بالبرلمان التركي سنة 1995 م، ليكون أول حكومة "إسلامية" في تركيا منذ انهيار دولة الخلافة الراشدة، ولكن الجيش ممثلًا بـ "مجلس الأمن القومي" قام بإسقاط حكومته سريعًا بعد أن رفض البطل أربكان تنفيذ 18 مطلبًا أهمها إغلاق المدارس الدينية وتدعيم التعليم العلماني. فأغلق الجيش حزب "الرفاه الإسلامي" الذي كان يرأسه، ولكن هذا الصقر التركي وعلى الرغم من كبر سنه، فإنه لم يستسلم، فقد أسس حزبًا آخر لا أعرف بالضبط ترتيبه بين أحزاب أربكان، هذا الحزب هو حزب "الفضيلة"، فانتصر أربكان مرة أخرى في انتخابات 1999 م، ولكن الجيش ضاق ذرعًا بهذا الكهل الذي لا يمل ولا يتعب، فأودعوه في غياهب سجون الأناضول! ولكن في نفس الوقت كانت هناك مجموعة شابة من أفراد الحزب تضيق ذرعًا ليس بالجيش فحسب، بل في النظام السياسي ككل، فخرج من عباءة أربكان ثلاثة شباب سيغيرون مجرى التاريخ بعد ذلك
وهم: رئيس بلدية إسطانبول (رجب طيب أردوغان)، وأستاذ علم الاقتصاد في جامعة "سكاريا" على البحر الأسود الأستاذ الدكتور الأرمني الأصل (عبد اللَّه غول)، وأستاذ العلوم السياسية في جامعة "مرمرة" التركية البروفيسور (أحمد داود أوغلو)، فقام هؤلاء بتأسيس حزب "العدالة والتنمية" الإسلامي، غير أن هؤلاء الشباب طوّروا من أساليب أستاذهم أربكان، فأخذوا يسايرون الجيش وجنرالات الجيش التركي (المحكوم بيهود الدونمة والعلمانيين!)، ليأخذوا حقوقهم المشروعة شيئًا فشيئًا، وليسحبوا البساط بشكل تدريجي من تحت أقدام المؤسسة العسكرية، وخلال كتابة هذا الكتاب استطاع الرئيس التركي عبد اللَّه غول من أن ينتزع قانونًا يمنع تدخل الجيش في أي انقلاب عسكري، وخلال كتابة هذا العمل أيضًا قامت إسرائيل بأغبى عمل يمكن لدولة أن ترتكبه، فقد قامت بالاعتداء على سفينة تركية مدنية متوجهة إلى مدينة "غزة" الفلسطينية، ليسقط عددٌ كبير من شباب الأتراك الأبطال شهداءً في سبيل اللَّه كما نحسبهم، فكان هذا العمل الجبان مقدمة لبزوغ نجم "العثمانيين الجدد" في الساحة، بعد موقف رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان البطولي تجاه قضية فلسطين، وما إن بزغ نجم العثمانيين الجدد وارتفعت شعبيتهم في أرجاء العالم العربي والإسلامي، حتى تحركت أقلام المنافقين العرب من العلمانيين وأتباع الفرس الصفويين (الذين محق آل عثمان دولتهم) لكي يهاجموا هؤلاء الأبطال ويعيدوا استخدام الكذبة القديمة "الاحتلال التركي! "، ولكن كما قلنا من قبل: سبق السيف العذل! فتركيا صاعدة سياسيًا بفضل نظرية أوغلو في "تصفير الصراعات" وصاعدة إقتصاديًا بسبب سياسة عبد اللَّه غول في خلق أكبر مصانع في الشرق الأوسط المتمثلة في "نمور الأناضول"، وصاعدة شعبيًا بسبب بطولة أردوغان، ولا أخفيكم سرًا، فمن حكم قراءتي لصفحات التاريخ المطوية، إني لأرى نصر الأمة باديًا أمامي على أيدي أولئك الأبطال!
وبما أن "الحديث ذو شجون"(كما قالها أيضًا ضبة بن أدٍ المضري) فإن الصحوة التركية لم تكن وليدة الصدفة، فهذه الصحوة ما هي إلا جزءٌ لا يتجزأ من صحوة إسلامية شاملة قادها مجموعة من شباب أمة الإسلام ليكوِّنوا جيلًا كاملًا من العظماء، هذا الجيل صار يعُرَف في التاريخ بـ. . . . . .
يتبع. . . . .
(جيل الصحوة)
" إن من ورائكم أيام الصبر للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم. قالوا: يا نبي اللَّه أو منهم؟! قال: بل منكم! "
(رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم)
تختلف أمة الإسلام عن باقي الأمم أنها أمة خالدة، فهي أمة تضعف في بعض الأحيان، ولكنها لا تموت أبدًا! فأين الفراعنة الشداد؟ وأين ثمود وعاد؟ وأين التتار الذين ملكوا العالم من كوريا إلى بولندا؟ وأين حضارة البابليين؟ أين اختفى شعب الإنكا؟ أين ذهب الفايكنج؟ ماذا بقي من حضارة الرومان غير مسارحهم التي كانوا يعبثون فيها مع العبيد؟ ماذا بقي من الإغريق غير دولةٍ فقيرة متخمة بالديون؟ أين كسرى يزدجرد؟ ماذا ترك خلفه غير مجموعة من الحمقى الذين يحاولون عبثًا استعادة مجد فارس؟ أين اختفى هتلر الذي احتل أوروبا بأسرها؟ أين إمبراطورية بريطانيا التي لا تغيب عنها الشمس؟ ماذا حل بالبرتغال التي احتلت أراضٍ في أربع قارات؟ لماذا لم نعد نسمع عنها غير أخبار منتخبها الكروي؟ أين تبخر الهكسوس؟ أين اختفت الإمبراطورية البيزنطية؟ لماذا انقرضت اللاتينية والهيروغليفية والآرامية؟ أين الإتحاد السوفيتي؟ أين إمبراطورية غانا؟ أين إمبراطورية الصين؟ أين إمبراطورية اليابان؟ أين تلاشى شعب الأبرجين في أستراليا؟ أين تبخرت إمبراطورية الأنغكور الكمبودية التي حكمت شرق آسيا 600 عام؟ لماذا اختفى كل هؤلاء ولم يبقَ إلا المسلمون وقرآنهم وعربيتهم؟!!
الشيء الأغرب من هذا كله أن أمة الإسلام هي الأمة الوحيدة في تاريخ الإنسانية التي تعرضت لغزوات متلاحقة من جميع الأمبراطوريات العظيمة التي مرت على تاريخ الأرض! والشيء الأغرب والأغرب من ذلك أن جميع تلك الإمبراطوريات قد انهارت لتبقى أمة الإسلام!! فلقد حارب المسلمون كلًا من:
(1)
الإمبراطورية الساسانية الفارسية.
(2)
الإمبراطورية الرومانية الشرقية البيزنطية.
(3)
الإمبراطورية الرومانية الغربية المقدسة.
(4)
الإمبراطورية المغولية التترية.
(5)
الأمبراطورية الغانية الأفريقية.
(6)
إمبراطورية الحبشة.
(7)
إمبراطورية جويتا الهندية.
(8)
الإمبراطورية النمساوية المجري.
(9)
الإمبراطورية الصربية.
(10)
الإمبراطورية الروسية القيصرية.
(11)
الإمبراطورية الإنجليزية.
(12)
الإمبراطورية الفرنسية.
(13)
الإمبراطورية الإسبانية القشتالية.
(14)
الإمبراطورية البرتغالية.
(15)
الإمبراطورية الهولندية الأورانجية.
(16)
تحالف ممالك الصليبيين.
(17)
الفايكنج.
(18)
الدولة العبيدية "الفاطمية" الشيعية.
(19)
دولة القرامطة الشيعة.
(19)
الدولة الصفوية الشيعية الأولى.
(20)
الدولة الصفوية الشيعية الثانية "الخمينية".
(21)
الدولة البويهية الشيعية.
(23)
مملكة القوط الغربيين.
(22)
إمبراطورية إيطاليا الفاشية.
(23)
الإتحاد السوفييتي. . . . وغيرها الكثير الكثير من الدول والممالك التي اصطدمت بالمسلمين عبر جميع مراحل التاريخ الإسلامي. والشيء اللافت للنظر أن جميع هذه الدول قد فشلت في تدمير الأمة الإسلامية، بالرغم من استخدامها لأبشع وسائل القتل والتدمير، إلا أن اللافت للنظر أن الأمة الإسلامية لم تسلم من هجمات أولئك الغزاة فحسب، بل خرجت كل مرة من محنتها أقوى من قبل، فبعد كل مرة يقوم فيها الغزاة بمجازر وجرائم يظنون من خلالها أنهم استطاعوا القضاء على الإسلام كليةً، تنهض الأمة الإسلامة الغبار عن نفسها لتلملم أوصالها من جديد وترمم جروحها، وكأنها "قنديل البحر الهيدرواني"، المخلوق الوحيد الذي يستطيع الرجوع إلى المراحل الحياتية الأولى من نموه وتجديد جميع أعضائه المصابة ليعيد تكوين جسمه كاملًا مرارًا وتكرارًا. لذلك طوَّر الغزاة في القرن الماضي وسيلة جديدة لتدمير الأمة الإسلامية، هي من الخبث بمكان، بحيث يتم تدمير الأمة الإسلامية من الداخل بدون الحاجة لاستخدام الوسائل العسكرية التي لا تجدي أصلًا مع المسلمين، فنجحوا في هذه الخطة القذرة من تدمير الخلافة الإسلامية، واعتقد الجميع أن الإسلام قد انتهى، ولأول مرة في التاريخ الإسلامي، لم يعد هناك خليفة لرسول اللَّه!
فقد استطاع الغزاة لأول مرة في التاريخ الإسلامي منذ خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه من القضاء على الخلافة الاسلامية بواسطة عملاء مندسّين في الأمة، واستطاعوا بعدها القضاء على حكم الشريعة الإسلامية وإبدالها بدساتير مستوردة من فرنسا وبلجيكا وبريطانيا بواسطة عملائهم الذين زرعوهم خلفهم عقب مرحلة الاستخراب
(الاستعمار)، وفعلًا انصرف المسلمون حكامًا وشعوبًا عن المنهج الإسلامي، فصارت الجوامع شبه خالية إلا من كبار السن، وخلعت المرأة المسلمة لأول مرة في التاريخ الحجاب، حتى صارت المرأة المحجبة في فترة الستينات من القرن الماضي وكأنها غريبة دار! وتحول الشباب المسلم إلى الشيوعية تارة، وإلى الإشتراكية تارة أخرى، ودخلت الأمة الإسلامية في نفقٍ مظلمٍ من الهزائم العسكرية والتخلف العلمي، حتى حدث شيءٌ عجيببٌ. . . .!
ففي نهاية الستينات، نبتت عضلة إسلامية صغيرة في الأمة الإسلامية، والعجيب في الأمر أن هذه العضلة نبتت في مختلف الأقطار الإسلامية بشكل متزامن يدعو إلى العجب! ففي مصر وعقب نكسة 1967 م تحول الشعب المصري شيئا فشيئا إلى الإتجاه الإسلامي، وفي تركيا رجع الأذان بالعربية لأول مرة منذ سقوط الخلافة، وبدأ الشباب التركي يستمع سرًا لإذاعات القرآن الكريم ويقرأ كتابات الشيخ الكردي البطل (بديع الزمان النورسي) رحمه الله، وفي الخليج رجع شباب الصحوة ليملأوا المساجد، وفي أندونيسيا بدأت الحركة الإسلامية في النشاط، وفي باكستان أصبحت الشريعة من جديد أساسًا للقضاء، وفي الجزائر التي اعتقدت فرنسا أنها قضت على الإسلام فيها، بدأ الحراك الإسلامي ينشط من جديد على أرضها الممزوجة بدماء الشهداء، وفي الشام رجع الناس إلى التمسك بشريعة اللَّه، وفي أفريقيا نشطت حركة الدعوة إثر بعثات الأزهر ثم بعثات الدعاة الخليجيين جزاهم اللَّه كل خير، وفي أوروبا وأمريكا انتشر الإسلام بشكلٍ لافت على يد المهاجرين العرب والأتراك والهنود. والآن وبعد مرور كثير من ثلاثين عامًا على تلك الصحوة الإسلامية، أصبحت المساجد عامرة بالمصلين الذين يمثل الشباب منهم القسم الأعظم، ورجعت المرأة المسلمة للحجاب الذي أمرها اللَّه به رجوعًا جميلًا، فصارت أغلب النساء المسلمات محجبات، ونشطت الفضائيات الدينية، وظهر شبابٌ مثل الورود لا هم لهم إلا نشر المواد العلمية على شبكة "الإنترنت" وأصبحت مساجد أوروبا عامرة بالمصلين الأوروبيين من أهل البلاد الأصليين. وبعد سنوات من انتشار فكر الإسلام البدعي من جهة وفكر الإسلام التكفيري من جهة أخرى، بدأ الناس يرجعون إلى الإسلام الحقيقي القائم على الكتاب
والسنة بفهم سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ورغم كل التشويه الذي يتعرض له الإسلام، أصبح الإسلام أسرع الأديان انتشارًا على وجه الأرض! في ظاهرةٍ عجيبة حيَّرت علماء الجغرافيا البشرية، وفي دراسات حديثة قامت بها الأمم المتحدة يعتقد العلماء أنه إذا استمرت الدعوة الإسلامية بهذا النجاح المنقطع النظير، فسوف يصبح نصف عدد البشر من المسلمين عما قريب!
والآن وبعد أن انتهينا من الإبحار في قصص تسعة وتسعين عظيمٍ إسلامي في هذا الكتاب، حان الوقت لكي نكشف الستار عن العظيم المائة!
يتبع. . . . . .
العظيم المائة (؟)
إذا القومُ قالوا مَنْ فتى؟ خِلْتُ أنّني
…
عُنيتُ فلمْ أكسلْ ولمْ أتبلّد
(طرفة بن العبد)
العظيم المائة هو الشخص الذي تنتظره هذه الأمة منذ سنوات، وهو نفسه العظيم الذي سوف يعيد مجد الإسلام من جديد! هذا الشخض قد يكون امرأة كالسيدة هاجر، أو رجلًا كأبي عبيدة عامر بن الجراح، شابًا كطلحة الخير ومحمد الفاتح، أو كهلًا كموسى بن نصير وابن تاشفين، بل ربما يكون هذا العظيم المنتظر طفلًا بطلًا كابن العوّام، أو غلامًا يافعًا كغلام اليرموك المجهول، ربما كان بطلنا الذي ننتظره أبيضًا كمعاوية وهارون، أسمرًا كنور الدين زنكي، أشقرًا كطارق بن زياد، ربما كان هنديًا كديدات، أوروبيًا كأنسليم تورميدا، أمريكيًا كمالكوم إكس، آسيويًا كالقائد الفليبيني البطل لابو لابو، ربما كان هذا العملاق الإسلامي ينتمي لقومية عظيمة كقومية الأمازيغ البربر كأبي بكر بن عمر اللنتوني، أو لعله ينتمي لقومية محمد بن عبد اللَّه صلى الله عليه وسلم كأسود القادسية العرب، ربما يكون هذا العظيم ملكًا كالنجاشي، أميرًا كعبد الرحمن إبراهيم بن سوري، رئيسًا كإبراهام لنكولن، غنيًا كعبد الرحمن بن عوف، أو حتى مسكينًا معدمًا كأبي هريرة، ربما يكون هذا العظيم الذي تنتظره أمة محمد صلى الله عليه وسلم شاعرًا رقيقًا كزهير بن أبي سُلمى، أو فارسًا عملاقًا كمحمد ابن مسلمة ربما يكون عالمًا كقرة بن ثابت، أو مخترعًا كابن فرناس، بحارًا كأمير البحرية العثمانية بيري رئيس، أو مغامرًا كابن فضلان، أو تاجرًا غنيًا ينفق بسخاءٍ على الإسلام كعثمان بن عفّان، ربما يكون تركيًا كقطز، فارسيًا كسلمان، كرديًا كصلاح الدين، ربما بدأ هذا العظيم متأخرًا كما بدأ ابن تيمية، أو بدأ في مراحل عمره المتقدمة كالبخاري، ربما كان هذا العظيم متمثلًا في فريقٍ ثنائيٍ كالأخوان بربروسا، أو فريقٍ ثلاثي كالفرسان الثلاثة، أو فريقٍ رباعي كالعبادلة الأربعة، ربما سيكون الزمن الذي سيظهر به هذا العظيم زمن عزة
كزمن بني أمية الشرفاء، أو ربما سيظهر في زمن ذلة كزمن ملوك الطوائف الذي ظهر به الأمير البطل المتوكل بن الأفطس، ربما نشأ هذا العظيم الذي ننتظر في بيئة بدوية كتلك التي نشا فيها الإمام ابن عبد الوهاب والقائد عمر المختار، أو لعله نشأ في بيئة الحضر كتلئا التي نشا فيها عبد الرحمن الناصر والقائد الأموي يزيد بن معاوية، ربما كان هذا العظيم إعلاميًا ككعب بن زهير، أو داعية كعبد اللَّه بن ياسين الجزولي، ربما كان قائدًا عسكريًا كخالد بن الوليد أو جنديًا بطلًا كزيد بن الخطاب، ربما تربى هذا العظيم في بيئة كافرة كتلك التي تربى فيها عملاق التوحيد في الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل، أو في بيئة صالحة كتلك التي تربى فيها عبد اللَّه بن عباس، ربما كان هذا العظيم الذي تنتظره الأمة نصرانيًا سيقذف اللَّه في قلبه الإسلام كما قذفه في قلب صغاطر كبير أساقفة الروم، أو لعله كان رجلًا علمانيًا أدرك كنه الإسلام وعظمته كالعالم الفرنسي موريس بوكاي، أو لعله يكون مسلمًا يتوب إلى اللَّه بتوبةٍ كتلك التي تابها المخلفون الثلاثة، ربما تمثل هذا العظيم في شخص امرأة عظيمة غيرت مجرى التاريخ كأم موسى، ربما كان زوجها صالحًا كخديجة بنت خويلد، أو كان زوجها شيطانًا كأسية زوجة فرعون، أو لعلها كانت عزباء كمريم ابنة عمران، ربما كانت هذه المرأة العظيمة التي سوف يخلدها التاريخ أمًا فدائية كماشطة بنت فرعون أو فتاة شجاعة كفاطمة بنت محمد أو عالمة ربّانية كعائشة، ربما يكون بطلنا القادم أبًا يصنع من ابنه قائدًا فاتحًا كما صنع السلطان مراد الثاني ابنه الفاتح، أو ربما يكون أستاذًا يزلزل الأرض بصوته ليزرع روح العزة والكرامة في نفوس تلاميذه كما كان يفعل نسر تونس العملاق عبد العزيز الثعالبي، ربما كان هذا البطل الذي ننتظره هو نفسه القائد الذي سيتقذ الإسلام من شر الصفويين الجدد كما فعل سليم الأول مع الصفويين القدامى، أو يكون هو الرجل الذي سيخلص المسلمين من شر الصليبيين الجدد كما فعل سليمان القانوني مع الصليبيين القدامى، ربما كان بطلنا من بلاد الشام المباركة كسليمان الحلبي وعز الدين القسّام، أو لعله كان عملاقًا مصريًا كالجرجاوي، ربما خرج هذا العظيم المنتظر من أرض الأبطال في الجزائر كابن باديس والأمير عبد القادر الجزائري، أو خرج من مصنع الرجال المغربي الذي أنتج للأمة عمالقة عظام كالخطابي والماريني، ربما كان عظيمنا من أبناء اليمن السعيد كالشوكاني،
أو كان من أبناء الخليج العربي العظماء الذين قادوا جيل الصحوة بامتياز، ربما خرج بطلنا من رحم دولة العثمانيين الجدد، أو لعله كان من أبناء دولة باكستان النووية التي أسسها القائد العظيم محمد علي جناح، ربما كان هذا العظيم الذي ننتظره هو ذلك الطفل الذي يلعب أمامك بدميته والذي سيحمل الراية التي حملها الخليفة العثماني البطل عبد الحميد الثاني ليصبح هذا الطفل يومًا ما الخليفة الثالث بعد المائة لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ربما يكون هذا العظيم المنتظر قائدًا عملاقًا يعمل على توحيد الأمة كما وحدَّها من قبل الحسن بن علي رضي الله عنهما، أو لعله يكون مثل أبيه البطل علي بن أبي طالب الذي حارب الخوارج التكفيريين، ربما كان بطلنا قائدًا عملاقًا يُدمر أكبر إمبراطوريات الأرض كما فعل عمر بن الخطاب، أو فارسًا مقدامًا يدكدك جحافل الظلم كما فعل سعد بن أبي وقاص، هذا البطل الذي ينتظره الجميع سيكون حتمًا كالأنصار الأبطال الذين نصروا الإسلام. . . . .
فلئن عرف التاريخُ أوسًا وخزرجًا
…
فلله أوسٌ قادمون وخزرج
وإن كنوز الغيب تخفي طلائعًا
…
صابرة رغم المكائدِ تخرج
هذا العظيم المنتظر قد يكون هو أنت!. . . . نعم أنت!!!. . . ما المانع في ذلك؟
أو لعله يكون ذلك الطفل الذي تجلب له الحلوى! قد يكون هو ابنك، أو ابنتك، أو زوجتك، أحدًا تعرفه، أو أحدًا لا تعرفه! ليس تحديد هوية هذا العظيم هو المهم. . . . بل المهم هو أن يحمل كل واحدٍ منا على عاتقه إعادة إحياء مجد هذه الأمة العظيمة. . . . أمة الإسلام!
فهناك حقيقة لا أعرف إن كنت تدركها أم لا؟!. . . . ألا وهي:
أن الإسلام سينتصر بك أو بغيرك!!!
فاللَّه لا يحتاجك لينصر بك دينه، بل أنت الذي تحتاجه في أبسط أمور حياتك! فأدرك نفسك. . . . قبل أن يدركك الوقت! والحق بركب العظماء!! فمن حكم قراءةٍ للتاريخ -أحسبها مستفيضة- أرى أن عودة الإسلام أصبحت مسألة وقتٍ لا أكثر!!! بل ربما يعجب البعض حينما يعلم أن كل المؤشرات التاريخية التي استنبطناها من دروس
التاريخ (المتكررة!) تشير بما لا يدعو للشك أن عودة الإسلام للتربع على قمة الهرم الحضاري لن تستغرق أكثر من سنواتٍ قليلة. . . . أقصد هنا سنوات معدودة ولا أقصد عشرات السنوات!!! وربما يعجب البعض أكثر حينما يعلم أننا -أي المسلمين- قد دخلنا بالفعل منذ عدة سنوات في طور القيام! فلقد ولّت سنوات الانحدار الحضاري التي عاشت فيها الأمة في القرن الرابع عشر الهجري، وأصبح المسلمون الآن -وللَّه الحمد- في بؤرة اهتمام الصحافة العالمية، وبغض النظر عن صورة المسلمين في وسائل الإعلام العالمية إن كانت بالسلب أو الإيجاب، فلقد أصبحت أنت كمسلم رقمًا صعبًا في المعادلة الدولية، فأنت تمثل واحدًا من بين أربعة أشخاصٍ موجودين على سطح الكرة الأرضية، ودينك يمثل أسرع الأديان انتشارًا في العالم وفي أمريكا والقارة الأوروبية بالتحديد، وإخوانك المسلمون يرجعون يومًا بعد يوم إلى الإسلام الصحيح البعيد عن البدع والتكفير، وإذا استمر الحال على ما هو عليه لبضع سنواتٍ فقط، حينها أبشر بالخير!