الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجزء الثاني من كتاب التعازي
تأليف أبي الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدائني.
مما رواه أبو طالب عبد الله بن محمد العكبري.
عن أبي محمد الحسن بن علي بن المتوكل، عنه.
رواية أبي سهل محمود بن عمر بن جعفر بن إسحاق بن محمود العكبري.
رواية الشيخ أبي القاسم علي بن أحمد بن محمد بن البسري البندار، عنه.
سماع يلتكين بن السديد طايوق، غفر الله له ولوالديه
بسم الله الرحمن الرحيم
84-
أخبرنا الشيخ القاسم علي بن أحمد بن محمد البسري البندار، قال: أخبرنا أبو سهل محمود بن عمر بن محمود العكبري، قراءةً عليه، قال: أخبرنا أبو طالب عبد الله بن محمد العكبري، قال: أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي بن المتوكل ببغداد، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد المدائني، قال:
قيل للشمردل: أي بيتٍ قلته أشفى لقلبك؟ قال: قلت:
وكنت أعير الدمع قبلك من مضى
…
فأنت على من مات بعدك شاغله
85-
قال: وعزى بعض المشيخة أخاً له، فقال: في ثواب الله عز وجل عوضٌ مما أصبتم به، وفيما استقر عندكم من نفاذ الدنيا، عزاءٌ عما به فجعتم؛ فعظم الله ثوابكم، وأحسن عزاءكم.
86-
أخبرنا عبد الله، قال: أنا الحسن بن علي، قال: أنا أبو الحسن،
⦗ص: 70⦘
قال: عن أبي علي عمر بن غياث، قال: حدثني محمد بن حرب، قال:
عزى محمد بن الوليد بن عتبة عمر بن عبد العزيز على ابنه، فقال: يا أمير المؤمنين، أعد لما ترى عدةً، تكون لك جنةٌ من الحزن، وستراً من النار. قال عمر: هل رأيت حزناً نحتجن له، أو غفلةً أنبه عليها؟ قال: يا أمير المؤمنين، لو أن رجلاً ترك تعزية رجلٍ لعلمه، وانتباهه، لكنت، لكن الله قضى {إن الذكرى تنفع المؤمنين} .
قال عمر بن غياث في حديثه: ليشغلك ما أقبل من الموت إليك، عمن هو في شغلٍ عما دخل عليك، وأعدد لما ترى عدةً.
87-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن بن علي بن المتوكل، قال: أخبرنا أبو الحسن، عن أبي القاسم بن قيس العامري، قال:
لما دفن علي بن أبي طالب رضي الله عنه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، تمثل عند قبرها عليها السلام:
وإن افتقادي واحداً بعد واحدٍ
…
دليلٌ على أن لا يدوم خليل
88-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن بن علي، قال: أخبرنا أبو الحسن المدائني، عن عامر بن الأسود، وغيره:
أن الحجاج رأى كأن عينيه ذهبتا، فلما طلق هند بنت أسماء، وهند بنت المهلب، ظن أنها تأويل رؤياه.
فلما مات ابنه محمدٌ، وأتاه موت أخيه محمد، قال:{هذا تأويل رؤياي من قبل} .
89-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسن، عن أبي محمد بن عمرو الثقفي، قال:
لما مات محمد بن الحجاج، جزع عليه الحجاج، فقال: إذا غسلتموه فآذنوني؛ فأعلموه، فأقبل، فدخل البيت، فنظر إليه، فقال متمثلاً:
الآن لما كنت أكمل من مشى
…
وافتر نابك عن شباة القارح
وتكاملت فيك المروءة كلها
…
وأعنت ذلك بالفعال الصالح
فقيل له: اتق الله، واسترجع. فقال:{إنا لله وإنا إليه راجعون} وقرأ {الذين إذا أصابتهم مصيبةٌ قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون} .
وأتاه موت محمد بن يوسف، وكان بينهما جمعةٌ، فقال:
⦗ص: 72⦘
حسبي حياة الله من كل ميتٍ
…
وحسبي بقاء الله من كل هالك
إذا ما لقيت الله ربي مسلماً
…
فإن سرور النفس فيما هنالك
[وجلس للمعزين يعزونه، ووضع بين يديه مرآةً، وولى الناس ظهره، وقعد في مجلسه؛ فكان ينظر ما يصنعون؛ فدخل الفرزدق، فلما نظر إلى فعل الحجاج تبسم، فلما رأى الحجاج ذلك منه، قال: أتضحك وقد هلك المحمدان؟] .
فقال الفرزدق:
لئن جزع الحجاج ما من مصيبةٍ
…
تكون لمحزونٍ أجل وأوجعا
من المصطفى والمصطفى من خيارهم
…
جناحيه لما فارقاه فودعا
أخٌ كان أجزى أيمن الأرض كلها
…
وأجزى ابنه أمر العراقين أجمعا
جناحا عقابٍ فارقاه كلاهما
…
ولو قطعا من غيره لتضعضعا
90-
قال: وكتب إليه الوليد يعزيه عن محمد بن يوسف، ويحثه على الصبر؛ فكتب إليه الحجاج: كتب إلي أمير المؤمنين يعزيني عن محمد بن يوسف، ويذكر رضاه عنه، ويأمرني بالصبر عليه؛ ورضى أمير المؤمنين شهيدٌ لمن رضي الله عنه، بمغفرة الله ورضائه عنه؛ ويأمر بالصبر عليه، وكيف لا أصبر وقد أبقى الله لي أمير المؤمنين؟
91-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن بن علي، قال: أخبرنا أبو الحسن، عن يونس بن حبيب، قال:
كان الحجاج إذا سمع نواحاً في دار هدمها؛ فلما مات ابنه وأخوه، كان يعجبه أن يسمع النوح، وكان يتمثل بشعر الفرزدق، قاله لامرأةٍ جزعت على ابنها:
هل ابنك إلا ابنٌ من الناس فاصبري
…
فلن يرجع الموتى حنين المآتم
وتمثل بشعر يزيد بن الحكم الثقفي:
إن تحتسب تؤجر وإن تبكيه تكن
…
كباكية، لم يحي ميتاً بكاؤها
ومن شر حظي مسلمٍ من مصيبةٍ
…
بكاءٌ وأحزانٌ قليلٌ جداؤها
92-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن بن علي، قال: أخبرنا أبو الحسن، عن عوانة، قال:
أرسل الحجاج إلى ثابت بن قيس الأنصاري، فقال: أنشدني
⦗ص: 74⦘
مرثيتك ابنك، فأنشده، وقال:
يا كذب الله من نعى حسناً
…
ليس لتكذيب قوله ثمن
أجول في الدار لا أراه وفي الددار
…
أناسٌ جوارهم غبن
كنت خليلي وكنت خالصتي
…
لكل حي من أهله سكن
بدلتهم منك ليت أنهم
…
أمسوا وبيني وبينهم عدن
فقال له الحجاج: ارث ابن محمداً، فرثاه، فقال الحجاج: مرثيتك ابنك أجود. قال: إن قلبي وجد على ابني ما لم يجد على ابنك؛ قال: كيف حبك له؟ قال: لم أمل من النظر إليه، ولم يغب عني إلا اشتقت إليه. قال: كذلك كنت أجد بابني محمد.
وقومٌ ينشدون هذا الشعر لسليمان بن قتة، رثى به الحسن بن علي بن أبي طالبٍ رضوان الله عليه.
93-
وقال الحجاج يوماً: من يقول بيتين يسلي عني؟ فقال رجلٌ من أهل عمان: أنا. قال: قل، فقال:
كل خليلٍ مفارقٌ خليله، بأن يموت، بأن يذهب إلى مكانٍ.
فتبسم الحجاج، وقال: أغرب.
⦗ص: 75⦘
وقال الأقيشر يرثي محمد بن الحجاج:
وهيج صوت النائحات عشيةً
…
بوادر أمثال البغال النوافر
يمخطن أطراف الأنوف حواسراً
…
يضاهين بالشواة هدل المشافر
بكى الشجو ما دون اللها من حلوقها
…
ولم تبك شجواً ما وراء الحناجر
وقال الفرزدق:
إني لباكٍ على ابني يوسف عمري
…
ومثل هلكهما للدين يبكيني
ما سد حي ولا ميتٌ مسدهما
…
إلا الخلائف من بعد النبيين
وقال الفرزدق أيضاً:
إن الرزية لا رزية مثلها
…
فقدان مثل محمدٍومحمد
ملكين قد خلت المنابر منهما
…
أخذ المنون عليهما بالمرصد
94-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن بن علي، قال أبو الحسن:
تعزيةٌ لبعضهم:
عظم الله أجركم، وألهمكم الصبر، فإن الصبر محمود العاقبة، وليس في الجزع عصمةٌ من النائبة.
تعزيةٌ
95-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن بن علي، قال أبو الحسن:
استعن على مصيبتك بالصبر على ما فات، ولا تبخس نصيبك من ثواب الله، بالجزع الذي لا يجدي عليك، ولا يغني عنك.
96-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن بن علي، قال: أخبرنا أبو الحسن، قال: أبو محمد بن المبارك، قال:
دفن عبد الله بن عمر ابناً له، وضحك عند قبره. فقيل له: أتضحك عند القبر؟! قال: أردت أن أرغم الشيطان.
97-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن بن علي، قال: أخبرنا أبو الحسن، قال: محمد بن عامر:
قال رجلٌ نصراني لرجلٍ مسلمٍ: إن مثلي لا يعزي مثلك، ولكن انظر ما زهد فيه الجاهل فارغب فيه.
98-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن بن علي، قال: أخبرنا أبو الحسن، عن محمد بن معاوية، قال:
عزى رجلٌ رجلاً، فقال: إن الماضي قبلك الباقي لك، وإن الباقي بعدك المأجور فيك، وأجر الصابرين فيما يصابون به، من أعظم النعمة عليهم فيما يعافون منه.
99-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن بن علي، قال أبو الحسن، عن إبراهيم بن سعد، قال:
سمع علي بن الحسين رضوان الله عليه واعيةً في بيته، فنهض إلى بيته، فسكنهم، ثم رجع إلى مجلسه، فقيل له: أمن حدثٍ كانت الواعية؟ قال: نعم؛ فعزوه، وتعجبوا من صبره. قال: إنا أهل بيتٍ، نطيع الله فيما يحب، ونحمده فيما نكره.
100-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن بن علي، قال أبو الحسن قال:
لما استشهد مجزأة بن ثور، لم يجزع شقيقٌ، ولم ير ذلك فيه؛ وقال [له صاحب البريد: هل نعاه إليك أحدٌ قبلي؟ قال: نعم،] أخبرنا الله أنا كنا نموت.
101-
وقال شعيب بن الحبحاب: الحزن ينقص، كما ينقص صبغ
⦗ص: 78⦘
الثوب، ولو بقي الحزن على أحدٍ قتله.
102-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسن، قال: قال رجلٌ من باهلة، عن عبد الوهاب، عن ابن جريج، قال:
من لم يتعز عن مصيبته بالصبر والاحتساب، سلا كما تسلو البهائم.
103-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسن المدائني، قال:
عزى رجل سليمان عن ابنه أيوب، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن رأيت أن تجعل آخر أمرك كأوله، فافعل، فكأن ذلك هون عليه.
104-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن بن علي، قال: أخبرنا أبو الحسن المدائني، قال:
ورأى ابن جبيرٍ رجلاً يطوف بالبيت، متقنعاً، فقال سعيدٌ: ما لك؟ قال نعي إلي أبي. قال: الاستكانة من الجزع.
105-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن بن علي، قال أبو الحسن:
قال القاسم بن محمد: الجزع: الكلام السيء.
106-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن بن علي، قال أبو الحسن:
وكتب غيلان إلى صديقٍ له يعزيه عن ابنٍ له: اعلم أن كل مصيبةٍ لم يذهب فرح ثوابها حزنها، إن ذلك الحزن الدائم.
107-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن بن علي، قال أبو الحسن:
ومات أخٌ لمطرف بن عبد الله بن الشخير -أو امرأته- فلبس حلة، وتبخر، وقال: كرهت أن أستكين [للمصيبة] .
108-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن بن علي، قال أبو
⦗ص: 80⦘
الحسن، عن شيخٍ من أهل البصرة، عن أبي بردة، عن أبان بن تغلب، قال:
رأيت أعرابية غمضت ميتاً، وترحمت عليه، وقالت: يا أبان، ما أحق من ألبس العافية، وأطيلت له النظرة، ألا يعجز عن النظر لنفسه، قبل الحلول بساحته، والحيالة بينه وبين نفسه.
109-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسن، قال:
ومات ابنٌ لامرأةٍ فحسن عزاؤها، وصبرت، فقال لها رجلٌ: كنا نرى الجزع في النساء، ولقد صبرت وكرمت؛ قالت: يا عبد الله، ما ميز أحدٌ بين صبرٍ وجزعٍ، إلا وجد بينهما منهاجاً غير متقارب؛ أما الصبر: فحسن العلانية، محمود العاقبة؛ وأما الجزع: فصاحبه غير معوض عوضاً؛ ولو كانا رجلين في صورةٍ، لكان الصبر أولاهما
⦗ص: 81⦘
بالغلبة، على الحسن في الخلقة، والكرم في الطبيعة.
110-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسن:
تعزيةٌ:
إن لك في العزاء عن رزيتك عاجل الروح، وآجل الثواب، وفي الجزع بخس الثواب، وتخوف العقاب.
111-
تعزية:
التمس ما وعد الله من ثوابه، بالتسليم لقضائه، والانتهاء إلى أمره؛ فإن ما فات غير مستدركٍ، وعوض الله لك بالصبر عن مصيبتك، خيرٌ لك من الجزع على رزيتك.
112-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسن، قال:
قالت أعرابيةٌ وقفت على ابنها، فترحمت عليه، وقالت: وأبيك، ما كان مالك لبطنك، وما أمرك إلا عرسك.
113 قال:
وقال علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه للأشعث، وعزاه عن ابن له، فقال: يا أشعث، إن تجزع على ابنك، فقد استحقت ذلك منك الرحم؛ وإن تصبر ففي الله خلفٌ؛ يا أشعث، إنك إن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجورٌ؛ وإن جزعت، جرى عليك القدر، وأنت مأزورٌ.
114-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسن:
قال موسى بن المهدي لإبراهيم بن سلم، وعزاه عن ابنه، فقال: أسرك وهو بليةٌ وفتنةٌ، وأحزنك وهو صلواتٌ ورحمةٌ؟
115-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن بن علي، قال: أخبرنا أبو الحسن، قال:
قيل لهرم بن حيان: أوص. قال: قد صدقتني في الحياة
⦗ص: 83⦘
نفسي؛ مالي مالٌ أوصيكم به، ولكن أوصيكم بخواتيم سورة النحل.
116-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أبو الحسن:
قال الحسن لرجلٍ عزاه عن ابنه: إنما استوجب على الله وعده، من صبر لحقه، فلا تجمع ما أصبت به إلى الفجيعة بالأجر، فإنها أعظم المصيبتين عليك، وأنكأ المرزئتين لك.
117-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن بن علي، قال: أخبرنا أبو الحسن، [عن شعبة بن عبد الله الأنصاري،] قال:
عزى إياس بن معاوية رجلاً عن ابنه، فقال: لا ينقص الله عددك، ولا يزل نعمه عنك، وعجل الله عز وجل لك من الخلف خيراً مما رزئت.
118-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن بن علي، قال: أخبرنا أبو الحسن، قال:
وقال الآخر: إن فيما عوضك من الأجر إن صبرت، خيراً مما فجعت به من المرزئة.
119-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسن:
رأى أعرابي رجلاً [فأقبل] يعزيه عن أبيه، فقال: إن كان أبوك الشديد الكاهل؛ ثم جلس، فلم يقل غير هذا.
120-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسن، قال:
قيل لأعرابية: ما أحسن عزاءك عن ابنك؟ فقالت: إن فقدانيه آمنني من المصائب بعده.
121-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسن:
مر رجلٌ على امرأةٍ، وهي تحرب على رأس أخيها، وهو يجود بنفسه؛ ثم رجع الرجل، وقد قضى، والمرأة تأكل، فقال لها: رأيتك قبل تبكين، وأنت الآن تأكلين غير مكترثةٍ؟ فقالت:
على كل حالٍ يأكل الناس زادهم
…
على الضر والسراء والحدثان
122-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال:[أخبرنا أبو الحسن، قال] :
وعزى رجلٌ رجلاً [عن ابنه]، فقال: ذهب أبوك وهو أصلك، وذهب ابنك، وهو فرعك؛ فما حال الباقي بعد أصله وفرعه!؟.
123-
وعزى رجلٌ رجلاً، فقال: عليك بتقوى الله والصبر، فبه يأخذ المحتسب، وإليه يرجع الجازع.
124-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن بن علي، قال: أخبرنا أبو الحسن، قال:
⦗ص: 85⦘
قال ابن السماك: المصيبة واحدةٌ، فإن جزع صاحبها فهما ثنتان؛ وما من مصيبةٍ إلا ومعها أعظم منها، إن صبر فالثواب، وإن جزع فسوء الخلف، بكونِ ما فاته من ثواب الله أعظم من المصيبة.
125-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن بن علي، قال: أخبرنا أبو الحسن، قال:
قالت أعرابية لزوجها، ومات ابنها: ارث ابني؛ فأنشأ يقول:
لتبك الباكيات أبا حبيبٍ
…
لريب الدهر أو نوبٍ تنوب
وقعب وحيةٍ بلت بماءٍ
…
يكون إدامها لبنٌ حليب
وتيسٍ قد خصيت فلم تضره
…
بمنجفه على حجرٍ صليب
126-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسن.
وعزى رجلٌ رجلاً، فقال: إن من كان لك في الآخرة أجراً، خيرٌ لك ممن كان لك في الدنيا سروراً.
127-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسن، قال:
وقال الوليد بن عبد الملك، وخطب الناس:
⦗ص: 86⦘
رزئت أعظم الرزية، وأعطيت أعظم العطية، فالحمد لله على العطية، وإنا لله وإنا إليه راجعون على المصيبة.
128-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسن، عن محمد بن كناسة، عن خشاف، قال:
حدثتني أمي، قالت: دخلت علينا عجوزٌ للحي، وإخوتي ثمانيةٌ، فقالت: لقد ولدت لك أمك حزناً طويلاً.
وقد صدقت العجوز؛ ذهبت نفسي قطعاً عليهم، حين أصبت بهم.
129-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن بن علي، قال: أخبرنا أبو الحسن، قال:
رأى هانئ بن قبيصة ابنة النعمان تبكي، فقال: ما هالك؟ قالت: رأيت في أهلكم غضراً؛ [ثم] قالت: يا هانئ، لم تمتلئ دارٌ فرحاً، إلا امتلأت حزناً.
130-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسن، عن سعيد أبي عثمان: أن رجلاً قال:
خرجت إلى اليمن، فنزلت منزل امرأةٍ، فرأيت لها مالاً كثيراً، ورقيقاً وولداً، وحالاً حسنةً، فأقمت، حتى قضيت حوائجي، فلما أردت الرجوع، قلت لها: ألك حاجةٌ؟ قالت: نعم، كلما قدمت هذه البلاد، فانزل علي.
⦗ص: 87⦘
فغبرت أعواماً، ثم أتيت اليمن، فأتيت منزل المرأة، فإذا حالها قد تغيرت، وذهب رقيقها، ومات ولدها، وباعت منزلها، وإذا هي تضحك! فقلت لها: أتضحكين مع ما قد نزل بك؟ قالت: يا عبد الله، كنت في حال النعمة، ولي أحزانٌ كثيرةٌ؛ فعلمت أن ذلك كان من قلة الشكر، فأنا اليوم في هذه النعمة أضحك شكراً لله عز وجل على ما أعطاني من الصبر.
فقلت لعبد الله بن عمر [ما رأيت منها]، فقال: ما كان صبر أيوب عند صبر هذه بشيء.
131-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسن، قال:
قال عمر بن ذر -ومات ابنٌ له- فقال: يا بني، ما علينا من موتك غضاضةٌ، وما بنا إلى أحدٍ سوى الله من حاجةٍ.
فلما دفنه، قال: رحمك الله يا بني، لقد شغلنا الحزن لك عن الحزن عليك، لأنا لا ندري ما قلت، ولا ما قيل لك؛ اللهم قد وهبت له ما ضيع مما افترضت عليه من بري، فهب له ما قصر فيه من طاعتك، واجعل ثوابك لي عليه له، وزدني من فضلك، فإني إليك من الراغبين.
[فسئل عنه فقيل: كيف كان معك؟ فقال: ما مشيت معه بليلٍ إلا
⦗ص: 88⦘
كان أمامي، ولا بنهارٍ إلا كان خلفي، وما علا سطحاً قط وأنا تحته] .
132-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن بن علي، قال:[أخبرنا] أبو الحسن، [عن الفضل بن تميمٍ، قال:]
قيل للضحاك بن قيسٍ: [من قال] عند المصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون، أهذا له؟
قال: هذا لمن أخذ بالتقوى، وأدى الفرائض؛ فعليهم صلواتٌ من ربهم [ورحمةٌ] .
133-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسن، عن سفيان بن عيينة، عن بعض آل عبد الله بن محمد، قال:
ما رأيت ابن عمر دمعت عينه في مصيبةٍ قط.
134-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسن، قال: قال سفيان:
شكى ربيع بن أبي راشدٍ إلى محارب بن دثارٍ إبطاء خبر أخيه، فقال: قد أبطأ علي خبر جامعٍ. فقال له [محاربٌ] : إن لم تكن
⦗ص: 89⦘
وطنت نفسك على فراق الأحبة؛ فإنك عاجزٌ.
135-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسن، عن محمد بن عامر، قال:
قال عبد الله بن عباسٍ: ما قيل لقومٍ: طوبى لهم، إلا خبأ الدهر لهم يوم سوءٍ؛ فالصبر خيرٌ مغبة.
136-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسن: قال سفيان بن عيينة، عن مالك بن مغول، قال:
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وجدنا خير عيشنا الصبر.
137-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن بن علي، قال: أخبرنا أبو الحسن، قال: أبو بشر التميمي، عن أبي إبراهيم بن رياح، قال:
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو أتيت براحلتين، راحلة شكرٍ، وراحلة صبرٍ، لم أبال أيهما ركبت.
138-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن بن علي، قال: أخبرنا أبو الحسن، عن علي بن عبد الله بن أبي عياش التميمي، قال:
قال عبد الله بن مسعودٍ، ما أبالي بالغنى بليت، أو بالفقر؛ إن حق الله عز وجل فيهما لواجبٌ؛ في الغنى البر والعطف، وفي الفقر الصبر.
139-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن بن علي، قال: أخبرنا أبو الحسن
⦗ص: 90⦘
المدائني، عن علي بن سليمان، عن الحسن، قال:
الخير الذي لا شر فيه، الشكر مع العافية، والصبر عند المصيبة؛ فكم من منعمٍ عليه غير شاكرٍ، ومبتلى غير صابرٍ!
140-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسن، قال:
قال حارثة بن بدرٍ يرثي زياداً:
الصبر أجمل والدنيا مفجعةٌ
…
من ذا الذي لم يجرع مرةً حزنا
141-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسن، قال:
[كانت العرب في الجاهلية -وهم لا يرجون ثواباً، ولا يخشون عقاباً- يتحاضون على الصبر، ويعرفون فضله، ويعيرون بالجزع أهله، إيثاراً للحزم، وتزيناً بالحلم، وطلباً للمروءة، وفراراً من الاستكانة إلى حسن العزاء؛ حتى إن الرجل منهم ليفقد حميمه فلا يعرف ذلك فيه.
يصدق ذلك ما جاء في أشعارهم، ونثي من أخبارهم] .
قال دريد بن الصمة [في مرثيته أخاه عبد الله] :
⦗ص: 91⦘
قليل التشكي للمصيبات، حافظٌ
…
من اليوم أعقاب الأحاديث في غد
[صبا ما صبا حتى إذا شاب رأسه
…
وأحدث حلماً قال للباطل: ابعد]
وقال أبو خراش الهذلي:
تقول أراه بعد عروة لاهياً
…
وذلك رزءٌ لو علمت جليل
فلا تحسبي أني تناسيت عهده
…
ولكن صبري يا أميم جميل
وقال أبو ذؤيبٍ:
وإني صبرت النفس بعد ابن عنبسٍ
…
وقد لج من ماء الشؤون لجوج
لأحسب جلداً أو لينبأ شامتٌ
…
وللشر بعد القارعات فروج
وقال عمير الحنفي:
ربما تجزع النفوس من الأمر
…
له فرجةٌ كحل العقال
وقال أوس بن حجر:
أيتها النفس أجملي جزعاً
…
إن الذي تحذرين قد وقعا
وقال عمرو بن معدي كرب:
كم من أخٍ لي صالحٍ
…
بوأته بيدي لحدا
وقالت أخت ربيعة بن مكدمٍ ترثي أخاها:
⦗ص: 92⦘
ما بال عينك منها الدمع مهراق
…
سحاً فلا عازبٌ منها ولا راقي
فاذهب، فلا يبعدنك الله من رجلٍ
…
لاقى الذي كل حي بعده لاقي
لو كان يبقي سليماً وجد ذي رحمٍ
…
أبقى سليماً له وجدي وإشفاقي
أو كان يفدى لكان الأهل كلهم
…
وما أثمر من مالٍ له واقي
لكن سهام المنايا من قصدن له
…
لم يشفه طب ذي طب ولا راقي
لأبكينك ما ناحت مطوقةٌ
…
وما سريت مع الساري على ساقي
وقال حارثة بن بدرٍ، يرثي أخاه درعاً:
أمست ديار بني بدرٍ معطلةً
…
من طامعٍ كان يغشاها وزوار
يا أيها الشامت المبدي عداوته
…
ما بالمنايا التي عيرت من عار
اربع عليك فإنا معشرٌ صبرٌ
…
على المصيبات قدماً غير أغمار
142-
قال المدائني: ورثت أخت مسعود بن شدادٍ أخاها، فقال لها رجلٌ: رثيت أخاك بما ليس فيه. فقالت: إن كنت كاذباً، فأسأل الله عسرك، ودوام فقرك؛ كان -والله- أخي يابس الجنبين، ندي الكفين، لا يكثر إذا وجد، ولا يلوم إذا فقد.
143-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسن، عن عامر بن الأسود، قال:
نعي إلى أبي قحافة ابنه أبو بكرٍ رضي الله عنه، فقال: رزءٌ جليلٌ.
144-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال:[قال] أبو الحسن:
ومات أخٌ لأعرابي، فقي له: صف لنا أخاك؛ فقال: كان -والله- شديد العقدة، لين العطفة، يرضيه أقل مما يسخطه.
145-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسن، عن عمر بن غياث، عن محمد بن حرب قال:
كتب إبراهيم بن أبي يحيى إلى بعض الخلفاء: إن أحق من عرف حق الله عليه فيما أخذ منه: من عظم حق الله عنده فيما أبقى له. فاعلم أن الماضي قبلك الباقي لك، والباقي بعدك المأجور فيك؛ وإن أجر الصابرين فيما يصابون به، أعظم من النعمة عليهم فيما يعافون منه.
146-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسن، عن محمد بن أبي علي، قال:
قال زياد لرجلٍ: أين منزلك؟ قال: أوسط منازل البصرة. قال: مالك من الولد؟ قال: تسعةٌ. فقيل لزيادٍ: ما له من الولد غير ابن واحدٍ، وداره أقصى دارٍ بالبصرة. فقال له زيادٌ: ألم تخبرني أن دارك أوسط منازل البصرة؟ قال: بلى. قال: لقد أنبئت أنها أقصى دور البصرة. قال: هي بين الدنيا والآخرة. قال: وقلت: لي تسع بنين؟، قال: نعم، كانوا عشرةً، قدمت تسعةً، وبقي لي واحدٌ، فلا أدري أنا له، أم هو لي.
147-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسن،
⦗ص: 94⦘
عن مسلمة بن محارب، قال:
دخل مسلمة بن عبد الملك على عمر بن عبد العزيز في مرضه، فقال: يا أمير المؤمنين، ألا توصي؟ قال: وهل من مالٍ أوصي به؟ فقال مسلمةٌ: هذه مئة ألفٍ، أبعث بها إليك، فهي لك، فأوص فيها. قال: فهلا غير ذلك يا مسلمة؟ قال: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: تردها من حيث أخذتها.
قال: فبكى مسلمة، وقال: رحمك الله، لقد ألنت منا قلوباً كانت قاسيةً، وزرعت في قلوب الناس لنا مودةً، وأبقيت لنا في الصالحين ذكراً.
148-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسن، عن الضحاك بن زمل، قال:
كنا عند خالد بن عبد الله، حين أتاه نعي أسدٍ، فبكى، حتى اخضلت لحيته، ثم قال: رحم الله أخي، كان والله براً، واصلاً؛ والله ما مشيت ليلة قط، إلا مشى أمامي، ولا مشيت نهاراً قط، إلا مشى
⦗ص: 95⦘
خلفي، ولا علا بيتاً قط أنا تحته.
149-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسن، عن محمد بن أبي محمد، قال:
مر الإسكندر بمدينةٍ، قد ملكها أملاكٌ سبعةٌ، وبادوا، فقال: هل بقي من نسل الأملاك الذين ملكوا هذه المدينة أحدٌ؟ فقالوا: رجلٌ في المقابر. فدعا به، فقال: ما دعاك إلى لزوم المقابر؟ فقال: أردت أن أعزل عظام الملوك من عظام عبيدهم، فوجدت عظامهم وعظام عبيدهم سواءً.
قال: فهل لك أن تتبعني، فأحيي بك شرف آبائك، إن كانت لك همةٌ؟ قال: إن همتي لعظيمةٌ إن كانت بغيتي عندك. قال: وما بغيتك؟ قال: حياةٌ لا موت فيها، وشبابٌ ليس معه هرمٌ، وغنىً لا فقر معه، وسرورٌ بغير مكروه. قال: لا. قال: فامض لشأنك، ودعني أطلب ذلك ممن هو عنده، يملكه.
قال الإسكندر: هذا أحكم من رأيت.
150-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن بن علي، قال: أخبرنا أبو الحسن المدائني، قال:
وعزى عمرو بن ميمون رجلاً، فقال: عز نفسك بما كنت مغزياً به غيرك، وأنا وإياك ومن ترى -وإن تراخت بنا مدةٌ- إلى أجلٍ نحن
⦗ص: 96⦘
بالغوه، فكأن الموت قد حل بنا وبك؛ لا مدفع له، ولا محيص عنه؛ فأسأل الله عز وجل أن يجعل بقاءنا وبقاءك مسارعةً لنا في الخيرات، واقتداءً بمن أمرنا أن نقتدي بهداه، من المصطفين الأخيار.
151-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسن، قال:
لما حضرت عبد الملك الوفاة، قال: أصعدوني؛ فلما أصعد تسطح على فراشه، ثم قال: يا دنيا، ما أطيب ريحك؛ يا أهل العافية، لا تستقلوا شيئاً منها؛ حتى سمع ذلك منه خارج القصر.
152-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسن، عن علي بن عاصم، في إسنادٍ له، قال:
قال الطاعون: أنا ألحق بالشام؛ فقال الخصب: أنا معك. قال: وقال الجوع: أنا ألحق بأرض البادية. قال: فقالت الصحة: أنا معك؛ قال: وقالت النعمة: أنا ألحق بأرض العراق. قال: فقال السقم: أنا معك.
153-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسن، عن آدم بن عيينة، قال:
دفعت إلى امرأةٍ تتبع جنازةٌ، وهي تقول:
رحيب ذراعٍ بالتي لا تشينه
…
وإن كانت الفحشاء ضاق بها ذرعا
154-
قال:
وقال أويسٌ عند وفاته: إن حق الله لم يترك عند أويسٍ -أو قال عند المسلم- ديناراً ولا درهماً.
155-
قال:
وذكروا أن عمر بن عبد العزيز لما مات ابنه، رجع من الجنازة، فرأى قوماً يرمون، فلما رأوه أمسكوا. فقال: ارموا؛ ووقف عليهم. فرمى أحد الراميين، فأخرج؛ فقال له عمر: أخرجت، فقصر. ثم قال للآخر: ارم؛ فرمى فقصر، فقال له عمر: قصرت فبلغ.
فقال له مسلمة: يا أمير المؤمنين، أيفرغ قلبك لما يفرغ له، وإنما نقضت يدك من تراب قبر ابنك الساعة، لم تصل إلى منزلك بعد؟ فقال له عمر: يا مسلمة، إنما الجزع قبل المصيبة، فإذا وقعت المصيبة فاله عما فاتك.
156-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسن المدائني، قال:
وقف محمد بن سليمان على قبر ابنه، فقال: اللهم إني أرجوك له، وأخافك عليه؛ فحقق رجائي، وآمن خوفي، إنك على ذلك قديرٌ.
157-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسن، قال: لقي رجلٌ رجلاً قد أصيب بمصيبةٍ، فأبطأ عن تعزيته، فقال: لولا
⦗ص: 98⦘
أن تجديد التعزية يجدد جزعاً في المصيبة، لعزيناك عمن مضى.
158-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسن، قال:
جاوز عبد الله بن جعفر عاماً بمكة، فمات له مملوكٌ كان محرباً، ذا موضعٍ منه. فأتاه ابن عباسٍ يعزيه، فقال: لا تعدم الأجر على الرزية، والخلف من الفقيد؛ ثقل الله به ميزانك، وغفر لنا، ولفتاك.
159-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسن، عن خالد بن خداش، قال: حدثني سعيد بن عامر، عن شعبة بن الحجاج أبو بسطام الأزدي، عن إياس بن معاوية بن قرة المزني؛ عن أبيه، قال:
كنا نختلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنا صاحبٌ لنا، معه ابنٌ له، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبيه: ((أتحبه؟)) قال: إي والله يا رسول الله، إني لأحبه، فأحبك الله كما أحبه. قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: ثم إن ابنه مات، فجزع عليه أبوه جزعاً شديداً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أما يسرك أن لا تأتي باباً من أبواب الجنة، إلا وجدته قد سبقك؟)) قال: بلى، يا رسول الله. قال: فسري عنه.
160-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسن،
⦗ص: 99⦘
عن سفيان، عن منصور بن صفية، عن أمه قالت:
دخل عبد الله بن عمر المسجد، فقيل له: يا أبا عبد الرحمن، لو أتيت أسماء بنت أبي بكرٍ، فعزيتها عن ابنها عبد الله بن الزبير؛ فأتاها، فجلس إليها، فقال لها: إن هذه الجثث ليست بشيء، وإنما الأمر في الروح، وإني لأرجو أن تكون روح عبد الله قد أفاضت إلى خير فاصبري. قالت: وكيف يمنعني أن أصبر، وقد حمل رأس يحيى بن زكريا النبي صلى الله عليه وسلم إلى بغي فصبر؟
161-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن بن علي، قال: أخبرنا أبو الحسن، عن ابن علية، قال: نا أيوب السختياني، عن الحسن، قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الصبر عند الصدمة الأولى، والعبرة لا يملكها أحدٌ، صبابة المرء إلى أخيه)) .
162-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسن، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا ابن عون، قال:
كان محمد بن سيرين يكون عند المصيبة كما يكون قبل ذلك. إلا يوم ماتت حفصة بنت سيرين، فإنه جعل يكشر، وأنت تعرف فيه.
163-
وبكى عبد الله بن مسعود على أخيه عتبة، فقيل له: يا أبا عبد الرحمن، تبكي! قال: كان أخي في النسب، وصاحبي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ما يسرني أني كنت قبله؛ لأن يموت فأحتسبه، أحب إلي من أن أموت فيحتسبني.
164-
قال: ولما مات مخلد بن يزيد بن المهلب، أتي أبوه بمائدته التي كان يؤتى بها، قبض أصحابه أيديهم عن الطعام، فقال: مضى مخلد لشأنه، فعليكم بشأنكم؛ من كان آكلاً في غدٍ فليأكل اليوم.
165-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال:[أخبرنا] أبو الحسن:
لما قتل محمد بن عبد الله بن خازم، وأتى أباه ناسٌ يعزونه، فكان فيمن أتاه رجلٌ من الأزد، له صلاحٌ، فقال:
أبى الصبر لي أن السكارى تعاورت
…
بأسيافها فرداً وحيداً محمدا
فلو في عراك غادرته مجدلاً
…
لقلت كمن قد راح بالسيف واغتدى
ولاقى المنايا والمنايا حياله
…
تغادر كهلاً للجبين وأمردا
فقال الأزدي: يرحمك الله أبا صالح، ما أراد الله لمحمدٍ خيراً مما أردت، قتل مظلوماً في الله، ومصابه ثكلٌ لا ثكل مثله، فاحتسب،
⦗ص: 101⦘
واصبر، تجز ثواب الصابرين.
فقال: اللهم إن أخا الأزد قد نصحني، وقال بما أعرف، فهب لي صبراً.
166-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسن، قال ابن ربيعة:
عزى محمد بن الفرات الشيباني رجلاً، فقال: لو أن جزعاً على رزية وقى حلول نائبةٍ، أو رجع فائتاً، لتقدم فيه العاقل، واعتصم به الخائف، ولكن الصبر طوعاً وكرهاً.
167-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسن، قال:
عزى رجلٌ من بكرٍ بن وائلٍ رجلاً، فقال: ليس في الجزع عقبى تفيد راحةً، إلا ما لو تعجل أفاد راحةً وأجراً؛ ومن أعظم الجزع على مصيبته بفقد المحبوب، فقد استدعى أخرى بفوت الآخرة.
168-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسن، عن أبي عمرو الهلالي، قال:
كتب رجلٌ إلى بعض إخوانه يعزيه عن ابنه:
أما بعد، فإن الولد على والده ما عاش حزنٌ وفتنةٌ، فإذا قدمه فصلاةٌ ورحمةٌ؛ فلا تجزع على ما فاتك من حزنه وفتنته، ولا تضيع ما عوضك الله من صلاته ورحمته.
169-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسن، عن
⦗ص: 102⦘
أبي عمرو الهلالي، عن السهمي، قال:
كتب رجلٌُ إلى بعض إخوانه يعزيه:
أما بعد، فعليك بتقوى الله والصبر، فإن به يأخذ المحتسب، وإليه يرجع الجازع.
170-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن بن علي، قال: أخبرنا أبو الحسن، عن أبي عمرة الطائي، عن يحيى بن عثمان قال:
سمعت يحيى بن خلادٍ، يقول: والله، لو أن الله عز وجل كلف العباد الجزع دون الصبر، لكلفهم أشد المعنيين على القلوب.
171-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسن، قال:
عزى رجلٌ من بكر بن وائلٍ رجلاً عن ابنه -ويقال: إن المعزى هو- وإنه كتب إليه: يا بني، إن احتمال المضاضة في أول الصبر حتى ينقطع الحزن، أيسر نكايةً من آخر الجزع؛ وإن أمراً لا يتعقب مصدره إلا بالندم، ولا يخلص منه إلا إلى الإثم، لحقيقٌ ألا يستقبل مورده إلا بالقمع والقرع؛ والسلام.
172-
أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسن، قال:
ذكروا أن النعمان بن المنذر كان له ثلاثة إخوةٍ؛ عمروٌ، ومالكٌ
⦗ص: 103⦘
-وكانا أخوين لأبٍ، وأم، وكانا ابني مهيرة- وكان النعمان، وأخٌ له يسمى علقمة لأم ولدٍ، فهلك مالكٌ، فجزع عليه عمروٌ. وكان مالكٌ مرجواً عند أهل مملكتهم لحوادث الأيام، وبوائق الدهر، فمات مالكٌ، فدخل على أخيه عمرو من الحزن ما كاد يقضي عليه؛ فلما رأى علقمة ما بأخيه، استأذن النعمان في تعزية عمروٍ، وموعظته، وسأله أن يجمع له رؤساء أهل مملكته، وحلماءهم وعلماءهم؛ فأجابه إلى ذلك.
فلما اجتمع الناس أذن لهم النعمان على قدر منازلهم، فقام علقمة بن المنذر، فثنيت له نمرقة الشرف، على منبر الكرامة، عن يمين النعمان، وهو مقام عظماء المتكلمين؛ فقال: يا عمرو، يا ثمرة الرأي، ومعدن الملك؛ إنما الخلق للخالق، والشكر للمنعم، وإنما التسليم للقادر، ولا بد مما هو كائنٌ، وإنه لا أضعف من مخلوقٍ، ولا أقوى من خالق، ولا أقدر ممن طلبته في يديه، ولا أعجز ممن هو في يد طالبه؛ والتفكر نورٌ، والغفلة ظلمةٌ، والجهالة ضلالةٌ، وقد ورد الأول، والآخر سائقٌ متعبٌ، وفي الأشياء عبرٌ، والسعيد من وعظ بغيره، وقد جاء ما لا يرد، ولا سبيل إلى رجوع ما قد فات، وذهب عنك ما لا يرجع إليك، وأقام معك ما سيذهب عنك، فما الجزع مما لا بد منه؟ وما الطمع فيما لا يرجى؟! وما الحيلة لبقاء ما سيفنى؟ وإنما الشيء من مثله، وقد مضت قبلنا أصولٌ نحن فروعها، فما بقاء فرعٍ بعد أصله؟
انظر إلى طبقات حالاتك، من لدن كنت في صلب أبيك إلى أن بلغت منزلة الشرف، وحد العقل، وغاية الكرامة؛ هل قدرت أن تنتقل
⦗ص: 104⦘
عن طبقةٍ، قبل انقباضها؟، وتتعجل نعمةً قبل أوان مجيئها؟
وانظر يا عمرو إلى آبائك، الذين كانوا أهل الملك والشرف الكبير، والأحلام المحمودة، هل وجدوا سبيلاً -أو وجد لهم- إلى بقاء ما أحبوا؟ أبقوا بعده؟ فأي أيام الدهر ترتجي؟ أيوم يجيء بعاقبةٍ؟ أم يوم لا يستأخر بما فيه عن أوان مجيئه؟ أو يوماً لا يأتي بما في غيره؟
فانظر إلى أيام الدهر تجدها ثلاثةٌ: يوماً مضى لا ترجوه، ويوماً بقي لا بد منه، ويوماً يجيء لا تأمنه.
إن أكمل الأداة عند المصائب الصبر واليقين؛ لأن الهارب لابد له مما هو كائنٌ، وإنما يتقلب في كف طالبه، فأين المهرب؟
إن أمس موعظةٌ، واليوم غنيمةٌ، وغداً لا تدري، أمن أهله أنت، أو من غير أهله؛ فأمس شاهدٌ مقبولٌ، وأمينٌ مؤد، وحكيم مؤدبٌ، قد فجعت بنفسك في يدي حكمته؛ واليوم صديقٌ مودعٌ، كان طويل الغيبة، وهو سريع الظعن، أتاك ولم تأته، وقد مضى قبله شاهد عدلٍ، فإن كان ما فيه لك، فاشفعه بمثله، وإلا فاتق اجتماع شهادتيهما عليك.
إن أهل هذه الدار سفرٌ، لا يحلون عقد الرحال إلا في غيرها؛ وإنما ينتقلون منها في العواري، فما أحسن الشكر للمنعم، والتسليم للمغير؛ من أحق بالتسليم ممن لا يجد مهرباً. ولا معيناً، بل الأعوان عليه.
⦗ص: 105⦘
انظر مم جزعت، وما استكرهت، وما تحاول؛ فإن ردك الجزع إلى ثقة من درك الطلب، فما أولاك به، وإن كنت قوياً على رد ما كرهت، فكيف تعجز عن الغلبة على ما أحببت؟ وإن كنت حاولت مغلوباً، فمن أفنى القرون قبلك؟
وإن أعظم من المصيبة سوء الخلف منها؛ ومن تناول ثمرة ما لا يكون، استقرت في يديه الخيبة.
أفمن هذا المعدن ترجو درك الغنيمة؟ فإن العلم لا ينال إلا بالتعلم، فبم رجوت تعلم ما لا يتعلم، ودرك ما لا يكون، ولم يكن لذلك معلمٌ فيمن كان قبلك، ولا متعلم سواك؟ وما عناك بطلب من هو في طلبك، أم كيف رجوت رجعة ملك مالكٍ إليه وأنت سابقٌ إليه؟ أم ما جزعك عن الظاعن عنك اليوم، وأنت مرتحلٌ إليه غداً؟ أم ما طمعك في رد ما هو كائنٌ بما لا يكون؟ فأفق، والمرجع قريبٌ، ولا تعم، فيضر بك العمى، وتتوهك الجهالة، وأنت ذو الخظ الكبير من الدنيا في قسمك، وأخو الملك العظيم في قرابتك، وابن الملوك المنعمين في نسبك، فقد أتاك الخير من كل بابٍ، فأنت كما قيل فيك، فلا تكونن في الشكر دون الحق عليك.
وإنما ابتلاك بالمعصيية المنعم، وأخذ منك المعطي، وما ترك أكثر؛ فإن أنسيت الصبر، فلا تغفل [عن] الشكر، وكلا فلا تدع؛ ولا أغنى عنك من المنعم، ولا أحوج من منعمٍ عليه؛ فاحذر من الغفلة استلاب
⦗ص: 106⦘
النعمة، وطول الندامة.
واعلم أنه لا أضيع ممن غفل عن نفسه، ولم يغفل عنه طالبه.
وإن أخاك عظيمٌ، قد برز لعظيم صلتك، واستكمال كرامتك، ولطف بما ترى لموعظتك. وهذا يومٌ بقاؤه عظيمٌ، وبقاء ما فيه بعدنا طويلٌ، سيحظى به اليوم السعيد، ويستكثر منافعه اللبيب.
وإنما جمعت منافع هذا اليوم وجنوده لدفع فتن الجاهلية عنك؛ وإنما أوقدت مصابيح الهدى فيه، ليتبين خيرك، وسهلت سبيل الخير إليك، لرجاء رجعتك؛ فلم أر كاليوم [ضل] مع نوره متحير، ولا أعيا مداويه سقيمٌ.
وما أصغر المصيبة اليوم، مع عظيم الغنيمة غداً، وأكثر فيه خيبة الخائب؛ وإن أبت نفسك إلا علم رأي من جمع لك، فقد كفيت.
هذا جوابهم، فاسمع يا عمرو:
زعم فرسان الحروب، وقادة الجنود، أن غلب على مالكٍ غالب آبائك، أهل التتويج، والملك الكبير، وأن غالبهم لا يغلب.
وزعم الأطباء أن مالكاً هلك بداء معلميهم الذين هلكوا به، وأنه لا دواء لدائهم ذلك.
وزعمت حفظة الخزائن، أنها عواري عندكم -أهل البيت- وأن العواري لا تقبل في فكاك الرهان.
107#
وزعم أهل الحيل والتجارب والجماعة الكبرى، أن صاحب مالكٍ، قد شغلهم بأنفسهم عنك، فإن فرغوا أتوك.
وقد أسمعك الداعي، وأغدر فيك الطالب، وانتهى الأمر فيك إلى حد الرجاء.
ولا أحد أعظم رزية في عقله، ممن ضيع اليقين، وأخطأ الأمل.
ثم التفت إلى الملك، فقال:
أيها الملك المنعم: إن أعظم العطية ما أعطيتنا، بجمعك إيانا، وإذنك في الكلام لنا؛ وخير الهدية لك ما حملتنا.
وإنا -أيها الملك الرفيع جده- مع معرفتنا بفضلك، لم نرفعك فوق منزلتك؛ وبحسبك ألا يكون إلا الخالق فوقك، ونعم المخلوق أنت، ترد المدبر إلى حظه، وتكف المستعجل إلى حتفه، وتدل مبتغي الخير إلى بغيته؛ وبمثل دوائك يشفى السقيم؛ فدام مجيء الخير منك لنا، والإنعام علينا، والشكر منا.
ثم أقبل على الناس كافةً بالموعظة، فقال:
يا أيها الناس: إنما البقاء بعد الفناء، وقد خلقنا ولم نك شيئاً، وسنبلى ثم نعود، ألا وإنما العواري اليوم، والهبات غداً، ألا وإن قد ورثنا من قبلنا، ولنا وارثون؛ وقد حان رحيلٌ عن محل نازلٍ، ألا وقد تقارب سلب منقلبٍ فاحشٍ، أو عطاءٍ جزيلٍ؛ فاستصلحوا ما تقدمون عليه، بما تظعنون عنه، واسلكوا سبيل الخير، ولا تستوحشوا منها لقلة أهلها، وذاكروا حميد الصحبة لكم فيها.
⦗ص: 108⦘
يا أيها الناس: إني أعظكم، وأبدأ بنفسي: استبدلوا الغواري بالهبات، وارضوا بالباقي خلفاً من الفاني، واستقبلوا المصيبات بالحسبة، تستخلفوا بها نعماً؛ واستديموا الكرامة بالشكر، تستحقوا الزيادة، واعرفوا فضل البقاء في النعم، والغنى في السلامة، قبل الفتنة الملبسة بالمثلة السيئة، وقبل انتقال النعم وزوال الأيام، وتصرف الخطوب.
يا أيها الناس: إنما أنتم في هذه الدنيا أغراضٌ تنتضل فيكم المنايا، وأنتم فيها نهبٌ للمصيبات؛ مع كل جرعةٍ لكم شرقٌ، وفي كل أكلةٍ لكم غصصٌ، لا تنالون نعمةً إلا بفراق أخرى، ولا يستقبل معمرٌ يوماً من عمره إلا بهدم آخر من أجله، ولا يجد لذة زيادةٍ في أجله إلا بنفاذ ما قبله من رزقه. [و] لا يحيا له أثرٌ إلا مات له أثرٌ، فأنتم أعوان الحتوف [على أنفسكم] ، و [في معايشكم] ، وأسباب مناياكم، لا يمنعكم شيءٌ منها، ولا يعينكم شيءٌ عليها، لها بكل سببٍ صريعٌ مخترمٌ، ومتقربٌ منتظرٌ؛ لا ينجو من حبائلها الحذر، ولا يدفع عن مقاتلها الأرب.
فهذه أنفسكم تسوقكم، فمن أين تطلبون البقاء؟ وهذا الليل
⦗ص: 109⦘
والنهار، لم يرفعا من شيء شرفاً، إلا أسرعا في هدم ما بنيا، وتفريق ما جمعا.
يا أيها الناس: اطلبوا الخير ووليه، واحذوا الشر ووليه، واعلموا أن خيراً من الخير معطيه، وأن شراً من الشر فاعله.
آخر الجزء الثاني من أجزاء الشيخ يتلوه إن شاء الله، وبه القوة، في الجزء الثالث: أنا الحسن بن علي بن المتوكل، قال: أبو الحسن علي بن محمد المدائني، قال: حدثني شيخٌ من أهل البصرة، عن جعفر بن سليمان الضبعي.
والحمد لله رب العالمين كثيراً، وصلى الله وملائكته على السيد المصطفى نبيه محمدٍ، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وسلم تسليماً.