الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دراسات شرعية
تعظيم الله (تعالى) وشعائره
بقلم: عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا
وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن
لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد:
فإن تعظيم الله (تعالى) وتعظيم ما يستلزم ذلك من شعائر الله (تعالى) وحدوده
من أجلّ العبادات القلبية وأهم أعمال القلوب، التي يتعين تحقيقها والقيام بها،
وتربية الناس عليها، وبالذات في هذا الزمان الذي ظهر فيه ما يخالف تعظيم الله
(تعالى) : من الاستخفاف والاستهزاء بشعائر الله (تعالى) ، والتسفيه والازدراء لدين
الله (تعالى) وأهله.
إنّ الإيمان بالله (تعالى) مبني على التعظيم والإجلال له عز وجل [1] ، قال
الله (تعالى) : [تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ][مريم: 90] .
قال الضحاك بن مزاحم في تفسير هذه الآية: (يتشققن من عظمة الله (عز
وجل [] 2 [.
ويبين شيخ الإسلام ابن تيمية أهمية تعظيم الله (سبحانه) وإجلاله فيقول:
(فمن اعتقد الوحدانية في الألوهية لله سبحانه وتعالى ، والرسالة لعبده ورسوله،
ثم لم يُتبع هذا الاعتقاد موجبه من الإجلال والإكرام، الذي هو حال في القلب يظهر
أثره على الجوارح، بل قارنه الاستخفاف والتسفيه والازدراء بالقول أو بالفعل،
كان وجود ذلك الاعتقاد كعدمه، وكان ذلك موجباً لفساد ذلك الاعتقاد ومزيلاً لما فيه
من المنفعة والصلاح) .] 3 [
ومما قاله ابن القيّم عن منزلة التعظيم: (هذه المنزلة تابعة للمعرفة، فعلى قدر
المعرفة يكون تعظيم الربّ (تعالى) في القلب، وأعرف الناس به أشدهم له تعظيمّاً
وإجلالاً، وقد ذم الله (تعالى) من لم يعظمه حق عظمته، ولا عرفه حق معرفته،
ولا وصفه حق صفته، قال (تعالى) :] مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً [] نوح: 13 [، قال ابن عباس ومجاهد: لا ترجون لله عظمة، وقال سعيد بن جبير: ما لكم لا
تعظمون الله حق عظمته، وروح العبادة هو الإجلال والمحبة، فإذا تخلى أحدهما عن الآخر فسدت..) ] 4 [.
وتعظيم الله وإجلاله لا يتحقق إلا بإثبات الصفات لله (تعالى) ، كما يليق به
(سبحانه) ، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، والذين ينكرون
بعض صفاته (تعالى) ، ما قدروا الله عز وجل حق قدره، وما عرفوه حق معرفته] 5 [، ولما كان من أسماء الله (تعالى) الحسنى:(المجيد) و (الكبير)
…
... و (العظيم) فإن (معنى هذه الأسماء: أن الله عز وجل هو الموصوف بصفات المجد والكبرياء والعظمة والجلال، الذي هو أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وأجلّ وأعلى، وله التعظيم والإجلال، في قلوب أوليائه وأصفيائه، قد ملئت قلوبهم من تعظيمه، وإجلاله، والخضوع له، والتذلل لكبريائه) ] 6 [.
ويقول العلامة محمد الأمين الشنقيطي في هذا المقام: (إن الإنسان إذا سمع
وصفاً وصف به خالق السموات والأرض نفسه، أو وصفه به رسوله، فليملأ
صدره من التعظيم، ويجزم بأن ذلك الوصف بالغ من غايات الكمال والجلال
والشرف والعلو ما يقطع جميع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين،
فيكون القلب منزهاً معظماً له (جلّ وعلا) ، غير متنجّس بأقذار التشبيه
…
) ] 7 [.
ومما يوجب تعظيم الله (تعالى) وإجلاله: أن نتعّرف على نعم الله (تعالى) ،
ونتذكرّ آلاء الله عز وجل ، ومما قاله أبو الوفاء ابن عقيل في ذلك: (لقد عظم الله
(سبحانه) الحيوان، لا سيما ابن آدم، حيث أباحه الشرك عند الإكراه وخوف
الضرر على نفسه، فقال:] إلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ [] النحل: 106 [: من قدّم حرمة نفسك على حرمته، حتى أباحك أن تتوقى وتحامى عن نفسك بذكره، بما لا ينبغي له (سبحانه) ، لحقيق أن تعظم شعائره، وتوقر أوامره وزواجره،
وعصم عرضك بإيجاب الحدّ بقذفك، وعَصَم مالك بقطع مسلم في سرقته، وأسقط
شطر الصلاة لأجل مشقتك، وأباحك الميتة سدّاً لرمقك، وحفظاً لصحتك، وزجرك
عن مضارك بحد عاجل، ووعيد آجل، وخَرقَ العوائد لأجلك، وأنزل الكتب إليك، أيحسن بك مع هذا الإكرام أن تُرى على ما نهاك منهمكاً، وعما أمرك متنكبّاً،
وعن داعيه معرضاً، ولسنته هاجراً، ولداعي عدوك فيه مطيعاً؟ .
يعظمك وهُوَ هُوَ، وتهمل أمره وأنت أنت، هو حطّ رتب عباده لأجلك،
وأهبط إلى الأرض من امتنع من سجدة يسجُدها لك.
ما أوحش ما تلاعب الشيطان بالإنسان بينا يكون بحضرة الحق، وملائكة
السماء سجود له، تترامى به الأحوال والجهالات بالمبدأ والمآل، إلى أن يوجد
ساجداً لصورة في حجر، أو لشمس أو لقمر، أو لشجرة من الشجر، ما أوحش
زوال النعم، وتغيّر الأحوال، والحور بعد الكور) .] 8 [
ولقد كان نبينا محمد يربي أمته على وجوب تعظيم الله (تعالى) ، ففي حديث
ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله-صلى الله
عليه وسلم- فقال: يا محمد، إنّا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع،
والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء على إصبع، والثرى على
إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك النبي-صلى الله
عليه وسلم- حتى بدت نواجذه، تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ] وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ
قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ
…
[] الزمر: 67 [.
وما في الآية يدل على أن عظمة الله (تعالى) أعظم مما وصف ذلك الحبر،
ففي الآية الكريمة تقرير لعظمة الله (تعالى) نفسه، وما يستحقه من الصفات، وأن
لله عز وجل قدراً عظيماً، فيجب على كل مؤمن أن يقدر الله حق قدره] 9 [.
يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب، عند هذه الآية الكريمة:
ما ذكر الله تبارك وتعالى من عظمته وجلاله أنه يوم القيامة يفعل هذا،
وهذا قَدْر ما تحتمله العقول، وإلا فعظمة الله وجلاله أجل من أن يحيط بها عقل
…
فَمَن هذا بعض عظمته وجلاله كيف يُجعل في رتبته مخلوق لا يملك لنفسه نفعاً ولا
ضرًّا؟) ] 10 [.
ولما قال الأعرابي لرسول الله-صلى الله عليه وسلم: (فإنا نستشفع بالله
عليك، فقال النبي-صلى الله عليه وسلم: سبحان الله، سبحان الله! فما زال
يسبّح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ويحك، أتدري ما الله؟ إن
شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه) ] 11 [.
وقد اقتفى الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان هذا المسلك،
فعظّموا الله حق تعظيمه، وعُمرت قلوبهم بإجلال الله (تعالى) وتوقيره: فهذا ابن
عباس رضي الله عنهما يقول لبعض أصحاب المراء والجدل: (أما علمتم أن لله
عباداً أصمتهم خشية الله (تعالى) من غير عيّ ولا بكم، وإنهم لَهُمُ العلماء العصماء
النبلاء الطلقاء، غير أنهم إذا تذكروا عظمة الله (تعالى) انكسرت قلوبهم، وانقطعت
ألسنتهم، حتى إذا استفاقوا من ذلك، تسارعوا إلى الله بالأعمال الزاكية، فأين أنتم
منهم؟) .] 12 [
وكان أهل العلم يعظمون ربهم، ويقدرونه عز وجل حق قدره، حتى قال
عون بن عبد الله: (ليعظم أحدكم ربه، أن يذكر اسمه في كل شيء حتى يقول:
أخزى الله الكلب، وفعل الله به كذا) ] 13 [.
ويقول الخطابي: (وكان بعض من أدركنا من مشايخنا قلّ ما يذكر اسم الله
(تعالى) إلا فيما يتصل بطاعة) ] 14 [.
(وكان أبو بكر الشاشي يعيب على أهل الكلام كثرة خوضهم في الله (تعالى) ، إجلالاً لاسمه (تعالى)، ويقول: (هؤلاء يتمندلون] 15 [بالله عز وجل ] 16 [.
ومن أروع الأمثلة التي دوّنها التاريخ عن سلفنا الصالح، وتعظيمهم لله (عزّ
وجلّ) ، ما وقع لإمام دار الهجرة مالك بن أنس (رحمه الله تعالى) ، لما سأله أحدهم
عن قوله (تعالى) :] الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى [] طه: 5 [كيف استوى؟ .
فما كان موقف الإمام مالك إزاء هذا السؤال؟ يقول الرواي: (فما رأيته وجد
(غضب) من شيء كوجده من مقالته، وعلاه الرحضاء (العرق) ، وأطرق القوم،
فجعلوا ينتظرون الأمر به فيه، ثم سُرّي عن مالك، فقال: الكيف غير معلوم،
والاستواء غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وإنى لأخاف أن
تكون ضالاًّ، ثم أُمر به فأُخرج) .] 17 [
فتأمّل (رحمك الله) ما أصاب الإمام مالك رحمه الله من شدة الغضب
وتصبب العرق إجلالاً وتعظيماً لله (تعالى) وإنكاراً لهذا السؤال عن كيفية استواء
الربّ (تعالى) .
ومن الأمثلة في هذا الباب ما جرى للإمام أحمد بن حنبل (رحمه الله تعالى) ،
لما مر مع ابنه (عبد الله) على قاص يقص حديث النزول فيقول: إذا كان ليلة
النصف من شعبان ينزل الله عز وجل إلى سماء الدنيا بلا زوال ولا انتقال ولا
تغير حال، يقول عبد الله: فارتعد أبي، واصفر لونه، ولزم يدي، وأمسكته حتى
سكن، ثم قال: قف بنا على هذا المتخرص، فلما حاذاه قال: يا هذا رسول الله
أغير على ربه عز وجل منك، قل كما قال رسول الله) ] 18 [.
ومن تعظيم الله (تعالى) : تعظيم كلامه، وتحقيق النصيحة لكتابه تلاوة وتدبراً
وعملاً، وقد حقق سلفنا الصالح الواجب نحو كتاب الله (تعالى) من التعظيم
والإجلال، حتى إن بعض السلف كانوا يكرهون أن يصغروا المصحف.] 19 [
وقال بعضهم: والله ما نمت في بيت فيه كتاب الله، أو حديث رسول الله
احتراماً لهما] 20 [.
ومما يجب تعظيمه وتوقيره: تعظيم رسول الله وتوقيره، وتعظيم سنته
وحديثه، يقول (ابن تيمية) في تقرير وجوب توقيره وإجلاله: (إن الله أمر بتعزيره
وتوقيره، فقال:] وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [] الفتح: 9 [والتعزير اسم جامع لنصره
وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه، والتوقير اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من
الإجلال والإكرام وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما
يخرجه عن حد الوقار.
ومن ذلك: أنه خصّه في المخاطبة بما يليق به، فقال:] لا تَجْعَلُوا دُعَاء
الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضاً [] النور: 63 [، فنهى أن يقولوا: يا محمد،
أو يا أحمد، أو يا أبا القاسم، ولكن يقولوا: يا رسول الله، يانبي الله، وكيف لا
يخاطبونه بذلك والله سبحانه وتعالى أكرمه في مخاطبته إياه بما لم يكرم به أحداً
من الأنبياء، فلم يَدْعُه باسمه في القرآن قط
…
ومن ذلك: أنه حرّم التقدم بين يديه بالكلام حتى يأذَن، وحرم رفع الصوت
فوق صوته، وأن يُجهر له بالكلام كما يجهر الرجل للرجل
…
ومن ذلك: أن الله رفع له ذكره، فلا يُذكر الله (سبحانه) إلا ذكر معه،
وأوجب ذكره في الشهادتين اللتين هما أساس الإسلام، وفي الأذان الذي هو شعار
الإسلام، وفي الصلاة التي هي عماد الدين
…
) .] 21 [
ومما يجدر التنبيه عليه: أن التعظيم المشروع لرسول الله هو تعظيمه بما
يحبه المعظّم ويرضاه ويأمر به ويثني على فاعله، وأما تعظيمه بما يكرهه ويبغضه
ويذم فاعله، فهذا ليس بتعظيم، بل هو غلو منافٍ للتعظيم.] 22 [
وعقد الدرامي في سننه باباً بعنوان: باب تعجيل عقوبة من بلغه عن النبي
حديث فلم يعظمه، ولم يوقره] 23 [، وأورد الدرامي جملة من الآثار التي تضمنت
عقوبات ومثلات في حق من لم يعظّم حديث رسول الله.
وقد عني السلف الصالح بتعظيم السنة النبوية وإجلال رسول الله، ومن ذلك:
ما قاله عبد الله بن المبارك عن الإمام مالك بن أنس: (كنت عند مالك وهو يحدثنا
حديث رسول الله فلدغته عقرب ست عشرة مرة، ومالك يتغير لونه ويصفر، ولا
يقطع حديث رسول الله، فلما فرغ من المجلس وتفرق الناس، قلت: يا أبا عبد الله، لقد رأيت منك عجباً! فقال: (نعم إنما صبرت إجلالاً لحديث رسول الله-صلى
الله عليه وسلم-) ] 24 [.
وقال الشافعي (رحمه الله تعالى) : (يكره للرجل أن يقول: قال رسول الله،
ولكن يقول: رسول الله؛ تعظيماً لرسول الله) .] 25 [
وممن يجب تعظيمهم وإجلالهم: صحابة رسول الله، فيتعين احترامهم
وتوقيرهم، وتقديرهم حق قدرهم، والقيام بحقوقهم رضي الله عنهم .
وقد خرج جرير بن عبد الله البجلي، وعدي بن حاتم، وحنظلة الكاتب
رضي الله عنهم من الكوفة حتى نزلوا قرقيساء وقالوا لا نقيم ببلدة يشتم فيها
عثمان بن عفان.] 26 [
وباعد محمد عبد العزيز التيمي داره وقال: لا أقيم ببلدة يشتم فيها أصحاب
رسول الله.] 27 [
ولما أظهر ابن الصاحُب الرفضَ ببغداد (سنة 583 هـ) جاء الطالقاني إلى صديق فودّعه، وذكر أنه متوجه إلى بلاد قزوين.
فقال صديقه: إنك ههنا طيّب، وتنفع الناس.
فقال الطالقاني: معاذ الله أن أقيم ببلدة يجهر فيها بسبّ أصحاب رسول الله،
ثم خرج من بغداد إلى قزوين، وأقام بها إلى أن توفي بها.] 28 [
وبالجملة يجب تعظيم شعائر الله (تعالى) جميعها، كما قال (تعالى) :] ذَلِكَ
وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ [] الحج: 32 [.
ويلحظ الناظر في حال المسلمين أن ثمة مخالفات تنافي تعظيم الله (تعالى)
وشعائره كالاستهزاء، أو الاستخفاف، أو الازدراء، أو الانتقاص لدين الله (تعالى)
وشعائره.
وتظهر هذه المخالفات عبر وسائل الإعلام المختلفة، ومن خلال منابر ثقافية
ومؤسسات علمية مشبوهة وغيرها.
ويمكن أن نشير في خاتمة هذه المقالة إلى أهم أسباب وقوع تلك المخالفات
المنافية للتعظيم، ومنها:
الجهل بدين الله (تعالى) ، وقلة العلم الشرعي، وضعف التفقه في هذا الأصل
الكبير، ومنها: غلبة نزعة الإرجاء في هذا الزمان، فمرجئة هذا الزمان الذين
يقررون أن الإيمان تصديق فقط، ويهملون العبادات القلبية، كانوا سبباً رئيساً في
ظهور وجود هذه المخالفات
…
فيمكن أن يكون الرجل عندهم مؤمناً ما دام مصدقاً،
وإن استخف بالله (تعالى)، أو استهزأ برسوله أو دينه! ! ومن أسباب هذه الظاهرة: وجود علم الكلام قديماً، الذي لا يزال أثره باقياً إلى هذا العصر، فأهل الكلام
يخوضون في الله (تعالى) وصفاته، مما أورثهم سوء أدب مع الله.
وأخيراً: فإن من أسباب ذلك: كثرة الترخص والمداهنات والتنازلات من
علماء السوء الذين أُشربوا حب الدنيا والرياسة، فجعلوا الدين ألعوبة يأخذون منه
ويدعون.
ورحم الله ابن القيّم حيث يقول: (كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها،
فلا بد أن يقول على الله غير الحق في فتواه وحكمه؛ لأن أحكام الرب (سبحانه)
كثيراً ما تأتي على خلاف أغراض الناس
…
) .] 29 [
(1) انظر تفسير السعدي: 3/259.
(2)
العظمة لأبي الشيخ: 1/341.
(3)
الصارم المسلوم.
(4)
مدارج السالكين: 2/495.
(5)
انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية: 13/60.
(6)
تفسير السعدي: 5/622.
(7)
منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات: ص36.
(8)
الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب: 1/153.
(9)
انظر: فتاوى ابن تيمية، مجلد 13/160162.
(10)
مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب: 4/346.
(11)
سنن أبي داود: كتاب السنة، ح/4726.
(12)
أخرجه الهروي في ذم الكلام ص184.
(13)
شأن الدعاء للخطابي ص18، ووردت هذه المقالة عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، كما في الحلية لأبي نعيم 2/209، وذم الكلام للهروي ص190.
(14)
شأن الدعاء ص 18، 19.
(15)
من المنديل، يريد الامتهان والابتذال.
(16)
الشفا للقاضي عياض 2/1096.
(17)
أخرجه الصابوني في عقيدة السلف أصحاب الحديث ص17، 18.
(18)
(أورد هذه القصة عبد الغني المقدسي في كتابه (الاقتصاد في الاعتقاد) ص 110.
(19)
انظر الحلية لأبي نعيم 4/230.
(20)
انظر طبقات السبكي 6/82.
(21)
الصارم المسلول في الرد على شاتم الرسول ص422- 424 باختصار.
(22)
انظر تفصيل ذلك في الصارم المنكي في الرد على السبكي لابن عبد الهادي ص385.
(23)
انظر سنن الدارمي 1/116 فما بعدها.
(24)
الديباج المذهب لابن فرحون 1/104.
(25)
أخرجه الهروي في ذم الكلام ص225.
(26)
انظر الإبانة الصغرى لابن بطة ص164.
(27)
انظر الإبانة الصغرى لابن بطة ص164.
(28)
طبقات السبكي 6/11.
(29)
الفوائد ص93.
دراسات قرآنية
مصادر التفسير
(3)
تفسير الصحابة للقرآن
-الحلقة الثالثة-
بقلم: مساعد بن سليمان الطيار
بعد أن أنهى الكاتب الحديث عن التفسير بالقرآن والتفسير بالسنة، تطرق في
الحلقتين الماضيتين إلى الحديث عن تفسير الصحابة باعتباره مصدراً ثالثاً للتفسير،
فذكر أهمية تفسيرهم، ثم بدأ يفصّل مصادرهم في التفسير، وأن له مرجعين:
أولاً: ما يرجع إلى النقل، فأورد تفصيل ذلك.
وفي هذه الحلقة يتحدث الكاتب عن المرجع الثاني وتفاصيل أخرى من
الموضوع.
ثانياً: ما يتعلق بالفهم والاجتهاد (الاستدلال) :
يكون معتمد المفسّر في هذا القسم العقل، ولا خلاف في أن الصحابة قد
اجتهدوا في بيان القرآن، وقد نبّه ابن الأثير إلى ذلك في شرحه لحديث: (من قال
في كتاب الله عز وجل برأيه
…
) [1] حيث قال: (وباطل أن يكون المراد به: أن لا يتكلم أحد في القرآن إلا بما سمعه، فإن الصحابة رضي الله عنهم قد
فسّروا القرآن، واختلفوا في تفسيره على وجوهٍ، وليس كل ما قالوه سمعوه من
النبي، وإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس، فقال:(اللهم فقّهه في الدين وعلّمه التأويل)[2] ، فإن كان التأويل مسموعاً كالتنزيل، فما فائدة تخصيصه بذلك؟) [3] .
ويشتمل هذا القسم على أربعة أنواع، هي:
1-
تفسير القرآن بالقرآن:
قد سبق الحديث عن أن تفسير القرآن بالقرآن مرجعه إلى الرأي، وذلك أن
ربط الصحابي بين آية وأخرى كان معتمداً على العقل، ولو كان عنده سندٌ إلى
رسول الله لذكره، مثل ما مرّ ذكره في تفسير قوله (تعالى) : [الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ
يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ] [الأنعام: 82] حيث أُسند إلى الرسول.
ومن الأمثلة الواردة عنهم في تفسير القرآن بالقرآن ما يلي:
عن عمر بن الخطاب في تفسير قوله (تعالى) : [وَإذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ]
[التكوير: 7] قال: تزويجها: أن يؤلف كل قوم إلى شبههم، وقال: [احْشُرُوا
الَذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ] [الصافات: 22][4] .
ومما يحسن بحثه في هذا الموضوع: كيفية استفادة الصحابة من القرآن في
تفسيرهم.
2-
تفسير القرآن بأقوال الرسول مما لم ينص فيها على التفسير:
سبق الحديث عن هذا القسم، وأن معتمد المفسر هاهنا العقل، وذلك لأن
الصحابي يجتهد في ربط الحديث بمعنى الآية.
ومن أمثلته: ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي
قال: (فضل صلاة الجمع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة، وتجتمع
ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح) يقول أبو هريرة: (اقرؤوا إن شئتم:
[وَقُرْآنَ الفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً] ) [5] .
فنلاحظ أن أبا هريرة نزّل الحديث على معنى الآية، فجعل اجتماع الملائكة
هو الشهود الذي يحصل في صلاة الفجر.
3-
التفسير اللغوي (المحتملات اللغوية) :
نزل القرآن بلغة الصحابة رضي الله عنهم ، ولذا: فهم أئمة التفسير اللغوي، وإذا روي عن أحدهم تفسير لغوي، فإن محلّه القبول.
وبالنظر إلى الألفاظ اللغوية المفسّرة تجد أنها على قسمين:
الأول: ألاّ يحتمل اللفظ إلا معنى واحداً، وهذا ما لا يقع فيه خلاف، وهو
أشبه بأن يجعل من القسم الذي طريقه السماع لا الاجتهاد، لعدم الحاجة لإعمال
الرأي في مثل هذا.
الثاني: ما يحتمل أكثر من معنى، والسياق محتمل لها جميعها، ففي مثل هذا
يكون التّميّزُ وإعمال الرأي اعتماداً على المعنى اللغوي، ومن أمثلة ذلك: ما ذكره
الطبري في تفسير قوله (تعالى) : [خِتَامُهُ مِسْكٌ][المطففين: 26] أن فيه ثلاثة
أقوال، اثنين منها عن صحابيين:
القول الأول: بمعنى خِلْطُهُ، وهذا قول ابن مسعود، قال: (أما إنه ليس
بالخاتم الذي يختم، أما سمعتم المرأة من نسائكم تقول: طيب كذا وكذا خلطه مسك) .
القول الثاني: بمعنى: آخر شرابهم، وهذا قول ابن عباس، قال: (طيّب
الله لهم الخمر، فكان آخر شيء جعل فيها حتى تختم بالمسك) [6] .
4-
ما يرجع إلى احتمال النص القرآني أكثر من معنى:
قد تحتمل الآية أكثر من معنى، فيذكر صحابي أحد هذه المعاني، ثم يذكر
الآخر معنًى غيره من المعاني المحتملة لهذا الخطاب القرآني، وقد يعتمد في
اختياره على ما سبق من الأقسام الثلاثة فيما يتعلق بالاجتهاد.
ومن أمثلة ذلك: تفسيرهم قوله (تعالى) : [لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ]
[الانشقاق: 19] ، ورد في قوله [لَتَرْكَبُنَّ] قراءات، منها: فتح التاء والباء،
وقد اختلف في: من وجّه إليه الخطاب؟ ، على قولين:
الأول: أن الخطاب موجّه للرسول، واختلف في معنى [طَبَقاً عَن طَبَقٍ]
على هذا القول على معنيين:
1-
لتركبن يا محمد حالاً بعد حال، وأمراً بعد أمر من الشدائد، وهذا مروي
عن ابن عباس من طريق مجاهد والعوفي.
2-
لتركبن يا محمد سماءً بعد سماءٍ، وهذا مروي عن ابن مسعود من رواية
علقمة.
الثاني: أن الخطاب موجّه للسماء، والمعنى: أنها تتغيّر ضروباً من التغيّر:
تتشقق بالغمام مرّة، وتَحْمَر أخرى، فتصير وردة كالدهان، وتكون أخرى كالمهل،
وهذا مروي عن ابن مسعود من رواية مرة الهمذاني وإبراهيم النخعي [7] .
في هذا المثال تجد لابن مسعود قولين في تحديد من وجّه له الخطاب، وفي
الأول يوافقه ابن عباس في هذه الجزئية، ثم يخالفه في معنى الركوب طبقاً عن
طبق.
وما كان ذلك الاختلاف إلا لاحتمال هذا النص هذه المعاني المذكورة، فأبدى
كل واحد منهما أحد هذه المحتملات.
مسألة: في اجتهاد الصحابة في حياة الرسول:
تُظهر بعض النصوص أن الصحابة كان لهم اجتهادات في فهم الخطاب
القرآني وتفسيره في عصر الرسول، وكان لاجتهادهم حالتان:
الحالة الأولى: أن يُقِرّ الرسول اجتهادهم، ومن ذلك: الأثر المروي عن
عمرو بن العاص، قال: بعثني رسول الله عام (ذات السلاسل) ، فاحتلمت في ليلة
باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيمّمت به، ثم صليت
بأصحابي صلاة الصبح، فلما قدمت على رسول الله ذكرت ذلك له، فقال:
(ياعمرو، صليت بأصحابك وأنت جنب؟ قلت: نعم يا رسول الله، إني احتلمت
في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، وذكرت قول الله:
…
[وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ][النساء: 29] فتيممت، ثم صليت، فضحك، ولم يقل
…
شيئاً) [8] .
ومنه: ما رواه الطبري عن هشام بن عروة عن أبيه، قال: (تلا رسول الله
يوماً [أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا][محمد: 24] ، فقال شاب من
أهل اليمن: بل عليها أقفالها، حتى يكون الله عز وجل يفتحها أو يفرجها، فما
زال الشاب في نفس عمر رضي الله عنه حتى وُلّيَ فاستعان به) [9] .
الحالة الثانية: أن يُصَحّح الرسول فهمهم للآية:
ومثاله: تفسيرهم الظلم، في قوله (تعالى) : [الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم
بِظُلْمٍ] [الأنعام: 82] ، فقد فهم الصحابة أن الظلم عام يشمل جميع أنواعه، وذلك
بقولهم: (وأينا لم يظلم نفسه) ، فأخبرهم الرسول بالمراد بالظلم في الآية، وأنه
الشرك [10] .
ومنه حديث عدي بن حاتم، في قوله (تعالى) : [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَكُمُ الخَيْطُ الأََبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأََسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ] [البقرة: 187] حيث عمد (رضي
الله عنه) إلى عقالين: أبيض وأسود، ثم جعلهما تحت وسادة، ثم جعل ينظر إليهما
في بعض الليل، فلم يستبينا، فلما أصبح أخبر الرسول بفعله، فأرشده الرسول إلى
أن المراد بهما سواد الليل وبياض النهار [11] .
ففي هذين المثالين تلاحظ أن الصحابة فهموا الآية على معنى محتمل، لكنه
غير المراد، فأرشدهم الرسول إلى المعنى المراد بالآية، ولم ينههم عن تفهّمِ القرآن
إلا بالرجوع إليه.
حكم تفسير الصحابي:
لا يصلح إطلاق الحكم على تفسير الصحابي جملة من حيث الاحتجاج به أو
عدمه، بل لابدّ من التفصيل في تفسير الصحابي.
لقد سبق ذكر أن الصحابة يجتهدون في التفسير، وهذا الاجتهاد عرضة للخطأ؛ لأن الواحد منهم غير معصوم حتى يقبل منه كل قوله.
ثم إن هذا الاجتهاد مدعاة لوقوع الاختلاف في التفسير، وبهذا لا يكون قول
أحدهم حجة؛ لأن الصحابة إذا اختلفوا لم يكن قول بعضهم حجة على بعضٍ.
ويمكن تنزيل الحكم مقسّماً على مصادرهم: النقلية والاستدلالية.
أولاً: المصادر النقلية:
يشمل الحكم على المصادر النقلية ما يلي:
أسباب النزول، وأحوال من نزل فيهم القرآن، والأمور الغيبية.
ويمكن القول بأن هذه الأمور الثلاثة لها حكم الرفع؛ لأن الصحابي ليس له
في هذه الأمور إلا النقل، وإن نُسب إليه التفسير، فإنما هو على سبيل التوسع في
إطلاق التفسير له، ولأنه هو الناقل له.
ويحترز في هذا الحكم مما يكون من قبيل الاجتهاد في (أسباب النزول) ، إذ قد
تُطلق عبارة النزول ويراد بها أن المذكور في النزول داخل في حكم الآية، وكثيراً
ما تصدّر بقولهم: نزلت هذه الآية في كذا وكذا.
ولذا: قد يرد عنهم أقوال كثيرة في سبب النزول، وهي غير صريحة في
السببية، وإنما تكون داخلة في حكم الآية، وهذا إنما قاله من قاله اجتهاداً منه.
ويلحق بهذا: أحوال من نزل فيهم الخطاب، إذ قد يقع الاجتهاد في حمل
معنى الآية على حالٍ من الأحوال.
وقد يرد في الآية سببان صحيحان صريحان، فتحمل الآية عليهما، ومن ذلك
ما يلي:
ما ورد في سبب نزول قوله (تعالى) : [نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَاًتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى
شِئْتُمْ] [البقرة: 223]
روى أبو داود عن ابن عباس، قال:(إن ابن عمر (والله يغفر له) أوهم؛
إنما كان هذا الحيّ من الأنصار وهم أهل وثنٍ مع هذا الحي من يهود وهم أهل
كتاب وكانوا يرون لهم فضلاً عليهم في العلم، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم، وكان
من أمر أهل الكتاب أن لا يأتوا النساء إلا على حرفٍ، وذلك أستر ما تكون المرأة، فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم.
وكان هذا الحيّ من قريش يشرحون النساء شرحاً منكراً، ويتلذذون منهن
مقبلات مدبرات ومستلقيات.
فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار، فذهب
يصنع بها ذلك فأنكرته عليه، وقالت: إنما كنّا نُؤتى على حرفٍ، فاصنع ذلك وإلا
فاجتنبني، حتى شَرِيَ (انتشر) أمرهما، فبلغ ذلك رسول الله، فأنزل الله (عز
وجلّ) : [نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَاًتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ][البقرة: 223] أي: مقبلات
ومدبرات ومستلقيات، يعني بذلك: موضع الولد) . [12]
وروى البخاري عن جابر في نزول هذه الآية ما يلي: (كانت اليهود تقول:
إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فنزلت [نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَاًتُوا حَرْثَكُمْ
أَنَّى شِئْتُمْ] ) [13] .
ففي هذين السببن ترى ما يلي:
1-
أنها تحكي حالاً من أحوال من نزل فيهم القرآن، وقد سبق أن السبب قد
يكون في ذكر حالٍ من أحوال العرب.
2-
أن ابن عباس ذكر السبب في قضية طريقة الجماع في خبر الرجل
القرشي والأنصارية.
3-
أن جابر ذكر السبب في نتيجة إحدى طرق الجماع.
وقد أنزل الله هذه الآية لإبطال هذين الحالين اللذين كان يعمل بهما اليهود
والأنصار.
هذا، وقد أخبر الحاكم أن سبب النزول له حكم الرفع؛ فقد قال بعد حديث
جابر السابق: (هذا الحديث وأشباهه مسندة عن آخرها، وليست بموقوفة، فإن
الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل، فأخبر عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا
وكذا، فإنه حديث مسند) . [14]
* كما يحترز في المغيبات من أن تكون من مرويات بني إسرائيل، فإذا
سلمت من ذلك فإن لها حكم المرفوع؛ لأن الأمور الغيبية لا يمكن القول فيها
بالاجتهاد.
ومن أمثلته: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه في تفسير (الكرسي)
بأنه (موضع قدمي الرحمن) .
فهذا المثال يتعلق بصفات الله عز وجل ولا سبيل للوصول إليها إلا بالنقل،
ولا مجال للاستنباط فيها.
فإن قيل: إن ابن عباس قد اشتهر عنه الأخذ من مرويات بني إسرائيل،
وعليه: فإن هذا التفسير يحتمل أن يكون مما تلقّاه عنهم؟ .
فالجواب: أنه لا يُظنّ بابن عباس أنه يرجع إليهم في معرفة صفات الله،
وهم من أهل التعطيل لها، فمثل هذه المسائل المتعلقة بالله لا تؤخذ إلا من المعصوم
في خبره، وهو الرسول.
ثم إن ابن عباس لم ينفرد بهذا التفسير، بل قد صحّ عن أبي موسى [15]
…
مثل قول ابن عباس، وهذا مما يُعزّز قول ابن عباس، ويدل على تلقيه من
الرسول، والله أعلم.
أما ما يثبت من هذه المغيبات أنه من الإسرائيليات فإنه ينظر إليه:
إن كان موافقاً لما في الكتاب والسنة قُبِلَ، وإن كان مخالفاً لهما رُدّ وترك،
وإن لم تظهر فيه موافقة ولا مخالفة فالحكم فيه: التوقف، والله أعلم.
ثانياً: المصادر الاستدلالية (الاجتهاد) :
سبق تقسيم هذه المصادر إلى أربعة أقسام، وسيكون الحديث هنا عامّاً عنها.
والتفسير إما أن يكون بياناً عن لفظٍ، وإما أن يكون بياناً عن معنىً.
فإذا لم يحتمل اللفظ أو المعنى المراد إلا تفسيراً واحداً لا غير، فإن هذا مما لا
مجال للاجتهاد فيه، وحكم هذا التفسير: القبول؛ لعدم احتمال غيره.
أما إذا وقع الاحتمال في الآية، فإن هذا مجال الاجتهاد والرأي، وإذا كانت
الآية محتملة لأكثر من قول، فإن هذا الاجتهاد يحتمل أمرين:
الأول: أن يكون مما توافق عليه اجتهاد الصحابة (أو كان في حكمه؛
كالإجماع السكوتي) فإن هذا حجة يجب قبوله عنهم.
الثاني: أن يقع بينهم خلاف مُحقّق، ففي هذه الحالة لا يمكن القول بحجيّة
هذه الأقوال، ولا بأحدها على الآخر؛ لأن قول أحدهم لا يكون حجة على الآخر،
فلا يقال: معنى الآية كذا لأنه قول ابن عباس، مع وجود مخالفٍ له من الصحابة.
وإنما يكون عمل من بعدهم في مثل هذه الحالة الترجيح بدليل صالح للترجيح، ومحلّ هذا البحث موضع آخر، وهو قواعد الترجيح؛ لأن المراد هنا بيان ما
يكون حجة وما لا يكون من أقوال الصحابة.. والله أعلم.
(1) أخرجه أبو داود، كتاب العلم، وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود، ح/790 البيان.
(2)
أخرجه أحمد، ج1ص266، وصحح إسناده أحمد شاكر، ح/2397، ح/2881 البيان.
(3)
جامع الأصول، ج2ص4.
(4)
انظر: الدر المنثور، ج 8 ص430.
(5)
انظر: فتح الباري، ج 8 ص251.
(6)
انظر أقوالهم في تفسير الطبري، ج30 ص106، 107.
(7)
انظر مروياتهم في تفسير الطبري، ج30 ص122، 124.
(8)
أخرجه أحمد وأبو داود.
(9)
تفسير الطبري، ج 26 ص58.
(10)
انظر رواية ذلك في صحيح البخاري (فتح الباري، ج 1 ص110، ج 6 ص448) .
(11)
انظر روايته في صحيح البخاري (فتح الباري، ج 8 ص231) .
(12)
انظر: عون المعبود، ج 6 ص204، 205.
(13)
انظر: فتح الباري، ج 8 ص37.
(14)
معرفة علوم الحديث، ص20.
(15)
أشار إلى روايتهما ابن حجر في الفتح (ج 8ص47) ، وقد صحح إسناد أبي موسى.
دراسات سياسية
القانون الدولي الإسلامي (علم السير) ..
مفهومه تدوينه خصائصه
بقلم:عثمان جمعة ضميرية
تمهيد:
من طبيعة الفقه الإسلامي وخصائصه: أنه يلبي مصالح الناس، ويحيط
بالوقائع والحوادث المستجدة، وفي مصادره من الخصوبة والمرونة، وفي ضوابطه
وقواعده من العموم والشمول ما يكفل مواجهة تطور الناس واحتياجاتهم، فإن كل ما
يحدث للناس من وقائع في هذه الحياة لها في الشريعة أحكام: نصّاً أو دلالة، على
ما قاله الإمام الشافعي رحمه الله : (إذ ليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا
وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها) [1] (كل ما نزل بمسلم: ففيه حكم
لازم، أو على سبيل الحق فيه دلالة موجودة، وعليه إذا كان فيه بعينه حكم:
اتّباعه، وإذا لم يكن فيه بعينه: طلب الدلالة على سبيل الحق فيه بالاجتهاد
…
)
والأصل في هذا آيات كثيرة، كقوله (تعالى) : [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ
مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإذْنِ رَبِّهِمْ إلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ] [إبراهيم: 1] ،
وقوله (تعالى) : [وَأََنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]
[النحل: 44] وقد أوفى الإمام الشافعي رحمه الله على الغاية في هذا المعنى؛
حيث قرر: أن جماع ما أبان الله لخلقه في كتابه، مما تعبدهم به لما مضى من
حكمه (جل ثناؤه)، من وجوه: فمنها ما أبانه نصّاً، مثل جمل فرائضه في: أن
عليهم صلاة وزكاة وحجّاً وصوماً
…
ومنها: ما أحكم فرضه بكتابه، وبيّن كيف
هو على لسان نبيه، مثل: عدد الصلاة، والزكاة، ووقتها، وغير ذلك
…
ومنها:
ما سن رسول الله، مما ليس لله فيه نصّ حكم، وقد فرض الله في كتابه طاعة
رسوله والانتهاء إلى حكمه
…
ومنه: ما فرض الله على خلقه الاجتهاد في طلبه،
وابتلى طاعتهم في الاجتهاد، كما ابتلى طاعتهم في غيره مما فرض عليهم.. فإنه
يقول: [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ] [محمد:
31] .
وقد اهتم فقهاء الإسلام (رحمهم الله تعالى) اهتماماً بالغاً بالقضايا والوقائع
المستجدة وأفردوها بالتأليف، عنايةً بها وإعلاءً لمكانتها وموضوعها، وهذا ما نجده
في جانب الجهاد والسير، وهو موضوع (القانون الدولي العام) بالمفهوم المعاصر [2](ومما لا شك فيه أن مصطلح (القانون الدولي) من المصطلحات الحديثة التي لم يستخدمها الفقه الإسلامي، ومع ذلك، فليس من نتائج عدم استخدام المصطلح: أن هذا الفقه لم يعرف الأحكام القانونية الدولية، فقد عرفها ولكن في إطار آخر حيث تناول الفقه الإسلامي علاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول الأخرى في أبواب الجهاد، وفيما كتبه الفقهاء عن السير والمغازي، وفي بعض المؤلفات عن الخراج والسياسة الشرعية كذلك) [3] .
وقد سميت هذه الأحكام بالسّيَر (جمع سيرة) ؛ لأنها طريقة معاملة المسلمين
لغيرهم، فلا نكون مغالين إذا قلنا: إن أئمة الإسلام وفقهاءه عُنُوا منذ البدء بوضع
أسس القانون الدولي، وإن كانت هذه الأسس تخص أحكام أو قانون الحرب في
أكثرها، وقد وجد الإسلام منذ نزوله أعداء مناوئين، فحارب من حاربه وسالم من
سالمه، ووضع الحدود والقواعد لحربه وسلمه وما يعرض له فيهما من المسائل
الكثيرة التي تتعلق بالمحاربين والمسالمين وأشباه ذلك، مما أحله الفقه الإسلامي
أسنى مكان، حتى إنه ليمكن أن يقال: إنه عني بما تقدم من القواعد واتسع لها
صدره أكثر من غيرها من الأحكام السياسية؛ لأنها نشأت مع الإسلام ونمت بنموه،
وكانت نتيجة لازمة للجهاد والفتوحات الإسلامية العظيمة [4] .
وهذا يدعونا لتعريف علم (السير والمغازي) وموضوعه ونشأته، لنتعرف من
خلاله على علم العلاقات الدولية والقانون الدولي الإسلامي بوضوح
…
وموضوع
السيرة والمغازي هو: عرض حياة الرسول، بذكر الأخبار التي تروى عنه
بالروايات المسنَدَة مرتبة على السنين، بحسب وقوع الحوادث التي تشير إليها
الأحاديث والأخبار [5] . فهي إذن: تبحث في حياة الرسول منذ إرهاصات مولده
حتى انتقاله إلى الرفيق الأعلى، وتبحث في حياة صحابته الذين جاهدوا معه،
وصدقوا ما عاهدوا الله عليه، وفي تاريخ انتشار الإسلام الذي ابتدأ بنزول الوحي
على النبي إلى أن دانت الجزيرة العربية به، ودخل الناس في دين الله أفواجاً [6] .
ولئن استعملت كلمة (السيرة) وعرفت قبل أن يجعلها ابن هشام عَلَماً على كتابه،
الذي اختصر فيه سيرة ابن إسحاق كما نجدها في بعض الكتابات التاريخية، فإنها
بعد نشأة التدوين للعلوم الإسلامية واستقلالها بالتأليف أصبحت (إذا جاء لفظها مفرداً
معرفاً قصد به تخصيصاً: (السيرة النبوية)، أي: تاريخ حياة الرسول من مولده
إلى وفاته مع ذكر آبائه وأهل بيته وصحابته، فضلاً عن ذكر خصاله وأحواله
وعاداته، ثم الأحداث المرتبطة بالدعوة، كالوحي والهجرة والغزوات والوفود) [7] ، وإن كان بعض العلماء يرون أن مصطلح (السيرة) في عرف الشرع متى أطلق
يراد به طريقة رسول الله في مغازيه على الخصوص.
وأما كلمة (المغازي)، فإنها كانت تعني من حيث وضعها اللغوي: (الحروب
والغزوات) ، ثم تخصص معناها فصارات تعني الحروب التي اشترك فيها الرسول
وصحابته.. ولكن هذا الاسم تدرج في الزمن فاتسع معناه وشمل تاريخ حياة النبي.
ونعلم مما تقدم أن اللفظتين (السيرة) و (المغازي) مستعملتان بمعنى واحد، لا يُفرق
بينهما؛ فقد ذكر الحافظ ابن كثير (سيرة ابن إسحاق) وقال: (قال ابن إسحاق في
المغازي) [8] .
بقي أن نقول كلمة عن منهج هؤلاء المؤرخين والمحدثين في كتبهم عن
(السير) : وهو أنه يتكون من أخبار دقيقة مضبوطة متفرعة من علم الحديث،
ولذلك نالها ما ناله من نقد وتمحيص، وكانت هذه السيرة تتألف من القصص
الصحيحة والخيالية التي أحاطت بشخص الرسول؛ بسبب إجلال المسلمين له،
وأخذ المؤرخون يجمعون هذه القصص ويركبونها ويربطون بينها، مستعينين
بالآيات القرآنية الكريمة، إلا أن منهج المحدثين الدقيق في الرواية كان له الغلبة
على منهج المؤرخين، بما له من صبغة علمية دقيقة، وكان غالباً في المدينة أكثر
منها في أي موطن آخر؛ لارتباط المؤرخين فيها بالأحاديث الصحيحة أكثر من
المؤرخين الآخرين، ففي المدينة ولد منهج تاريخ (السير والمغازي) المتفرع من
الحديث والمتأثر به في بادئ الأمر، حيث ظهر الإسناد عند أول كاتبين فيه، وهما:(أبان بن عثمان) و (عروة بن الزبير) ، وإن لم يصر ضربة لازب، وأخذت
السير والمغازي تتطور سريعاً، فنجد الزهري يخطو بالتاريخ خطوة إلى الأمام، إذ
يحاول أن يربط بين الأحاديث
…
ويتوّج هذا التطور بمحمد بن إسحاق الذي يمثل
تطور الكتابة في السير، فتتمثل في (سيرته) كل التيارات التاريخية الموجودة في
عصره [9] .
وقد عرض العلماء والكتاب المعاصرون لتعريف علم السير، فقال الشيخ
محمد أبو زهرة: (يراد بالسير: أحكام الجهاد والحرب، وما يجوز فيها وما لا
يجوز، وأحكام الصلح والموادعات، وأحكام الأمان وممن يجوز، ثم أحكام الغنائم
والفدية والاسترقاق، وغير ذلك مما يكون في الحروب وأعقابها
…
) [10] ،
ويقول أستاذنا (د. مصطفى كمال وصفي) : (ويسمى العلم الذي يبحث في علاقات
المسلمين بالأمم الأخرى باسم: (علم السير)، أي: سيرة المسلمين في غيرهم من
الأمم من حربيين ومعاهدين ومستأمنين وأهل ذمة) [11] ، ثم يوازن بينه وبين
القانون الدولي العام، فيقول: (وهو يختلف في موضوعه عن القانون الدولي العام
الحديث في أن الأصل فيه: أنه يبحث في التزام المسلمين نحو غير المسلمين، ولو كانوا أفراداً يسكنون دار الإسلام، فهو ليس مخصصاً لبحث العلاقات الدولية فقط) [12] .
ونخلص إلى تعريف علم السير، بأنه: (العلم الذي يبحث في تنظيم العلاقة
بين المسلمين وغير المسلمين في حال السلم والحرب) .
القانون الدولي الإسلامي:
لم يستخدم فقهاء الشريعة مصطلح (القانون الدولي) ؛ لأنه من المصطلحات
الحديثة، وقد استخدم علماء الإسلام كلمة (القانون) بصيغة المفرد عنواناً على
مؤلفات في فنون مختلفة كاللغة والتوحيد والفقه منذ قرون، فكان هذا مؤشراً على
جواز ذلك، وأنه لا محذور فيه ما لم يتعد التسمية إلى التأثر بمضمون أجنبي عن
الإسلام، ومن الأمثلة على ذلك: كتاب (قوانين الوزارة) للماوردي، في السياسة
الشرعية، و (قانون التأويل) للقاضي أبي بكر بن العربي، وهو يتناول القواعد
المنهجية لطلاب العلوم الشرعية [13] .
وفي العصر الحديث درج كثير من الكتاب والمؤلفين في الفقه الإسلامي على
استخدام كلمة القانون في فروع كثيرة من الفقه، مثل:(قانون الأحوال الشخصية)
و (القانون الجنائي) و (القانون الدستوري) و (القانون الإداري) و (القانون الدولي)
مضافة إلى الإسلام أو الشريعة، ولعل ذلك كان نتيجة الدراسة المقارنة بين الشريعة
والقانون، ورغبة في تقريب أحكام الفقه الإسلامي إلى الدارسين غير المتخصصين
من دراسي القانون الوضعي، ولأسباب أخرى غير ذلك.
ولذلك حاول بعض الباحثين والكتاب تعريف القانون الدولي الإسلامي، ومن
هذه التعريفات:
عرفه د. محمد حميد الله الحيدرآبادي بأنه: (ذلك القسم من قواعد القانون
والعرف في الدولة، ومن الالتزامات التي تضمنتها المعاهدات التي ترعاها الدولة
الإسلامية القائمة فعلاً، أو قانوناً في تعاملها مع الدول الأخرى القائمة فعلاً، أو
قانوناً) [14] ، بينما لا يعتقد أستاذنا د. جعفر عبد السلام أن وضع تعريف للقانون الدولي في الشريعة الإسلامية من المسائل الدقيقة، خاصة وأن المحاولات التي بذلت للقيام بهذه المهمة حديثاً لم تتفق على هذا المدلول، ويعتقد أن الأفضل في مجال دراسة الشريعة: الإبقاء على المصطلحات الأساسية لها، وعدم تعريف المصطلحات الأجنبية وفقاً لأحكام الشريعة حتى تظل المقارنة في إطارها الصحيح [15] .
إن اهتمام فقهاء الإسلام بهذا الجانب من الفقه جعلهم يفردونه بالتأليف؛ تمهيداً
لقواعده، وبسطاً لأحكامه، وبياناً لآثاره؛ ولذلك سنُلمع هنا إلى التطور التاريخي
لتدوين (علم السير) عند الفقهاء، مع أثارة من منهجهم الذي يقوم على سرد الوقائع
والحوادث ضمن ما اتخذوه من منهج علمي دقيق في الرواية يقوم على الإسناد.
فقد كان الفقهاء المتقدمون من الصدر الأول يتناولون موضوع السير إما في
(باب الجهاد) أو في أبواب أخرى: كالمغازي، والغنائم، والردة، وعهد الأمان،
والجزية، وتفاوتت عنايتهم واهتمامهم بهذا الجانب، تأليفاً، وتدريساً، وكان من
أوائل الفقهاء الذين أولوا هذا الجانب عناية: الإمام الشعبي، والأوزاعي،
…
والثوري، والفزاري، إلا أن أبا حنيفة وتلاميذه كان لهم القدح المعلى في ذلك.
وأول من صُنف في (السير) واتخذ هذا المصطلح للدلالة على ما نسميه اليوم
القانون الدولي الإسلامي هو: الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت، وهذا ما يميل إليه
الباحثون في هذا العلم، فقد قال أبو الوفا الأفغاني:(إن من أقدم ما صنف في السير (كتاب السير) للإمام أبي حنيفة النعمان، أملاه على أصحابه: أبي يوسف، وزفر، وأسد بن عمرو، والحسن بن زياد اللؤلؤي، وحفص بن غياث النخعي، ومحمد
بن الحسن الشيباني، وعافية بن يزيد، وحماد ابنه.. وأضرابهم من الأئمة الكبار،
فرووه عنه، وزادوا فيه، ورتبوه، وهذبوه، حتى نسب إليهم، نحو كتاب (السير)
للحسن بن زياد، و (السير الصغير) للإمام محمد بن الحسن) [16] .
وأما الذي كان له عناية خاصة بعلم السير، وأفرده بالتأليف، واستقصى
أحكامه وما يتعلق به، فهو الإمام محمد بن الحسن الشيباني؛ يقول د. محمد حميد
الله: (لعل اتخاذ هذا المصطلح (السير) للدلالة على القانون الدولي الإسلامي كان
في القرن الثاني الهجري، فقد عُرف عن أبي حنيفة أنه أول من استعمل مصطلح
(سيرة) لتمييز مجموعة من دروسه التي كان يلقيها عن قوانين الإسلام في الحرب
والسلم، وقد نشرت هذه الدروس منقحة على أيدي عدد من تلاميذه، وصل إلينا
منها بصورة من الصور كتابا (السير الصغير) و (السير الكبير) للشيباني، وقد نقد
فقيهَ العراق أبا حنيفة فقيهٌ معاصر له، هو إمام الشام الأوزاعي، ولم يصلنا ماكتبه
الأوزاعي، ولكن وصلنا ما نشره ردّاً عليه تلميذ أبي حنيفة الشهير (أبو يوسف)
باسم (الرد على سير الأوزاعي) ، ويشير الشافعي كذلك إلى سير الأوزاعي في
كتاب (الأم) ، كما يشير إلى سير الواقدي، ومن ثم: يبدو أن الكلمة قد صارت
مصطلحاً فنيًّا يشيع استعماله بين الفقهاء في مختلف العصور) [17] .
وبعد هذه الإلمامة في علم السير نلاحظ أن هذه النشأة كانت في القرن الثاني
الهجري، ثم اتسعت الكتابة فيما بعد وتنوعت، وأن فقهاء السنة كان لهم فضل
السبق في ذلك، ولكن بعض الباحثين يذكر كتاباً للإمام زيد بن علي بن الحسين بن
علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد كان فقيهاً ومحدثاً وقد دون أحد تلاميذه
كتابين، هما:(مجموع الحديث) و (مجموع الفقه)، ويسمى كلاهما: (المجموع
الكبير) ، وتلميذه هذا هو (أبو خالد الواسطي) ، ونجد في هذا (المجموع الكبير)
للإمام زيد ترتيباً لكتبه وأبوابه كترتيب كتب الفقه، ومنها كتاب (السير) ، وأول
باب فيه: (باب الغزو والسير) ، ثم تتابعت الأبواب في فضل الجهاد والشهادة،
وقسمة الغنائم، والعهد والذمة
…
وقد اختلف العلماء حوله في أمرين: أولهما: قبول راوي المجموع، حيث
جرحه علماء السنة واتهموه بالوضع ووثقه علماء الزيدية وقبلوا روايته واعتمدوها،
…
وثانيهما: كيفية تدوين المجموع؛ هل دونه الإمام زيد رضي الله عنه بقلمه
ونقله عنه أبو خالد، أم أنه أملاه على تلميذه، أم روى عنه تلميذه (مجموع
الأحاديث) و (مجموع الفقه) ثم دونهما ورتبهما؟ ، وانتهى الشيخ أبو زهرة بعد
مناقشة ما قيل في هاتين المسألتين إلى أن العلماء تلقوا (المجموع) في كل الأجيال
بالقبول.
ولكن الدراسة المتأنية للمجموع تصل إلى نتيجة مخالفة لهذا القول، تجعلنا لا
نطمئن إلى نسبة هذا الكتاب للإمام زيد رضي الله عنه ، فإذا رجعنا إلى أقوال
جهابذة علماء الجرح والتعديل من أهل السنة: فإننا لن نرتضي قبول رواية (أبي
خالد الواسطي) الذي انفرد برواية (المجموع) عن الإمام زيد؛ لأنه كذّاب وضاع،
كما أنه تفرد بروايته عن أبي خالد: إبراهيم ابن الزبرقان، هذا فضلاً عن عدم ذكر
رجل كابن النديم هذا الكتاب في (فهرسته)[18] مع عنايته الشديدة بذكر الفقهاء من
الشيعة بصفة عامة [*] .
…
وللحديث بقية.
(1) الرسالة للشافعي ص 20 ت: أحمد شاكر.
(2)
ولا يعني هذا تطابقاً بينهما، انظر المشروعية في النظام الإسلامي، د مصطفى كمال وصفي ص50 تعليق (1) .
(3)
عن قواعد العلاقات الدولية في القانون الدولي والشريعة، د جعفر عبد السلام.
(4)
الشرع الدولي في الإسلام د نجيب الأرمنازي ص44، 45.
(5)
حدائق الأنوار في سيرة النبي المختار لا بن الدبيع الشيباني ص3 (طبعة قطر) .
(6)
فقه السيرة النبوية، منير الغضبان ص93 (طبعة جامعة أم القرى، بمكة) .
(7)
القاموس الإسلامي، لأحمد عطية: 3/595، وسيرة ابن هشام: 1/3 مقدمة المحقق.
(8)
البداية والنهاية لابن كثير: 3/242.
(9)
نشأة التدوين عند العرب د حسين نصار ص67 -70.
(10)
من تقديم أبي زهره للسير الكبير بشرح السرخسي ص33.
(11)
المشروعية في النظام الإسلامي د وصفي ص280.
(12)
المرجع نفسه ص49.
(13)
طُبِعَ بتحقيق الأستاذ / محمد السليماني دار القبلة بجده.
(14)
(دولة الإسلام والعالم) ص14 ترجمة د فتحي عثمان.
(15)
قواعد العلاقات الدولية: ص31، 32.
(16)
الرد على سير الأوزاعي: مقدمة المحقق ص1.
(17)
دولة الإسلام والعالم، د حميد الله، ص 23 - 24 والسير للشيباني: ص 53 مقدمة المحقق.
(18)
عصر نشأة المذاهب: د محمد يوسف موسى ص74.
(*) عن بحث بالعنوان نفسه للكاتب لم يطبع بعد.