المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌العولمة الاقتصادية.. ومؤتمر الإيواء البشري - مجلة البيان - جـ ١٠٢

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌العولمة الاقتصادية.. ومؤتمر الإيواء البشري

في دائرة الضوء

‌العولمة الاقتصادية.. ومؤتمر الإيواء البشري

بقلم: محمد عبد الله الشباني

عقد خلال الفترة من الثالث حتى الرابع عشر من شهر يونيو لعام 1996م في

استنبول مؤتمر الإيواء البشري تحت مظلة الأمم المتحدة، وهذا المؤتمر حلقة من

حلقات المؤتمرات التي دأبت الأمم المتحدة على عقدها وفق دعايتها بتحسين أوضاع

العالم الاقتصادية والتجارية والعمرانية والسياسية والاجتماعية، - لكن حقيقة الأمر

بخلاف ذلك، بل إن هذه المؤتمرات أداة تستخدمها الرأسمالية اليهودية للسيطرة

على العالم اقتصاديّاً وفكريّاً من خلال تأطير السلوك الاجتماعي والسياسي ليوافق

الفكر العلماني الذي تقوم عليه الرأسمالية اليهودية المعاصرة.

إن الإطار الفكري الذي تقوم عليه فكرة المؤتمر وما طرح في وثيقته من أفكار

وأساليب مطلوب من الدول المشتركة في هذا المؤتمر تبنيها لحل مشكلة تؤرق

السياسيين في مختلف أقطار العالم وهي (مشكلة الإيواء وتوفير الأماكن الكافية

لاستيعاب ملايين البشر (، هذا الإطار ما هو إلا غطاء للتسلل لاحتواء موارد

الدول الفقيرة واستغلالها لصالح المؤسسات المالية والمالكين لها من دهاقنة اليهود

والمتهودين فكراً وسلوكاً، ونشر الأنماط السلوكية التي أفرزتها الفلسفة الجدلية

المادية، التي من مقتضياتها الانفلات السلوكي: سواء ما كان له ارتباط بالمنهجية

الاقتصادية، وما يرتبط بذلك من حرية مطلقة في استلاب الآخرين، وتحقيق

المنفعة الفردية على حساب المنفعة الجماعية مع استبعاد الجوانب الأخلاقية في

السلوك الاقتصادي، أو ما كان له ارتباط بأنماط السلوكيات الاجتماعية لسيطرة

الرأسمالية اليهودية ممثلة في الولايات المتحدة بوصفها قوة وحيدة بتمكين هذه القوة

الجديدة من الاستحواذ على العالم؛ ليكون القرن الحادي والعشرين قرن أمريكا.

أهداف المؤتمر:

إن أهداف المؤتمر الذي حددتها مسودته (جدول أعماله) تلبس الحق بالباطل؛

حيث تعلن مفاهيم عامة وتمنيات تُدغدغ بها رغبات الحكومات الفقيرة التي ترزح

تحت وطأة الفقر والحاجة والتخلف، ولكنها في الواقع سراب يُنْفَذُ من خلاله إلى

الهدف الحقيقي المغلف بهذا السراب.

فمن الأهداف المشار إليها في وثيقة المؤتمر التي هي مدخل للأهداف الحقيقية

الأمور التالية:

1-

المساواة والعدالة لجميع الأفراد، للحصول على الإيواء وتوفير البنية

التحتىة المكملة للمسكن الملائم.

2-

استئصال الفقر، من خلال توفير المأوى للفئات ذات الدخل المنخفض مع

حق اختيار العمل والحصول عليه.

أما الأهداف الحقيقية للمؤتمر فيمكن فهمها من خلال ما رسم من إجراءات

تنفيذية لتحقيق الأهداف الفضفاضة، وما امتزج ضمنها من مفاهيم أدرجت لتخدم

الغرض الحقيقي للمؤتمر، ويمكن تحديدها على النحو التالي:

1-

العمل على تغيير مفهوم الأسرة القائم عل الأسس الدينية والقيم الاجتماعية

الفطرية، وتوسيع هذا المفهوم ليشمل أنماطاً من الأشكال التي تم تبنيها في المجتمع

الغربي بوجه عام، وفي الولايات المتحدة بوجه خاص؛ من خلال تغيير معالم

ومكونات الأسرة كما عرفتها الإنسانية، حيث أشار البند (18) من الوثيقة إلى

شمول الإيواء لمختلف أشكال الأسر، والمقصود من ذلك: منح الشاذين جنسيّاً

الذين يكونون فيما بينهم أُسَراً، وتلك الأشكال من العلاقات بين الرجال والنساء

الذين لا يرتبطون بعلاقات شرعية، مساكن للإيواء.

2-

توسيع النظام الربوي، وتمكين المؤسسات المالية الربوية من السيطرة

على المقدرات المالية لدول العالم الثالث، من خلال عمل شبكة من البنوك

ومؤسسات الإقراض، وربط تمويل توفير المباني والبنية التحتىة لمشاريع الإيواء

بالإقراض الخارجي، البند (30) .

الالتزامات المطلوب تنفيذها لتحقيق الأهداف:

من أهم الالتزامات المطلوب تبنيها من قبل المشاركين في هذا المؤتمر

والموقعين على وثيقته الأمور التالية:

1-

تغيير قوانين الملكية الخاصة بالأراضي: سواء الزراعية أو السكنية،

وقوانين الإسكان والإيجارات، وفتح باب سوق شراء وبيع العقارات، وإزالة جميع

العوائق الخاصة بتوفير المناخ الملائم لحرية السوق العقاري (البند 56 من الوثيقة) .

2-

تغيير وتعديل الأنظمة لتسهيل حركة الأموال وربط تمويل الإسكان

بالنظام المالي العام للدولة وتعديل السياسة النقدية والمالية لتوفير روح المنافسة،

لتتحرك الأموال من أجل توفير القروض للفقراء، مع توفير الإمكانية لأنظمة

الإقراض لتحقيق استعادة القروض من خلال توفير القوانين والأنظمة لذلك، وإقرار

برامج رهن المساكن لمؤسسات الإقراض المتعددة (البند: 61) .

3-

ربط اقتصاديات الدول المتخلفة باقتصاديات الدول الرأسمالية ضمن

المفهوم الذي تبشر به الوثيقة، وهو الاقتصاد الدولي، كما أشارت إليه البنود

(140، 147، 150) ، من الوثيقة، حيث تم التأكيد على ربط السلطات المحلية

بالسوق المالي الدولي ومؤسسات الإقراض الخاصة بالشؤون البلدية، مع العمل

على توفير البنية التي تسمح للاقتصاد الدولي في النمو، والمساهمة في بناء البنية

التحتىة لمشاريع الإيواء وتكوين المراكز الحضرية.

إن تبني الأهداف وقبول الالتزامات التي حددتها الوثيقة التي تم التوقيع عليها

في مؤتمر استنبول يعني التمكين لما يعرف في مجال الدراسات الاقتصادية (بعولمة

الاقتصاد) تحت قيادة صندوق النقد الدولي والمؤسسات التابعة له.

وظاهرة (العولمة) التي أخذت في الازدياد في الفترة الأخيرة لها خطورتها

على النمو الاقتصادي والحضاري والثقافي للمجتمعات المتخلفة، وبخاصة

المجتمعات الإسلامية؛ حيث يتوفر في بلاد المسلمين مصادر الثروات الطبيعية؛

مما يدفع إلى الاستحواذ عليها من قبل الرأسمالية اليهودية العلمانية.

إن أهم مظاهر عولمة الاقتصاد هي: زيادة نمو الشركات المتعددة الجنسية،

ومؤسسات الإنتاج الدولية الطابع والعالمية النشاط، وقد أدى هذا الأمر إلى التشابك

بين مؤسسات الإنتاج على الصعيد القطري والإقليمي، واتجاه الشركات القطرية

إلى توسيع رقعة أنشطتها لتخرج به خارج الحدود الوطنية أو القومية وصولا إلى

المستوى الكوني، والشكل الذي تأخذه العولمة هو قيام المؤسسات الضخمة بمد

نشاطها خارج حدودها الوطنية وإنشاء فروع شبه مستقلة ولكنها تابعة لها في بلدان

الدول المتخلفة، أو تحويل الكيانات القائمة للشركات القومية؛ لتُكوّن فروعاً لها

وتوابع لنشاطها.

لتتضح أبعاد ظاهرة العولمة الاقتصادية أو ما يمكن تسميته بظاهرة الرأسمالية

متعددة الجنسية التي تجمع لديها عناصر القوة الاقتصادية، وما يمكن أن توظفه من

قوة سياسية أو تمارسه من ضغوط على الدول المتخلفة غير القادرة على التعامل

بندية مع هذه الكيانات العملاقة، فالإحصاءات توضح مدى خطورة هذا التمركز

الرأسمالي

فإذا عرفنا أن إيرادات أكبر خمسمئة شركة في العالم بلغ في عام

1994م نحو عشرة تريليون ومئتين وأربع وخمسين بليون دولار، وإذا تم مقارنة

ذلك بمجموع الناتج المحلي الاجمالي لدول العالم في سنة 1993م (الذي كان أكثر

قليلاً من ثلاثة وعشرين تريليون دولار) ، أدركنا مدى خطورة تركز الأموال لدى

الرأسمالية العالمية.

إن السؤال الذي يبرز هنا هو: لماذا تتجه الرأسمالية اليهودية في نقل وتركيز

بعض عمليات الإنتاج في الدول المتخلفة؟ .. وإن الهدف الحقيقي هو البحث عن

أعلى معدلات للربح، وهو هدف سهل يمكن تحقيقه بعد أن قامت الرأسمالية

اليهودية بالدفع إلى تبني السياسات الليبرالية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وفشل

الفكر الاشتراكي في تحقيق النمو الاقتصادي للدول التي تبنته.

ومن هنا: نجد أن القوى الرأسمالية من خلال مؤسسات الأمم المتحدة المالية

(البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وتوابعهما) وبعد أن تزعمت الولايات المتحدة

العالم؛ أخذت بالدعوة إلى تبني أساليبها الاقتصادية، حيث أصبح تبني هذه السياسة

بدون نظر لمحاذيرها هو التوجه لدى دول العالم المتخلف وبخاصة دول العالم

الإسلامي، فقد أخذ البنك الدولي بتوجيه من الولايات المتحدة بإجبار دول العالم

الإسلامي إلى إعادة هيكلة اقتصادياتها على ضوء هذه السياسة الليبرالية، فاتجهت

لخارج دولها لجذب رأس المال الأجنبي، وتبني مفهوم القطاع الخاص من خلال

استخدام آليات السوق وما يتطلبه ذلك من تحجيم واضح في الملكية العامة، وتدخل

الدولة في النشاط الاقتصادي، وهذا ما تتبناه وثيقة استنبول لحل مشكلة الإيواء.

إن عولمة الاقتصاد الذي تُطالب به الأمم المتحدة برئاسة الولايات المتحدة

حيث يحل مشروع أممية رأس المال بدلاً من أممية البروليتاريا، فما يحصل الآن

من أساليب إجرائية متعددة الأشكال لحل مشاكل اجتماعية واقتصادية هو تمكين

لمراكز النظام الرأسمالي من إعادة احتواء دول العالم المتخلفة وإعادة امتصاص

قواها، طبقاً لمنطق تراكم رأس المال في تلك المراكز.

إن آليات السوق الذي تقوم عليه الفكرة الأساس للرأسمالية: أن من لا

يستطيع كسب قوته يجب أن يموت، فهناك في الغرب فلاسفة ممن يقول: إن

المليار من فقراء العالم الثالث، بل وفقراء الدول الصناعية كانوا زائدين عن الحاجة، وبالتالي: فلا مبرر لوجودهم ولا حاجة إليهم، ضمن مفهوم فلسفة البقاء للأصلح! ، ولذا: تجد الدعوة المستمرة لتغيير مفهوم الأسرة، والدعوة إلى الإجهاض وقتل

العجزة.. وغير ذلك من الدعوات غير الأخلاقية وغير الإنسانية، وما هي إلا

نتيجة العبثية الرأسمالية العلمانية.

إن المخرج من هذا الفخ الذي نصبته الرأسمالية اليهودية هو قدره العالم

الإسلامي في اتخاذ قراره السياسي المستقل، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا إذا طرح

الفكر العلماني ونبذه من مناهجه وتوجهاته، وتبنى الفكر العقائدي الإسلامي وما

يحتويه من سلوكيات وقيم ونظم وتشريعات لتحقيق سعادة الانسان الدنيوية

والأخروية [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ

وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] [الأعراف: 96] . [*]

(*) تأجلت الحلقة الثالثة من دراسة الكاتب الكريم د/ محمد الشباني عن (الربا والأدوات النقدية المعاصرة) وذلك لتواكب المجلة المؤتمر مدار البحث، وموعدنا مع الحلقة المؤجلة في العدد القادم إن شاء الله - البيان -.

ص: 96

سياسة شرعية

القانون الدولي الإسلامي.. (علم السير) ..

مفهومه - تدوينه - خصائصه

بقلم: عثمان جمعة ضميرية

بعد مقدمة عن شمول الشريعة الإسلامية لكافة مناحي الحياة ومرونتها في استيعاب القضايا الجديدة أخذ الكاتب في الحلقة الماضية في تعريف (القانون الدولي الإسلامي)(علم السير) شارحاً ومحللاً لعدة تعريفات، ومتطرقاً لبعض المسائل العلمية حول الموضوع، وفي هذه الحلقة يعالج بعض خصائص القانون الدولي الإسلامي.

- البيان -

تتميز أحكام القانون الدولي الإسلامي (علم السير) بمجموعة من الخصائص

التي تميزها عن غيرها من الأنظمة القانونية؛ فأحكام القانون الدولي في الإسلام

ليست قواعد وضعية يمكن أن تتناول أصولها يد البشر بالتعديل والتبديل كلما عنّ

لهم ذلك، بل هي أحكام شرعية تكون جزءاً لا يتجزأ من الشريعة السمحة، - التي

تنظم كل جوانب الحياة مستقاة من آيات الله البينات وسنة رسوله؛ فأول مصادرها

الكتاب الكريم ثم السنة المطهرة، دون أن نغفل أهمية المصادر الأخرى:

كالمعاهدات التي عقدها الخلفاء، والأوامر والوصايا التي كانوا يبعثون بها إلى

أمراء الجيوش، وكذلك إجماع الفقهاء، بوصفها كلها مصادر مكملة أو تابعة.

وتضفي طبيعة الدعوة الإسلامية صبغة خاصة على القانون الدولي الإسلامي؛

بحيث يبتعد مفهومه بعض الشيء عن القانون الدولي بمعناه المألوف؛ فالقانون

الدولي كما عرّفه رجال القانون هو: مجموعة القواعد التي تنظم العلاقة بين

مجموعة من الدول في الحرب وفي السلم، بين مجموعة من الدول المستقلة المكتملة

السيادة التي تترابط عرفاً أو اتفاقاً على قدم المساواة، وعلى أساس التبادل المطلق،

وهو يقوم على مبدأ الإقليمية، فينبسط سلطان الدولة بحسب الأصل على أرضها

وما فوقها وما تحتها دون أن يمتد إلى ما وراء ذلك.

هذا المفهوم لا تعرفه الشريعة الإسلامية، إذ إن الدعوة الإسلامية بطبيعتها

دعوة عالمية، تقوم على اعتبار شخصي إنساني وليس على اعتبار إقليمي، إذ لا

يتصور بالنسبة لها: أن تكون الحدود الإقليمية عامل تفرقة بين المسلمين [1] .

وعلى هذا: يمكن أن نبرز بإيجاز أهم الخصائص التي تتميز بها أحكام

القانون الدولي والعلاقات الدولية في الإسلام فيما يلي:

1-

أحكام القانون الدولي في الإسلام ترجع في أسسها العامة إلى الوحي:

وهذه الخاصية هي أهم الخصائص، ومنها تنبثق سائر الخصائص؛ فالإسلام

دين رباني كامل، ينظم الحياة ويَحكم كافة جوانبها، وبما أن القانون الدولي

الإسلامي (علم السير) جزء من الفقه الإسلامي الذي يقوم على الشريعة كتاباً وسنة

فإنه يقوم على الوحي الإلهي، وكل فقيه مقيد في استنباطه للأحكام بنصوص هذين

المصدرين أو الأصلين الأساسين عندما تسعفه النصوص بذلك، وإلا فهو مقيد

باتباع قواعد الشريعة ومرعاة مقاصدها وأصولها [2] [حالة الاجتهاد فيما لا نص

فيه] .

وإلى هذا المعنى يشير (ابن خلدون) بقوله عن أحكام الله (تعالى) في المكلفين: (وهي: متلقاة من الكتاب والسنة وما نصبه الشارع لمعرفتها من الأدلة، فإذا

استخرجت الأحكام من الأدلة قيل لها: فقه) [3] .

وينص الله (تعالى) في كتابه الكريم على أن هذا الدين كله وحي منه (سبحانه)

لهداية البشرية، ورحمة منه لها، فقال (سبحانه) : [وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحاً مِّنْ

أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ

عِبَادِنَا وَإنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ] [الشورى: 52] ، ومهمة الرسول (عليه

الصلاة والسلام) ووظيفته هي البلاغ والبيان: [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ

مِن رَّبِّكَ وَإن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي

القَوْمَ الكَافِرِينَ] [المائدة: 67] .

وتأسيساً على هذه الخاصية في رجوع الأحكام إلى الوحي واستنادها إليه

ليكون تشريعاً إلهيًّا ربانيًّا، فإنه لا مساغ لتقسيم التشريع الإسلامي إلى تشريع إلهي

وتشريع وضعي، كما ذهب إليه بعض الكتّاب في النظام الدستوري الإسلامي [4] .

وكما ذهب إليه بعضهم من تقسيم التشريع إلى نوعين: ابتداء وهو خالص

حق الله، وابتناء وهو يمكن أن يكون للبشر [5] ؛ فإن للبشر حق الاجتهاد

بضوابطه الشرعية، وليس لهم حق التشريع.

وهذه الخاصية تميز أحكام العلاقات الدولية في الإسلام عن سائر الأنظمة

والقوانين الوضعية التي وضعها الناس لأنفسهم في القديم والحديث والتي لا نجد لها

من الهيبة والاحترام كما نجده للتشريع الإلهي.

وهي كذلك ضمانة لتوحيد كلمة الأمة كلها على منهج واحد ونظام واحد عندما

تلتقي على هذا الوحي بما فيه من موازين لا تضطرب ولا تتأرجح، ولا تتأثر

بالهوى والعصبية والدوافع الذاتية.

2-

ارتباط أحكام العلاقات الدولية بالعقيدة والأخلاق:

وهذه الخاصية منبثقة عما قبلها، ومظهر من مظاهرها، فقد عني القرآن

الكريم كما عنيت السنة النبوية بالعقيدة التي تقوم على أساس الإيمان بالله (تعالى)

ربًّا متفرداً بالخلق، وإلهاً متفرّداً بالأمر والنهي، فلا عبودية إلا له؛ وبذلك يتحرر

الإنسان من كل عبودية لغير الله [6] .

فمن الأصول المقررة في الإسلام: أنه يشمل جانبين رئيسين هما: العقيدة

والشريعة، والعقيدة هي التي يعبر عنها القرآن الكريم بالإيمان، والشريعة هي

النظم التي شرعها الله (تعالى) أو شرع أصولها ليأخذ المسلم بها نفسه في علاقته

بأخيه المسلم، وعلاقته بالإنسان، وعلاقته بالكون وبالحياة من حوله، والعقيدة هي

الأصل الذي تنبثق عنه الشريعة وتقوم عليه، والإسلام حتّم الترابط بينهما؛ ولذلك: فمن آمن بالعقيدة وألغى الشريعة، أو أخذ بالشريعة وألغى العقيدة لا يكون مسلماً

ولا سالكاً في حكم الإسلام سبيل النجاة [7] .

ومن هنا: كانت أحكام العلاقات الدولية كغيرها من جوانب الفقه الإسلامي

ذات اعتبارين: قضائي ودياني، فالقضائي يحاكم العمل بحسب الظاهر، أما الديانة: فإنما تحكم بحسب الحقيقة والواقع، فالأمر (أو العمل) الواحد قد يختلف حكمه في

القضاء عنه في الديانة [8] ؛ ولذلك: نجد الفقهاء يميزون بين ما ينفذ من الأحكام

ظاهراً وباطناً وبين ما ينفذ ظاهراً: تأسيساً على هذا [9] .

ومن هنا قالوا: من ادعى خلاف الظاهر لا يصدق قضاءً، إلا إذا كانت

دعواه على نفسه، لأنه غير متهم في حق نفسه، ويصدق فيما بينه وبين الله

(تعالى) ، وقد أرشد النبي-صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى فيما روته أم

المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها ، عن رسول الله: (أنه سمع خصومة بباب

حجرته، فخرج إليهم فقال: إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن

بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً

فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار، فليأخذها أو ليتركها) [10] .

وهذه العقيدة تمتزج بالأخلاق، فتهذب النفس وتربي الوازع الذاتي، فتجعل

منه محكمة داخلية في نفس المسلم، ينتصف من نفسه قبل أن ينتصف هو من

الآخرين [11] .

ومن الواضح أن القانون الإسلامي يعلق أهمية غير قليلة على القيم الأخلاقية، لقد كان هناك علم وحيد يشغل المسلمين في أول ذلك الأمر هو تعاليم دينهم،

وسرعان ما تولدت عن ذلك علوم شتى

وعندما نالت فروع الفقه الإسلامي ومنها

القانون الدولي مركزها، علوماً مستقلة بذاتها، فإنها ظلت تحتفظ بقيمها الأخلاقية،

وكان على أحكام هذه القوانين أن ترتكز في قوة إلزامها إلى القرآن الكريم والسنة

النبوية وهدي السلف الصالح، ولم ينشأ علم إسلامي لذاته مستقلاً عن غيره ودون

نظر إلى ما سواه، وإنما أخضعت كل العلوم للشريعة من أجل الإسهام في خير

الإنسان في الدنيا والآخرة، وبغير الإيمان بالبعث والحساب يكون الإنسان شرًّا من

الشيطان نفسه، وبغير الإفادة من نعم الله التي خلقها لعباده لا يكون الإنسان إنساناً

على الإطلاق، وقاعدة الإسلام هي: خير الأمور الوسط، وتصدق هذه القاعدة

حتى بالنسبة لعلم يعمل في نطاق مادي تماماً كالقانون الدولي الإسلامي، وعلى

الرغم من أن هذا القانون قد انفصل عن القانون العام وعن علم السياسة إلا أنه لم

يكن في قيامه مؤسساً على المنطق الإنساني، ومن ثم: تسوقه الظروف المتباينة

للمناسبات، وإنما كان يحتفظ بأساسه الأخلاقي الثابت؛ إذ يرتكز إلى مصدرين

ثابتين هما القرآن والسنة [12] .

وهناك آيات قرآنية كريمة توجب الالتزام بقانون الأخلاق الإسلامية في

العلاقات الدولية، تماماً كما هي ملزمة في العلاقات الفردية، وقد جاءت السنة

النبوية وأعمال الخلفاء الراشدين وسيرتهم في الجهاد والعلاقات الدولية تطبيقاً عمليّاً

لذلك، ثم بنى الفقهاء كثيراً من أحكامهم في العلاقات الدولية والجهاد على هذا

الأصل العظيم، ومن ذلك: وجوب الوفاء بالعهد، والتحرز عن الغدر حتى ولو

غدر الأعداء بالمسلمين، وتحريم المثلة بالأعداء في الجهاد، وتحريم قتل غير

المقاتِلين، وتحريم استعمال آلات وأدوات يعم ضررها.

وقد أدرك بعض الكاتبين في القانون الدولي قيمة هذه الخاصية ومكانتها،

حيث يرى الدكتور مجيد خدوري: أن الإسلام بوصفه منهجاً للحياة، فإنه يشدد

على أهمية المبادئ الخلقية في العلاقات الدولية، بصرف النظر عن العقيدة الدينية، وأن العقيدة الإسلامية بوصفها أساساً للأخلاق دفعت المسلمين لاتخاذ موقف رائع

من التسامح نحو غير المسلمين، والتحلي بمبادئ إنسانية عكسها لنا مضمون

الأحكام التي استنبطوها لحالة الحرب ولسير المعارك مع الأعداء.

والواقع التاريخي الإسلامي، وهذا يصدق على البشر أجمعين يظهر لنا أن أي نظام اجتماعي، على الصعيد الدولي، يفقد معناه إذا خلا كلياً من المبادئ الأخلاقية [13] .

وهذه الخاصية أفاضت على الأحكام هيبة واحتراماً في عقول المخاطبين

بالشرع، وأورثتها سلطاناً على النفوس، كان به الفقه الإسلامي شريعة مدنية

ووازعاً أخلاقيًّا معاً؛ لما فيه من قدسية المصدر القرآني الآمر، ومن الزاجر الديني

الباطن إلى جانب القضاء الظاهر، فلا يحتاج الإنسان إلى قوة مسلطة عليه دائماً

لتلزمه الخضوع لإيجابه، ولا يجد في الإفلات من سلطان حكمه غنيمة إن استطاع

الإفلات سواء أكان عظيماً أو ضعيفاً.

كما ترتب على هذه الخاصية أيضاً: أن يكون لمخالفة الحكم الشرعي جزاء

يتحمله المخالف، وهو يشمل: الثواب عند الطاعة، والعقاب أو الضمان عند

المخالفة.

والجزاء قد يكون دنيويّاً يتولاه الحاكم، أو السلطة العامة في الدولة، كما

يكون جزاءً أخرويّاً عند الله (تعالى) يوم القيامة، ولكن للتوبة أثراً في سقوط العقاب

عند الله (تعالى) ولها أثر في سقوط بعض العقوبات في الدنيا [14] .

(1) انظر ميثاق الأمم والشعوب، ص605، وقواعد العلاقات الدولية، ص 35.

(2)

انظر التشريع الإسلامي وأثره في الفقه الغربي د محمد يوسف موسى، ص60 - 61، والأموال والنظرية النقدية، له أيضاً، ص136.

(3)

انظر مقدمة ابن خلدون: 2/798.

(4)

ذهب إلى ذلك د/عبد الحميد متولي في كتاب (الإسلام ومبادئ نظام الحكم) ص11، وراجع أيضاً د/عابد السفياني لما أبداه بعضهم عن الفقه بأنه تشريع وضعي في كتابه (الثبات والشمول في الشريعة) ، ص96 - 99.

(5)

ذهب إلى ذلك الشيخ عبد الوهاب خلاف في كتابه (السلطات الثلاث في الإسلام) ص35 - 80.

(6)

(العبودية) لابن تيمية تحقيق: أ/ عبد الرحمن الباني.

(7)

انظر أحكام القانون الدولي في الإسلام، ص179، 180، مدخل لدراسة العقيدة، لضميرية، ص27 - 36.

(8)

المدخل الفقهي العام للأستاذ مصطفى الزرقاء، ج1 ص58، 59.

(9)

انظر حاشية ابن عابدين: ج5 ص405، ص406.

(10)

أخرجه البخاري في الأحكام، باب موعظة الإمام للخصوم، 13/ 157، ومسلم في الأقضية، باب الحكم بالظاهر، 3/1337.

(11)

انظر: دراسات إسلامية، د: محمد عبد الله دراز، ص66 167، والنظم الإسلامية، د: محمد العربي، ص25.

(12)

انظر دولة الإسلام والعالم: د: حميد الله، ص108، 109.

(13)

انظر القانون الدولي الإسلامي، كتاب السير للشيباني، ص86 - 87 من مقدمة المحقق.

(14)

انظر (بدائع الصنائع للكاساني) : 9/4295، 4296، والأم للإمام الشافعي: 4/133، 134، والمغني لابن قدامة: 10/308311.

ص: 102