الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دراسات تربوية
معالم في طريق السعادة الزوجية
بقلم: أيمن أسعد عبده
بعد أن انتهت مراسم حفل الزفاف الذي كان متميزاً في كل شيء: متميزاً في
بساطته وبعده عن التكلف والإسراف، وفي خلوه من منكرات الأفراح، اختلى
العروسان في غرفتهما الخاصة، وما هي سوى لحظات حتى مد الشاب يده
ووضعها على رأس عروسه، ثم دعى بالدعاء المأثور: (اللهم إني أسألك من
خيرها وخير ما جبلتها عليه وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه) [1] ، ثم
توضأ وصلى بها ركعتين، وبعدها رفعا أيديهما بالابتهال إلى الله (تعالى) أن يوفقهما
في حياتهما الجديدة، وأن يحفظ بيتهما الصغير من كل شر، وأن يجمع بينهما في
خير.
بعدها جلسا يحددان الأسس التي سوف يقوم عليها بناء حياتهما الزوجية،
والمعالم التي سوف يستضيء بها زورقهما الصغير وهو يسلك طريقه عبر الأمواج
إلى بر الأمان. فكان مما اتفقا عليه:
أولاً: سلامة النية: فالنية هي أساس الأمر ولبه، وهي التي تتفاضل بها
الأعمال، وبصلاحها يتحول العمل من عادة إلى عبادة، يأجر الله عباده عليها.
فاتفقا على أن يعقدا قلبيهما على نية صالحة في زواجهما؛ بأن ينطلقا في حياتهما
الزوجيه من المنطلقات التالية:
الاستجابة لأمر النبي-صلى الله عليه وسلم لشباب أمته بالمبادرة إلى الزواج
في مثل قوله: (يا معشر الشباب: من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض
للبصر وأحصن للفرج..) [2] .
احتساب إحصان الفرج وغض البصر وإعفاف النفس، وبهذه النية يحصل
الزوجان على عهد من الله (تعالى) بالعون والتوفيق، قال: (ثلاثة حق على الله
(تعالى) عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي
يريد العفاف) [3] ، ومن أوفى بعهده من الله! .
احتساب أجر إقامة البيت المسلم وفق منهج الله (تعالى) .
احتساب إنجاب الذرية الصالحة التي توحد الله؛ وتكثّر سواد الأمة التي يباهي
بها النبي-صلى الله عليه وسلم الأمم يوم القيامة، واحتساب تربيتهم التربية
الإسلامية؛ لعل الله أن يخرج منهم من يحمل همّ هذا الدين، ويقوده إلى النصر
والتمكين، أو لعل الله يوفق بعضهم ليكونوا علماءً أفذاذاً أو مجاهدين أبطالاً.
احتساب أجر النفقة على الزوجة والعيال، قال: (إذا أنفق الرجل على أهله
نفقة يحتسبها فهي له صدقة) [4] .
فإذا عقد الزوجان قلبيهما على هذه النية: صارت كل لحظة من حياتهما
الزوجية عبادة يؤجران عليها، فيا لها من أجور عظيمة.
ثانياً: التعاون على الطاعة: بأن يحض كل منهما الآخر على عمل الخير
ويشجعه عليه، قال: (رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فصلت،
فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل تصلي فأيقظت
زوجها فصلى، فإن أبى نضحت في وجهه الماء) [5] ، فإن لم يكن التشجيع على
الطاعة فلا أقل من عدم الوقوف عقبة في سبيلها، فكم من زوجة وقفت في طريق
زوجها للعبادة أو طلب العلم أو الجهاد أو الدعوة بكثرة طلباتها وعدم استعدادها
للتضحية بشيء يسير من حقوقها، والعكس صحيح، قال الله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا
الَذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
الخَاسِرُونَ] [المنافقون: 9] ، والأسوة الحسنة في ذلك هن أمهات المؤمنين
والصحابيات رضي الله عنهن اللاتي كن يقلن لأزواجهن في الصباح حين
يودعنهم على الباب: يا فلان اتق الله فينا، فإنا نصبر على الجوع ولا نصبر على
الحرام!
ثالثاً: إقامة البيت المسلم والأسرة المسلمة وفق شرع الله وسنة نبيه-صلى الله
عليه وسلم-، فلا يقْدِمان على خطوة إلا بعد أن يعلما حكم الله ورسوله فيها، فإن
علماه لم يُقَدّما عليه شيئاً أبداً: عرفاً، أو عادة، أو هوى، ويستعليان بعقيدتهما،
ويقفان بصلابة أمام التيار المضاد، يضربان المثل والقدوة فيما ينبغي أن تكون
عليه الأسرة المسلمة والبيت المسلم بقدر استطاعتهم، فياله حينذاك - من بيت
مبارك تعبق أنحاؤه بآيات الذكر الحكيم، ويفوح من جنباته أريج سنة خير المرسلين.
رابعاً: بناء حياتهما على المحبة والرحمة والمودة والعشرة الحسنة، امتثالاً
لأمر الله ورسوله، فالميثاق غليظ عقده الله عز وجل ورتب عليه الثواب والعقاب، ولا يمكن - في التصور الإسلامي - أن يكون بين الزوجين حقد أو بغضاء أو
حسد، كيف وقد أفضى بعضهم إلى بعض، يقول سيد قطب رحمه الله في تفسير
قوله (تعالى) : [وَكَيْفَ تَاًخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً
غَلِيظاً] [النساء: 21] : (لا يقف لفظ (أفضى) عند حدود الجسد وإفضاءاته، بل
يشمل المشاعر والعواطف والوجدانات والتصورات والأسرار والهموم، يدع اللفظ
يرسم عشرات الصور لتلك الحياة المشتركة آناء الليل وأطراف النهار، وعشرات
الذكريات لتلك المؤسسة التي ضمتهما فترة من الزمان، وفي اختلاجة حب إفضاء،
وفي نظرة ود إفضاء، وفي كل لمسة جسم إفضاء، وفي كل اشتراك في ألم أو أمل
إفضاء
…
) [6] .
والأحاديث الصحيحة تكاد لا تحصى في الحض على حسن العشرة بين
الزوجين، كما أن السيرة العطرة مليئة بالنماذج العملية من حياة النبي-صلى الله
عليه وسلم- على الحياة الزوجية الهانئة الجميلة في البيت النبوي الكريم.
خامساً: لا تمنع المحبة والعشرة بالمعروف بين الزوجين من أن يكونا
حازمين مع بعضهما في التربية والتوجيه وخاصة من ناحية الزوج، فمحارم الله
عز وجل لا مداهنة فيها، والتقصير في الأمور الشرعية لا يمكن السكوت عنه،
فها هو النبي-صلى الله عليه وسلم يدلل زوجاته أرق الدلال، فكان يدلل عائشة
رضي الله عنها بقوله: (يا عائش)[7] ، (يا حميراء) ، وكانت تشرب من الإناء
وهي حائض، فيأخذه النبي-صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فيها [8] ، وكان يقبّل نساءه وهو صائم [9] ، ولكنه مع هذا كله لم يقم لغضبه شيء إذا
انتهكت حرمات الله، قالت عائشة رضي الله عنها : (حشوت وسادة النبي-صلى
الله عليه وسلم- فيها تماثيل كأنها نمرقة، فقام بين البابين وجعل يتغير وجهه،
فقلت: ما لنا يا رسول الله؟ قال: ما بال هذه الوسادة؟ قالت: وسادة جعلتها لك
لتضطجع عليها، قال: أما علمت أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة
…
) [10]
.. وغير ذلك كثير.
سادساً: أن يكونا لبعضهما كما كان أبو الدرداء وأم الدرداء رضي الله عنهما : كانت إذا غضب سكتت واسترضته، وإذا غضبت سكت واسترضاها، وكان هذا منهجاً انتهجاه من يوم زواجهما، وياله من منهج حكيم، فكم من البيوت هدمت، وكم من الأسر انهارت بسبب غضب الزوجين معاً وعدم تحمل أحدهما للآخر.
سابعاً: الزوجان بشر: ومن طبيعة البشر الخطأ والنقص، فإن وقع الخطأ
والتقصير من أحد الزوجين في حق الطرف الآخر - إذا كان من الأمور الدنيوية -
فعلى الطرف الآخر الصفح والعفو، فلا ينسى حسنات دهر أمام زلة يوم، وعليهما
أن يغضا الطرف عن الهفوات الصغيرة مع التنبيه بأسلوب لطيف ليس فيه جرح
للكرامة أو إهانة، ولهذا نهى النبي-صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله
ليلاً، وأن يتخونهم أو يلتمس عثراتهم [11] ، وكان هذا أسلوب النبي-صلى الله
عليه وسلم-، فعن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها : أنها أتت بطعام في
صحفة لها إلى النبي-صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فجاءت عائشة مئتزرة
بكساء، ومعها فِهْر [12] ، ففلقت به الصحفة، فجمع النبي-صلى الله عليه وسلم
بين فلقتي الصحفة وهو يقول: (كلوا، غارت أمكم) مرتين [13] . فيا له من معلم
حكيم صبر على هذا الخطأ العظيم من عائشة، وعالجه بالصفح والحلم والتماس
العذر.
ثامناً: المشكلات والعيوب والنقائص تبقى بين الزوجين فلا يطلع عليها الأهل
والأقارب، لأن هذه الحياة حياة سرية ولا بد أن تبقى بين الزوجين، فالغالب على
هذه المشاكل أنها إذا خرجت عن نطاق الزوجين فإنها تتطور وتتعقد، إلا إن وجد
الزوجان أن الحياة بينهما أضحت مستحيلة، فإن لهما أن يشركا بعض المقربين من
ذوي الدين والعقل للمساعدة في حل هذه المشكلات.
تاسعاً: أن يوضح كل منهما للآخر من أول يوم أهدافه في الحياة على المدى
البعيد والقريب والوسائل التي يستخدمها للوصول إلى هذه الأهداف، فيكون لهما
أهداف مشتركة يتعاونان عليها، كما يكون لكل منهما أهداف خاصة به، ولا بأس
من أن يطلع زوجه عليها لكي يساعده عليها؛ ولا يقف حائلاً بينه وبين تحقيقها.
إذا وضع الزوجان المباركان هذه الأسس نصب أعينهما، وسجلاها في ورقة
يكون مع كل واحد منهما نسخة منها، بحيث تكون ميثاقاً بينهما يراجعانه بين الحين
والحين، واتفقا بألا تكون هذه الأسس والمعالم حبراً على ورق، بل تتحول إلى
واقع يحاولان تطبيقه قدر المستطاع، ويذكر أحدهما الآخر بأن المسألة صعبة
تحتاج إلى مجاهدة وصبر وتربية، وتعاهدا على المحاولة الجادة لتنفيذها.. فهذه
معالم مباركات لكل زوجين وكل شاب وشابة مقبلان على الزواج، ينشدان السعادة
الزوجية.. والله الموفق.
(1) رواه البخاري.
(2)
رواه مسلم.
(3)
رواه أحمد والترمذي وابن ماجة، وحسنه الألباني.
(4)
متفق عليه.
(5)
رواه أبو داود وقال الألباني: حسن صحيح.
(6)
في ظلال القرآن لسيد قطب.
(7)
كما في صحيح البخاري.
(8)
كما في صحيح مسلم.
(9)
كما في صحيح مسلم.
(10)
أخرجه البخاري.
(11)
رواه البخاري.
(12)
الفهر: حجر ناعم صلب.
(13)
رواه النسائي في عشرة النساء.
نص شعري
شاطئ النجاة
شعر: محمد بن أحمد الزهراني
توّقفَ وانزوى جَزِعاً مُراعاً
…
فسوطُ الريحِ يقتلعُ الشّراعَا
وَفي الأمواج إعصارٌ غضوبٌ
…
به الأفواهُ تزداد اتساعَا
وَشَاهَدَ ذلك البحّارُ جيشاً
…
من الغِربانِ يندفِعُ اندفاعَا
فأين النورسُ الجوّال يهدي
…
عُيونَ سفينةٍ فقدتْ دِفاعَا
فأَلْيَلَتْ الدّنى في مُقلتيهِ
…
وَأَمْسَكَ رأسَهُ وبكى التياعا
وفي خَطَراتِهِ بحثٌ وسَعْيٌ
…
ويُشْعِلُ في دواخِلهِ صِراعا
فلمْ يرمُقْ بها سُرُجاً لحلّ
…
علىَ حْملِ الأمانةِ ما استطاعا
لِمَ الإسلام شرّدَهُ بنُوهُ
…
فأُغْطِشَ صُبْحُهمْ وسَعَوا جِياعا
فنادى الذئبُ: إنّ لكمْ نعيماً
…
لَديّ فأقبَلوا هَمَجاً تداعى
فأسقاهُمْ كُؤوسَ الفحش شِرْباً
…
وأمّوا نادياً للطهْرِ باعا
وُخدّر عَقلُهُمْ والخيطُ رَثّ
…
تكاثر حولَهُ العُميُ انْصَياعا
مجانينُ وَعكْسٌ في نِظامٍ
…
ففئرانُ الرّدى سجنَتْ سِبَاعا
وذاك (حَنِيفُنَا) كأبٍ تعيسٍ
…
رماهُ بنُوهُ واتّبعوا سُواعا
فيا بحّارَ مركبِ كُلّ خيرٍ
…
مصابيحُ الهدُى لَحِقَتْ ضياعا
فرّتل آية من نور رّبي
…
لِتُبْصِرَ بعد داجيةٍ شُعاعا
وكبّرْ وانطِلقْ وأقِمْ صلاةً
…
وقل للرّقدةِ السُكرى: وَدَاعا
لِتَنْقَشِعَ الغيومُ غيومُ زيفٍ
…
ونهِدمُ للغوى فينا قِلاعَا
حبالَ الرّشدٍ فالزمها وسِرْ في
…
سبيل الحقّ لا تخشَ انقطاعا
هموم ثقافية
تجديد الإسلام في غابة فرنسية..
وقفة مع فكر هشام جعيط [*]
بقلم: د.أحمد إبراهيم خضر
1-
فكرة طارئة قفزت إلى عقل المفكر! التونسي (هشام جعيط) وهو يراقب
الثلوج في إحدى الغابات الفرنسية؛ فكتب ما اعتقد أنه تجديد وإصلاح للإسلام.
توهم (المفكر التونسي) ! أن فكرته الطارئة هذه ستحول ضعف أمتنا إلى قوة، وستكون مؤشراً للتطور الأصيل، بدلاً مما يسميه (تأخرنا في التطور) ، إنه يرى
أن مجتمعنا العربي! قد تطور في اتجاه العلمانية بخطوات عملاقة! : فالدولة تعمل
مستقلة عن الدين، والتصورات العقلانية نفذت إلى ميدان التربية، والشباب لم يعد
يبالي بالممارسات الدينية، لهذا فهو يرفع الطابع الإسلامي (ولكن) بطريقة تختلف
عما هي عليه الآن. [1]
2-
شعر (المفكر التونسي) بعد أن ألهمته مقولات (فرويد) في كتابه (مستقبل
وهم) بهذا الحنان العميق الذي لا يجتث نحو هذا الدين الذي أثار طفولته، وكان
أول دليل له على الخير والشر المطلق، فنجده يتحدث عن معجزة الدين الذي
يخاطب أبسط كائن وأكثره سذاجة، كما يتجه إلى أسمى فكر وأكثره رفعة.. تجده
يتحدث عن الرسول-صلى الله عليه وسلم الذي يرى فيه كتلة هائلة من المُثُل
والحب والوفاء، الذي يزن ويوزن كل تلك الدموع والاندفاعات، الرسول الذي
نادى باسمه كثير من الناس ممن كانوا في النزع الأخير، تجده يقرّ بأن الدين روح
العالم والإسلام روح الأمة الإسلامية، وأنه لا يزال قوة حية ملموسة ملتصقة
التصاقاً حميماً بالمجتمع الإسلامي تخترقه من طرف لآخر.
3-
انطلاقاً من هذا الحنين لهذا الوهم الفرويدي (لمفهوم الدين) يطرح علينا
المفكر المذكور عدة مقدمات لا تثريب عليها - في مجملها - من حيث المبدأ، يقول
فيها:
أ - ينبغي ألا نرفض الإسلام، بل يجب أن نمتثل لروحه وجوهره، الذي
يعني التفتح على الخارج، ثم العودة إلى الذات.
ب - لا شيء يبتر الإسلام من اعتباره ثورة اجتماعية خانتها الظروف.
ج - يجب على الإسلام البقاء ديناً للدولة تعترف به تاريخيًّا، وتهبه حمايتها،
ولا تتلاعب به لأسباب سياسية، ولا تدخل عليه إصلاحات من عندها.
د - إن التشريع الإسلامي استهدف بصورة عميقة خير الناس، وساهم في
توحيد بشرية مشتتة بواسطة الولاء ذاته للشريعة، وهي القانون الذي نظم كافة
مظاهر الحياة.
هـ - إنه ضد أي محاولة للتشريعية العلمانية التي تستهدف الرجوع إلى تأكيد
ما نصت عليه الشريعة من حيث المبادئ، وتحويرها على صعيد النتيجة العملية
لبلوغ غايات التحديث.
و أنه لا يجاري فكرة الانحطاط عند (جيب) التي أرجع فيها جمود المجتمع
الإسلامي إلى الفكر الديني أو الفقه.
ز - أنه ضد النظرة التي تدافع عن الإسلام من منطلق اتهام الفقهاء القدامى
بـ (خيانة الإسلام وتشويهه) ! بل إنه يعترف بعظمة العمل الذي أنجزه هؤلاء
الفقهاء، ولكنه يرى ضرورة المراجعة التقويمية لاجتهاداتهم.
ح - أنه ضد محاولة إيجاد التطابق بين روح الفقه الإسلامي والفكر الحديث
لصالح الأخير باستخدام أسلوب الحيل الفقهية، أي إنه - بصفة عامة - ضد منطق
أنصار التحديث الديني الذي يقوم - غالباً - على تزوير الحقيقة الدينية، فهم
يميلون إلى اقتراح إصلاحات ضد الشرع في اتجاه القيم التي رضي بها العالم
الحديث؛ لكي يعرضوها على أنها من التشريع الإسلامي ذاته، بحجة أنهم يريدون
أن يعيدوا إلى هذا التشريع سالف صفاته، في حين أن جهدهم تحكمه قمة سوء النية
والنظرة الذاتية.
ط - والقرآن عنده لا يقبل الترجمة؛ لأن ترجمة معانيه تفرغه من حقيقته
ومضمونه والوزن الروحي الذي شحنت به الكلمات، وتجرده من هذا المحيط
الروحي الأخاذ.
إن أغلب الترجمات المعروفة لمعانيه تافهة من وجهة نظره، وإن بعضها قد
حاول نقل الأسلوب القرآني المؤثر لكنها محشوة بالتناقض والمعاني الخاطئة، بل
حتى المقلوبة.
وأخيراً يأتي (المفكر التونسي) فيعلن:
أنه ضد العلمانيين الذين يدّعون اليوم حق التلاعب بالإسلام، مستترين بقناع
الإصلاح والرقي، في حين أنهم يتمنون خراب الإسلام.
4-
عند هذه النقطه يكاد (المفكر التونسي) أن يدفعنا إلى أن نخرجه من عباءة
(العلمانيين التقليديين) ، إذ إنه يحاول إقناعنا بأنه يريد أن يجدد الإسلام والرؤية إلى
الإيمان، فالقضية عنده قضية إصلاح، وإعادة تقييم، وإعادة بناء فقط، لكننا ما
نلبث أن ندرك أن (الرجل) يريد أن يجدد في أسس الإسلام، وأن يسهم برؤية
شخصيه في تحوير العقيدة والإيمان أو في المعاش الديني ودلالة التشريع على الأقل، بواسطة الدين وبما هو خارج عنه، وهذا هو الإصلاح عنده!
5-
خرج علينا (الرجل) بفكرة جديدة أسماها: (العلمانية المفتوحة) ، علمانية
يراها غير معادية للإسلام لا تستمد دافعها من شعور (لا إسلامي) ، بل علمانية
يتوهم أنها يمكن أن تحافظ على جوهر العقيدة، وحقيقة الأمر أنها لا تختلف مطلقاً
عن العلمانية التقليدية، إنها - كما يقول بنفسه - تتسق مع الهدف العلماني العام:
الفصل أو التحرير.
6-
يفاجئنا (الرجل) بضربات سريعة ومتلاحقة لجوهر العقيدة والإيمان،
عبر عبارات صريحة لا تحتمل التأويل: الإسلام مغامرة تاريخية كبرى - الرسول
بدأ بمغامرة رهيبة - الله فكرة! - الله يتواطأ مع الإنسان - ليس الله بأثبت
الكائنات يقينية، بل إنه لغز! - القرآن عمل عبقري ذو لغة أسطورية - العمل
الأسطوري له نوعيته في القرآن - القرآن يعتمد أسطورة سفر التكوين، ثم يثريها
- الدين يتضمن جانباً من التمويه، وعناصره التي تضمنها لا يقبلها العقل إطلاقاً
ولا الفكر ولا ذهنية الإنسان الحديث - التقليدية الدينية سلبية - الضحالة قائمة في
كل حياة وفكر يخضعان إلى اعتباطية الدين والتقاليد، ثم يقول بالحرف الواحد:
(من حسن الحظ أن الإنسان خالف باستمرار الدين، وأن الدين بقي مثلاً لم يطبق
أبداً، وإلا لسحقت الحياة) ! :
ماذا يريد جعيط بالضبط؟ !
يخلع (الرجل) أقنعته الخادعة، ثم يحدد أهدافه بجلاء وبجرأة، وذلك على
النحو التالي:
أ - النظرة إلى الدين على أنه مجرد وديعة مقدسة لا ينبغي الخضوع لها:
(الأَولى بنا أن نتجه إلى الولاء التاريخي مع الشعور الأسمى بالحفاظ على وديعة
مقدسة دون الخضوع لها) .
ب - على الدولة أن تعمل مستقلة عن الدين، وأن تسير وفق قوانين السياسة
والمصلحة الاجتماعية: (يجب على الدولة أن تتطور في نطاق عملها العادي داخل
دائرة مستقلة طبق القوانين المجردة للسياسة والمصلحة الاجتماعية وخارج كل حنين
سلفي) .
ج - النظرة إلى القرآن على أنه كلام مقدس شرع في ظروف تاريخية
واجتماعية معينة، وأنه يحوي عناصر توراتية يهودية نصرانية:
(من الأفضل هنا أن يقبل المرء فكرة أن القرآن كلام مقدس، وأنه شرع في
ظروف تاريخية واجتماعية معينة، وهو ما يبعث في الوقت نفسه على رفع كل
اتهام بالرجعية عن القرآن
…
نجد في القرآن تصوراً معيناً للجنين البشري قد لا
يقبله العلم، ونظرة الكون المادي قابلة للتأويل بحيث لا تتضارب مبدئيًّا مع العلم،
لكنه تتداخل فيها عناصر توراتية هي بدورها متأثرة (بالتصورات) البابلية القديمة
…
إن الإسلام - ككل دين غيره - نشأ (!) في بيئة ذهنية معينة، وفي جو فكري
معين، وفي عصر بشري سيطر فيه المظهر العجيب، على أفق الإنسان، وهو
ورث - فضلاً على ذلك - أغلب التقاليد اليهودية النصرانية!) .
د - تحرير المجتمع والدولة من الدين، والبحث عن روحانيات أخرى في
غير الإسلام، وتحرير المجمتع كذلك من أن يعمل في ضوء الإيمان بالآخرة على
أنها الحياة الحق: (على المجتمع والدولة التحرر من (ما ورائية دينية) تعتبر حقيقة
وحدها، أي: التحرر من كل عسف أيديولوجي ديني، فإذا كانت مهمة الدولة
تجسيم الروحانيات فإن هذه الروحانيات منشورة متنوعة متعددة، وهي ليست
بالضرورة تلك التي حددها الإسلام
…
على المجمتع أن ينمو طبق مقاييسه الخاصة
في المرحلة الراهنة من مصيره، لا عملاً برؤية مسبقة لآخرة تكون هي الحياة
الحق) .
هـ - النظرة إلى الاعتقاد في وجود الملائكة والجن والشياطين على أنه من
قبيل الخرافة:
(يتضمن القرآن الملائكة ورؤساءهم وإبليس وجيشه من الشياطين والجن،
ويظهر أن هؤلاء اقتبسوا من الخرافات المحلية!)
و إنكار العذاب الأبدي لغير المؤمنين، وإنكار الحساب في الآخرة، واعتبار
الله (تعالى) ظالماً متخفياً لاعباً! ! :
(كيف يقبل العقل الناقد العذاب الأبدي - فضلاً عن كونه جسديًّا - بالنسبة
لغير المؤمنين؟ ، وكيف للنزعة الإنسانية الكونية لعصرنا أن تسمح بذلك؟ ، أين
يكمن الحل للتناقض بين الحرية ومسؤولية الإنسان التي يتضمنها مفهوم الحساب،
ومن قدرة الله وظلمه (! !) أو يكاد التي يترجم عنها القضاء والقدر؟ هذا الإله
ذاته الشخصي والمتعالي.. أي لعبة يلعب؟ لماذا كان متخفياً؟ أَوَ لا ينكشف مرة
واحدة وبوضوح للإنسان؟) تعالى الله عما يقول.
ز - التقدم نحو العقلانية خارج كل سيطرة للدين:
(إنّ ما هو عقلاني يتابع سيره، ويجب أن يتابعه خارج كل سيطرة للعامل
الديني وكل تبرير بواسطة الدين، وهكذا: فليس للعلم والعقلانية السياسية أن يبحثا
عن أسس ممارستهما في القرآن حتى ولو كان القرآن ثريًّا فريداً فكريًّا فيما يخص
مصير الكون) .
ح - السماح بالخروج عن الإسلام وإظهار عدم الإيمان:
(لتسمح الدولة وتضمن الخروج عن المعتقد خروجاً حرًّا، فليتظاهر عدم
الإيمان، وليبرز، وليؤكد ذاته؛ فليس للدولة أن تمنعه، بل يجب عليها أن تضمن
خلافاً لذلك هذه الإمكانية) .
ط - تعطيل الحدود الشرعية:
(ينبغي على البلدان المتخلفة اللحاق في ميدان التشريع بالبلدان المتطورة،
وأن يتوقف العمل بالتشريع غير الملائم القاسي المعروف بإقامة الحدود
…
وعلى
القضاء الجنائي أن يعمل حيثما كان بالمبادئ العالمية لعصرنا) .
ي - المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة، وإبطال تعدد الزوجات،
وتحرير الزواج والجنس من القيود الشرعية:
(ينبغي أن يركز الجهد على ميدان قانون الأحوال الشخصية الشاسع، والذي
ما زال خاضعاً (لصيغة عتيقة وتنصيعات قرآنية) فينبغي تخليص ما يعرف بقوانين
الميراث وتشريع الزواج وحتى (التشريع الجنسي) من عبء الفقه، وإخضاعه
لمقولات العقل العالمي، وأن تضمن (للمرأة) المساواة في حقوق الإرث، وأن يقع
العدول عن تعدد الزوجات، ويرتبط بهذه الأمور تدخل العقلنة في تشريع المواريث) .
ك - تحرير الأخلاق من الدين:
(لا بد من الوصول إلى تحرير الأخلاق الملموسة من وطأة الأخلاق الدينية
من حيث ضيقها وتشددها، ولأنها تحدد تفتح كل رؤية حديثة عقلانية للعلائق
البشرية،
…
إن علمنة الأخلاق الملموسة هي بداية علمنة أسسها
…
ليست الديانة
سوى عنصر من عبء وقمع واعتباط) .
ل- ضرب الفضيلة والشرف:
(إن فكرة الفضيلة ذاتها سلبية إلى حد كبير، ومبنية على قمع الاندفاع
الحيوي؛ فينبغي مراجعتها.. هذا ولم نتحدث عن كل الأخلاقية للشرف التي تستقر
في قلب الإنسان الساذج آمرة إياه بالأسى والانتقام والموت
…
) .
م - زرع قيم جديدة والتخلي عن القيم الدينية التي تجاوزها العصر الحديث:
(يمكن حصول زرع مناسب لقيم جديدة كان أهملها الإسلام في أطراف
الضمير الأخلاقي، حيث تتعدد سلسلة الممكنات، لذلك يمكن التخلي عن الرؤى
التي تجاوزتها التجربة الحديثة للإنسانية بفضل تغير مُثُلها) .
أصياغة للدين أم هدم له؟ ! :
الحقيقة: إن هذا (المفكر التونسي) يريد مثل الذين سبقوه من دعاة التنوير أن
يعيد صياغة العقيدة الإسلامية صياغة حديثة تستخدم ما يسميه بلغة (الفكر الحالي
الراقي) إنه يرفض لغة علماء الدين والفقه والشريعة الذين يسميهم (بالطبقة التحتية
الماورائية) التي يجب عليها أن تتخلى لهم عن احتكار الحقيقة - على حد قوله - إن
هذا هو عين ما قاله (زكي مبارك) منذ أكثر من نصف قرن مضى: (نزعنا راية
الإسلام من أيدي الجهلة (علماء الدين) وصار إلى أقلامنا المرجع في شرح أصول
الدين) .
ونضرب هنا مثالاً واحداً نوضح به كيف عبر (المفكر التونسي) عن الله (عز
وجل) بلغة ما يسميه (بالفكر الراقي) حينما اعتبر قلمه مرجعاً في شرح أصول الدين، إنه يقول: (إن الله هو الأنا المطلق تحديداً.. الأنا المحايث الذي يحرك ويدعم
الكل، أما الطبيعة والعالم المادي فلا تكون سوى طبع الله أو عادته، والأحسن من
ذلك: أنه الكشف الذاتي لـ.. أنا الأكبر) .
إن التبعية في لغة التعبير - كما يقول (جلال أمين) : (وثيقة الصلة بالتبعية
في مضمون الفكر، تؤدي كل منهما إلى الأخرى وتقويها، ومن كان تابعاً لفكر
غيره استسهل التضحية بلغته، والاستسهال بالتضحية في اللغة يؤدي إلى التورط
أكبر وأكبر في قبول ما لا يتعين قبوله من الفكر الأجنبي، لأن اللغة نفسها تعكس
في كثير من الأحيان مواقف قيمية وتفضيلات خاصة، وهي لا تتمتع بدرجة الحياد
التي تُزعم لها) .
هذا هو ما حدث (لمفكرنا التونسي) : تورط مع (فرويد) في (وهم الدين)
وتورط مع (إميل دوركايم) في (نزع الدين من الأخلاق) ، وتورط مع (مارلو
بونتى) - الذي يعترف بأنه يشعر نحوه بقرب كبير في الاعتقاد - (بوجود إلهين) :
أحدهما داخلي والآخر خارجي، وتورط مع (هيجل) عندما حلل الإسلام في ضوء
كتابه (روح المسيحية ومصيرها) فاعتبر أن الله ليس بحقيقة، وأن الرسول-صلى
الله عليه وسلم- كان يشعر بالنقص أمام التكبر اليهودي، وأن اكتساحه لهم في
المدينة نتج عن حقد شخصي عليهم، وتورط مع (هاردر) في مقولته: (إن الدين
روح لبشرية ما زالت في الطفولة، وأن على العقل أن يتحرر من الدين بدخول
العصر الحديث) .
أقر (مفكرنا التونسي) بنفسه - وهذا ينطبق عليه - بأن المفكرين المسلمين
الذين احتكوا بالحداثة ينزعون إلى التخلي عن الدين، الذي بدا لهم بناءً منخوراً
ونسيجاً من المحالات، وظهر لهم مرتبطاً بذهنية ساذجة أو غير حديثة. كما أقر
أيضاً بأن العقل النقدي الموحد المسوي لكل الأديان يسبب دواراً حقّاً، وأن فهم
الإسلام في ضوء الطريقة التاريخية أمر خطير على الدين، قد يصل إلى هدم
الإيمان، شأنه شأن التحليل النفسي، وهذا هو ما وقع فيه حينما احتك بالحداثة وفهم
الإسلام في ضوء (التاريخانية) .
إن موقف (المفكر التونسي) - كما اعترف بنفسه -: ممزق، مبهم،
متضارب، تلاعب بالإسلام متستراً بقناع الإصلاح والرقي، ظنّاً منه أن (علمانيته
المفتوحة) ستخرجه من عباءتهم.
وبعد أن أعمل فكره وبذل جهده في تدمير العقيدة والإيمان نجده يقول عن
الرسول: (في هذه الغابة الفرنسية، حيث أكتب هذه السطور أمام الثلج، بعيداً جدّاً
في الزمان والمكان عن ذلك العالم الذي عاش فيه (الرسول) ، إني أحس نفسي
أقرب إليه من شخص عاش في القرن الثاني الهجري، وأشعر أني قريب جدًّا من إدراك حقيقته) (! !) .
(1) انظر: هشام جعيط، الإصلاح والتجديد في الإسلام، مجلة (الاجتهاد) ، بيروت، العدد الرابع عشر 1992م.
(*) هشام جعيط: مفكر تونسي معروف، ولد في تونس عام 1935م من عائله متدينة، درس في الصادقية بتونس، وتابع دراسته بباريس، وأقام فيها فتره طويلة، ثم أنجز بحثيه المشهورين (الشخصية والصورة العربية الإسلامية) و (أوروبا والإسلام) وله أطروحة أكاديمية بعنوان (الكوفة في القرن الأول الهجري) ، ودراساته كلها من منظور علماني بحت، تلمس مظاهره فيما طرق الكاتب من أفكار تصادم الإسلام الصحيح كطروحاته المضطربة في هذا المقال.
…
... - البيان -.