الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دراسات شرعية
الوسائل وأحكامها في الشريعة الإسلامية
(2
من 2)
بقلم: د.عبد الله التهامي
افتتح الكاتب مقاله السابق بالإشارة إلى أهمية موضوع الوسائل، ثم أخذ في
عرضه على هيئة مسائل، فتناول: معنى الوسائل، والفرق بينها وبين الذرائع،
وأقسامها من أكثر من زاوية، ثم تعرض لخصائصها.. ويواصل الكاتب عرضه
لمسائل أخرى.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... - البيان -
المسألة الخامسة: الأدلة على مشروعية العمل بالوسائل:
المسلك الأول: النصوص من الكتاب والسنة:
1 -
قوله (تعالى) : [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إلَاّ كُتِبَ لَهُم بِهِ
عَمَلٌ صَالِحٌ] [التوبة: 120]، قال العز بن عبد السلام: «وإنما أُثيبوا على
الظمأ والنصب وليس من فعلهم؛ لأنهم تسببوا إليهما بسفرهم وسعيهم، وعلى
الحقيقة: فالتأهب للجهاد بالسفر إليه وإعداد الكراع والسلاح والخيل وسيلة إلى
الجهاد، الذي هو وسيلة إلى إعزاز الدين.. وغير ذلك من مقاصد الجهاد،
فالمقصود ما شُرع الجهاد لأجله والجهاد وسيلة إليه.
وأسباب الجهاد كلها وسائل إلى الجهاد، الذي هو وسيلة إلى مقاصده،
فالاستعداد له من باب وسائل الوسائل» [1] .
وقال ابن سعدي: «فالذهاب والمشي إلى الصلاة، واتباع الجنائز.. وغير
ذلك من العبادات: داخل في العبادة، وكذلك الخروج إلى الحج والعمرة، والجهاد
في سبيل الله من حين يخرج ويذهب من محله إلى أن يرجع إلى مقره وهو في
عبادة؛ لأنها وسائل للعبادة ومتممات لها، قال (تعالى) : [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ
ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ
…
] » [2] .
2-
قوله (تعالى) : [وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ
والْعُدْوَانِ] [المائدة: 2]، قال العز بن عبد السلام: «وهذا نهي عن التسبب إلى
المفاسد، وأمر بالتسبب إلى تحصيل المصالح» [3] .
3 -
قوله (تعالى) : [إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى
عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ] [النحل: 90]، قال العز بن عبد السلام: «وهذا
أمر بالمصالح وأسبابها
…
ونهي عن المفاسد وأسبابها» [4] .
4 -
قوله: (تعالى) : [إنَّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ]
[يس: 12]، قال ابن سعدي: «وفُسِّر قوله (تعالى) : [إنَّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتَى
وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ] أي: نَقْل خطاهم وأعمالهم للعبادات أو لضدها، وكما
أن نقل الأقدام للعبادات تابع لها؛ فنقل الأقدام إلى المعاصي تابع لها، ومعصية
…
أخرى» [5] .
5 -
قوله: «من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سلك الله له طريقاً إلى
…
الجنة» [6] .
6 -
قوله: «من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي
فريضة من فروض الله: كانت خطوتاه إحداها تحط خطيئة، والأخرى ترفع
…
درجة» [7] .
المسلك الثاني: القواعد الشرعية:
مما يدل على مشروعية العمل بالوسائل؛ ثلاث قواعد: قاعدة مقدمة الواجب، وقاعدة اعبتار المآل، ومكملات المقاصد. وإليك البيان:
أولاً: مقدمة الواجب، أو: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب [8] .
معنى القاعدة: أن كل ما يتوقف عليه إيقاع الواجب، وهو في مقدور المكلف [9] فهو واجب، وما يتوقف عليه الواجب ينقسم بعدة اعتبارات إلى ما يأتي:
أولاً: إلى ما كان واجباً بدليل شرعي، كالسعي إلى الجمعة في قوله (تعالى)
[فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ][الجمعة: 9]، فالسعي دل على وجوبه دليلان: الآية
الكريمة، والقاعدة.
وإلى ما كان مباحاً لم يدل على وجوبه دليل شرعي، لكنه وجب تحقيقاً
للواجب؛ كالسفر إلى الحج بالنسبة للبعيد عن مكة، فهذا دل على وجوبه دليل واحد
فقط، وهو قاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وكلا هذين القسمين من باب الوسائل، إلا أن القسم الأول وسيلته ثبتت
بالنص، والقسم الثاني لم تثبت بالنص، وإنما ثبتت بطريق الوسائل.
ثانياً: إلى ما يكون: قبل الواجب؛ كالسعي إلى الجمعة.
أو بعده؛ كإمساك جزء من الليل في الصوم.
أو مقارناً له؛ كاستقبال القبلة للصلاة.
وهكذا الوسائل: فإنها قد تسبق المقصد، وقد تقارنه، وقد تتأخر عنه، وهي
على كل الأحوال خادمة للمقصد، مؤدية إليه، مكملة له.
ثالثاً: إلى ما يكون: جزءاً من ماهية الواجب؛ كالسجود في الصلاة، فهذا
ركن لا وسيلة؛ إذ الوسيلة لا تكون ركناً.
وما يكون خارجاً من الماهية؛ كالطهارة للصلاة، فهذا شرط ووسيلة.
رابعاً: إلى ما يكون: سبباً شرعيّاً؛ كصيغة العتق في العتق الواجب للكفارة
أو سبباً عقليّاً؛ كالصعود إلى موضع عالٍ فيما إذا وجب إلقاء الشيء منه.
وإلى ما يكون: شرطاً شرعيّاً؛ كالطهارة للصلاة.
أو شرطاً عقليّاً؛ كترك أضداد المأمور به.
فهذه الأربعة وسائل مطلوبة.
خامساً: إلى ما يكون: فعلاً؛ كالطهارة للصلاة، فإنها وسيلة إليها.
وما يكون كفّاً وتركاً؛ كترك أكل المذكاة إذا اشتبهت بميتة [10] ، وهذه هي
قاعدة الاحتياط [11] ، وهي داخلة تحت أصل سد الذرائع.
سادساً: إلى ما يكون: واجباً وجوباً معيناً؛ كالإمساك الواجب امتثالاً لصيام
رمضان.
وما يكون واجباً وجوباً مخيراً فيه بين أشياء محصورة؛ كخصال الكفارة في
اليمين.
وما يكون واجباً وجوباً مطلقاً غير معين؛ كالعتق المطلق، فإنه يتم بعتق
مطلق رقبة.
وهكذا الوسائل: تارة تتعين، وتارة تكون كالواجب المخير، وتارة تكون
مطلقة.
ثانياً: اعتبار المآل [12] :
المراد باعتبار المآل: النظر فيما تؤول إليه الأفعال من مصالح ومفاسد؛ إذ
العمل قد يكون في الأصل مشروعاً، لكن يُنهى عنه لما يؤول إليه من المفسدة، أو
يكون في الأصل ممنوعاً، لكن يترك النهي عنه لما في ذلك من المصلحة [13] .
قال الشاطبي: «النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً، كانت
الأفعال موافقة أو مخالفة؛ وذلك: أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال
الصادرة من المكلفين بالإقدام، أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل» [14] .
ومما يدخل تحت هذه القاعدة، وهو يدل على صحتها:
قاعدة سد الذرائع. إبطال الحيل.
النهي عن الغلو في العبادات والزيادة على الحد المشروع فيها؛ لكونه قد
يؤدي إلى السآمة والملل وترك العمل جملة [15] .
قاعدة: (ما حرم استعماله حرم اتخاذه) ، كالخنزير، وآلات اللهو، وآنية
الذهب والفضة [16] .
قاعدة: (ما حرم أخذه حرم إعطاؤه) كالربا، ومهر البغي، والرشوة [17] . ويقرب منها:(ما حرم فعله حرم طلبه)[18] .
قاعدة: (الحريم له حكم ما هو حريم له) ، كالفخذين حريم للعورة
…
الكبرى [19] .
قاعدة: (للوسائل حكم المقاصد)[20] ، وبذلك يتبين أن قاعدة الوسائل
فرع عن قاعدة اعتبار المآل.
ثالثاً: مكملات المقاصد [21] :
المكمل هو ما من شأنه تحسين صورة أصله وتقوية جانبه؛ كالنافلة للفريضة.
ولما كانت مصالح الدين والدنيا مبنية على المحافظة على الأمور الخمسة:
الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال: كانت هي الأصل، وكانت الحاجيات
والتحسينيات مكملات لهذا الأصل؛ فهي بهذا النظر خادمة للأصل، ومحسنة
لصورته؛ إما مقدمة له، أو مقارنة، أو لاحقة.
وعلى كل تقدير: فالمكملات تدور حول الأصل بالخدمة؛ حتى يتأدى الأصل
على أحسن حالاته.
وذلك: أن الصلاة مثلاً إذا تقدمتها الطهارة أشعرت بتأهب لأمر عظيم، فإذا
استقبل المصلي القبلة أشعر بحضور التوجه، ثم يدخل في الصلاة بزيادة سورة
خدمة لفرض أُمِّ القرآن، ولو قدم قبل الصلاة نافلة كان ذلك تدريجاً للمصلي
واستدعاء للحضور، ولو أتبعها نافلة أيضاً لكان خليقاً باستصحاب الحضور في
الفريضة.
فالمكملات دائرة حول حمى الضروري؛ خادمة له، ومقوية لجانبه، ولو
خلت الضروريات منها أو من أكثرها لوقع فيها خلل بوجه ما [22] ، والوسائل من
قبيل التكملة؛ إذ بها يتحقق المقصود ويكتمل.
المسألة السادسة: شروط اعتبار الوسائل:
هل يجوز التوسل بكل وسيلة؟ ، أو: ما هي الشروط الواجب توفرها في
وسيلةٍ ما حتى يمكن اعتبارها وسيلة شرعية؟ .
والجواب: أن الوسائل لكي تعتبر وسائل شرعية لا بد لها من ضوابط،
ولمعرفة هذه الضوابط لا بد من النظر في أمور أربعة على الترتيب:
1 -
الوسيلة في ذاتها. 2 المقصد الذي تفضي إليه.
3 -
درجة الإفضاء. 4 المآل.
1-
النظر في الوسية ذاتها:
يشترط في الوسيلة أن تكون في ذاتها مشروعة: مطلوبة، أو مباحة، أو
مكروهة، بمعنى ألا تكون محرمة.
فإذا وجد في الوسيلة هذا الضابط نُظِر في الأمر التالي، وهو:
2-
النظر في المقصد الذي تفضي إليه هذه الوسيلة:
يشترط في المقصد المتوسل إليه أن يكون حلالاً: واجباً، أو مندوباً، أو
مباحاً، أو مكروهاً.
أما الضابط الثاني فهو: أن يبقى هذا المقصد ولايسقط؛ إذ الغرض من
التوسل تحصيل المقصد، فإن سقط المقصد وزال: بطل بزواله التوسل، وبطلت
معه الوسيلة. وقد سبق التنبيه على هذا الضابط عند الكلام على خصائص الوسائل.
فإذا توفر في المقصد هذان الضابطان: نُظِر في الأمر التالي، وهو:
3-
النظر في درجة الإفضاء:
يشترط في إعطاء الوسيلة حكم مقصدها أن تكون مفضية إليه، فإن تبين عدم
إفضاء الوسيلة إلى المقصد فإن الوسيلة يسقط اعتبارها [23] .
ويشترط أن يكون إفضاء الوسيلة إلى مقصدها مقطوعاً به، أو غالباً.
أما إن كان الإفضاء نادراً فلا عبرة به؛ إذ الأحكام الشرعية إنما تناط بالكثير
الغالب، لا بالبعيد النادر [24] ؛ ولذلك قيل:«لا عبرة بالظن البيّن خطؤه» [25]
فإذا كانت درجة الإفضاء كافية، فلا بد من النظر في الأمر التالي، وهو:
4-
النظر في المآل:
وذلك ألا يترتب على التوسل بهذه الوسيلة إلى مقصدها مفسدة تزيد على
مصلحة هذا المقصد أو تماثلها؛ إذ الغرض من هذا التوسل تحصيل مصلحة
المقصد المتوسل إليه، وهذه المصلحة متى ترتب على تحصيلها مفسدة أعظم منها
أو مثلها كانت تحصيلاً للمفسدة أو من قبيل تحصيل الحاصل، وكلا الأمرين
…
باطل [26] . ومعلوم أن سد الذرائع أصل معتبر، وأن أعظم الضررين يدفع
…
بأقلهما [27] .
المسألة السابعة: أحكام الوسائل:
أولاً: أحكام الوسائل من جهة فضلها ومراتبها:
يختلف فضل الوسائل ودرجاتها بحسب أمور ثلاثة:
الأول: فضل المقصد ودرجته، فبحسبه توزن الوسيلة:
قال العز بن عبد السلام: (يختلف أجر وسائل الطاعات باختلاف فضائل
المقاصد ومصالحها، فالوسيلة إلى [افضل] المقاصد أفضل من سائر الوسائل) [28] .
ومن الأمثلة على ذلك [29] :
أن التوسل إلى معرفة الله وذاته أفضل من التوسل إلى معرفة أحكامه.
وأن التوسل إلى معرفة أحكامه أفضل من التوسل إلى معرفة آياته.
وأن التوسل بالسعي إلى الجمعات أفضل من التوسل بالسعي إلى الجماعات
في الصلوات المكتوبات.
وأن التوسل بالسعي إلى الصلوات المكتوبات أفضل من التوسل بالسعي إلى
المندوبات التي شرعت فيها الجماعات؛ كالعيدين والكسوفين.
الثاني: درجة إفضاء الوسيلة إلى المقاصد:
فكلما كان إفضاء الوسيلة أكمل في تحقيق المقصد كانت الوسيلة أفضل.
قال العز بن عبد السلام: «وكلما قويت الوسيلة في الأداء إلى المصلحة كان
أجرها أعظم من أجر ما نقص عنها» [30] .
وقال ابن القيم: (فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها، والمنع منها
بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها.
ووسائل الطاعات والقربات في محبتها، والإذن فيها بحسب إفضائها إلى
غايتها) [31] .
وقضية إفضاء الوسيلة إلى مقصدها قد تكون من الأمور النسبية؛ فقد تختلف
قوة الوسيلة من وقت لآخر، ومن مقام لآخر؛ فما يكون من الوسائل قويّاً في مقام
قد لا يكون كذلك في مقام آخر.
والمقصود على كلٍّ: الحرص على أكمل الوسائل، وأعلاها في تحقيق
المصلحة؛ بحيث تحصل كاملة، راسخة، عاجلة، ميسورة [32] .
ولذلك قيل: «الفضيلة المتعلقة بنفس العبادة أولى من المتعلقة بمكانها»
كصلاة الجماعة، ولو كانت خارج المسجد، فإنها أفضل من الصلاة فيه بلا
…
جماعة [33] .
الثالث: نية المتوسل ومقصده:
ذلك أن الوسيلة غير مقصودة لذاتها، وهي تفتقر إلى النية لاعتبارها أو
إبطالها من جهة الشرع.
قال ابن القيم: «فالنية روح العمل ولبّه وقوامه، وهو تابع لها: يصح
بصحتها، ويفسد بفسادها.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال كلمتين كفتا وشفتا، وتحتهما كنوز العلم، وهما قوله:» إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى « [34][35] .
وقد بُني على هذا الحديث العظيم قاعدة كبرى من قواعد الفقه، وهي:
…
» الأمور بمقاصدها « [36] .
ويندرج تحت هذه القاعدة جميع العبادات والمعاملات والأيمان والنذور وسائر
العقود والأفعال [37] ، بل يسري حكم هذه القاعدة» إلى سائر المباحات؛ إذا قُصد
بها التقوِّي على العبادة أو التوصل إليها؛ كالأكل والنوم واكتساب المال وغير ذلك.
وكذلك النكاح والوطء؛ إذا قُصد به إقامة السنة والإعفاف أو تحصيل الولد
الصالح وتكثير الأمة « [38] .
وعلى المكلف إذا أراد صحة قصده شرعاً أن يتحرى قصد الشارع في كل
أعماله، وإن حصل له مع ذلك بعض أغراضه وشهواته؛ لأن هذه الشريعة
موضوعة لمصالح العباد [39] .
ثانياً: أحكام الوسائل من حيث التعيّن والتخيّر:
لا يخلو المقصد المتوسل إليه من حالتين:
الحالة الأولى: أن يتوقف تحصيله على وسيلة واحدة لا يتحقق إلا بها [40] . فالوسيلة في هذه الحالة متعينة الوجوب أو الاستحباب بحسب حكم المقصد.
الحالة الثانية: أن تتعدد الوسائل؛ فيمكن تحصيل المقصد بأكثر من
…
وسيلة [41] .
ففي هذه الحالة لا تخلو تلك الوسائل المتعددة من أمرين:
1 -
أن تكون متساوية في الإفضاء إلى المقصد؛ فعلى المكلف التخيّر منها.
2 -
أن يكون بعضها أقوى من بعض في الإفضاء إلى المقصد؛ فعلى المكلف
التماس أقوى الوسائل وأكملها في تحقيق المقصد.
قال ابن عاشور:» وقد تتعدد الوسائل إلى المقصد الواحد، فتعتبر الشريعة
في التكليف بتحصيلها أقوى تلك الوسائل تحصيلاً للمقصد المتوسل إليه بحيث
يحصل كاملاً، راسخاً، عاجلاً، ميسوراً، فتقدمها على وسيلة هي دونها في هذا
التحصيل.
وهذا مجال متسع، ظهر فيه مصداق نظر الشريعة إلى المصالح، وعصمتها
من الخطأ والتفريط
…
فإذا قدّرنا وسائل متساوية في الإفضاء إلى المقصد باعتبار
أحواله كلها: سوّتْ الشريعة في اعتبارها، وتخير المكلف في تحصيل بعضها دون
الآخر؛ إذ الوسائل ليست مقصودة لذاتها « [42] .
ثالثاً: أحكام العمل بالوسائل من جهة الحكم التكليفي:
الأصل في أحكام الوسائل أنها تابعة لأحكام مقاصدها التي تفضي إليها، ولهذا
قيل:» للوسائل أحكام المقاصد « [43] .
قال القرافي:» وحكمها [أي: الوسائل] كحكم ما أفضت إليه من تحريم أو
تحليل، غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها « [44] .
وقال ابن سعدي:» الوسائل لها أحكام المقاصد: فما لا يتم الواجب إلا به
فهو واجب، وما لايتم المسنون إلا به فهو مسنون، وطرق الحرام والمكروهات
تابعة لها، ووسيلة المباح مباح « [45] .
ومما مضى يتبين أن الوسيلة:
-قد تكون واجبة وجوباً متعيناً، وذلك بشرطين:
أ - أن يكون مقصدها واجباً.
ب - أن يتوقف تحصيل هذا المقصد على هذه الوسيلة بعينها.
-وقد تكون الوسيلة واجبة وجوباً مخيراً فيه بالتساوي؛ كخصال الكفارة،
وذلك بشرطين:
أ - أن يكون مقصدها واجباً.
ب - أن تتعدد وسائل هذا المقصد مع كونها متساوية في إفضائها إليه.
-وقد تكون الوسيلة مندوبة، وذلك بشرطين:
أن يكون مقصدها مندوباً، وأن تكون درجة إفضاء الوسيلة إلى المقصد كافية.
وربما تكون الوسيلة مندوبة أيضاً بشرطين: أن يكون مقصدها واجباً، وأن
تكون درجة إفضاء الوسيلة إلى المقصد محتملة.
-وقد تكون الوسيلة مباحة، وذلك بشرطين:
أن يكون مقصدها مباحاً، وأن تكون درجة إفضاء الوسيلة إلى المقصد كافية.
-وأما إن كان المقصد محرماً: فالوسيلة والحالة كذلك تعد ذريعة محرمة،
يجب سدها.
وكذلك إذا كان المقصد مكروهاً: فالوسيلة في هذه الحالة تعد ذريعة، وحكمها
الكراهة.
المسألة الثامنة: الفرق بين الوسائل والبدع [46] :
الاشتباه بين البدع والوسائل حاصل من وجهين:
أنهما لايستندان إلى دليل شرعي خاص، لذا: فقد اعتبر بعض أهل العلم
الوسائل المرسلة كجمع المصحف، وكتابة العلم من البدع المستحسنة [47] .
كما أن كلاّ منهما من الأمور الحادثة التي لا عهد للسلف بها.
ويتضح الفرق بين الوسائل والبدع من وجهين:
أن الوسائل غير مقصودة لذاتها، بل هي راجعة إلى حفظ مقصد من مقاصد
الشريعة، بخلاف البدع فإنها في الغالب مقصودة لذاتها؛ إذ هي عبادة شرعية بزعم
أصحابها.
إذا علم ما سبق؛ فإن الوسائل تكون ممنوعة إذا ناقضت شيئاً من مقاصد
الشريعة، أو خالفت أصلاً من أصولها، فهذا شرط مهم وأساس في اعتبارها والأخذ
بها؛ ذلك أن مستندها تحقيق مقصد الشارع، أما البدعة مع كونها مناقضة لمقاصد
الشريعة فإنها عند أهلها معتبرة على الإطلاق والدوام ولا تسقط بحال من الأحوال،
وذلك لما تقدم من كونها عند أهلها مقصودة بذاتها.
المسألة التاسعة: وسائل الدعوة، هل هي توقيفية أم اجتهادية؟
لقد كثر الجدال وطال الكلام حول هذا السؤال، والناس في الجواب عنه
فريقان: كل فريق يقطع بصحة رأيه وخطأ مخالفه، وربما جُعل من هذه القضية
عند بعضهم معقد اجتماع وافتراق، وموطن ولاء وبراء.
ولعل السبب في ذلك أن كل فريق بنى موقفه من قضية وسائل الدعوة على
نظرته الخاصة إلى تطبيقات وأمثلة معينة؛ كالنشاط المسرحي المشتمل على بعض
القصائد المنشودة والمشاهد التمثيلية، وكالبرامج الإعلامية المعتمدة على تصوير
ذوات الأرواح، وكالمشاركة في المجالس الشعبية والانتخابات الجمهورية، فمن
ارتضى هذه الوسائل ورأى شرعيتها: جزم بأن وسائل الدعوة اجتهادية، ومن أنكر
هذه الوسائل ورأى عدم شرعيتها: جزم بأن وسائل الدعوة توقيفية.
فانظر: كيف قُلبت الموازين عند هذين الفريقين، حينما أخضعوا القاعدة
الكلية أعني: كون وسائل الدعوة توقيفية أو كونها اجتهادية لبعض أمثلتها وتطبيقاتها، وكان المفترض: إخضاع هذه الأمثلة وإرجاعها إلى قاعدتها الكلية. وإليك بيان ذلك بمثال واحد:
من وسائل الدعوة ونشر الخير وتعليمه للناس: شريط الفيديو المشتمل على
الندوات والمحاضرات المصحوبة بالصورة الحية، فإذا أردنا معرفة حكم هذه
الوسيلة فلا بد أن نطبق على هذه الوسيلة شروط اعتبار الوسيلة الماضي بيانها؛
فننظر: هل هذه الوسيلة في ذاتها ممنوعة؟ إن قلنا بتحريم التصوير ومنعه
فالنتيجة: أن هذه الوسيلة محرمة لا يجوز التوسل بها، فلا حاجة لنا عند ذلك إلى
النظر في الشروط المتبقية، وإن قلنا بجواز التصوير وإباحته، فننظر في الشروط
المتبقية: هل المقصد المتوسل إليه مقصد شرعي صحيح؟ وهل هو باقٍ لم يسقط؟ وهل درجة الإفضاء كافية؟ وهل يترتب على هذا التوسل مفسدة مساوية
لمصلحته أو أعظم منها؟ .
وبعد ذلك وقبله: لا بد من النظر في مسألة حكم تصوير ذوات الأرواح: أهو
من المسائل التي يسوغ فيها الاجتهاد؛ فيبقى الخلاف حينئذ دائراً في نطاق المسائل
الاجتهادية، ولا ينكر على المخالف في هذه الحالة إلا بالحجة والدليل، دون تشنيع
ولا تفسيق، أو هي مسألة لا يسوغ فيها الاجتهاد ولا الخلاف؛ فيكون الخلاف
والحالة كذلك مرفوضاً، بل قد يرمى المخالف بالبدعة أو أزيد.
والمقصود: أن وسائل الدعوة لا يحكم عليها إلا بعد عرضها على الشروط
الشرعية؛ فمتى وجدت هذه الشروط جميعها في وسيلةٍ ما: حُكِم بصحة هذه
الوسيلة، ومتى تخلفت هذه الشروط أو بعضها: حُكم ببطلانها.
ومن جهة أخرى فإن في هذا السؤال أعني: وسائل الدعوة، هل هي توقيفية
أم اجتهادية؟ إجمالاً في ثلاث لفظات، والألفاظ المجملة ينبغي التحفظ في إطلاقها
دون بيان أو تقييد، وهذه اللفظات هي:
لفظة (وسائل الدعوة) من الألفاظ المجملة، التي تحتمل أكثر من معنى:
فإن أُريد بوسائل الدعوة: منهج الأنبياء الثابت في الدعوة إلى الله (تعالى) كضرورة
البدء بالعقيدة ونبذ الشرك بمختلف صوره.. فلا شك أن وسائل الدعوة بهذا المعنى
لا مجال فيها للاجتهاد؛ بل هي توقيفية.
وإن أريد بوسائل الدعوة: أساليب الدعوة إلى الله، وطرائق تبليغ الدين من
كتابة أومشافهة مباشرة أو غير مباشرة: فلا شك أن وسائل الدعوة بهذا المعنى
ليست توقيفية، بل هي خاضعة للاجتهاد والنظر حسبما يحقق المصلحة.
وكذلك: فإن لفظة» الاجتهاد «الواردة في قول القائل:» وسائل الدعوة
اجتهادية «من الألفاظ المجملة؛ فإن الاجتهاد يحتمل معنيين: فإن أريد به الاجتهاد
غير المنضبط، وهو القول بالرأي المجرد واتباع الهوى: فلا شك أن وسائل
الدعوة ليست اجتهادية بهذا المعنى، وإن أريد بالاجتهاد إعمال الفكر، وإطالة النظر
في إطار الضوابط الشرعية: فيصح القول بأن وسائل الدعوة اجتهادية على هذا
المعنى.
وكذلك لفظة» التوقيف «الواردة في قول القائل:» وسائل الدعوة توقيفية «، فإنها من الألفاظ المجملة؛ لأنها تحتمل معنيين: فقد يراد بالتوقيف أولاً: مطلق الدليل الشرعي عامّاً كان أو خاصّاً، وعلى هذا المعنى يصح أن يقال: إن وسائل الدعوة من أساليب وطرائق توقيفية، بمعنى: أن هذه الوسائل لا بد أن تضبط بالضوابط الشرعية؛ لئلا تكون ميداناً لزيادات المبتدعين وتحريف الضالين المضلين.
وقد يراد بالتوقيف ثانياً: الدليل الشرعي المعين، بمعنى: أن الأدلة الشرعية
الكلية التي قد تدل على اعتبار مثل هذه الوسيلة لا تكفي وحدها دليلاً على صحة
هذه الوسيلة واعتبارها شرعاً، بل لا بد من دليل شرعي يدل دلالة خاصة على
اعتبار عين هذه الوسيلة وصحتها من جهة الشرع، ولكن الأخذ بهذا المعنى لا
يستقيم كما يشهد لذلك واقع الحال إلا بتحريم جميع وسائل الدعوة العصرية التي لم
توجد في عصر النبوة والصحابة، كإنشاء المدارس والمكتبات وما إلى ذلك من
الآلات والمخترعات الحديثة المنتشرة في عصرنا هذا؛ ذلك أن هذه الوسائل لم يدل
على اعتبارها دليل شرعي خاص.
وزيادة في الإيضاح نقول: إن أصحاب التوقيف الخاص، الذين يذهبون إلى
أن وسائل الدعوة توقيفية لا يحل لأحد أن يشرِّع فيها ما لم يأذن به الله وهو ما كان
عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اضطروا إلى التزام أمور ثلاثة
على الترتيب الآتي:
القول بمنع وتحريم كل ما يسمى وسيلة مما لم يشهد له دليل شرعي خاص.
اعتبار الأخذ بهذه الوسائل من قبيل الابتداع في الدين.
تسمية بعض الوسائل الدعوية الحديثة كالأشرطة ومكبرات الصوت التي دلت
على صحتها الأدلة الشرعية العامة دون الأدلة الخاصة باسم آخر، مثل: قالب أو
وعاء أو طريقة أداء وبلاغ أو آلات نقل.
وقد غاب عن هؤلاء أن هذه القوالب أو الأوعية التي تقوم بنقل الوسيلة
الشرعية كالشريط ومكبر الصوت يمكن أن تسمى بوسائل الوسائل، وقد عُلم أن
وسائل الوسائل وسائل، وهذه التسمية مشهورة مذكورة عند العلماء الذين لهم عناية
بقضية الوسائل.
المسألة العاشرة: هل الغاية تبرر الوسيلة؟
الجواب على هذا السؤال: إنما يتضح بعد معرفة أصل ونشأة القول بأن
…
» الغاية تبرر الوسيلة «وهو مذهب الميكيافيليين، وهو مبني على نظرتهم المادية
للحياة.
وبالجملة: فلا بد من النظر أولاً في الغاية؛ فإن كانت غاية فاسدة ومقصداً
باطلاً: فلا يجوز التوسل إليها ألبتة؛ بل الواجب منع هذه الغاية، ومنع كل وسيلة
تؤدي إليها، وهذا ما يعرف بأصل سد الذرائع، أي منع ذرائع الفساد ووسائله.
ثم: إن كانت هذه الغاية مقصداً شرعيّاً صحيحاً فلا بد من النظر ثانياً في
الوسيلة؛ لأن الوسيلة: إما أن تكون مطلوبة شرعاً، أو ممنوعة شرعاً، أو وسيلة
مرسلة.
فإن كانت الوسيلة مطلوبة: فالواجب في هذه الوسيلة تحصيلها والالتزام
بحكمهما الشرعي، ما لم يترتب على الأخذ بهذه الوسيلة مفسدة أعظم؛ كإنكار
المنكر إذا ترتب عليه مفسدة تربو على ذات المنكر، فالغاية ها هنا لا تبرر الوسيلة، على الرغم من كون هذه الغاية غاية شرعية نبيلة، وكون الوسيلة أيضاً وسيلة
مطلوبة.
أما إن كانت الوسيلة ممنوعة شرعاً: فالواجب في هذه الوسيلة منعها
وإبطالها، إلا إن ترتب على الأخذ بهذه الوسيلة الممنوعة دفع مفسدة أعظم؛
كالكذب للإصلاح بين المتخاصمين، فالغاية ها هنا وهي غاية شرعية نبيلة تبرر
الوسيلة، على الرغم من كون هذه الوسيلة في ذاتها ممنوعة، وإنما كان ذلك دفعاً
لأعظم المفسدتين بأدناهما.
أما إن كانت الوسيلة مرسلة: فالواجب النظر في ضوابطها على النحو الذي
سبق بيانه في شروط اعتبار الوسائل.
نسأل الله عز وجل أن يوفق الجميع للعلم النافع والعمل الصالح.
(1) قواعد الأحكام، ص 105، 106، وانظر: شرح تنقيح الفصول، ص 449، والفروق، 2/33.
(2)
القواعد والأصول الجامعة، ص11.
(3)
القواعد والأصول الجامعة، ص11.
(4)
قواعد الأحكام، ص131.
(5)
القواعد والأصول الجامعة، ص 12.
(6)
البخاري: كتاب العلم.
(7)
انظر: قواعد الأحكام، ص 106، والقواعد والأصول الجامعة، ص 12، والحديث أخرجه مسلم: كتاب المساجد، باب المشي إلى الصلاة.
(8)
انظر: مجموع الفتاوى، 20/159 161، والمسودة، ص61، وشرح الكوكب المنير، 1/357 360.
(9)
المراد بهذا القيد أن ما لا يتم الوجوب إلا به ليس بواجب؛ كملك النصاب، فإنه شرط في وجوب الزكاة، لكن لا يجب على العبد تحصيله، بخلاف ما لا يتم الواجب إلا به فإنه واجب؛ كنقل أموال الزكاة لإيصالها إلى مستحقيها، انظر: مجموع الفتاوى، 20/160، وقواعد المقري، 3/393، ونزهة الخاطر، 1/107، والوجيز لبورنو، ص 343.
(10)
انظر: روضة الناظر، 1/110، ومجموع الفتاوى، 10/533.
(11)
انظر في قاعدة الاحتياط: بدائع الفوائد، 3/257 275.
(12)
انظر: الموافقات، 4/194 211.
(13)
انظر: الموافقات، 4/198.
(14)
الموافقات، 4/194.
(15)
انظر فيما يتعلق بالنهي عن الغلو: مجموع الفتاوى، 25/281، 282، والمحجة في سير الدلجة، ص 46، 47.
(16)
انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي، ص150.
(17)
انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي، ص 150، والأشباه والنظائر لابن نجيم، ص 158.
(18)
انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي، ص 151.
(19)
السابق، ص 125.
(20)
انظر: قواعد الأحكام، 1/46، وشرح تنقيح الفصول، ص449، والفروق، 2/33، والقواعد والأصول الجامعة، ص10.
(21)
انظر: الموافقات، 2/12 25، وشرح الكوكب المنير، 4/163.
(22)
انظر: مقاصد الشريعة لابن عاشور، ص 148.
(23)
انظر: القواعد للمقري، 1/242.
(24)
انظر: إعلام الموقعين، 3/279، والموافقات، 2/358.
(25)
انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي، ص 157، والأشباه والنظائر لابن نجيم، ص 161.
(26)
انظر: قواعد الأحكام، ص 53، 79، ومجموع الفتاوى، 20/ 48، 51، 54، والأشباه والنظائر للسيوطي، ص 86 88، والأشباه والنظائر لابن نجيم، ص 90، 91.
(27)
انظر: الأشباه والنظائر لابن نجيم، ص 88، 89.
(28)
قواعد الأحكام، ص104.
(29)
انظر: المصدر السابق، ص 104.
(30)
المصدر السابق.
(31)
إعلام الموقعين، 3/135.
(32)
انظر: مقاصد الشريعة لابن عاشور، ص 148.
(33)
انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي، ص 147.
(34)
أخرجه البخاري: كتاب بدء الوحي، ومسلم: كتاب الإمارة.
(35)
إعلام الموقعين، 3/111.
(36)
انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي، ص 8، والأشباه والنظائر لابن نجيم، ص 27.
(37)
انظر: إعلام الموقعين، 3/111.
(38)
الأشباه والنظائر للسيوطي، ص10.
(39)
انظر: الموافقات، 2/168 176.
(40)
ويدخل تحت ذلك: إذا كان للمقصد أكثر من وسيلة، إلا أنه لايتحقق كاملاً إلا بواحدة، وربما يتحقق هذا المقصد بوسائل أخرى إلا أنه غير كامل، فوجود هذه الوسيلة وعدمه سواء.
(41)
بشرط أن تشترك هذه الوسائل في تحصيل أصل المقصد، وأن يكون التفاوت فيما بينها في قضية الكمال.
(42)
مقاصد الشريعة لابن عاشور، ص149.
(43)
انظر: قواعد الأحكام، وشرح تنقيح الفصول، ص449، والفروق، وإعلام الموقعين، والقواعد والأصول الجامعة، ص10.
(44)
القواعد والأصول الجامعة، ص 10.
(45)
شرح تنقيح الفصول، ص 449.
(46)
انظر: الاعتصام، 2/111 135، والإبداع، ص 83 92، وأصول في البدع والسنن، ص 39 47، والبدعة والمصالح المرسلة، ص359 362، وحقيقة البدعة، 2/185 189.
(47)
ممن ذهب إلى ذلك: العز بن عبد السلام في كتابه قواعد الأحكام، 2/ 172، وتلميذه القرافي في كتابه الفروق: 4/202 وهذا التقسيم مبني على أن البدع ليست كلها مذمومة بل منها ما هو حسن والحق: أن كل بدعة ضلالة كما ورد ذلك في الحديث الصحيح، وما ذكره هؤلاء العلماء من أن هناك بدعة حسنة لا يخلو من حالين: إما ألا تكون بدعة لكن يظن هؤلاء أنها بدعة، وإما أن تكون بدعة سيئة لكن لا يعلم هؤلاء سوءها انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/188 وما بعدها، والإبداع في كمال الشرع وخطر الابتداع، لابن عثيمين، ص 11 وما بعدها.
دراسات تربوية
مقاصد التوبة دعوة إلى السير في مدارج الكمال
(2 من 2)
بقلم: د. محمد عز الدين توفيق
استهلّ الكاتب الحلقة الماضية ببيان نوعي التوبة، وماهية كلٍّ منهما،
مع توضيح أهمية التوبة التي تجدد الإسلام (توبة الإحسان) ، ثم أخذ يتحدث عن
حوافز (دوافع) التوبة، فكان منها: عموم الأمر بها، والتفكر في حقيقة الزمن،
والنظر إلى الماضي، والنظر إلى المستقبل، ويواصل الكاتب عرضه لجوانب
أخرى.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
- البيان -
الحافز الخامس: الشعور بالاصطفاء:
لقد مضت سنة الله (تعالى) في الناس أن يكون أهل الهداية قلة وأهل الضلالة
كثرة [وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ][يوسف: 103] ، [وَإن تُطِعْ
أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ] [الأنعام: 116] ، [وَتَمَّتْ كَلِمَةُ
رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ] [هود: 119] ، [اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ
شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ] [سبأ: 13] ، [وَالْعَصْرِ (1) إنَّ الإنسَانَ لَفِي
خُسْرٍ (2) إلَاّ الَذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ]
[العصر: 1-3] .
والتفكر في هذه الحقيقة الإلهية، وتتبع شواهدها في التاريخ والواقع: من
أعظم الحوافز التي تدعو إلى التمسك بالهداية، والتشبث بأسبابها، والحذر من
عوامل سلبها، فالذي يعلم أنه بالتوبة الأولى قد التحق بالموكب الكريم من المؤمنين
الصالحين، وانتمى إلى الصفوة المختارة من عباد الله يتقدمهم الأنبياء والمرسلون:
يعمل أقصى جهده ليتبوأ أفضل مقعد في هذا الموكب، ويأخذ أحسن موقع في هذا
الصف، ولا يزال يجاهد نفسه ويحملها على الأحسن والأصوب، وحتى يدرك من
المراتب ما لا يشاركه فيه إلا القليل من الناس.
وأي شيء يهدده في هذه النعمة، ويحرمه من هذه المعية الطيبة وهذا الجوار
المقدس: يبعد عنه ويحذر منه.
هذا الشعور بالاصطفاء الذي يبدأ في القلب عقب التوبة الأولى، ويزداد
ويعظم بالتوبة الثانية: هو الذي يهون على النفس سائر المعاصي مهما تكن جاذبيتها؛ لأنه عندما يضع تلك اللذات في كفة، ويضع هذا الاصطفاء في كفة، ويكون ذا
عقل ورأي: لا يرجح إلا الثاني، ولا يأنس إلا به، وكيف لا يأنس وقد وجد
الطريق ووجد الرفيق؟ ! .
الحافز السادس: التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم فوق أنه فرض واجب، فهو
من أعظم الحوافز التي تدعو المسلم إلى تجديد إسلامه باستمرار.
والتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم ليس عمل يوم أو ليلة، ولكنه
عمل كل يوم وكل ليلة حتى الوفاة، فقد جمع الله عز وجل الكمالات البشرية في
نبيه صلى الله عليه وسلم، وزكى سيرته من فوق سبع سماوات لتكون قدوة
للناس، فكل مسلم مأمور أن يدرس هذه السيرة بنيّة التأسي والاتباع، قال الله
(تعالى) : [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ
وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً] [الأحزاب: 21] .
ومن اكتشف هذا المعِين: لزمه، واستقى منه، ومنع أي مصدر آخر أن
يشوش عليه، وكيف يترك المقطوع به للمظنون، والمعصوم لغير المعصوم؟ ! .
وما دام المسلم يرى في سلوكه بدعاً ومحدثات وذنوباً وآثاماً، فإنه يشعر
بالنقص الحاصل في امتثاله للآية السابقة، فيزداد اقتراباً من سيرة نبيه -صلى الله
عليه وسلم-، جاعلاً الغاية التي يشمر إليها والشعار الذي يسعى نحوه: الأخذ بكل
ما كان يفعله نبيه، والإقلاع عن كل ما كان يتركه.
إن الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته، وصيامه، وحجه، وذكره، وطهوره، ودعوته، وفي شأنه كله: حافز من حوافز التوبة الثانية التي
تمتد سائر العمر.
وإذا علم المسلم أن النبي نفسه وهو المعصوم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه
وما تأخر قد أُمر بالتوبة والاستغفار في عدة آيات، آخرها عند فتح مكة لما قال الله
(تعالى) له: [إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ
أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّاباً] [النصر: 1-3] .
ماذا يكون حال غيره ممن لا يدري بَعْدُ مصيره، وفي الحديث الذي رواه
مسلم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس: توبوا إلى الله
واستغفروه، فإني أتوب في اليوم مئة مرة» .
الحافز السابع: الاقتداء بالسلف الصالح:
الاقتداء بالسلف الصالح فرع عن الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح هم القرون الثلاثة الأولى التي شهد لها رسول الله، صلى الله
عليه وسلم، بالخيرية ثم جميع الذين يشبهونهم في الفهم والتطبيق، كيفما كان
عصرهم، وكيفما كان بلدهم.
السلفية اتجاه في فهم الإسلام والعمل به، والسلف هم الذين تحققوا بمقومات
هذا الاتجاه في كل عصر، الأمثل فالأمثل، وفي حديث العرباض بن سارية
رضي الله عنه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أوصيكم بتقوى الله....
فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين
الراشدين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن
كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» [1] .
فذكر سنته، ثم ذكر سنة الخلفاء الراشدين بعده؛ لأنها امتداد لسنته، فقد كانوا
رضي الله عنهم أشبه الناس به في صلاته وقضائه وجهاده وفي هديه كله، ثم
يأتي بعدهم التابعون لهم بإحسان في كل جيل.
ويحتاج المسلم الذي يريد أن يجدد إسلامه ويتوب توبة الإحسان أن ينظر في
سيرة من سبقوه، وحازوا قصب السبق في كل فضيلة؛ فعندما يطالع سيرهم: يقف
على نماذج رائعة في استغلال الوقت، واستثمار العمر، ومبادرة الأجل بالأعمال
الصالحة، وترتيب الأعمال حسب الأولوية، والموازنة بين العبوديات، والشمول
في فهم الدين، واليقين العظيم في الجزاء، والبعد عن موجبات النقمة والعذاب، ثم
ينظر إلى نفسه، فيجدها بعيدة عن كل ذلك، فتتحرك في نفسه غبطة محمودة تحمله
على منافستهم في مقاماتهم، والاقتداء بهم في أخلاقهم وأعمالهم، وقد كتب علماؤنا
كتب التاريخ والتراجم لهذا الغرض؛ حتى تبقى التجارب الناجحة في تطبيق
الإسلام محفوظة، يستشهد بها الواعظ والخطيب والمربي والداعية والمدرس
والشاعر والكاتب، كلّ في مجاله وموضوعه، وهذه مقتطفات من كتاب صيد
الخاطر للشيخ عبد الرحمن بن الجوزي المتوفى سنة 597هـ، نوردها مثالا لهذه
السيرة النموذجية [*] يقول [2] : (تأملت نفسي بالإضافة إلى عشيرتي الذين
انفقوا أعمارهم في اكتساب الدنيا، وأنفقت زمن الصفوة والشباب في طلب العلم،
فرأيتني لم يفتني مما نالوه إلا ما لو حصل لي لندمت عليه، ثم تأملت حالي: فإذا
عيشي في الدنيا أجود من عيشهم، وجاهي بين الناس أعلى من جاههم، وما نلته
من معرفة العلم لا يقاوم، وما طالت طريق أدت إلى صديق كما يقال، وقد كنت
في حلاوة طلبي للعلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل؛ لأجل ما
أرجو وأطلب) .
(كنت في زمن الصبا آخذ معي أرغفة يابسة، فأخرج إلى طلب الحديث،
وأقعد على نهر عيسى في ضواحي بغداد، فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء، فكلما
أكلت لقمة شربت عليها، وعين همتي لا ترى إلا تحصيل العلم، وأثمر عندي ذلك
من المعاملة ما لا يدرك بالعلم، حتى إنني أذكر في زمان الصبوة ووقت الغلمة
والعزبة: قدرتي على أشياء كانت النفس تتوق إليها توقان العطشان إلى الماء
الزلال، ولم يمنعني عنها إلا ما أثمر عندي من خوف الله عز وجل ، ولولا
خطايا لا يخلو منها بشر
…
لقد أخاف على نفسي العجب، غير أنه عز وجل
صانني وعلمني وأطلعني من أسرار العلم على معرفته وإيثار الخلوة به، حتى لو
حضر معي معروف الكرخي وبشر الحافي لرأيتهما زحمة) .
(وقد رباني (سبحانه) منذ كنت طفلاً، فإن أبي مات وأنا لا أعقل به، والأم لم تلتفت إليّ، فركّز في طبعي حب العلم، ومازال يوقعني على المهم فالمهم،
ويحملني إلى من يحملني على الأصوب حتى قوّم أمري
…
ولقد تاب على يدي في مجالس الذكر أكثر من مئتي ألف، وأسلم على يدي
أكثر من مئتين، وكم سالت عين متجبر بوعظي لم تكن تسيل
…
) .
هذه نشأة عالم مسلم وكلها تصون وعفاف، وعلم نافع وعمل صالح، ومع
ذلك: كثيراً ما يؤنب نفسه، ويرى أنه لم يسلم بعد إسلاماً جيداً، يقول رحمه الله
(تعالى)[3] :
(تفكرت في نفسي يوماً محققاً، فحاسبتها قبل أن تحاسب، ووزنتها قبل أن
توزن
…
ولقد تفكرتُ في خطايا لو عوقبت ببعضها لهلكت سريعاً، ولو كشف
للناس بعضها لاستحييت، ولا يعتقد معتقد أنها من كبائر الذنوب حتى يظن بي ما
يظن في الفساق، بل هي ذنوب قبيحة في حق مثلي، وقعت بتأويلات فاسدة
…
أف لنفسي! وقد سطرت عدة مجلدات في فنون العلم وما عبق بها من فضيلة، إن
نُوظِرَتْ شَمَخَتْ، وإن نوصحت تعجرفت، وإن لاحت الدنيا طارت إليها طيران
الرخم وسقوط الغراب على الجيف
…
أف والله مني اليوم على وجه الأرض وغداً
تحتها! ، والله إن نتن جسدي بعد ثلاث تحت التراب أقل من نتن إخلاقي وأنا بين
الأحباب
…
وغداً يقال: مات الحبر العالم الصالح، ولو عرفوني بحق معرفتي ما
دفنوني
…
والله لأنادين على نفسي نداء المكشِفين معايب الأعداء، ولأنوحن نوح
الثاكلين للأبناء
…
واحسرتاه على عُمْر انقضى فيما لا يطابق الرضى، واحرماني من مقامات
الرجال الفطناء، يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله وشماتة العدو بي، واخيبة
من أحسن الظن بي إذا شهدت الجوارح عَليّ، واخذلاني عند إقامة الحجة، سخر
والله مني الشيطان وأنا الفطن) .
ثم يختم هذه المعاتبة بقوله: (اللهم توبة خالصة من هذه الأقذار، ونهضة
صادقة لتصفية ما بقي من الأكدار) .
فإذا كانت نهاية حوار هذا العالم مع نفسه أن يسأل توبة خالصة ونهضة
صادقة، فما أحرى من هو دونه علماً وعملاً أن يسأل ذلك.
ونؤكد أن المسلم إذا طالت صحبته لسِيَر السلف استوحش من أهل زمانه
وأنكر أسلوب حياتهم، وتعلق بالآفاق العالية التي حلق فيها أولئك الرجال العظماء
النبغاء الموهوبون، فهو في كل ساعة مشغول بمنافستهم ومزاحمتهم، وكلما حل
بمنزلة من منازل السير: تراءت له أخرى أعلى، وكلما دهمه كسل أو فتور:
تذكر أنه في حلبة سباق، وأي تهاون أو تباطؤ سيلقي به في مؤخرة المتنافسين،
ويزيده تشجيعاً: أن الاجتماع بهؤلاء السلف الصالح هو السير على نهجهم والتخلق
بأخلاقهم.
إن الاقتباس من السِّيَر الناجحة والتجارب الموفقة في تطبيق الإسلام يحدث
توبة متجددة في حياة المسلم، ويصحح من أوضاعه باستمرار.
الحافز الثامن: حقارة الإنسان بلا إيمان:
إن مما يزكي خطوات المسلم في طريق التوبة: علمه أن الإنسان بلا إيمان
كائن تافه حقير، بل هو لا شيء، يولد ويحيا ويموت كما ولد ومات الملايين من
أمثاله.
ها هو الليل والنهار قد صحبا قوم نوح وعاد وثمود وقروناً بين ذلك كثيراً،
فقرب بهما البعيد، وبلي بهما الجديد، وتحقق بهما الموعود، ولا زالا يسيران في
الباقين سيرتهما في السابقين، أفيكون من التبصر والتعقل تعرض الإنسان الضعيف
الفقير لهلاك الأبد إذا أصر على الكفر أو المعصية، وأنفق أيام عمره فيما يغضب
الله ويسخطه عليه؟ .
أيكون من التعقل أن يعرف الإنسان طريق الأمان ويظل شارداً عنه، والله
(سبحانه) يفرح بتوبته إذا تاب كما يفرح المسافر الذي أضل راحلته حتى أوشك
الهلاك جوعاً وعطشاً، فوجدها وعليها طعامه وشرابه؟ .
كثير من الناس تتضخم عندهم ذواتهم، وتتحول إلى معبود يعبدونه من دون
الله، فيظن أنه ذو شأن كبير بما عنده من أموال، أو ما يحمله من ألقاب، أو ما
عنده من خدم وحشم وولد، وتخدعه الأعراض الزائلة، فيغفل عن البداية والنهاية،
أو الميلاد والممات، وينسى أن ما أدركه من مال وجاه عَرَض حاضر، وعن
قريب يزول، قال (تعالى) : [وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمََعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ (2)
يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَاّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الحُطَمَةِ] [الهمزة: 1 4] ، فمالُه لا يُخلده، بل مثله مثل سائر الناس يموت بأجَله؛ فيترك المال وراء ظهره، ويقدم على ربه
وحده.
تضخم الذات وتحولها إلى محور لاهتمامات الشخص، واغتراره بالمكانة
والجاه في بلده وقومه: موانع تحول دون الإنسان والتوبة، ولكنه متى علم أنه بلا
إيمان كائن حقير، وأنه يموت فيرجع إلى ربه: طلب المكانة اللائقة به، بصفته
مخلوقاً كريماً على الله الذي خلق كل شيء من أجله وخلقه لعبادته.
الحافز التاسع: العلاقة بين الإنسان والكون:
إن الإسلام ليس دين الإنسان فحسب، بل هو دين الكون كله، فالسماوات
والأرض وما فيهما خاضع لكلمة الله الواحدة، وكل ما فيهما من كائنات علوية
وسفلية مسلم لله عابد له بالكيفية التي تناسبه.
وأي مخالفة مهما كانت هينة تمثل شذوذاً عن كوْنٍ مسلم خاضع لربه مطيع
لخالقه.
هذا الكون إبداع الخلاق العليم، والإنسان جزء منه، فالقوانين التي تحكم
فطرته ليست بمعزل عن الناموس الذي يحكم الوجود كله، والله الذي خلق هذا
الكون وخلق الإنسان، هو الذي سن للإنسان شريعة تنظم حياته تنظيماً متناسقاً مع
طبيعته، فأي خروج عنها يعني التصادم مع الفطرة والكون.
وإذا كان الحفاظ على هذا الانسجام بين الفطرة والكون مطلباً عزيزاً؛ لكثرة
أخطاء الإنسان وذنوبه: فإن الله عز وجل فتح باب التوبة، يدخله العبد كل وقت، فيجدد عهود الخلافة ويصحح ما كان قد انتقض منها، وفي بعض الآثار: أن
الإنسان إذا أذنب الذنب تستأذن المخلوقات في إهلاكه، فيقال لها: لعله يتوب،
لعله يتوب.
إن الإحساس بالرابطة التي تربطنا بالكون وهي رابطة العبودية لله هو الذي
يدفع إلى الالتزام الصارم بأوامر الشريعة؛ لأنها توفق بين نظام الكون ونظام
الفطرة، وتكون التوبة التي تعقب الذنوب أو تجدد الطاعات بمثابة المصالحة التي
تعقب الخصام، أو القرب الذي يقرب التباعد والهجران.
الإنسان المسرف على نفسه مثل النغمة النشاز التي تشذ عن أنشودة الكَوْن،
أو هي المتسابق الذي يسير في عكس اتجاه الكوكبة، أو هو المصلي الذي يصلي
في اتجاه مقابل للقبلة مخالفاً لباقي المصلين.
فلو تذكر الإنسان أنه ليس وحده في هذا الكون، ولو التفت يميناً وشمالاً،
ورفع بصره وخفضه، ورأى آيات الله في الآفاق والأنفس، لرأى مخلوقات مقبلة
على شأنها، قائمة بحق ربها، فيقبل مثلها على شأنه وينظر في أمر ربه فيلزمه،
عند ذلك يشعر بالأُنس، وتزول عنه الغربة التي يشعر بها غيره، فكيف إذا ترقى
من الشعور بالأُنْس مع المخلوقات إلى الأنس بالخالق، فيأنس إلى ربه عندما يشعر
أن الله (تعالى) معه، يشهده وينظر إليه، وأن الله (تعالى) معه، يحفظه ويرعاه،
وهذه هي جنة الدنيا التي من دخلها دخل جنة الآخرة بإذن الله.
والآن: وبعد أن استعرضنا هذه الحوافز: لا بد أن نؤكد في الأخير أن تجديد
الإسلام في حياة المسلم مشروع كبير، وحتى ينجح أي مشروع لا بد أن يمر بثلاث
مراحل: الأولى: التفكير والتنظير، والثانية: التخطيط والبرمجة، والثالثة:
التنفيذ والمحاسبة.
فالتوبة التي تصحح سير المسلم إلى ربه مشروع ما بعد الهداية، فليضع له
المسلم ما يحتاج إليه من أهداف وبرامج، وهذا الشق العملي لا يُقَال، بل يمارس
ويطبق.
نسأل الله (تعالى) أن يرزقنا الإخلاص في القصد، ويلهمنا الصواب في العمل.
(1) سنن أبي داود، كتاب السنة، ح /4607، وصححه الألباني.
(2)
صيد الخاطر، ص 597.
(3)
ص 372.
(*) ابن الجوزي عالم وواعظ مشهور، غير أن له بعض السقطات في كتابه صيد الخاطر، انظر:(تهذيب صيد الخاطر) للأستاذ محمود الحداد، وأما عقيدته: فهو يميل إلى الأشعرية، وقد ضمنها تفسيره، وللوقوف على أخطائه العقدية: انظر: رسالة د/ محمد الغمراوي عن (التفويض عند المفسرين لآيات الصفات)، أما بحث عقيدته وتسليط الأضواء عليها: فانظر: كتاب (اتحاف أهل الفضل والإنصاف بنقض كتاب ابن الجوزي دفع شبه أهل التشبيه) للشيخ سليمان العلوان، وكذلك كتاب (الصواعق والشهب المرمية على ضلالات السقاف البدعية) للشيخ عبد الرحمن بن يوسف الرحمة.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
- البيان-