الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دراسات إعلامية
الإعلام من المنطلق الغربي إلى التأصيل الإسلامي
(2
من 2)
بقلم: أحمد حسن محمد
تناول الكاتب في الحلقة السابقة: أثر الحضارة الغربية في المسيرة الإعلامية بعامة، وأوضح مدى التدفق الإعلامي الغربي نحو المجتمع الإسلامي، واتجاهات الإعلام الغربي وآثاره، ثم انتقل إلى الحديث عن الدعوة الإسلامية والإعلام، فبيّن أهمية الإعلام الدعوي، معرجاً إلى الحديث عن مميزات الدعوة الإسلامية التي يفصِّلها وجوانب أخرى في هذه الحلقة.
- البيان -
أولاً: الطبيعة الإعلامية للدعوة الإسلامية:
فالدعوة الإسلامية ذات طبيعة إعلامية مميزة ولها سماتها التي تؤكد قدرتها
على إبراز كافة عناصر الرسالة الإعلامية القادرة على التعامل بإيجابية بما يجعلها
في مكان الريادة والقدرة في مجال الدراسات الإعلامية المعاصرة.
فحملتها أتباع دعوة المُرسِلُ فيها هو الحق سبحانه وتعالى : [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ
إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَدَاعِياً إلَى اللَّهِ بِإذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً]
[الأحزاب: 45، 46] ، [وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَاّ مُبَشِّراً
وَنَذِيراً] [الإسراء: 105] .
ومضمون الرسالة هو التوحيد وعبادة الله في الأرض: [وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ
أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ] [النحل: 36] .
والوسيلة هي الوحي الذي هو التعليم السري الصادر عن الله (تعالى) الوارد
إلى الأنبياء والرسل (عليهم الصلاة والسلام)[1] : [اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ
رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ] [الحج: 75] ، [وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ
اللَّهُ إلَاّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإذْنِهِ مَا يَشَاءُ إنَّهُ عَلِيٌّ
حَكِيمٌ] [الشورى: 51] .
والدعاة إلى الله هم وسائل تحمل رسالة الله للناس، وهم أهل العلم
والاختصاص: [فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا
قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] [التوبة: 122] .
والمتلقي للرسالة هي البشرية جميعها، بل والجن أيضاً، حيث إن الرسالة
الإسلامية تخاطب الإنسان لأن مادتها الإنسان ذاته [2] : [الّر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ
لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإذْنِ رَبِّهِمْ إلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ]
[إبراهيم: 1] ، [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا
زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً] [النساء: 1][3] .
ثانياً: قدرة الدعوة الإسلامية على استيعاب الوسائل المتاحة:
نظراً لأن هذه الدعوة هي قَدَر هذه الأمة وغايتها [4] : فقد أصبح لزاماً عليها
أن تبحث عن كل الوسائل المتاحة والممكنة للقيام بوظيفة البلاغ المبين وتقديم رسالة
الإسلام.
وإذا كان الغرب قد حقق تقدماً في وسائل الإعلام وتقنياته فإن الإسلام لا يقف
حائلاً دون الاستفادة من هذه التقنيات لتكون في خدمة الدعوة الإسلامية إذا ما توفر
شرطان أساسان:
أ - أن يكون استخدام الوسائل لا يعني بالضروة نقل الأفكار والاتجاهات..
فالوسائل أجهزة محايدة تنقل ما يطلب منها.
ب - أن يكون استخدام الوسائل الحديثة لا يعني فساد الوسائل الرئيسة في
الدعوة الإسلامية، التي جاءت في الهدي القرآني والسنة المطهرة، وبالتالي: لا
يعني تركها وإبعادها عن الاستخدام في الساحة الإعلامية.
وبذلك فإن الأمة الإسلامية تستطيع تقديم رصيدها الثقافي والحضاري مستفيدة
من التطور التقني في مجال وسائل الإعلام الحديثة بجانب ما تتمتع به الوسائل
الإسلامية المتميزة في مجال الدعوة الإسلامية من فاعلية وقدرة على المعايشة
والاستمرار، بل إن الوسائل التقنية الحديثة يمكن استيعابها ضمن الوسائل الإسلامية
المتميزة، مثل: استخدام التسجيلات ومكبرات الصوت في المساجد التي تعتبر
منابر حية للدعوة الإسلامية، وكذلك في مجتمعات المسلمين التعبدية مثل صلاة
الجمعة ومواسم الحج، فإن الأقمار الصناعية الحديثة وما تقدمه من خدمات إعلامية
عالية تقوم بدور كبير إذا ما أحسن استخدامها للإعلام بالرسالة الإسلامية، ليس فقط
على المستوى المحلي بل على المستوى الدولي والعالمي.
وتظل العبرة قائمة بمدى الاستفادة التي تفيد منها الدعوة الإسلامية من كافة
المخترعات الحديثة في كافة المجالات والنظم، حيث إن الأصل هو نشدان رضا
الله بخدمة الإسلام في مجالات العلوم الضرورية لرقي الأمة المسلمة وعزتها، وهذا
الشرط ليس ضروريّاً لكل جهد يسهم بقصد أو عن غير قصد في مسيرة التطبيق
الإسلامي؛ فكم من كافر أسهم في إثراء العلوم الإسلامية، وكم من مسلم أسهم في
تشويه التراث المعرفي للإسلام، فالعبرة إذن بنتيجة المساهمة، فإن كانت موافقة
للإسلام فلا مانع من الاستفادة منها [5] ، وعلى ذلك يتأكد أن استخدام ما أنتجه
الغرب غير المسلم ليس كله مرفوضاً لمجرد أنه غربي غير مسلم، بل إن الرفض
والقبول يتوقفان على ما يحقق لهذا الدين من نفع وانتشار، مع التفريق بين نية
المسلم في الاستخدام والاستفادة ونية الكفار في الاختراع والإنتاج.
ثالثاً: تمايز المسيرة الإسلامية ومتعلقاتها:
إذا كان الغرب قد رفض الدين نتيجة لمواقف معادية وتناقضات بين تطلعات
الناس وما فرضه رجال الدين عندهم من قيود.. فإن العالم الإسلامي لم يصطدم
يوماً بأصول عقيدته، وإذا كانت بعض السلبيات قد ظهرت في مجال الأسلوب
الدعوي، فإن مَرَدّ ذلك يعود غالباً إلى التطبيق الخاطئ الصادر عن فهم بعيد عن
الأصول الثابتة، وليس خطأ في أصل الشريعة ومنهاجها
…
ذلك لأن الإسلام يتمتع
بمصدريه الأساسين الثابتين (القرآن الكريم، والسنة الصحيحة، التي وصلت بحمد
الله إلى درجة عالية من التوثيق والثبات، فضلاً عن حفظ الله (سبحانه) للقرآن
الكريم [إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ][الحجر: 9] ،) وظل هذان
المصدران وسيظلان بإذن الله مرجعاً موثوقاً لكل من يريد البحث والاستقصاء،
وفيصلاً لكل خلاف يخرج بالمسلمين عن الأصول الشرعية الكبيرة.
ومن جانب آخر: فإن الدين الإسلامي لم يكن بمعزل عن الحياة البشرية
والنشاط اليومي بما يحمله من توجيهات للمسلم بضرورة الذكر المتصل، والعبادة
بأوقاتها المحددة، وضوابط التعامل اليومي في الأسرة والجماعة والمجتمع، بجانب
أخلاقيات العلاقات الدولية في السلم والحرب.
وبذلك: فإن الإسلام يحمل إعلاماً لا يحتمل ما حدث من انفصام بين الخطاب
الديني والخطاب الدنيوي (كما حدث في الغرب) ، حيث ظلت له القدرة على تحقيق
المصالح الدنيوية وإرضاء أذواق الناس وحاجاتهم من المتعة والتسلية ضمن إطاره
الذي لا يخرجه عن الشرع الذي أباح كل هذه الأنشطة وفق شروطها بعكس الرسالة
الإعلامية التنصيرية من محطات نصرانية.
وبذلك: فإن الرسالة الإعلامية الإسلامية تتعدى إلى مجالات متنوعة دون
التقيد بحيز ضيق، حيث إن الدعوة الإسلامية هي دعوة للإيمان، مقترنة بالدعوة
إلى العلم، والعبادة، والعمل، والفكر، وتنمية الروح والوجدان
…
ويظل الفصل
بين ما هو ديني وما هو غير ديني أمراً ترفضه طبيعة الإسلام ويؤثر كثيراً على
الرسالة الإعلامية المسلمة؛ إذ يحصر العقيدة والدين في مكان ضيق ويبعده عن
مفهومه الواسع، والأمر إذن يتطلب رفض الاتجاه الغربي الذي يقدم القضايا
الدنيوية والحياتية بعيداً عن قيم التوجه الأخلاقي، حيث تتحلل هذه القضايا من
الالتزام بهذه القيم.. مما أوجد حشداً من الصحف والمجلات والوسائل الإعلامية
المسموعة والمرئية (في الغرب) تمارس ألواناً من الفساد والتضليل والانحلال،
تسرب معظمها إلى بلاد المسلمين في غيبة الالتزام الإسلامي الصحيح، فأصبحت
تهدد أبناء الأمة في أعز ما تملكه من قيم ومبادئ [6] .
المنطلقات الأساس للإعلام الإسلامي:
إن الإعلام باعتباره نتاجاً لنشاط بشري إنما يأتي معبراً عن قيم ومبادئ وأفكار
المصدر الذي تصدر عنه الرسالة الإعلامية
…
فقد جاء الإعلام الغربي متأثراً
بالمادية، باحثاً عن اللذة والرفاهية، بينما كان الإعلام الشيوعي مدعّماً بمفاهيم
الإلحاد وسيطرة الطبقة العاملة، في حين أن الإعلام النازي كان يركز على سيادة
الدم الأزرق والعنصرية القومية، معلناً شعار (ألمانيا فوق الجميع) .
وتتفق كل هذه الاتجاهات على تأصيل السيطرة وبسط النفوذ الفكري
والاقتصادي على كافة الشعوب النامية لضمان التبعية والخضوع لها.
ويأتي الإعلام الإسلامي مختلفاً في منطلقاته؛ حيث يعبر عن الإسلام دين
القيم والمبادئ، التي تتمثل فيما يلي:
1-
منطلق العقيدة التي تقوم على فطرة البشر، وتستقيم مع متطلبات الحياة
الإنسانية، وتعطي للفرد معنى الحرية من قيود الدنيا وشهواتها، فلا يخضع إلا لله
رب العالمين وبذلك تتحقق حرية التعبير والسلوك والفكر في إطار تحكمه قيم السماء؛ لأن الهدف هو إرضاء الله (تعالى) وليس المكسب الدنيوي فقط.
2-
منطلق العلم، الذي هو طريق المعرفة، فقد جاءت آيات الله (سبحانه)
واضحة، تفرق بين العالم والجاهل، والرسالة الإعلامية تؤتي ثمارها بقدر ما
يتوفر لها من زاد علمي صحيح.
3-
الأخلاق، وهي سمة الإنسانية الفاضلة ودستور التعامل بين البشر،
فيصدر الإعلام عن نفْس تعرف الصدق والأمانة والطهارة عن إيمان وامتثال،
وليس عن تقليد ومحاكاة.
4-
منطلق الإنسانية، بما تحمله من معاني الرحمة والتكافل والتعاطف، وما
تعنيه من أخوة بين البشر ورغبة في التعايش والتعاون المثمر. والإعلام الذي يحمل سمات الإنسانية هو أقدر من غيره على التأثير والتجاوب.
5-
الجمال وحسن العرض، وهي أمور تحقق الارتياح النفسي، لذا: فقد
دعا الإسلام إلى الجمال في الملبس والتعامل والحديث والسكن.
6-
منطلق المصلحة العامة للأمة والحرص على أمن المجتمع واستقراره
بعيداً عن الإشاعة المغرضة والتحريض الهدام ضد فئات المجتمع وقادته، بل دعوة
صادقة لمسؤولية مشتركة تحفظ كيان الأمة وتنشر الخير للناس جميعاً [7] .
هذه هي بعض المنطلقات الأساس للإعلام الإسلامي، التي يمكن أن تكون
أساساً يحقق تمايز الرسالة الإعلامية في المجتمع المسلم عن غيرها في المجتمعات
الأخرى، وحتى يتحقق هذا التمايز في التطبيق العملي، فإننا نوصي بالتوجيهات
الآتية التي في مجملها خلاصة للعرض السابق في هذا البحث:
توصيات ومقترحات:
1-
رفع العزلة عما أطلق عليه (إعلام ديني) والذي جعل المفاهيم الإسلامية
محصورة في بعض البرامج والمقالات المنفصلة عن بقية الموضوعات المطروحة
في الوسائل الأخرى، مما أدى إلى عزل الدين عن الحياة المعاشَة وحصره في
مفاهيم العبادة والتشريع، بخلاف طبيعة الدين الإسلامي الذي يعايش الناس في كل
أمور حياتهم الدينية والدنيوية وينظم أنشطتهم سواء في المسجد أو ملعب الرياضة أو
أماكن العمل من مكاتب ومزارع ومتاجر ومصانع، كما يعالج قضايا الأمة السياسية
والاقتصادية والعلمية والفنية
…
والإعلام بطبيعته يتفاعل مع كل هذه الأمور إبلاغاً
وتوجيهاً ونقداً، وفي تقسيمه إلى إعلام ديني وآخر دنيوي ما يتعارض مع وحدة
التوجيه واستقامة التربية ويؤدي إلى ازدواجية الرأي والمعالجة، فيصبح إعلاماً
متناقضاً في رسالته ومضمونه.
2-
أن يكون الخطاب الإعلامي الصادر عن الأمة المسلمة خطاباً شاملاً لكل
البشر على طول الزمان وسعة المكان، حيث إن الإسلام جاء للناس جميعاً:
…
[يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ][الحجرات: 13] وكانت الرسالة السماوية التي قام عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤكدة لهذا المعنى الذي اختص بها سيدنا محمد (عليه
الصلاة والسلام) : [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَاّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ] [سبأ: 28] ، وصدع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم استجابة
لأمر الحق (سبحانه) : [قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعاً الَذِي لَهُ مُلْكُ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إلَهَ إلَاّ هُو يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَذِي
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] [الأعراف: 158] .
فالخطاب الإسلامي ليس وقفاً على أمة دون غيرها، بل هو خطاب عالمي
أزلي، والرسالة الإعلامية الدعوية هي ترجمة لهذا المفهوم القائم على هدي الوحي
المنزل.
3-
التأهيل الأمثل والإعداد السليم للقائمين على الإعلام الذي يحمل رسالة
الإسلام، أو بمعنى آخر: إعداد القائم بالاتصال في مجال الإعلام إعداداً إسلاميّاً
متكاملاً
…
فقد عني الإعلام الغربي كثيراً بكل من له صلة بالرسالة الإعلامية،
ونشأت نظرية (حارس البوابة) والذي يقوم على صناعة المعلومة قبل بثها
…
وقد
عني الإسلام كثيراً بحملة الرسالات وأصحاب البلاغ المبين، فاصطفى رسله من
حملة رسالته من أحسن الخلق، وأصدقهم قولاً، وأفضلهم أخلاقاً: [وَاذْكُرْ فِي
الكِتَابِ إبْرَاهِيمَ إنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِياً] [مريم: 41] ، [وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مُوسَى إنَّهُ
كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِياً] [مريم: 51] ، [وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إسْمَاعِيلَ إنَّهُ
كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِياً] [مريم: 54] ، [وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إدْرِيسَ
إنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِياً] [مريم: 56] ، [أُوْلَئِكَ الَذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن
ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ وَإسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إذَا
تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِياً] [مريم: 58] .
وكان خاتم الرسل (عليهم الصلاة والسلام) هو نبي هذه الأمة، ورسولها
المصطفى عليه الصلاة والسلام [وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى (3) إنْ هُوَ إلَاّ وَحْيٌ
يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى] [النجم: 3-5] .
فقد أعده الله (سبحانه) لهذه الرسالة ليكون القدوة والأسوة والنموذج الأعلى
للداعية الصادق: [يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إلَاّ قَلِيلاً (2) نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ
قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إنَّ
نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ
اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَّبُّ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إلَهَ إلَاّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً]
[المزمل: 1-9] .
ثم أعطاه الله من الخير في حياته الدنيا والآخرة، [وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ
المَثَانِي وَالْقُرْآنَ العَظِيمَ (87) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ
عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ] [الحجر: 87-88] ، فاستحق بذلك أن يكون
صاحب الخلق القويم والسلوك الأمثل: [ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ
رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ]
…
[القلم: 1-4] .
والإعلام الإسلامي هو الامتداد الأمثل لرسالة هؤلاء الرسل، وعليه حمل
أمانة التبليغ لإقامة أمة الرسالة: [وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ وَيَاًمُرُونَ
بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] [آل عمران: 104] ، وذلك
على شرط الحق والثبات: [وَالْعَصْرِ (1) إنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إلَاّ الَذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] [العصر: 13] .
ولما كان الإعلام في عصرنا الحاضر قد تعددت وسائله وأساليبه: فقد
أصبحت الضرورة قائمة لإعداد إعلاميين، أو بمعنى أدق: حملة رسالة لكل وسيلة
من هذه الوسائل بما يتيح استخدامها الاستخدام الأمثل، ويعطي للمسلم القدر الكافي
على التعامل السليم مع الجمهور المتلقي، ويشمل ذلك بجانب الصفات الأخلاقية
والعقدية الأساس: الإعداد المهني السليم لحامل الرسالة في كافة المجالات، مثل:
مجال الخطابة في المساجد والمحافل والتجمعات.
مجال المناظرة والحوار والندوة.
مجال الكتابة الصحفية والأدبية.
مجال الإلقاء الإذاعي والتلفازي.
مجال الإعداد البرامجي في الإذاعة والتلفاز.
الإخراج، التمثيل، الثقافة، الإنشاد.
مجال المعارض.
مجال المؤتمرات.
على أن يقوم هذا الإعداد وفق برامج تدريبية مدروسة ذات أهداف واضحة
على أيدٍ مخلصة واعية وخبيرة.
وبذلك يتحقق للإعلام أصالته الإسلامية وتمايزه عن الصبغة الغربية.
(1) د محمد عبد الله دراز، المختار من كنوز السنة، باب الوحي.
(2)
د طه عبد الفتاح، كيف تبنى مؤسسات الإعلام على أسس إسلامية (بحث من وقائع الندوة العالمية للشباب الإسلامي) ، ص 437.
(3)
انظر: زين العابدين الركابي، النظرية الإسلامية في الإعلام، ص 293.
(4)
القيام بأمانة التبليغ يعتبر فرضاً على الأمة المسلمة، وقد قال بعض العلماء بأنه فرض عين.
(5)
د سعيد إسماعيل صيني، مدخل إلى الإعلام الإسلامي.
(6)
د عبد القادر طاش، دراسات إعلامية، وانظر: (الأسرة المسلمة أمام الفيديو والتلفاز (، لمروان كجك.
(7)
د سيد محمد ساداتي، البرامج الإعلامية بين الواقع والأمل.
محاضرات وندوات
نجيب محفوظ خلفية فكرية لفنه الروائي
(2 من 2)
بقلم: د. مصطفى السيد
عرض الكاتب في الحلقة الماضية المناخ الثقافي والاجتماعي قبل مولد (نجيب
محفوظ) ، ثم أوضح الخلفية الثقافية والفكرية لهذا الروائي، وأخذ يعرض أثر هذه الخلفية في رواياته وانعكاسها على أبطال هذه الروايات
…
ويواصل الكاتب عرض جوانب أخرى من الموضوع.
- البيان -
إن هؤلاء الأبطال ومثلهم كثير في الرواية العربية، كبطل (موسم الهجرة إلى
الشمال) لـ (الطيب صالح) ، وبطل (الحي اللاتيني) لـ (سهيل إدريس) .. ليسوا
إلا تجسيداً وإن كان متفاوتاً في درجته وحدته للخروج على ميراث الأمة الديني
وتراثها الأدبي، تمهيداً لإيجاد قراء يحاكون هؤلاء، وبذلك تزلزل الرواية عبر
نصوصها وشخوصها ومن ثمّ: عبر قرائها قواعد البُنى الفكرية للأمة، تمهيداً
لاستيلاء شرائح نخبوية تتبنى الفكر الغربي ويضمحل الحس الديني والنص
الشرعي في قلوبها وعقولها وسلوكها.
وكيف تكون النتائج السابقة مستنكرة على الرواية العربية التي يقومها أحد
النقاد بقوله: (الرواية العربية الجديدة التي شكل الواقع بؤرتها ومادتها، رواية
الفضيحة والعري والحرائق والهزيمة والجنس) [1] .
يفهم المسلم أن يكون لأمثال (سارتر) و (همنجواي) و (كامي) و (دستوفسكي)
وأضرابهم أزمتهم الروحية بوصفهم نتاجاً لمسيحية محرفة وحضارة ممزقة، ولكن
ما هو متعذر على الفهم أن يكون لمحفوظ هذه الأزمة التي تحدث في أكثر رواياته! هل كانت أزمة مصطنعة لتضع الرواية العربية في مصاف الرواية الغربية
بوصف القلق أحد أهم مؤهلات الأخيرة؟ ! ! ، أم كان القلق يعكس أزمة حقيقية
للكاتب، سببها ابتعاده أو إبعاده عن قراءة واعية ومراجعة دائمة للإسلام، راضياً
من الفكر العربي بـ (سلامة موسى) ، الذي قد لا يحمل من مؤهلات هذا الفكر إلا
اللسان العربي؟
وإذا كان محفوظ قارئاً نهماً للفكر الغربي لا سيما في عالم الرواية وعلم
الفلسفة، وكان معنيّاً كما صرح غير مرة بمتابعة الجديد في هذين الأمرين، فإنه
على العكس من ذلك: يتجمد في ثقافته الإسلامية، مكتفياً بخلاصة أو ملخص إن
أغنت مسلماً عاديّاً فكيف تغني أكبر كاتب روائي عربي؟ .
إن ثقافته العقدية جاءت واضحة في مقالاته التي كتبها في شبابه (1930م) في
مجلة (شيخه)(سلامة موسى) ، وإن هذه الثقافة كما يقول الدكتور (عبد المحسن
بدر) : (استمر يكتبها حتى وصل إلى مرحلة الرجولة، وهذه الفترة من حياة
الإنسان هي فترة تكوينه لقيمته الاجتماعية والثقافية التي تعمق وتنضج الفترات
التالية من عمره، ومن النادر أن تتحول بعد هذه الفترة تحولاً جذريّاً) [2] .
يقول محفوظ في (المجلة الجديدة) سنة 1930م، ص 1468، في أحد
مقالاته التي يشير إليها الدكتور بدر: (لا نبتئس بقرب زوال المعتقدات البالية، ولا
ندعو المفكرين إلى الكف عن بحثها ونقدها) .
ما المعتقدات البالية التي يريد هذا الشاب ألا يبتئس لزوالها، ولا يمنع
المفكرين من نقدها؟ .
أليست هي ما جاء على لسان (كمال) في (السكرية) آنفاً؟
وفي مقابل ما يعيشه أبطاله بوصفهم امتداداً مباشراً أو غير مباشر له: ما
يعيشونه من الانفلات من ربقة الدّين، بل التجرؤ الصادم لمشاعرنا على نقده، نجد
الكاتب يعقد صلحاً نهائيّاً مع العلم الذي تحدّر إليه من (سلامة موسى) وأمثاله،
فيقول سنة 1970م: (لعل الإيمان الوحيد الحاضر في قلبي هو الإيمان بالعلم
وبالمنهج العلمي!) [3] .
وإذا سلم الباحث لبعض النقاد بأن هَدَف محفوظ (الوصول إلى ما يشبه علمنة
الدين وتديين العلم) [4] فإن هذا أيضاً يظل إسلاميّاً غير مقبول؛ لأنه لا يعدو إحياء
مذهب المعتزلة بأثواب جديدة.
إن ما خطه (نجيب محفوظ) من أعمال روائية وقصة قصيرة لم تلق فنيّاً في
حدود ما قرأت نقداً شديداً باستثناء ما كتبه د. (عبد المحسن طه بدر) ، ولكن
المعركة حول القيم الفكرية لأعماله الروائية لم يَخْبُ أوارها، وما أخاله يخبو ما
دامت هذه الأعمال يرتفع فيها صوت الفكر على صوت الفن، وتتصدى بجلد
وإصرار لنقد المفاهيم القائمة في المجتمع والدعوة إلى قيم وأفكار تضاد عقيدة
المجتمع وهويته في أحايين كثيرة، يقول على لسان أحد أبطاله في (السكرية) :
(حسن أن تدرسوا الماركسية، ولكن تذكروا أنها وإن تكن ضرورة تاريخية،
إلا أن حتميتها ليست من نوع حتمية الظاهرات الفلكية، إنها لن توجد إلا بإرادة
البشر وجهادهم، فواجبنا الأول ليس في أن نتفلسف كثيراً، ولكن في أن نملأ وعي
الطبقة الكادحة بمعنى الدور التاريخي الذي عليها أن تلعبه لإنقاذ نفسها والعالم
جميعاً) [5] .
قد لا يحتاج القارئ إلى دليل يؤكد أن الكاتب قد تخلى عن دوره الروائي إلى
الدور التحريضي، حتى ليمكننا القول: إن الفقرة السابقة نشرة حزبية وليست فقرة
روائية.
وإذا كان (نجيب محفوظ) قد يمم وجهه شطر (الحارة) القاهرية، ولم
يتجاوزها في أكثر أعماله، جاعلاً من الحارة الفضاء المكاني لأدبه والإطار
الموضوعي لأفكاره، فهو لم يعرف عنه أدنى تعاطف مع هذه الحارة، ولم ير منها
غير الجوانب المظلمة، ولم يُقدّم في أعماله إلا الشخصيات التي أشربت في قلبها
الشر، وأهلكت الحرث والنسل، لا تنتقل من سيء إلا إلى ما هو أسوأ، ولا تغادر
منكراً إلا إلى ما هو أنكر، حتى ليخيل للقارئ أنه يقرأ عن أناس لم يعد في حياتهم
مثقال ذرة من دين أو خير، أو يعيش في مجتمع أقرب إلى الجحيم منه إلى
المجتمعات السوية.
ولقد كان الكاتب متورطاً إلى حد كبير فيما أخذه على أبطاله ورآه سبباً
لانحرافهم، فقد اعترف بمعاقرته الخمر كما مر بنا قريباً، و (لقد سمح لنفسه ابتداءً
من سنة 1945م بكتابة سيناريو عدد كبير من الأفلام، فيها الكثير من الأفلام التي
تخضع للمقاييس الفنية الهابطة للسينما المصرية، وقد يدهش المرء حين يعلم أن
كاتبنا الكبير هو كاتب سيناريو أفلام مثل: (ريا وسكينة) ، و (المنتقم) ، و (عنتر
وعبلة) ، و (لك يوم يا ظالم)[6] .
ويتهمه ناقد آخر بتوظيفه فنه لأغراض مادية رخيصة، وخدمة مآرب أخلاقية
خسيسة عندما يتجنى على أبطاله وطبقتهم، وإظهارهم بصور غاية في الانحلال،
تهييجاً للغرائز واستدراراً لأموال منتجي الأفلام، وذلك عندما (يرصد نماذج مشوهة
وساقطة وعاجزة لكي يضعها في أعماله، ويتجنى بعد ذلك على صدق وحقيقة ما
يحصل في قلب الواقع المصري من طرح جديد دائم لنماذج إنسانية بين الثوريين،
وبين فتيات الجامعة بالذات، وهو يعرف سلفاً ما سيعقب ذلك من استخدام هذه
النماذج في السينما المصرية التجارية، ومنتجي الأفلام التجارية الرخيصة الذين
يزيدون في تشويه الصورة وتملق غرائز متدنية للمتفرج، سواء في الجنس أو
تزييف صورة الثوري اليساري في رواياته، [لقد كان] الأمر يتعلق بإلحاح (نجيب
محفوظ) على أن يظل روائي المرحلة الجديدة، وشاهداً على لوحة الصراع الدرامي
في مجتمعنا، ولقد كان في اعتقادي بعيداً عن التقاط حقيقة أزمة الفتاة المتعلمة،
التي لها موقفها السياسي، والتي تقف مع الرجل ضد كل ما يسلب الإنسان حريته
وأحلامه في تقدم طبقته المسحوقة.
إن (سمارة بهجت) ، و (سوسن حماد) ، و (زينب دياب)[*] للأسف لا وجود
لهن إلا في الاتساق الشكلي لبناء الرواية بمواصفات جاهزة عند نجيب محفوظ، أما
الفتاة المصرية المثقفة والمناضلة فلم تلتقطها عدسته الروائية، فهي بعيدة عن عالمه، لأنه هو أيضاً بعيد عن عالمها أيّاً كانت حسن نياته) [7] .
ومن العجيب أن يكون موقف الكاتب من مجتمع الطبقات الشعبية منبثقاً من
رؤية طبقية لا من نظرة قيمية، وذلك عندما يمنح إعجابه الفتيات الأرستقراطيات،
ويمنعه عن نساء الطبقة العاملة! .
يقول الدكتور (عبد المحسن بدر) من حديث له في مكتبه (الأهرام) :
(الأرستقراطيات جديرات بالإعجاب، أيّ متعلمةٍ أو رقيقة كانت أرستقراطية، أما
سيدات الطبقة العاملة فأرضيات) [8] .
يقول هذا الكلام في الوقت الذي يرسم نده ومعاصره (إحسان عبد القدوس) (ت
1989م) صورة مظلمة للطبقة الأرستقراطية عموماً، وصورة حالكة في السواد
والتردي الأخلاقي لنساء هذه الطبقة على وجه الخصوص (حيث إنه ما من كاتب
استطاع أن يصور الشرائح العليا من البورجوازية المصرية مثله، فقد استطاع
النفاذ إلى واقع الحياة الاجتماعية في (الزمالك) ، و (جاردن سيتي) ، واخترق
بأعماله الحصار المضروب على (نادي الجزيرة) ، لكي لا تقترب منه أعين الدهماء
والصعاليك من أبناء الشعب، ولولا كتاباته لسقط هذا الجانب المهم من الذاكرة
التاريخية) [9] .
هل تمالأ الكاتبان ليكملا الحصار على المرأة، فيشوه أحدهما سمعة هذه
الطبقة، ويشكك الآخر في عفة الطبقة الأخرى؟ !
وهل بات الفن نوعاً من القذف العشوائي لأخلاقيات المجتمع؛ لييأس
المصلحون والتربويون؟
وهل يليق بكاتب بمكانة الأستاذ (نجيب محفوظ) أن يتخذ موقفاً مسبقاً قبْليّاً من
المرأة العاملة، فيصمها بالأرضية، وينحاز آليّاً إلى المرأة الأرستقراطية فيجعل
الرقة والأرستقراطية وجهين لعملة واحدة؟
وما الفرصة المتاحة للمرأة العاملة (امرأة الحارة) بمستقبل أفضل إن كان
الكاتب قد حكم بألاّ مستقبل لها أصلاً؟
ثم: أليس من الجمود الفني أن تكون الشخصية جامدة، ولا تمتلك إمكانات
النمو والتطور؟
إن ما حققه الكاتب وما يحققه أي كاتب من مستوى فني متقدم لا يمنع مساءلته، ولا يسقط حق الأمة عبر نقادها ومثقفيها في محاكمة المضامين الفكرية للأعمال
الأدبية، لا سيما أعمال المشهورين الذين تتعاقب الأجيال على قراءتهم والتفاعل
الإيجابي والسلبي مع هذه القراءة.
ومما شجعني على إيلاء الجانب الفكري في أدب محفوظ هذا الاهتمام هو ما
قاله بعض الروائيين والنقاد عن محفوظ: إنه مفكر يتقنع بالقناع الروائي.
يقول الروائي السوداني (الطيب صالح) : (وليس نجيب محفوظ في اعتقادي
رائد الرواية العربية الأول، لكنه من أعظم المفكرين في العالم العربي، وتقوم
اقتراحاته كمفكر وليس ككاتب [**][10] .
ويقول الدكتور (مصري حنورة) : (لنتفق مبدئيّاً على أن نجيب محفوظ مفكر
قبل أن يكون فناناً؛ وأنه لا يكتب أساساً بحثاً عن قيم جمالية، أو استعراضاً
لأساليب بلاغية، وإن كان هذا يتم دون عمد منه، كذلك فهو لا يهتم في المقام
الأول بأن يقدّم تطويراً لتكنيك فني، حيث إن كل ذلك خارج عن دائرة اهتمام هذا
المبدع، فشاغله الأساسي هو قضايا مجتمعه وهموم الإنسان، أي إنه وفقاً لمنظورنا
يغلب عليه الجانب المعرفي) [11] .
ويقول ناقد ثالث: (إن المرحلة الجديدة التي دخلت إليها الرواية على يد
نجيب محفوظ تتلخص في عدة مميزات، منها: الاهتمام بـ (هموم الفكر)[12] .
ويقول ناقد رابع: (نظراً لأن الأسلوب الروائي عند نجيب محفوظ أسلوب
واضح، وسهل، وخالٍ من التراكيب المفتعلة، وأقرب إلى اللغة العادية، يظل
التحليل الأسلوبي لأعماله الروائية محدود الأثر، ونظراً لأن الأعمال الروائية لـ
(نجيب محفوظ) تكاد تخلو من الصور الفنية أو المركبة، مثل (وغنى الماء في
القنينة) لوصف قرقرة الجوزة، فإن تحليلها يظل أيضاً محدوداً، لذلك يظل النقد
البنيوي لمعرفة المعمار الروائي عند (نجيب محفوظ) وأنماطه المثالية السائدة
والمتكررة في أعماله الروائية: هو الأكثر غنى للكشف عن العالم الروائي عنده،
ويظل النقد الاجتماعي كذلك هو الكاشف للنص الروائي الذي يعكس الواقع
الاجتماعي الثقافي والديني والسياسي هو الأكثر مباشرة على الاقتراب من هذا العالم
الروائي) [13] .
ولعل القارئ الكريم يعذرني إن أطلت في هذه النقول لأسباب، أهمها:
- أن أدب (نجيب محفوظ) دخل كل بيت تقريباً، إما مقروءاً، وإما مرئيّاً
على شاشة (التلفاز) ، وإما مسموعاً من (المذياع) ، ومن حق القارئ على الكاتب
وواجب الأخير أن يبين ما فيها من فكر هابط وفن سامق.
- قول الناقد (سيد قطب) رحمه الله :
(إن الناقد في الشرق العربي لا ينهض لتصحيح مقاييس الفن وحدها، ولكن
ينهض لتصحيح معايير الأخلاق أيضاً) [14] .
- ولأن همسات المجتمع تلقين للبطل، وهجمات البطل تجسيم لأحلام
المجتمع، فإن معايير البطولة التي تتفاعل معها ولا سيما تفاعلنا مع أبطال كاتب
مقروء باستمرار وواسع الانتشار ك (نجيب محفوظ) ينبغي ألاّ تكون فنية محضة.
ولعله من ذلك كله يكتسب الحديث عن الخلفية الفكرية لـ (نجيب محفوظ)
مشروعيته ويستمد أهميته.
(1) مجلة كتابات معاصرة، ع/6، م/2، 5/1990م، ص49.
(2)
الرؤية والأداة، ص 34.
(3)
مجلة الهلال، شباط / فبراير، 1970م.
(4)
(الله) في رحلة نجيب محفوظ الروائية، لجورج طرابيشي، ص 30.
(5)
السكرية، ص 296.
(6)
الرؤية والأداة، ص 67.
(*) من بطلات روايات نجيب محفوظ.
(7)
الرؤى المتغيرة في روايات نجيب محفوظ، عبد الرحمن أبو عوف، ص 147، 148.
(8)
الرؤية والأداة، ص 63.
(9)
مقال في جريدة الحياة، ع/12026 27/1/1996م.
(**) الصواب أن يقال: بوصفه مفكراً وليس بوصفه كاتباً.
(10)
نجيب محفوظ والقصة القصيرة، إيفلين يارد، دار الشروق، عمان، ط1، 1988م، ص21.
(11)
مجلة فصول، الحداثة في اللغة والأدب، ج2، ع/4، ص 199.
(12)
مجلة فصول، تيار الوعي في الرواية العربية الحديثة، ص 22.
(13)
مجلة عالم الفكر، مجلد: 23، ع/3، 4، يناير إلى يونيو 1995م.
(14)
مجلة الرسالة، 27/11/1944م، ص 1044.