المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌لك الله يا شعب العراق - مجلة البيان - جـ ١٢١

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌لك الله يا شعب العراق

المسلمون والعالم

أرض سائبة.. وقيادة خائبة

‌لك الله يا شعب العراق

بقلم: حسن قطامش

نقلت مؤخراً صحيفة (نيويورك تايمز) عن أحد المسؤولين الأمريكيين قوله:

(لقد فعل صدام حسين لترويج سياستنا أكثر مما فعلنا

بارك الله في صدام) ! !

العائلة التكريتية بصدامها، والبرزاني والطالباني، وأوجلان بأكرادهم،

والخليج، وأمريكا والموساد ولجان التفتيش، ودمشق وأنقرة وطهران بحدودها،

وروسيا والصين وفرنسا باعتراضهم، وأشياء أخرى كثيرة، ترسم صورة الحكاية

الطويلة المريرة والحسابات المتشابكة والمصالح المتداخلة، ويجري هذا كله على

أرض واحدة.. العراق المنكوب بقيادته.

قصة بدأت تفاعلاتها الدرامية المأساوية مع بداية حرب الخليج في العام

1991م، وخسرها صدام في أم المعارك، وصدرت قرارات مجلس الأمن

(المؤمرك) تتوالى على العراق، وفُرض الحصار الجامع المانع، الذي لن يرفع إلا

بشرط واحد: وهو أن تقوم اللجنة الدولية المكلفة بتفتيش العراق (أونسكوم) بتقديم

تقرير نظيف يفيد أن العراق أصبح خالياً من أي أسلحة للدمار الشامل، وما لم تقدم

اللجنة هذا التقرير فإن الحال سيبقى على ما هو عليه حتى إشعار آخر.

وقد مر حتى الآن ست سنوات عجاف على شعب العراق، وما زال صدام في

السلطة، وما زال الحصار مستمراً، وما زالت اللجنة الدولية غير مقتنعة، ويبدو

أنها لن تقتنع، وما زالت شعوب المنطقة تخشى (صدام) وتعيش في حالة من القلق

الدائم من غدر صدام، وما زالت لعبة القط والفأر التي يحسنها صدام وأمريكا

تجري على الأرض المسلمة، فصدام يهدد ويرغي ويزبد ويستأسد، ويرسل

الخطب الرنانة عبر إذاعاته، وترسل أمريكا تعزيزات إلى المنطقة، وتبدأ الجولات

المكوكية للشرح والتفسير وطلب التأييد من قبل الدول المعنية، ثم

تنقشع الغمة

وتعود المنطقة للمراوحة مكانها.

فإلى متى سيستمر هذا المسلسل الدرامي المأساوي للمسلمين! ؟ متى يرفع

الحصار؟ ومتى يرحل صدام؟ ومتى يطمئن أهل المنطقة على أمنهم وسلامتهم؟

ومتى ترحل الجيوش الأجنبية بلا رجعة؟

هذه الأسئلة وكثير غيرها يدور في الأذهان كلما ثارت ثائرة الثور الهائج، أو

أثاروه لتضطرب المنطقة بأكملها، ولعلنا نقف على بعض المواضيع لسبر غور تلك

الأحاجي.

التطورات الأخيرة: بدأت القصة الجديدة في 11/6/1997م الماضي حين

أعلن مجلس الأمن الدولي بأنه سيتخذ إجراءات عقابية شديدة ضد (النظام) العراقي

إذا لم يبرهن على التعاون مع اللجنة الخاصة، وأعلن المجلس أنه لن يجري أية

مراجعة دورية للعقوبات الدولية على العراق قبل الاستماع إلى التقرير الجديد

لرئيس اللجنة الدولية (ريتشارد بتلر) وقدم التقرير الذي أفاد: أن العراق ما زال

يستخدم كل الأساليب من أجل منع المفتشين من الكشف عن أماكن الأسلحة الممنوعة

وعددها، ومواقع إنتاجها، وتقدمت الولايات المتحدة وبريطانيا وسبع دول أخرى

بصيغة قرار تفرض فيه حظراً على سفر الموظفين العراقيين المسؤولين عن عرقلة

لجنة التفتيش، ومع تواضع هذه العقوبة إلا أنه تبلور حولها اعتراض روسي

صيني فرنسي، ليس لأجل سواد عيون العراق، ولكن للمتأخرات المالية الكبيرة

على العراق لهذه الدول ولحاجتها لبتروله ولسوقه، ومحاولة لاستعادة بعضٍ من

الهيبة التي أفقدتهم إياها أمريكا.

ولهذا الاعتراض أجّلت أمريكا العقوبة ستة أشهر، ثم قام العراق بمنع

المفتشين الأمريكيين العاملين ضمن اللجنة، وقام بطردهم، وجاء على أثرها التهديد

الأمريكي الأخير وقرار مجلس أمنها الدولي رقم 1134، وبدأت الزيارات

الديبلوماسية لمنع الضربة العسكرية التي هددت بها أمريكا.

قصة العقوبات: بعد أن دمرت قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة

القوات العراقية، بما ألقته من آلاف الأطنان من القنابل، ورفضت أن ترمي صدام

برصاصة واحدة! ! فرضت حظراً شاملاً على شعب العراق، وقلصت مساحة

الأراضي العراقية، وقسمته إلى أجزاء ثلاثة: الشيعة في الجنوب، والسنة مع

صدام في الوسط، والأكراد في الشمال، وكأن مصطلح (الأكراد) أصبح مذهباً دينياً!! ثم حددت الهدف من العقوبات بأنه: ضمان أمن دول الجوار، وتدمير أسلحة

الدمار الشامل التي يحتفظ بها صدام، وعودة الأسرى الكويتيين، أما صدام فلم يرد

اسمه في قوائم العقوبات البتة على الرغم من أنها شملت الأجنة في بطون أمهاتها،

مروراً برجالٍ ونساءٍ وأطفالٍ إلى أن تنتهي القائمة عند الموتى الذين منع الحظر

استيراد أكفانهم. وقد مرت ست سنوات على هذه القصة، ولم ينفذ صدام قرارات

مجلس الأمن، ولم يقدم للجنة الخاصة المكلفة بتدمير أسلحة الدمار الشامل القصة

الحقيقية حول برامج تسلحه، وما زالت قضية المفقودين الكويتيين بغير حل، وما

تزال العقوبات سارية المفعول، فلا يسمح للبلد إلا ببيع ما قيمته مليارا دولار كل

ستة أشهر، تذهب منها 600 مليون دولار للجنة التعويضات عن أضرار حرب

الخليج، وعدة ملايين تذهب للجنة التفتيش، و130 مليون لمناطق الحكم الكردي

في الشمال، ويبقى للعراقي الواحد: 300 فلس كل ستة أشهر للغذاء والدواء! !

وهذا هو برنامج النفط مقابل الغذاء. ويالله لشعب العراق من جور النظام العالمي

الجديد ومن ألاعيب صدام وحزبه.

إن المشكلة الحقيقية في حالة العراق أن العقوبات لا تشكل جزءاً من

استراتيجية محددة لإنهاء النظام، بل إن النظام لم يُذكر قط صراحة على أنه هدف

لها، بل لقد جاءت التطمينات الأمريكية أن هذه الفكرة غير موجودة أصلاً في

(الأجندة) الأمريكية.

ففي المقابلة التي أجرتها معه شبكة (أي. بي. سي) يوم 8/5/1417هـ

صرح الرئيس الأمريكي أن (الولايات المتحدة ليس لديها مشروع حل واضح يخلو

من التناقضات.. وهنا المشكلة. إن ما تسعى إليه واشنطن هو التأكد من أن

الرئيس العراقي سيتقيد بقرارات مجلس الأمن ومن أنه لا يهدد جيرانه، إننا لا

نحاول التخلص من صدام، فإن مما تعلمناه من التعاطي مع صدام هو أن يذهب إلى

أقصى الحدود، ولهذا وسّعنا منطقة الحظر الجوي في الجنوب، وهو الآن مقيد

الحريات، وبات صعباً عليه تهديد جيرانه) . [الحياة ع/12262/9/5/1417هـ] .

وكانت (مادلين أولبرايت) قد كررت القول بأن واشنطن سوف تدعم استمرار

العقوبات ضد النظام العراقي الراهن مهما استغرق ذلك من وقت، وهددت أيضاً

بعدم تجديد اتفاق بيع النفط مقابل المواد الغذائية والطبية إذا لم تنفذ بغداد كل شرط

من شروطه الصارمة، وأوضحت أن السياسة الأمريكية المتشددة هذه سوف تتغير

فوراً.. إذا تغيرت القيادة في بغداد، وقالت: إذا حدث ذلك ومتى يحدث! ؟ فسوف

نكون على استعداد للتنسيق مع حلفائنا وأصدقائنا كي ندخل بسرعة في حوار مع

النظام الجديد.

وهذا (كولن باول) رئيس هيئة الأركان في حرب الخليج يطلقها صريحة وبلا

موارية: (إن من غير الحكمة أن نلطخ اسم صدام وسمعته! ! ، وننعش آمال

الجماهير ونحرضهم ضده، ثم نتركه وشأنه بعد ذلك) .

فإن كانت أمريكا لا تريد إسقاط صدام، فالمنطق العقلي يفرض عليها اتخاذ

إجراءين حيال الوضع الحالي:

الأول: رفع الحصار عن الشعب العراقي مع وجود صدام في السلطة، حتى

يشعر الشعب العراقي بنوع من الراحة والاستقرار ويفكر على روية في التخلص

من صدام، وهذا لم ولن تفعله أمريكا.

الثاني: دعم المعارضة العراقية بقوة لتنظيم صفوفها للتخلص من صدام،

ومن ثمّ يرفع الحظر، لتعيش شعوب المنطقة في سلام ووئام، وهذا أيضاً لم ولن

يحدث.

بل لقد انتقد زعيم المعارضة العراقية (محمد باقر الحكيم) الذي يقود المجلس

الأعلى للثورة الإسلامية في العراق وهو هيئة شيعية مؤيدة لإيران انتقد الولايات

المتحدة واتهمها بخيانة المعارضة العراقية، وقال: لقد خانت أمريكا الشعب العراقي

مرتين حينما كنا على وشك التخلص من صدام، وكان يشير بذلك إلى انتفاضة

سكان جنوب وشمال العراق عام 1991م، وإلى تمرد الجيش العراقي في عام

1995م ضد نظام صدام.

إذن: ماذا تريد أمريكا بالضبط من المنطقة ومن العراق؟ ولعلنا مع الوقفات

القادمة نتبين إجابة تريح العقول المتعبة.

العداء الصليبي: هناك سياسة عدائية صليبية ضد المسلمين تتزعمها الولايات

المتحدة، تمر الآن بفترة حرب باردة من الجانب الأمريكي وتقابل بأعصاب باردة

من جانبنا، ولعل المقام لا يتيح التفصيل.

المصلحة الأمريكية: في 15/6/1997م زار وزير الدفاع الأمريكي اليهودي

(وليم كوهين) إحدى القواعد الأمريكية في المنطقة، وقال مخاطباً الجنود الأمريكيين: إنني متأكد من أن كثيراً منكم يتساءلون من وقت لآخر عن سبب وجودهم هنا،

وعما إذا كان ذلك ضرورياً؟ إن الجواب هو: نعم؛ لأن الشرق الأوسط منطقة

ذات أهمية كبيرة (لاقتصادنا) وبالنسبة لبقية العالم. إن بلادنا ينبغي أن تحمي منابع

النفط في الخليج؛ ولهذا فإن الأمن في هذه المنطقة سيبقى ذا أولوية لوقت طويل.

[الأنباء ع/7570/16/6/1997م] .

ولكيان اليهود نصيب: إن ضمان أمن إسرائيل هو مما آلت أمريكا على

نفسها التعهد بالمحافظة عليه، وهي التي رسخت ولا زالت ترسخ أقدام اليهود في

المنطقة، بأساليبها المعروفة، والعراق كغيره من الدول العربية التي تسعى

العصابات اليهودية لعقد اتفاق سلام معها، وقد جرت اتصالات كثيرة بين الجانبين

لعقد اتفاق سلام وتبادل تجاري عن طريق الأردن مع اعتراف عراقي بكيان اليهود، وقد قدم صدام حسين مبادرة علنية للمصالحة مع اليهود حينما قال أكثر من مرة:

إن العراق سيبارك أي اتفاق مع إسرائيل يقبله الفلسطينيون والعرب، ولم يحاول

الاعتراض على يهود السلام بما في ذلك (مؤتمر مدريد) واتفاقيتي (أوسلو 1، 2) .

وقد قام ياسر عرفات أكثر من مرة بمحاولة فتح قنوات اتصال بين صدام

وإسرائيل، وآخر هذه المحاولات تم الكشف عنها في مارس 1995م عندما بث

راديو الجيش الإسرائيلي خبراً يقول: إن صدام حسين طلب من عرفات ترتيب

اجتماع مع (موسى شاحال) وجاء في نص الرسالة الشفوية التي حملها عرفات:

(إن العراق لم يتخذ موقفاً عدائياً من إسرائيل منذ التوقيع على اتفاق الحكم الذاتي،

وهو يرغب في تحسين علاقاته بالدولة العبرية) والمعروف أن (شاحال) من

الوزراء الذين يميلون إلى إقامة قنوات اتصال مع العراق، ويرجع ذلك إلى أصوله

المنحدرة من العراق، إضافة إلى حاجة اليهود الاقتصادية للبترول العراقي، وقد

ذكرت صحيفة (جيروزاليم بوست) اليهودية نقلاً عن مصادر ديبلوماسية أن

الشركات الإسرائيلية تبيع حالياً أغذية وأدوية تقدر بحوالي مليوني دولار عن طريق

الأردن في مقابل أن يمد العراق إسرائيل بالبترول الذي يتم عن طريق ميناء العقبة

الأردني، وتُوُقِّعَ حينها أن تزدهر التجارة بين البلدين بهذه الطريقة لتصل إلى 100

مليون دولار خلال عام [الأنباء ع/7190/5/1/1417هـ] . والحاجة الأشد هي أن

يوقع العراق اتفاق سلام يسبق الاتفاق السوري حتى يتم الحصار الشامل للأخيرة،

وتسقط بين دول مسالمة ومستسلمة لليهود (الأردن تركيا العراق) كذلك فإن الوجود

اليهودي في المناطق الشمالية العراقية كان ولا زال بارزاً منذ عقود؛ من خلال

عناصر الموساد التي استغلت لعبة الأكراد جيداً لخدمة مصالح إسرائيل.

إيران وسوريا: إن أخوف ما تخشاه الولايات المتحدة هو توسيع الدور

الإيراني في المنطقة، خاصة وهو مرشح لذلك، مع وجود مثلث الود الباطني بين

إيران وسوريا ولبنان، وحيث إن إيران هي البديل في المنطقة، في حال سقوط

الحكم في أيدي المعارضة العراقية التي يتزعمها موالون لإيران، ومع تخوف

أمريكا من القوة العسكرية الإيرانية برغم الحصار الاقتصادي المفروض عليها

واحتوائها المزدوج مع العراق، ومع وضعها على قائمة الإرهاب العالمية، ومع

الأطماع الفارسية التي تعلمها أمريكا جيداً من إيران في المنطقة مع ذلك كله فإن

أمريكا تدرك جيداً أن بقاء صدام حسين معادياً لحكومة طهران أوْلى من رحيله

وتولي حكومة موالية لطهران.

ومع تشابك وتداخل المصالح الإيرانية الأمريكية حول الإرث الشيوعي في

آسيا الوسطى يزداد التوتر بين البلدين، ولا مجال هنا للنوايا الحسنة؛ حيث إن كلاً

منهما ترتب مصالحها على ضعف الأخرى أو احتوائها أو الخلاص منها.

أما سوريا، فهي الدولة (العنيدة) ! ! التي استعصت على أمريكا أن تسلمها

لإسرائيل لقمة سائغة، ولعل النظام السوري المخضرم يفهم اللعبة السياسية في

المنطقة جيداً فلا يريد التوقيع على اتفاق سلام يخسر فيه كما خسر غيره ما ظنه في

بادئ الأمر مكسباً كبيراً. ومع الانفتاح السوري العراقي الأخير، ومع التهديدات

التركية لكلا الدولتين نيابة عن أمريكا وإسرائيل، وهي قوة لا يستهان بها أو مع

التلويح بتفعيل مشكلة المياه، أو الضغط بورقة الأكراد وحزب العمال الكردستاني،

تبقى سوريا رقماً صعباً في الأزمة العراقية المتشابكة.

الدول العربية: كانت حسابات الدول العربية مختلفة كلياً عن الحسابات

الأمريكية، فأقصى أمنيات العرب كانت رد صدام عن غيّه وتحرير الكويت من

الاعتداء الآثم، وعودة الأمان للنفوس المروعة الفزعة؛ وحسبوا أن الوقت لن

يطول بمقام قوات التحالف في المنطقة أكثر من عام على أعلى تقدير، أما

الحسابات الأمريكية فكانت مختلفة؛ فها هي أعوام ستة تمضي على التعنت

الأمريكي، وهذا ما أضر دولاً عربية كثيرة، وتفكك التحالف العربي المجمع على

إدانة صدام، وأصبح الجميع يطالبون العراق بتنفيذ قرارات مجلس الأمن؛ إلا أن

الجميع أيضاً يعبرون عن تعاطفهم مع شعب العراق.

المصلحة غير غائبة أيضاً عن الحالة العربية، فقد صرح (نبيل العربي)

السفير المصري في الأمم المتحدة قائلاً: (إن أحداً لا يفهم لماذا العراق دائماً تحت

الحظر؟ يجب أن يكون بمقدرونا رؤية نهاية النفق) ، بل لقد صرحت مصادر

مصرية أنها مقتنعة تماماً بأن العراق ليس لديه أي أسلحة يخفيها! ! فقد تضررت

مصر بسبب ضياع ما يفوق مليون فرصة عمل كانت متوفرة داخل العراق،

فإلحاحها على ورقة مأساة الشعب العراقي يرجع في الأساس إلى عوامل اقتصادية،

خاصة بعد التنصل من الوعود بعقود كبيرة في إعمار الكويت.

وهناك من الدول العربية من ارتضى الاحتماء بصدام على وضعه الراهن؛

لأن البديل سيكون سيطرة إيرانية، وهو ما حدا بكل من الإمارات والبحرين، برفع

أصواتهما بالتنديد بما يجري داخل العراق.. الآن فقط! ! وخاصة أن كلاً منهما

لهما مشاكل سياسية كبيرة مع إيران. ومع تزايد الضغط الشعبي المطالب برفع

الظلم الواقع على الشعب العراقي، تحركت الحكومات العربية على استحياء، فقد

توفي بحسب الأرقام المعلنة منذ بدء الحصار وحتى الآن مليون ومئتا ألف عراقي

بسبب فقدان الدواء والعلاج، وحتى لو كان نصف هذا الرقم صحيحاً! ! فأي دولة

تقبله؟ وأي أمة ترتضيه! ؟ وفي أي دولة في العالم يموت مليون إنسان وهم

يطلبون الدواء! ؟ مع أن حاكمه المستبد يؤتى إليه بأشهر النطاسين وأنجع الأدوية

حتى ولو شاكته شوكة؟

الأكراد: الأكراد بأحزابهم الثلاثة الكبار: الحزب الديمقراطي الكردستاني

بزعامة مسعود البرزاني، والاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال الطالباني،

وحزب العمال الكردستاني بزعامة عبد الله أوجلان، هذه الأحزاب تعتمد (سياسة

اللامبالاة) المتعمدة، وتستمر في هذيانها غير واعية لإفرازات خدماتها للأنظمة

المحنكة، بل إن بعضها يتصور حقاً أنه يفرز استراتيجية تاريخية دائمة في شمال

العراق، ولكن الحقيقة التي يجب أن يعيها الأكراد هي أن أقصى ما تفعله هذه

القيادات عملياً: هو عرض نفسها سلعة للاستقطاب بمعزل تام عن الطموحات

الكردية؛ فالعراق وسوريا وإيران وتركيا يلتقون في تطابق معارضتهم لقيام دولة

كردية مستقلة في أي جزء من دولهم، كما حرصت هذه الدول كذلك على أن لا

تقوى الورقة الكردية في يد أي لاعب كان، ومن هذا يبدو أن الحفاظ على موازين

القوى بين الفصائل الكردية مرغوب فيه من هذه الأطراف، إضافة إلى الولايات

المتحدة التي تركت الأكراد فريسة لصدام حين دخل أربيل في عام 1996م،

والعجيب أن صدام هاجم الأكراد المتعاونين مع الولايات المتحدة في الشمال، فقامت

أمريكا بضرب القوات العراقية في الجنوب! ! بحجة انتهاك صدام لحقوق الإنسان

الكردي!

النفاق الأمريكي الدولي: لا تتوقف الولايات المتحدة عن ممارسة النفاق

السياسي المفضوح كلما تعلق الأمر بحقوق الأكراد، فقد صمتت عن محنتهم حين

تعرض (حزب العمال الكردستاني) للتصفية الكاملة من قبل القوات التركية، وحين

تعرضت الحركة الوطنية الكردية للقمع من إيران، ثم صمتت عن انتهاكات تركيا

وإيران (للمناطق الآمنة) الكردية في منطقة (الحظر الجوي الشمالية) ، وفي

مناسبات كثيرة اجتاحت القوات التركية أرض كردستان العراق، بل إن أمريكا لم

يرف لها جفن حين تعرض أكراد العراق للإبادة في الحرب الأهلية التي نشبت بين

أحزابهم، وقد أصبح في حكم المؤكد أن ما يسمى بحقوق الأكراد ليس سوى الاسم

الحركي للتدخل الأمريكي في العراق، ولو كانت واشنطن ترغب في تمتع الأكراد

بحقوقهم الطبيعية لكان أجدر بها أن تمارس الضغط على تركيا وإيران للاعتراف

الدستوري بهذه الحقوق؛ أليس هذا أوْلى من الدوران بهذا (الشعب المحتار) في

حلقة مفرغة؟ !

وما أشد نفاق المجتمع الدولي حين يصمت عن هذا كله وقد أُصدر باسمه

القرار 688/1991م عبر مجلس الأمن معتبراً أن نتائج القمع المسلط على الشعب

داخل العراق تشكل تهديداً للسلم والأمن الدوليين في المنطقة! ! ولذلك أدان القمع

مطالباً بوقفه فوراً، كما أعرب عن الأمل في فتح حوار لكفالة احترام حقوق الإنسان

والحقوق السياسية لجميع مواطني العراق، وذلك عقب أحداث انتفاضة العام 1991م

ثم ها هي (أولبرايت) ، وقت أن كانت مندوبة دائمة لأمريكا في الأمم المتحدة

تقول: لدينا أدلة كثيرة وغير مشكوك فيها بأن صدام حسين ونظامه يُخِلّون بالوعود، ويتنصلون من التواقيع ويكذبون، ويقتلون، ويضعون مصالح أقلية مختارة فوق

مصالح الملايين من المواطنين المقموعين! ! [الوطن ع/7490/8/8/1417هـ] .

ولو جئنا بمحلل عراقي لوصف الوضع الداخلي للعراق وشعبه فلن يأتي بمثل

هذا التصريح المدرك لحقائق الأمور بجلاء ووضوح.

ثم يأتي خليفتها (ريتشارد سون) في 24/6/1418هـ ومع الأحداث الأخيرة

ليقول: إننا لا نقترح عقوبات واسعة قد تؤدي إلى معاناة الشعب العراقي، وهدفنا

لا يزال مساعدة الشعب العراقي.

وباختصار شديد، فقد وجدت أمريكا في صدام الشخص المناسب لتمرير

مخططاتها في المنطقة، ووجد صدام في أمريكا الدولة التي تبقيه في السلطة دون

خسائر شخصية؛ فكل من الطرفين منتفع بالآخر في منطقة يراد لها ألا تستقر على

حال.

إن أمريكا بأسلحتها الفتاكة، وتقنيتها العسكرية من الأقمار الصناعية،

وطائرات التجسس التي تكشف ما وراء العظام لا تستطيع التفريط بصدام! ! فهل

المعارضة العراقية ستسقطه؟

وإن كانت هذه المأساة في المنطقة بحجة تدمير أسلحة الدمار الشامل في

العراق، فماذا عن الترسانة النووية اليهودية؟ وإن كان أمن المنطقة هو المطلب

الرئيس، فلماذا لا تعجل أمريكا به لراحة الشعوب الفزعة منها ومن صدامها؟ !

خاصة وقد ربطت أمريكا رفع العقوبات برحيل صدام؛ فقد صرح كلينتون في

14/ 7/1418هـ: أن العقوبات ستبقى قائمة إلى ما لا نهاية

وبأي حال ستبقى ما دام صدام في السلطة! !

لقد كان جديراً بالمسؤول الأمريكي أن يبارك خُطا صدام، ولا عجب إن بُني

له مقام في أمريكا لتلمس البركات منه، أو استنساخه لوضعه في مناطق أخرى تريد

أمريكا البقاء فيها، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

ص: 72

المسلمون والعالم

تقرير الحالة الدينية في مصر

(عرض وتحليل)

(3من3)

أيمن محمد سلامة

في الحلقتين السابقتين عرض الكاتب (تقرير الحالة الدينية في مصر) وبدأ في

تحليله، فكانت من عناوين نقط هذا التحليل:(مصداقية وعلامات استفهام) ،

و (شاهد أم طرف؟)، و (وهنا أيضاً: الكيل بمكيالين) ، و (ومن الأرقام ما خدع) ،

ويواصل الكاتب تحليله لهذا التقرير.

- البيان -

وماذا عن الحالة الدينية؟ : هناك بعض الملحوظات على الحالة الدينية نفسها، تلح في البروز ويصعب تجاهلها، من أهمها:

* يظهر جلياً من خلال استقراء ما أورده التقرير عن المؤسسات الإسلامية

الرسمية أن هذه المؤسسات بوصفها مؤسسات، وقد يخرج عن ذلك بعض أفرادها

تُستخدم أداة سياسية لتسويغ توجهات المتنفذين في السلطة والدعاية لهم.. فتاريخياً:

(الدولة الفاطمية استخدمت الأزهر من أجل نشر مذهبها الشيعي، وقام علماء

الأزهر بدور تعبوي هام من أجل نشر هذا المذهب، وتكرر الشيء نفسه في عهد

الدولة الأيوبية من أجل إعادة نشر المذهب السني على أنقاض المذهب الشيعي،

وكان تقرب المماليك لعلماء الأزهر ومحاباتهم لهم يعود إلى احتياجهم إلى سند في

حكمهم يطمئنون إليه ويستعينون به) (ص 28) ، وحتى الصوفية (أخذ الحكام

(المماليك) يستغلون الصوفية ليشغلوا الناس عن التفكير في سوء أحوال البلاد) (ص

274) ، ثم مروراً بعهد محمد علي وأسرته

إلى أن كانت الحقبة الناصرية فكان

تقنين هذا السلوك تجاه تلك المؤسسات؛ حيث (أقدم جمال عبد الناصر في الداخل

على إعادة صياغة الفكر الديني بأسلوب يتلاءم مع طبيعة العصر ومتطلبات التنمية

كما حددتها الدولة وفق قناعاتها الفكرية والأيديولوجية، فاستخدم الدين مع أدوات

أخرى في عمليات التعبئة السياسية وإيجاد شرعية لنظامه) (ص 28) ، وقد عمل

على (القضاء على أي دور محتمل يمكن أن يؤديه الأزهر في شؤون المجتمع

باستقلال عن الدولة، وذلك بإصدار قانون إعادة تنظيم الأزهر. بجانب هذا سعى

النظام الناصري إلى إيجاد أداة إسلامية لسياساته، وهو ما تمثل في المجلس الأعلى

للشؤون الإسلامية، ولم تختلف رؤية الدولة للدور السياسي للأزهر في عهد الرئيس

السادات عن رؤية سلفه) (ص 29) ، (.. ولم تشهد الثورة صداماً مع الشيوخ، بل

استطاع النظام الناصري أن يستثمر الأزهر وشيوخه جيداً لتدعيم وتبرير سياسته،

فوصف الشيخ الخضر ثورة يوليو بأنها أعظم انقلاب اجتماعي، ووصف الشيخ

تاج الإخوان المسلمين بأنهم يشوهون الإسلام، وأفتى بتجريد (الرئيس السابق)

محمد نجيب من حق المواطنة، كما كان الأزهر مكاناً للتعبئة السياسية في حرب

1956، كما أفتى الشيخ شلتوت بأن القوانين الاشتراكية لا تتعارض مع الإسلام!.. ولم يكن العهد الناصري فقط الذي استخدم الأزهر كمؤيد ومعبئ ومبرر لسياساته، بل في عهد السادات أصدر الشيخ الفحام بياناً أيد فيه الخطوات التي قام بها

السادات في 15 مايو 1971م فيما يعرف بثورة التصحيح) (ص45) ، و (علاقة

الدولة بالأزهر في مرحلة الرئيس مبارك لم تختلف جوهرياً عما كانت عليه في

مرحلتي الرئيسين الراحلين عبد الناصر والسادات) (ص 29) .

وأيضاً الصوفية وطرقها لها من هذا الاستخدام نصيب، حيث يتساءل التقرير

في معرض حديثه عن (تحديث الصوفية) : (ما مدى استعداد الأنظمة الحاكمة

للتنازل عن الصوفية التقليدية باعتبارها وعاء للشرعية؟ !) (ص 276) .

والتقرير يعتبر أن المؤسسات الدينية عموماً تشكل (أداة ضبط واستقرار إزاء

بعض الاتجاهات المغالية في مناهج تفسيرها للنص الديني وشروحه) (ص 26) .

وفي ضوء هذا ينبغي أن نفهم أن هذا الضبط والاستقرار قد يقتضي إعطاء

بعض المؤسسات قدراً من الحرية حتى تمارس الدور المنوط بها في تثبيت الشرعية

المتنفذة (وتحاول الدولة أن توازن بين دور الأزهر في حماية المعتقدات الدينية

وإعطاء الضوء الأخضر له، ذلك من أجل تثبيت شرعيتها وإضفاء الأسلمة على

مواقفها، وفي الوقت نفسه المحافظة على حرية الفكر والإبداع) (ص 52)

وعموماً: فإن بعض المواقف المعارضة للسلطة من هذه المؤسسات لم تخرجها عن

إطارها المرسوم لها (وأدى ذلك إلى تعاظم دور الأزهر في الرقابة في وقت زاد فيه

هامش الحريات، وكانت له فتاوى وآراء معارضة في قضايا حساسة كالعلاقات مع

إسرائيل وفوائد البنوك

وبصورة عامة كانت الدولة تستجيب لغالبية فتاوى وآراء

الأزهر خاصة فيما يتعلق ببعض القضايا الاجتماعية والفكرية، أما ما يخص منها

القضايا الاقتصادية أو تلك التي تمس الأمن القومي فلم تكن الدولة تستجيب لها،

وفي خلال تلك المرحلة لم يضغط الأزهر من أجل تطبيق الشريعة الإسلامية، أو

إلغاء معاهدة السلام مع إسرائيل، أو تحريم فوائد البنوك، وفي المقابل أعطت له

الدولة قدراً ملحوظاً من الحرية والاحترام) (ص 29) ، (ورغم تعاظم دور الأزهر

إلا أنه لم يخرج [اي: الشيخ جاد الحق] من إطاره القانوني، ولم يصل دوره

المعارض إلى حد الصدام مع السلطة، ولم يضغط من أجل طرح قضية تطبيق

الشريعة الإسلامية

) (ص 46) .

والفقرتان الأخيرتان توضحان لنا أنه حتى في مراحل الاستقلال النسبي لهذه

المؤسسات عن الدولة فإن المواقف المشهودة لها لم تكن تعبر عن تصور منهجي

ورؤية واضحة تطالب بها هذه المؤسسات وتعمل على إنفاذها، بل جاءت معظم

هذه المواقف نتيجة جهود شخصية في نقد قضايا جزئية أو بطريقة مشوشة، ومن

ذلك: (.. بعد مجيء الحملة الفرنسية فتصدى شيوخ الأزهر طليعة الوطنيين

المناوئين للحملة وأصبح الأزهر مقراً للحركة الوطنية، ويمثل الشيخ الشرقاوي

(1793م) الرمز الأزهري الوطني الذي قاوم الحملة، وكان أحد أعضاء مجلس

الشورى الذي تقرب به نابليون إلى المصريين، وكان أيضاً ضمن وفد العلماء الذي

ألبس خلعة الولاية لمحمد علي واشترطوا عليه أن يحكم بالعدل..) (ص 44 45) ، (وقد أفسح وقوع مصر تحت سطوة الاستعمار الفرنسي ثم الإنجليزي المجال لأن

يلعب شيوخ الأزهر وعلماؤه دوراً وطنياً قوياً في تعبئة الجماهير ضد الاستعمار

لطرده والحصول على الاستقلال) (ص 28) و (في سبيل تحقيق بعض الإصلاحات

العلمية والهيكلية في الأزهر تحالف الظواهري مع الملك فؤاد ضد الأحزاب، وفتح

بذلك الباب لسيطرة القصر الملكي على الأزهر، ولم يقض ذلك على الدور السياسي

للأزهر، وإن لم يكن هذا الدور في الفترة من 1917م حتى قبل ثورة يوليو1952م

موجهاً ضد الحكام باعتبارهم وطنيين، ولكن كان موجهاً ضد المستعمر.. (إلا إن

الأزهر لم يسكت رغم ذلك على فساد القصر، فقد عزل الشيخ عبد المجيد سليم من

المشيخة بعد أن هاجم الملك فاروق بسبب رحلاته الماجنة إلى إيطاليا..) (ص45)

وقال قولته الشهيرة: (تقتير هنا وإسراف هناك)(ص38) ، ولم نسمع في مقابل

ذلك انتقاداً لولائه للنصارى، أو دعوة قوية إلى تحكيم الكتاب والسنة ونبذ القوانين

الوضعية، أو محاربة للشركيات والخرافات التي تقع حول القبور والأضرحة تحت

سمع وبصر كثير من المشايخ إن لم يكن بمشاركة بعضهم! ، هذا فضلاً عن أن

نجد المطالبة برؤية حضارية شاملة بديلة للرؤى المسيطرة في ذلك العهد وما تزال.

ولعلنا هنا نورد بعض النماذج التي أوردها التقرير والتي توضح مدى

استغلال الدولة للمؤسسات الإسلامية أداة عاملة في آليتها السياسية، وليتضح مدى

صدق ادعاء العلمانيين بأن (لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين) ، حيث

يستغلون الدين لتسويغ سياستهم ولا يرتضون أن يكون حاكماً وموجهاً لهذه السياسة:

ففضلاً عما أوردناه من مواقف المشايخ محمد الأحمدي الظواهري، ومحمد

الخضر حسين، وعبد الرحمن تاج، ومحمد الفحام، فقد أيد الشيخ عبد الرحمن

بيصار (معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية وخطوات التطبيع، وطالب المعارضين

للتطبيع في الأزهر بعدم الصدام مع السلطة، والمعارضة فقط في الأمور التي

تستحق المعارضة!) (ص46) و (كان للشيخين [جاد الحق، وسيد طنطاوي]

مواقف دينية غلب عليها الطابع السياسي الرسمي المعضد للدولة، والمتمثلة في

تطويع الفتوى لتتواكب مع الظروف السياسية السائدة، والتراجع في بعض الأحيان

عن فتاوى سابقة بحجة الاستجابة للمستجدات بما فيه مصلحة المسلمين

ولعل

أبرز الفتاوى السياسية الرسمية التي تبرز ذلك هي الخاصة بالموقف من إسرائيل..) (ص75)

و (شهد عام 1995م [الحقل الزمني للتقرير] نشاطاً واسعاً لوزير

الأوقاف حينئذ الدكتور محمد علي محجوب سواءً على المستويين الداخلي أو

الخارجي، وبصورة عامة عبر نشاط وزير الأوقاف عن السياسة الرسمية للدولة..

فعلى الصعيد الخارجي واصل الوزير نشاطاته خلال عام 1995م، وفي المقدمة

منها: السعي لتدعيم الروابط بين المسلمين والمسيحيين أو ما يعرف بالحوار بين

الأديان استكمالاً لدور الأزهر ودار الإفتاء في هذا المضمار، وتجلى ذلك في تنظيم

وزارة الأوقاف لمؤتمر (عطاء الأديان في خدمة الإنسان) .. مشيراً إلى أن ما تشهده

مصر يعد نموذجاً مشرفاً وقدوة للعالم كله، حيث شهدت الفترة الأخيرة تجسيداً لذلك

من خلال إنشاء المجلس الأعلى للديانات بمصر والذي يضم الإمام الأكبر والبابا

شنودة والشيخين محمد الغزالي ومحمد متولي الشعراوي..) (ص68) .

كما أن (أبرز الأدوار السياسية التي لعبها المفتي مع المؤسسات الإسلامية

الرسمية الأخرى هو إقامة المزيد من جسور الحوار مع المسيحيين والتحمس للحوار

بين الأديان بصفة عامة، وبذلك الدور فإن المفتي والمؤسسات الإسلامية الرسمية

الأخرى تقوم بتدعيم السياسة الخارجية للدولة، والتي تهدف في جانب منها إلى

الانفتاح على الغرب دينيّاً ومحاولة إيجاد أرضية تفاهم مشتركة معه..) (ص78) .

وتأييد وزير الأوقاف لفتوى المفتي في فوائد البنوك كان ذا طابع سياسي:

(ويكتسب تأييد وزير الأوقاف لفتوى المفتي رغم تحريم شيخ الأزهر لها والعلاقة

الطيبة معه طابعاً سياسيّاً؛ لأنه يتمشى مع مصلحة الدولة، وبالطبع فإن وزير

الأوقاف هو المنفذ الأمين لسياسة الدولة في هذا المضمار، وقد اتخذ الوزير نفس

الموقف وبنفس الدوافع تجاه وثيقة الزواج) (ص 69) .

وهدف ضم المساجد الأهلية إلى وزارة الأوقاف لم يكن رعايتها، وإنما كان

الهدف (هدفاً سياسياً وليس دينياً، وبالتالي فقدت المساجد تأثيرها الروحي ولم تقم

بتنفيذ سياسة الدولة في تطويق أفكار الجماعات المتشددة دينياً) .. (ص 65) .

وهدف قوافل الدعوة لم يكن دعوة الناس إلى دين الله وسبيله، بل دعوتهم إلى

نبذ ما أسموه (الفكر المتطرف) الذي يناقض توجهات الدولة (وفي إطار قوافل

التوعية والتي تسمى في بعض الأحيان (قوافل التنوير) التي ترى وزارة الأوقاف

أنها الوسيلة المثلى لمحاربة الفكر المتطرف وسحب البساط من تحت أقدام

الجماعات المتشددة حرص وزير الأوقاف على المشاركة فيها ومعه شيخ الأزهر

والمفتي في بعض الأحيان) (ص 69) ، و (بصفة عامة فإن تلك القوافل قد

استحدثت لسد العجز في الدعاة خاصة في الأماكن النائية كما أسلفنا ولمجابهة الفكر

المتشدد، ولكن تجربة القوافل أثبتت أنها لم تؤد الغرض الذي خصصت من أجله

بصورة إيجابية نظراً لقصر المدة التي يقضيها (دعاة القوافل) في المساجد المختلفة،

وعزوف المصلين عن الاستماع لهؤلاء الدعاة نظراً للطابع الرسمي الذي يغلب

عليهم) (ص 64) .

* ودوران هذه المؤسسات في الفلك السياسي العام كان هدفاً سعى إليه بدأب

من يملكون أزمّة الأمور على مدار التاريخ بوسائل شتى، ومن هذه الوسائل:

ما بدأه محمد علي، (فقد قام علماء الأزهر بتولية محمد علي الذي فطن إلى

قوتهم فعمل على تهميش دور الأزهر وأحدث شرخاً في استقلاليته، فتراجع نفوذ

علمائه الاجتماعي في مقابل تقديم صفوة شبه علمانية في تفكيرها) (ص 28) ،

(ولكن سرعان ما رجحت كفة الحاكم على العالم في عهد محمد علي الذي بطش

بالعلماء وأراد لمصر نموذجاً غربياً هو وأحفاده على حساب الأزهر) (ص 45) ،

وكان من أخطر ما قام به (لما تولى محمد علي استولى على الأوقاف [التي كانت

محبوسة على الأزهر جامعاً وجامعة، العامة والخاصة] وتعهد بالإنفاق على المساجد

وجهات البر ووضع نظام جديد لملكية الأراضي) (ص 60) ، ثم كانت الحلقة

الأخيرة في هذا المسلسل عندما (أضعف النظام الناصري من استقلال العلماء من

خلال سياسته تجاه المؤسسات الإسلامية التي انطلقت في عدة محاور تمثلت في

القضاء على الاستقلال المالي بإصدار قانون إلغاء الوقف الأهلي وتحويل جانب

كبير من أراضي الأوقاف لوزارة الإصلاح الزراعي، فضلاً عن إلغاء المحاكم

الشرعية، والقضاء على أي دور محتمل يمكن أن يؤديه الأزهر في شؤون المجتمع

باستقلال عن الدولة، وذلك بإصدار قانون إعادة تنظيم الأزهر) (ص 28 29) ،

وهكذا (جعلت قوانين تنظيم الأوقاف في عهد الرئيس عبد الناصر الدعوة الإسلامية

بلا سند مادي ترتكز عليه، الأمر الذي أثر بصورة مباشرة على استقلال علماء

الدين مادياً وفكرياً، وهو الأمر الذي كان له دوره البالغ في اتخاذ هؤلاء العلماء

لمواقف الرفض والمعارضة من الدولة؛ لاطمئنان كل منهم أن هذه المعارضة وهذا

النقد لن يؤثر على حياتهم المعيشية ولن تفقدهم بالتالي وظيفتهم) (ص 61) ، (ولم

يبق من الأوقاف الخيرية بعد ذلك إلا وقف المساجد، وقد وافق الأزهر على هذا

الإعفاء بحجة سوء صرف ريع الأوقاف على السبل والكلاب، وأن الدولة أصبحت

متكفلة بشؤون الدعوة والدعاة! !) (ص 60) .

وهكذا تم الإجهاز على العامل الرئيس لاستقلال الأزهر، ذلك العامل الذي

كان تاريخياً العمود الفقري لهذا الاستقلال، (ففي عهدي المماليك والعثمانيين ونتيجة

لعدد من العوامل الداخلية أهمها الاستقلال المالي والعلمي ومكانة علماء الأزهر في

المجتمع.. أضحى الأزهر مستقلاً في ممارسة دوره.. مما جعل الدين يحتل مكان

الصدارة في المجتمع ويصبح معه علماء الأزهر صفوة المجتمع) ، (وعملت الدولة

العثمانية أيضاً على التقرب إلى العلماء للحصول على تأييدهم، وأبقت على أوقافهم

وأحباسهم التي كرست استقلالية الأزهر) . (ص 28) .

كما كان من وسائل ضرب الاستقلالية لهذه المؤسسات أن اختيار رؤوسها

أصبح بيد الدولة بعد أن كان بيد العلماء أنفسهم (فالأزهر لم تكن له قيادة معينة في

بدء نشأته، فقد كان يتولى إدارته في البداية سلاطين مصر وأمراؤها كباقي المساجد، أما شؤونه الداخلية فيقوم بها مشايخ المذاهب الأربعة وشيوخ الأروقة، يعاونهم

خطيب المسجد ومشرفون وخدم، حتى عين ناظر للأزهر للشؤون الإدارية، ثم

شيخ للشؤون العلمية والإدارية معاً) ، (فقد رأى السلطان العثماني سليمان القانوني

ضرورة أن يكون للجامع الأزهر شيخ يتفرغ للإشراف على شؤونه الدينية والإدارية

معاً ويكون حلقة الوصل بينه وبين العلماء) ، ولكن الدولة العثمانية لم تعين (أي

عالم عثماني في منصب شيخ الجامع الأزهر طوال حكمها، وتركت منصب شيخ

الأزهر للعلماء المصريين.. بل تركت اختيار شيخ الأزهر مطلقاً من كل قيد

مذهبي ومنوطاً بالمشايخ أنفسهم.. فقد كان مشايخ الأزهر يقومون باختيار شيخهم

ويبلغون الوالي العثماني باسمه) (ص 28) .. ثم تغير الحال بعد انقلاب محمد علي

على العلماء، إلى أن صدر القانون رقم 15 لسنة 1927م حيث (أصبح تعيين شيخ

الأزهر مشتركاً بين الحكومة والملك!) (ص 45) ، ثم صدر القانون الناصري

الشهير رقم 103 لسنة1961م وأعطى (لرئيس الجمهورية حق تعيين شيخ الأزهر.. كذلك أعطى القانون لرئيس الجمهورية الحق في اختيار وكيل للأزهر)(ص49) . وبعد إلغاء (جماعة كبار العلماء) أصبح تعيين أعضاء مجمع البحوث الإسلامية

(بقرار من رئيس الجمهورية باقتراح من شيخ الأزهر)(ص51) ، وكذلك (تتابع

تعيين المفتين باسم مفتي الديار المصرية بقرار من الحاكم، إلى أن قامت ثورة

يوليو 1952م فصار المفتي الرسمي للدولة يعين بقرار من رئيس الجمهورية وتحت

مسمى (مفتي جمهورية مصر العربية) ، ويكون بدرجة وزير) (ص 73) ، وبدهي

أن وزير الأوقاف يعين بصفته وزيراً في مجلس الوزراء.

وحتى الطرق الصوفية صدر في حقهم القانون رقم 118 لعام 1976م الذي

(ينص على أن يضم المجلس الأعلى للطرق الصوفية ستة عشر عضواً، أولهم

شيخ مشايخ الطرق الصوفية رئيساً، وهو يعين بقرار من رئيس الجمهورية من بين

مشايخ الطرق..) (ص 274) .

وصدر مؤخراً قانون يعاقب من يرتقي منابر المساجد بدون تصريح رسمي

حتى ولو كان شيخاً أزهريّاً بما يعني تكميم أفواه من لا ترتضيهم الدولة، وهو ما لا

يطبق على وعاظ الكنيسة.

وهكذا أطبقت مؤسسات الدولة السياسية على مؤسساتها الدينية وأمسكت

بخيوطها، حتى صارت الأخيرة أداة طيعة في يد الأولى توجهها كيف تشاء أو هكذا

أرادت!

* وإذا كان هذا ما حدث في جانب المؤسسات الإسلامية فإن المؤسسة الكنسية

القبطية استثنيت من عوامل التطويع السياسي القصري.

فعلى حين عوملت أوقاف المسلمين هذه المعاملة استثنيت أوقاف غير

المسلمين من أحكام هذين القانونين، حيث وضع لهما قانونان خاصان، هما القانون

رقم 1 لسنة 1960 م في شأن استبدال الأراضي الزراعية الموقوفة على جهات البر

العام للأقباط الأرثوذكس، والقانون رقم 35 لسنة 1971م بشأن الأحكام الخاصة

بتملك الأراضي الزراعية واستبدالها بالنسبة إلى الجمعيات الخيرية وطوائف غير

المسلمين.. حيث ترك لكل كنيسة أوقافها في حدود مئتي فدان، وما زاد عن هذا

كانت الدولة تأخذه وتدفع ثمنه بسعر (السوق السوداء) وهو ما أدى في السبعينيات

لمناداة عدد من الأصوات بمساواة أوقاف المسلمين بأوقاف المسيحيين! !)

(ص 61) .

أما بالنسبة لاختيار رأس المؤسسة الكنسية التي أصبحت تمثل لدى الأقباط

سلطة دينية وشعبية فقد أكدت الكنيسة على أنه (لا يستطيع أحد أن يتقدم للكهنوت

إلا باختيار شعبي، ومن هنا يبرز مبدأ حق الشعب في اختيار راعيه) (ص 88) .

كما أن اختيار البطريرك يتم من خلال نظام انتخابي دقيق منصوص عليه،

ويكون دور رئيس الجمهورية هو تعيين البطريرك الجديد، أو بمعنى آخر:

الموافقة على البطريرك المنتخب من قبل الأقباط وهيئتهم الكنسية

(انظر ص 82، 83) .

كما أن الكنيسة تتحرك قاعدياً من خلال مدارس الأحد (التربية الكنسية) إضافة

إلى (مدارس المهجر القبطية) التي تُوَجّه من خلالها ثقافة شعب الكنيسة وتوجهاته

بدون تدخل من الدولة، ويكمل (المجلس الملي العام للأقباط الأرثوذكس) الجوانب

الخدمية التي لا تتمتع فيها الكنيسة بالمرونة والحرية المطلوبتين وإن كان حدث

مؤخراً تقليص لدور هذا المجلس وتنافس بينه وبين الكنيسة كما وضح سابقاً.

* ويتعلق بالنقطتين السابقتين (تبعية المؤسسات الإسلامية الرسمية للأنظمة

المتعاقبة واستقلال المؤسسة الكنسية) نتيجة على قدر من الأهمية، حيث أصبحت

الكنيسة ممثلة لجمهورها وصاحبة تحرك شعبي مدعوم بالتفاف جماهيري قبطي لا

يستهان به؛ مما أعطى الاثنين (الكنيسة، والجماهير) قوة تبادلية في مواجهة القوى

الأخرى.

بينما جاء التحرك القاعدي الشعبي في الحالة الإسلامية محروماً من الريادة

الطبيعية للعلماء له، حيث نفّرت تبعية كثير من العلماء للنظام بعض شباب الصحوة

الإسلامية من التعاون مع العلماء وألجأهم إلى الارتكاز على مصادرهم العلمية

الخاصة، وتفاعلت هذه الحالة مع استخدام الدولة لبعض العلماء في ضرب الصحوة

وإجهادها فكرياً، على أمل اتساع الفجوة بين العلماء والصحوة، وفصل الصحوة

عن الجماهير ليسهل عزلها ثم استئصالها والقضاء عليها.. وقد أثر ذلك الأمر

بالسلب على الجهتين: على العلماء الذين فقدوا حيوية الاتصال بالجماهير والتحرك

القاعدي، فباتوا محصورين بين جدران قاعات الدرس ونشاطهم لا يتعدى دفات

الكتب، والصحوة التي فقدت سنداً مهماً لها يتمثل في جيش من الدعاة المجهزين

ومرجعية علمية موثوق بها، وغطاء قوي لمشروعيتهم التاريخية، هذا الغطاء الذي

تحاول الدولة تمزيقه، من خلال اللعب بالموازنة بين إعطاء بعض المصداقية

لعلماء المؤسسات الإسلامية الرسمية بالسماح ببعض المواقف الاستقلالية ليكون لهم

قبول شعبي، وفي الوقت نفسه: استخدام هؤلاء العلماء لمحاربة الصحوة عبر

تضخيم أخطاء المنتسبين إليها، ومن ثم تشكيل صورة مركبة لخطرهم على

المجتمع كله، وأيضاً عبر استحضار إشكالية علاقة الصحوة بالعلماء؛ أمام بؤرة

وعي العلماء ولذا: فإن من أكثر ما يزعج المناوئين للصحوة الإسلامية أن يكون

ضمن المنضوين تحت لوائها: علماء خارجون من المؤسسة الرسمية.

* وخامس هذه الملحوظات تدور حول أعمال التنصير التي وردت بعض

ملامحها في ثنايا التقرير:

فنلاحظ أن الإرساليات الكاثوليكية حظيت بمساحة كبيرة من إفساح المجال لها

وتشجيعها خلال فترة حكم أسرة محمد علي (انظر ص 106 107، ص 149،

155) ربما بسبب العلاقة الخاصة مع إيطاليا آنذاك، ثم كان بعد ذلك تحالف الحكم

الناصري مع الكنيسة الأرثوذكسية فيما أطلق عليه التقرير (التوافق الاستراتيجي)

(ص 93) ربما باعتبارها الكنيسة المصرية الوطنية، وفي كل مرحلة عملت كل

كنيسة على الاستفادة القصوى من علاقتها بالدولة لتنفيذ أعمالها.

كما نلاحظ أيضاً اختفاء بعض الأنشطة وبخاصة الكاثوليكية خلف أسماء غير

ملفتة للنظر وذلك في النشاطات الفكرية والتربوية مثل: (اللجنة المصرية للعدالة

والسلام) ، و (جمعية الصعيد للتربية والتنمية) التي كانت سابقاً (جمعية الصعيد

للمدارس الكاثوليكية) ، و (جمعية السنابل) ، و (كشافة وادي النيل) ،

و (كشافة أبو الهول) .. (انظر ص 113، 118) .

ويهتم الكاثوليك (210 ألف نسمة) بإنشاء المستوصفات العلاجية والملاجئ

بأنواعها والمدارس ذات المستوى الرفيع وإدارتها (ليقوموا بتثقيف وتربية النشء

المصري) (ص 149) ، و (تربية وتنشئة الفتاة المصرية)(ص 153) وهم يفتحون

هذه المدارس لجميع الديانات والمذاهب، ويهتمون بصفة خاصة بأبناء الطبقة

الراقية، وذلك من خلال حوالي 137 مدرسة، كثير منها يشمل مراحل التعليم

الثلاث، وبعضها ذات إقامة داخلية، إضافة إلى ثلاثة معاهد، كما يقدمون خدمات

رعاية المرضى والمسنين في المستشفيات والبيوت والملاجئ، ويركزون كثيراً من

نشاطاتهم (للتبشير في القرى والأحياء الشعبية)(ص 149) ، يقومون بذلك من

خلال (1107) راهب وراهبة يخدمون في (51) رهبانية (انظر 149 155) ،

إضافة إلى عدد من الجمعيات الأهلية ذات الفروع المتعددة.

وفي الوقت الذي حظرت فيه الدولة نشاط (هيئة الإغاثة الإنسانية) المنبثقة

عن نقابة الأطباء ومنعتها من ممارسة أي نشاط إغاثي بعد زلزال عام 1992م،

نظراً لما لاقته هذه الهيئة (ذات الشبهة الإسلامية) من نجاح وقبول شعبي، نجد أنه

لا توجد قيود على الهيئات الأخرى (وبخاصة الكاثوليكية) في ممارسة هذا النشاط

(انظر ص 119) ، فهي مطلقة اليد في القيام بأعمالها (الخيرية) ! ، ولعل ذلك هو

ما دعا مجلة (الكرازة) الأرثوذكسية إلى الدعوة إلى (حق كل فرد مسيحي في اختيار

الكنيسة التي يريدها بشرط عدم استخدام بعض الكنائس لوسائل ترغيب أو ضغط

على الأفراد لضمهم إليها، مثل المال أو المساعدات المادية) (ص 369) .. (ولا

ينبئك مثل خبير) ! .

أما بالنسبة للأرثوذكس فيلاحظ على غير ما يتخيله كثير من المسلمين تحول

أديرة رهبانهم إلى مجتمعات داخل المجتمعات (حيث حياة الشركة والتعاون والعمل

بين الرهبان والنساك من جهة أو بين الأديرة كمؤسسات اجتماعية منتجة والشعب

القبطي من جهة أخرى) ، وفي هذه الأديرة (أمكن استخدام أساليب الهندسة الوراثية

في تطوير الإنتاج الزراعي مثلما فعل دير الأنبا مقاريوس بوادي النطرون، وأيضاً

في مجال الإنتاج الحيواني من زراعة الأجنة وتحسين سلالات الأبقار.. وفي هذا

الإطار أنشئت مراكز الصيانة والورش للسيارات والجرارات والآلات.. فضلاً عن

أعمال البناء والتشييد والترميم وتعبيد الطرق مع الإنارة والكهرباء.. ومن ناحية

أخرى نجد الأديرة تفتح أبوابها لاستقبال الشعب على مستوى الزيارات اليومية

والرحلات أو إقامة الشباب بعض الأيام داخل أسوار الدير في خلوات روحية،

وهذا الأمر يتطلب بناء أماكن للضيافة والمكتبات لشراء الكتب والهدايا، وأيضاً

أماكن لبيع وتسويق المنتجات الغذائية والزراعية وغيرها) (ص 134، 135) .

وقد قام دير البراموس (باستصلاح 500 فدان من الأراضي الصحراوية حوله،

وتسويرها بسور ضخم بطول 6 كم فضلاً عن عدد من البوابات الكبيرة.. وتم

استصلاح 500 فدان أخرى خارج سور الدير، وفي هذا الإطار استخدم الدير

تكنولوجيا زراعية متقدمة، وكذلك نظامي الري بالرش والتنقيط.. وقام الدير

بإنشاء مزرعة كبيرة

لتربية الماشية والدواجن والأرانب على أحدث النظم

والآلات والمعدات الخاصة بالإنتاج الحيواني مثل فرز اللبن وصناعة الجبن

والمسلي.. ناهيك عن شبكة الاتصالات الداخلية (التليفونات) ، وذلك للاتصال

السريع! بين كل مكونات الدير من البوابة الرئيسية إلى سكن الرهبان إلى أماكن

العمل) (ص 140) والسؤال الذي يفرض نفسه هو: لماذا توجد هذه التجمعات

المتصلة دوماً بالشعب في أماكن مختارة من الصحراء ولا توجد داخل التجمعات

العمرانية؟ !

* وآخر هذا الملحوظات تتعلق بالشأن القبطي أيضاً: حيث لوحظ من خلال

ما أورده التقرير تنامي الشعور الطائفي في مقابل ضمور الشعور الوطني.

يظهر ذلك في محاولة الأقباط التأثير السياسي بشتى الطرق، حتى ولو

بفرض القوانين التي يعتبرها بعض الديمقراطيين تخلفاً عن الديمقراطية والوطنية

(وقد ترتب على الجدل العام في الحياة السياسية والحزبية والإعلامية عودة اتجاه

داخل النخبة القبطية للمطالبة بتعديل الدستور، لضمان تمثيل الأقباط في المجالس

النيابية والتمثيلية، أو الرجوع لنظام الدوائر المغلقة على المرشحين الأقباط فقط،

كما حدث في بدايات نظام يوليو 1952م لمعالجة مشكلة تمثيل الأقباط، وطرح

البعض اقتراحاً مفاده ضرورة إصدار تشريع للحقوق المدنية على النمط الأمريكي

الذي استهدف دعم الزنوج في إطار الوظائف العامة.. إلخ..

ومن أبرز الظواهر التي كشفت عنها نتائج الانتخابات البرلمانية هو تبني

بعض القيادات الدينية القبطية لاتجاه الحل الدستوري للتمثيل النسبي للأقباط، وفي

هذا الإطار رأى البابا شنودة بطريرك الأقباط الأرثوذكس (أن الدولة قادرة على

وضع النظم الديمقراطية التي ينجح بها الأقباط، كما وضعت من قبل نظاماً ينجح

من خلاله العمال والفلاحون!) ، ويشكّل اتجاه تمثيل الأقباط على أساس ديني

ومذهبي عودة لفكرة رفضتها الحركة الوطنية والدستورية المصرية عند وضع

دستور 1923م، وكان على رأس الرافضين لها زعامات الأقباط في الحركة

الوطنية المصرية) (ص 326) ، ولم يقتصر الأمر على البابا فقط، بل شاركه في

هذه المطالبة تيار (الرؤى المعارضة) أيضاً، حيث طالب موريس صادق أحد

رافعي الطعون القضائية (بغلق 40 دائرة انتخابية من400 دائرة على مستوى

الجمهورية يكون الترشيح فيها قاصراً على الأقباط) (ص 329) ، و (إصدار قانون

للحقوق المدنية يسمح بشغل الأقباط للمراكز والوظائف العامة أشبه بقانون الحقوق

المدنية الأمريكية وأشبه بتمثيل العمال والفلاحين في المجالس المحلية) (ص 330) ، كما طالب بعضهم بضرورة أن يكون المجلس الملي للأقباط الأرثوذكس (مجلساً

شعبياً للأقباط تحت مسمى المجلس الشعبي القبطي) (ص 329) .

كما يظهر تنامي ذلك الشعور من خلال محاولة المجادلة عن مواقف أقباط

المهجر المسيئة إلى مصر وتلمس الأعذار لهم بشتى الطرق، حتى أن التقرير يقول

وكأنه لسان حالهم: (لا بد من توجيه الاهتمام إلى أقباط المهجر وتشكيل لجان

(وطنية) تلتقي معهم، وتبحث أولاً شكاواهم من أجهزة الدولة المختلفة، وتغيير

الأداء الروتيني للسفارات المصرية، بحيث تجعل من قضية التعامل مع المهاجرين

المصريين هناك أولوية على أجندة اهتماماتها، وتغذيهم أولاً بأول بالمعلومات

الحقيقية عن الأحداث والتطورات التي يشهدها الوطن، ثم بعد ذلك تأتي قضية

أقباط المهجر كرصيد لمصر ولسياستها الخارجية) (ص 222) . فالتقرير بعد أن

قدم ما أمكنه من أعذار لهؤلاء (انظر ص 218 221) يقايض فيما يشبه الصفقة

المحسومة أولويات الانتماء بالمصالح، هذا الانتماء الذي أوصل بعضهم إلى الدعوة

للانسلاخ من العروبة، وتحريض أمريكا على إرسال قوات المارينز إلى مصر [1] .

وإذا كانت هذه المطالبة جاءت بالانفصال عن التحدث باسم جميع المصريين

في الخارج، فإننا نرى ذلك أيضاً في التحرك الفعلي من خلال إنشاء مدارس

ومراكز ثقافية في الخارج خاصة بأقباط المهجر وحدهم، وليس لكل مصريي

المهجر.

(1) انظر مقال فهمي هويدي، جريدة الأهرام، 15/7/1997م، ع/ 40398.

ص: 82