الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حوار
مع رئيس بلدية أم الفحم
الشيخ رائد صلاح
(أوسلو بالنسبة لنا لفظت أنفاسها الأخيرة)
نحرص في مجلة البيان على اللقاء مع الشخصيات الإسلامية في مختلف
الاهتمامات وشتى التخصصات لنستروح معهم في ظلال اللقاء الهموم الدعوية
والشؤون الإسلامية وشجونها. ويسرنا في هذا العدد اللقاء مع فضيلة الشيخ رائد
صلاح وهو أحد الفعاليات الإسلامية الفلسطينية. ولد الشيخ عام 1378هـ الموافق
1958م في بلدة أم الفحم، ونال شهادة كلية الشريعة من الخليل عام 1400هـ
الموافق 1980م، شغل دور رئيس الحركة الإسلامية في الداخل، ويشغل الآن
منصب رئيس بلدية أم الفحم وذلك منذ عام 1410هـ، وكان اللقاء معه على النحو
الآتي:
س1: (أوسلو) ارتبطت باتفاقية السلام الموقعة بين اليهود ومنظمة التحرير
الفسلطينية: فما الذي تعنيه اتفاقية السلام هذه في نظر الشعب الفلسطيني بشكل عام، وفي نظركم بشكل خاص؟
ج: بالنسبة للشعب الفلسطيني بشكل عام: لم تحقق أوسلو طموحه الشرعي
والعادل، وإلى الآن ما زالت حقوقه الأساسية مستبعدة جانباً ويلفها الغموض والإبهام؛ فماذا عن مصير أكثر من أربعة ملايين فلسطيني في الشتات؟ وماذا عن حق
العودة؟ وماذا عن مستقبل القدس الشريف والأقصى المبارك؟ وماذا عن السيادة
الفلسطينية؟ وماذا عن مصير آلاف السجناء الفلسطينيين الذين ما زالوا قابعين في
السجون الإسرائيلية؟ وماذا عن مصير مئات المستوطنات اليهودية التي ما زالت
جاثمة على صدر الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع؟ إن من الواضح أن هذه
الأسئلة لا تملك إلا جواباً واحداً مُرّاً ينذر الشعب الفلسطيني أنه بات يسير في
طريق مسدود! ! لذلك لا أتردد أن أقول: إن أوسلو بالنسبة لي قد لفظت أنفاسها
الأخيرة.
س2: تعمدت اتفاقية (أوسلو) تعليق مسألة القدس: فإلى أي شيء تعزون هذا
التعليق؟
ج: لقد تم تعليق قضية القدس بهدف تهويد كل القدس خلال السنوات الواقعة
ما بين أوسلو والتاريخ النهائي للمفاوضات مستقبلاً حتى يدخل المفاوض الفلسطيني
إلى غرفة المفاوضات ولم يبق أي شيء يتفاوض عليه من القدس الشريف! ! وهذا
ما يثبته الواقع اليومي للسياسة الإسرائيلية! ! ولعل هناك هدفاً آخر، وهو طمع
الطرف (الإسرائيلي) أن يقنع الطرف الفلسطيني المفاوض بحل بديل عن القدس! !
نسمع اليوم بما يعرف باتفاق (بيلين أبو مازن) الذي ينص على ضم (أبو
ديس) المتاخمة للقدس إلى القدس، ثم التنازل عنها خلال المفاوضات للطرف
الفلسطيني وكأنه تنازل عن جزء من القدس الشريف! ! ولعل هذا أبعد ما يمكن أن
يرضى به الجانب الإسرائيلي؛ لأن وحدة القدس واعتبارها عاصمة أبدية لـ
(إسرائيل) هو عبارة عن أصل مجمع عليه عند كل الأحزاب الإسرائيلية بشقيها:
المتدين أو العلماني، واليميني أو اليساري.
س3: اليهود كلما أبرموا عهداً نقضوه، واتفاقية (أوسلو) بالرغم مما تحققه
لهم من مكاسب يحاولون التنصل منها بطريق وآخر: فما هي الدوافع السياسية في
نظركم من وراء هذا التنصل؟
ج: في تصوري أن (اتفاقية أوسلو) جاءت بمثابة (حصان طروادة) الذي
تطمع الحكومات الإسرائيلية من خلاله إدخال سفاراتها وشركاتها التجارية إلى العالم
العربي والإسلامي، واتفاقية أوسلو هي الأداة التي نجحت من خلالها (الحكومة
الإسرائيلية) في تفتيت أي أمل بأي موقف موحد للعالم العربي والإسلامي في مقابل
(إسرائيل) ؛ إذ إن اتفاقية أوسلو قامت على قاعدة استفراد (إسرائيل) بالشعب
الفلسطيني، وهو الأمر الذي فتح الأبواب على مصراعيها للاستفراد بعد ذلك مع
عدة دول عربية من خلال مصالحات أو اتفاقيات، كما وأن اتفاقية أوسلو في
مرماها البعيد جاءت لتحُول دون تحوّل (إسرائيل) إلى دولة ثنائية القومية؛ وهذا ما
لا يريده أي حزب على الإطلاق، فعلى فرض أنه تم ضم مليون فلسطيني في
القطاع ومليون فلسطيني في الضفة إلى مليون فلسطيني داخل الخط الأخضر
لتحولت (إسرائيل) مباشرة إلى دولة ثنائية القومية، وهذا ما لا يرضاه أي يهودي
إطلاقاً، كما وأن اتفاقية (أوسلو) جاءت لتحطيم الطموح الفلسطيني وتحويله إلى
(كانتونات) سكانية معزولة الصلاحيات الخارجية، ويفصل بينها أطواق استيطانية
يهودية تفصل بين كل (كانتون) فلسطيني وآخر، ومع ذلك فإن (الحكومة
الإسرائيلية) تتبنى سياسة (التنصل) مع الطرف الفلسطيني لممارسة سياسة الابتزاز
من الطرف الفلسطيني بهدف تحويله إلى أداة قمع لطموح الشعب الفلسطيني، وهذا
ما نسمعه هذه الأيام من الموقف (الإسرائيلي)، فهو لا يتردد أن يقول: إن (الأمن
الإسرائيلي) يقود إلى السلام مع الفلسطينيين!
ومعنى (الأمن الإسرائيلي) قمع أي معارضة فلسطينية، وهذا يعني: تحويل
السلطة الفلسطينية إلى أداة قمع للشعب الفلسطيني، وحتى لو نجح (الطرف
الإسرائيلي) بذلك فسيبقى على طمع أن يبتز أكثر إلى ما لا نهاية.
س4: أعلنت أمريكا دون أي اعتبار لمشاعر المسلمين نقل سفارتها إلى
القدس معتبرة إياها عاصمة (إسرائيل) الشرعية: فما هو رد الفعل المتوقع في
تحليلكم من الفلسطينيين بخاصة والعرب بعامة إزاء هذا القرار الأمريكي؟
ج: معنى الإعلان الأمريكي هو مباركة أمريكية لمشروع تهويد القدس، وهو
مباركة بناء الهيكل على حساب الأقصى المبارك، وفي تصوري أن أمريكا من
حيث تقصد أو لا تقصد تقود المنطقة إلى انفجار إسلامي وعربي وفلسطيني لا
يعرف نتائجه إلا الله تعالى.
س5: العمليات الاستشهادية التي تقوم بها الحركة الإسلامية في فلسطين:
هل ترونها الرد الأمثل في التحاور مع الكيان الصهيوني، وما رأيكم فيمن يرى أنها
مجرد إعاقة للعملية السلمية وتضييع ما يمكن الوصول إليه من الحق الفلسطيني؟
ج: في تصوري أنه لا يوجد إنسان في العالم يهوى تفجير نفسه بحزام من
المفرقعات، ولكن الواقع الفلسطيني المر الذي بات يعانيه الفرد الفلسطيني دفع إلى
مثل هذه العمليات، ولو كان هناك عقلاء في أي طرف كان لسألوا أنفسهم: ما الذي
يدفع هذا الشاب لمثل هذا العمل؟ ولو سألوا أنفسهم لأيقنوا أن واقع (الاحتلال
الإسرائيلي) ووحشية معاملته هي المسؤول الأول والأخير.
س6: السلطة الفلسطينية أدانت الإرهاب مؤخراً، وهو تهمة موجهة إلى ما
تقوم به الحركة الإسلامية من نشاط عسكري ضد اليهود: فإلى أي حد ترون هذه
الإدانة خطراً على وجود العمل الإسلامي في فلسطين بشكل عام، وعلى الوحدة
الوطنية الفلسطينية بشكل خاص؟
ج: (الإرهاب) أصبح مصطلحاً هلامياً في قاموس السياسة اليوم؛ إذ إن
مقاومة الاحتلال أصبحت إرهاباً عند بعضهم، والرضوخ لإملاءات الاحتلال
أصبحت تفاوضاً عند آخرين؛ لذا في نظري: أن الإرهاب الحقيقي هو تلك
الممارسة الاحتلالية التي باتت تفرض على أكثر من مليوني فلسطيني طوق التجويع
لدرجة أن أطفالهم باتوا يعتاشون من المزابل! ! وهو تلك الممارسة الاحتلالية التي
باتت تمنع حتى المرضى الفلسطينيين من الوصول إلى المستشفيات؛ مما أدى إلى
وفيات كثيرة عند الحواجز (العسكرية الإسرائيلية) ، وإلى أن تلد الحوامل أولادهن
عند الحواجز العسكرية كذلك! ! والإرهاب هو تلك الممارسة الاحتلالية التي باتت
تخطف الشباب الفلسطيني من عقر السلطة الفلسطينية كما يحدث اليوم! ! وفي
تصوري أن الجماهير الفلسطينية عامة باتت مدركة لكل ذلك ولن تسمح لأي جهة
كانت أن تضرب وحدتها الفلسطينية؛ لأنها على قناعة تامة أن العمل الإسلامي هو
صمام أمان للمسيرة الفلسطينية.
س 7: ثمة من يقول: ليس كل يهودي في نظرته إلى فلسطين صهيونياً:
فكيف تنظرون إلى هذا القول؟ وهل ترون تبايناً بين حزبي الليكود، والعمل في
التعامل مع المسألة الفلسطينية، وبين اليهود المتدينين وغير المتدينين فيما يتعلق
بأمر القدس؟
ج: أنا أؤمن أن هناك إجماعاً قومياً ودينياً عند كل الأحزاب اليهودية على
أصول المشروع الصهيوني والسياسة الإسرائيلية، وقد يكون هناك اختلاف في
الاجتهادات الفرعية؛ ولكن هناك إجماع على القدس واعتبارها العاصمة الموحدة
والأبدية (لإسرائيل) ، وهناك إجماع على اعتبار (إسرائيل) دولة للشعب اليهودي
فقط، وهناك إجماع على منع قيام السيادة الفلسطينية، ومنع حق العودة للفلسطينيين
في يوم من الأيام، وهناك إجماع على تجميع شتات اليهود من كل العالم؛ لذلك
هناك وزارة خاصة لهذا الهدف تسمى: (وزارة الاستيعاب) ، وهناك إجماع على
ضرورة التفوق (النووي الإسرائيلي) على كل العالم العربي والإسلامي. وأعود
وأقول: هذا عند كل الأحزاب التي تمثل كل القوس السياسي الإسرائيلي.
س 8: ذكر أن اليهود مصممون على هدم المسجد الأقصى لإقامة الهيكل
المزعوم مكانه: فهل بالإمكان إعطاء القارئ فكرة عما يقوم به اليهود حالياً لتحقيق
هذا الهدف، وعن الدور الذي تقومون به محلياً ودولياً وعربياً لإبطال هذه الغاية
الصهيونية؟
ج: بعد أن حوّل اليهود (حائط البراق) إلى ما يسمونه اليوم: (حائط المبكى)، وبعد أن أنهوا مشروع حفر النفق الأول الذي سموه باسم تعسفي: (نفق
الحشمونانيم) ، ها هم اليوم يسعون إلى ما يلي:
1-
أداء صلواتهم على امتداد الحائط الجنوبي للأقصى كخطوة أولى لتحويله
إلى مبكى جديد.
2-
أعلنت وزارة الأديان (الإسرائيلية) عن نيتها تحويل (رباط الكرد) إلى ما
أسموه بالمبكى الصغير؛ علماً أن رباط الكرد هو جزء لا يتجزأ من الأقصى
المبارك.
3-
استصدروا أمراً من المحكمة العليا للسماح لهم بأداء الصلاة في داخل حرم
الأقصى المبارك.
4-
يقومون اليوم بحفر نفق جديد في الزاوية الجنوبية الغربية من حرم
الأقصى المبارك.
5-
أعلنوا عن الانتهاء من بناء مذبح الهيكل، وأعلنوا أنه موجود الآن في
منطقة البحر الميت.
6-
أعلنوا أنهم قد أحضروا كل ما يلزم من خشب الأرز لبناء الهيكل، وهو
موجود في مخزن في القدس الشريف.
7-
أعلنوا أنهم قد وجدوا ضالتهم (البقرة الحمراء) في قرية يهودية تسمى
(كفار حسيديم) ومعنى ذلك أن بإمكانهم ذبحها بعد أن يصل عمرها إلى ثلاث سنوات، وعندها يشرعون ببناء الهيكل.
8-
قبل أسابيع كانت هناك محاولة منهم لإدخال حجر بزنة عدة أطنان إلى
ساحة الأقصى وسموه: (الحجر الأساس لبناء الهيكل) .
9-
أعلنوا عن تشغيل مصنع لاستخراج الرخام الطبيعي في النقب كي
يستعمل بالإضافة لخشب الأرز في بناء الهيكل.
10-
من الضروري أن أؤكد أن الذي يتبنى هذه المشاريع شخصيات رسمية
من نواب ووزراء أو أعضاء كنيست يهود أو شخصيات متنفذة في السياسة
(الإسرائيلية) . ومقابل كل ذلك نحن نعمل على:
أ - تقوية رباط أهلنا بالأقصى المبارك، واستمرار شد الرحال إليه يومياً.
ب - استمرار القيام بمشاريع عمرانية في الأقصى المبارك؛ حيث كان
أبرزها تبليط المصلى المرواني وإنقاذه من خطر تحويله إلى كنيس.
ج - الكشف عن أي مؤامرة تسعى للمسّ بالأقصى المبارك: مثل كشفنا عن
مشروع النفق الجديد في مؤتمر إعلامي عالمي عقدناه في القدس الشريف.
د - دعوة العالم العربي والإسلامي لتوحيد موقفه حول القدس الشريف
والأقصى المبارك.
هـ - انتهينا من إعداد كتاب باسم: (القدس وسبل إنقاذها) سنقوم بتوزيعه
إلى كل من يهمه الأمر.
و نحن على وشك الانتهاء من إعداد كتاب آخر باسم: (دليل الأقصى
المبارك) مزود بالصور الملونة.
ز - بين فترة وأخرى نشارك في مؤتمرات إسلامية وعربية حول القدس
الشريف والأقصى المبارك في عدة دول عربية أو أجنبية.
س 9: يلاحظ أن حكومة (نتنياهو) تقوم بأعمال استفزازية، وتصرفات
عنجهية: فماذا تقرأون من وراء هذه السياسات؟ وهل بالإمكان أن تحمل العرب
على إعادة النظر في سياسات التطبيع مع إسرائيل؟
ج: من الواضح أن سياسة نتنياهو تسعى إلى اعتبار ما أخذه الفسلطينيون هو
أقصى ما يمكن أن يأخذوه دون أي قابلية لأي زيادة، ويسعى كذلك إلى سياسة
الاستفراد مع كل دولة عربية على حدة، ويسعى كذلك إلى استغلال تركيبة الحكم
الحالي في أمريكا؛ ليكون أداة ضاغطة على السلطة الفلسطينية ودول الجوار
العربية لصالح (إسرائيل) أكثر مما كان في يوم من الأيام، ولا شك في أنه يسعى
إلى فرض مشروع استيطاني جديد في الضفة والقطاع، وكذلك إلى فرض مشروع
القدس الكبرى على حساب الحق الإسلامي والعربي والفلسطيني؛ وفي المقابل فإن
هناك بوادر موقف عربي جاد للوقوف في وجه سياسة نتنياهو.
س10: بصفتكم رئيس بلدية: أحسب أنكم على علم بالأضرار والنهب الذي
لحق بالوقف الإسلامي: فهل بالإمكان إعطاؤنا صورة موجزة عما هو موجود من
الوقف الإسلامي، وما هو المتبع في حمايته من جهات الاختصاص؟
ج: بداية أقول: إن مساحة الوقف الإسلامي تساوي 16/1 من المساحة
العامة عندنا؛ ولكن الذي حدث للوقف ما يلي:
1-
بعد نكبة 1948م تم إزالة أكثر من 1200 مسجداً عن الوجود.
2-
بعد نكبة 1948م تم تحويل قرابة سبعين مسجداً إلى مطاعم وخمارات
ومتاحف وحظائر لتربية الأبقار.
3-
بعد نكبة 1948م تم جرف آلاف المقابر الإسلامية وبناء الفنادق أو
الأحياء السكنية، أو إقامة الشوارع والحدائق العامة على حساب أموالنا.
4-
بعد نكبة 1948م تم تحويل كل الوقف الإسلامي إلى ما أسموه: (ملك
الغائب) ووضعت السلطة اليهودية يدها عليه معتبرة نفسها صاحبة الملك الكامل لكل
الوقف الإسلامي.
في المقابل قمنا بإنشاء جمعية إسلامية تسمى: (جمعية الأقصى لرعاية
المقدسات الإسلامية) وهدفها السعي إلى تحرير كل الوقف الإسلامي عامة، والعمل
على تحرير المساجد المنتهكة ثم ترميمها، وكذلك العمل على صيانة المقابر
الإسلامية والحيلولة دون جرفها.
س11: هناك اتهام للفسلطينيين بالتفريط في أراضيهم من خلال بيعها إلى
اليهود: فما مدى صحة هذا الاتهام أولاً، وما هو الإجراء المتبع عندكم إذا كان فعلاً
واقعاً؟
ج: لا يخلو أي مجتمع من العناصر المنهزمة والطفيلية، وهم قلة في
مجتمعنا بحمد الله رب العالمين، وقد باعوا أرضهم لبعض المؤسسات اليهودية أو
لأشخاص يهود، أما نحن فنعمل على توعية الناس حتى نبني عندهم الرادع الذاتي
الذي يمنعهم من بيع أرضهم، وفي نفس الوقت لدينا طموح لم نصل إليه حتى الآن
وهو إحياء الأرض كل الأرض بهدف تحويلها إلى مصدر رزق رئيسي بمشيئة الله
تعالى في حياة جماهيرنا.
س12: احتفلت الصهيونية بمرور مائة عام على تأسيسها: فكيف تنظرون
إلى مستقبل الدولة الصهيونية في فلسطين من خلال معطيات اليوم وتحليل تركيبة
المجتمع اليهودي؟
ج: إن تراكم فروق خمسين عاماً بين الطوائف اليهودية المتدينة وغير
المتدينة، أو الشرقية والغربية، أو الشرقية المغربية والشرقية اليمنية والعراقية،
أو القادمين الجدد والقدماء، أو الفلاشا، وغيرهم لا شك أن هذا التراكم بدأ يتجسد
اليوم بمظاهر تفكك في بنية هذا المجتمع العامة، قادت إلى مظاهر استقطاب ناتجة
عن التفاف كل فئة حول نفسها؛ ولا شك أن هذا الوضع آخذ بفرز مظاهر عداء
كلامي وجسدي كما يحدث اليوم؛ لذلك فإن المراقب لمسيرة هذا المجتمع يلاحظ أنها
تسير إلى التمزق والتناحر الداخلي لا محالة بشكل سريع.
دراسات في السيرة النبوية
خصائص المرحلة المكية
في مجال المعرفة
بقلم: د. محمد أمحزون
لقد كان أول ما نزل من آي القرآن الكريم خمس آيات كانت استهلالاً للرسالة
الخاتمة الخالدة، وهي الآيات التي افتُتِحت بها سورة العلق: [اقْراً بِاسْمِ رَبِّكَ الَذِي
خَلَقَ * خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَاً وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنسَانَ
مَا لَمْ يَعْلَمْ] [العلق: 1-5] .
وبهذه الآيات وضع الله تعالى معالم الرسالة الإسلامية الخالدة في عمومها
المطلق وشمولها الأعم مبيناً أنها رسالة العلم والمعرفة والعقل، وهي أعظم نعم الله
تعالى على الإنسان [1] .
وبهذه الآيات البينات، وما تضمنته من الإشادة بالقراءة والكتابة والعلم، أبان
الله عز وجل لنبيه-صلى الله عليه وسلم ولأمة الإسلام أن المعرفة بوسائلها: من
قراءة وكتابة وتعلّم هي الأسلوب الأمثل لتبليغ الرسالة.
وبهذه الآيات أعطيت الأمة مفاتيح الإصلاح والتقدم والرقي؛ لتعلم أنه لا
إصلاح ولا مدنية ولا حضارة بغير علم ومعرفة؛ فالجهل وهو نقيض العلم لا يأتي
إلا بالشر والفساد والتخلف، كما أن الهداية إلى معرفة الحق واعتناقه والحرص
على إقامة معالمه والدعوة إليه لا يكون إلا مع العلم، ولا يكتب للعلم النمو
والانتشار إلا إذا سجله القلم ونشره وأعلن عنه [2] .
على أن العلم لا يسلك إلى القلوب سليقةً وطبعاً، أو يتلقاه الناس غريزةً
وفطرةً، وإنما يخضع للقوانين التي أودعها الله عز وجل في الوجود، ولسنن الله
في نظام الحياة.
والكشف عن هذه السنن يقوم على التعلم والبحث والتدبر وإعمال الفكر
واستقراء الظواهر؛ مما يقود إلى إماطة اللثام عن قوانين المادة وسنن الاجتماع
للإفادة من ذلك في بناء صرح الحضارة الإنسانية ضمن التوجيهات والضوابط
والحدود الإلهية.
ومن اللافت للنظر أن استفتاح الوحي بهذه الآيات البينات فيه دلالة واضحة
على أن العلم في دائرة سنن الله في الحياة يعد من أهداف الأمة الإسلامية في
تبليغها رسالة الإسلام؛ (لأن العلم هو العنوان الأعظم على خلود هذه الرسالة، وهو
العنصر الحيوي في تكوين حقيقتها الهادية الراشدة، وهو الآية الكبرى على صدقها
وصدق رسولها) [3] .
ولا شك أن هذه المنزلة الرفيعة التي منحها الإسلام للعلم، حفزت المسلمين
بأمر وتشجيع من رسول الله-صلى الله عليه وسلم على طلب العلم طلباً موصولاً
دائماً.
ولهذا الغرض كان النبي-صلى الله عليه وسلم يجتمع بأصحابه في دار
الأرقم بن أبي الأرقم يقرئهم القرآن ويفقههم في الدين [4] . كما كان يقوم بعضهم
بإقراء بعض مثلما كان يفعل (خباب بن الأرت) حيث كان يختلف إلى (فاطمة بنت
الخطاب) وزوجها (سعيد بن زيد) رضي الله عنهما يقرئهما القرآن من الرقاع [5] .
بل كان أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم حريصين أشد الحرص
على معرفة كتاب الله مثلما كان يفعل (ابن أم مكتوم) الأعمى رضي الله عنه، حيث
كان يأتي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يستقرئه القرآن ويلح عليه في ذلك،
وهو الذي نزلت بسببه: [عَبَسَ وَتَولَّى * أَن جَاءَهُ الأَعْمَى][عبس: 1، 2][6] .
العلم بالعقيدة:
في الفترة الأولى التي قضاها رسول الله-صلى الله عليه وسلم في مكة منذ
بعثته إلى أن هاجر إلى المدينة، عُني القرآن المكي أولاً بإصلاح العقيدة وتخليصها
من شوائب الوثنية، وتهذيب النفوس بتجريدها من رذائل الصفات، حتى تجتمع
القلوب على توحيد الله عز وجل، وتمحو من النفوس آثار الجاهلية.
كما عُني القرآن المكي في هذه الفترة بتعميق الإيمان في النفوس وبيان أبعاده
القلبية والقولية والعملية، والتركيز على مقتضيات (لا إله إلا الله) التي تُعنى بنقل
الإنسان من تقاليد وأعراف الجاهلية إلى أصول الإسلام وأحكامه في نواحي الحياة
المختلفة.
وكان من حكمة الله تعالى أن جعل لترسيخ هذه العقيدة على أهميتها وخطورتها
المدة الكافية، وهي الفترة المكية؛ حيث ظل الوحي ينزل ثلاثة عشر عاماً ليوضح
معاني هذه العقيدة ومقاصدها ضمن التطبيق العملي في واقع الحياة.
ولم يعرض التشريع القرآني ولا النبوي في هذه الفترة لشيء من التشريعات
العملية إلا ما له ارتباط بالعقيدة؛ كتحريم ما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح:
[وَلا تَاًكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإنَّهُ لَفِسْقٌ][الأنعام: 121] ، أو كان عبادة
تربطهم بالله عز وجل وتوجههم إلى الخير: [وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَذِي
إلَيْهِ تُحْشَرُونَ] [الأنعام: 72] .
توحيد الله عز وجل في ألوهيته:
ولأن المعركة من نوح إلى محمد صلوات الله عليهما واحدة، وقضيتها واحدة، فقد جاء التعبير عن الرسالات جميعاً في القرآن الكريم بأنها كتاب واحد:
[وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ][البقرة: 213] .
فطبيعة دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام جميعاً أنها دعوة واحدة إلى منهج
التوحيد بكل فروعه وأنواعه، وما يستلزمه ذلك من نبذ الشرك بكل صوره وألوانه:[يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ][الأعراف: 59] . وجاء في حديث
علي رضي الله عنه عن النبي-صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أفضل ما قلت أنا
والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله) [7] .
وبناءً على ذلك؛ فإن قضية الصراع بين الأنبياء الذين يحملون لواء (لا إله
إلا الله) وبين الجاهليين أو (الملأ) كما يسميهم القرآن الكريم لا يرجع إلى البعثة
النبوية فحسب، وإنما تمتد جذوره إلى فجر البشرية. وقد أكّد القرآن الكريم هذه
الحقيقة وهو يتنزل بقصص الأنبياء وقصص المكذبين من قبل في الفترة المكية:
[وَإن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ
المُنِيرِ] [فاطر: 25] .
أصلان يقوم عليهما الدين:
ولقد دل استقراء نصوص الكتاب والسنة أن هذا الدين يقوم على أصلين:
الأول: ألاّ يُعبد إلاّ الله، بالمعنى الشرعي للعبادة، (وهي اسم جامع لكل ما
يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة) [8] .
الثاني: ألاّ يُعبد إلاّ بما شرع على لسان رسوله؛ (فلا إله إلا الله) لا تعني
مجرد إقرار العبد بأنه لا خالق إلا الله، وأن الله رب كل شيء كما كان المشركون
عبّاد الأصنام مقرين بذلك: [وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ][لقمان: 25] لكنهم اتخذوا في واقع الأمر شركاء مع الله عز وجل يتقربون إليهم
بالطاعات، فلم ينفعهم هذا الإقرار. ذلك أن التوحيد الحق يتضمن محبة الله عز
وجل وتعظيمه، وإجلاله، والخضوع له، والتسليم لأمره، والانقياد لطاعته في
جميع شؤون الحياة بدءاً بالعقيدة ثم العبادات وسائر المعاملات التي يتعرض لها
الإنسان في حياته؛ لأن تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله (تنفي عن قلبه إلهية ما سوى
الحق، وتثبت في قلبه إلهية الحق.. بحيث يكون محباً لله، معظماً له، عابداً له،
راجياً له، خائفاً منه، محباً فيه، موالياً فيه، معادياً فيه، مستعيناً به، متوكلاً
عليه
…
وأمثال ذلك مما هو من خصائص إلهية الله سبحانه وتعالى
…
) [9] .
وعلى ذلك فإن هذا يعني: الإذعان للإسلام، والخضوع له في التصور
والفكر والسلوك، في جميع نواحي الحياة، كما في قوله تعالى: [قُلْ إنَّ صَلاتِي
وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ
المُسْلِمِينَ] [الأنعام: 162، 163] .
ولا شك أن العرب وهم أدرى وأعلم بلغتهم يدركون بداهة أنّ (لا إله إلا الله)
تعني طاعة الله وعبادته وحده لا شريك له. ومعنى ذلك: نزع السلطان الذي
يزاوله الأمراء والحكام وزعماء القبائل بمقتضى أهوائهم ومصالحهم، ورده كلّه إلى
الله عز وجل: [إنِ الحُكْمُ إلَاّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إلَاّ إيَّاهُ][يوسف: 40]
يقول صاحب الظلال رحمه الله في تفسير هذه الآية: (ولا نفهم هذا التعليل
كما كان يفهمه الرجل العربي إلا حين ندرك معنى العبادة التي يخص بها الله وحده.
إن معنى: عَبَدَ في اللغة: دان وخضع. ولم يكن معناه في الاصطلاح الإسلامي في
أول الأمر أداء الشعائر، إنما كان هو معناه اللغوي نفسه. فعندما نزل هذا النص
أول مرة (في المرحلة المكية) لم يكن شيء من الشعائر قد فرض حتى ينطلق اللفظ
إليه. إنما المقصود هو معناه اللغوي الذي صار هو معناه الاصطلاحي. كان
المقصود به هو الدينونة لله وحده والخضوع له وحده، واتباع أمره وحده، سواءً
تعلق هذا الأمر بشعيرة تعبدية أو تعلق بتوجيه أخلاقي، أو تعلق بشريعة قانونية.
فالدينونة لله وحده في هذا كله هي مدلول العبادة التي خص الله سبحانه بها نفسه ولم
يجعلها لأحد من خلقه.
وحين نفهم معنى العبادة على هذا النحو، نفهم لماذا جعل يوسف عليه السلام
اختصاص الله بالعبادة تعليلاً لاختصاصه بالحكم؛ فالعبادة أي الدينونة لا تقوم إذا
كان الحكم لغيره، وسواء في هذا حكمه القدري القهري في حياة الناس وفي نظام
الوجود، وحكمه الشرعي الإرادي في حياة الناس خاصة) [10] .
وبهذا المعنى كان العرب يدركون أن (لا إله إلاالله) رفض للسلطان الوضعي
الذي يغتصب أولى خصائص الألوهية وهي العبادة والطاعة، وخروج على كل من
يحكم بشريعة أو قوانين لم يأذن بها الله: [أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ
يَاًذَنْ بِهِ اللَّهُ] [الشورى: 21] .
ولذلك لم يكن يغيب عن المشركين وهم يعرفون المدلول الحقيقي لدعوة لا إله
إلا الله ماذا تعني هذه الدعوة بالنسبة لأوضاعهم ومصالحهم وسلطانهم.
وإلى ذلك نبّه (ورقة بن نوفل) بعد سماعه خبر نزول الوحي لأول مرة فقال:
(ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك؛ فيسأله النبي-صلى الله عليه وسلم في
استغراب: (أوَ مخرجيّ هم) ؟ ! فيقول ورقة: لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به
إلا عودي) [11] .
وأخرج الحاكم والبيهقي وأبو نعيم من حديث علي رضي الله عنه أن رسول
الله-صلى الله عليه وسلم لما خرج في موسم الحج يدعو قبائل العرب إلى الإسلام، عرض نفسه على بني شيبان بن ثعلبة، فدعاهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده
لا شريك له، وأنه عبده ورسوله، وأن يؤووه وينصروه ليبلغ رسالة ربه، فقال له
المثنى بن حارثة الشيباني: وإني أرى هذا الأمر الذي تدعونا إليه يا أخا قريش مما
تكره الملوك، فرد عليه النبي-صلى الله عليه وسلم بقوله: (وإن دين الله عز
وجل لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه) [12] .
الإيمان قول وعمل:
إن شهادة أن (لا إله إلا الله) لم تكن مجرد كلمة تقال باللسان، ولا يمكن أن
تكون كذلك في مرحلة من مراحل الدعوة، فضلاً عن مرحلة التأسيس التي هي
أشق المراحل وأهمها؛ وإلا فما معنى تلك المعاناة القاسية التي لقيها المسلمون من
المشركين وما موجبها؟ ! وإنما كانت هذه الشهادة نقلةً بعيدةً ومعلماً فاصلاً بين
حياتين لا رابطة بينهما: حياة الكفر وحياة الإيمان، وما يستلزمه ذلك من فرائض
وتعبدات ومشقات أعظم وأكبر من فريضة الصلاة والزكاة ونحوها:
من ذلك فريضة التلقي الكامل في التشريع والحكم وكل ميادين الحياة عن الله
ورسوله، ونبذ موازين الجاهلية وقيمها وأخلاقها وأعرافها وتشريعاتها.
ومن ذلك الولاء المطلق لله ورسوله، والعداء الصارم للكفار ولو كانوا آباءً
وإخواناً وأزواجاً وعشيرة.
ومن ذلك فريضة الصبر على الأذى في الله الذي لا تطيقه إلا نفوس سمت
إلى القمة، تحمل الفرائض والواجبات حتى إن الواحد ليكره أن يعود إلى الكفر كما
يكره أن يلقى في النار [13] .
وهذا ما كان يعانيه بلال رضي الله عنه وهو يُلبس أدرع الحديد ويُسحب في
رمضاء مكة وقت الظهيرة، وما كان آل ياسر يلقونه وهم يتعرضون لأشد بلاء
شهدته أسرة مضطهدة [14] ، وغير ذلك كثير مما سجلته كتب السيرة والحديث.
إنّ في إمكان أي إنسان أن يصلي ما شاء الله له، وينفق بما شاء الله له دون
أن يناله كبير مشقة، ولكن: أي إنسان هذا الذي يستطيع أن يخالف عادات
وأعراف اجتماعية درج عليها المجتمع أجيالاً ويتحداه بمخالفتها؟ فما بالك إذا كان
الأمر ليس مجرد مخالفة عادة أو عرف، وإنما هو مفاصلة كاملة ومنابذة تامة لكل
عبادة جاهلية وقيمة جاهلية وعرف جاهلي.
ثم هو مع ذلك زجر قاطع للنفس عن شهواتها وملذاتها ومراقبة شديدة لها.
ولهذا كانت النماذج الكثيرة في الجيل الأول ممن يشهد ألاّ إله إلا الله، فيعود من
فوره إلى بيته ليحطم الأصنام التي طالما عبدها، وليقطع العلائق التي طالما
وثقها [15] .
وهكذا فهم المسلمون دلالة هذه الكلمة المتميزة، كما فهمها الكافرون على حدّ
سواء: [لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ][الأنفال: 42] ؛
فهمها المسلمون فالتزموا بما فرضه عليهم من تبعات وتكاليف، وقاومها الكافرون؛
لأنهم فهموا مقتضاها وما يترتب عليها من ذهاب سلطانهم وتحطم كيانهم، وتهافت
أساطيرهم وأوهامهم.
إنه حتى على المنطق الجاهلي لا يصح للمرء أن يتصور شهادة بلا أثر في
واقع الحياة، وإلا: أفكان الجاهليون يقتلون مواليهم ويعذبون أبناءهم وإخوانهم
ويقطعون أرحامهم لمجرد كلمة تقال باللسان أو نظرية ذهنية في المعرفة؟ ! [16] .
إن حقيقة العبادة لو كانت مجرد كلمة تقال باللسان أو هي الشعائر التعبدية فقط
لما استحقت كل ذلك الموكب من الرسل والرسالات، ولما استحقت كل تلك الجهود
المضنية التي بذلها الرسل صلوات الله عليهم وعلى رأسهم محمد؛ إنما الذي استحق
كل هذا الثمن الباهظ هو إخراج البشر جملة من الخضوع للعباد ولأهوائهم إلى
الإذعان لرب العباد، في كل أمر وفي كل شأن.
ولأجل ذلك: فإن كلمة التوحيد: (لا إله إلا الله) إعلان إلهي عام لتحرير
الإنسان في الأرض من العبودية لغيره ولهواه، وذلك بإعلان العبودية لله وحده
المتمثلة في إفراده بالطاعة.
على أنّ سيادة الشريعة الإلهية وحدها، وإلغاء القوانين البشرية التي تخدم فئة
من الناس وهم (الملأ) ، كل ذلك لا يتم بمجرد التبليغ والبيان؛ لأن المتسلطين على
رقاب العباد المغتصبين لسلطان الله في الأرض لا يسلمون في سلطانهم بمجرد
التبليغ والبيان [17] ، بل حتى الأفراد أنفسهم، وهم الذين عبّدوا أنفسهم لغير الله
من الطواغيت والأنداد المختلفة والأصنام الفكرية، ليس لدى أكثرهم استعداد لترك
ما ألفته النفس، وسار عليه الآباء والأجداد، ويعيش عليه المجتمع كله، لمجرد
التبليغ والبيان، بل إن ما في نفوسهم من حواجز الكبر والعناد والتمرد لا يقل عن
الحواجز الضخمة التي يضعها البشر المتألهون دون شعوبهم المستعبدة [18] .
وإزاء هذه الاعتبارات، فإن هذا الإعلان العام لتحرير الإنسان في الأرض
من كل سلطان غير سلطان الله بإعلان ألوهيته للعالمين: [وَهُوَ الَذِي فِي السَّمَاءِ
إلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إلَهٌ وَهُوَ الحَكِيمُ العَلِيمُ] [الزخرف: 84] لم يكن إعلاناً نظرياً
فلسفياً سلبياً، وإنما كان إعلاناً حركياً واقعياً وإيجابياً، إعلاناً يراد به التحقيق
العملي في صورة نظام يحكم البشر بشريعة الله، ويخرجهم بالفعل من العبودية
للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك. ومن ثَمّ لم يكن بدّ أن يتخذ هذا الإعلان
شكل الحركة أي الجهاد [19] إلى جانب شكل البيان أي التبليغ [20] . وهو ما
جمعته آية سورة الحديد في قوله تعالى: [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ
الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَاًسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] [الحديد: 25]
هذا وقد رسخ القرآن الكريم في قلوب الصحابة رضي الله عنهم العقيدة
الصحيحة بهذا المفهوم، وأتت تربية الرسول-صلى الله عليه وسلم لأصحابه
ثمارها المباركة في هذا الجانب، فلم يحتكموا إلا لله، ولم يطيعوا ويتبعوا أحداً على
غير مرضاة الله، ولم يوالوا ويعادوا إلا في الله، ولم يستغيثوا ويستعينوا إلا بالله،
إلى غير ذلك من حقائق ومعاني هذا الأصل العظيم التي قررها القرآن الكريم
والسنة النبوية في المرحلة المكية.
(1) محمد الصادق عرجون: محمد رسول الله-صلى الله عليه وسلم، ج 1، ص 542.
(2)
المرجع السابق، ج1، 543.
(3)
المرجع السابق، ج1، ص 545.
(4)
ابن هشام: سيرة النبي-صلى الله عليه وسلم، ج1، ص 367، وابن سعد: الطبقات
الكبرى، ج3، ص 347.
(5)
ابن هشام: سيرة النبي-صلى الله عليه وسلم، ج1، ص 366، 367.
(6)
الترمذي: السنن، ج5، ص 103، 104، وقال حديث حسن.
(7)
أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، رقم 4072، 32، ص 462 وقال الألباني: إسناده مرسل صحيح، والحديث ثابت بمجموع شواهده السلسلة الصحيحة، ج4، ص 7، 8.
(8)
ابن تيمية: العبودية، ص 4.
(9)
ابن تيمية: العبودية، ص 47.
(10)
سيد قطب: في ظلال القرآن، ج4، ص 1390.
(11)
البخاري: الجامع الصحيح، كتاب بدء الوحي، باب حدثنا يحيى بن بكير، ج1، ص 3، 4.
(12)
أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة، رقم 214، ج1، ص 371 380 وقال ابن كثير في
تاريخه: رواه الحاكم والبيهقي، ج3، ص 144 وقال الحافظ في الفتح: إسناده حسن، ج7،
ص 220.
(13)
سفر بن عبد الرحمن: ظاهرة الإرجاء في الفكر المعاصر، رسالة دكتوراه من جامعة أم القرى بمكة المكرمة ص 25.
(14)
أحمد: المسند، ج1، ص 62 قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، ج9، ص 293، والحاكم: المستدرك على الصحيحين، ج3، ص 388 -389، وج3، ص 284، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
(15)
سفر بن عبد الرحمن: ظاهرة الإرجاء، ص 26.
(16)
سفر بن عبد الرحمن: ظاهرة الإرجاء في الفكر المعاصر.
(17)
سيد قطب: في ظلال القرآن، ج3، ص 1433 -1434.
(18)
سفر بن عبد الرحمن: ظاهرة الإرجاء في الفكر المعاصر، ص 31 -32.
(19)
أي الجهاد الشرعي الذي لا يستهدف الأبرياء العزّل، وإنما يواجه الطغم الحاكمة بعد الإعداد على المدى الطويل وامتلاك القدرة على المواجهة.
(20)
سيد قطب: في ظلال القرآن، ج3، ص 1434.
مرتكزات للفهم والعمل
الرغبة في الصدارة
رؤية دعوية حول حقيقتها ومظاهرها وآثارها
(1من2)
عبد الحكيم بن محمد بلال
لا غرابة في حرص أهل الدنيا على الإمارة والولايات؛ فذلك أمر تعوّده
الناس منهم، حتى أفضى الأمر إلى نزاعات وخلافات ومفاسد وفتن كثيرة، وأدى
كثير منها إلى سقوط بعض الدول، كسقوط الأندلس وغيرها.
لكن الغريب أن يتسلل هذا الداء إلى داخل التجمعات الدعوية، ويسيطر على
بعض النفوس المريضة، شعرت أم لم تشعر، حتى يصير همّ الواحد منهم أن يسود
على بضعة أفراد، دون التفكير بتوابع ذلك وخطورته، وأنها أمانة، ويوم القيامة
خزي وندامة [1] .
التطلع للإمارة في ضوء النصوص الشرعية:
إن الحرص على الإمارة يفسد دين المرء الحريص عليها، ويضيع نصيبه في
الآخرة، ويجعله شخصاً غير صالح لهذا المنصب، وتوضيح ذلك كما يلي:
أولاً: تحذير النبي-صلى الله عليه وسلم من عواقب التطلع إلى الإمارة:
قال: (ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على الشرف
والمال لدينه) [2] .
فبين أن الفساد الحاصل للعبد من جراء حرصه على المال والشرف: أشد من
الفساد الحاصل للغنم التي غاب عنها رعاتها ليلاً، وأُرسل فيها ذئبان جائعان
يفترسان ويأكلان، وإذا كان لا ينجو من الغنم إلا القليل منها؛ فإن الحريص على
المال والشرف لا يكاد يسلم له دينه.
ثانياً: بيان طرق الناس في طلب الجاه: للناس في طلب الجاه طريقان، هما:
الطريق الأول: طلبه بالولاية والسلطان وبذل المال، وهو خطير جداً، وفي
الغالب يمنع خير الآخرة وشرفها؛ فإن الله جعل الآخرة لعباده المتواضعين، فقال:
[تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُواً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ] [القصص: 83] فنفى عنهم مجرد الإرادة، فضلاً عن العمل والسعي
والحرص لأجلها، فإن إرادتهم مصروفة إلى الله عز وجل، وقصدهم الدار الآخرة، وحالهم التواضع مع الله تعالى والانقياد للحق والعمل الصالح، وهم الذين لهم
الفلاح والفوز. ودلت الآية على أن الذين يريدون العلو في الأرض والفساد ليس
لهم في الآخرة حظ ولا نصيب [3] .
الطريق الثاني: طلب الجاه بالأمور الدينية، وهذا أفحش وأخطر؛ لأنه طلب
للدنيا بالدين، وتوصل إلى أغراض دنيوية بوسائل جعلها الله تعالى طرقاً للقرب
منه ورفعة الدرجات، وهذا هو المقصود بحديثنا هنا.
ثالثاً: النهي عن سؤال الإمارة: وقد وردت نصوص تنهى عن سؤال الإمارة
وتمنيها، وتحذِّر من ذلك، وتبين عاقبته، وتنهى عن تولية من سألها أو حرص
عليها. وهي وإن كان يتبادر إلى الذهن أنها واردة في الإمارة الدنيوية إمارة
السلطان والوالي إلا أن دلالتها أشمل من ذلك وأوسع، فهي تتناول ما نحن بصدد
الحديث عنه. ومن تلك الأحاديث:
أ - قول النبي: (يا عبد الرحمن بن سمرة: لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن
أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أُعنت عليها) [4]
وفي رواية: (لا يتمنّينّ) ، والنهي عن التمني أبلغ من النهي عن الطلب [5] .
ب - وقوله: (إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة،
فنعم المرضعة، وبئست الفاطمة) [6] فهي محبوبة للنفس في الدنيا، ولكنها (بئست
الفاطمة) بعد الموت؛ حين يصير صاحبها للحساب والعقاب. وفي رواية أخرى:
(أولها ملامة، وثانيها ندامة، وثالثها عذاب يوم القيامة، إلا من عدل)[7] .
ج - وقال-صلى الله عليه وسلم للرجلين اللذين سألاه الإمارة: (إنا لا نولّي
هذا مَنْ سأله، ولا من حرص عليه) [8] .
والسبب في عدم توليته الإمارة لمن سألها أنه غير صالح ولا مؤهل لهذا الأمر؛ لأن سؤاله له وحرصه عليه ينبئ عن محذورين عظيمين:
الأول: الحرص على الدنيا وإرادة العلو، وقد تبيّن ما فيه.
الثاني: أن في سؤاله نوع اتكال على نفسه، وعُجباً بقدراتها وغروراً
بإمكاناتها، وانقطاعاً عن الاستعانة بالله عز وجل التي لا غنى لعبد عنها طرفة عين، ولا توفيق له إلا بمعونته سبحانه وتعالى [9] .
فما أشبه حرص الداعية على رئاسة مركز إسلامي، أو إدارة مكتب دعوي،
أو ترؤس لجنة، أو هيئة، أو مجموعة
…
ما أشبه كل ذلك بما نهى عنه-صلى الله
عليه وسلم-، نسأل الله السلامة من الفتنة.
وما أحسن وصف شدّاد بن أوس رضي الله عنه لها بالشهوة الخفية حين قال
محذراً: (يا بقايا العرب
…
يا بقايا العرب
…
إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء،
والشهوة الخفية) ، قيل لأبي داود السجستاني: ما الشهوة الخفية؟ قال (حب
الرئاسة) [10] . وصدق والله؛ فإنها مهلكة كالرياء. وعلى كثرة ما ورد من
التحذير من حب المال؛ فإنها أشد إهلاكاً منه، والزهد فيها أصعب؛ لأن المال
يبذل في حب الرئاسة والشرف.
مظاهر الحرص على الإمارة والظهور [11] :
1-
العجب بالنفس، وكثرة مدحها، والحرص على وصفها بالألقاب المفخمة
كالشيخ، والأستاذ، والداعية، وطالب العلم، ونحوها، وإظهار محاسنها من علم
وخُلُق وغيره.
2-
بيان عيوب الآخرين وخاصة الأقران والغيرة منهم عند مدحهم ومحاولة
التقليل من شأنهم.
3-
الشكوى من عدم نيله لمنصب ما، وكثرة سؤاله عن الأسس والمعايير
لتقلّد بعض المناصب.
4-
الحرص على تقلّد الأمور التي فيها تصدّر وبروز؛ كالإمامة والخطابة
والتدريس والتأليف والقضاء. وهي من فروض الكفاية، لا بد لها ممن يقوم بها،
مع مراعاة أحوال القلب، والتجرد من حظوظ النفس؛ كما هو حال السلف.
5-
عدم المشاركة بجدية عندما يكون مرؤوساً، والتهرب من التكاليف التي لا
بروز له فيها.
6-
كثرة النقد بسبب وبغير سبب، ومحاولة التقليل من أهمية المبادرات
والمشاريع الصادرة من غيره والعمل على إخفاقها.
7-
الإصرار على رأيه، وعدم التنازل عنه، وإن ظهرت له أدلة بطلانه.
8-
القرب من السلاطين والولاة ومن بيده القرار في تقليد المناصب، وكثرة
الدخول عليهم.
وهذا باب واسع يدخل منه علماء الدنيا لنيل الشرف والجاه، وهو مظنة قوية
للفتنة في الدين، كما في الحديث:(من أتى أبواب السلطان افتتن)[12] .
9-
الجرأة على الفتوى، والحرص عليها، والمسارعة إليها، والإكثار منها.
وقد كان السلف يتدافعونها كثيراً؛ ومن ذلك ما قاله عبد الرحمن بن أبي ليلى: (أدركت عشرين ومئة من أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم، فما كان
منهم محدّث إلا ودّ أن أخاه كفاه الحديث، ولا مفتٍ إلا ودّ أن أخاه كفاه الفتيا) [13] .
آثار ومفاسد التطلع للإمارة:
أولاً: مفاسد التطلع إليها والرغبة فيها:
1-
فساد النية، وضياع الإخلاص، أو ضعفه، ودنو الهمة، والغفلة عن الله
تعالى، وعن الاستعانة به. [14] .
2-
انصراف الهمّ عن المهمة الأساس، والغاية الكبرى من حياة العبد، وهو
تحقيق العبودية لله عز وجل. والاشتغال عن النافع الذي أمر النبي-صلى الله عليه
وسلم- بالحرص عليه فقال: (احرص على ما ينفعك)[15] وصرف الوقت والجهد
والفكر فيما هو غني عن الاشتغال به، من مراعاة الخلق، ومراءاتهم، والحرص
على مدحهم، والفرار من مذمتهم، وهذه بذور النفاق، وأصل الفساد.
3-
المداهنة في دين الله تبارك وتعالى، بالسكوت عما يجب قوله والقيام به
من الحق، وربما بقول الباطل من تحليل حرام، أو تحريم حلال، أو قول على الله
بلا علم.
4-
اتباع الهوى، وارتكاب المحارم من الحسد والظلم والبغي والعدوان ونحوه
مما يوقع فيه هذا الحرص ويستلزمه أحياناً قال الفضيل بن عياض: (ما من أحد
أحب الرئاسة إلا حسد وبغى، وتتبع عيوب الناس، وكره أن يُذكر أحد
بخير) [16] .
ثانياً: مفاسد الحصول عليها للراغب فيها المتشوِّف لها [17] :
1-
الحرمان من توفيق الله وعونه وتسديده؛ (فإنك إن أُعطيتها عن مسألة
وكلت إليها) .
2-
تعريض النفس للفتنة في الدين، والتي يترتب عليها غضب الله تعالى إذ
ربما يَنْسى مراقبة الله، وتبعات الأمر، ويغفل عن الحساب، فقد يظلم ويبغي؛
ويُشعِرُ بذلك كله وصف النبي: بأنها أمانة وملامة وندامة.
3-
تضاعف الأوزار وكثرة الأثقال؛ حيث قد يفتن؛ فيكون سبباً للصد عن
سبيل الله تعالى وأشد ما يكون ذلك حين يكون منتسباً لأهل العلم والصلاح، قال عز
وجل: [لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ
أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ] [النحل: 25] .
4-
توقع سوء العاقبة في الدنيا، وحصول بلاء لا يؤجر عليه، قال الذهبي:
(فكم من رجل نطق بالحق وأمر بالمعروف، فيسلط الله عليه من يؤذيه لسوء قصده، وحبه للرئاسة الدينية)[18] .
5-
التبعة والمسؤولية الشديدة يوم القيامة، قال: (ما من أمير إلا يؤتى به
يوم القيامة مغلولاً لا يفكه إلا العدل، أو يوبقه الجور) [19] .
ثالثاً: آثاره على صعيد الجماعة والمجتمع:
الفرد والجماعة كلٌ منهما مؤثر في الآخر متأثر به، فإذا ما وقع الأفراد في
مزلق كهذا، فإن الداء عن الجماعة ليس ببعيد؛ إذ سرعان ما تفسد الأخوة، وتَحل
الخلافات، ويسهل اختراق الصف الإسلامي، وتحصل الشماتة به وبأهله.
وما أبعد هؤلاء عن تنزّل النصر، وحصول التمكين، مع هذا الاعوجاج
والانحراف. بئست الدعوة حينما تكون مغنماً وجاهاً، ينتفع فيها المرء ويتبختر،
وبئس الداعية حينما يسعى لاهثاً وراء زخارف الدنيا ومتاعها الفاني؛ فإن حب
الظهور والبروز بداية الانحراف والسقوط والإخفاق.
وإذا كان الله عز وجل يعطي الكافر والمؤمن من الدنيا لهوانها عنده، ولكنه
سبحانه أغير من أن يتم أمره بالتمكين لهذا الدين في الأرض على يد أناس عندهم
شوب في الإخلاص، ويحبون الرئاسة والاستعلاء في الأرض؛ فكيف إذا كانوا
يتخذون الدين مطية للدنيا، يبيعون دينهم بعرض قليل؟ ! [20] .
(1) انظر: مجلة البيان، ع 90، ص 111.
(2)
رواه أحمد، ج3، ص 456، 460، وانظر: صحيح الجامع، ح/ 5620، وانظر: رسالة بعنوان: (شرح حديث: (ما ذئبان جائعان [لابن رجب رحمه الله تعالى، فقد أخذت منه كثيراً في هذا الموضوع، وقد لا أشير إليه في بعض المواضع تحاشياً لإثقال الهوامش.
(3)
انظر: تفسير السعدي، ص 575.
(4)
رواه البخاري، ح/7146.
(5)
انظر: الفتح، ج13، ص 133.
(6)
رواه البخاري، ح/7148.
(7)
وسندها صحيح انظر: الفتح، ج13، ص 134.
(8)
رواه البخاري، ح/7149.
(9)
انظر: شرح جوامع الأخبار، للسعدي، ص 105 ضمن المجموعة الكاملة.
(10)
شرح حديث أبي ذر، ص 25، وجامع الرسائل، ج1، ص 233، كلاهما لابن تيمية.
(11)
انظر: شرح حديث (ما ذئبان جائعان) لابن رجب، وانظر مشكلات وحلول في حقل الدعوة الإسلامية للبلالي، ص 85، 143.
(12)
رواه أحمد، ج2، ص 371، 440، وانظر: صحيح الجامع، ح/ 6124.
(13)
جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، ج2، ص 1120.
(14)
خواطر في الدعوة، محمد العبدة، ج2، ص 23.
(15)
رواه مسلم، ح/2664.
(16)
جامع بيان العلم وفضله، ج1، ص 571.
(17)
انظر: آفات على الطريق، السيد محمد نوح، ج2، ص 67، وأخذت منه في مواضع أخرى من هذا الموضوع.
(18)
السير، ج 18، ص 191، 192.
(19)
رواه أحمد، ج2، ص 231، وانظر: صحيح الجامع، ح/5695.
(20)
انظر: خواطر في الدعوة، محمد العبدة، ج2، ص 23.
قراءة في كتاب
قوانين ومبادئ.. المقاطعة العربية لـ (إسرائيل)
تأليف: د. محمد عبد الحميد أبو زيد
الناشر: عمادة شؤون المكتبات جامعة الملك سعود، الرياض، ط1، 1993م.
عرض: مجدي محمد عيسى
تتعرض المقاطعة العربية للعدو الصهيوني لحملة غربية وصهيونية شرسة منذ
بداية العقد الحالي؛ بهدف تقويضها ومد جسور التعامل التجاري والاقتصادي بين
الدول العربية والعدو؛ كمؤشر لإثبات حسن النية من جانب الأطراف العربية التي
قبلت الدخول في محادثات سلام معه ترعاها الولايات المتحدة الأمريكية. وفي هذا
الشأن أصدر مؤتمر قمة الدول الصناعية السبع الذي عقد في طوكيو في يوليه
1993م، قراراً يؤيد إلغاء المقاطعة العربية لـ (إسرائيل) كما تحاول إسرائيل من
خلال المفاوضات المتعددة الأطراف وضع حد للمقاطعة العربية والدخول في
مشروعات مشتركة مع البلاد العربية. وقد بدأت عرى المقاطعة تنحل عروة عروة، حيث وافقت بعض الدول العربية على إلغاء المقاطعة من الدرجة الثانية (أي التي
تتعلق بالتعامل مع الشركات التي تتعامل مع إسرائيل) بينما دخلت دول عربية في
تطبيع علاقات مع العدو بعد إقامة علاقات دبلوماسية معه. وفي خضم هذه
التحولات احتدم الجدال حول جدوى المقاطعة ومدى فاعليتها في تعزيز مركز
العرب التفاوضي. والكتاب الذي أعرض له يفيد في تتبع تطور المقاطعة العربية
للوجود الصهيوني في فلسطين، والجوانب القانونية للموضوع والأساليب المعادية
للمقاطعة.
يقع الكتاب في 241 صفحة، ويتألف من مقدمة وستة أبواب.
في المقدمة: تناول المؤلف فكرة المقاطعة العربية للعدو الصهيوني باعتبارها
وسيلة مشروعة، سواء في الشرع الإسلامي أو في القانون الدولي العام؛ وذلك
لممارسة الضغط عليه لحمله على الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة.
وفي الباب الأول: (المقاطعة في الإسلام) : تناول المؤلف التصور الإسلامي
للمقاطعة في سياق تحليله لمفهومي الحرب والسلام في الإسلام، ولقد أشار في هذا
الشأن إلى أن القاعدة في الإسلام هي السلام، وأن الحرب إنما شرعت لتأمين نشر
الدعوة الإسلامية والدفاع عن الأنفس والأعراض والأموال والأوطان عند الاعتداء
عليها. وأما المقاطعة فهي من أهم أسلحة الحرب التي تشنها الدولة لتحقيق أهدافها
في حربها العادلة ضد الطغاة، ويقرر المؤلف أن الإسلام يحظر على أتباعه موالاة
أعداء الله أو التعامل معهم أو مناصرتهم، وأن الله تعالى أمر بمقاطعة الكفار وإن
كانوا آباء أو أبناء أو إخواناً. ووفقاً لما ذكره المؤلف، فإنه يجوز للمسلمين في
حالة الضعف وعدم التمكن أن يوالوا الكفار والمشركين ظاهراً ريثما يعدّون أنفسهم
لمواجهة الخطر الذي يتهددهم.
الباب الثاني: (الصراع العربي (الإسرائيلي) والمقاطعة العربية) : استعرض
فيه المؤلف ظروف نشأة المقاطعة العربية لـ (إسرائيل) وأشار إلى ظهور المقاطعة
كوجه من وجوه المقاومة العربية لقيام دولة العدو على أرض عربية في سنة 1948م؛ حيث شعر العرب بالخطر يتهددهم من جراء استزراع هذا الكيان في أرضهم.
وهو خطر متعدد الجوانب؛ فهو خطر عسكري واقتصادي واجتماعي. فمن الناحية
العسكرية: فإن دولة العدو كيان ذو قوة عسكرية مقتدرة ومسلح بعتاد حربي عالي
التقنية، وميزانيتها العسكرية ضخمة، وتعتني بتدريب قواتها بصورة مستمرة
ومنظمة. ولذا فإنها هزمت العرب في حروب 1948م، 1956م، 1967م. ومن
الناحية الاجتماعية: فإن العدو كيان عنصري يفرق في المعاملة بين اليهود والعرب
المقيمين في الأراضي المحتلة؛ فالشعب الفلسطيني في ظل الاحتلال لا يتمتع
بحقوق الإنسان الأساسية: كحق العمل وحق التعليم والتأمين الاجتماعي، والحريات
الشخصية، وحرمة المسكن، وحرية العقيدة. كما أن وجود دولة للعدو يشكل تهديداً
للأماكن المقدسة في فلسطين؛ حيث المخطط اليهودي لهدم المسجد الأقصى وبناء
هيكل سليمان مكانه.
ومن الناحية الاقتصادية: يشكل العدو الصهيوني خطراً اقتصادياً على الأمة
العربية، يتمثل في تدفق الأعداد الكبيرة من المهاجرين اليهود إلى فلسطين،
ومحاولة تركيز الصناعات اليهودية في فلسطين واحتلال الأراضي وإقامة
المستعمرات الزراعية اليهودية فيها. وأشار المؤلف إلى أن مشروع تحويل نهر
الأردن يعتبر من الأمثلة البارزة على تغلغل الخطر الاقتصادي الصهيوني في
الوطن العربي؛ حيث يهدف هذا المشروع إلى تحويل مجرى نهر الأردن إلى
فلسطين المحتلة ليروي صحراء النقب.
وننتقل إلى الباب الثالث: (نشأة المقاطعة العربية) : وقد أوضح المؤلف في
هذا الباب أن العرب تبنّوا المقاطعة كأداة قانونية سياسية واجتماعية للكفاح ضد
الصهاينة لترويعهم ودفعهم للتخلي عن الأراضي المحتلة، وذكر أن المقاطعة مرت
بتطورات مهمة؛ حيث كانت بدايتها أيام الحكم العثماني، ثم تطورت في حقبة
الاستعمار البريطاني. وكانت هذه التطورات مواكبة للتطور الاجتماعي، فانتقلت
المقاطعة من مرحلة المقالات والنداءات على صفحات الجرائد والمجلات إلى مرحلة
العمل القانوني السياسي والممارسة النضالية؛ وفي النهاية تبنت جامعة الدول
العربية المقاطعة؛ باعتبارها سلاحاً فعالاً لعرقلة نمو الدولة العبرية. وأشار المؤلف
إلى قرار مجلس الجامعة الصادر في 16 ديسمبر 1954م الذي ينص على مقاطعة
السلع التي تنتجها المصانع اليهودية في فلسطين. ومنذ بداية الخمسينيات، أصبح
الإشراف على المقاطعة العربية منوطاً بالجامعة العربية التي حاولت عزل دولة
العدو سياسياً، فاستخدمت المقاطعة كسلاح قانوني دولي في بعض الأحيان.
ويرى المؤلف أن أبرز حدث في تاريخ المقاطعة العربية هو القرار الذي
اتخذته الدول العربية إثر نشوب حرب أكتوبر 1973م بتخفيض إنتاج البترول
العربي وحرمان الدول التي تساعد إسرائيل منه، وقد كان لهذا القرار تأثيره في
عزل العدو سياسياً بعد إجماع معظم دول العالم على وجوب انسحابها من الأراضي
التي احتلتها سنة 1967م.
كما قامت كافة الدول الأفريقية بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع دولة العدو،
وتحركت الولايات المتحدة باتجاه إيجاد تسوية للنزاع العربي (الإسرائيلي) .
ثم استعرض المؤلف أجهزة المقاطعة العربية المركزية والإقليمية، ومهام
المكتب الرئيس الذي مقره دمشق، ومهام المكاتب الإقليمية والمكتب الرئيس.
وأشار المؤلف إلى أن جهة الرقابة والإشراف على المكاتب الإقليمية تختلف من بلد
عربي إلى آخر؛ وذلك لاختلاف نظم الإدارة والتشريع في كل منها من جهة،
ولاختلاف تقدير كل دولة في إلحاق مكتبها بأحد أجهزتها من جهة أخرى، فضلاً
عن أن المنظمة المتعلق بها أمور المقاطعة ونظام تأسيس المكاتب الفرعية ومشروع
القانون الموحد لتلك المقاطعة وردت كلها دون تبيان الجهة التي تلتحق بها تلك
المكاتب.
في الباب الرابع: (مبادئ المقاطعة العربية) : أشار المؤلف إلى أن المقاطعة
العربية تعرضت لحملة شرسة من قبل الأوساط اليهودية؛ حيث حاولوا التشكيك في
جدواها، ومارسوا ضغوطاً على الشركات والمؤسسات الأجنبية لكي لا تتجاوب مع
المقاطعة العربية. كما حاولوا إقناع العالم بأن المقاطعة العربية قائمة على أساس
ديني وعنصري. ويردّ المؤلف على هذه المزاعم بأن الدول العربية في حالة دفاع
شرعي وفقاً للمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، ومن حقها أن تتخذ كافة الإجراءات
السياسية والقانونية والاقتصادية والعسكرية ضد دولة العدو والدول التي تساعدها في
اغتصابها للحقوق العربية، ومن بين هذه الإجراءات المقاطعة. ثم ذكر المؤلف أهم
مبادئ المقاطعة في مجالات: التصدير والاستيراد، المناطق الجمركية الحرة
العربية والأجنبية، مراقبة البيوت المالية والمصارف، الطرود البريدية،
الإجراءات التي تتخذ ضد عملاء العدو ومكافحة التهريب من البلاد العربية، ومنع
تسرب البترول إلى دولة العدو والشركات والمؤسسات الأجنبية التي تعاون إسرائيل
، كشركات الملاحة والطيران الأجنبية، وغيرها. وتدور هذه المبادئ في مجملها
حول حظر التبادل التجاري بين العرب والعدو، وحظر التعامل مع الشركات
والمؤسسات التي تتعامل معه.
وفي الباب الخامس: (تطور المقاطعة والأساليب المعادية لها) : استعرض
المؤلف مراحل تطور المقاطعة العربية، وقسمها إلى ثلاث:
المرحلة الأولى من 1951 1956م، وتعتبر فترة إرساء أسس المقاطعة
ووضع مبادئها العامة.
المرحلة الثانية من 1956 1967م، وقد ضعفت فيها فاعلية المقاطعة نتيجة
للعدوان الثلاثي على مصر، وتصدع وحدة الصف العربي على نحو ما ظهر من
انفصال سوريا عن مصر عام 1961م، والجهود المكثفة التي بذلتها دولة العدو
لإحباط مفعول المقاطعة؛ وذلك باستخدام أساليب غير قانونية بدءاً من محاربة
الشركات التي اختارت التعامل مع الأقطار العربية دونها، وتأليب الرأي العام
ضدها، وحثّ بعض الدول على إصدار التشريعات التي تندد بها وتظهرها بعدم
الجدوى والفاعلية.
المرحلة الثالثة من 1967: 1973م، شهدت هذه المرحلة العدوان الصهيوني
في 5 يونيو 1967م الذي نجم عنه احتلال العدو لبعض الأراضي العربية.
ووفقاً لما ذكره المؤلف، استمر ضعف المقاطعة العربية في هذه المرحلة
نتيجة للهزيمة وضعف الرقابة الأردنية، حيث برزت ظاهرة الجسور المفتوحة التي
تعني إقامة علاقات سياسية واجتماعية واقتصادية بين الدولة العبرية والضفة
الشرقية عن طريق الضفة الغربية وقطاع غزة (المناطق المحتلة) . ولقد وجد العدو
في فتح هذه الجسور فرصة تسمح باختراق جدار المقاطعة. وبالفعل عملت على
تحقيق منافع اقتصادية كبيرة عن طريق هذه الجسور؛ حيث تم تصدير المنتجات
الصهيونية عبرها واستقدام الزوار العرب والسياح.
ويشير المؤلف إلى سبب آخر لضعف المقاطعة في هذه الفترة وهو تهاون
أجهزة المقاطعة في أداء واجبها وخصوصاً فيما يتعلق بمراقبة السفن التي تبحر إلى
الكيان الصهيوني.
المرحلة الرابعة: حرب 1973م وما بعدها. وفي هذا الشأن يذكر المؤلف أن
هذه الحرب أدت إلى تحريك مشكلة الشرق الأوسط بعد أن كانت في حالة جمود،
كما أدت إلى إضفاء طابع الشرعية على المقاطعة العربية.
وبقدر من التفصيل، تعرض المؤلف للحظر النفطي الذي تبنته الدول العربية
ضد العالم الغربي وخصوصاً الولايات المتحدة وهولندا.
ثم تطرق المؤلف إلى التدابير التي اتخدتها دولة العدو لتقويض المقاطعة التي
شملت: شن حملات الدعاية والتضليل من قبل مكتب خاص لمكافحة المقاطعة أنشئ
بوزارة خارجيتهم عام 1963م، وقيام صحافتهم بالتنبيه إلى خطر المقاطعة العربية
وضرورة مقاومتها والسعي لإصدار تشريعات في مختلف الأقطار لمنع التمييز ضد
المصانع اليهودية، واستغلال النفوذ الصهيوني حيث أعلنت المؤسسات الصهيونية
وقف تعاملها مع الشركات ووسائل النقل الأجنبية التي تقرر دولة العدو مقاطعتها
لتعاملها مع البلاد العربية، وتحريض النقابات والعمال على مقاطعة السفن
والطائرات التابعة للبلاد العربية ومنع تقديم الخدمات لها احتجاجاً على ما تتخذه تلك
البلاد من إجراءات إزاء السفن والطائرات التي تتعامل مع العدو وإدراجها في
القوائم السوداء، والضغط على الشركات العالمية للتعامل مع العدو، والضغط على
الحكومات لإصدار تشريعات مضادة للمقاطعة العربية.
موقف الولايات المتحدة الأمريكية من المقاطعة:
أوضح المؤلف أن اليهود مارسوا ضغوطاً مكثفة على الإدارة الأمريكية منذ
الستينيات لإصدار تشريعات تهدف إلى مجازاة الشركات الأمريكية التي تتعاون مع
المقاطعة العربية، وأشار في هذا الصدد إلى صدور قانون الإصلاح الضريبي في
عام 1986م الذي تضمن في بنوده إلزام الشركات الأمريكية تقديم تقرير لوزارة
المالية بالمعلومات التي قدمتها لأجهزة المقاطعة أو البلاد العربية بشأن المقاطعة
العربية من الامتيازات والفوائد الضريبية التي اعتادت الحكومة الأمريكية أن تمنحها
لتشجيع الصادرات، وفرض عقوبات مالية وأخرى مقيدة للحرية على المؤسسات
والشركات التجارية الأمريكية التي تتعاون مع المقاطعة العربية.
ونصل مع المؤلف إلى الباب السادس: (النصوص المنظمة للمقاطعة العربية) : الذي تناول فيه التكييف القانوني للمقاطعة العربية؛ حيث أوضح أن ميثاق الأمم
المتحدة يجيز اللجوء إلى القوة في حالة الدفاع الشرعي. فوفقاً لنص المادة 51 منه، فإنه يحق للعرب اتخاذ التدابير اللازمة للدفاع عن أنفسهم حيال دولة العدو بصفتها
الطرف المعتدي والغاصب لأرض العرب، والمنتهك بذلك أحكام القانون الدولي
وميثاق الأمم المتحدة، ومن هذه التدابير: مقاطعة العدو والامتناع عن إقامة علاقات
من أي نوع معه.
ويرى المؤلف أن المقاطعة العربية تعتبر من قبيل الحرب الاقتصادية التي
يقصد بها توجيه مختلف الأسلحة الاقتصادية الممكنة ضد أهداف العدو الاقتصادية
لإرباك اقتصادياته وإضعاف معنوياته؛ وأبرز هذه الأسلحة: الحصار؛ حيث
فرضت المقاطعة الاقتصادية العربية حصاراً لتطويق دولة العدو وحرمانها من
الاتصال بالعالم الخارجي عن طريق البلاد العربية، وعدم استخدامها لمواصلاتها
البرية والبحرية والجوية.
وبالنسبة لموقف القانون الدولي العام من المقاطعة، فإن المؤلف يرى أنه
يجيزها؛ لأن قواعد هذا القانون أباحت للدول المتحاربة قطع علاقاتها التجارية مع
العدو، واتخاذ شتى تدابير الحرب الاقتصادية. وأشار إلى أن القضاء في مختلف
الدول قد أقر اعتبار الحالة القائمة بين الدول العربية والعدو الصهيوني حالة حرب
بالمفهوم القانوني.
كما أن المؤلف استند أيضاً في تسويغه لشرعية المقاطعة العربية إلى القرارات
المهمة التي صدرت عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن التي تؤيد كفاح
الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي.
تقويم الكتاب:
لقد وُفِّق المؤلف في إثبات مشروعية المقاطعة العربية لـ (إسرائيل) مستنداً
في ذلك إلى أحكام الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام وميثاق الأمم المتحدة؛
وذلك رداً على من يدمغون المقاطعة بالعنصرية أو بمخالفة ميثاق الأمم المتحدة الذي
يدعو إلى تنمية العلاقات الودية بين الدول. كما وُفِّق في تتبع التطور التاريخي
للمقاطعة العربية منذ بدء تدفق اليهود إلى فلسطين في فترة الحكم العثماني وحتى ما
بعد حرب أكتوبر 1973م.
ومع ذلك، يمكنني أن أسجل الملحوظات النقدية الآتية على الكتاب:
اقتصر المؤلف في الكتاب كله على المقاطعة العربية الاقتصادية للعدو
الصهيوني، ورغم ذلك فإن العنوان ذكر المقاطعة بشكل عام دون تحديدها بالمقاطعة
الاقتصادية. وقد أشار المؤلف في المقدمة (ص7) إلى أشكال أخرى للمقاطعة مثل
المقاطعة الاجتماعية التي تهدف إلى حماية معتقدات وقيم وتقاليد مجتمع ما تجاه
مجتمع آخر، ولذلك كان يجب إزالة الإبهام الوارد في العنوان؛ بحيث يكون:
(قوانين ومبادئ المقاطعة الاقتصادية العربية لإسرائيل) .
في تناوله لبعض صور انتهاك المقاطعة العربية، أشار المؤلف في (ص
130-
133) إلى ظاهرة (الجسور المفتوحة) التي تم خلالها انتقال السلع والخدمات
والأفراد بين الضفتين الغربية والشرقية لنهر الأردن، ولكن المؤلف أغفل ثغرة
أخرى من الثغرات التي أحدثها العدو في جدار المقاطعة العربية التي تمت عبر
الحدود اللبنانية أثناء الحرب الأهلية اللبنانية فيما عرف بـ (الجدار الطيب) الذي
تم عبره انتقال منتجات العدو إلى لبنان، ونشطت حركة السياحة بين الطرفين.
في حديثه عن إشراف الجامعة العربية على المقاطعة (ص80 81) ، ذكر
المؤلف أنه لم تشذ دولة عربية واحدة في عقد الخمسينيات عن المقاطعة مستنداً في
ذلك إلى أن مؤتمرات المقاطعة ظلت تنعقد بشكل منتظم حتى في ظروف التوتر في
العلاقات العربية. والحقيقة أن هذا التعميم ينطوي على إغفال ما حدث للمقاطعة من
خروق من لدن بعض الدول العربية. فرغم أن كافة الأقطار العربية أعلنت التزامها
رسمياً بالمقاطعة إلا أن بعضها لم يلتزم في الواقع العملي بتنفيذ مقررات مكتب
المقاطعة الرئيس تحت تسويغات وحجج متعددة، منها أن هذه القرارات اختيارية
وليست ملزمة؛ ولهذا فقد مارست بعض الحكومات العربية الضغوط على المكاتب
الإقليمية وتدخلت في شؤونها، إلى حدّ حملها على رفع الحظر عن بعض الشركات
والمؤسسات المقاطعة.
يعزو المؤلف ظاهرة (الجسور المفتوحة) التي تم من خلالها الالتفاف على
المقاطعة العربية، إلى ضعف الرقابة الأردنية (ص 132 133) ، وأشار إلى أن
هذه الرقابة بدأت منذ مطلع عام 1970م تشتد فاعليتها وأصبحت تشكل سياجاً منيعاً
في وجه تسرب الأيدي العاملة وتبادل الخدمات والمنافع من وإلى دولة العدو.
والحقيقة أن هذا الكلام يفتقر إلى الدقة؛ لأن الجسور المفتوحة لم تكن نتيجة ضعف
الرقابة الأردنية، بل إنها تمت آنذاك برغبة السلطات الأردنية؛ حتى إن هذه
السلطات رفضت في ذلك الوقت التوصيات التي طالبتها باحترام أحكام المقاطعة
وسوّغت مسلكها بأنه (لمصلحة القضية العربية) ، وأن إبقاء العلاقات مع الضفة
والقطاع يدعم صمود السكان، ولا يلحق أي ضرر بالمقاطعة العربية.