الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نص شعري
يا سبيل المجد
شعر: مشبب بن أحمد القحطاني
يا سليلَ المجدِ
ماذا غيّرَكْ؟
…
أنتَ للمجدِ وهذا المجدُ لكْ
كيف تغفو يا فتى التّوْحيدِ هل
…
هَيّأَ الأعداءُ في الدّرْبِ الشّرَكْ؟
كانتِ الدّنْيا ظلاماً دامِساً
…
بِئْستِ الدّنيا وبئسَ المُعْتَرَكْ
بين مَوْؤُودٍ ومفتونٍ، وفي
…
راحةِ الظّلْمِ زِمامٌ لا يُفَكْ
أمةٌ تاهتْ على غيرِ هُدىً
…
بينَ تَضْليلٍ وإرهابٍ وشَكْ
فانبرى للحقّ نورٌ ساطعٌ
…
أَنْزلَ القُرآنَ للدّنْيا مَلَكْ
أَسْفَر الصّبْحُ وعادتْ مَكةٌ
…
مَنْبَعَ النورِ وإشْعاعَ الفَلَكْ
بعدها قامت جُيُوشٌ همّها
…
نُصْرةُ الحقّ تدكّ الظّلْم دَكّ
وأَرى اليومَ حِمى الحقّ غدا
…
مسْرحَ العابثِ حِلاّ مُنْتَهَكْ
يا سليلَ المجدِ هَلاّ قُلتَ لي:
…
أيّ ذنبٍ بالمخازي ضَيّعَكْ؟
أيّهَا السادِرُ في لَذّاتِه
…
هل ترى عيشَ المعاصي أَعجَبَكْ؟
أُمّتي قد علّقتْ فيكَ المُنَى
…
فاستَفِقْ وانْهَضْ وغادِرْ مَضْجَعَكْ؟
عُدْ إلى الرّحمن في طُهْرٍ تَجِدْ
…
مَرْكَبَ النّصْرِ إلى العليا مَعَكْ
وَتَرَ الأَبْطالَ آسادَ الشّرى
…
تَشْتَهِي يومَ الفِدا أن تَتْبَعَكْ
نَسْأَلُ اللهَ صَلاحاً عاجِلاً
…
إنّما الغَافِلُ في البَلْوى هَلَكْ
قَدْ كفانا ما مضى مِنْ بُؤْسِنا
…
رَبّنا اكْشِفْ مَا بِنَا فَالأَمْرُ لَكْ
ندوات ومحاضرات
ندوة عن:
هويتنا الإسلامية: بين التحديات والانطلاق
(الحلقة الأولى)
إعداد: وائل عبد الغني
ضيوف الندوة:
الدكتور/ مصطفى حلمي أستاذ العقيدة والفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة.
الدكتور/ جمال عبد الهادي أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة أم القرى سابقاً.
الدكتور الشيخ/ محمد بن إسماعيل المقدم الداعية المعروف وأخصائي الصحة
النفسية وخريج كلية الشريعة بجامعة الأزهر الشريف.
الأستاذ/جمال سلطان - الكاتب الإسلامي المعروف ورئيس تحرير دورية
(المنار الجديد) .
نرى أن أفضل ترحيب بضيوفنا الكرام، أن ننزل عليهم ضيوفاً، ليُثروا
قراءنا في قضية من أخطر قضايا العصر؛ ألا وهي (الهويّة) ..
أهمية الموضوع..
* في البداية نريد أن نحدد الهدف من الندوة لنصطحبه خلال تشعب الحديث
بنا.
* د/جمال عبد الهادي:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.. وبعد..
فأرى أن الهدف هو: تذكير الأمة المسلمة بمقومات هويتها، وتبصيرها
بالأخطار التي تحدق بها، وأنه لا مخرج للأمة من محنتها المعاصرة إلا باستعادتها
لهذه الهوية؛ لأنها المخرج الوحيد لمواجهة التحديات المعاصرة، حتى تعود الأمة
لأداء دورها، باعتبارها الأمة الشاهدة التي حملها الله تعالى مسؤولية البلاغ وإقامة
حياتها وحياة الإنسانية على مقتضى منهاج الله.
وإذا اعتبرنا أن الهوية هي التي تحدد الأهداف والواجبات والتقاليد والأعراف
للفرد والمجتمع، فإن الحفاظ عليها يصبح ضرورة وجود وأداء رسالة.
من أجل هذا كان لا بد من طرح هذه القضية.
معنى الهوية:
* جرت عادة الربانيين أنهم إذا تحدثوا عن قضية ربطوا فيها بين الواقع
المشهود والحق المنشود حتى يكون الواقع حقاً والحق واقعاً، والحق صنو الحقيقة؛
فما حقيقة الهوية؟
نريد من ضيوفنا الكرام أن يوضحوا لنا معنى الهوية توضيحاً شافياً.
* الشيخ محمد بن إسماعيل:
الهويّة: (هي حقيقة الشيء، أو الشخص، التي تميزه عن غيره، فهي
ماهيته، وما يوصف ويعرف به، من صفات عقلية، وجسمية، وخلقية، ونفسية) ، كما في حديث أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها قالت:
(كنت أحبّ ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولدهما إلا أخذاني
دونه، فلما قدم رسول الله لله المدينة، ونزل قباء، غدا عليه أبي وعمي مُغلّسين،
فلما يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، فأتيا كالّين ساقطين يمشيان الهوينا،
فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إليّ واحد منهما مع ما بهما من الغم، وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي:(أهو هو؟)، قال:(نعم والله) ، قال
عمي: (أتعرفته وتثبته؟)، قال:(نعم!)، قال:(فما في نفسك منه؟)، أجاب:(عداوته، والله ما بقيتُ!)[1]، وفي قوله:(أهو هو؟) إشارة إلى هوية
النبي لله وأنه الموصوف في التوراة.
إذن فالهوية هي: (المفهوم الذي يكوّنه الفرد عن فكره وسلوكه اللذين يصدران
عنه، من حيث مرجعهما الاعتقادي والاجتماعي) وبهذه الهوية يتميز الفرد ويكون
له طابعه الخاص، فهي بعبارة أخرى: (تعريف الإنسان نفسه فكراً وثقافةً وأسلوب
حياة) .
كأن يقول مثلاً: (أنا مسلم) . أو يزيد: (منهجي الإسلام) أو يزيد الأمر دقة
فيقول: (أنا مؤمن ملتزم بالإسلام من أهل السنة والجماعة) .
* د/ مصطفى حلمي:
بنظرة مجردة فإن مقومات الشخصية التي تميزها عن غيرها، هي المفردات
التي تتحكم في تشكيل تلك الشخصية، ومنها المتكرر في جميع الهويات، ومنها
غير المتكرر. ولعل القدر المشترك يتمثل في:
العقيدة التي ينطلق منها الفرد بغض النظر عن صحتها، ويقابلها في
النظريات الوضعية الفكر الفلسفي.
القيم العالية المطلقة التي يؤمن بها المجتمع؛ التي تتمثل في أهداف الإنسان
في الحياة ونظرته للوجود، والأخلاقيات، والسلوكيات؛ وعلى ضوء ذلك نرى
تميز الهوية الإسلامية في مقوماتها من حيث الشكل والمضمون.
* وحتى يتبلور مفهوم الهوية أكثر؛ فإننا نريد أن نتعرف على أهم مقومات
الهوية التي تتشكل من خلالها.
* أ/جمال سلطان:
هوية أي أمة عبارة عن تراكم المعارف والثقافات، والتجارب والصراعات،
والأفكار والمؤلفات والكتابات، كل هذا المزيج يشكل المرجعية الأساسية لهويات
الشعوب.
بخلاف هويتنا التي تتميز بمرجعيتها الربانية الثابتة الصحيحة، والمحفوظة
أبداً، والتي تتمثل في الوحي بمصدريه، وبهذا تميزت الأمة عن سائر الشعوب
والأمم.
ومن حيث العموم فإنها تتكون من مجموعة من الدوائر المتداخلة، والتي يؤثر
فيها اعتبارات متعددة، لعل أبرزها الجغرافيا والتاريخ والدين، هذه المؤثرات
الثلاث، هي أبرز ما يؤثر في الإنسان وينشط من خلاله إنسانياً، إلى جانب المجال الحضاري ببعديه التاريخي والثقافي، وتراكماته، والتي ورثتها الأجيال عن
الأجيال وجعلت هناك صبغة لهذه الشخصية.
* الشيخ/محمد بن إسماعيل:
أهم أركان الهوية: العقيدة، ثم التاريخ، واللغة، وإذا ركزنا الحديث على
الهوية الإسلامية فسوف نجد أنها مستوفية لكل مقومات الهوية الذاتية المستقلة،
بحيث تستغني تماماً عن أي (لقاح) أجنبي عنها.
فهي هوية خصبة تنبثق عن عقيدة صحيحة، وأصول ثابتة رصينة، تجمع
وتوحد تحت لوائها جميع المنتسبين إليها، وتملك رصيداً تاريخياً عملاقاً لا تملكه
أمة من الأمم، وتتكلم لغة عربية واحدة، وتشغل بقعة جغرافية متصلة ومتشابكة
وممتدة، وتحيا لهدف واحد؛ هو إعلاء كلمة الله، وتعبيد العباد لربهم، وتحريرهم
من عبودية الأنداد.
* من خلال كلامنا عن المقومات، يلح علينا أمر يحتاج أن نستفصل عنه
لأهميته؛ ألا وهو جوانب تميز الهوية الإسلامية عن سائر الهويات.
* د/مصطفى حلمي:
عنصر مهم تتميز به هويتنا الإسلامية، هو نظرتها للإنسان باعتبار أن الفرد
هو عنصر البناء الأخطر والأهم في أي حضارة. فبينما نجد أن (أرسطو (في
منطقه اليوناني يعرفه بأنه: (حيوان ناطق) ، هذا التعريف قد بنيت عليه أكثر
النظريات التي تناولت الجوانب الإنسانية، والذي قامت عليه الحضارة اليونانية
قديماً والغربية حديثاً.
وخلافاً لهؤلاء، نجد أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قد وفق في تعريفه
للإنسان بأنه: (حي حساس متحرك بالإرادة) ، أثناء معركته لحماية الأمة الإسلامية
من الغزو الثقافي اليوناني. وقد وقف اليوم الموقف نفسه علي عزت بيجوفيتش
الذي استمد تعريفه للإنسان من عقيدته، لمواجهة الغزو الثقافي المعاصر، الذي
عانى منه المسلمون في الغرب أشد المعاناة، في دول البلقان في ظل النظام
الشيوعي.
يقول بيجوفيتش: (إن الإنسان بصفة أساسية هو عنصر روحي، وليس
عنصراً بيولوجياً أو اجتماعياً، ولا يمكن أن يوجد إلا بفعل الخلق الإلهي) ،
معترضاً على (دارون) ، و (دي لامارك) ، اللذين اعتبرا الإنسان ليس أكثر من
(حيوان ذكيّ) ، وبهذا التعريف نقف على مفرق طريق بين هوية كل من الحضارة
الإسلامية وغيرها من الحضارات.
* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:
إضافة إلى ما ذكره الأستاذ الدكتور مصطفى جزاه الله خيراً يمكن أن نجمل
السمات المميزة لهويتنا في عدة نقاط:
1-
فهي في المقام الأول: انتماء للعقيدة يُترجَم إلى مظاهر دالة على الولاء
لها، والالتزام بمقتضياتها. والعقيدة الإسلامية التوحيدية هي أهم الثوابت في هوية
المسلم وشخصيته.
2-
هذه الهوية.. أشرف وأعلى وأسمى هوية يمكن أن يتصف بها إنسان؛
فقد استجمعت غايات الشرف، فهي انتماء إلى أكمل دين، وأشرف كتاب.. نزل
على أشرف رسول.. إلى أشرف أمة.. بأشرف لغة.. بسفارة أشرف الملائكة..
في أشرف بقاع الأرض.. في أشرف شهور السنة
…
في أشرف لياليه، وهي ليلة
القدر.. بأشرف شريعة وأقوم هدي.
3-
وقد امتدح القرآن الكريم هذه الهوية وأثنى عليها باعتبارات، منها:
أنها أحسن قولاً، وأحسن عملاً، وأحسن قضيةً، وأحسن نسبة، قال تعالى:[وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ وعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ]
(فصلت: 33) .
وهي الهوية الكاملة المرضية من الله تعالى: [
…
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً
…
] [المائدة: 3] .
وهي صبغة الله، قال عز وجل: [صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أََحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً
وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ] [البقرة: 138] .
ومن خصائصها الوسطية في كل شيء كما في قوله: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً
وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً
…
]
[البقرة: 143] .
والانتساب إليها انتساب إلى خير أمة، كما قال تعالى: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ
أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَاًمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ
الكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الفَاسِقُونَ] [آل عمران: 110] ؛
ولذلك كان بعض المجاهدين الفلسطينيين يواجه (كاهانا) ، ويرد عليه مصححاً
مزاعمه: (نحن شعب الله المختار) .
إن الهوية الإسلامية انتماء إلى الله عز وجل وإلى رسول الله لله، وإلى عباد
الله الصالحين، وأوليائه المتقين، من كانوا، ومتى كانوا، وأين كانوا؛ قال تعالى: [إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ
رَاكِعُونَ (55) وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغَالِبُونَ]
[المائدة: 55، 56] .
وقال سبحانه: [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ
…
]
[التوبة: 71] .
وكل مسلم في صلاته يقول: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) .
يقول الشاعر:
ومما زادني شرفاً وفخراً
…
وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي
…
وأن صيرت أحمد لي نبيا
4-
إن الانضواء تحت هذه الهوية والاندماج فيها، ليس اختيارياً ولا مستحباً، ولكنه فرض متعين على كل بني آدم المكلفين، إلى أن يرث الله الأرض ومن
عليها، قال عز وجل: [قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعاً الَذِي لَهُ مُلْكُ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إلَهَ إلَاّ هُو يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَذِي
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] [الأعراف: 158] .
وروى مسلم بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به، إلا كان من أصحاب النار)[2] .
ولذلك كلّف الله تعالى هذه الأمة، بدعوة جميع البشر إلى الهوية الإسلامية،
وهي في هذه الوظيفة المقدسة نائبة عن رسول الله لله.
5-
إنها هوية تستوعب كل مظاهر الشخصية، وتحدد لصاحبها بكل دقة
ووضوح، هدفه ووظيفته وغاياته في الحياة: [قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ
وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ]
[الأنعام: 162، 163] .
6-
إنها مصدر العزة والكرامة للمتمسكين بها، كما قال تعالى: [لَقَدْ أَنزَلْنَا
إلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ] [الأنبياء: 10] .
وقال تعالى: [
…
وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ] [المنافقون: 8] .
وهذا ما استشعره عمر رضي الله عنه حين قال: (إنا كنا أذل قوم، فأعزنا
الله بهذا الدين، فمهما نبتغي العزّ في غيره أذلنا الله) .
7-
وهي هوية متميزة عما عداها: [لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ][الكافرون: 6] ،
…
ولكي يبقى هذا التميز ثابتاً في كل حين، أوجب الله علينا أن ندعوه في كل يوم
وليلة سبع عشرة مرة على الأقل أن يهدينا الصراط المستقيم، المغاير بالضرورة
لمنهج الآخرين: [اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أََنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ
المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ] [الفاتحة: 6، 7] .
وقد حسم النبي لله ذلك بقوله: (ليس منا من عمل بسنة غيرنا)[3] ، وقد
عرف اليهود ذلك، وشعروا أنه لله كان يتحرى أن يخالفهم في كل شؤونهم الخاصة
بهم، حتى قال قائلهم: (ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا
فيه) [4] ولهذا قال لله: (من تشبه بقوم فهو منهم)[5] وقد صح كثير من الأحاديث
التي تفصّل هذه المخالفة وتحض عليها، في كثير من أبواب الدين.
* أ/جمال سلطان:
إضافة بسيطة إلى ما ذكر في هذا الجانب.. وهي أن: من السمات التي
تميزت بها الهوية الإسلامية لفظ (الأمة) الذي يطلق على جميع المنضوين تحتها،
هذا اللفظ بما يحويه من دلالات وإيحاءات لم تعرفه لغة من لغات الأرض قاطبة
سوى لغة هذه الأمة.
* مع هذا التميز الذي ترسخه الهوية نجد ظاهرة عكسية داخل المجتمع الواحد؛ هي ظاهرة (الاغتراب) التي تهدد الهوية من الخلف.
كيف نفهم هذه الظاهرة في إطار ها الصحيح؟ وماذا عن مخاطرها؟
* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:
كلما توافقت هوية الفرد مع هوية المجتمع، كلما تعمق إحساسه بالانتماء لذلك
المجتمع واعتزازه به وانتصاره له.
أما إذا تصادمتا فهنا تقع أزمة الاغتراب التي أشار إليها رسول الله لله حين
قال: (طوبى للغرباء)، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: (ناس صالحون
في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم) .
ولأن الانتماء الوجداني والانتساب إلى (الهوية) ينبع عن إرادة النفس، فهي
قابلة له، راضية عنه، معتزة به، فإن هذا الانتماء هو الزمام الذي يملك النفس،
ويحدد أهداف صاحب الهوية، ويرتب أولياته في الحياة، فتنصبغ النفس به،
وتندمج فيه، وتنتصر له، وتوالي وتعادي فيه، مع رفض الانتساب إلى أي هوية
مضادة أو مزاحمة، أي أن هذا التفاعل النفسي ينتج عنه بناء حواجز نفسية بين
الشخص وبين من يخالفونه الهوية؛ ومن هنا تنشأ الأزمة.
* أ/جمال سلطان:
الأقليات غالباً ما تعيش حالة من القلق والنفور، بالنسبة للجماعة؛ لشعورها
بالاغتراب، وأنها خارج كيان الجماعة، ولهذا الأمر تداعياته، التي من أخطرها،
توجه الأقلية نحو الخارج، وشعورها بالتقارب النفسي مع أعداء الأغلبية،
…
والتحالف معهم ضد مصالح الأغلبية، كما فعل الموارنة في لبنان الذين تحالفوا مع
الغرب ضد المسلمين، وكما فعل الأرمن الذين تحالفوا مع روسيا ضد المسلمين،
ويهود الدونمة في تركيا الذين تحالفوا مع الغرب لإسقاط الخلافة.
والخطر الآن يتجسد في أن بعضاً من هذه الأقليات بدأت تنتعش لتعارض
المصالح العامة داخل بعض نظم الحكم القائمة.
* إشكالية أخرى تواجهنا عند تحديد المفهوم الدقيق للهوية الإسلامية؛ ألا
وهي: طبيعة العلاقة بين الهوية الإسلامية وبين الهوية الوطنية أو القومية.
هل هي علاقة التعارض أم التكامل؟
* د/جمال عبد الهادي:
يمكن تقسيم دوائر الهويات إلى ثلاث دوائر متباينة أحياناً، ومتداخلة أحياناً
أخرى، وهي: الانتماء الجغرافي، والانتماء العرقي، والانتماء الديني.
والانتماءان الأولان هما المذكوران في قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن
ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ
خَبِيرٌ] [الحجرات: 13] .، والإسلام بهذا أقرّ بهما دون أن يكون لأحدهما
استعلاءٌ عنصري، وذلك كله منصهر داخل الرابطة العقدية (رابطة الإسلام) الذي
صنع للأمة أسلوب حياتها ونظمها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ لذلك فإن من
أبرز ما يميز هويتنا أن مرجعياتها لا تفرق بين الأجناس أو الأعراق، وهذا يعكس
قوة الوحدة السياسية المبنية على أساس عقدي واحد هو الإسلام.
* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:
الهوية الإسلامية لا تعارض الشعور الفطري بحب الوطن الذي ينتمي إليه
المسلم، ولا الحرص على خير هذا الوطن، بل المسلمون الصادقون هم أصدق
الناس وطنية؛ لأنهم يريدون لوطنهم سعادة الدنيا والآخرة بتطبيق الإسلام، وتبني
عقيدته، وإنقاذ مواطنيهم من النار، وحمايتهم من التبعية لأعدائهم الذين لا يألونهم
خبالاً، وقد تجلى هذا المفهوم واضحاً في قصة مؤمن آل فرعون في سورة غافر،
ويتجلى في عصرنا في مواقف وجهاد وصمود رموز الدعوة الإسلامية في كافة
وطننا الإسلامي.
أما الوطن الحقيقي الخالد، الذي لا يبغي أهله عنه حولاً فهو الجنة؛ حيث
أقام أبوانا في الابتداء، ونحن في الدنيا منفيون عن هذا الوطن، ساعون في العودة
إليه.
والمنهج الإسلامي هو الخريطة التي ترسم لنا طريق العودة إلى ذلك الوطن.
كما أعرب عن ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله بقوله:
فحيّ على جنات عدن فإنها
…
منازلنا الأولى وفيها المخيّمُ
ولكننا سبي العدو فهل ترى
…
نعود إلى أوطاننا ونسلمُ؟
لا كما قال من سفه نفسه:
وطني لو شُغِلْتُ بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي
أما في الدنيا.. فأحب الأوطان إلى قلب المؤمن: (مكة المكرمة) ، و (المدينة
النبوية) ، و (بيت المقدس) ، وقد بيّن النبي لله أن محبته مكة المكرمة مبنية على
أنها (أحب بلاد الله إلى الله) .
فمحبتنا لهذه البقاع التي شرفها الله وباركها وأحبها فوق محبتنا لمسقط الرأس،
ومحضن الطفولة، ومرتع الشباب.
أما ما عدا هذه البلاد المقدسة، فإن الإسلام هو وطننا وأهلنا وعشيرتنا،
وحيثما كانت شريعة الإسلام حاكمة وكلمة الله ظاهرة.. فثم وطننا الحبيب الذي
نفديه بالنفس والنفيس، ونذود عنه بالدم والولد والمال:
ولست أدري سوى الإسلام لي وطناً
…
الشام فيه ووادي النيل سيان
وحيثما ذكر اسم الله في بلد
…
عددت أرجاءه من لب أوطاني
أما (الوطنية) بمفهومها المعروف اليوم، المحصور في قطعة أرض رسم
حدودها أعداؤنا، أو الارتباط بعرق أو لون أو جنس، فهذا مفهوم دخيل لم يعرفه
السلف ولا الخلف، وإنما طرأ علينا ضمن ركام المفاهيم المخربة التي زرعها
الاستعمار وأذنابه لمزاحمة الانتماء الإسلامي، وتوهين الهوية المسلمة التي أذابت
قوميات الأمم التي فتحتها في قومية واحدة هي: (القومية الإسلامية) ، ودمجتها في
أمة التوحيد.
ولخطر هذه القضية أسوق شهادة (شاهدين من أهلها: أولهما: المؤرخ
اليهودي (برنارد لويس) الذي قال: (كل باحث في التاريخ الإسلامي يعرف قصة
الإسلام الرائعة في محاربته لعبادة الأوثان منذ بدء دعوة النبي، وكيف انتصر النبي
وصحبه، وأقاموا عبادة الإله الواحد التي حلت محل الديانات الوثنية لعرب الجاهلية، وفي أيامنا هذه تقوم معركة مماثلة أخرى، ولكنها ليست ضد اللات والعزى وبقية
آلهة الجاهليين، بل ضد مجموعة جديدة من الأصنام؛ اسمها: الدولة، والعنصر،
والقومية، وفي هذه المرة يظهر أن النصر حتى الآن هو حليف الأصنام، فإدخال
هرطقة القومية العلمانية، أو عبادة الذات الجماعية؛ كان أرسخ المظالم التي أوقعها
الغرب على الشرق الأوسط، ولكنها مع كل ذلك كانت أقل المظالم ذكراً
وإعلاناً..اهـ
ويقرر حقيقة ناصعة فيقول: (فالليبرالية، والفاشية، والوطنية، والقومية،
والشيوعية، والاشتراكية، كلها أوروبية الأصل مهما أقلمها وعدّلها أتباعها في
الشرق الأوسط، والمنظمات الإسلامية هي الوحيدة التي تنبع من تراب المنطقة،
وتعبر عن مشاعر الكتل الجماهيرية المسحوقة، وبالرغم من أن كل الحركات
الإسلامية قد هزمت حتى الآن، غير أنها لم تقل بعدُ كلمتها الأخيرة) .
أما الشاهد الثاني فهو وزير المستعمرات الإنكليزي (أورمسبي جو) الذي يقول
في وثيقة تاريخية: (إننا في السودان ونيجيريا ومصر ودول إسلامية أخرى،
شجعنا وكنا على صواب نمو القوميات المحلية، فهي أقل خطراً من الوحدة
الإسلامية أو التضامن الإسلامي) اهـ
* يقال: إن أزمة الهوية أزمة عالمية.
فإلى أي مدى بلغت؟ .. ومتى بدأت إسلامياً؟ وما هي أجلى مظاهرها؟
* أ/ جمال سلطان:
أزمة الهوية أزمة عالمية، ففرنسا مثلاً ترى أن الأمركة خطر داهم يهدد أمنها
القومي، والفرنسيون في فزع شديد من هذا الخطر الداهم.. هذا رغم أن كلا
الطرفين تشملهما قاعدة التجانس الديني والحضاري والسلوكي والقيمي؛ إلا أن هذا
لم يمنع فرنسا من استشعار الخطر من الأمركة. إذن فنحن من باب أوْلى ينبغي أن
نكون أشد فزعاً من غيرنا. وبالمناسبة فإن فرنسا من أكثر الدول الغربية خوفاً على
هويتها، ومن بين مخاوفها الشديدة الغزو الثقافي الإسلامي؛ لذلك حظرت دخول
عدد كبير من الكتب الإسلامية إلى أراضيها، كما حظرت امتلاك الدش في بعض
ضواحي باريس ذات الوجود الإسلامي والعربي، لتمنع الجاليات الإسلامية
والعربية من استقبال البث العربي، والذي يوجد قدراً من الحاجز النفسي والثقافي
الذي يحول دون ذوبان الجاليات في المجتمع هناك، هذا رغم ما وصل إليه الإعلام
العربي من إسفاف!
وفي أماكن أخرى من العالم يحذر الباحثون من خطر الأزمة التي تعانيها
الهوية في بلادهم، كما في الصين واليابان وفي كثير من البلدان الإفريقية.
* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:
لعلنا نذكر الصراع السياسي الذي احتدم في كندا حول مقاطعة (كويبك) بين
المتحدثين بالإنكليزية، وبين المتحدثين بالفرنسية الذين يريدون الاستقلال بهذه
المقاطعة.
ونذكر أيضاً أن فرنسا رفضت التوقيع على الجزء الثقافي من اتفاقية (الجات) ، والذي يضمن للمواد الثقافية الأمريكية، أن تباع بفرنسا بمعدلات اعتبرها
الفرنسيون تهديداً صارخاً لهويتهم القومية، وطالبوا بتخفيض هذه المعدلات.
ومتى بدأت الأزمة إسلامياً؟
* د/جمال عبد الهادي:
في الواقع أن الأمر سار في خط تاريخي، في محاولات لإفساد الهوية
الإسلامية، كمدخل لتنحية الأمة عن مركز القيادة.
أما محاولات الإفساد فقد بدأت منذ فتنة السبئية منذ عهد عثمان بن عفان
رضي الله عنه وكيف أن عبد الله بن سبأ بدأ يدس دسائسه التي تبلورت وتطورت
في شكل عقيدة باطنية.
أما الانحراف عن الهوية فيمكن توقيت بدايته بترجمة الفلسفة اليونانية على
عهد المأمون، وما ترتب على ذلك من ظهور كثير من الفرق كالمعتزلة والجهمية،
وفرق من الباطنية كإخوان الصفا، وما ترتب على ذلك من فساد في العقائد،
وظهور علمي الكلام والمنطق، حتى أصبحا هما القالب الذي تُقدّم فيه العقائد
الإسلامية إلى اليوم.
أما بداية الأزمة الفعلية حديثاً.. فقد كانت مع الاحتلال الفرنسي لمصر وحملة
نابليون. وقد كان من أسباب هذه الغزوة ما رصده لويس التاسع، عندما وقع أسيراً
بدار ابن لقمان، بالمنصورة؛ إذ أدرك بعد التمحيص والتدقيق أن سبب إخفاق
الغزو الصليبي للعالم الإسلامي إنما يرجع إلى عدة أمور كان أبرزها: احتفاظ العالم
الإسلامي بهويته الإسلامية، وما ترتب على ذلك من وحدته، وإحياء فريضة
الجهاد والتصدي للغزو، وتوصل (لويس التاسع) إلى أن الحملات الصليبية على
العالم الإسلامي، لن تنجح إلا إذا واكبها غزوة فكرية تستهدف إفساد العقائد
والأخلاق، من خلال إفساد برامج التعليم لإفساد الدين واللغة، والعبث بالتاريخ،
وإفساد المرأة لتحطيم بناء المجتمع!
* د/مصطفى حلمي:
كما ذكر الدكتور جمال جزاه الله خيراً فإن الأزمة بدأت مع دخول نابليون
بمدفعه ومطبعته إلى مصر، وتحويلها من مركز بث إسلامي إلى منطقة متفرنجة،
وبهذا بدأت عملية من الغزو المنظم المدروس الذي يمهد لإخفاء الهوية تدريجياً، أي
أن الهوية أصبحت على خريطة الأهداف.
لكن الفرنسيين سرعان ما خرجوا ليكمل الإنجليز الدور، وينجح القس
(دنلوب) في قلب ميزان التعليم وإقامته على الفصل بين الدين والحياة، لتتخرج
أجيال متغربة من المثقفين بينها وبين هويتها حواجز نفسية!
ويشبه ما جرى في مصر، ما فعلته فرنسا في الجزائر، وجاءت أمريكا بعد
ذلك لتكمل مسار الأزمة بمنظومتها الخداعة.
وإذا اختصرنا فيمكن القول: إن الأزمة الحديثة بدأت بالاستعمار الغربي
الحديث للبلاد الإسلامية لا سيما الإنجليزي والفرنسي منه.
كانت الأزمة إلى حد الاحتلال الإنجليزي لمصر تعتبر إقليمية، ولكن نقطة
التحول أو الانقلاب القوي في خط الهوية تمثلت في إسقاط الخلافة الإسلامية على
يد أتاتورك؛ لأن الخلافة كانت تعبر عن رابطة قائمة على الإسلام تظلل الجميع،
وكانوا يحسبون لها كل حساب.. فنجد إنجلترا تتوسل إلى الخليفة العثماني بكل
السبل حتى لا يعلن الجهاد عليها في الهند، لذعرها من فكرة الجهاد، وهذه نقطة
ينبغي أن تُجَلّى جيداً أمام الأجيال، نظراً لما يجري من تشويه صورة الخلافة
العثمانية من خلال التعليم؛ لأن من يعود إلى المراجع الموثقة يرى حجم الزيف
الذي يقدم لنا. والأمر العجيب أن اليهود كانوا يدركون قيمة الخلافة العثمانية أكثر
منا، فقد قرأت في بروتوكولاتهم عبارة تقول: (الوصول إلى القدس لا بد أن يمر
بالقسطنطينية) ! ! وفعلوها.. وكانت ضربة في سويداء القلب! ! .
* أ/جمال سلطان:
أريد أن أركز في الكلام السابق على بعض التطورات التي لم تسبق بمثلها من
قبل:
فحملة نابليون جاءت معها بمطبعة! !
وكان أول بيان وزعه نابليون يخاطب فيه المصريين يقول إنه يحترم النبي
صلى الله عليه وسلم، وإنه يحب الكعبة، وإنه جاء ليحررهم من ظلم المماليك!
كما جاء معه بمجموعة من الساقطين (فنانين رسامين راقصات!) وهذا
الأسلوب يعد نمطاً جديداً ظهر به الاستعمار إلى جانب القهر العسكري، لإعادة
تشكيل الشخصية المسلمة؛ لأن هذه هي التي تنهي المقاومة من أساسها، ولكن
نابليون خاب ظنه وأخفقت حملته.
لكن الخط سار في انحدار بمجيء محمد علي، الذي أكمل الدور بإرسال
البعثات إلى فرنسا وإيطاليا، ولكن يمكن اعتبار هذا الخط يمثل خطراً على الهوية
دون أن يحطمها.
ومع دخول الإنجليز بدأ التغريب الحقيقي والعميق؛ حيث استفادوا من
التجارب السابقة، ومن خبراتهم الواسعة، وبدأوا يعملون بتخطيط طويل المدى،
وليس عملاً أرعن كما فعل الفرنسيون.
* د/مصطفى حلمي:
أود أن أورد إضافة قصيرة إلى هذا الكلام القيم، وهو أن حملة نابليون
جمعت بين هدفين للحملة: استعمار الأرض الذي يمثله المدفع، واستعمار العقل أو
بتعبير يناسب موضوعنا: تغييب الهوية أو تدميرها والذي قامت به المطبعة،
لإزالة النخوة، ولتسهيل سياسة الأمة وفق ما يريد لها المستعمر.
* هل يمكن لنا أن نبرز بعض مظاهر هذه الأزمة التي من خلالها نتبين
حجمها؟
* الشيخ/محمد بن إسماعيل:
إن نظرةً إلى الحيز الإعلامي الذي شغله موت (أميرة ويلز) في كل أرجاء
العالم المنتسب إلى الهوية الإسلامية، وما صاحبه من الطقوس الكنسية التي
اقتحمت معظم البيوت، وبين الحيز الذي شغله موت الشيخ محمود محمد شاكر
رحمه الله في الفترة نفسها، تشرح لنا إلى أى مدى بلغت أزمة الهوية في عصرنا.
ومع هذا فإن مظاهر الأزمة متكاثرة، ويمكنك أن تراها في:
الشباب الذي يعلق علم أمريكا في عنقه، وفي سيارته..
وفي الشباب الذي يتهافت على تقليد الغربيين في مظهرهم ومخبرهم..
وفي المسلمين الذي يتخلون عن جنسية بلادهم الإسلامية بغير عذر ملجئ ثم
يفتخرون (بالفوز) بجنسية البلاد الكافرة..
وفي المذيع المسلم أسير (الحظ الزائل) ، الذي يعمل بوقاً ينفخ فيه (العدو
الصائل) ؛ من أعداء دينه وهويته، من أجل حفنة دولارات أو جنيهات! ..
وفي الجاسوس والعميل الذي يخون أمته، ويبيع وطنه، ويفشي أسراره..
وفي أستاذ الجامعة الذي يسبّح بحمد الغرب صباح مساء..
وفي مدعي الإسلام الذي يقبل الانتظام في جيوش الدول الكافرة المحاربة
لأمة الإسلام..
وفي كل ببغاء مقلد يلغي شخصيته، فيرى بعيون الآخرين، ويسمع بآذانهم،
ويسحق ذاته ليكون جزءاً من أولئك الآخرين، والعجيب أنه يعود مذموماً مخذولاً
من هؤلاء جميعاً، فيتحقق فيه قول القائل:
باء بالسّخطتين فلا عشيرته رضيت
…
عنه ولا أرضى عنه العدا
* د/جمال عبد الهادي:
الأزمة بلغت إلى حد أن الأمة أصبحت تستورد قيمها من غيرها لتبني
حضارتها، ولا شك أن هذه أعظم مخادعة للذات؛ لأنها تبني بيتها على جرف هار!
إن من يتصور أن في اتباع قيم الآخرين ومنهاج حياتهم الوجاء والوقاية من
بطش أمم شاء الله لها العلو في الأرض زمناً، والإفساد فيها إلى حين لَهُوَ واهمٌ؛
لأن صِدام الحضارات والأديان والثقافات أصبح حقيقة واقعة، ومعلوم من التاريخ
والواقع بالضرورة، والله يقول: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى
تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَذِي جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ
مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ] [البقرة: 120] .
* إذن فإن في اتباع قيمهم إسقاطاً لمقاومة غزوهم لنا.
* د/مصطفى حلمي:
نعم.. لأننا إذا ما قارنا بين ماضي الأمة وحاضرها في مقاومة الغازي،
فسيظهر أثر الهوية في أن الأمة عندما قامت تحت راية التوحيد، نجحت في الحفاظ
على كيانها، ويوم أن رفعت شعارات أخرى لا تعبر عنها، ظهر الفشل والعمالة
والتآمر.
ولنأخذ على سبيل المثال: مصر، فنجد أن الشعب في ثورة 1919م لم يرفع
شعاراً غير الإسلام، لذلك كان الصراع متجسداً في النفوس، على أنه صراع بين
الحق والباطل، وكانت القيادة وقتها متمثلة في الأزهر الذي نجح في إجلاء
الفرنسيين، ولكن بعد أن بدأت الولاءات القومية والوطنية تزاحم الهوية المسلمة،
ظهرت الأزمة في مواجهة المستعمر.
وعلى وجه العموم فالناظر في تاريخ مصر، أو المغرب، أو الجزائر، أو
الهند يرى كيف تدهور الحال على يد العسكر في ظل القوميات المختلفة، بعدما
انسلخت الأمة من دينها تحت مظلة القومية، ومن هنا نجح المستعمر في زرع
(إسرائيل) التي ترفع شعارها العقدي، وتحاربنا من منطلق دينها، بينما يُتهم من
يستحضر البعد الديني في الصراع بالرجعية، ويُحجر على من يرفع راية الإسلام!
* الشيخ /محمد بن إسماعيل:
الأزمة بلغت إلى حد أن يضغط علينا قتلة الأنبياء ومحرفو الكلم عن مواضعه، أن نفعل مثلهم، ونمارس هواية (التحريف) التي طالما تلطخوا بها، فقد كان من
محاور اتفاقية (كامب ديفيد) : (ضرورة إزالة المفاهيم السلبية تجاه إسرائيل في
الإسلام) .
في تاريخ 19/2/1980 عقدت ندوة في جامعة (تل أبيب) حول (دعم علاقة
السلام بين مصر و (إسرائيل (أثار اليهود فيها موضوع ما ورد في القرآن من
اتهامات ضد اليهود، وتناقلت هذا مطبوعات أخرى بمصر، فقام د. مصطفى
خليل ليطمئن اليهود بقوله: (إننا في مصر، نفرق بين الدين والقومية، ولا نقبل
أن تكون قيادتنا السياسية مرتكزة على معتقداتنا الدينية) فرد عليه (ديفيد فيثال) قائلاً: (إنكم أيها المصريون أحرار في أن تفصلوا بين الدين والسياسة، ولكننا في
إسرائيل نرفض أن نقول: إن اليهودية مجرد دين فقط) .
لذلك نجد مواقف اليهود كلها صادرة عن هويتهم أو قل عن دينهم، ومن أعظم
الشواهد على ذلك؛ أنه عندما أراد العدو الصهيوني إقامة سفارة له في القاهرة،
أصر على أن يكون موقعها على الجهة الغربية من النيل احتراماً لعقيدتهم في: أن
حدود إسرائيل الكبرى تنتهي عند الجهة الشرقية منه. وهو ما يعبر عنه علم دولتهم
الذي يحوي خطين أزرقين يرمزان للنيل والفرات، بينهما منطقة السيادة عليها
نجمة داود.
(1) ابن هشام: 1/518 519.
(2)
ابن هشام: 1/518 519.
(3)
مسلم: كتاب الإيمان (153) .
(4)
مسلم: الحيض، حديث 302 والترمذي في تفسير القرآن (2977) .
(5)
سنن أبي داود: كتاب اللباس، حديث 4031.
المسلمون والعالم
الحرب الأرترية الإثيوبية من أين وإلى أين؟
د.جلال الدين صالح
على نحو لم يكن في الحسبان عند كثير من المهتمين بشؤون القرن الأفريقي
تفجرت حرب شاملة وساحقة بين حليفي الولايات المتحدة (إرتريا وإثيوبيا) بسبب
خلافات حدودية ألجأت إثيوبيا إلى اتهام إرتريا باختراق معالم حدودها، والتوسع
داخل أراضيها، وطالبتها بالانسحاب الفوري دون شرط مسبق وهو الأمر الذي
رفضته إرتريا معيدة التهمة ذاتها إلى إثيوبيا، ومؤكدة بأن خرائط الحدود المرسومة
والموروثة عن المستعمر الإيطالي تفند الادعاء الإثيوبي، وتدعم حق الإرتريين
بالأرض المتنازع عليها، ولم تمض أيام على بروز هذا الخلاف حتى فوجئ العالم
بالاقتتال الدائر بين الدولتين الحليفتين في وقت كانتا تعملان فيه جنباً إلى جنب
وبدعم من أمريكا وتحريض منها على تصعيد الأزمة السودانية وتعقيدها من خلال
دعم المعارضة المتمركزة في كل من بلديهما، وانطلاقا من هذا الهدف ورد اسماهما
ضمن زعماء الدول الأفريقية التي حظيت بلقاء كلينتون في (عنتيبي بأوغندا) في
جولته الأفريقية التي شملت غانا، والسنغال.
وبدا الرئيس الإرتري (إسياس أفورقي) أكثر حماساً واندفاعاً من نظيره
الإثيوبي للعب دور إقليمي أكثر انسجاماً مع رغبات أمريكا؛ فماذا وراء هذه الحرب؟ وهل هي حقاً حصاد خلاف حدودي أم أنها مجرد أعراض ظاهرية لأدواء أدق
وأعمق تلاحقت حتى تفاقمت واشتعلت؟
للإجابة على هذه الاستفسارات لا بد أولاً من إلقاء الضوء على سير العلاقات
بين النظامين من قبل وصول كل منهما إلى عاصمة بلده إثر سقوط النظام الماركسي
عام 1992م في إثيوبيا بعد أن أخفق في حل المشكلة الإرترية التي كان من
مضاعفاتها تصاعد النضال الثوري واندلاع ثورات عديدة منها (الجبهة الشعبية
لتحرير تقراي) التي أنشئت في 18 فبراير 1975م بزعامة ملس زناوي وآخر من
أبناء تقراي الإقليم الإثيوبي المجاور وإرتريا شمالاً والواقع بين فكي الحرب القائمة.
بداية العلاقة:
وقد بدأت الصلات تتوثق بين جبهة (ملس زناوي) وجبهة (إسياس أفورقي)
الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا في الأدغال، وقمم الجبال وتوالت خطاها وتطورت
إلى حد بناء تحالف قوي يحشد كل طاقاته العسكرية ليس لإسقاط (منجستو) وانتزاع
الحكم منه وإنما أيضاً لتصفية كل الخصوم المحليين من المنظمات الثورية الوطنية
التي يرى فيها كل منهما الخطر على مستقبله السياسي، وبموجب ذلك أعلنَا معاً
حرباً على (جبهة تحرير إرتريا) أكبر تنظيم منافس لـ (إسياس أفورقي) وأول من
فجر الكفاح المسلح عام 1961م بدعم من المسلمين، وتمكنَا من إجلائه إلى الحدود
السودانية عام 1981م وتشتيت قيادته اليسارية (تجمع حزب العمل الماركسي)
والانفراد معاً بالهيمنة الكاملة على الساحة العسكرية والذي أدى بدوره إلى استقرار
التقراويين على (بادي وشرورا) وهي مناطق النزاع المتقاتل عليها ليقوموا بحماية
ظهر حليفهم (إسياس أفورقي) من أي هجوم مضاد قد يشنه عليه خصومه الإرتريون، كما أن إسياس، لم يبرم معهم ما يؤكد لهم أنهم مجرد ضيوف على هذه الأرض،
وأنها إرترية بحتة، وبقاؤهم فيها مرهون بأسبابه ومقتضياته مما جعلهم ينظرون
إليها كجزء من مناطقهم، ويعمقون فيها وجودهم؛ حتى زحف الحليفان معاً كل
باتجاه حاضرة بلده ليتربع على الحكم بمباركة من أمريكا حاملاً معه تطلعاته
السياسية واتفاقاته السرية سواء مع الأمريكان أو الطرف الآخر ليقلب صفحة جديدة
على ضوء تعاليم لقاء لندن الذي تم عام 1992م برعاية هيرمان كوهين مسؤول
دائرة القرن الأفريقي في وزارة الخارجية الأمريكية وقتها، ولا أحد من الشعب
الإرتري والإثيوبي يعرف عن هذه الاتفاقيات السرية سوى (ملس وأسياس)
والأقربين إليهما، وكل ما يردد حولها ما هو إلا مجرد تكهنات واستنتاجات جعلت
بعض الإرتريين يعتقد أنها خطوط ترسم ملامح دولة (أكوم الكبرى) المكونة من
إقليم تقراي و (إرتريا) ومما عزز هذا الاستنتاج والتخوف منه عند المسلمين
الإرتريين بالذات ذلك التصريح الذي أدلى به (أسياس أفورقي) ونشرته جريدة
الحياة في 25/4/1992م والذي قال فيه: (إن حكومته تسعى مع الحكومة الانتقالية
في أديس أبابا إلى اندماج تتوحد فيه السياسة الاقتصادية والتجارية والنظام المالي
بين البلدين مؤكداً (أن الكونفدرالية مع إثيوبيا أحد الصيغ المطروحة للاندماج مع
هذا البلد) وقائلاً: (لماذا نستبعد الكونفدرالية إذا كانت لمصلحة البلدين ونفذت
استناداً إلى رغبه شعبيهما من خلال المؤسسات الديمقراطية) وحيث إن هذه
الكونفدرالية لم تكن مطروحة من قِبَلِ الشعب الإرتري أبداً فليس لها من دون
الأمريكان طارح، وقد ظل هنا التخوف عند غالب المسلمين الإرتريين يمثل أحد
أهم معايير التحليل السياسي لتطورات الأحداث التي لعب النظامان دوراً أساسياً في
تأجيجها لا سيما النزاع مع السودان بصفة خاصة، الذي من المتوقع أن يخف
سلطانه عليهم الآن بعد اندلاع هذه الحرب؛ ليس لأنه كان مجرد هاجس متوهم
كشف واقع الحرب بين الحليفين زيفه وإنما لترديه وسقوطه قبل الوصول إلى
المآرب والغايات، وأياً كان الأمر فإن الرئيس الإرتري ظل يشيد بعلاقة بلاده مع
إثيوبيا ويقدمها للشعب الإرتري والعالم كأروع مثل يحتذى به في التعبير عن القيم
الإنسانية والترفع على أحقاد حرب الثلاثين عاماً بعد أن وقع معها معاهدات أمنية
واقتصادية واصفآً لها كما جاء في مجلة (الأمانة) لسان حزبه الحاكم عدد يونيو
1996م بقوله: (المعاهدات الإرترية الإثيوبية هي من أجل الاستقرار والفائدة
المعنوية للتعاون العسكري المشترك للبلدين، وليست لها أية مطامع، أو برامج
خفية) وعلى نقيض من هذه النظرة يرى كثير من المحللين السياسيين في المنطقة
أن هذه المعاهدات الأمنية والعسكرية كان المقصود منها بالدرجة الأولى على
الصعيد المحلي تقوية نفوذ قومية التجرنية وتكريس سلطانها في كل من إثيوبيا
مقابل الأرموا أكبر القوميات الأثيوبية، والأمهرا، وفي إرتريا مقابل المسلمين
باعتبار انحدار الرئيسين المتحالفين منها، وباعتبارها ذات عدد قليل يوحدها اللغة
والثقافة والمعتقد الديني وتبقى دون حد التأثير في صياغة وجهة البلدين من دون
تحالف شطريها في كل من إثيوبيا وإرتريا. أما على الصعيد الأقليمي فكان مقابل
السودان، والصومال، وجيبوتي، واليمن، وسائر البلدان العربية المطلة على
البحر الأحمر والقرن الإفريقي؛ ومما يقوي هذه الرؤيا أن الرئيس الإرتري في
الوقت الذي ضيق فيه الخناق على المسلمين وثقافتهم داخلياً اندفع بشره وحماس
منقطع النظير إلى التصادم مع اليمن والسودان، والتحرش بهما على وجه جعل منه
لغزاً محيراً في المنطقة تتضارب فيه وجهات نظر المحللين حتى خسر كل جيرانه
بما فيهم إثيوبيا التي يخوض اليوم حرباً عسكرية ضدها من بعد أن شتم مصر
بالتسول على الأسواق الأمريكية، واتهم جيبوتي بتلقي الرشاوي من اليمنيين وطعن
الخاصرة من الخلف متوعداً إياها على ما كسبت يمينها من جرم الخيانة والغدر
حيث قال بالحرف الواحد في مجلة الأمانه العدد المذكور نفسه: (لم يكن يجب على
حكومة جيبوتي أن تدخل في مثل هذا الوحل.. إن ذلك جرم.. إنه جرم بيّن وضار
بمساعي بناء علاقة جوار حسنة. إن استغلال انشغال إرتريا بالنزاع مع اليمن،
ومحاولة إثارة نزاع مفتعل بهدف تحقيق مكاسب في (زحمة المولد) مسألة غير سهلة، وقد لا يكون الجيبوتيون قد أدركوا ألم الطعنة الغادرة التي أصابونا بها، وقد
يأتون بمختلف المسوغات والأعذار، ولكننا لن نترك هذه المسألة تمر مرور الكرام، ولن نتهاون في التعامل معها، وستجد الحل في وقتها المناسب) أي الاقتصاص
منها فهو أمر مفروغ منه وكل ما في الأمر أن الوقت لم يحن بعد. كذلك فإن (ملس
زناوي) زحف بدباباته إلى الصومال للعبث فيه وضرب أوكار ما أسماه بالأصولية
مدعوماً بقوات إرترية.
من التحالف إلى التقاتل:
ولكن ها هي رياح الأحداث تهب من حيث لا تشتهي السفن، وتأتي على
عكس المراد لتعصف بالحلف الثنائي القومي ولترجمه بغارات جوية وهجمات
أرضية تستخدم فيها شتى أنواع الأسلحة الثقيلة والخفيفة بعد قرار برلماني من
الحكومة الإثيوبية ينذر الإرتريين بأمرين أحلاهما مر: الانسحاب، أو الحرب،
دون جدوى كل الوساطات التي قادتها أمريكا، ورواندا ورئيس منظمة (إيقاد)
(حسن جوليد) رئيس جيبوتي، ولم يجد رئيس الوزراء الإثيوبي (ملس زناوي) في
نفسه حرجاً من أن يتهم حليفه (أسياس أفورقي) بحمل أفكار توسعية والتطلع إلى
دور يجعل منه إمبراطور القرن الأفريقي، وهو الأمر الذي نفاه (أفورقي) في
المقابلة الهاتفية التي أجراها معه تلفزيون الـ
…
مساء الأحد 7/6/1998م كما أن
سكرتير حزب الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة الحاكم في إرتريا، الأمين محمد
سعيد نعت قيادات التغراي الحاكمة في أديس أبابا والتي تحالف معها بالأمس
لتضرب قوى إرترية منافسة في مقابلة له نشرتها الشرق الأوسط في 2/6/1998م
بأنها (لم تستطع حتى الآن أن تتخلص من أطماع بعض إقطاعيي مقاطعة (تقراي)
الذين كانوا ينادون ومنذ القرن الثامن عشر بالاستيلاء على أراضي وجزر، وبحر
إرتريا) وهذه الاتهامات المتبادلة بين الحليفين المتقاتلين من الممكن أن تكون وليدة
الإحساس بخيبة الأمل بسبب سعي كل طرف منهما للفوز بأكبر قدر ممكن من النفوذ
والهيمنة، وفرض السيادة على الآخر مما نمى بينهما روح التنافر والتباعد بعد
التآلف والتحالف، ويظهر أن إفرازات هذه الخيبة ظلت تتراكم وتتكدس منذ أمدٍ
بعيد حتى طفت على السطح بوجهها الدموي؛ إذ هجر الإثيوبيون ميناء عصب
الإرتري، وآثروا استخدام ميناء جيبوتي عوضاً عنه، وحجروا التعامل مع العملة
الإرترية (تقفه) في أسواقهم المحلية، وطالبوا بتسديد كل الفواتير بالعملة الصعبة
مما أرهق كاهل التاجر الإرتري الذي يستورد بعضاً من بضائعه من أديس أبابا
بالعملة الإثيوبية (بر) وهذا بدوره انعكس على الحالة المعيشية للمواطن الإرتري؛
فقد ارتفعت الأسعار، واختفى من الأسواق (الطافُ) أفضل مأكول زراعي عند
سكان الهضبة الإرترية الذي يستجلب من إثيوبيا، ويشبه (الدخن) في حجمه.
وتوحي التعزيزات العسكرية وإعلان التعبئة العامة من الجانبين بطول أمد الحرب؛
فالرئيس الإرتري (إسياس أفورقي) عندما سئل في مقابلة الـ
…
تلك عما ينبغي
اتخاذه من قبله لإيقاف الحرب بأن هذا من مسؤولية النظام الإثيوبي الذي أعلنها
بقرار برلماني، وكذلك فإن كلاً من الرئيسين تغيب عن مؤتمر منظمة الوحدة
الإفريقية الذي انعقد في (واغا دوغو (ببوركينا فاسو، وهذا التغيب يكشف عزم كل
منهما على عدم ملاقاة الآخر والتباحث معه وجهاً لوجه بالرغم من تصريحاتهما
الداعية إلى الحل السلمي عبر طرف ثالث، وتؤكد إثيوبيا ثقتها في قدرتها العسكرية
على حسم الصراع لصالحها، ولا يشك المحللون العسكريون أيضاً في تفوق إثيوبيا
العسكري جواً وبراً من حيث أفراد القوات المسلحة بالإضافة إلى التعداد السكاني،
إلا أنهم من جانب آخر لا يهمشون ما أحرزته القوات الإرترية من خبرة قتالية عالية
اكتسبتها من حرب التحرير الطويلة التي دامت ثلاثين عاماً إلى جانب الترسانة
العسكرية التي ورثتها عن نظام منجستو أقوى جيش في القرن الأفريقي وقتها. وفي
نظري إذا كان هناك مخاوف تقلل من فرص انتصار الجيش الأرتري وتفوقه،
وتجعل ذلك أمراً مشكوكاً فيه فإنها قد تكمن في الاعتقالات التي طالت بعض قيادات
الجيش وزجت بهم في السجون لما أبدوه من مواقف رأى فيها (أسياس أفورقي)
نوعاً من التطاول على مقامه. وفي احتكار (أسياس) لصناعة القرار وتفرده به فإن
القرار الإرتري لا يسلك المسالك ذاتها التي ينبثق منها القرار الإثيوبي من برلمان
وغيره، وإنما هي إرادة (إسياس) تعلو ولا يعلى عليها، وإن نوقشت فعلى خوف
واستحياء، وكل هذا لا محالة أن من شأنه أن يصيب التلاحم الداخلي بشيء من
الوهن، ويغذي روح التذمر، وما يقال من أن الإرتريين ما زالوا مفعمين بتعاظم
الثقة القتالية في أنفسهم، والاعتزاز بكيانهم الوطني الناشئ بالرغم من كونه صحيحاً، إلا أنه يجب أن لا يحملنا على تجاهل هذا العنصر ذاته في الإثيوبيين أنفسهم؛
ولا سيما أن نخبة التقراي الحاكمة لا بد أن تثبت ولاءها للوطن وتبرئ ذمتها مما
رميت به، من ضعف واهتزاز الشخصية أمام شخصية الرئيس الارتري (أسياس
أفورقي) والتواطؤ معه على تمزيق إثيوبيا وتقطيع وحدتها، وفي سبيل كسب التأييد
الإقليمي نشطت دبلوماسية كل من البلدين في التحرك الخارجي بشرح وجهة نظر
بلادها؛ ولهذا الغرض أوفد الرئيس الإرتري وفداً عالي المستوى إلى الدول العربية
يقوده الرجل الثاني في الدولة (محمود شريفو (لكن ما يثير الغرابة إن كان في الأمر
ثمة غرابة أن سفير إرتريا بكينيا صرح خلال جولة الوفد الإرتري في العواصم
العربية حسبما نشرت جريدة القدس في 2/6/1998م أن إرتريا قادرة على إلحاق
الهزيمة بالجيش الإثيوبي مهما كان تسليحه وكثرته؛ فقد انهزم العرب على كثرتهم
أمام إسرائيل بقلة عددها، والجدير بالذكر أن دبلوماسياً غربياً أفاد كما نشرت ذلك
الحياة في 12/6/1998م بأن (الذين التقوا الرئيس الإرتري أخيرآً شعروا بأنه لا
يخفي بأن لديه القدرات على بناء مشروع (إسرائيل ثانية) في القرن الأفريقي) .
ومهما كانت طموحات النظام الإرتري فإن مثل هذه التصريحات بالتأكيد لا تتورط
فيها الدبلوماسية الحكيمة في هذا الظرف مهما كان اغترارها بإسرائيل كبيراً،
وازدراؤها العرب شديداً، ولكن هذه هي العقلية الحاكمة في إرتريا التي لا تتردد
في انتهاز كل سانحة للتعبير عن اعتزازها بالدولة العبرية وجعلها مثال الصمود
والتحدي، والتقليل من شأن العرب، وجعلهم مضرب المثل في الفرار والانهزام
حتى في أشد أوقاتها احتياجاً إلى عونهم السياسي والمالي.
الموقف الأوروبي والأمريكي:
أما الموقف الأوروبي والأمريكي من هذا النزاع فلم تتحدد معالمه حتى الآن
بشكل جلي وقاطع؛ وكل ما هو بادٍ لم يتجاوز نطاق البيانات الداعية إلى ضبط
النفس، وقد أصدر الاتحاد الأوروبي بياناً ندد فيه بالحرب، وعقب المهلة المحددة
من الإثيوبيين لاستئناف القصف الجوي سارعت الدول الأوروبية التي لها رعايا في
إرتريا إلى إجلاء رعاياها ونقلهم إلى أوطانهم، وهذا الموقف البارد كما يبدو لي
مثار كثير من التساؤل؛ فإن الأمريكان بنفوذهم القوي على النظامين يملكون قدرة
الضغط عليهما معاً، أو إرغام أحدهما على الانقياد لتعليمات البيت الأبيض، ولكن
المعلن من الدور الأمريكي اقتصر على المكالمات الهاتفية التي أجراها كلينتون مع
زعامة البلدين، وعلى المساعي التي قامت بها (سوزان رايس) مساعدة وزير
الخارجية للشؤون الأفريقية، وأخيراً الوفد المصغر الذي شارك فيه (ديفد دان)
المسؤول عن أفريقيا في وزارة الخارجية الأمريكية، و (روبرت هوديك) عضو
مجلس الأمن القومي. وقال الرئيس الإرتري معلقاً على المبادرة الأمريكية كما
نشرت الحياة في 12/6/1998م: (إن الأمريكيين يؤمنون بالترتيبات السريعة، إن
هذا الأمر لا يصلح، إنها ليست ثقافتنا) .
ويرى البعض في هذا النزاع إخفاق السياسة الأمريكية في المنطقة وعجزها
عن قراءة نقاط الضعف في علاقة النظامين اللذين جعلت منهما حليفاً مشاغباً
للضغط على السودان، وتنفيذ سياساتها في منطقة القرن الأفريقي، بينما لا يستبعد
آخرون من أن يكون كل ذلك من صنع أمريكا ذاتها حتى توجِد لنفسها مسوغاً
للتدخل العسكري بحجة الفصل بين الدولتين وإيقاف الاقتتال بينهما.
وتذكر بعض التحليلات أن رئيس الوزراء الإثيوبي (ملس زناوي) فاجأ
الأمريكان بموقف صلب لم يكن متوقعاً منه في تحليلهم، وإذا كان هذا صحيحاً فإنه
يعني أن النظرة الأمريكية المقارنة بين قوة شخصية كل من (ملس) و (إسياس)
كانت قد وضعت (أفورقي) في مرتبة متقدمة على (زناوي) وقد تكون هذه النظرة
نابعة من إملاءات اللوبي الصهيوني الذي كسب (إسياس) وجعل منه مدخل ولاء
إلى المؤسسات الأمريكية مستغلاً فقدان (إثيوبيا) نفوذها على البحر الأحمر باستقلال
إرتريا وهو نفوذ يحسب له اليهود حسابه المعتبر، ويمنحونه الصدارة في وضع
استراتيجياتهم العسكرية، والأمنية، والاقتصادية، فهل هذا يعني انحيازاً أمريكياً
نحو إرتريا؟ ذلك ما يرجحه بعض المحللين بحجة أن (دولة صغيرة وفقيرة مثل
إرتريا يكفيها إنذار أمريكي بسحب قواتها وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل12
أيار (مايو) والدخول في مفاوضات مع إثيوبيا وهو ما لم يحدث) [1] وهذا التحليل
مهما كان منطوياً على شيء من الحقيقة فإن الأمر في نظري أعمق منه بكثير، ولا
أتصور جنوح الأمريكان إلى إرتريا وترجيح كفتها على إثيوبيا بهذه السهولة
لاعتبارات كثيرة أهمها مكانة إثيوبيا النصرانية في تصور الغرب بصفة عامة،
ونظرتهم إليها منذ اتصالهم بالعالم الإسلامي كجزيرة نصرانية مطوقة بطوق إسلامي. وإضعافها في صراعها مع إرتريا يعني أحد أمرين:
أولاً: تقوية إرتريا التي ينظر إليها الغرب كدولة في الأصل ذات انتماء
إسلامي وتطلع عربي وإن كان رئيسها نصرانياً.
ثانياً: إن انهزام إثيوبيا، وكسر شوكتها سوف يحفز سكانها المسلمين من
الأرومو ذات الأغلبية البشرية، والقالا، والصوماليين على العصيان والخروج مما
يؤدي إلى انهيارها الشامل على النمط الذي انهار به الصومال؛ وهو ما لا يرضاه
لها الغرب؛ ومن هنا فإني أعتقد أنه إذا كان للغرب موقف ترجيح فإنه إلى إثيوبيا
أقرب منه إلى إرتريا؛ ويمكن أن نستشف هذا من التصريح الذي أدلى به مصدر
دبلوماسي أمريكي رفيع المستوى في حفل أقامه على شرف المراسلين الغربيين
والأجانب في مبنى السفارة الأمريكية في إثيوبيا ونشرته الحياة في 12/6/1998م
حيث حمّل ذلك المصدر إرتريا عرقلة الجهود الأمريكية، قائلاً: إن أسمرة أعطت
موافقتها على الاقتراحات الأمريكية في بداية حزيران يونيو الجاري ثم غيرت
موقفها منها. وتحدث هذا الدبلوماسي طبقاً لإفادة الحياة عن صعوبة التعاون مع
الجانب الإرتري في التعامل مع الاقتراحات الأمريكية، وأوضح أن (ما يتم الاتفاق
عليه في الجولة الأولى يتم نسفه في الجولة الثانية) بينما وصف الموقف الإثيوبي
بأنه متعاون ومتفهم للاقتراحات الأمريكية وأكد (أن إثيوبيا نفذت ما تم الاتفاق عليه
مع واشنطن) .
أثر الحرب على الدولتين وخصومهما:
وكشأن كل الصراعات الدموية لا بد أن تترك هذه الحرب من ورائها
جراحات عميقة وتنبش خصومات دفينة، إلى جانب ما تجلبه من إهلاك البنية
التحتية وتدمير المنشآت الاقتصادية والعمرانية؛ وإرتريا الدولة الحديثة الناشئة أشد
حاجة من غيرها إلى السلم والاستقرار لبناء هياكلها وتأسيس ذاتها ولا سيما بعد تلك
المرارة التي ذاقتها خلال حرب التحرير، وخلفت من الآثار ما يجعلها سباقة إلى
المسالمة لا المصادمة، ولكن ها هي كل يوم في شقاق مع جيرانها: اصطدمت مع
السودان، ثم فتحت جبهة مع اليمن وأخيراً مع إثيوبيا، وفي كل ذلك تبدو الدولة
المظلومة المعتدى عليها، وأياً كان الأمر فإنها المتضرر الخاسر، ويكفي أن الإنذار
الإثيوبي بإجلاء الرعايا الأجانب من العاصمة أسمرة خلال ثلاث عشرة ساعة قد
أحرجها سياسياً، وفرض عليها حصاراً شاملاً في حيث أنها ليست من القوة في
المستوى الذي يؤهلها لتوجيه الإنذار نفسه إلى العاصمة الإثيوبية (أديس أبابا)
بالرغم من تهديدات (إسياس) .
أما إثيوبيا فإذا ما خسرت الحرب فإن وحدتها ستعلق على حافة الخطر، أو
على الأقل ستفقد نخبة (التقراي) الحاكمة سلطانها، وتتحمل كل ما ستتعرض له
إثيوبيا من عواقب ضارة، وستكون عرضة للنقد والإدانة من سائر الاتجاهات
السياسية الإثيوبية لا سيما (الأمهرا) الذين يضمرون لها الكراهية الحادة، ويحملونها
كل أوزار انفصال إرتريا، وظهورها كدولة مستقلة. وعلى كل فإن ضعف كل من
النظامين وسقوطه هو ضعف الآخر وسقوطه؛ لكون كل منهما مرهوناً بالآخر،
ومعتمداً عليه في حماية نفسه.
من جهة أخرى وعلى الصعيد الإقليمي جاءت الحرب في وقت يعاني فيه
السودان والصومال من تدخلات دول الجوار الثلاث: إرتريا، إثيوبيا، أوغندا؛
واندلاعها يعني بالنسبة لهما (إحراز كسب من غير فأس) فقد سحب الإرتريون
قواتهم التي كانت ترابط على الحدود الشرقية السودانية، ونقلوا معظمها إن لم يكن
كلها إلى جبهة (التقراي) حيث النزاع المسلح، علاوة على أن السلاح الأمريكي
الذي زودت به الولايات المتحدة حلفاءها المتحاربين لدعم المعارضة السودانية وقلب
نظام الخرطوم وجه وبكل ضراوة إلى تدمير قدرات الحليفين العسكرية والاقتصادية، وهكذا بالنسبة للصومال الممزقة الذي استثمرت فيه إثيوبيا أوضاعه المتردية
…
لصالح سياساتها الإقليمية، بعد أن أسكتت المعارضة الأرمية في الداخل، وشلت
ذراعها العسكرية بضربات موجعة وقوية مستعينة بقوات إرترية، حيث اضطرت
هي أيضاً إلى نقل قواتها المرابطة فيه إلى حدودها الساخنه مع إرتريا ضمن الحشود
التي يقوم بها كل من الطرفين.
وبالقدر الذي تمثله هذه الحرب من مكسب أمني للحكومة السودانية ترى فيها
المعارضة طالعاً سيئاً جاء ليعصف بكل الآمال التي ظلت تعلقها على تحالف
النظامين الإرتري والإثيوبي ضد السودان، وستحرمها من اهتمامها بها بشكل كامل
وكاف.
وإذا كان هذا هو الشعور المتوقع من المعارضة السودانية فعلى النقيض منه
شعور المعارضة الإرترية التي ظلت تستبعد حدوث هذا الفصام، بل وتذهب بعلاقة
البلدين إلى حد بناء الدولة المتحدة ذات الثقل السياسي والاقتصادي في المنطقة، ولا
أعتقد أنها على قدر من البناء العسكري الذي يمكنها من استغلال هذا الحدث على
الوجه الذي يقوي ظهرها، ويجعل منها رقماً صعب التجاوز على المدى القريب أو
البعيد.
(1) مجلة الشعب العربي عدد 54 1/6/1998م.