الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قراءة في كتاب
نهضة أمة..
كيف نفكر استراتيجياً؟ `
عرض:
وائل عبد الغني
المؤلف: لواء أركان حرب: د. فوزي محمد طايل.
طبعة: 1، سنة 1418هـ 1997م.
الناشر: مركز الإعلام العربي القاهرة.
عدد الصفحات: 412 صفحة، قطع كبير.
تدور فكرة الكتاب الرئيسة باعتبارها دراسة استراتيجية حول حال الأمة
الراهن، وكيفية الخروج منه، ومحاولة وضع أسس للنهضة من خلال الاجتهاد في
وضع منظومة قيم عليا مستنبطة من الكتاب والسنة، مع بيان الفرق بينها وبين
القيم الغربية المقابلة لها في الصراع الدائر اليوم والتي يفرضها النظام العالمي
الجديد، وبيان مدى التضليل الذي يمارس في التقريب بينها وبين قيمنا الإسلامية.
لذلك كان لا بد من التفصيل في كلّ من القيم، والنظام العالمي الجديد وآلياته
وأساليبه التي يراد من ورائها تغييب الوعي وإخماد روح المقاومة في الأمة.
والكتاب الذي أهداه مؤلفه إلى النخبة من أهل العلم من المؤمنين وأهل
السلطان يتكون من أبواب خمسة:
الأول: مصادر الأحكام ومراجع الفكر.
الثاني: منظومة القيم الإسلامية.
الثالث: إرهاصات النظام العالمي الجديد.
الرابع: النظام العالمي الجديد.
الخامس: أساليب وآليات إقامة النظام العالمي الجديد.
الباب الأول: ينقسم إلى فصلين:
الأول: يتحدث فيه عن مصادر الأحكام ومراجع الفكر، وأنها منحصرة في
الكتاب والسنة؛ فالقرآن لأنه حق اليقين وما سواه ظنّي؛ فله تخضع كل العلوم؛
والسنة لأنها مصدر مكمل ومبين للكتاب صدرت من أعلم خلق الله تعالى بالقرآن.
الفصل الثاني: ينفي فيه وجود مصادر نقلية أخرى للأحكام والفكر، ويخلص
إلى كون الإجماع مصدر مستقل بشروطه.
ويعتبر الاجتهاد الفكري فريضة تمليها المستجدات والنوازل، وهو ينطلق في
الإسلام من نقطة تمثل مفرق طريق مع المناهج الأخرى؛ وهي حكمة الخلق
واستخلاف الإنسان في الأرض على المنهج السماوي. وتظهر أهمية الاجتهاد
الفكري في كونه النهج الذي يحفظ للأمة القدرة على التطور والتعامل مع متغيرات
الزمان والمكان، والاستعداد لمواجهة الأمور المستقبلية.
وعلى الرغم من وجوب سير المجتهد خلف النص وفي إطاره إلا أن الاجتهاد
يظل عملاً إنسانياً تحده القدرة العقلية للمجتهد الذي قد يفتح الله له بفهمٍ لا يتيسر
للآخرين.
ولا يعني وصول المجتهد مرتبة من العلم مهما علت أنه الأقدر دائماً على
بلوغ الصواب في كل المسائل، وهذا لا يعني أبداً أن يتصدر للاجتهاد من لم
يستجمع آلته وأهليته؛ لأن الأمر مزاج بين علمٍ مكتسب وملكة هي منة يختص بها
الله من يشاء من عباده. ويبرز وفق هذا حاجة الأمة إلى تصور اجتهادي شامل
للأمور (فكر استراتيجي شامل) ، خاصة مع كثرة المستجدات واتساع المعرفة
والتطور السريع.
واقترح أن يتم الاجتهاد على مستويين:
الأول: فردي؛ يتيح المجال أمام المجتهدين.
والثاني: باجتماع العلماء الذين اجتهدوا في كل مسألة بعينها لحسم ما يمكن
حسمه من مسائل الخلاف، وبهذا تتوافق آراء الأمة حول القضايا الاستراتيجية.
وقد حاول المؤلف أن يقدم من خلال تجربته هذه محاولة للفكر الاستراتيجي
الإسلامي، والتي نحتاج إلى تفعيلها، وحدد أسباب التخلف في أربعة أمور هي:
1-
انفصال الأمة عن شرعة الإسلام ومنهاجه، وضعف الإيمان في النفوس.
2-
عدم وضوح منظومة القيم الإسلامية في النفوس واختلاطها بغيرها من
القيم الفاسدة.
3-
عدم وجود أي فكر استراتيجي إسلامي شامل يتعامل مع المستقبل.
4-
تغييب إرادة التغيير والنهوض بل والإرادة بشكل عام.
لذا لا بد للأمة أن تجتمع على منظومة قيم عليا مستنبطة من الكتاب والسنة.
وهي كما يراها: العلم، والإيمان، والعمل، وتكريم الله للإنسان، ووحدة
الأمة، والعدل، والشورى.
وهي موضوع الباب الثاني:
ويعني بالقيم جمع قيمة الأمر المعتدل في الوضع الأمثل.. ولم يُصنّف أحد
من العلماء من قبل في هذا الباب بذاته؛ لأن القيم الإسلامية هي الدين كله وعليها
يقوم المجتمع الإسلامي.
هذه القيم ثابتة بثبات مصادرها، ويتفرع عنها قيم أخرى حاجية وتحسينية.
وأول هذه القيم: العلم؛ إذ به كُرّم آدم واستخلف في الأرض.
ويبرز أثر العلم في بناء الأمم والحضارات، مع كون الإسلام يتضمن المبادئ
العامة والأسس التي تحكم العملية التربوية والتعليمية والبحث العلمي، ثم يحاول بعد
ذلك رسم سياسة عامة للتعليم في بلاد المسلمين.
والقيمة الثانية: كما يراها: الإيمان. لأن مطلق الإيمان بشيء ما يعد قيمة
عليا عند غالب البشر، وعلى مقتضاه يتشكل الضمير الإنساني وتتشكل نظرته
لمناحي الحياة.
والإيمان بالله له مدخل محدد منضبط هو الإسلام. وعلى ذلك فهو مفرق
طريق بيننا وبين غيرنا في كل شعبه. وهو أمرٌ فطري بخلاف الفكر الغربي الذي
يعتبره مكتسباً من خلال الملكات العقلية.
وثالث هذه القيم: العمل الذي يمثل قاعدة لمثلث القوى الذي تستقر عليه
المنظومة العليا، وكثيراً ما يوصف العمل بـ (الصالح) في القرآن، ويتحقق به
استخلاف الإنسان في الأرض، وتكتمل به عبادته؛ لارتباطه الوثيق بالإيمان؛ فهو
ليس أمراً مادياً بحتاً، وبهذا يتميز كقيمة إسلامية عليا.
وليحقق العمل نتائجه المرجوة فلا بد من التعليم والتنشئة والانتقاء لتحقيق
أعظم المكاسب للأمة.
وهو متميز في الإسلام؛ لأنه يبدأ من سن التكليف ولا ينتهي إلا بالموت،
وبهذا يتحدد وعاء العمل في الأمة ككل في أثناء التخطيط. ولا يمكن أبداً إهدار
دور النساء لاعتبارهن شقائق الرجال؛ فللمرأة دورها الذي خصها الله به وفق
طبيعتها، وهو بين الندب والكفاية والتحريم، والحل فيما وراء ذلك.
ويستكمل خريطة العمل في هذا المجال بتحديد أهلية التكليف بالعمل (العلم
والكفاءة) وشروط الترقية، وطريقة التعاقد، وطريقة تحديد الأجر على الكفاية لا
الكفاف، والتوازن بين المصلحة الفردية والمصلحة العامة مع تجنب المحرمات،
ودور التخطيط في مراعاة ذلك في توجيه العمل الذي يعد عبادة كالصلاة؛ لذا تعد
إقامة الشعائر جزءاً من خطة التنمية.
أما القيمة الرابعة فهي تكريم الله للإنسان، وهي هبة ربانية غير معلقة على
شرط ولا حتى الإيمان؛ لهذا فلا يجوز للإنسان التنازل عنها، ولا يجوز لكائن من
كان أن يجرد منها إلا أن يشاء الله [وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ][الحج: 18] .
والتكريم ليس من قبيل الحقوق التي تُرتّب للإنسان مقابل التزام يلتزم به؛ بل
هو من قبيل السنن الإلهية.
وللشارع الحكيم في تكريم الإنسان مقاصد خمسة هي: حفظ العقل، والدين،
والنفس، والعرض، والمال.
أما التطابق بين تكريم بني آدم وبين فكرة حقوق الإنسان فمزعوم؛ لأن الثانية
قائمة على افتراض الخصومة بين الفرد والدولة؛ لذا فهي مجرد دفاع سلبي عن
الأفراد دون تقديمهم لأي مقابل؛ مع أن المفترض أن يقدموا الواجب ليكون مسوغاً
لطلب الحق.
كما تقوم على فكرة المساواة التامة التي تجافي العدل لا سيما أن فكرة المساواة
كانت من صنع اليهود ليدفعوا عن أنفسهم الاضطهاد الأوروبي.
وتستخدم حقوق الإنسان اليوم كوسيلة ردع وتدخل وإكراه من قبل الدول
الأقوى، وأداة للضغط المعنوي لإجبار الدول الضعيفة على انتهاج سياسات داخلية
وخارجية بعينها وإلا تعرضت للعقوبات.
ثم فنّد مخاطر هذه الفكرة على المجتمعات.
أما القيمة الخامسة فهي وحدة الأمة، وهي فريضة معلومة من الدين
بالضرورة. وللأمة أربعة أبعاد لا ينفصل أحدها عن الآخر هي:
1-
بعد عقدي: وهو الأصل والمعيار.
2-
بعد إقليمي: يجعل كل الأرض التي سرت عليها أحكام الإسلام يوماً من
الأيام أرضاً إسلامية.
3-
بعد شخصي: يدخل في الأمة كل من دخل في الإسلام.
4-
بعد تاريخي: يفيد استمرارية وجود الأمة دون انقطاع.
ومما حبا الله هذه الأمة من مقومات الوحدة:
1-
حفظ الله لكتابه.
2-
التواصل التاريخي والجغرافي لهذه الأمة.
3-
وحدة المصلحة العليا التي تتمثل في إقامة الدين، والدعوة المستمرة إلى
الله، والجهاد الذي لا يفتر إلى أن تقوم الساعة حتى تكون كلمة الله هي العليا.
4-
الحب والود والرحمة الذي جعله الله في قلوب المؤمنين بعضهم نحو
بعض.
5-
وحدة الخطاب القرآني في الأحكام.
وبهذا فإن المجتمع المسلم لا يعرف صراعاً بين السلطة والأفراد، ولا يعرف
الحزبية؛ ولذا ينبغي عدم الخلط بين الحزب السياسي والمذهب الفقهي.
وتقتضي وحدة الأمة عدم جواز إقامة حواجز سياسية تفرق بين المؤمنين؛
لأن الوحدة من الثوابت والفرقة حديثة عهد، وليس للمتغير أن يمحو الثابت.
سادسة القيم: العدل: وهي قيمة لا يمكن لإنسان أن ينكر علوها وإنما
الاختلاف في (ماهية العدل ومعياره) . والعدل باعتباره قيمة فريضة معلومة من
الدين بالضرورة لا تستقيم الحياة إلا بها؛ لذا جعل الله إقامته أمانة، وأعان على
ذلك بالقوة. ويختلف معيار العدل في الإسلام كثيراً عن معياره عند أهل الكتاب؛
لأنه يشمل عندنا العدو والصديق، ولا اعتبار للصلات أو للمكانة الاجتماعية، وقمة
العدل هي في الحكم بما أنزل الله. ويختلف العدل عن المساواة؛ لأن البشر
متفاضلون.
ومن العدل الموازنة بين مصلحة الفرد والمجتمع. وإقامة العدل شعيرة ينبغي
أن تُنصب لإقامتها مجالس القضاء، ويكتمل دورها بالحسبة التي تحول دون وقوع
الظلم والاعتداء، أما الحضارة الغربية فكثيراً ما تلبس الظلم لبوس العدل.
سابعة القيم: الشورى، وهي واجبة الأداء؛ لأنها الطريقة التي شرعها الله
تعالى لصنع واتخاذ القرارات في كل المستويات، ولها مراحل ثلاث هي:
1-
مرحلة صنع القرار من خلال الصفوة (أهل الحل والعقد) .
2-
مرحلة اتخاذ القرار (من المسؤول)(أي: العزم) .
3-
مرحلة التنفيذ بعد استنفاد الجهود، والأخذ بالأسباب، مع التوكل على الله، وهذا مستنبط من آية الشورى.
وتتميز في الإسلام من حيث موضوعها: وهو ما لا نص فيه، ومن حيث
مرجعيتها: فإلى منظومة القيم الإسلامية؛ وهي أوجب في القرارات المصيرية مثل
تنصيب الولاة والحكام.
ومن تميز الشورى مباينتها التامة للديمقراطية التي صارت بضاعة بالية تحمل
من العيوب ما لا يمكن لمؤمن قبوله، وما نجاحها في الاستيلاء على ألباب بعض
المفكرين في أمتنا إلا لأنهم [يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ
غَافِلُونَ] [الروم: 7] .
وفي ختام الباب يرى المؤلف استحالة التنمية الشاملة دون بذلٍ لجهد وأخذٍ
بالقوة مع ما آتانا الله تعالى من الكتاب والحكمة، والتوكل على الله الذي يداول
الأيام بين الناس.
وفي الباب الثالث: يتناول المؤلف إرهاصات النظام العالمي الجديد، من
خلال أربعة محاور. فأشار ابتداءً إلى غموض مصطلح النظام العالمي الجديد،
وأنه قائم على فكرة عقدية (يهودية نصرانية) تقتضي تهيئة الأرض بالسلام لقدوم
المسيح المخلص! وهي فكرة استراتيجية لا يمكن فصلها عن منظومة القيم والعقيدة
وأحداث التاريخ وواقع الجغرافيا.
ثم يعرض لتطور العلاقة بين الإسلام وأهل الكتاب منذ بعثة النبي -صلى الله
عليه وسلم-، وتطور الصراع حتى وصل إلى شكل حروب صليبية عقدية ممتزجة
بأهداف اقتصادية وسياسية تعكس مفهوم الفكر الاستراتيجي الصليبي الغربي.
ومع انتقال مركز الحضارة من الشرق إلى الغرب في منتصف القرن الثامن
عشر، أشار كثير من منظريهم في أدبياتهم إلى أن الحضارة الغربية (يهودية
نصرانية) أو بتعبير أدق (صهيونية صليبية) ، وهو ما يُشعر بأن الحركة الصهيونية
قد تحركت منذ وقتٍ مبكر (القرن السابع) سراً للتأثير في آباء الفكر الأوروبي،
وعملت إلى جانب ركوب موجة النهضة الأوروبية على هدم القوة الإسلامية آنذاك
المتمثلة في الخلافة العثمانية.
وإذا كان اليهود هم الذين نظّروا لليبرالية فإنهم هم مؤسسو الماركسية أيضاً.
ونتيجة لهيمنة اليهود على الحضارة الغربية منذ نشأتها فإن موجات العداء
للإسلام ودولته قد تزايدت؛ إذ استحدثوا لها مسمى جديداً هو (المسألة الشرقية) .
واستطاعوا هدم الخلافة من خلال الاختراق الداخلي لنظم الحكم والاقتصاد
والاجتماع، بالإضافة إلى اقتطاع أجزاء من أطراف الدولة وتشجيع النزعة
الانفصالية القومية في كثير من أقطار الدولة.
وقد لعبت روسيا منذ مطلع القرن العشرين دوراً بارزاً في هذه الجريمة.
ولكن الأخطر من هدم الدولة ذاتها نجاحهم منذ القرن (19) في تربية
(مجموعات معينة) ، وإيصالهم إلى مراكز القيادة في كل المجالات، وعلى جهود
هؤلاء ومن تخرج على أيديهم تم نشر العلمانية والماركسية في آن واحد من أجل
طمس الهوية الإسلامية.
وبعد أن نجح اليهود في الغرب والشرق نجحوا كذلك في حماية أقلياتهم بكل
الوسائل بما في ذلك القوة العسكرية التي استخدمت في مناسبات مختلفة للتمكين
لليهود في البلاد الإسلامية.
وبانتهاء العصر الإمبريالي تبنت الحكومات في بلادنا نهج الاشتراكية،
فسارع اليهود بتحويل أموالهم إلى أوروبا وأمريكا.
الباب الرابع: يتحدث عن تكوّن هذا النظام من خلال ثلاثة فصول:
الأول: يتحدث فيه عن بدايات (الفكر الجيوبوليتكي) ويعني به: إعادة ترتيب
الأوضاع الجغرافية باستخدام القوة المسلحة لتتلاءم مع الأهداف السياسية لدولة مّا،
ثم يفرق بين كل من المحتوى الفكري للإمبريالية الأوروبية، وبين نظرية القوة
البرية الروسية، ونظرية البحرية الأمريكية التي بدأت ملامحها تظهر منذ نهاية
القرن (19) ، ويكشف التضليل الذي يُمارَس من خلال ترجمة لفظ
(Imperialism) على أنها (استعمار) وهي أبعد ما تكون عنه.
ثم يتتبع الخط التاريخي لكل من النظريات الثلاث السابقة عبر التاريخ التي
أدت إلى صراع أوروبي ثم أمريكي روسي انتهى بانتصار استراتيجية المواجهة
الأمريكية بالتفرد بالسيطرة على العالم، وإذعان أوروبا المبكر، وسقوط الاتحاد
السوفييتي في أوائل هذا العقد.
وفي الفصل الثاني يحدد معالم النظام العالمي الجديد، الذي تقوم فلسفته على
(فكرة الخلاص) التي ظهرت مبكراً.
والمتابع لنشاط الأمم المتحدة والمنظمات المتخصصة التابعة لها، والإقليمية
السائرة في ركابها، يدرك أن استراتيجيتها تسير قدماً نحو المجتمع العالمي الواحد
الذي تهيمن عليه القيم (الصهيونية الصليبية) والتي كان من أخطر أدوارها زرع
إسرائيل في المنطقة الإسلامية وما نتج عن ذلك من أحداث.
وفي الفصل الثالث يستعرض ما قبل النظام العالمي الجديد، وفصول الصراع
الأيديولوجي لليبرالية والماركسية، رغم خروجهما من رحم واحدة، وكيف أنهما
نقلا الصراع بينهما فيما يعرف بالحرب الباردة إلى مسرحين: الأول: في (الشرق
الأوسط) أو ما يطلق عليه دول (العالم الثالث) . وبعد أن حُلت (المسألة الشرقية)
كان اللعب على هذا المسرح هو الأخطر في حسم كثير من الصراعات مبكراً على
عكس الظاهر لصالح الولايات المتحدة والصهيونية العالمية، عن طريق: النفَس
الطويل، والتفكير الاستراتيجي، وتوظيف العملاء، واللعب بورقة الديون،
والخداع العلمي والعسكري، وصناعة الفعل ورده؛ كل ذلك أسهم إسهاماً بالغاً في
إنهاء الجولات لصالح أمريكا إما حالاً وإما مآلاً.
أما المسرح الثاني فكان في أوروبا، وقد مارست القوتان حرباً بالوكالة
حسمت لصالح أمريكا أيضاً، حتى استطاع كيسنجر (اليهودي) أن يعلن في 1972 م عن نهاية اللعبة وبداية الانفراج، ومن ثم التوجه نحو النظام العالمي الجديد كي
تنشر قيمه وتزدهر، وهو ما عبر عنه (كلينتون) في حفل تنصيبه قائلاً: (إن
أمريكا تؤمن أن قيمها صالحة لكل الجنس البشري، وإننا نستشعر أن علينا التزاماً
مقدساً لتحويل العالم إلى صورتنا) .
أما الباب الخامس والأخير فذكر فيه المؤلف أهم وأخطر آليات وأساليب إقامة هذا النظام، وقسمه إلى فصول أربعة:
تحدث في الأول منها عن مؤتمر سلام الشرق الأوسط الذي رُوّج له عقيب
قيام النظام وانتهاء حرب الخليج مباشرة؛ وكان يهدف إلى تأمين المصالح الأمريكية
والإسرائيلية في المنطقة، من خلال جر العرب إلى مفاوضات حاصلها سراب.
وفي الفصل الثاني يتحدث عن النظام الشرق أوسطي الجديد، الذي يُستهدف
من ورائه اقتطاع الجزء الأكبر من الأمة الإسلامية وإلحاقها بإسرائيل لتصبح
بالنسبة لها مجالاً حيوياً وسوقاً وقوة مضافة إليها؛ ولتمتلك إسرائيل من ذلك دوراً
أكثر فاعلية على نطاق الحركة الكوكبية؛ باعتبارها والولايات المتحدة جناحي
الصهيونية العالمية، والفكرة وصناعتها كلاهما صهيونيتان على حين تقف الأمة
أمام ما يقع منها موقف المتفرج.
واستعرض المؤلف التصور الإسرائيلي لهذا المشروع وأهم الخطوات التي
اتخذت بهذا الصدد، وذكر أن الخطر على القيم مطرد مع حجم التكامل الاقتصادي.
ثم تناول المشروعين: الأمريكي، ومنافسه الأوروبي (البحر المتوسطي)
وأهداف كل طرف ومدى استجابة المنطقة لهما.
وفي الفصل الثالث: تناول آلية لا تقل خطراً عن سابقتها وهي مركزية
السيطرة على الاقتصاد العالمي من خلال مجموعة من المنظمات الدولية، وعبر
سلسلة من الإجراءات والخطط الاستراتيجية التي من أبرزها:
إقامة تحالف بين الدول الصناعية الكبرى التي تتبع النظام الرأسمالي.
الهيمنة على الموارد العالمية وعلى النشاط البشري؛ بدعوى الحفاظ على
البيئة من التلوث.
إنشاء منظمة للتجارة العالمية؛ لإزالة العقبات أمام السيطرة المركزية على
الاقتصاد.
ضبط المواليد وإحياء نظرية (مالتس) للسكان بحجة الحفاظ على نتائج برامج
التنمية في الدول النامية من وطأة الزيادة السكانية.
أما الفصل الأخير: فتحدث عن الترويج لثقافة السلام كمظلة فكرية للهيمنة
الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وهي تقوم على نزع طاقة التدافع الفطرية
الموجودة لدى البشر، وإعادة توجيه هذه الطاقة إلى أمور أخرى غير القتال، بل
ونزع كل ما من شأنه استثارة الميول نحو التدافع. ولكي تنجح هذه الفكرة فلا بد
من المضي قدماً في السيطرة على التسليح في العالم، بل إلى ما هو أبعد من ذلك:
هدم فكرة الدولة باعتبارها شراً.
هدم نظام الأسرة باعتباره الكيان الباقي الحافظ للقيم.
إزالة الخصومات والثقافة العقدية.
مكافحة ما يُسمى بالإرهاب الذي يعني تصفية أي قوى تقف في طريق
مشروعهم.
وفي الختام..
فإن الكتاب قد حوى أفكاراً لا تقل أهمية عما ذكرت، وفيما ذكرته إشارة إلى
غيره، وهو يعتبر إضافة ثرة جمع فيها المؤلف رحمه الله المسائل الفقهية إلى
جانب السياسة الشرعية، وتفنيد حقائق الواقع والتاريخ مع إدراك عميق لما جرى
ويجري حولنا من أحداث في أسلوب سلس تستشعر فيه صفاء النظرة والحرص
على إظهار الحق واتباعه، ويمثل حصيلة وعيٍ غنية للصحوة الإسلامية بل
وللنخبة في بلادنا. ومما يزيد من أهمية الكتاب كون صاحبه رحمه الله خبيراً
استراتيجياً على درجة عالية من التخصص العلمي وسعة الاطلاع.
غير أن هذا لا يمنعني من أن استدرك أمراً ذا خطورة لعله مرّ على المؤلف
دون أن يقصده لذاته؛ حيث قدّم في ترتيبه لمقاصد الشريعة حفظ العقل على حفظ
الدين، وسوّغ ذلك بقوله:(فلا يكره أحدٌ على دينه حفظاً للعقل) . ويؤخذ على هذا
الكلام كونه ليس له أصلٌ في الشرع؛ لأن نفي الإكراه في الدين لا يعني تقديم حفظ
العقل على حفظ الدين، وإلا لما جاز قتال الكفار لمجرد كفرهم، وفي الحديث:
(أمرت أن أقاتل الناس
…
) ، كما أن الله نفى العقل عن الكافرين، والمقصود به
هنا إدراك الحقائق، فإذا كان العقل معطلاً عن إدراك الحقائق على ماهيتها فهو فاسد
مهدر، فكيف يقدّم على الدين الذي هو سبب فلاح الدنيا والآخرة، كما أنه ثبت من
الشرع تقديم حفظ ما هو أدنى من الدين (النفس) عند إشراف النفس على الهلاك
بجواز تغييب العقل بشرب الخمر حفظاً للنفس، وأنه كما هو متقرر أن لا تناقض
بين العقل الصحيح والدين الحق الذي هو الإسلام، والحق المطلق مقدمٌ عند العقلاء. كما أن الخلاف بين أهل السنة منحصر في أولوية التقديم بين الدين والنفس مع
الاتفاق على تأخر العقل عنهما، ولعل المؤلف تردد في هذا المعنى؛ إذ ذكر بعدها
كلاماً ينافي ما ذكره هنا.
المسلمون والعالم
غروب الحضارة الأمريكية
القرن الحادي والعشرون قرن الانحطاط الأمريكي
كمال حبيب
عندما كتب (توينبي) في الخمسينيات كتابه الضخم المعنون بـ (دراسة
التاريخ) اعتبر أن تأثير أمريكا في الحضارة الغربية يعتمد على أن القرن العشرين
هو (القرن الأمريكي) أو قرن الرجل العادي، أي: إن البسطاء من الناس
سيحصلون فيه على حقوقهم [1] .
وفي الواقع فإن أمريكا مع نهاية الحرب العالمية الثانية وفي منتصف القرن
العشرين أصبحت قوة عالمية تتمتع بثروة وازدهار لم تعرفهما أي دولة أخرى، كما
وصلت إلى أعلى مراتب القوة، ووسعت من مصالحها وتأثيرها إلى ما هو أبعد
كثيراً من حدودها، وارتبط صعود أمريكا باعتبارها قوة عالمية مهيمنة بإعادة هيكلة
توزيع القوة في العالم لصالحها، حيث سيطرت على (اليابان) القوة الآسيوية
الكبرى، وسيطرت على (ألمانيا) أقوى دولة أوروبية، وكان الاتحاد السوفييتي
(المنهار لاحقاً) لا يزال في مرحلة بناء قوته الاقتصادية، وكانت الدول المستعمَرة
في العالم في مرحلة (فراغ القوة) ؛ أي إن الصعود والهيمنة الأمريكية ارتبطت
بضعف القوى العالمية الأخرى لصالحها، لكن الأمر لم يكن مرتبطاً بانحطاط القوى
العالمية الأخرى وحسب، وإنما كان مرتبطاً أيضاً بتوافر عناصر القوة الأمريكية
الداخلية، فأمريكا في عام 1949م كانت الدولة الأولى في متوسط دخل الفرد،
وكان الفرد الأمريكي هو الأعلى حيازة في العالم للسيارات والتليفونات، واستهلاكاً
للكهرباء، والأكثر نصيباً في الرعاية الصحية، كما كان الأمريكيون يشترون
6أضعاف ما يشتريه غير الأمريكيين من ملابس وأحذية، ويستخدمون 70% من السيارات، و35% من الطرق، و70% من الطائرات المدنية في العالم [2] ،
وتسارع النمو الاقتصادي الأمريكي 40 ضعفاًَ خلال الفترة من 1870م 1950م،
وتزايد عدد السكان من 40 مليوناً إلى 150 مليون، وبعد الحرب العالمية الثانية
أصبحت أمريكا تنتج 50% من مجمل الإنتاج العالمي للسلع والخدمات، وزاد
احتياطي رأس المال لديها من 45 مليار، إلى 895 مليار، واستطاعت أمريكا
تحقيق معجزة اقتصادية خلال الحرب فضاعفت الناتج المحلي الإجمالي لها من
100 مليار سنة 1940م إلى 200 مليار دولار عام 1945م، وحققت أمريكا تفوقاً
لا يضاهى في الإنتاج الصناعي، كما احتكرت تقنية القنبلة النووية [3] . وبدأت
أمريكا بصعودها تعبيراً عما يطلق عليه علماء الحضارات: (التداول الحضاري)
أي إن صعودها ارتبط بانهيار قوى أخرى دولية لصالحها؛ باعتبار أنه لا يوجد
دوام لسيطرة قوة دولية بشكل كامل على العالم، واعتبر أن ذلك أحد الثوابت
والسنن الاجتماعية (صعود وسقوط الحضارات) ، ولم تكن القوة الأمريكية تستند
فقط إلى القوة العسكرية والاقتصادية، وإنما استندت كذلك إلى نموذج حضاري بدا
مثيراً للنظر؛ فعلى سبيل المثال كتب (دانييل بورستاين) : (أن أمريكا لديها شيء
تعلّمه لكل الرجال ليس من خلال التوقع وإنما من خلال نموذج معاش تمثله فكرة
(التراضي العام الأمريكي)[4] .
الانحطاط الأمريكي:
من منظور حضاري فإنه مع صعود قوة عالمية مهيمنة وحاكمة، فإن هذا
الصعود قد يحمل معه بذرة ضعفه التي لا تظهر للعيان؛ لأن القوة تخفي هذا
الضعف الكامن، وهذا هو ما حدث لأمريكا، وفي الواقع فإنه منذ العام 1971م
كانت هناك تصريحات لمسؤولين أمريكيين تؤكد الضعف الكامن في بنية الهيمنة
الأمريكية، وعلى سبيل المثال: فإن نيكسون قال عام 1971م في خطاب له من
البيت الأبيض: (هناك مشاكل خطيرة تواجه قوة الأمة الأمريكية، هي: البطالة،
وانخفاض إنتاج بعض الصناعات، وتصاعد التضخم، وتراجع الدولار، والعجز
الخطير في ميزان المدفوعات) ، ونشرت النيويورك تايمز على صفحتها الأولى
مقالاً بقلم ماكس فرانك جاء فيه: (الولايات المتحدة قد لا تصبح الدولة المسيطرة في
علاقات القوة عالمياً وإن القوة الأمريكية في انحطاط) ، ونشرت مجلة (لايف) عام
1971م أن النظام العالمي لم يعد به مركز وحيد للقوة، وأن أمريكا أصبحت تواجه
نقص الموارد وانحدار السمعة وضعف الدولار، لقد بدأ انحطاط أمريكا بوصفها قوة
عالمية من أبعد نقطة في نظام الأحلاف الأمريكي، من فييتنام [5] .
الواقع أن الولايات المتحدة الأمريكية استطاعت أن تحقق نصراً مطلقاً على
خصومها في معاركها التاريخية الكبرى حتى الحرب العالمية الثانية؛ لكنها منذ
حرب فييتنام لم تستطع أن تحقق نصراً مطلقاً بلا قيد ولا شرط لأول مرة في
تاريخها، وحتى ما أطلق عليه نيكسون:(نصر بلا حرب) أي هزيمة الاتحاد
السوفييتي عبر إرهاقه اقتصادياً من خلال سباق التسلح فإنه لم يكن نصراً مطلقاً،
وكما قال ديجول: (تريد الولايات المتحدة أن تصل بالاتحاد السوفييتي إلى الخراب
والإفلاس عن طريق سباق لا نهاية له في التسلح، وقد تنجح في تحقيق ما تريد
لكنها ترهق نفسها بأكثر مما تستطيع احتماله، وقد تصل هي الأخرى إلى حالة
الإفلاس) [6] . وحاولت أمريكا تجديد ثقافتها الاستراتيجية بصناعة نصر مطلق في
حرب الخليج الثانية على العراق؛ لكن ذلك الانتصار لم يغيّر من واقع سقوط
الإمبراطورية الأمريكية في الداخل، وكتب بول كيندي في الإكسبريس الفرنسية:
(الدولة التي تحتاج إلى مليارات الدولارات من دول أخرى لتمويل الحرب ضد دولة
نامية لا تملك القدرة على فرض نظامها على الكرة الأرضية) [7] .
وكما هو معلوم فإن السقوط المفاجئ للاتحاد السوفييتي ولمنظومة الدول
الشيوعية المرتبطة به في أوروبا الشرقية قاد إلى الحديث عن (نهاية التاريخ) هذه
الصيحة التفاؤلية الممزوجة بسكرة الفرحة بالسقوط غير المتوقع للقوة العالمية الثانية
المناوئة لأمريكا. لكن هذه الصيحة التي أطلقها (فرانسيس فوكوياما) ثبت خطؤها؛
إذ إن التاريخ لا ينتهي بهذه الصورة التي تخيلها، ولا يمكن لقوة واحدة أن تتحكم
وحدها في صناعته.
وبدأت الكتابات الواقعية عن السقوط الأمريكي، وعلى سبيل المثال فإن (بول
كيندي) كتب كتابه الأشهر: (قيام وسقوط القوى العظمى) وفيه حاول الربط بين
القوة الاقتصادية والقوة العسكرية؛ إذ تحدث عن أهمية القوة الاقتصادية للقوة
العسكرية، بيد أن القوة العسكرية إذا اتسعت بشكل يفوق القدرة الاقتصادية على
مساندتها فإن ذلك يشي بتدهور نسبي لقوة الدولة، كما أن قوة الدولة تعتمد أساساً
على ما إذا كان جيرانها يمتلكون أكثر أو أقل مما تملك) ، ومن ثم فإن قوة الدولة
ترتبط صعوداً وهبوطاً بقدر قوة الدول الأخرى التي تشاركها النظام الدولي، وكان
(بول كيندي) يقصد أن أمريكا تواجه فجوة كبيرة بين قوتها الاقتصادية وقدرتها
العسكرية وحجم امتدادها وتوسعها في العالم. كما أن أمريكا تواجه قوى أخرى
تمتلك اقتصاداً متعاظماً بما يمثل خصماً للمكانة النسبية لأمريكا [8] .
كما ظهر كتاب هاري فيجي وجيرالد سوانسون بعنوان: (سقوط أمريكا قادم
عام 1995 فمن يوقفه؟) ، وظهر كتاب (رونالد هوايت) : (القرن الأمريكي،
صعود وهبوط الولايات المتحدة كقوة عالمية) ، وظهر كتاب روجيه جارودي:
(الولايات المتحدة طليعة الانهيار) ، وظهر كتاب بريجنسكي (خارج نطاق السيطرة)
أو (الانفلات) ، وصدرت في الولايات المتحدة مئات الكتب التي تنعيها مجتمعاً
ودولة وتجربة متحدثة عن الأمراض التي تفتك بها، مثل: العنف، وتفشي
الإباحية، والمخدرات، والخواء الروحي، والفردية المفرطة، والتطرف الأعمى،
وضحالة الثقافة، والعنصرية الطاغية، والديون الخارجية الأسطورية، وسقوط
ثلث السود وسدس البيض تحت خط الفقر، والرعب من اقتراب السود وذوي
الأصل الأسباني والآسيوي من تشكيل نصف عدد السكان
…
وقائمة طويلة من
الوقائع والأمراض والأزمات المستعصية التي تتراكم تفاعلاتها لتسرع بالانهيار
الشامل [9] .
مظاهر الانحطاط الأمريكي:
هناك مؤشرات متعددة على الانحطاط الأمريكي، نشير إلى بعضها:
العنف:
في شهر مارس الماضي استيقط المجتمع الأمريكي على جريمة بشعة راح
ضحيتها أربعة من التلاميذ ومُدَرّسة، وجرح أربعة عشر تلميذاً آخرون ومدرّسة،
وكان بعضهم في حالة خطرة، نفذ الجريمة طالبان في مدرسة (ويست سايد)
المتوسطة في بلدة (جونسبورو) بولاية (أركنساو) التي كان الرئيس الأمريكي حاكماً
لها، وكان عمر أحد التلميذين أحد عشر عاماً والآخر ثلاثة عشر عاماً، وقد نفذا
جريمتهما بعد تخطيط وتصميم وتهديد مسبق لزملائهما، واستخدم التلميذان في
جريمتهما أسلحة رشاشة وأسلحة أخرى بلغ عددها تسع قطع، وكانا يرتديان ثياباً
أعدوها للتمويه ومن ثم: قرعا جرس الطوارئ في المدرسة، فهرع الطلاب
والمدرسون إلى الخارج حيث كان التلميذان يختبئان في ساحة قريبة وأطلقا النار
عشوائياً على التلاميذ والمدرسين، ثم استسلما بعد خمس دقائق، وقال (كلينتون)
إنها الجريمة الثالثة التي يقوم بها تلاميذ صغار خلال الأشهر القليلة الماضية.
وجاءت الجريمة بعد أسبوع من نشر البيت الأبيض لدراسة قالت: (إن مدرسة من
بين كل عشرة مدارس أمريكية شهدت أعمال عنف خطيرة العام الماضي) [10] .
وفتحت هذه الحادثة المروعة ملف العنف في أمريكا؛ حيث قدم مشروع قانون
لمجلس الشيوخ والكونجرس يطلق عليه: (قانون أمريكا بعد الدوام المدرسي) ،
وهذا القانون يشير إلى أن هناك حوالي خمسة ملايين تلميذ نسبة كبيرة منهم في سن
الثامنة والتاسعة يقضون معظم أوقاتهم بعد الدوام المدرسي وحدهم، وهم بحاجة إلى
المساعدة لإبعادهم عن مصادر المشاكل وإشغالهم بما هو مفيد، وذكرت دراسة
البيت الأبيض السابقة (أن الوقت الطويل الذي يقضيه التلاميذ في مشاهدة التلفزيون
وما يقدمه من أفلام ومسلسلات عنف يلعب دوراً رئيساً في انتشار العنف بينهم
خصوصاً الصغار منهم) [11] .
وتشير الإحصاءات الرسمية إلى أن عدد قطع الأسلحة المنتشرة بين أيدي
الأمريكيين تبلغ حوالي 200 مليون قطعة بين مسدس وبندقية، أي بمعدل قطعة
سلاح لكل أمريكي رجل أو امرأة باستثناء الأطفال، وفي عام 1996 استخدم
السلاح في ارتكاب 9390 جريمة قتل في أمريكا بينما لم تُرتكب سوى 30 جريمة
مسلحة في بريطانيا، و15 جريمة مسلحة في اليابان، وتزيد نسبة ارتكاب الجريمة
بين الأطفال دون سن الخامسة عشرة أكثر 16 مرة في أمريكا عما هي عليه في 25
دولة صناعية مجتمعة، وكل عام تشهد أمريكا 135 ألف جريمة قتل أو انتحار أو
حادث مسلح [12] . وتجارة السلاح مباحة في الولايات المتحدة باعتبارها تعبيراً
عن الحرية وحق الإنسان في الدفاع عن نفسه؛ لكن الحقيقة هي أن لوبي صناعة
السلاح هو الذي يقف وراء فلسفة الترويج لحق الإنسان في امتلاك السلاح للدفاع
عن نفسه وأمنه. وفي الواقع فإن انتشار الأسلحة وتفجر العنف داخل الولايات
المتحدة الأمريكية هو جزء من ثقافة العنف التي قامت على أساسها الحضارة الغربية
وارتبطت بسحق الآخر وقتله، بيد أن تغلغل العنف في عصب النفسية الأمريكية
يجعله لا يستخدمه ضد الآخر فقط، وإنما يستخدمه ضد مواطن مجتمعه أيضاً، إنها
شهوة ممارسة العنف النابعة من الثقافة الغربية اليهودية الصليبية التي يعد العنف
أحد أبرز تجلياتها.
التطرف:
أحد التحديات التي تواجه الأمن القومي الأمريكي احتمال تصنيع المتطرفين
الأمريكان لأسلحة (بيولوجية) يستخدمونها ضد المراكز الحيوية والاستراتيجية في
أمريكا، وكان المجتمع الأمريكي يظن أن التطرف يأتي من العالم العربي
والإسلامي فقط، لكنه عاين في 15/4/1995حادثة ضخمة قام بها شاب أمريكي
راح ضحيتها 159 شخصاً، هذه الحادثة هي نسف المبنى التجاري في (أوكلاهوما) . وفي الواقع فإن بعض الكتاب الأمريكان بدؤوا الكتابة عن خطر التطرف الأمريكي
على المجتمع خاصة فيما يتصل بقدرته على استخدام الهندسة الوراثية في تصنيع
الأسلحة البيولوجية، واجتمع (كلينتون) فعلاً مع مجموعة من المتخصصين في
الهندسة الوراثية وناقش معهم ومع كبار المسؤولين في الإدارة الأمريكية التحديات
التي تواجه الأمن القومي الأمريكي إذا استطاعت العناصر المتطرفة الأمريكية صنع
أسلحة جرثومية. وفي تقرير لمركز (قانون الفقر) ذكر أن مؤامرات المتطرفين
اليمينيين الرامية إلى إخراج قطارات عن القضبان واغتيال شخصيات عامة ونسف
جسور زادت زيادة حادة في أمريكا في السنوات الثلاث الماضية، وأورد تفاصيل
24 مؤامرة رصدها منذ حادث (أوكلاهوما) واستهدفت هذه المؤامرات نسف مبانٍ
حكومية وجسور ومكاتب صحف ومصارف.
وهناك مجموعات دينية أمريكية تؤمن بحلول نهاية العالم عام 2000م وأنها قد
تستخدم الأسلحة البيولوجية لتحقيق ذلك [13] ، وهناك منظمات متطرفة في أمريكا
تستخدم السلاح لوقف ما تراه علمنة للمجتمع الأمريكي، وهذه المنظمات تقاوم
الإجهاض كما تقاوم إباحة الشذوذ والمثلية الجنسية، وهناك منظمة أعلنت عن نفسها
تسمى: (جيش الله) نفذت فعلاً عدة حوادث في مدينة (أتلانتا) (أبرزها الانفجار
الذي حدث في أتلانتا عام 1996م في الألعاب الأولمبية، وهذه المنظمة تطرح فكرة
المقاومة بدون قيادة، أي: تطرح فكرة اللامركزية في التصدي لما يرونه معارضاً
لأفكارهم ولو بالقوة، وينتمي منفذ حادث أوكلاهوما إلى جيش الله الذي يرى أن
هناك مؤامرة على أمريكا تقودها السلطة الفيدرالية والنظام العالمي الجديد، وأنه ما
لم يتم الإنقاذ الروحي والجسدي لأمريكا فإنها إلى زوال [14] .
صراع الأعراق:
نشأت الولايات المتحدة أمةً متعددة الأعراق ولكنها استندت أساساً في بنائها
الاجتماعي إلى ما يعرف باسم الـ.... أي: البيض الأنجلوساكسون البروتستانت
وهذه القاعدة الاجتماعية هي المسيطرة والمتحكمة، لكنه حدث تبدل في الخريطة
الاجتماعية والعرقية في أمريكا يؤكد نشوب نزاعات عرقية بين عناصر المجتمع
الأمريكي؛ فبحلول عام 2050م ستنخفض نسبة الـ.... من 5، 72% إلى ما
بين 49% 53%، فالسكان ذوو الأصول الإسبانية والآسيوية يتزايدون بسرعة قد
تصل بهم ليصبحوا حوالي 35%من السكان عام 2010م؛ بينما ستبقى نسبة السود
في حدودها الحالية وهي حوالي 12% 15% [15] . وهذا التبدل في الخريطة
العرقية يفتح الباب على مصراعيه لنشوب نزاع قومي وعرقي قد يؤدي إلى تفكيك
أمريكا. ولدينا ولاية (بورتوريكو (وهي الولاية الواحدة والخمسون في الاتحاد
الأمريكي تسعى الآن للانفصال عن أمريكا [16] . وكانت أمريكا قد استولت عليها
من إسبانيا عام 1898م، ولا يزال سكانها يتكلمون الإسبانية ويقاومون محاولات
الإدماج الأمريكية بجعل الإنجليزية لغة رسمية، وبشكل عام: فإن ما أطلق عليه
في الستينيات بوتقة الصهر للدلالة به على نجاح إدماج الأقليات في النظام الأمريكي
ثبت إخفاقه اليوم؛ ويتصاعد الحديث عن تنامي نزوع الأقليات ليصل إلى تأكيد
الذات والاستقلال. وإذا واجهت الولايات المتحدة الأمريكية مشاكل حقيقية فيما
يتصل بالانهيار الاقتصادي فإن احتمال تصاعد تفككها سيكون كبيراً؛ لأن المشكلة
الاقتصادية تفجر بدورها مشاكل الأقليات وتعزز مطالبها بالاستقلال، وهناك كتاب
مهم لآرثر شليزينجر) بعنوان: (تفكيك أمريكا) يتحدث فيه عن مشاكل الأقليات
خاصة السود ونزوعهم نحو الاستقلال، وأن هذا سيؤدي إلى تفكيك أمريكا.
الانهيار الأخلاقي:
يبين كتاب بريجنسكي (الانفلات) Out of Control بوضوح أن الخطر
على أمريكا يتمثل في الأبعاد الأخلاقية والثقافية وانحدار مركزية المعايير الأخلاقية
مع مضاعفة الانهماك في الإشباع الذاتي المادي الحسي، ويستخدم تعبير: (استباحة
الإباحة) Premissive Corrucopia للتعبير عن وضع المجتمع الأمريكي الذي
تستبد به قيم الاستهلاك وإشباع الغرائز بشكل مجنون، وارتبط إشباع الغرائز
بغياب أي معايير أخلاقية؛ ولذا: انتشر الفساد والمخدرات وجرائم الشوارع،
ويذكر بريجنسكي أن انتصار الشعار القائل بأن الله قد مات سبحانه وتعالى عما
يقولون علواً كبيراً لم يحدث في الدول الشيوعية الإلحادية وإنما في المجتمعات
الغربية الديمقراطية الليبرالية التي عدت التساهل الأخلاقي تقدماً ثقافياً. وتحدث
بريجنسكي عن الفساد الأخلاقي والانحلال الثقافي الذي تقدمه وسائل الإعلام خاصة
التلفزيون، حيث تقضي ربة البيت الأمريكية ثماني وعشرين ساعة ونصف الساعة
أمام التلفزيون أسبوعياً، ويقضي الشباب المراهق عشرين ساعة أمام التلفزيون
أسبوعياً، ويقضي 20% من أطفال أمريكا خمساً وثلاثين ساعة أسبوعياً أمام
التلفزيون، وبرامج التلفزيون تدعو للإباحية وإشباع الشهوات الفردية والقسوة،
وجعل بريجنسكي مفهوم الأنانية وإشباع الرغبات الذاتية وتحقيق المتعة الفردية يهدد
أمريكا من الداخل [17] . وعلى سبيل المثال: فإن جرائم القتل تمثل العامل
الرئيس للوفاة في أمريكا؛ حيث يأتي ترتيبها متقدماً على مرض خطير كالسرطان،
وتواجه أمريكا ما يطلق عليه (أبارتيد اقتصادي) حيث يوجد طفل واحد من بين كل
8 أطفال لا يأكل ما يشبعه، وموت الأطفال في أحياء السود الفقيرة يجاوز المعدلات
التي تحدث في بلد مثل سيريلانكا وبنما وشيلي، كما أن المفاهيم التي يرفعها الغرب
عن حقوق الإنسان والديمقراطية والحرية هي مفاهيم زائفة، وتكفي الإشارة إلى أن
الثروة هي التي تشتري الإعلام والسلاح، وهذا ما يفرض على بقية المواطنين
الذين لا يملكون وسائل السيطرة إكراهاً يسميه البعض (بالرق الحديث) . وإن تكلفة
مقاعد الكونجرس في أمريكا تصل إلى 500 مليون دولار. وتنتشر المخدرات بين
الشباب كما ينتشر الشذوذ والمثلية الجنسية. وفي الواقع فإن المبالغة في (استباحة
الإباحة) هي التي ستؤدي إلى تفكيك أمريكا؛ فهي أكثر خطراً من الصين أو غيرها
كما قال بريجنسكي.
الانهيار الاقتصادي:
في كتابهما: (سقوط أمريكا) يوضح المؤلفان أن أمريكا هي الدولة المدينة رقم
واحد في العالم؛ حيث لا يكفي دخلها القومي لتغطية نفقاتها، وحذر الكتاب من أن
الديون الأمريكية وفوائدها ستصل إلى درجة يعجز معها النظام عن السيطرة عليها
مع نهاية العقد الحالي.
وتنفق أمريكا على الديون وفوائدها أكثر مما تنفقه في قطاعات التعليم
والتطوير الحضاري والزراعة والعمل والعدل والمواصلات الداخلية مجتمعة،
وأشارت الدراسة إلى أن فوائد الديون الأمريكية بلغت 400 مليار دولار بينما بلغت
الديون 4 تريليون دولار عام 1992م، وتشير التقديرات إلى أن فوائد الديون
وصلت 517 مليار دولار عام 1994م، ومع قرب نهاية القرن العشرين فإن أمريكا
ستبدو كأنها دولة مفلسة، وبالطبع فإن الوضع الاقتصادي المنهار سيؤدي إلى
تراجع الهيمنة الأمريكية والعودة إلى أدراجها، وهناك تراجع في نسبة الإنتاج
الأمريكي بالنسبة إلى الإنتاج العالمي؛ فنسبة قوة أمريكا من الإنتاج العالمي كانت
50% بعد الحرب الثانية، وبحلول عام 1971م أصبحت تنتج ما يمثل 30%،
وأصبحت تستهلك أكثر مما تنتج مما جعلها تعتمد على البترول العربي، ومع بداية
السبعينيات واجهت أمريكا لأول مرة في تاريخها تدهور قدرتها التنافسية في العالم؛
إذ أصبحت وارداتها أكثر من صادراتها (45 مليار دولار للواردات مقابل 42 مليار
صادرات) ولم يعد الدولار قاعدة للتحويل إلى الذهب، ومنذ عام 1985م أصبحت
أمريكا مدينة لأول مرة [18] .
وأخيراً: فإن مظاهر الانحطاط الأمريكي تؤكد أن أمريكا كبقية
الإمبراطوريات إلى زوال، ولا شك أن انهيارها سيؤدي إلى تعديل جديد في
موازين القوى السياسية يكون لصالح المسلمين بإذن الله تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا
بَيْنَ النَّاسِ] [آل عمران: 140] فالسنة الحضارية تؤكد انحطاط قوى
الإمبراطوريات بعد صعودها، وأمريكا ليست استثناءً من ذلك.
(1) القرن الأمريكي، صعود وانحطاط الولايات المتحدة كقوة عالمية، لمؤلفه: رونالد هوايت
عرض له في الأهرام 9، 14/3/1998م.
(2)
المرجع نفسه، 9/3/1998م.
(3)
المرجع نفسه، 9/3/ 1998م.
(4)
المرجع نفسه، 9/3/ 1998م.
(5)
المرجع نفسه، 9/3/ 1998م.
(6)
خير الدين عبد الرحمن، القوى الفاعلة في القرن الحادي والعشرين، دمشق: دارالجيل، 1996م ص 18.
(7)
المرجع نفسه، ص 18.
(8)
بول كيندي، قيام وسقوط القوى العظمى، التغيير الاقتصادي والصراع العسكري من عام 1500م إلى عام 2000 م، القاهرة: الهيئة العامة للاستعلامات، 1992م.
(9)
خير الدين عبد الرحمن، القوى الفاعلة في القرن الحادي والعشرين، ص12.
(10)
ذكرت تفصيلات الجريمة في جريدة الشرق الأوسط، 26/3/1998م.
(11)
الشرق الأوسط، 29/3/ 1998م.
(12)
الأهرام 29/4/ 1998م، مقال لمحمد السماك بعنوان:(تجارة الموت) ، وعن ثقافة العنف في أمريكا راجع الشرق الأوسط، 29/3/1998م تحت عنوان:(ثقافة العنف) ، ص 9.
(13)
الحياة 16/4/1998م، ص 8 مقال: متطرفون قد يشنون هجمات بالأسلحة البيولوجية على المدن.
(14)
الحياة 8/3/1998م، ص 12، مقال: بعنوان جيش الله، عنوان الإرهاب الجديد في أمريكا.
(15)
الشرق الأوسط 29/3/1998م، ص 1.
(16)
الحياة 22/3/1998م، بورتوريكو الولاية الواحدة والخمسون.
(17)
بريجنسكي، الانفلات، القاهرة، مركز الدراسات الحضارية، د ت.
(18)
هاري فيجي، جيرالد سوانسون، سقوط أمريكا قادم عام 1995م، فمن يوقفه؟ القاهرة: 1414 هـ، 1993م.