المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌يحسب أن ماله أخلده - مجلة البيان - جـ ١٤

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌يحسب أن ماله أخلده

‌يحسب أن ماله أخلده

د. مصطفى السيد

ما أشقى القيم عندما يصبح المال وحده لحمتها وسداها، وأتعس بالأمم إذا بات

المال عندها معيار التفاضل ومنهاج التعامل! به ترفع وتضع، وفيه تقدم وتؤخر، وله تسعى وتحفد.

وكم تؤذي السمع، وتستدعي الازدراء قالة أقوام:(فلان رجل) ، وإذا رحت

تسائل هؤلاء الناس: فِيمَ استرجل فيم فلان وجدّ؟ ؛ أجابوا - وبئس الجواب - بثروته المالية ومكانته الاقتصادية!

وحرصاً على إثراء رصيد المسلمين بالمعرفة التاريخية، وعمارة أرواحهم

بأصل القيم، تعاقب القصص القرآني عن الأمم السالفة ليكون من الروافد الفكرية

لمكونات الشخصية الإسلامية.

ولقد ثبت عن الإمام أحمد رحمه الله حبه لقصص موسى في القرآن الكريم،والتي توزعت فصولها هذه في كثير من آيات القرآن تحكي جهاد هذا الرسول

الكريم - صلى الله عليه وعلى سائر الأنبياء - وكيف اصطدم بالطغيان السياسي

الذي تمثله دولة فرعون ومواجهة لبذور وجذور الرأسمالية القارونية - التي كان

قارون صنمها البارز ووثنها الشامخ.

وما ذكر في القرآن من قصة قارون مع قومه تتمثل في هذه الآيات من رقم

76 إلى رقم 82 من سورة القصص.

قصة متكاملة العناصر؛ فزمن القصص - فترة رسالة موسى -صلى الله عليه

وسلم-. والأماكن التي شهدت الدعوة مكانها.

ووقائع القصة - وإن انتهت زمناً - فهي مستمرة حياة وإيحاءً، مادام النموذج

الذي عرضت له القصة قائماً في عالم الناس.

وقارون يقوم بدور البطولة بين شخصياتها المتمثلة بقومه عموماً، ثم يتحدد

هذا العموم بفئتين:

الأولى: الدنيويون.

الثانية: أولو العلم.

وموضوع الصراع هو المال - مصدراً وهدفاً ومصرفاً - وتبدأ القصة معرّفة

بقارون هذه الشخصية البائسة التي تعايش ربيع الزمن - وجود النبوة - ولكنها في

شغل عنها بالمال جمعاً وكنزاً، ثم تفتح الآيات أعيننا على الأخطار التي تنتج عن

رأسمالية فرد، فما تكون عليه هذه المخاطر إذا كانت هذه الرأسمالية نظام حياة

وأسلوب حكم؟ ! :

وأولى هذه المخاطر الظلم: [فَبَغَى عَلَيْهِمْ] فالمُتيّم بالمال، والصبّ بجمعه

لا يهتم إلا بما يزيد هذا المال رقماً دون مبالاة بظلم مؤلم أو بغي مؤذٍ.

في ظل هذا الوضع تهان إنسانية الإنسان، ويكون التعامل معه كالتعامل مع

الأشياء.

والخطر الثاني: الفرح: [إذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الفَرِحِينَ] ، ويبدو أنه قد لازمه حتى صار خُلقاً له أو كما يقول أهل النحو (صفة مشبِّهة أو صيغة مبالغة) فبلغ به حد الأثرة والبطر، كما يقول القرطبي أو بلغ الحد الذي يُنسي المنعم بالمال كما يقول صاحب " الظلال ".

والخطر الثالث: التوجه الكلي إلى الدنيا وحدها، وهذا ما يستنبط بمفهوم

المخالفة من قوله - تعالى -: [وابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ] وكما لا يظن

أن ذلك دعوة إلى مقاطعة الدنيا أتبع (والله أعلم) لقوله: [ولا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ

الدُّنْيَا] وابتغاء وجه الله بالعمل محض الإيمان، فلا يذل المرء للمخلوقين أو يصبح

تحت رحمة أهوائهم إذا اتخذ وجوههم قبلة تحقيقاً لتوحد حب الدنيا في قلبه.

وبعد إشباع شهوة التسلط القاروني بالبغي، وإتراعها بالفرح وما في ذلك من

مكسب إعلامي يجعل من صاحبه حديث الصالونات ومحتكراً للصفحة الاجتماعية

في الجرائد والمجلات - بعد ذلك تمضي بنا الآيات إلى الخطر الرابع وهو الفساد

في الأرض: [وَلا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ] ، وكلمة الفساد ينطوي في أحشائها -

وينضوي تحت راياتها - شرور شتى، وخبائث عدة؛ لأن القارونية لا مكان في

معجمها المادي للأخلاق، بل لا ترى بأساً أن يكون في مقتل الأخلاق دخل مدار

الربح كما في عوائد الربا والفوائد كما في دخول الميسر والخمر والدخان

إلخ.

والأخطار الأربعة السابقة نتيجة منطقية لرأسمالية قارون التي تدين بالحتمية المادية - وهذه نقطة تلاقٍ مع الشيوعية - التي تجحد قدرة الله في الإعطاء والمنع، والفقر والغنى، وترد ذلك إلى سلطان العقل وثمرة العمل، وتبجح

قارون: [إنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي]- يمثل الأبوة الروحية لكل منزع مادي، فهو كما قال أحد المفسرين:" تَنَفَّجَ بالعلم وتعظم به ".

ومادام قارون يعتقد ألا فضل لله في إيجاد هذا المال فليس له - بالتالي - حكم

في مصاريفه وإنفاقه.

ولكن الآيات ردت على المادية القارونية بأن المادية التاريخية لم تعصم أهلها

- بالرغم مما في يدها من علم ومال -: [أَوَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وأَكْثَرُ جَمْعاً] وما على القوارين إلا التأمل في مصائر الثراء وفعائل المال بأصحابه؛ (إذ لو كان المال يدل على فضل لما أهلكهم) كما يقول القرطبي.

وكأن هذه القارونية قد أخذت على نفسها الميثاق ألا تُبقي عيباً من عيوب

الثراء الذي لم يؤسس على تقوى إلا وكشفته، ها هي الآيات تعرض لنا المنظر

الأخير للإفلاس القيمي عند قارون الذي لم يجد ما يدلل به على حضوره ثرياً إلا

خروجه في زينته (كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد) التي لم يكن الحاضر فيها منه

إلا مظاهرها المادية بعد أن فارقنا إنسانيته أو فارقتنا في سعير المظالم وسعار

الشهوات وسكرة الفرح.

ولقد نقلت الآيات قارون من الجريمة الفردية إلى الجريمة الاجتماعية أو بلغة

الأدب - من الشخص إلى المصطلح ومن الحدث إلى الرمز [1] لتصبح القارونية

عباءة لكل قارون معاصر أو ثري جَحود.

لم يكد قارون يفرغ من عرض ثروته، واستعراض زينته إلا وقد أشعل في

قلوب الدنيويين مشاعر التلهف وشعائر التأسف ألا يكون لهم مثل هذه الثروة: [يَا

لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ] ؛ فجاءت إغاثة اللهفان - شأنها في كل زمان ومكان -

من أهل العلم الذين حذروا من خطورة النظرة السطحية للأمور، والتي تريد

الدنيا للدنيا، ثم لفت أهل العلم الأنظار إلى [ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ] ، فذلكما

الأمران هما المطلوبان والمحبوبان ثواب الله والإيمان به. وفي ذلك تنبيه للدنيويين

على مدار التاريخ - وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها - أن الثروة قد تدلف

فجأة، ولكن ترويض النفس على الإيمان والعمل الصالح منزلة [وَلا يُلَقَّاهَا إلَاّ

الصَّابِرُونَ] .

وما أن يُنهي أهل العلم كلامهم؛ حتى تغيّب الأرض قارون في ظلماتها -

والعطف بالفاء -[فَخَسَفْنَا] يدل على سرعة الأخذ، والعقوبة بالخسف مناسبة

لسخف المعتقد. وهكذا أصبح هذا الثراء بالرشاء أجدر.

وفاجعة النهاية لا تقل في غناها المعنوي عن مأساة البداية، فهذه الثروة الهائلة

تغور في أعماق البسيطة بثوانٍ كأن لم تكن: [فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ والأَرْضُ ومَا

كَانُوا مُنظَرِينَ] [الدخان: 29] .

وإذا جاء أمر فإنه يترك كل القوى اللائذة بأهل المال رغبة أو رهبة - عاجزة

عن أي دور: [فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ ومَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ] وبقدر ما كان الانتقام فاجعاً لقارون كان مفاجئاً للدنيويين فقد انتزعتهم النهاية

من زيف أحلامهم، وسكرة مشاعرهم لتوقفهم على الأخذ الأليم؛ فيصرخون [وَيْ] لتبصر البصائر ما عجزت عنه النواظر، ويدركون ألا علاقة بين الهداية والثراء؛ فالله:[يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ويَقْدِرُ] .

كما يعترفون بفضل الله عليهم لتدارك رحمته - إياهم - بنصح أولي العلم:

[لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا] ، كما يخرجون بتجربة ناجحة عن مستقبل

الثراء الكافر: [وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الكَافِرُونَ] ، والتعبير بالمضارع [يُفْلِحُ] يفيد

ديمومة الحكم ما وُجدت أطراف القضية.

وإذا كان الفوز في الآخرة هو الفوز، فالطريق إليه يبدأ في الدنيا بتجنُّب

التجبُّر: [لا يُرِيدُونَ عُلُواً]، ومجانبة الفساد بكل مضامينه:[وَلا فَسَاداً] ،

ولئن قُدر للمبطلين أن يهيمنوا بعض الوقت فلن يتأتى لهم ذلك دائماً أو انتهاءً؛

لأن: [الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ][القصص: 83] .

(لا تنقل إلى صديقك ما يؤلم نفسه ولا ينتفع بمعرفته؛ فهذا فعل الأرذال،

ولا تكتمه ما يستضر بجهله؛ فهذا فعل أهل الشر) .

ابن حزم

(1) قال محمد بن حازم الباهلي - من شعراء العصر العباسى الأول (160- 215) :

(قارون) عندي في الغنى مُعدموهمتي ما فوقها مذهب

- وقال الأستاذ عصام العطار - من المعاصرين -:

يا لَلطغاة وما أشقى الأنام بهم عاشوا قوارين أو عاشوا فراعينا! .

ص: 55

الإبداع والتقليد عند مقلدي الغرب

محمد حامد الأحمري

صلة المسلمين بالعالم المعاصر في شتى أنواعها لم تعد مجهولة الآثار،

ونتائج هذه الصلة والتأثر بها، ما يتجاوز القدرة على التجاهل، فيعترف به

المتجاهلون والغافلون رغماً عنهم فلم يعودوا قادرين على نكران من يصنع ملابسهم

وسياراتهم وبعض غذائهم، ولكنهم في الجانب الآخر ينكرون أن يكون لعالم

الاستعمار أثر في شيء من حياتهم الفكرية والسلوكية وهذا الجانب هو ما نقصد

الحديث عنه هنا.

لقد اكتسبت الحياة الفكرية في الغرب خبرة طويلة في صراعها مع الدين،

ومرت قرون من الزمن الحاد المتوتر بين الدين ورجاله وبين غيرهم هدمت على

أثر ذلك عروش، ودحرجت آلاف الرؤوس، حتى كان للعلمانية النصر وأقامت

النظم التي تريدها.

وقد تركز عداء الدين في التعليم والثقافة الشعبية ثم الحكم فيما بعد ذلك.

إن الصراع كان في بدايته علمياً (العلم المادي التطبيقي) وفلسفياً، ثم كان

فيما بعد سياسياً، وترابطت هذه العوامل (السياسة) و (العلم) و (الفلسفة) في

إنتاج هذا العالم المشهود الذي طارد الدين جهده ولكن الدين لم يغب أبداً عن

المعركة حتى في أيامنا هذه والتي يروج أنصار " الليبرالية " أو الاتجاه التحرري من الدين انتصارهم وانهزام عالم الغيب والدين والخرافة أو ما يسمونه " اللامعقول ".

وإنه ليجدر بنا لمعرفة مكانة النصرانية الغربية أن نلاحظ الأحزاب

الديموقراطية المسيحية في أوربا، في ألمانيا، في إيطاليا، اليمينيون في فرنسا وما

أشارت إليه الانتخابات الفرنسية الأخيرة، فضائح القساوسة الأخيرة في أمريكا

(بيكر) و (سواجارت) التي كانت معلومة من قبل ولكنها استُخدمت في الوقت المناسب لأسباب عديدة البعض يعد منها إبعاد القساوسة عن الانتخابات والحكم في أمريكا.

وقد جاء نشر أكثر فضائحهم بعد أن رشح أحد القساوسة نفسه للانتخابات. ثم الكل يعلم دور البابا الحالي في بولندا - وهو من أصل بولندي - دوره في

مظاهرات واحتجاجات العمال في بولندا، وفاليسا الزعيم العمالي البولندي المعارض

للحكم الشيوعى إن هو إلا يد الكنيسة في المعسكر الشيوعي الشرقي، البابا ينفق

وقته في رعاية النصرانية ضد الشيوعية في أمريكا الجنوبية، وإفريقية وغيرها،

يقود التيار الكاثوليكي المتحجر في لعبة الدين والسياسة الواسعة في عالمهم.

يتضح مما سبق أن الحرب الضروس ضد الدين في أوربا وأمريكا وغيرها لم تنتهِ بعدُ لصالح العلمانية وهى بالطبع ليست في صالح الكنيسة، لكن كل منهما

مضطر للآخر، مضطر للحوار والاستفادة والاستغلال، والغرب - بلا شك - مقْدم

على عودة للدين لأسباب عديدة ليس هذا موضع تفصيلها لكن من هذه الأسباب

الفطرة الدينية التي فطر الله الناس عليها والتي غشى عليها لفترة من الزمن الوهج

العلمي والتعلق بالإنتاج الصناعي، ثم عاد العلم ليأخذ موقعه الصحيح يوماً بعد يوم

وما سببه من مادية جافة سئم الناس خشونتها وانفصامها.

وكذلك ازداد اهتمامهم بدراسة ظاهرة الإسلام، وكثرة البحوث والدراسات

حول ذلك؛ لاستكشاف أفضل الطرق لاحتوائه، إضافة إلى موجة الشباب

النصراني المتدين والتي تخرج في شكل دعاة متنقلين من مدينة إلى أخرى،

وينزلون مساكن الجامعات، ويقيمون الخيام للدعوة إلى الدين النصراني، ووجدت

مجموعات متدينة يرفضون المدنية الحديثة ويرفضون وجود أجهزة التلفزيون في

بيوتهم، ويمنعون أبناءهم من التعليم العام لما يرون في كل هذا من الانحراف عن

الدين. وهذه مجموعات جديدة في أمريكا عموماً لا علاقة لها بالأيمش الموجودين

في ولاية أوهايو ولا بالمورمون في ولاية يوتا. وهذه قضايا تؤرق الدول الملحدة

أو العلمانية، يؤرقها أن يسيطر الدين ويحكم، ويؤرقها الفراغ والإلحاد والشيوعية

أن تسود، فهي تحرص على وجود توازن مستمر بين هذه القوى المؤثرة في

المجتمع، وهى ليست قصيرة التجربة في هذا المضمار، لقد نضج التعامل العلماني

مع الديني منذ ما يزيد عن قرنين من الزمن، وعرف كيف يسخر الدين للسياسة،

ويركبه فيكون مطية ذلولاً يعرف كيف يتحكم في شموسها ونفورها لتكون طيعة

مسالمة أليفة.

هذه التجربة الخطيرة في التاريخ يمكن أن نصنفها على أنها اختراع عظيم

جداً يصدّر للعالم المتخلف كما تصدّر له الملابس الجميلة والسيارات الفخمة وهذا

اختراع فخم يقدم للعالم خدمات جليلة في نظرهم أَنَّى لأي جهاز آخر أن يؤديها؟ !

لعل العديد من ضحايا الاستكشاف السابق لا يعلمون بأنهم ضحاياه، إنهم

يسلمون بأن القلص (الإبل) قد هجرت وجاءت السيارة بديلاً قوياً وذهب البعير من

الواجهة، وقد ارتاح فعلاً فما عاد يرحل بليل، ولا يتأوه آهة الرجل الحزين. قسم

كبير من هذه الجمال ذهب إلى المتاحف الحيوانية ينعم ويرفه للفرجة والرؤية فقط،

ويمكن أن يتنزه عليه حول الأهرام وغيرها وليكون في عيون الغريب تحفة قد

تستحق النظر والإعجاب. ولكنه لا أهمية له ولا دور في حياة الناس.

إن سحب البساط من تحت الدين وتجريده من السلاح أحد الصادرات المهمة

من هناك إلى بلاد المسلمين، عكفوا على إنتاجها سنين وليالي وأياماً حتى جاءت

جاهزة. والذي نستيقنه أنه لا يمكن لهذه البضاعة أن تعمل عندنا لزمن طويل،

فبلادنا حارة لا تقوى بضاعتهم على مقاومتها سيأكلها الصدأ وتهوي بها الريح في

مكان سحيق.

طلائع الوهن والتبعية في بلدان العالم الإسلامي فرخت وتوسعت دائرتها من

أفراد ينادى بهم ويشنع عليهم، إلى ظاهرة اجتماعية تملأ هذه البقاع ويمكن أن

نستعير كلمة " طبقة " من مردديها لنقول إن طبقة في عالم المسلمين اليوم تستقر في

المدن عاشت في الغرب أو لم تعش، واعتادت الحياة الغربية وقيمها وآدابها فالحق

في بلادهم ما كان حقاً في الغرب، والباطل في الغرب باطل عندهم. أناس

مسلمون غالباً ما يقومون بأداء شعائر الإسلام واحترامه، ليسوا عملاء للغرب ولا

لحكوماته، قد يكرهون سيطرته وإذلاله للمسلمين، لكنهم مقهورون في أعماقهم

مغلوبون في نفوسهم، في أرواحهم وهممهم، راعهم بهرج الغرب ونظمه ورتابة

حياته وإشباع رغباته الواسعة، أعجبوا بحكوماته وديموقراطيته، انتشوا بهذه

الشهوات فعبدوها، فكل غريب عندهم جليل مقدم وكل شيء من عندهم بدائي

وحقير. يتمنون لبلادهم الخير ولكن ليس الذي أراد الله أو رسوله أن يكون خيراً،

إنما الذي علموه أو رأوه خيراً هناك فهو الخير هنا. هذا قطاع من خيرة شباب

الأمة تعلماً ومكانة يغري أوساط الناس وعامتهم إلى تقليده لمكانته الاجتماعية، لشهاداته، لأسلوب حياته الذي سموه تحضراً أو تمدناً، ولكنه في الحقيقة أجنبي

على كل حال.

هذا القطاع المقطوع من قيمه يقود الأمة للهاوية. إنه يؤخرها، ويعطل

مسارها، ويكبح انطلاقها، لما أصبح في حياته الفردية من عقد لا حصر لها.

والمجتمع الواهن يخادع هذا القطاع بضعفه، فيظن هؤلاء أنهم أقوياء وقدوات في

ديارهم، فيزيدون ترفعاً وتعالياً والتعالي عندهم هو الإغراق في التبعية والتقليد

للمجتمع الغالب، وهذه الفئة تقف سداً مانعاً دون نضوج الأمة ووعيها وتقدمها،

فهي ليست عدواً ولا تقف صراحة معه، وهى فيما تقول بل وتعمل أحياناً - تعادي

الغزاة وتحطم وهي تزعم البناء وتبذل كل جهدها لتكون بلادها وحياتها كأولئك وهي

لن تكون، إنها الفئة التي تحدث عنها سارتر في مقدمته لكتاب فرانتز فانون (معذبو

الأرض) [1] وهي الفئة التي تحدث عنها أرنولد توينبي، أما الأول فقال في

معرض حديثه عن أسلوب صناعة الفكر الشرقي في الغرب (سارتر يتحدث عن

مرحلة الفرد، ونحن نتحدث عن ظاهرة الجماعة، وهناك خلاف فيما نكتب عنه

وفيما يتحدث عنه سارتر، غير أن القضية في النهاية واحدة) يقول: (كنا نحضر

رؤساء القبائل وأولاد الأشراف والأثرياء والسادة من إفريقية وآسيا، ونطوف بهم

بعض أيام في أمستردام ولندن والنرويج وبلجيكا وباريس؛ فتتغير ملابسهم،

ويلتقطون بعض أنماط العلاقات الاجتماعية الجديدة، ويرتدون السترات والسراويل ويتعلمون منا طريقة جديدة في الرواح والغدو والاستقبال والاستدبار، ويتعلمون لغاتنا وأساليب رقصنا وركوب عرباتنا، وكنا ندبر لبعضهم أحياناً زيجة أوربية، نلقنهم أسلوب الحياة بأثاث جديد، وطرز جديدة من الزينة، واستهلاك أوربي جديد وغذاء أوربي، كنا نضع في أعماق قلوبهم الرغبة في أَوْرَبَة بلادهم، ثم نرسلهم إلى بلادهم. وأي بلاد؟ بلاد كانت أبوابها مغلقة دائماً في وجوهنا، ولم نكن نجد منفذاً إليها، كنا بالنسبة إليها رجساً ونجساً وجناً. كنا أعداءً يخافون منا وكأنهم همج

لم يعرفوا بشراً. لكن منذ أن أرسلنا المفكرين الذين صنعناهم إلى بلادهم، كنا نصيح من أمستردام أو برلين أو باريس (الإخاء البشري) ؛ فيرتد رجْع أصواتنا من أقاصي إفريقية أو الشرق الأوسط أو الأدنى أو الأقصى أو شمال إفريقية! كنا نقول:

(ليحل المذهب الإنساني أو دين الإنسانية محل الأديان المختلفة) وكانوا يرددون أصواتنا هذه من أفواههم وحينما نصمت كانوا يصمتون. ثم كنا واثقين من أن هؤلاء المفكرين لا يملكون كلمة واحدة يقولونها غير ما وضعنا في أفواههم، ليس هذا فحسب بل إنهم سلبوا حق الكلام من مواطنيهم.

هذا هو دور المفكر الذي يتشكل بالشكل الأوربي ويلعب في الدول الإسلامية

دور دليل الطريق في البلاد التي لم يكن المستعمر يعرفها أو يعرف لغاتها. وهو

السوس الذي عمل في الشرق من أجل تثبيت هذه المادة الثقافية والاقتصادية

والأخلاقية والفلسفية والفكرية للاستعمار الغربي داخل هذه الأشجار المورقة الأصيلة

(هذا هو السوس الذي كنا قد صنعناه وسميناه (المفكرين) كانوا عالمين بلغاتنا، وكان قصارى همهم ومنتهى أملهم أن يصبحوا مثلنا، في حين أنهم أشباهنا

وليسوا مثلنا، إنما نخروا من الداخل ثقافة أهلهم، وأديانهم القومية التي تصنع

الحضارات ومُثلهم وأحاسيسهم وأفكارهم الجميلة، وأصالتهم الأخلاقية والإنسانية،

وتحت أي شعار وباسم من؟ ، باسم مقاومة الخرافات أو مكافحة الرجعية أو

الوقوف ضد السلفية، وباسم أولئك المفكرين الأوربيين الذين قاوموا الرجعية

والكنيسة في القرنين السابع عشر والثامن عشر، أمثال غاليليو وكانت وديكارت

وجان جاك روسو وفولتير وغيرهم من الكُتاب الموسوعيين الذين ناضلوا في سبيل

الحرية، كانوا مفكرين بالفعل وأناساً بذلوا أرواحهم في سبيل الحرية - يعني

الحرية من طغيان الكنيسة وأصحاب الملك الإلهي - كانوا نوابغنا الفكريين وعلماءنا

العظام) [2] انتهى كلام سارتر. وكم كان كلامه معبراً عن هذه المرحلة العصيبة

في حياة المسلمين، وواخجلاً لأتباع سارتر في بلاد المسلمين! ؛ عبدوه في حياته،

وكادوا يهلكون لوفاته وسخروا أقلامهم ومجلاتهم وجرائدهم وكتبهم للثناء عليه وعلى

أفكاره التي سخر منهم فيها كما سبق [3] ، لكنه خلق الهزيمة والوهن والاستخذاء.

أما توينبى فيقول: (لم يكتفِ الأتراك بتغيير دستورهم - وهو شيء سهل

نسبياً في مجال الإصلاح الدستوري - بل قامت الجمهورية التركية الوليدة بخلع

المُدافع عن الدين الإسلامي - الخليفة - وألغت منصب الخلافة، وجردت رجال

الدين المسلمين وحلت منظماتهم، وأزالت الحجاب عن رأس المرأة، واستنكرت

كل ما يرمز إليه الحجاب، وأجبرت الرجال على ارتداء القبعات التي تمنع لابسيها

من أداء شعائر الصلاة الإسلامية بأكملها، وتبنت القانون المدني السويسري بعد أن

ترجمته إلى التركية، وطبقت قانون الجرائم الإيطالي، وذلك بفرض هذين

القانونين بعد التصويت عليهما في المجلس الوطني، وغيرت الأحرف العربية

بأحرف لاتينية، وهذا أمر لم يتم إلا بطرح القسم الأكبر من التراث الأدبي العثماني

القديم. ويجب على المراقب الغربي أن يراعي حدود اللياقة فلا يغالط ولا يسخر،

لأن ما يحاول المقلدون الأتراك القيام به هو تغيير وطنهم مما هم فيه إلى حالة كنا

نحن - منذ التقاء الغرب بالإسلام - ننتقدهم لعدم وجودها فيهم، وها هم حاولوا ولو

متأخرين إقامة صورة طبق الأصل لدولة غربية وشعب غربي. وعندما ندرك تماماً هدفهم الذي رموا إليه، لا نستطيع إلا التساؤل بحيرة: هل يبرر هذا الهدف حقاً

الجهد الذي بذلوه في صراعهم لبلوغه؟ !

والآن بعد أن تغير التركي بتحريضنا ورقابتنا، وبعد أن أصبح يفتش عن كل

وسيلة لجعل نفسه مماثلاً لنا وللشعوب الغربية من حوله، الآن نحس نحن بالضيق

والحرج ونميل إلى الشعور بالسخط والحنق، وأن التركي مهما فعل مخطئ في

نظرنا! ثم يقول: (إن حركة المقلدين متبِعة وليست مخترعة مبتدعة، لذا ففي

حالة نجاحها - جدلاً - لن تزيد إلا في كمية المصنوعات التي تنتجها الآلة في

المجتمعات الصناعية، بدل أن تطلق شيئاً من الطاقة المبدعة في النفس البشرية،

وهذه الحركة تزيد كذلك في أعداد المقلدين وتضخم المستعبدين) [4] .

(1) لم نترجم مقدمة سارتر للكتاب في الطبعة العربية كاملة، ولكن ترجمت مقاطع فتط، منها النص المشار إليه.

(2)

فاضل رسول " هكذا تكلم علي شريعتي "، دار القلم، الطبعة الثانية عام 1983م، ص121- 122.

(3)

زار سارتر مصر في العهد الدابر مع جارودي - حين كان شيوعياً - فكان حدثاً لدى الإعلام الموتور هز القطر وصعد محمد حسنين هيكل ليستقبله على باب الطائرة، ونودي خلال الزيارة بعبد الرحمن بدوي رأساً للوجوديين المصريين إثر إخراج كتابه عن الوجودية، ثم توجه مع " صديقته "" سيمون دي بوفوار " إلى " إسرائيل "، وفي باريس يخرج في مظاهرات مؤيدة لليهود والإسرائيليين، ويجمع لهم التبرعات، وحوادثه الفردية فقط تكفي لإدراك مدى استحقاقهم السخرية منهم وهو يجمع الرصاص لقتلهم، في حين يركعون له ولكذبه ومجونه وسخريته ويجعلون من عجوزه الإباحية مثالاً للتقدم والحرية والتطور.

(4)

محمد قطب: مفاهيم ينبغي أن تصحح، دار الشروق، 1407هـ، ص357 -360 بتصرف، وهذا نقلاً عن كتاب " الإسلام والغرب والمستقبل " محاضرات لتوينبي في عامي 1947-1952 ترجمها د نبيل صبحى، دار العربية للطباعة والنشر، بيروت، عام 1389هـ/1969م، ص50-53.

ص: 60