الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسلمون والعالم
المجاعة الفكرية في إفريقيا
الحسن عمر الفاروق جارا
قد لا نحتاج إلَاّ إلى جهد قليل ليتبين لنا أن الدول المتنافسة على إفريقيا قد
وضعت القضاء على الوجود الثقافي على رأس القائمة التي تضم أهدافها
الاستراتيجية - عندما شرعت في احتلال المناطق الإسلامية - لأن ذلك الوجود
الثقافي هو الدرع الواقي للشعوب المسلمة.
وكانت الدول المتنافسة تعي وتدرك الدور الخطير والحيوي الذي يمكن أن
تلعبه قنوات التواصل الممتدة بين منطقة غربي القارة، ودول شمال إفريقيا التي
يُنظر إليها على أنها المعبر الذي بواسطته وصلت حركة المد الإسلامي منطقة
جنوب القارة.
وبناء على هذا التحليل كانت أولى الخطوات هي سد المنفذ الجنوبي الذي
يمثل بوابة ثقافية مهمة بالنسبة لغرب إفريقيا، وذلك إذا نظرنا إلى الموضوع في
ضوء العلاقات الثقافية النشطة التي كانت قائمة بين المنطقتين كما سبق ذكره وإلى
هذه الحقيقة أشار الدكتور عبد الله عبد الرزاق عندما قال: (كانت الموجة
الاستعمارية تتركز في المقام الأول على المسلمين في شمال القارة، باعتبارهم
الحصن الحصين، والدرع المتين الذي يدافع عن الإسلام وعن المسلمين
…
) [1] .
فالعنصر الثقافي في كل الأحوال يبقى عاملاً حاسماً؛ حيث لعب دوراً مزدوجاً
تَمَثَّلَ في كونه رأس الحربة التي وظَّفها الاستعمار بشكل كبير بغية إيجاد موطئ قدم
له في ربوع هذه البلاد، والتوغل في النسيج الاجتماعي لمسلمي غرب إفريقيا،
محطِّماً أسسهم الحضارية.
إن الأداة التي استخدمها الاستعمار لاختراق المنطقة كانت تتمثل في المحاور
الثلاثة:
- الكنيسة. - المدرسة. - الجيش.
وكانت المدرسة أكثر الثلاثة خطورة، باعتبارها الوسيلة التي أبقت على
الوجود الاستعماري حتى وقت رحيله؛ بينما كان دور الجيش ينحصر في التركيع
الآنيِّ [2] ، ثم كان العنصر الثقافي هو الأداة التي استُخدمت مرة أخرى عند
الرحيل للمحافظة على الولاء، ولرعاية المصالح عندما أصبح من المتعذر الإبقاء
على الوجود المادي المباشر؛ وفي الجانب المقابل وعى المسلمون في وقت مبكر
جداً خطورة الهجمة الثقافية التي كانت تستهدف في المقام الأول كيانهم الحضاري.
ووُلد ذلك الوعيُ الإيجابي الذي تزايد نضجاً مع مرور الزمن وشراسةِ الهجمة؛
ليكون رد فعلٍ عملي على تلك الهجمة.
وقبل تناوُل الأثر الثقافي لتنافُس الدول الكبرى في الحقبتين الأولى والثانية،
ينبغي أن نوضح أن هذا الأثر قد تتفاوت درجات عمقه من مجتمع لآخر؛ تبعاً
لظروف خاصة، ولعوامل معينة، مثل: درجة الوعي الشعبي، أو وجود زعامات
قومية ذات ولاء للوطن، ثم طبيعة القوة الأجنبية المسيطرة
…
كما قد يكون هذا
التأثير في بعض جوانبه في حالة من التمدد مما يجعل عملية تتبعه مهمة لا تتسم
بالسهولة، وذلك تبعاً للنظرية القائلة بأن منطقة غرب إفريقيا مرشحة لمزيد من
التنافس، مما يعني صوراً أخرى من التأثير الخارجي، وتنبني هذه النظرية - التي
ترشح المنطقة لأن تشهد مزيداً من التنافس مما يستتبع مزيداً من التوتر، وصوراً
أخرى من الآثار السلبية - على مؤشرات كثيرة منها:
- أن المنطقة تختزن أرصدة جيدة من ثروات باطن الأرض.
- الوضع الاستراتيجي الذي يزداد أهمية في ضوء المستجدات العالمية.
حركة الوعي الديني التي تستقطب قطاعاً عريضاً من الشباب المثقف عبر
المؤسسات الأكاديمية ذات الجذور الغربية بشكل خاص.
ونستطيع حصر برنامج التخريب الثقافي الذي تبنته الدول المستعمرة
والمهيمنة، في المحاور الرئيسة الآتية:
نسف أسس المؤسسات (المجالس العلمية والثقافية) التي كانت قائمة وتؤدي
دوراً فكرياً واجتماعياً متميزاً، وذلك باعتبارها مصدر الإشعاع الثقافي الوحيد الذي
كان في أيدي المجتمعات المسلمة بالمنطقة عن طريق تخريج الأئمة والقضاة
والمثقفين، وكان مشروع التخريب الذي تم إعداده يتكون من شقين:
الشق الأول: الحيلولة دون نمو وتطور هذه المؤسسات على المستويين:
الكمي، والكيفي، بمعنى الحد من انتشارها، وممارسة ضغط نفسي ومادي على
القائمين عليها من أجل جعل المستوى العلمي يتجه نحو الانحدار تمهيداً للقضاء
عليها عن طريق سد المنافذ العلمية والمصادر الثقافية كما سيتضح لاحقاً.
الشق الثاني: السعي الجادّ إلى جعل المدرسة الاستعمارية التي كانت ذات
مضمون تنصيري صِرف تحل محل المؤسسات الإسلامية الثقافية (المجالس) لأنهم
كانوا يشعرون تجاه هذه الأخيرة بقلق كبير من جراء نفوذها الاجتماعي، ودورها
في خلق الوعي الجماهيري، وصَقل الرؤية الوطنية التي تنادي بالمقاومة ورفض
الهيمنة الخارجية، وفي هذا الإطار جاءت فكرة تأسيس المدارس الثلاثة المعروفة:
تمبكتو (بمالي) ، وبُتَلْميت (بموريتانيا) ، وسان لويس (في السنغال) .
ولقد كان لهذه المدارس أثر سيئ على مستقبل الثقافة الإسلامية في المنطقة؛
يستنتج ذلك من الاستراتيجية التي تم رسمها، والأهداف التي سعت إلى تحقيقها:
عندما بدأت المدرسة الفرنسية تأخذ طابعها النهائي في إفريقيا الغربية كان في تلك
البلاد عدد كبير من المدارس العربية التي تأسست في الماضي، وبعضها كان له
شهرة كبيرة وقديمة مثل مدرستي: تمبكتو - وجنى، اللتين بلغتا مرتبة الجامعات
في أيام الأسكيين على الخصوص؛ ولم يكن من صالح الاستعمار الفرنسي إغلاق
تلك المدارس التي أُنشئ لها فروع في عديد من الجهات، كما لم يكن من صالحه
أبداً تركها تؤدي دورها كما كانت تعمل في الماضي [3] .
وأما المخطط الذي وضع لتسير عليه هذه المدارس لتصل إلى النتيجة التي
تخدم مصالح المستعمر فقد ارتكز على المحاور الثلاثة الآتية:
المحور الأول: تغيير برنامج هذه المدارس تغييراً نهائياً: فلا تصبح جامعات
إسلامية، وإنما مدارس فرنسية عربية، يغلب فيها اللسان الفرنسي والعلوم الفرنسية
أكثر فأكثر، وذلك على حساب اللغة العربية، والعلوم العربية (الثقافة الإسلامية) .
المحور الثاني: فرض حصار ثقافي شامل على المنطقة: وسارت هذه الخطة
في خط موازٍ لخطة تخريب المؤسسات الثقافية الإسلامية؛ لأنها هي المكملة لها؛
وتمثل الحصار في سدِّ تلك القنوات التي كانت بمنزلة روافد ثقافية تمد الحركة
الثقافية في المنطقة بما تحتاج إليه من مصادر؛ وكان من بين الوسائل العلمية التي
استخدمت: فتح مكاتب للمراقبة بحيث يجب أن تمر من خلالها كل المطبوعات
التي يتم إدخالها إلى المنطقة، وكان الذين يشرفون على جهاز المراقبة غالباً ما
يكونون من اليهود؛ وفي خطوة مرادفة تم السماح بدخول نوعٍ معين من الكتب
لاستغلال ما تحمله من أفكار وآراء تتعارض مع الخط الإسلامي الأصيل الذي
يرفض الخضوع للهيمنة الخارجية التي تحمل في نظر مسلمي المنطقة - وفي
الحقيقة كذلك - طابع الكفر وتريد فرضه عليهم بالقوة [4] .
ويلخص أحد أقطاب الاستعمار الفرنسي موقفهم بشكل لا لبس فيه عندما
يصرح بقوله: (نحن لا نعترف في غرب إفريقيا إلا بثقافة واحدة، وهي
ثقافتنا) [5] .
المحور الثالث: يتمثل في ضرب اللغة العربية باعتبارها وسيلة فعالة في
المعركة الثقافية الدائرة بين الجانبين: (فلقد بدأ الصراع بين الثقافتين: العربية
(الإسلامية) ، والأوروبية (الاستعمارية) في القارة الإفريقية غير العربية (غرب
إفريقيا خصوصاً) ، وكان محل التنازع (اللغة) التي هي وسيلة نقل الثقافة؛ فلقد أثر
الاستعمار تأثيراً كبيراً على ثقافات الشعوب التي يحتل أراضيها قبل أن تنال هذه
الشعوب استقلالها، ولجأ إلى نوعية من الأساليب الثقافية لفرض نفوذه على
المناطق التي يتحكم في مصيرها، ثم اتبعت فرنسا سياسات الدمج والاستيعاب على
المستويين اللغوي والثقافي) [6] .
ولقد لخص الحاكم الفرنسي لمنطقة غرب إفريقيا سياسته تجاه اللغة العربية
عندما قال بالحرف الواحد: (نحن نريد أن نبعد التشجيع على استخدام اللغة
العربية) [7] ويجدر هنا تسجيل الملاحظات الآتية عن وضعية اللغة العربية:
1 -
إن اللغة العربية كانت اللغة الحية المكتوبة الوحيدة التي كانت تعرفها
المنطقة يوم حل بها الاستعمار، وبذلك كانت إلى جانب كونها الأداة الثقافية الوحيدة
لغة الإدارة والوسيلة الوحيدة في مجال التبادل الاقتصادي حتى لغير المسلمين.
2 -
بحكم المركز المتميز الذي كانت تحتله اللغة العربية اضطر الاستعمار
إلى استعمالها من خلال استراتيجية ذكية استهدفت الاستفادة منها لتثبيت أركان
وجوده مع وضع خطة للقضاء عليها تدريجياً.
3 -
تحمل اللغة العربية بالنسبة لسكان المنطقة بما فيهم غير المسلمين سجلاً
تاريخياً ضافياً، يتصف بالحيوية ويشمل الفترتين: ما قبل الاستعمار وما بعده،
ويمثل مصدراً تاريخياً فريداً [8] .
لهذا كله كان من الأمور الجوهرية أن يتم توجيه ضربة قاضية للغة العربية،
وزحزحتها عن مكانتها العالية في النفوس، وفي الواقع العملي؛ لكن ذلك لا يكون
ارتجالاً، إنما يتم وفق خطوات محسوبة بدقة كما يقول جورج هاردي J.
Hardie: (وبكلمة واحدة: فإن اللغة العربية لم يصبح لها من ذلك التاريخ في
برنامج المدارس الفرنسية العربية (E. F. A) أكثر من الدور والمكانة التي
تحتلها اللغات الأجنبية في الثانويات الفرنسية) [9] .
ولتكون سياسة ضرب اللغة العربية في المنطقة نافذة تم العمل على ناحيتين
أساسيتين:
أولاً: تهميش أصحاب الثقافة الإسلامية ذات الجذور العربية (اللغة) ووضعهم
في حالة مادية متدنية ومزرية داخل مجتمعهم حتى يردع ذلك من تسول له نفسه تعلم
اللغة العربية [10] . وتكاملت هذه السياسة مع غيرها من الخطط التي تهدف كلها
في النهاية إلى نسف دعائم الثقافة الإسلامية في المنطقة مستهدفة الوجود الإسلامي
بشكل عام على المدى البعيد.
وكما كان متوقعاً فإن الاستعمار اكتشف حقيقة مهمة، وهي مدى شدة ارتباط
الثقافة الإسلامية، وتعلق مسلمي غرب إفريقيا برافدها الأصلي (اللغة العربية)
فكان لا مفر من اللجوء إلى القوة والقانون معاً، فبدأت حملة سن التشريعات التي
تسعى إلى جعل سياسة الحصار الثقافي أمراً واقعاً، فإن تغلب المسلمون على
الألاعيب الاستعمارية أرغموا على الرضوخ لقوة القانون أو لقانون القوة.
يقول فروليش FROLECH: (الرخصة التي كان يخضع لها أولئك الذين
يرشحون لفتح مدرسة عربية مرفوضة أحياناً
…
) [11] .
ثانياً: محاولة تحديد حركة الابتعاث تمهيداً لإيقافها نهائياً؛ ففي العقود الثلاثة
الأخيرة من الوجود الاستعماري في المنطقة نشطت حركة الابتعاث إلى البلدان
الإسلامية لطلب العلم بعد أن كان هذا النوع من الرحلات الثقافية ينحصر في دائرة
المنطقة المحيطة بموريتانيا والسنغال ومالي، وكان الشباب يسعى إلى الوصول إلى
التعليم النظامي الذي يقتصر داخل المنطقة على المؤسسات التعليمية الغربية.
ويضاف إلى ذلك أن وطأة التضييق على المؤسسات التقليدية بدأت تشتد؛
فكان لا بد من البحث عن مُتنفس جديد، وهنا سارع الاستعمار مرة أخرى إلى
محاولة سد هذه القناة التي كان يرى فيها الخطر الداهم، وخاصة في ضوء تلك
الحركة الثقافية التي كانت تزداد قوة وتقوم على دعامتين:
- الدعامة الأولى: عودة إلى أصول الإسلام وتبنيه باعتباره مشروعاً
حضارياً في كلٍ من المشرق العربي والشمال الإفريقي.
- الدعامة الثانية: تزعم الاتجاه الذي يرى في الاستعمار والدول الغربية
عموماً مصدر الشرور التي كان يُعاني منها العالم الإسلامي، وخاصة مسلمي منطقة
غرب إفريقيا، ومن ثَمَّ انطلق في تعامله معه من مبدأ الرفض الصارخ، وما يتبع
ذلك من صور المقاومة.
وفي الحقيقة فإن طبيعة المشكلة كانت تقتضي التركيز على التخريب الثقافي
الذي مارسته الدول الأوروبية بشكل عام دون مراعاة للفواصل والخصوصيات التي
تتميز بها كل من الحقبتين: الأولى: الاستعمار المباشر. والأخرى: ما يطلق عليه
بعض الكتاب الذين عالجوا المسألة: حقبة التنافس؛ وذلك نظراً لأن بعض شركاء
الاستعمار لا يزالون أطرافاً في اللعبة وبشكل أخص (فرنسا) .
وأما إذا حصرنا الحديث في إطار الحقبة الثانية (التنافس) فيمكننا أن نجد
صورة الموقف على النحو الآتي:
- رأينا فيما سبق أن التغير الجذري في الإشكالية هو نزول قوى جديدة لتحتل
الساحة وتكاد تهيمن عليها في بعض أجزاء المنطقة، مما يجعل البعض يتصور أن
التنافس قد انحصر داخل قطب ثنائي هو الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي،
ويمكن اعتبار الولايات المتحدة إلى حد ما امتداداً للثقافة الإنجليزية التي كانت
بريطانيا تمثلها، ثم بدأ ظلها ينحسر رويداً رويداً، بينما مثَّل الاتحاد السوفييتي -
آنئذٍ - ثقلاً جديداً وخطاً منفصلاً، وعاملَ تنافسٍ خطير في مواجهة المعسكر الغربي
عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً.
وبالرجوع مرة أخرى إلى مرحلة التكالب ابتداء من مؤتمر برلين (B.
CONERENCE) بغية فهم التركيبة الجديدة التي ولدت في حقبة التنافس التي
ليست في الواقع إلا نتيجة مباشرة لحقبة الاستعمار المباشر بمراحله المختلفة، نجد
النتيجة المحزنة بالنسبة لإفريقيا عموماً وجزئها الغربي خصوصاً، والتي تمخض
عنها المؤتمر عندما تم تقاسم المنطقة على طريقة توزيع التركة، بعد جرد
الموجودات. ويتضح أن الجغرافية السياسية للمنطقة تشكلت من جديد بصورة
تجعل ثلاث لغات عالمية: (الفرنسية - الإنجليزية - البرتغالية) تحمل ثقافات
مختلفة وتنطلق من أسس فكرية متباينة بالرغم من القاسم الديني المشترك، وتتحرك
داخل منطقة لا يتجاوز قطرها بضعة آلاف من الكيلومترات المربعة، وكان مستوى
التواصل بين شعوبها يكاد يصل إلى درجة الشعب الواحد، كما نرى الوضع في
مثلث: (غينيا بيساو - وجامبيا - والسنغال) .
لكن مأساة مسلمي المنطقة لم تكن لتنتهي عند هذا الحد، وإنما جاءت
الشيوعية لتحل محل الثقافة البرتغالية والفرنسية في كل من غينيا بيساو، وغينيا
كوناكري، وإلى درجة ما في جمهورية مالي عقائدياً واستراتيجياً مع بقاء اللغتين
البرتغالية والفرنسية محلهما، مما ولَّد مزيداً من التنافس والتمزق الثقافييْن في
صفوف المسلمين بشكل أخص.
وفي حقبة التنافس عملت الدول المشتركة في اللعبة في اتجاهات رئيسة أربعة
يمكن توضيحها في الآتي:
1 -
ما يمكن أن يوصف بـ (التصدير الثقافي) ، وهو ما يعني إغراق
المنطقة بصور مختلفة من الدعاية الثقافية القائمة على الترويج، ويكاد الاتجاه
الأمريكي يهيمن على الموقف في هذا الجانب، ويمكن إعطاء المثال على ذلك:
التعدد الكبير في الأفلام الأمريكية التي تقدمها التلفزيونات في المنطقة في بلد
فرنكوفوني مثل: غينيا وغيرها، وهكذا أصبحت دعاية (السوبرمان) الأمريكي
تلقى صدى واسعاً في أوساط الشباب المسلم، وتؤثر في سلوكه بشكل ظاهر،
ويضاف إلى ذلك الموسيقى الأمريكية (أنغام الديسكو) إلى جانب تداول بعض
المصطلحات الأمريكية ذات الدلالات الخطيرة بين الشباب والتي خلطوها باللغة
التي يتحدثون بها سواء كانت فرنسية أو محلية [12] .
ويضاف إلى ذلك موجات القنوات التلفزيونية التي بدأت تغزو الفضاء
الإعلامي في المنطقة والتي للجانب الفرنسي منها نصيب الأسد منها (قناة أوريزون
Canal Horizon: قناة بليس (أي +) Canal Plus t.f.5.
2 -
تشكيل منابر ثقافية (روابط) ذات مضمون حضاري، وأهداف سياسية
وعلى الأخص: رابطة الدول الناطقة باللغة الإنجليزية (الكومنولث)[13] ثم جاءت: مجموعة الدول الناطقة باللغة الفرنسية (الفرنكوفونية Francophone)[14]
رداً على هذا التحدي، ورأت الولايات المتحدة بدورها في هذه الخطوة خطراً يجب
احتواؤه، فتبنت أسلوباً مماثلاً تمثَّل في اللقاء الذي جمع عدداً كبيراً من الدول
الإفريقية والأفارقة الأمريكيين، وتم عقد اللقاء الأول بساحل العاج عام 1992م.
ثم نُظِّم الملتقى الثاني بجمهورية الجابون في صيف 1993م، ولوحظ
الاهتمام الكبير والدعاية الواسعة اللذين حظي بهما الملتقى سواء من جانب الإدارة
الأمريكية وهو ما بينه مستوى الوفد الممثل لها، أو من قِبَلِ الصحافة العالمية التي
غطت فعاليات الملتقى، وفي ذلك الملتقى حُدّد موعد اللقاء الثالث الذي قُرِّر أن يتم
في لاغوس بنجيريا عام 1995م [15] .
ونشير هنا إلى الدور الخطير الذي تلعبه: Association
collaboration cltrlle et TECHNIQUE (A. C. C. T) وكالة
التعاون الثقافي والفني التابعة للفرنكوفونية [16] .
3 -
الابتعاث: ولقد استفاد الاتحاد السوفييتي والمعسكر الشرقي عموماً يومئذٍ
من هذه السياسة التي نشطت بشكل ملفت للنظر خلال حقبتي الستينيات والسبعينيات، وكذلك تميز الخط اليساري بالتغلغل إلى حد ما داخل الوسط الشعبي عن طريق:
- استغلال الطبقة المتوسطة التي تضم المدرسين وصغار الموظفين التي
كانت على اتصال مباشر بالجماهير نتيجة وجودها في الأرياف والقرى.
- توظيف الفنون الشعبية، كالأغاني الفولكلورية، والمسرحيات، وكان لهذه
الوسيلة أثر كبير في جعل الشباب ينتقد بعض المعتقدات الدينية باسم الثقافة -
كوضع المرأة والمساواة والحرية.
4 -
ربط الدعم الاقتصادي والتنموي بالمصالح الثقافية، ويشتد التنافس في
هذا المجال بشكل فريد بين الولايات المتحدة وفرنسا، حتى إن الأمريكيين
ليضطرون - نتيجة الثقل الذي تمثله (الفرنكوفونية) في غرب إفريقيا [17] أن
يلجؤوا إلى اللغات واللهجات المحلية ويتبنوا البرامج لدعمها للحد من النفوذ الفرنسي؛ ثم لتحقيق هدف تنصيري في الوقت ذاته. وتجدر الإشارة إلى الدور الذي تلعبه
كل من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (U. S. A. I. D) International. Development؛ وفيالق السلام الأمريكية (CORPS DE PAIX) في
دول غرب إفريقيا، وقد تم إنشاؤها أساساً عام 1961م للعمل في مجال التعليم
والتدريب في دول ما وراء البحار؛ وفي هذا المجال أيضاً لم يتخلف الاتحاد
السوفييتي عن منافستها، وقد أراد أن يستغل بيعه صفقة الأسلحة لنيجيريا، فأرسل
آلاف الطرود الملأى بالكتب العربية التي تم توزيعها بواسطة (جمعية الصداقة
الروسية - النيجيرية) ومن بينها كتاب بعنوان: (الإسلام، نشوءه ومستقبله) الذي
ألفه الملحق الروسي (ي. كليموتنش) وطبع في موسكو عام 1968م، وفيه شتم
وإنكار لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد لاقى استنكاراً واسعاً من رجال العلم
والثقافة في نيجيريا، لما تضمنه من أفكار هدامة [18] .
ويمكننا رسم صورة للنتائج المباشرة التي تمخض عنها هذا التنافس على
الوضعية الثقافية لمسلمي منطقة غرب إفريقيا:
- الحصار الفكري والمصادرة الثقافية اللذيْن أديا إلى ضياع قطاع عريض من
الشباب المسلم الذي تغربت أخلاقه، وسلوكياته ونظرته إلى المجتمع من حوله؛ ثم
لما تسلم السلطة قاد سفينة المجتمع بعيداً عن المحيط الإسلامي الذي يمثل إطاره
الصحيح.
- التبعية الثقافية التي أصبحت واقعاً لا مفر منه؛ فالشاب المسلم في المنطقة
يخرج من عداد المثقفين ما لم يتحدث بإحدى اللغات الأجنبية.
- نشوء ما يمكن أن نسميه بثقافة (الدجل) التي انتشرت بفعل الحصار
الفكري الذي استمر لفترة طويلة، تم فيها نشر عدد كبير من الكتب التي تعتبر ذات
مفعول ثقافي مخدر؛ من ذلك: كتب الشعوذة، والطلاسم، والفكر الصوفي
المتطرف.
- تواري اللغة العربية عن الساحة الثقافية، لصالح اللغات الأخرى مما أدى
إلى خلل ثقافي كبير في أوساط المسلمين، باعتبارهم الضحايا المستهدفين من
المؤامرة؛ وذلك لأن اللغة العربية أصبحت في ذيل القائمة التي تضم اللغات
الأجنبية، كما أشار إلى ذلك جورج هاردي.
- تفشي الأمية، وانتشارها بمعدلات وبائية بين صفوف المسلمين، مقارنة
مع الأقليات المسيحية التي فتحت لها المدارس التنصيرية أبوابها، في حين تم
تدمير المؤسسات التعليمية الإسلامية، أو تفريغها من محتواها.
ويمكن هنا إعطاء هذا النموذج الذي له دلالة كبرى:
- في سنة 1960م تم القيام باستفتاء في المناطق الريفية بالمنطقة، فوجد أن
نسبة 25% من السكان يعرفون القراءة والكتابة بالعربية، ولكن ما إن جاءت سنة
1968م، حتى انقلب الوضع نتيجة أن المتعلم باللغة العربية لم يعد يعتبر مثقفاً.
ولقد استفاد أعداء المسلمين من رفض المدارس التنصيرية والعلمانية لمن
يعرفون اللغة العربية لفترة طويلة، وامتدت هذه النظرة الرافضة حتى نهاية
الستينات، وبداية السبعينات في مناطق كثيرة.
وما كان ذلك إلا لقطع الروابط الثقافية والروحية التي كانت تربط المسلمين
في المنطقة بإخوانهم خارجها. وكان ذلك هدفاً رئيساً لاستراتيجية الحصار الثقافي،
وتشجيع دائرة الانحرافات العقائدية وتوسعتها على المستوى الشعبي، وقد أدى ذلك
إلى انتشار موجة من الإلحاد بين الشباب المسلم الذي دخل الجامعات والمعاهد العليا
التي كان للفكر الماركسي في فترة الستينات والسبعينات شبه الهيمنة المطلقة عليها.
(1) إبراهيم، عبد الله عبد الرزاق، المسلمون والاستعمار الأوروبي لإفريقيا، ص10.
(2)
باه، محمد سعيد، اللغة العربية والصراع الحضاري، (مخطوط، ص 27) .
(3)
زبادية، عبد القادر، العلاقات العربية الإفريقية، دراسة تاريخية ص 433 وما بعدها.
(4)
سيلا، عبد القادر، المسلمون في السنغال، ص 90.
(5)
سيلا، عبد القادر، المسلمون في السنغال، ص86 بتصرف.
(6)
سليم، رجاء إبراهيم، التبادل الطلابي بين مصر والدول الإفريقية، ص 28-29 عن: لويس عوض، الاستعمار الجديد ص232،.
(7)
باه، محمد سعيد، اللغة العربية والصراع الحضاري (مخطوط، ص 13) .
(8)
باه، محمد سعيد، ص 2 بتصرف.
(9)
زبادية، عبد القادر، العلاقات العربية الإفريقية، ص434.
(10)
باه، محمد سعيد اللغة العربية والصراع الحضاري، ص 4-5.
(11)
سيلا، عبد القادر، المسلمون في السنغال، ص 89.
(12)
أنغام الديسكو، أفلام رامبوا، وسوبرمان.
(13)
الكومنولث البريطاني: يضم واحدا وعشرين دولة إفريقية بجانب دول أخرى غير إفريقية ناطقة باللغة الإنجليزية وتعتبر اللغة الإنجليزية أكثر اللغات الأوروبية انتشارا بها، حيث كانت مستعمرات إنجليزية، وتضم قرابة نصف سكان القارة الإفريقية، وبعد حصول هذه الدول على استقلالها كان الاهتمام الرئيسي لبريطانيا هو العمل على تدعيم علاقات قوية بينها وبين هذه الدول التي كانت مستعمرات لها، وكان إحدى هذه الوسائل الكومنولث البريطاني انظر Claude، Phillips، The African Political Dictionnary، Ibid، 173.
(14)
دول الفرنكوفونية: تضم أربعا وعشرين دولة إفريقية كانت مستعمرات فرنسية وتنتشر بها اللغة الفرنسية وتعتبر اللغة الرسمية بجانب لغة أو اثنين في بعض هذه الدول، وتضم ثلث سكان القارة الإفريقية.
(15)
انظر تفاصيل هذه القمة في: AFRICA INTERNATIONAL، (N 263) Juillet - Aout، (Article) Black Connection En Couleur وكانت القمة الثالثة بلاغوس نيجيريا عام 1995م أما الأولى فكانت بأبيدجان وأما الثانية فكانت بليبرفيل.
(16)
استقينا هذه المعلومات من خطة بحث لمحمد سعيد باه بعنوان: (الفرنكوفونية: منبر سياسي جديد، أم هجمة حضارية) .
(17)
سليم، رجاء إبراهيم، التبادل الطلابي بين مصر والدول الإفريقية، ص 29 عن: Claude، Phillips The African Polit ical Dictionnary P Ibid pp 180-181.
(18)
خليل، عماد الدين، مأساتنا في إفريقيا، الحصار القاسي، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1401هـ، 1981م، ص100-101.
المسلمون والعالم
حمَّى سنة 2000
ألِهذا يهيِّئون العالم؟ !
عبد العزيز كامل
بعد أن وصلت سلسلة مقالات (حمى سنة 2000) إلى هذه الحلقة. رأت أسرة
تحرير (البيان) أن يضيف الكاتب إليها ما لم يكن له متسع في الحلقات السابقة،
لتتحول السلسلة بعد ذلك إلى كتاب بالعنوان نفسه (حمى سنة 2000) ، يصدر قريباً
إن شاء الله.
(إنني مؤمن من كل قلبي أن الله يرعى أناساً مثلي ومثلكم لإعداد العالم لعودة
ملك الملوك وسيد الأسياد) .
بهذه العبارة اختصر الرئيس الأمريكي الأسبق (رونالد ريجان) الإطار العقدي
الذي يحكم تفكير كثير من قادة السياسة والفكر والدين في الغرب، وسواء كان
هؤلاء الزعماء من اليهود أو من النصارى؛ فإن القاسم المشترك بين اهتماماتهم هو
(التهيئة) ؛ نعم التهيئة والإعداد لقدوم المنتظَر الموعود!
ولو كانت هذه العبارة التي قالها ريجان [1] قد صدرت من واعظ في كنيسة
أو حاخام في كنيس لقلنا: إنها من العبارات التي تصوغها العواطف في لحظات
الانفعال الروحي، أو الافتعال الحماسي؛ ولكن العبارة صدرت من شخص كان هو
الرجل الأول في العالم منذ عقد واحد من الزمن. إن العالم يعيش منذ قرن كامل في
ظل سيطرة تلك القوى التي تؤمن كما يؤمن ريجان بأنها تُعِدُّ العالم لمقدم المسيح.
وإذا كان أمثال ريجان يُعِدُّون العالم كما يقولون لاستقبال المسيح الذي يؤمن
به النصارى، فإن القوى التي أوصلت ريجان وأشباهه إلى الحكم تعمل هي
الأخرى لإعداد العالم لمقدم مسيح آخر؛ فلليهود أيضاً مسيحهم المنتظر الذي
يجتهدون في هذا العصر لتجهيز الدنيا لاستقباله.
الألفية وعقيدة الإعداد:
وإيمان أهل الديانتين بأن هناك منتظراً وشيك القدوم وأنه لا بد من التهيئة لهذا
القدوم هذا الإيمان يرجع إلى عقيدة مشتركة بينهم تعرف بـ (العقيدة الألفية) وهي
ترجمة لكلمة (Millenarianist) ومعناها: محتوى الألف، وهي في الأصل عقيدة
يهودية يؤمن أصحابها بأنه على رأس كل ألف لا بد أن يشهد العالم أحداثاً كبرى،
وستظل تتتابع حتى تجيء الألف الأخيرة التي يأتي بصحبتها (الملك الألفي) الذي
يحكم العالم كله بعد فترة من الاضطرابات والحروب والفتن؛ فالمسيح سيعود حسب
معتقد اليهود قبل يوم السبت، أي: قبل اليوم السابع الذي يعني الألف السابعة من
عمر الدنيا، وجماعات اليهود تعتقد أننا نقترب منها وهذا يعني كما يقول (إيمانويل
هيمان) أننا دخلنا مرحلة الاضطرابات السابقة على عودة المسيح [2] .
وقد انتقلت تلك العقيدة إلى النصارى بحكم إيمانهم بالتوراة التي جاء الإنجيل
ليكملها فقط، ومما يدل على عمق إيمان النصارى بالعقيدة الألفية أنهم قد أصابتهم
الحمى الألفية على رأس الألف الأولى، وظهر أثر ذلك في الحملات الصليبية
الشرسة التي اندفعوا بها نحو الشرق للاستيلاء على القدس عاصمة المبعوث الألفي، ولما لم يظهر، ولم يَعُدْ استأنفوا الانتظار للألف التي تليها.
اليهود والملك المنتظر:
قد يظن ظان أن الكلام عن العقائد الألفية والدورات السبعة للدنيا يقتصر على
اهتمامات الشريحة الموغلة في التديُّن فقط من اليهود؛ وهذا الظن غير صحيح؛
بل الصحيح أن معظم ساسة اليهود يعتبرون دولة إسرائيل حجر الأساس في مملكة
الألف الأخيرة، هذا على المستوى الرسمي والدولي؛ ويدل على ذلك أبلغ دلالة أن
الشعار الرسمي لدولة اليهود منذ قامت هو (الشمعدان) ذو الفروع السبعة التي
يتوسطها الفرع السابع المنفرد الذي يرمز لـ (إسرائيل) في ألفيتها السابعة! أي:
إن دولة (إسرائيل) بمعنى آخر هي الدولة التي ستمتد لتتحول إلى المملكة التي
ستحكم العالم من القدس تحت قيادة ملك السلام المنحدر من نسل داود.
وقد استمد اليهود معتقدهم في مجيء ملكهم المنتظر من النص الآتي من
التوراة التي في أيديهم: (ابتهجي جداً يا ابنة صهيون، اهتفي يا أورشليم، هو ذا
ملكك يأتي إليك، وهو عادل ومنصور، وديع وراكب حمار، وعلى جحش ابن
أتان!) [3] .
ويطلقون على هذا الملك: (الماشيِّح) وهو اسم عبري مشتق من (مشح) أي
مُسح بالزيت المقدس، وهم يعتقدون بمقتضى التوراة أيضاً أن ذلك الملك سوف
يجمع بقية اليهود المشتتين في أنحاء العالم بعد أن يهتف له اليهود الذين عادوا
بالفعل إلى القدس.
وهذا الترقب الحالم يفعل فعله في نفوس اليهود كلما تفاعل حدث أو جدَّ جديد
يشعرهم بقرب المجيء. ويذكر مؤلف كتاب (الأصولية اليهودية) : أنه قابل أحد
الحاخامات اليهود وتحادثا عن شأن المسيح المنتظر فقال له الحاخام: (نحن بالتأكيد
على مشارف عهد مجيء المسيح المنتظر، والتوراة تؤكد ذلك؛ ففي الإصحاح
الثلاثين من سفر التثنية نجد هذا النص: (فإن ردَّدت في قلبك بين جميع الأمم
الذين طردك الرب إلهُك إليهم ورجعت إلى الرب إلهِك وسمعت لصوته حسب كل ما
أنا أوصيك به اليوم أنت وبنوك، يرد الرب إلهك سبيلك ويرحمك ويعود فيجمعك
من جميع الشعوب الذين شردك إليهم الرب إلهك) . وهذه العودة للدين هي التي
يتوقع الحاخامات أنها ستتضاعف كلما اقتربت (الأيام الأخيرة) وسوف تكون سبباً
في مزيد من الفوضى في العالم) .
يقول الحاخام (موشى كوفمان) : (إن دولة (إسرائيل) ليست هي التي ستعلن
نهاية العالم، وإنما عودة قطاع عريض من الشباب اليهودي إلى الدين هي التي
ستؤدي إلى ذلك) [4] !
إن تلك الأجيال التي بدأت تأخذ مكانها بل تفرض نفسها في المجتمع اليهودي
هي كتائب من حَمَلَة التوراة ودارسي التلمود الذين يتقربون اليوم إلى الله بتقريب
يوم مجيء المسيح، وكيف لا يفعلون ذلك والتلمود الذي يؤمنون به يقول: (يجب
على كل يهودي أن يسعى لأن تظل السلطة في الأرض المقدسة لليهود دون سواهم، وقبل أن يحكم اليهود نهائياً باقي الأمم يجب لاحظ أن تقوم الحرب على قدم وساق، ويهلك ثلثا العالم، وسيأتي المسيح الحقيقي ويحقق النصر القريب) ؟ ! ويستحث
التلمود أتباعه على العمل لإخراج المسيح: (اطلبوا المسيح بإخلاص وهو
سيستجيب ويجيء) [5] .
والتلمود الذي يُعَدُّ شريعة شفوية عند اليهود في مقابل الشريعة المكتوبة التي
تمثلها التوراة يعج بالخرافات والأساطير التي تدور حول محور واحد وهو:
(المسيح المنتظر) .
يقول الدكتور جوزيف باركلي بعد دراسته لكتاب التلمود: (إن قضية المسيح
هي أهم قضايا اليهود فيه) [6] ومع ذلك فإن تلك الخرافات والأساطير هي الدين
الذي يدين به اليهود ويتفانون في خدمته في وقت لا يبذل المنتسبون للدين الحق
عُشر معشار ما يبذله اليهود.
خذ مثالاً على تلك الخرافات الدينية المنتظرة، والتي يتوق لها اليهود: يقول
التلمود: (حين يأتي المسيح تطرح الأرض فطيراً وملابس من الصوف وقمحاً حبه
بقدر كلاوي الثيران الكبيرة) (أرض إسرائيل ستنبت الخبز والأقمشة من أجود أنواع
الصوف، وستنبت القمح في لبنان عالياً مثل أشجار النخيل وَسَيَهُبُّ هواء يجعله
دقيقاً فاخراً) [7] !
وقد يتصور البعض أن هذا المعتقد قد نُسي وطمرته القرون منذ أن وُضِعَ
التلمود منذ آلاف السنين؛ ولكن مصادر اليهود المعاصرة تدل على أن ذلك المعتقد
لا يزال حياً، ويأتي على رأس تلك المصادر:(بروتوكولات حكماء صهيون) . فقد
تحدثت أيضاً عن المنتظر الموعود؛ ولكن على طريقتها التخطيطية التدبيرية
المبرمجة، ومما جاء فيها: (إن حكومتنا ستحيل مظهر الثقة الأبوية في شخص
مَلِكنا وستعتده أمتنا ورعايانا فوق الأب الذي يُعنى بسد كل حاجاتهم ويرعى أعمالهم
ويرتب جميع معاملات رعاياه بعضهم مع بعض، وبهذا سينفذ الإحساس بتوقير
الملك بعمق بالغ في الأمة، حتى لن تستطيع أن تقدم غير عنايته وتوجيهه. إنهم لا
يستطيعون أن يعيشوا في سلام إلا به، وسيعرفون في النهاية أنه حاكمهم
الأوتوقراطي المطلق) [8] ، (ويوم يضع ملك إسرائيل على رأسه المقدس التاج
الذي أهدته له كل أوروبا سيصير البطيرك لكل العالم) [9] ، (إن ملك إسرائيل
سيصير البابا الحق للعالم: بطريرك الكنيس الدولي) [10] ، (إن ملكنا سيكون
مختاراً من عند الله، ومُعَيَّناً من أعلى كي يدمر كل الأفكار التي تغري بها الغريزة
لا العقل، إن هذه الأفكار قد دمرت كل النظم الاجتماعية مؤدية بذلك إلى حكم ملك
إسرائيل، ولكن عملها سيكون قد انتهى حين يبدأ ملكنا، وحينئذ يجب علينا أن
نكنسها بعيداً حتى لا يبقى أي قذر في طريق ملكنا، وحينئذ سنكون قادرين على أن
نصرخ في الأمم: صلوا لله واركعوا أمام ذلك الملك الذي يحمل آية التقدير الأزلي
للعالم، والذي يقود الله ذاته نجمه، فلن يكون أحد آخر إلا هو نفسه قادراً على أن
يجعل الإنسانية حرة من كل خطيئة) [11] ، (وفي البروتوكول الرابع والعشرين
وهو الأخير من البروتوكولات المترجمة، يقول المتحدث فيه: (والآن سأعالج
الأسلوب الذي تُفدى به دولة الملك داود حتى تستمر إلى اليوم الآخر) ثم تختم
البروتوكولات حديثها بهذه العبارة:
(إن قطب العالم في شخص الحاكم العالمي الخارج من بذرة إسرائيل ليطرح
كل الأهواء الشخصية من أجل مصلحة شعبه، إن ملكنا يجب أن يكون مثال
الجبروت) . توقيع ممثلي صهيون من الدرجة الثالثة والثلاثين [12] .
والتهيئة لمجيء المسيح ليست مما يتعارض مع (العلمانية) الإسرائيلية التي
تحتفظ بطابع خاص يميزها عن كل العلمانيات، وخاصة العلمانيات العربية؛
فالعلمانيون اليهود كانوا دائماً خدماً لدولة (إسرائيل) الدينية، ولكن احترام
التخصص والكفاءة هو الذي دفع بالشخصيات (العلمانية) إلى مِقْوَد القيادة في عقود
التأسيس الأولى فيما عُرف باتفاق: (الوضع الراهن)[13] ؛ فهي مرحلة ستعود
بعدها القيادة للدينيين بعد أن يستكملوا تأهيلهم ويبنوا كوادرهم.
يقول الفيلسوف الأرثوذكسي اليهودي (آفراهام رافينسكي) من الجامعة العبرية
في القدس: (قبل 1967م كان الصهيونيون العلمانيون هم الذين في السلطة،
وكانت تتكون منهم الطبقة السياسية الحاكمة، وكانوا على رأس الجيش، أما
الأرثوذكس فكانوا حراس الشريعة والتوراة، ولكن الاستيلاء على حائط المبكى
جعل الدينيين هم حَمَلَة العَلَم لصهيونية تضمن استمرارها المستوطنات
الدينية) [14] .
والمتدينون الفعليون [15] هم الذين يأخذون الآن وضع الجاهزية الوجدانية
الروحية لتصديق أي تطور يبشر بقرب المجيء المترقب؛ بل لتصديق أية فكرة
(جريئة) بشأن المسيح، ولو كانت فكرة الادعاء بظهوره بالفعل؛ فمنذ سنوات قليلة
جداً، وبالتحديد في عام 1994م، توفي حاخام يهودي كان قد التف حوله الآلاف
من اليهود بعد أن ادعى أنه هو المسيح المنتظر! !
وملخص قصة هذا الرجل: أن جماعة دينية يهودية تطلق على نفسها اسم
حبد [16] دخلت الانتخابات الإسرائيلية عام 1988م، تأييداً لحركة (أجودات
إسرائيل) الدينية، وقد ارتفع عدد نوابها في البرلمان مما مكنها من تأسيس حزب
جديد هو: (هيجيل هاتوراة) ، ومع انخراطها في السياسة، أخذت حركة (حبد) أو
اللوبافيتس اتجاهاً يبشر بعودة المسيح القريبة، وأعطى حاخام الحركة نفسه الحق
في الاشتراك في كل الحملات الانتخابية الإسرائيلية للتركيز على القضية الأساسية
وهي قرب مجيء المسيح وضرورة تجهيز الأرض اليهودية لاستقباله.
وحيث أعلنت تلك الحركة عن قرب مجيء المسيح فقد أصبح أتباعها ينظرون
إلى أنفسهم أنهم جنود جيش المسيح المنتظر في جميع أنحاء العالم، وأعلنوا أنهم
سيركزون جهودهم للإسراع بمجيء المسيح مخلِّص الإنسانية، وانطلق شباب منهم
لابسين السواد للانتشار بدعوتهم في نيويورك، ولندن، وباريس، وكذلك في مدريد
وجنيف، ويركزون خلال ذلك على غزو أحياء اليهود لدفعهم بقوة للعودة للدين
والتوبة التي ستسرِّع لحظة الرؤية السامية للجميع! ووسط أجواء محمومة بالتبشير
بالعودة إذا بشيطان إنسي منهم يظهر فيهم، ويطرح نفسه على أنه المسيح! إنه
الحاخام (مناحيم شنيرسون) ذلك الرجل المبهم الذي استطاع أن يسترعي أنظار
العميان، ويستجلب رضا المغضوب عليهم بثقافته التوراتية العميقة، وعبقريته
العلمية المتنوعة، ومنطقه المقنع، وحماسه المبهر، ومهارته في فك الألغاز
والأحاجي بين سطور الأساطير، إضافة إلى مركزه العلمي الأكاديمي المشيد فوق
هرم من شهادات الدكتوراه، مما صنع منه في نظر آلاف الأتباع (الرجل
الأسطورة) .
وبدأ رعاع اليهود ينسجون حول الرجل أقاصيص الكرامات وأساطير
المعجزات مما جعل مقره في مدينة بروكلين قبلة يؤمها المريدون اليهود من كل
أنحاء العالم! ومع بداية التسعينات كثر أتباعه المصدقون بأنه هو المسيح، ولم يشأ
الخبيث أن ينفي عن نفسه هذه الصفة؛ بل شجع من ينظرون إليه هذه النظرة، بل
حاول تأكيدها بنسبته إلى الجيل السابع (المقدس) من مؤسس حركة (حبد) والجيل
السابع مفضل دائماً عند اليهود، واستغل صفة أخرى وُجدت فيه ليزيد أتباعه فتنة،
وهي دعواه أنه من نسل داود!
ولكن الرجل الذي دعا نفسه ودعاه أتباعه بـ (المخلِّص) قد خلُص إليه الموت
قبل أن يخلِّص أحداً مما أذهل أتباعه المهووسين به، ودفع بعضهم إلى الاعتقاد أنه
هو المسيح القادر على أن يعود مرة أخرى ليظهر أمام العالم بملابسه البيضاء؛
ليكون ذلك أدعى للتصديق به! [17] .
إن العبرة المستمدة من هذه الأهزولة اليهودية الحادثة منذ سنوات قليلة هي أن
أتباع المسيح اليهودي المنتظر موجودون الآن قبل أن يخرج إليهم وهم على أتم
الاستعداد لتجييش الآلاف بل الملايين حوله إذا ما صرخ فيهم الشيطان بأنه قد خرج!
إن الجماعات الدينية التي تمتلئ بها الساحة الإسرائيلية اليوم [18] ، والتي
تحرص كل الحكومات على استرضائها وشراء أصواتها ليست فيما بينها على وفاق
أو اتفاق في مجمل قضايا الاهتمام الديني، ومن ضمنها مسألة انتظار
المسيح؛ فالأمر بينهم كما قال الله سبحانه: [تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى]
[الحشر: 14] ؛ فهم يختلفون في ترتيب العلامات التي ستسبق مجيء المسيح، ويختلفون في موعد عودته وفي مدة لبثه، ولكن الشيء المتفق عليه من الجميع هو تجاوز تلك الخلافات والقفز فوقها إلى صيغة موحدة تضمن الحد الأدنى من الوحدة في العمل لتهيئة الشعب اليهودي لمجيء المسيح [19] ، وليكن بعد ذلك ما يكون.
يقول إيمانويل هيمان: (كل التيارات الأرثوذكسية المختلفة، تتبع طريقا
سيؤدي بها في المستقبل إلى أرضية مشتركة، ألا وهي: اقتناعها جميعاًِ بقرب
مجيء المسيح المنتظر، فإذا كان المُخَلِّص على وشك الظهور؛ فإن كل التناقضات
الظاهرية تكون مُبَرَّرَةً؛ لأنها تهيئ العالم والأرض المقدسة لاستقبال مبعوث
الله) [20] .
القوى السرية ومساعي التهيئة:
إذا كانت تهيئة العالم لمجيء المسيح قضية محورية لدى الجماعات الدينية
العاملة في العلن داخل الأرض المقدسة فإن القوى اليهودية السرية التي تعتبر العالم
كله ساحة لنشاطاتها كانت تعمل بدأب ولا تزال للغاية نفسها؛ ولكن على طريقتها
هي: طريقة المؤامرات، والثورات، والمخططات الطويلة والقصيرة والمتوسطة
المدى، وقد مر ذكر بعض نصوص البروتوكولات الصريحة في ذلك؛ فطوال
القرن المنصرم وربما قبله لم تكف تلك القوى عن اختراقاتها للمعسكرات الدولية
والتغلغل فيها شرقاً وغرباً بغرض فرض السيطرة اليهودية على الاقتصاد العالمي
والإعلام العالمي والسياسة العالمية والمؤسسات الدولية، ويكابر الحقيقة ويعاندها من
ينكر النجاح الكبير الذي أحرزه اليهود في ذلك.
يقول (وليام كار) في مؤلفه الشهير: (أحجار على رقعة الشطرنج) : (إن
اليهود اختاروا فلسطين لتكون المركز الجغرافي المناسب لخطتهم العامة في السيطرة
على العالم وتنصيب أميرهم أمير السلام ملكاً على العالم) ويقول: (إن هذه القوى
تستعمل الأموال الكثيرة التي في حوزتها لشراء المراكز الحساسة بهدف خلق
النزاعات بين الأمم من أجل الوصول إلى خطتهم بعيدة المدى والتي تهدف إلى
الإعداد لمجيء مسيح اليهود) [21] هذا في العقود الماضية من القرن المنصرم،
أما في القرن الحادي والعشرين، فإن الهدف هو (إنجاز) المزيد من النبوءات
وتحقيق المزيد من الأساطير، ما دامت الساحة خالية. يقول إيمانويل هيمان: (إن
الهدف الكبير ليهودية القرن الواحد والعشرين سيكون محاولة اختراع المستقبل مع
استمرار الإخلاص للماضي) [22] .
هذا عن الهدف الكبير لليهود، فماذا عن الهدف الكبير للنصارى، وما
المستقبل الذي يُعِدُّون له؟ !
النصارى والمسيح المنتظر!
إذا كان عهد اليهود بانتظار مسيحهم قد طال بطول زمن التوراة، فإن انتظار
النصارى لمسيحهم ظل مستمراً منذ زمن الإنجيل.
يقول وول ديورانت في كتابه المشهور: (قصة الحضارة) : (كان ثمة عقيدة
مشتركة وحدت الجماعات المسيحية المنتشرة في أنحاء العالم، وهي: أن المسيح
ابن الله، وأنه سيعود لإقامة مملكته على الأرض وأن كل من يؤمن به سينال النعيم
المقيم في الدار الآخرة) [23] .
والجماعات النصرانية التي وحدت بينها تلك العقيدة كما قال ديورانت لم تكتف
بالاعتقاد، بل لم تقف عند حد الانتظار، وإنما تفاعلت مع ذلك المعتقد مُحاوِلةً
تحقيق علاماته واستدعاء مقدماته؛ فالطوائف الرئيسة من أصحاب تلك الديانة وهم
الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت جميعهم يؤمنون بعودة المسيح ثانية، ويتوقع
الكثيرون منهم منذ قرن كامل مجيئه على رأس الألفية التي نحن مقدمون عليها، بعد
أن خابت آمالهم في مجيئه على رأس الألفية الأولى.
ولقد تواطأت التوراة والإنجيل معاً ليكوِّنا عند النصارى خاصة البروتستانت
عقيدة لا تتزحزح عن عودة المسيح ابن مريم إلى الأرض في آخر الزمان، وعلى
رأس ألفية، وزاد النصارى على ذلك في معتقدهم أن اليهود الذين سيكونون قد
تجمعوا في القدس قبل عودة عيسى عليه السلام سيتنصَّرون فور عودته. تقول
الكاتبة الأمريكية (لي أوبرين) : (إن المذاهب اللاهوتية لكثرة من البروتستانت
تصف إنشاء دولة إسرائيل بأنه تحقيق لنبوءة توراتية، وهي تذهب أيضاً إلى أن
تجمع اليهود هو مجرد تمهيد لتنصيرهم قبل المجيء الثاني للمسيح) [24] .
وعندما انعقد المجمع العالمي للكنائس النصرانية في (أفناتون) عام 1954م،
قدمت له اللجنة المختصة ببحث علاقة اليهود بالكنيسة تقريراً جاء فيه: (إن
الرجاء المسيحي بالمجيء الثاني للمسيح لا يمكن بحثه عبر فصله عن رجاء شعب
إسرائيل الذي لا نراه بوضوح فقط في كتاب العهد القديم؛ بل فيما نراه من عون
إلهي دائم لهذا الشعب، ولا نرتاح قبل أن يقبل شعب الله المختار المسيح بصفة ملك)
وأصدر الأساقفة المجتمعون في ذلك المؤتمر البيان الآتي: (إننا نؤمن أن الله اختار إسرائيل الشعب المختار لكي يتابع الخلاص للبشرية، ومهما كان موقفنا فلا نتمكن من نكران أننا أغصان قد تطعمت على الشجرة القديمة (إسرائيل) ؛ ولذلك فإن شعب العهد الجديد لا يمكن أن ينفصل عن شعب العهد القديم.. إن انتظارنا لمجيء المسيح الثاني يعني أملنا القريب في اعتناق الشعب اليهودي للمسيحية، وفي محبتنا الكاملة لهذا الشعب المختار) [25] .
ماذا تخفي هذه المحبة؟ !
يعجب الإنسان عندما يكتشف أن تلك المشاعر الدينية الحميمة من النصارى
تجاه اليهود، هي مشاعر في حقيقتها مزيفة أو مصلحية على أقل تقدير فيبدو أن
نصارى الغرب قد درجوا على تقديم المصلحة في كل شيء حتى في الدين؛ فاليهود
عندهم هم القنطرة التي سيعبرون فوقها نحو أمجاد الأيام الأخيرة، فلن يأتي المسيح
ولن يقيم مملكة الرب (النصرانية) إلا بعد أن يُعاد اليهود إلى فلسطين ويسكنوا
القدس ويبنوا الهيكل. ثم ماذا.. ثم يخرج مسيحهم المنتظر (أي مسيح اليهود)
ليعيث في الأرض فساداً ويملأها كفراً وإجراماً، ثم يأتي عيسى عليه السلام ليذبحه
ويقتل ثلثي اليهود ويبقى ثلث يتوجب تنصيرهم! !
فهل يؤمن النصارى بمسيح آخر سيأتي في وقت مجيء المسيح ابن مريم؟
نعم! إنهم يؤمنون بذلك.. ويسمون ذلك المسيح (Anti - chrest) أي ضد
المسيح، أو (المسيح الدجال) ! !
النصارى والمسيح الدجال:
يعتقد النصارى خاصة البروتستانت أن هناك عدواً كافراً طاغياً قاسياً سيخرج
قبيل عودة عيسى عليه السلام، وأنه سوف يكون من اليهود؛ فأمه أمرأة يهودية
وستلتهم جيوشه العالم بعد أن يخرج من شمال إسرائيل، أو بالتحديد من سوريا من
قبيلة (دان) . ويؤمنون أيضاً أنه سيبدأ بدعوى الصلاح وينتحل شخصية المسيح
المخلِّص، ثم لا يلبث أن يتحول إلى دعوى الربوبية التي سيتبعه عليها أكثر الناس
نظراً للخوارق التي ستُجرى على يديه، والتي سيقلد بها أفعال الإله في الإحياء
والإماتة وإنزال المطر وإنبات الزرع.. إلخ، ويؤمنون أيضاً، بأنه سيعتلي منبر
الهيكل بعد إعادة بنائه، وسيهدم مقر البابوية في روما، وسيضطهد (المؤمنين)
ويضيق عليهم حتى يبلغ البؤس مداه، وعند ذلك يتدخل الإله، وينزل المسيح ابن
مريم لينقذ بقايا المؤمنين بعد أن يقتل المسيح الدجال، ويقاتل أتباعه من اليهود وقوم
(يأجوج ومأجوج) ، ويتفرغ بعد ذلك لإقامة مملكة الرب التي سيسودها السلام.
فاليهود على هذا شر لا بد منه، والدجال قدر لا بد من مواجهته، وهذا
الدجال الذي تؤمن النصارى بحتمية خروجه، قد وردت بشأنه الأخبار في
مصادرهم؛ ففي الإنجيل - في رسالة بولس إلى أهل تسالونيكي - هذا النص:
…
(لا يخدعنكم أحد على طريقة ما؛ لأنه لا بد أن يسبق الارتداد أولاً، ويظهر إنسان
الخطيئة ابن الهلاك؛ حتى إنه يجلس في هيكل الله كإله مظهراً نفسه أنه إله) [26]
والنص هنا يذكر الارتداد، فلا بد إذن أن تكون ردة، ولكن ردة مَنْ؟ وعن ماذا؟ !
إن النصارى أنفسهم يتقاذفون اليوم التهم بهذه الردة التي يقول الإنجيل إنها لا
بد أن تسبق أولاً، ولهذا فهم يتبادلون التكفير بين طوائفهم بحيث إن كل طائفة تتهم
الأخرى بأنها ستكون من أنصار الـ (إنتي كريست) أو الدجال عدو المسيح؛
فالنصارى الشرقيون العرب مثلاً وأكثرهم من الأرثوذكس يعتقدون أن طوائف
الكاثوليك الغربيين هم نصارى بالاسم فقط، وأنهم سيكونون مع الدجال ومع أعداء
المسيح. يقول القس (هنري ايرنسايد) في تفسيره لسفر دانيال: (مما لا شك فيه
أن المسيحية المرتدة سيعاد توحيدها، ولكن هذا الاتحاد سيكون خالياً من تعاليم
المسيح، ستتحد جميع الأنظمة المرتدة [27] ، ستستعيد الكنيسة البابوية نفوذها
وسلطانها، وستشكل جميع كنائسها هيئة عظيمة واحدة تضم جميع أجزاء
النصرانية.. هذه الكنائس ستكون مستمدة قوتها من البابوية، وستكون خادمة للوحش أي المسيح الدجال) .
والغريب أن البروتستانت ينظرون أيضاً إلى كاثوليك أوروبا هذه النظرة، فهم
يؤمنون أن (الوحش) الذي ورد ذكره في سفر الرؤيا يعني أنه سيكون هناك اتحاد
قوي من عشر دول أوروبية سوف تنهض في الأيام الأخيرة، وأن قيام المجموعة
الأوروبية المكونة من عشر دول هي تحقيق لهذه النبوءة، وهذا في نظرهم دليل
على أننا نعيش فعلاً الأيام الأخيرة؛ لأن هذه القوى الأوروبية العشرة قائمة الآن
وستكون معادية للمسيح؛ لأنها ستكون مرتدة عن المسيحية التي بشر بها! ! [28] .
ومع اتهام طوائف النصارى بعضهم بعضاً بأنهم أتباع الدجال عندما يخرج
فإنهم يُجمعون على أن اليهود هم طليعة أنصاره، ورأس حربته، وهم الذين
سيقودون معسكر أعداء المسيح.
يقول مفسر سفر دانيال: (سينصِّب المسيح الدجال نفسه الإله الوحيد الجدير
بالعبادة، وله سيبدي المسيحيون المرتدون ولاءًا مطلقاً، وسينتحل لنفسه أمام اليهود
صفة مسيحهم الموعود به منذ عهد بعيد على ألسنة الأنبياء، ويقبل اليهود ادعاءاته
ويقولون: هذا هو حقاً المسيح الذي طالما انتظرناه، وهذا هو الذي يتكلم كتابنا
المقدس عنه) [29] .
إن المرء ليعجب أن يكون هذا حديث نصارى عن نصارى، أو حديث
نصارى عن يهود، ولكن العجب يزول عندما نتذكر قول الله - تعالى-: [ومن
الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة
والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون] [المائدة: 14] ،
وقال - تعالى -: [وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى
ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب] [ {البقرة: 113} ] .
إن من حقنا أن نعجب، ومن حقنا أن نتساءل: إذا كانت كل طائفة تدعي أن
المخلِّص منها وأنهم أتباعه وأنصاره، وتدعي في مبغضيها أنهم أتباع الدجال
وأنصاره، فمن إذن هم الأتباع الحقيقيون للدجال الذي يتبرأ منه الجميع الآن، فإذا
جاء كانوا أول المسارعين لنصرته والإيمان به؟ !
لمن سيخرج الدجال؟
نحن لا نشك أن اليهود بمجموعهم سيكونون طليعة أنصار الدجال؛ فهو منهم
وإليهم، وخاصة يهود الشرق الذين سيخرج فيهم [30] .
أما النصارى، فعلى رغم أنهم يزعمون أنهم سيكونون في جيوش المسيح
الحق ضد المسيح الدجال؛ فالله يعلم أنهم بجميع طوائفهم هم الذين هيؤوا أنفسهم
بأنفسهم لكي يكونوا أول المصدقين بِدَعِيٍّ من البشر يدَّعي الألوهية. أليسوا هم
الذين اعتنقوا عقيدة (المسيح الإله القادر على كل شيء) ؟ ! والمسيح الدجال سيقول: أنا المسيح الإله القادر على كل شيء!
فما الذي سيكون مستغرباً في دعوة الدجال على مسامع النصارى الذين لا
يستهجنون ولا يستبعدون أن يتجسد الإله في صورة إنسان! وخاصة أنه يمنعهم
ومعهم اليهود من مشاركته في فرض السيطرة النهائية على العالم باعتبارهم أتباعه.
إن النصارى اليوم على اختلاف طوائفهم يشكلون ما يقرب من ثلث سكان
العالم، ويعلم الله كم سيبلغون إذا خرج فيهم من يهيئون الدنيا لمقدمه ظناً منهم أنهم
يهيئونها للمسيح عيسى بن مريم عليه السلام، إن هؤلاء مع مسيحيتهم كفار بنبوءة
عيسى وعبوديته، ولهذا سيسارعون بتصديق من يقول إنه هو المسيح الإله!
ولهذا فإن الله تعالى سوف يزيل هذه الغمة بإنزال عيسى نفسه، لإقامة الحجة
على الناس وعندها سيسقط في أيدي من ضلوا وأضلوا كثيراً من البشر عبر القرون
مدعين أنه إله أو ابن إله، وسيدفعون دفعاً إلى الإيمان بأن عيسى نبي الله وكلمته
ألقاها إلى مريم وروح منه، ليس بإله ولا ابن إله، إنما هو كما قال الله عنه:
…
[إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل][الزخرف: 59] ، وعند
نزوله سيرون ذلك رأي العين، ويسمعون منه كلامه الفصل كما قال سبحانه:
…
[وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا]
[النساء: 159] .
أما بقية القطعان البشرية الوثنية من ملايين البوذيين والهندوس والملحدين
واللادينيين ونحوهم، فإنه لا حجاب بينهم وبين الإيمان بالدجال إذا خرج وقال لهم: إني أنا الإله؛ فهؤلاء وهؤلاء لن تزيدهم عقائدهم الوثنية التي تؤله الأحجار
والأشجار والأنهار والأبقار إلا فتنة بالبشر المخلوق للفتنة إذا جاء وقال لهم: إني
أنا الإله، وشرع يجذب أبصارهم بالخوارق، وأسماعهم بالشبهات، وبطونهم
وفروجهم بالشهوات!
نحن نؤمن أيضاً أن المسيح ابن مريم سيعود، ونؤمن معهم أن الدجال
سيخرج [31]، ولكن شتان بين إيمان وإيمان [32] وبين عودة وعودة؛ فإيماننا:
أن عودة عيسى عليه السلام هي القدر الإلهي الحكيم الذي سيضع النهاية للاختلاف
الذي عم الأمم حوله، ولا يمكن أن ينتهي ذلك الاختلاف في شأنه إلا بعودته. يقول
ابن كثير رحمه الله: (إن عيسى عليه السلام سينزل إلى الأرض، ويؤمن به أهل
الكتاب الذين اختلفوا فيه اختلافاً بيناً، فمن مدعٍ إلهيته كالنصارى، ومن قال فيه
قولاً عظيماً أنه ولد ريبة وهم اليهود، فإذا أنزل قبل يوم القيامة تحقق كل من
الفريقين كذب نفسه فيما يدعيه من الافتراء) [33] .
أما الدجال، فلا نشك في خروجه، وإن كنا لا نعلم موعده، ولكن مقصودنا
هنا التنبيه على أن اليهود والنصارى يستعدون لخروجه، ومع ذلك فهو مسيح
الضلالة الذي تُعَاقَبُ به أمَّتا الضلالة الذين تكبروا عن الإيمان بمحمد سيد الرسل
عليه صلوات الله وسلامه وفضلوا أن يبقوا على ديانات منسوخة لم تلبث أن تحولت
إلى ديانات ممسوخة بالافتراء على الله والكذب على أنبياء الله، يقول ابن تيمية
رحمه الله: (اليهود يتأولون البشارة بالمسيح على أنه ليس هو عيسى بن مريم،
بل هو آخر ينتظرونه، وهم في الحقيقة إنما ينتظرون المسيح الدجال؛ فإنه الذي
يتبعه اليهود ويخرج معه سبعون ألف مطيلس [34] من يهود أصبهان) [35] .
ويقول ابن القيم رحمه الله: (فالمسلمون يؤمنون بالمسيح الصادق الذي جاء
من عند الله بالهدى ودين الحق الذي هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم
العذراء البتول، والنصارى إنما يؤمنون بمسيح دعا إلى عبادة نفسه وأمه، وأنه
ثالث ثلاثة، وأنه الله أو ابن الله، وهذا هو أخو المسيح الكذاب لو كان له
وجود [36] فإن المسيح الكذاب (الذي ينتظره النصارى) يزعم أنه الله، والنصارى في الحقيقة أتباع هذا المسيح، كما أن اليهود إنما ينتظرون خروج مسيح، وهم يزعمون أنهم ينتظرون النبي الذي بشروا به، فعوضهم الشيطان من الإيمان به بعد مجيئه انتظاراً للمسيح الدجال.. وهكذا كل من أعرض عن الحق يعوض عنه بالباطل) [37] .
الانتظار الانتظار إذن.. هو الموقف الراهن، ومع ازدياد الهوس الألفي
باقتراب المسيح المخلِّص، تتكثف الدعوات من خلال نشرات دورية تنقل عبر
شبكات الإنترنت، فتبث الأحاديث المثيرة عن أحداث آخر الزمان.
ومن أغرب المواقع المصابة بـ (الفيروس الألفي) موقع بعنوان: (كاميرا
المسيح) وهو موقع مسلط من خلال كاميرا فيديو تبث صورة حية على مدار الساعة
على البوابة الشرقية في القدس القديمة (الباب الذهبي) حيث يؤمن الإنجيليون بأنها
ستكون موقع ظهور المسيح عند عودته الثانية إلى الأرض، وقد وضعت تلك
الكاميرا إحدى الجمعيات الدينية البريطانية وأخفوها في مكان سري قريب من
البوابة، والغريب أن الجمعية وضعت الكاميرا بإذن خاص من بلدية القدس،
وباتفاق مع اللجنة المسؤولة عن احتفالات بيت لحم 2000! إن وضع الكاميرا الآن، يدل حسب قول المشرفة على مشروع الكاميرا (كريستين دارج) أن المسيح قد
اقتربت عودته، سواء هذا العام، أو الذي بعده) ! ! (الشرق الأوسط -6-1999م) .
إن اليهود والنصارى يتعجلون اليوم أَمْر الساعة أكثر من أي يوم مضى، ولا
ندري ما هي الخطط المخبأة وراء تلك العجلة، ولا ندري أيضاً الأقدار وراء تلك
الخطط. إن أهل الإيمان الحق ليسوا على عجلة من أمرهم في شيء؛ وهم يعلمون
أن الله لا يعجل بعجلة الناس، ويعلمون أن أمر الساعة شيء عظيم، ولهذا فهم لا
يتعجلونها ولا يتعجلون أماراتها؛ لأنهم يخشون الابتلاء والفتنة ولا يعرف أحدهم
هل ينجو في أيام (الفتن والملاحم) فيكون من المهتدين، أم يسقط في الفتنة إذا
اشرأبت له فيكون من الهالكين؟ وما نحن وأهل الكتاب والساعة إلا كما قال الله عز
وجل: [يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها
الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد] [الشورى: 18] .
فاللهم اهدنا إلى سواء الصراط ونجنا من سبل الهلاك.
[اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم
ولا الضالين] [الفاتحة: 6 - 7] .
(1) قال ريجان هذه العبارة في لقاء خاص دعا إليه كلا من: جيمي بيكر، والقس جيمي سواجارت، وجيري فالويل، والقس مايك إيفنز اليهودي المتنصر والصديق الحميم لجورج بوش، والذي كان لا يبتعد عنه في لحظات التحدي وكان هذا اللقاء بالبيت الأبيض عام 1985م انظر: النبوءة والسياسة ص 194.
(2)
كتاب (الأصولية اليهودية) تأليف إيمانويل هيمان، ص91، الهيئة العامة المصرية.
(3)
سفر زكريا، 1/9.
(4)
الأصولية اليهودية، ص 112.
(5)
نقلا عن الخلفية التوراتية للمؤلف الأمريكي، ص 89.
(6)
التلمود تاريخه وتعاليمه، لظفر الدين خان، ص 58.
(7)
التلمود تاريخه وتعاليمه، ص 60.
(8)
البرتوكول الخامس عشر، ص 163.
(9)
المصدر نفسه ص 163.
(10)
البرتوكول الثالث والعشرون، ص 188.
(11)
البروتوكول الرابع والعشرون، ص 187.
(12)
البروتوكول الرابع والعشرون، ص 188.
(13)
اتفاق الوضع الراهن هن: اتفاق أبرم عام 1947م يضع حدودا فاصلة بني الأدوار المعطاة للعلمانيين والأدوار والصلاحيات والامتيازات المعطاة للدينيين بحيث يمنع هذا الاتفاق التداخل في الاختصاصات بين الفريقين.
(14)
الأصولية اليهودية، ص 134.
(15)
نسبة المتدينين من مجموع عدد السكان تبلغ الربع، وإذا أضيفت إليها نسبة التقليديين المستعدين للتدين فإنها تصل إلى 58%.
(16)
هو اسم متخذ من الحروف الأولى لكلمات (الحكمة والذكاء والمعرفة) باللغة العبرية ويطلق عليها أيضا جماعة (اللوبافتش) نسبة إلى مدينة صغيرة في روسيا البيضاء نشأت فيها الحركة.
(17)
راجع فصل (دبابات الإيمان) من كتاب الأصولية اليهودية.
(18)
120 جماعة.
(19)
هناك جماعة تتصدى لذلك العمل اسمها: (جمعية العمل من أجل مجيء المسيح) .
(20)
الأصولية اليهودية، ص 225.
(21)
أحجار على رقعة الشطرنج، تأليف (وليام كار) ص 332، دار النفائس.
(22)
الأصولية اليهودية، ص 224.
(23)
قصة الحضارة، تأليف وول ديورانت، ج3، ص290.
(24)
المنظمات اليهودية الأمريكية ونشاطاتها في دعم إسرائيل، تأليف لي أوبرين، ص 286.
(25)
مجلة الأمل، العدد 104، 1982م.
(26)
رسالة بولس الثانية إلى أهل تسالونيكي (الإصحاح الثاني /3) .
(27)
تفسير سفر دانيال، ص 61.
(28)
انظر النبوءة والسياسة، ص 43.
(29)
تفسير سفر دانيال، ص 134.
(30)
من الغريب أن يهود إيران لم يهاجروا حتى الآن إلى (إسرائيل) فهل يعتبرون أنفسهم رصيدا مدخرا ليوم المجيء؟ .
(31)
والأحاديث بذلك متواترة كما أخبر بذلك أهل الشأن.
(32)
لعل الله تعالى ييسر في سلسلة أخرى معالجة بعض الموضوعات التي ذكرت في هذه الحلقات من وجهة شرعية إسلامية علمية، بعد أن كثر اللغط واختلطت الأمور على كثير من الناس في معرفة الحقيقة بين ما يقوله أهل الكتاب وما يذكر في مصادرنا الإسلامية والمؤلفات المعاصرة التي تدور حولها.
(33)
البداية والنهاية لابن كثير.
(34)
الطيلسان هو رداء الصلاة عند اليهود ويطلق عليه العبرية (طاليت) وهو يشبه في رسمه وألوانه العلم الإسرائيلي اليوم.
(35)
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية، ج1، ص177.
(36)
أي لو كان لمسيح النصارى بهذا الوصف وجود.
(37)
هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى لابن قيم الجوزية، ص 65.