الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلمة صغيرة
نظرة في دمعة
إن من دواعي سرور القائمين على البيان تفاعل قراؤها مع ما ينشر فيها
وتواصلهم مع مجلتهم، أيا كان هذا التفاعل والتواصل، بالإعجاب والتعضيد أم
بالنقض والتوجيه؛ فالكلمة الباردة وحدهها هي التي لا تلقى تفاعلا من قرائها،
وتمر على بصره ولا تحرك بصيرته.
ومن هذا التفاعل ما وصلنا من ردود أفعال حول ملف القبور والأضرحة الذي
نشر على صفحات العددين (131، 132) ، ثم نشر موسعا لاحقا في كتاب من
إصدارات المنتدى الإسلامي بعنوان: (دمعة على التوحيد) ، وقد لاقى الكتاب
بحمد الله استحسانا وقبولا من كثير من القراء، كما استقبله بعضهم بشيء من
الفضول وأحيانا التوجس ليس اعتراضا على ما فيه وتفنيدا لما احتواه، لكن
لاعتبارات أخرى تتعلق بطبيعة الموضوع محل النقاش، وإلى هؤلاء الأخوة
العاتبين نقول بعد شكرهم على إيجابيتهم وتفاعلهم:
إن موضوع الكتاب لا يمس مشكلة تاريخية مضت وانقضت، بل ما زال لها
امتدادها وانتشارها في العالم الإسلامي، وكونهم لا يعايشون هذه المشكلة في واقعهم
فإن هذا لا ينفي وجودها المستفحل في أماكن عديدة على امتداد العالم الإسلامي.
إن موضوع الكتاب يعالج مسألة تمس أصل الدين الذي ينجو به المسلم، ولا
يستوي ذلك بالطبع مع مناقشة مسألة فرعية أو فضيلة من فضائل الأعمال، ونظن
أن المسلمين لا يختلفون على أن تحقيق التوحيد والبرءة من الشرك لا ينبغي تأجيله
أو التغاضي عنه.
والكتاب رغم كونه يركز على التعرض لقسم من أقسام التوحيد وما يضاده،
إلا أنه لم يغفل الإشارة إلى الأقسام الأخرى والتنبيه على الارتباط بين أقسام التوحيد
كله، كما أنه لا مانع من وجود نوع من التخصص العلمي والدعوي في تناول
بعض القضايا ضمن نظرة شاملة متكاملة.
صحيح أن كثير من العلماء تناول هذا الموضوع قديما وحديثا، ولكن هذا لا
يمنع تناوله مجددا، ولو لم تجد هيئة التحرير أن في الملف ثم الكتاب جديدا تقدمه
للقارئ لما أقدمت على نشره.
وأخيرا فإننا في حاجة إلى العمل المتكامل والجهود المتضافرة؛ حتى تكون
نهضتنا منقوصة أو مبتورة، وهذا ما تحاول البيان العمل على تحقيقه.
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى
إشراقات قرآنية
وقفات مع قوله - تعالى -: (ألهاكم التكاثر)
د. عبد الرحمن آل عثمان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين،
وبعد:
الوقفة الأولى [1] :
الإلهاء: الصرف إلى اللهو، من (لها) إذا غفل.
وكل شيء شغلك عن شيء فقد ألهاك.
يُقال: لها بالشيء: أي: اشتغل به، ولها عنه: إذا انصرف عنه.
وهو: صرف الهمِّ بما لا يحسن أن يُصرف به من الإعراض عن الحق،
والاشتغال بالمتع العاجلة عن الدار الباقية، والميل عن الجد إلى الهزل.
وبالجملة: فكل باطل شغل عن الخير وعما يعني فهو لهو.
وبهذا تعلم أن كل ما أشغل المرء عما يعنيه ويهمه فهو لهوٌ؛ وعليه فهو ملازم
للغفلة - وقد فسره بعضهم بها - وإن كان شائعاً في كل شاغل.
وقيده بعضهم بالشاغل الذي يسر المرء، وهو قريب من اللعب.
الوقفة الثانية:
قرن الله بين اللهو واللعب في آيات من كتابه كقوله: [وما الحياة الدنيا إلا
لعب ولهو] [الأنعام: 32] .
وقوله: [وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب][العنكبوت: 64] .
وقوله: [إنما الحياة الدنيا لعب ولهو][محمد: 36] .
وقوله: [اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة][الحديد: 20] .
وقوله: [وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا][الأنعام: 70] .
وقوله: [الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا]
[الأعراف: 51] .
والعطف يقتضي المغايرة، وقد تعرَّض العلماء لبيان الفرق بين اللهو
واللعب [2] .
فقال بعضهم: اللهو: صرف الهم بما لا يحسن أن يُصرف به.
واللعب: طلب الفرح بما لا يحسن أن يُطلب به.
وقيل: اللهو: الاستمتاع بلذات الدنيا.
واللعب: العبث.
وقيل: اللهو: الميل عن الجد إلى الهزل.
واللعب: ترك ما ينفع بما لا ينفع.
وقيل: اللهو: الإعراض عن الحق.
واللعب: الإقبال على الباطل.
وقال العسكري: (الفرق بين اللهو واللعب: أنه لا لهو إلا لعب، وقد يكون
لعب ليس بلهو؛ لأن اللعب يكون للتأديب
…
ولا يقال لذلك لهو، وإنما اللهو لعب
لا يعقب نفعاً، وسُمي لهواً؛ لأنه يشغل عما يعني، من قولهم: ألهاني الشيء، أي: شغلني، ومنه قوله - تعالى -:[ألهاكم التكاثر][التكاثر: 1] ) اهـ[3] .
ومن تأمل هذه الأقوال تبين له مدى التقارب بين معنى اللهو واللعب، ولعل
من أحسن الفروقات بينهما ما ذكره الحافظ شمس الدين ابن القيم رحمه الله من
أن اللهو للقلب، واللعب للجوارح، قال:(ولهذا يجمع بينهما) اهـ[4] .
الوقفة الثالثة [5] :
قوله: ألهاكم أبلغ في الذم مما لو قال: (شغلكم) لعدم التلازم بين اللهو
والاشتغال؛ ذلك أن الإنسان قد يشتغل بالشيء بجوارحه وقلبه غير لاه به. بينما
اللهو ذهول وإعراض.
الوقفة الرابعة [6] :
اللهو عن الشيء: إن كان بقصد فهو محل التكليف، وإن كان بغير قصد -
كقوله صلى الله عليه وسلم في الخميصة: (إنها ألهتني عن صلاتي)[7]- كان
صاحبه معذوراً، وهو نوع من النسيان.
الوقفة الخامسة [8] :
التكاثر: التباهي بالكثرة من المال والجاه والولد وغير ذلك مما سيأتي. فهو
تفاعل من الكثرة.
والتفاعل يقع على أحد وجوه ثلاثة:
الأول: أن يكون بين اثنين فأكثر، فيكون من باب المُفَاعَلَة.
الثاني: أن يكون من فاعل واحد لكن على سبيل التَكَلُّف، تقول: تحاملت
على كذا، وتباعدت عن كذا، وتعاميت عن الأمر وتغافلت عنه.
الثالث: أن يُراد به مطلق الفعل، كما تقول: تباعدت عن الأمر أي بعدت
عنه.
والتكاثر هنا يحتمل الوجهين الأولين: فيحتمل أن يكون التكاثر بمعنى
المفاعلة؛ لأنه تم من اثنين يقول كل واحد منها لصاحبه: [أنا أكثر منك مالا
وأعز نفرا] [الكهف: 34] ، ويحتمل تكلُّفَ الكثرة وتطلُّبَها؛ فإن الحريص - مثلاً- يتكلف جميع عمره تكثير ماله.
الوقفة السادسة [9] :
لم يعين سبحانه وتعالى المُكَاثَر به، بل ترك ذكره؛ إما لأن المذموم هو
نفس التكاثر بالشيء لا المتكاثَر به، كما يقال: شغلك اللعب واللهو. ولم يذكر ما
يلعب ويلهو به.
وإما لإرادة العموم؛ لأن حذف المقتضي يدل عليه كما تقرر في عِلْمَيِ
الأصول والبيان [10] .
ولا يخفى أن العموم والإطلاق أبلغ في الذم؛ لأنه يذهب فيه الوهم كل مذهب؛ فيدخل فيه جميع ما يحتمله المقام مما يتكاثر به المتكاثرون ويفتخر به المفتخرون
من الأموال والأولاد والخدم والجاه والأعوان وغير ذلك مما يُقصد بالمكاثرة، وليس
المقصود منه وجه الله كما سنبين في:
الوقفة السابعة:
يدخل تحت العموم المشار إليه كل ما يتكثَّر به العبد أو يكاثر به غيره سوى
طاعة الله، قال ابن القيم رحمه الله: (التكاثر في كل شيء؛ فكل من شغله
وألهاه التكاثر بأمر من الأمور عن الله والدار الآخرة فهو داخل في حكم هذه الآية؛
فمن الناس من يلهيه التكاثر بالمال أو بالجاه، ومنهم من يلهيه التكاثر بالعلم، فيجمع
العلم تكاثراً أو تفاخراً، وهذا أسوأ حالاً عند الله ممن يكاثر بالمال والجاه؛ فإنه
جعل أسباب الآخرة للدنيا، وصاحب المال والجاه استعمل أسباب الدنيا لها وكاثر
بأسبابها) [11] .
ومعلوم أن التكاثر والتفاخر إنما يكون بالأمور التي يُتوسل بها إلى تحقيق
السعادة مطلقاً، سواء كانت عاجلة أم آجلة، وسنقصر الحديث في هذه الوقفة على
السعادة العاجلة، لأنها المقصودة في التكاثر المذموم. أما المطلوبات التي يتهافت
عليها المتهافتون توسلاً إلى السعادة القريبة الفانية فهي نوعان:
الأول: مطلوبات مادية من الأموال والمراكب والأثاث والرياش والدور
والبساتين والغراس والخدم والأولاد وألوان الملبوسات والمطعومات، وكذا التكاثر
في الكتب والتصانيف على حساب التحقيق فيها. وغير ذلك مما لا يُقصد به وجه
الله؛ فالتكاثر به مذموم، وهذا النوع ذمه ظاهر لا يخفى.
الثاني: مطلوبات معنوية، وذلك يشمل العلم الذي لا يُبتغى به وجه الله، كما
يشمل ما يلحق بالعلم مما لا ينبني عليه اعتقاد ولا عمل كالمسائل الفرضية، وتكثير
الأقوال من غير حاجة، وقطع الأوقات في الوقوف عند الأمثلة والتعريفات أو ما
يُعرف بالخلاف الصوري، وكذا التكثُّر بالمسائل وتفريعها وتوليدها، وكمن يترك
المهم من التفسير ويشتغل بالأقوال الشاذة، أو يترك المهم من الفقه ويشتغل بنوادر
الفروع وعلل النحو وغيرها. أو يتكثر بالتخريجات أو الطرق للحديث الصحيح
الذي لا يحتاج إلى هذه الطرق الزائدة أو الشواهد، ومثل هذا يُقال في كثرة العزو
إلى الكتب المصنفة مع كون الحديث مخرجاً في الصحيحين أو أحدهما.
ومن لطيف ما ورد في هذا المعنى ما أخرجه ابن عبد البر رحمه الله في
جامعه (2-1034) عن حمزة الكناني رحمه الله قال: (خَرَّجت حديثاً واحداً
عن النبي صلى الله عليه وسلم من مائتي طريق أو من نحو مائتي طريق - شك
الراوي - قال: فداخلني من ذلك من الفرح غير قليل، وأعجبت بذلك، قال:
فرأيت ليلة من الليالي يحيى بن معين في المنام فقلت له: يا أبا زكريا! خَرَّجتُ
حديثاً واحداً عن النبي صلى الله عليه وسلم من مائتي طريق، قال: فسكت عني
ساعة ثم قال: أخشى أن يدخل هذا تحت ألهاكم التكاثر.
وقد ساق الشاطبي رحمه الله هذه الحكاية في الموافقات [12] وعقبها
بقوله: (وهو صحيح في الاعتبار؛ لأن تخريجه من طرق يسيرة كافٍ في
المقصود منه، فصار الزائد على ذلك فضلاً) .
وقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله أن قوماً أكثروا جمع الحديث ولم يكن
مقصدهم صحيحاً ولا أرادوا معرفة الصحيح من غيره بجمع الطرق؛ وإنما كان
مرادهم العوالي والغرائب، فطافوا البلدان ليقول أحدهم: لقيت فلاناً، ولي من
الأسانيد ما ليس لغيري، وعندي أحاديث ليست عند غيري
…
وهذا كله من
الإخلاص بمعزل؛ وإنما مقصدهم الرئاسة والمباهاة، ولذلك يتبعون شاذ الحديث
وغريبه) اهـ[13] .
ومما يدخل في هذا اللون من التكاثر المذموم: التكاثر بالجاه والشهرة
والرئاسات وثناء الخلق! !
قال الإمام الزهري رحمه الله: (ما رأينا الزهد في شيء أقل منه في
الرياسة، نرى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال فإذا نُوزِعَ الرياسة حامى
عليها وعادى) [14] ! !
فكما أن المال: ملك الأعيان المنتفع بها فإن الجاه ملك القلوب المطلوب
تعظيمها وطاعتها والتصرف فيها من تحصيل المنزلة في قلوب الخلق، وهو اعتقاد
القلوب نعتاً من نعوت الكمال في هذا الشخص، إما من علم أو عبادة أو نسب أو
قوة أو إعانة أو حسن صورة أو غير ذلك مما يعتقده الناس كمالاً؛ فبقدر ما يعتقدون
له من ذلك تذعن قلوبهم لطاعته ومدحه وخدمته وتوقيره [15] .
والحقيقة أن هذا اللون من المكاثرة أشد فتكاً وأعظم خطراً من المكاثرة
بالأموال والأولاد مما يدخل تحت النوع الأول؛ ذلك (أن أكثر الناس إنما هلكوا
لخوف مذمة الناس وحب مدحهم؛ فصارت حركاتهم كلها على ما يوافق رضى
الناس رجاء المدح وخوفاً من الذم؛ وذلك من المهلكات) [16] .
ولا يخفى أن من غلب على قلبه حب الجاه صار مقصور الهم على مراعاة
الخلق مشغوفاً بالتردد إليهم والمراءاة لهم، ولا يزال في أقواله وأفعاله ملتفتاً إلى ما
يعظِّم منزلته عندهم ويقتنص به قلوبهم! ! وهذا جذر النفاق وأصل الفساد [17] ؛
لأنه يحمل صاحبه على تقديم رضا الخلق على رضا الرب مما يؤدي إلى رقة الدين
والعياذ بالله، فتجده إن أفتى الناس مال مع أهوائهم، وإن صلى إماماً لهم تلاعب
بالصلاة مجاراة لأذواقهم من إخلال بالمواقيت، أو في الصفة؛ لا سيما في التراويح
والقيام؛ حيث ترى أعاجيب متنوعة: من مقتصر على آية واحدة بعد الفاتحة في
كل ركعة، ومن محوِّل الدعاء في القنوت إلى موعظة، ومن متكلف للبكاء [18] ،
ومن مصلٍّ بهم في كل يوم بعدد مغاير في الركعات لليوم الذي قبله (حسب الطلب) ، ومن متكلف في الدعاء موافقة تسعة وتسعين اسماً من الأسماء الحسنى [19]
…
وغير ذلك مما قد يُبتلى به العبد مكاثرة في المأمومين أو غير ذلك مما يدخل في
عموم قوله: ألهاكم التكاثر وإنما لكل امرئ ما نوى.
قال ابن الجوزي رحمه الله: (ومنهم - أي العلماء وطلاب العلم - من
يفرح بكثرة الأتباع، ويلبِّس عليه إبليس أن هذا الفرح لكثرة طلاب العلم، وإنما
مراده كثرة الأصحاب واستطارة الذكر، وينكشف هذا بأنه لو انقطع بعضهم
إلى غيره ممن هو أعلم منه ثقل ذلك عليه! ! وما هذه صفة المخلص في
التعليم) اهـ[20] .
وقد كان السلف الصالح يَتَوَقَّوْن هذه المزالق أشد التوقي، ويتحاشَوْن الوقوع
فيها؛ فعن سليمان ابن حنظلة قال: أتينا أُبي بن كعب رضي الله عنه لنتحدث
إليه، فلما قام قمنا ونحن نمشي خلفه، فرهقنا عمر، فتبعه فضربه بالدرة! ! قال:
فاتقاه بذراعيه. فقال: يا أمير المؤمنين ما نصنع؟ ! قال: أوَ ما ترى؟ ! فتنة
للتابع مذلة للمتبوع [21] .
ولما مشوا خلف علي رضي الله عنه قال: (عني خَفْقَ نعالكم؛ فإنها
مفسدة لقلوب نوْكَى الرجال) [22] .
وخرج ابن مسعود رضي الله عنه من منزله فتبعه جماعة فالتفت إليهم
وقال: علامَ تتبعوني؟ فواللهِ لو تعلمون ما أُغلق عليه بابي ما تبعني منكم رجلان.
وفي بعض الروايات: ارجعوا؛ فإنه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع.
وكان أبو العالية رحمه الله إذا جلس إليه أكثر من أربعة قام! !
وكان خالد بن معدان رحمه الله إذا عظمت حلقته قام وانصرف كراهة
الشهرة.
وقال شعبة: ربما ذهبت مع أيوب السختياني لحاجة فلا يدعني أمشي معه،
ويخرج من ها هنا وها هنا لكي لا يُفطن له [23] . وكان الإمام أحمد رحمه الله
- إذا مشى في الطريق يكره أن يتبعه أحد، وكان يقول: أشتهي مكاناً لا يكون فيه
أحد من الناس [24] .
وكان يقول: (طوبى لمن أخمل الله ذكره)[25] .
وعن الحسن رحمه الله: (لا تغرنك كثرة من ترى حولك؛ فإنك تموت
وحدك، وتُبعث وحدك وتحاسب وحدك) .
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: (لو رأيت رجلاً اجتمع الناس
حوله لقلت: هذا مجنون! ! من الذي اجتمع الناس حوله لا يحب أن يُجوِّد كلامه
لهم؟) [26] .
وقال الأعمش: (جهدنا بإبراهيم حتى نجلسه إلى سارية فأبى)[27] . وكان
الحارث بن قيس الجعفي يجلس إليه الرجل والرجلان فيحدثهما فإذا كثروا قام
وتركهم [28] .
وكان محمد بن سيرين إذا مشى معه الرجل قام فقال: ألك حاجة؟ فإن كانت
له حاجة قضاها، وإن عاد يمشي معه قام فقال: ألك حاجة؟ ! [29] وقال إبراهيم
النخعي: إياكم أن تُوطَأ أعقابُكم [30] .
وعن عبد الرحمن بن يزيد قال: قلنا لعلقمة: لو صليت في المسجد وجلسنا
معك فتُسأل؟ ! قال: أكره أن يُقال: هذا علقمة [31] .
وقال حماد بن زيد: كنت أمشي مع أيوب السختياني فيأخذ في طرق إني
لأعجب له كيف يهتدي لها فراراً من الناس أن يُقال: هذا أيوب [32] . وأخبار
السلف في هذا كثيرة لا يسع المقام الاستطراد فيها بأكثر من هذا، وإنما أختم لك
بهذا الخبر: قال عبد الرحمن بن مهدي: كنت أجلس يوم الجمعة، فإذا كثر الناس
فرحت، وإذا قلوا حزنت. فسألت بشر بن منصور، فقال: هذا مجلس سوء فلا
تعدْ إليه، فما عدت إليه! ! [33] .
الوقفة الثامنة [34] :
علق الله - تعالى - الذم في الآية على التكاثر الملهي عن التزود للآخرة،
لكن لو حصلت الكثرة من غير تكاثر لم تضر، وقد كان بعض الصحابة أهل كثرة
في المال أو الولد، ولم تضرهم لكونها حاصلة من غير تكاثر كما لا يخفى.
الوقفة التاسعة:
بما مضى تبين أن الذم في الآية واقع على التكاثر في متاع الدنيا الزائل
ولذَّاتها الفانية. أما التكاثر بأسباب السعادة الأخروية فهو مطلوب شرعاً [35] :
[وفي ذلك فليتنافس المتنافسون][المطففين: 26] وعليه فالتكاثر من حيث تعلُّق الذم
والحمد قسمان: محمود، ومذموم.
(فالنفوس الشريفة العلوية ذات الهمم العالية إنما تكاثر بما يدوم عليها نفعه،
وتكمل به وتزكو، وتصير مفلحة، فلا تحب أن يكاثرها غيرها في ذلك، وينافسها
في هذه المكاثرة، ويسابقها إليها. فهذا هو التكاثر الذي هو غاية سعادة العبد.
وضده: تكاثر أهل الدنيا بأسباب دنياهم؛ فهذا تكاثر مُلْهٍ عن الله وعن الدار
الآخرة، وهو جارٌّ إلى غاية القلة، فعاقبة هذا التكاثر: قلٌّ وفقر وحرمان.
والتكاثر بأسباب السعادة الأخروية تكاثر لا يزال يُذكِّر بالله وبنعمه، وعاقبته
الكثرة الدائمة التي لا تزول ولا تفنى، وصاحب هذا التكاثر لا يهون عليه أن يرى
غيره أفضل منه قولاً، وأحسن منه عملاً، وأغزر منه علماً، وإذا رأى غيره أكثر
منه في خصلة من خصال الخير يعجز عن لحوقه فيها كاثره بخصلة أخرى، وهو
قادر على المكاثرة بها، وليس هذا التكاثر مذموماً، ولا قادحاً في إخلاص العبد،
بل هو حقيقة المنافسة، واستباق الخيرات.
وقد كانت هذه حال الأوس مع الخزرج رضي الله عنهم في تصاولهم بين
يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومكاثرة بعضهم لبعض في أسباب مرضاته
ونصرته.
وكذلك كانت حال عمر مع أبي بكر رضي الله عنهما فلما تبين لعمر
مدى سبق أبي بكر له قال: والله لا أسابقك إلى شيء أبداً) [36] .
فينبغي للمؤمن العاقل أن يكون سعيه في تقديم الأهم وهو ما يقربه من ربه -
عز وجل. أما التكاثر بما يفنى فهو تكاثر بأخس المراتب، والاشتغال به يمنع
الإنسان من الاشتغال بتحصيل السعادة الأخروية التي هي سعادة الأبد، ويصرفه
عن الجد في العمل، ويطفئ نور الاستعداد في نفسه وصفاء الفطرة والعقل
والكمالات المعنوية الباقية [37] .
الوقفة العاشرة [38] :
قوله: ألهاكم التكاثر خبر يتضمن تقريعاً وتوبيخاً وتحسراً.
الوقفة الحادية عشرة:
(ألهاكم التكاثر خطاب لكل من اتصف بهذا الوصف، وهم في الإلهاء
والتكاثر درجات لا يحصيها إلا الله.
فإن قيل: فالمؤمنون لم يلههم التكاثر، ولهذا لم يدخلوا في الوعيد المذكور
لمن ألهاه.
وجواب هذا: أن الخطاب للإنسان من حيث هو إنسان، على طريقة القرآن
في تناول الذم له من حيث هو إنسان، كقوله:[وكان الإنسان عجولا]
[الإسراء: 11]، [وكان الإنسان كفورا] [الإسراء: 67] ، [إن الإنسان لربه لكنود] [العاديات: 6] ، [وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا] [الأحزاب: 72] ،
…
[إن الإنسان لكفور][الحج: 66] ، ونظائره كثيرة.
فالإنسان - أيُّ إنسانٍ - هو عارٍ عن كل خير من العلم النافع، والعمل
الصالح، وإنما الله - سبحانه - هو الذي يكمله بذلك، ويعطيه إياه، وليس له ذلك
من نفسه، بل ليس له من نفسه إلا الجهل المضاد للعلم، والظلم المضاد للعدل،
وكل علم وعدل وخير فيه فمِنْ ربه، لا من نفسه. فإلهاء التكاثر طبيعته وسجيته
التي هي له من نفسه، ولا خروج له عن ذلك إلا بتزكية الله له، وجعله مريداً
للآخرة مؤثراً لها على التكاثر بالدنيا، فإن أعطاه ذلك وإلا فهو مُلْتَهٍ بالتكاثر في
الدنيا ولا بد) [39] .
(1) انظر: معجم مقاييس اللغة (كتاب اللام، باب اللام والهاء وما يثالثهما) ، ص939، المفردات للراغب (مادة لهو) 748، تفسير القرطبي 6/414، الفوائد لابن القيم، ص32، أنوار التنزيل
2/618، الكليات، ص778، 799، روح المعاني 30/286.
(2)
انظر: الفروق اللغوية، للعسكري، ص210، الفوائد لابن القيم، ص 32، الكليات،
ص799.
(3)
الفروق اللغوية ص 210
(4)
الفوائد، ص32.
(5)
الفوائد، ص32.
(6)
الفوائد، ص32.
(7)
البخاري، 2/575، ومسلم 2/192 من حديث عائشة رضي الله عنها.
(8)
انظر: التفسير الكبير 32/75، الفوائد، ص 32، أنوار التنزيل2/ 618.
(9)
انظر: عدة الصابرين 183184، الفوائد، ص32، فتح البيان، لصديق خان 10/435، تفسير السعدي 8/262.
(10)
شرح الكوكب المنير 3/197، قواعد التفسير2/597.
(11)
عدة الصابرين، 172.
(12)
الموافقات: 1/114.
(13)
تلبيس إبليس، 116.
(14)
السير، 7/262.
(15)
انظر: مختصر منهاج القاصدين، ص 211.
(16)
ما بين الأقواس () من مختصر منهاج القاصدين، ص 212.
(17)
انظر المصدر السابق، ص 211.
(18)
كان أبو وائل رحمه الله إذا صلى في بيته نشج نشيجا لو جعلت له الدنيا على أن يفعله واحد يراه ما فعله، وكان أيوب السختياني إذا غلبه البكاء قام.
(19)
تنبيه: الرواية التي فيها سرد هذه الأسماء لا تصح؛ والله أعلم.
(20)
تلبيس إبليس، 131.
(21)
سنن الدارمي، 1/132.
(22)
سنن الدارمي، 1/134 والنوكي: جمع أنوك وهو الأحمق، (لسان العرب) .
(23)
السير، 6/22.
(24)
المصدر السابق، 11/226.
(25)
المصدر السابق، 11/207.
(26)
السير، 8/383.
(27)
سنن الدارمي، 1/132.
(28)
سنن الدارمي، 1/132.
(29)
سنن الدارمي، 1/132.
(30)
سنن الدارمي، 1/132.
(31)
السير، 4/58.
(32)
المصدر السابق، 6/22.
(33)
المصدر السابق، 9/196.
(34)
انظر: عدة الصابرين، 191193.
(35)
انظر: القرطبي 6/414.
(36)
ما بين الأقواس () من كلام ابن القيم في عدة الصابرين ص191- 193.
(37)
انظر التفسير الكبير 32/76، لباب التأويل، 4/285، محاسن التأويل، 17/242.
(38)
انظر: المحرر الوجيز، 16/358.
(39)
ما بين الأقواس () من كلام ابن القيم في عدة الصابرين ص 183- 194.
دراسات في الشريعة والعقيدة
أعياد الكفار وموقف المسلم منها
(1/ 2)
إبراهيم بن محمد الحقيل
الصراع بين الحق والباطل دائم ما دامت الدنيا، واتباع فئام من الأمة
المحمدية أهلَ الباطل في باطلهم من يهود ونصارى ومجوس وعباد أوثان وغيرهم، وبقاء طائفة على الحق رغم الضغوط والمضايقات، كل ذلك سنن كونية مقدرة
مكتوبة، ولا يعني ذلك الاستسلام وسلوك سبيل الضالين؛ لأن الذي أخبرنا بوقوع
ذلك لا محالة حذَّرنا من هذا السبيل، وأمرنا بالثبات على الدين مهما كثر الزائغون، وقوي المنحرفون، وأخبرنا أن السعيد من ثبت على الحق مهما كانت الصوارف
عنه، في زمن للعامل فيه مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمل الصحابة -
رضي الله عنهم كما ثبت ذلك في حديث أبي ثعلبة الخشني - رضي الله
عنه -[1] .
ولسوف يكون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أقوام ينحرفون عن الحق
صوب الباطل يغيرون ويبدلون، وعقوبتهم أنهم سيُحجزون عن الحوض حينما يَرِده
الذين استقاموا ويشربون منه كما قال عليه الصلاة والسلام: (أنا فرطكم على
الحوض؛ وليُرفعن إليَّ رجال منكم حتى إذا أهويت إليهم لأناولهم اختلجوا دوني
فأقول: أي رب! أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) وفي رواية:
(فأقول: سحقاً لمن بدَّل بعدي)[2] .
ومن أعظم مظاهر التغيير والتبديل، والتنكر لدين محمد صلى الله عليه وسلم
اتِّباع أعداء الله - تعالى - في كل كبيرة وصغيرة، باسم الرقي والتقدم، والحضارة
والتطور، وتحت شعارات التعايش السلمي والأخوة الإنسانية، والنظام العالمي
الجديد والعولمة والكونية، وغيرها من الشعارات البراقة الخادعة. وإن المسلم
الغيور ليلحظ هذا الداء الوبيل في جماهير الأمة إلا من رحم الله - تعالى - حتى
تبعوهم وقلدوهم في شعائر دينهم وأخص عاداتهم وتقاليدهم كالأعياد التي هي من
جملة الشرائع والمناهج. والله - تعالى - يقول: [ولا تتبع أهواءهم عما جاءك
من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا] [المائدة: 48]، ويقول تعالى: [لكل
أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه] [الحج: 67] أي: عيداً يختصون به.
وإذا كان كثير من المسلمين قد اغتروا ببهرج أعداء الله - تعالى - خاصة
النصارى في أعيادهم الكبرى كعيد ميلاد المسيح عليه الصلاة والسلام
(الكريسمس) وعيد رأس السنة الميلادية، ويحضرون احتفالات النصارى بها في
بلادهم؛ بل نقلها بعضهم إلى بلاد المسلمين - والعياذ بالله - فإن البلية الكبرى
والطامة العظمى ما يجري من استعدادات عالمية وعلى مستوى الدول النصرانية
الكبرى للاحتفال بنهاية الألفية الثانية والدخول في الألفية الثالثة لميلاد المسيح ابن
مريم عليه الصلاة والسلام. وإذا كانت الأرض تعج باحتفالات النصارى في
كل رأس سنة ميلادية فكيف سيكون احتفالهم بنهاية قرن ميلادي (القرن العشرين) ؛
بل بنهاية ألف ميلادية هي الثانية؟ إنه حدث ضخم تستعد له الأمم النصرانية بما
يناسب حجمه وضخامته.
إن هذا الحدث النصراني لن يكون الاحتفال بليلة رأس السنة فيه كما هو
المعتاد في بلاد النصارى فحسب وفي قبلة ديانتهم الفاتيكان؛ بل الاستعدادات جارية
ليكون مركز الاحتفال الرئيس (بيت لحم) موضع مولد المسيح - عليه الصلاة
والسلام - وسينتقل إليها أئمة النصارى السياسيون والدينيون: الإنجيليون منهم
والمعتدلون؛ بل والعلمانيون لإحياء تلك الاحتفالات الألفية التي تنشط الصحافة
العالمية في الحديث عنها كلما اقترب الحدث يوماً بعد يوم، ويتوقع أن يحضرها
أكثر من ثلاثة ملايين من البشر في (بيت لحم) يؤمهم البابا يوحنا بولس الثاني،
وستشارك بعض الدول الإسلامية المجاورة في هذه التظاهرة العالمية على اعتبار أن
بعض شعائر العيد النصراني يقع في أراضيها وهو موقع تعميد المسيح - عليه
الصلاة والسلام - حيث عمده يوحنا المعمدان (يحيى عليه الصلاة والسلام في نهر
الأردن، بل إن كثيراً من المسلمين سيشاركون في تلك الاحتفالات على اعتبار أنها
مناسبة عالمية تهم سكان الأرض كلهم، وما علم هؤلاء أن الاحتفال بهذه الألفية هو
احتفال بعيد ديني نصراني (عيد ميلاد المسيح وعيد رأس السنة الميلادية) وأن
المشاركة فيه مشاركة في شعيرة من شعائر دينهم، والفرح به فرح بشعائر الكفر
وظهوره وعلوه، وفي ذلك من الخطر على عقيدة المسلم وإيمانه ما فيه؛ حيث إن
(من تشبه بقوم فهو منهم)[3] كما صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فكيف بمن شاركهم في شعائر دينهم؟ ! وذلك يحتم علينا الوقوف على حكم أعياد
الكفار، وما يجب على المسلم تجاهها، وكيفية مخالفتهم التي هي أصل من أصول
ديننا الحنيف، بَلْهَ التعرف على أنواع أعيادهم وشعائرهم فيها بقصد تجنبها والحذر
والتحذير منها.
لماذا علينا أن نعرف أعياد الكفار؟ !
من المتفق عليه أن المسلم لا يعنيه التعرف على أحوال الكفار، ولا يهمه
معرفة شعائرهم وعاداتهم - ما لم يُرِدْ دعوتهم إلى الإسلام - إلا إذا كانت شعائرهم
تتسرب إلى جهلة المسلمين فيقعون في شيء منها عن قصد أو غير قصد، فحينئذ
لا بد من معرفتها لاتقائها، والحذر من الوقوع في شيء منها، وفي العصور
المتأخرة يتأكد ذلك للأسباب الآتية:
1 -
كثرة الاختلاط بالكفار سواء بذهاب المسلم إلى بلادهم للدراسة أو
السياحة أوالتجارة أو غير ذلك، فيرى أولئك الذاهبون إليهم بعض شعائرهم وقد
يُعجبون بها، ومن ثم يتَّبعونهم فيها، لا سيما مع هزيمتهم النفسية، ونظرتهم إلى
الكافرين بإعجاب شديد يسلب إرادتهم، ويفسد قلوبهم ويضعف الدين فيها، ومن
ذلك أن كثيراً من المثقفين المغتربين يصف الكفرة بالرقي والتقدم والحضارة حتى
في عاداتهم وأعمالهم المعتادة، أو كان ذلك عن طريق إظهار تلك الأعياد في البلاد
الإسلامية من طوائف وأقليات أخرى غير مسلمة فيتأثر بها جهلة المسلمين في تلك
البلاد.
2 -
وزاد الأمرَ خطورةً البثُّ الإعلامي الذي به يمكن نقل كل شيء بالصوت
والصورة الحية من أقصى الأرض إلى أدناها، وما من شك في أن وسائل إعلام
الكفار أقوى وأقدر على نقل شعائرهم إلى المسلمين دون العكس؛ حيث أصبحت
كثير من القنوات الفضائية تنقل شعائر أعياد الآخرين خاصة أعياد الأمة النصرانية، واستفحل الخطر أكثر وأكثر حينما تبنت بعض الأنظمة العلمانية في البلاد
الإسلامية كثيراً من الاحتفالات بشعائر الكفرة والمبتدعة وأعيادهم، وينقل ذلك عبر
الفضائيات العربية إلى العالم؛ فيغتر بذلك بعض المسلمين بسبب صدوره من بلاد
إسلامية.
3 -
قد عانى المسلمون على مدى تاريخهم من تأثُّر بعضهم بشعائر غيرهم
من جراء الاختلاط بهم مما جعل كثيراً من أئمة الإسلام يحذرون عوام المسلمين من
تقليد غيرهم في أعيادهم وشعائرهم؛ منهم - على سبيل المثال -: شيخ الإسلام
ابن تيمية، وتلميذه العلامة ابن القيم، والحافظان: الذهبي، وابن كثير، وهم قد
عاشوا عصراً واحداً كثر فيه اختلاط المسلمين بغيرهم خاصة بالنصارى، وتأثر
جهلتهم ببعض شعائر دينهم خاصة أعيادهم، ولهذا أكثر الكلامَ عن ذلك هؤلاء
العلماء في تضاعيف مصنفاتهم، وبعضهم أفرد لذلك كتاباً خاصاً، كابن تيمية في
كتابه: (اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم) أو الذهبي في رسالته:
(تشبيه الخسيس بأهل الخميس) ، وغيرهم.
ولقد أطال ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في ذكر أعيادهم وأعمالهم فيها،
وبين مدى تأثر جهلة المسلمين بها، ووصف أعيادهم وأنواعها وما يجري فيها من
شعائر وعادات مما يستغني عن معرفته المسلمون، إلا أن الحاجة دعت إلى ذلك
بسبب اتباع كثير من المسلمين أهل الكتاب في تلك الشعائر.
وقد بيّن شيخ الإسلام أعيادهم وعرضها في مقام التحذير؛ حيث يقول -
رحمه الله تعالى - بعد أن أفاض في الحديث عنها: (وغرضنا لا يتوقف على
معرفة تفاصيل باطلهم؛ ولكن يكفينا أن نعرف المنكر معرفة تميز بينه وبين المباح
والمعروف، والمستحب والواجب، حتى نتمكن بهذه المعرفة من اتقائه واجتنابه كما
نعرف سائر المحرمات؛ إذ الفرض علينا تركها، ومن لم يعرف المنكر جملة ولا
تفصيلاً لم يتمكن من قَصْدِ اجتنابه. والمعرفة الجُمَلية كافية بخلاف الواجبات) [4]، وقال أيضاً: (وإنما عددت أشياء من منكرات دينهم لما رأيت طوائف من
…
المسلمين قد ابتلي ببعضها، وجهل كثير منهم أنها من دين النصارى الملعون هو
وأهله، ولست أعلم جميع ما يفعلونه، وإنما ذكرت ما رأيت من المسلمين يفعلونه
وأصله مأخوذ عنهم) [5] .
4 -
أن بعض أعيادهم تحول في العصر الحاضر إلى اجتماع كبير له بعض
خصائص عيدهم القديم، ويشارك كثير من المسلمين في ذلك دون علم كما في دورة
الألعاب الأولمبية التي أصلها عيد عند اليونان ثم عند الرومان ثم عند النصارى،
وكالمهرجانات التي تقام للتسوق أو الثقافة أو غير ذلك مع أن أصل المهرجان عيد
من أعياد الفرس، وأكثر من يقيمون تلك الاجتماعات ويسمونها (مهرجانات)
يجهلون ذلك.
5-
معرفة الشر سبب لاتقائه واجتنابه، وقد قال حذيفة رضي الله عنه:
(كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن
…
الشر مخافةَ أن يدركني) [6] ومن المعلوم أن الشر العظيم والداء الوبيل أن يقع
المسلم في شيء من شعائر الذين كفروا دون علمه أن ذلك من شعائرهم وأخص
عاداتهم التي أُمرنا بمجانبتها والحذر منها؛ لأنها رجس وضلال.
6 -
كثرة الدعاوي وقوة الأصوات المنافقة التي تريد للأمة الخروج عن
أصالتها، والقضاء على هويتها، والانصهار في مناهج الكفرة، واتباعهم حذو القذة
بالقذة تحت شعارات: الإنسانية والعولمة والكونية والانفتاح على الآخر وتلقِّي
ثقافته، مما حتَّم معرفة ما عند هذا الآخر - الكافر - من ضلال وانحراف لفضحه
وبيان عواره وكشف التزوير وتمزيق الأغلفة الجميلة التي تغلف بها تلك الدعاوى
القبيحة [ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة][الأنفال: 42]
ولكي تقوم الحجة على أتباع محمد صلى الله عليه وسلم فلا يغتروا وينخدعوا.
أعياد الفراعنة:
من أعياد الفراعنة: عيد شم النسيم [7] وهو لتقديس بعض الأيام تفاؤلاً أو
تزلفاً لمن كانوا يُعبدون من دون الله - تعالى - وقد ذكر الشيخ محفوظ ما يقع فيه -
في زمنه - من المخازي والفجور مما يندى له الجبين؛ حيث تمتلئ فيه المزارع
والخلوات بجماعات الفجار وفاسدي الأخلاق، ينزحون جماعات شيباً وشباناً ونساءً
إلى البساتين والأنهار لارتكاب الزنا وشرب المسكرات، يظنون أن ذلك اليوم
أبيحت فيه جميع الخبائث لهم.
ومن أوهامهم فيه: وضع البصل تحت رأس النائم وتعليقه على الأبواب
زاعمين أنه يُذهب عنهم الكسل والوخم. وهو معدود في أعياد الفراعنة وقيل:
أحدثه الأقباط، ولا مانع أنه لكليهما وأنه انتقل من أولئك إلى هؤلاء، ولا زال كثير
من أهل مصر - خاصة الأقباط - يحتفلون به ويشاركهم فيه كثير من المسلمين،
وفي الآونة الأخيرة كتب عنه عدد من الكتاب العلمانيين داعين إلى أن يكون عيداً
رسمياً إحياءً لتراث الفراعنة في الوقت الذي يصفون فيه شعائر الإسلام بالتخلف
والرجعية والردة الحضارية.
أعياد اليونان:
أَشْهُر السنة عند اليونان كثيرة وكانت تسمى بأسماء أعيادهم، وكانت نفقات
أعيادهم يتحملها الأغنياء منهم، وعامة أعيادهم لها صلات بشعائر دينهم الوثني
المبني على تعدد الآلهة عندهم، وقد كثرت أعيادهم جداً بغية التخفف بتلك الأعياد
من متاعب الحياة الرتيبة، وبلغ من كثرتها أنه ما خلا شهر من أشهرهم من عيد أو
أعياد عدا شهر واحد عندهم هو شهر (ممكتريون)[8] .
واتسمت أعيادهم بالفحش والعهر والسكر وإطلاق العنان لغرائزهم الحيوانية
تفعل ما تشاء، كما كان فيها شيء كثير من خرافاتهم وضلالهم: كزعم تحضير
أرواح الأموات ثم إرجاعها أو طردها مرة أخرى بعد انتهاء العيد، وأهم أعيادهم:
عيد الأولمبياد أو العيد الأولمبي ويقام في (إليس) وينعقد كل أربع سنوات،
وكان الأولمبياد الأول المعترف به سنة (776 ق م) وهذا الأولمبياد من أكبر
أعيادهم وتجمعاتهم الموسمية، ومنذ ذلك التاريخ كان يطلق على تلك الألعاب
(الأولمبياد) ، وكان لها صبغة وطنية، ومضامين قومية حتى قيل: إن اليونان
كانت تفتخر بانتصاراتها الأولمبية أكثر من افتخارها بانتصاراتها في المعارك
الحربية؛ فهو أكبر عيد في عالم الإغريق آنذاك [9] .
ولا تزال هذه الألعاب تقام وترعاها الأمم النصرانية بتسميتها القديمة نفسها
وشعائرها الموروثة من إشعال الشعلة الأولمبية من أثينا ونقلها إلى البلد المنظم
للدورة ونحو ذلك؛ ومع بالغ الأسف فإن كثيراً من المسلمين يشاركون فيها،
ويفاخرون بتلك المشاركات، ويجهل كثيرون منهم أن أصلها عيد من أعياد الكفار
الكبرى وأيام مقدسة في دينهم الوثني؛ فنعوذ بالله من الزيغ والضلال والتقليد
الأعمى.
وكان لليونان أيضاً أعياد عظيمة كأعياد الجامعة الهيلينية، وعيد الجامعة
الأيونية وغيرها [10] .
أعياد الرومان:
من أكثر الأمم أعياداً الرومان؛ حيث كان عندهم في السنة أكثر من مائة يوم
مقدس يعتبرونها أعياداً، من بينها اليوم الأول من كل شهر، وخصصت بعض هذه
الأعياد لتقديس الموتى، وأرواح العالم السفلي، وكان يقصد بكثير من أعيادهم وما
يقام فيها من احتفالات استرخاء الموتى وإقصاء غضبهم - حسب زعمهم.
ومن المعلوم أن الإمبراطورية الرومانية سادت بعد اليونان؛ فورثت كثيراً من
شعائر اليونان وعاداتهم وأعيادهم.
ومن أشهر أعيادهم:
عيد الحب: يحتفلون به في يوم (14) فبراير من كل سنة تعبيراً عما
يعتقدونه في دينهم الوثني أنه تعبير عن الحب الإلهي، وأحدث هذا العيد قبل ما
يزيد على (1700 عام) في وقت كانت الوثنية هي السائدة عند الرومان، وقد
أعدمت دولتهم أيام وثنيتها القديس (فالنتين) الذي اعتنق النصرانية بعد أن كان وثنياً، فلما اعتنق الرومان النصرانية جعلوا يوم إعدامه مناسبة للاحتفال بشهداء الحب،
ولا زال الاحتفال بهذا العيد قائماً في أمريكا وأوروبا لإعلان مشاعر الصداقة،
ولتجديد عهد الحب بين المتزوجين والمحبين، وأصبح لهذا العيد اهتمامه الاجتماعي
والاقتصادي.
ويبدو أن عيداً آخر نشأ من مفهوم هذا العيد ذلك هو عيد الزوجين أو
الصديقين المتحابين يحتفل به الزوجان في يوم ذكرى زواجهما من كل عام لتأكيد
المحبة بينهما، وانتقلت هذه العادة إلى المسلمين بسبب المخالطة حتى صار
الزوجان يحتفلان بليلة زواجهما احتفالاً خاصاً في كثير من بلاد المسلمين؛ تشبهاً
بالكفار؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أعياد اليهود:
1-
عيد رأس السنة العبرية ويسمونه عيد (هيشا) وهو أول يوم من تشرين
الأول، ويزعمون أنه اليوم الذي فُدِيَ فيه الذبيح إسحاق عليه السلام، - حسب
معتقدهم الخاطئ؛ لأن الذبيح هو إسماعيل لا إسحاق - وهذا العيد هو بمنزلة عيد
الأضحى عند المسلمين.
2 -
عيد صوماريا أو الكيبور وهو عندهم يوم الغفران.
3 -
عيد المظلل أو الظلل أو المظال يوم (15 تشرين) يستظلون فيه
بأغصان الشجر ويسمونه أيضاً: عيد صوم مريم العذراء.
4 -
عيد الفطير وهو عيد الفصح يوم (15 نيسان) وهو بمناسبة ذكرى
هروب بني إسرائيل من الاستعباد في مصر في القرن الثالث عشر قبل الميلاد،
وقصة هذا العيد مروية في الإصحاح الثاني عشر من التوراة - سِفْر الخروج -
ومدته ثمانية أيام يحتفلون به في فلسطين المحتلة، واليهود الإصلاحيون يحتفلون به
في أقطارهم لمدة سبعة أيام، ولهم فيه احتفال يسمى (السيدار) وفيه تُقرأ قصة
هروب بني إسرائيل من كتاب اسمه: (الحقادا) ويأكلون فيه خبزاً غير مخمر،
على اعتبار أن بني إسرائيل لما هربوا أكلوه؛ إذ لم يكن عندهم وقت لتخميره، ولا
يزال اليهود يأكلونه إلى اليوم في هذا العيد.
5 -
عيد الأسابيع أو (العنصرة) أو (الخطاب) ويزعمون أنه اليوم الذي كلم
الله - تعالى - فيه موسى عليه الصلاة والسلام.
6 -
يوم التكفير في الشهر العاشر من السنة اليهودية: ينقطع الشخص تسعة
أيام يتعبد فيها ويصوم وتسمى أيام التوبة.
7 -
الهلال الجديد: كانوا يحتفلون لميلاد كل هلال جديد؛ حيث كانت تنفخ
الأبواق في بيت المقدس وتشعل النيران ابتهاجاً به.
8 -
عيد اليوبيل وهو المنصوص عليه في سِفْر اللاويين.
ولهم أعياد أخرى من أشهرها: عيد الفوز أو (البوريم) وعيد الحنكة ويسمى
(التبريك)[11] .
أعياد النصارى:
1 -
عيد القيامة ويسمى عيد الفصح، وهو أهم أعياد النصارى السنوية،
ويسبقه الصوم الكبير الذي يدوم أربعين يوماً قبل أَحَد الفصح، وهذا العيد يحتفون
في ذكراه بعودة المسيح عليه السلام أو قيامته بعد صلبه وهو بعد يومين من
موته - على حد زعمهم - وهو خاتمة شرائع وشعائر متنوعة هي:
أ - بداية الصوم الكبير وهو أربعون يوماً قبل أحد الفصح، ويبدؤون الصوم
بأربعاء يسمونه أربعاء الرماد؛ حيث يضعون الرماد على جباه الحاضرين ويرددون: (من التراب نبدأ وإليه نعود) .
ب - ثم بعده خمسون يوماً تنتهي بعيد الخمسين أو العنصرة.
ج - أسبوع الآلام وهو آخر أسبوع في فترة الصوم، ويشير إلى الأحداث
التي قادت إلى موت عيسى عليه السلام وقيامته - كما يزعمون.
د - أحد السعف وهو يوم الأحد الذي يسبق الفصح، وهو إحياء ذكرى دخول
المسيح بيت المقدس ظافراً.
هـ - خميس العهد أو الصعود ويشير إلى العشاء الأخير للمسيح واعتقاله
وسجنه.
و الجمعة الحزينة وهي السابقة لعيد الفصح وتشير إلى موت المسيح على
الصليب - حسب زعمهم.
ز - سبت النور وهو الذي يسبق عيد الفصح، ويشير إلى موت المسيح،
وهو يوم الانتظار وترقب قيام المسيح أحد عيد الفصح. وتنتهي احتفالات عيد
الفصح بيوم الصعود أو خميس الصعود؛ حيث تتلى قصة رفع المسيح إلى السماء
في كل الكنائس، ولهم فيه احتفالات ومهرجانات مختلفة باختلاف المذاهب والبلاد
النصرانية، ويسمون خميسه وجمعته السابقة له الخميس الكبير، والجمعة الكبيرة،
كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -[12] وهو الخميس
المقصود برسالة الحافظ الذهبي - رحمه الله تعالى - (تشبيه الخسيس بأهل
الخميس) ، وهذا الخميس هو آخر يوم صومهم ويسمونه أيضاً خميس المائدة أو عيد
المائدة وهو المذكور في سورة المائدة في قوله - تعالى -: [قال عيسى ابن مريم
اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا
…
]
[المائدة: 114] .
وكان لهم من الأعمال الغريبة في هذه الأعياد شيء كثير، ذَكَرَهُ كثير من
المؤرخين، فمن ذلك جمع ورق الشجر وتنقيعه والاغتسال به والاكتحال، وكان
أقباط مصر يغتسلون في بعض أيامه في النيل ويزعمون أن في ذلك رقية ونشرة.
ويوم الفصح عندهم هو يوم الفطر من صومهم الأكبر، ويزعمون أن المسيح -
عليه السلام قام فيه بعد الصلبوت بثلاثة أيام وخلص آدم من الجحيم، إلى غير
ذلك من خرافاتهم. وقد ذكر شمس الدين الدمشقي الذهبي أن أهل حماة يعطلون فيه
أعمالهم لمدة ستة أيام، ويصبغون البيض، ويعملون الكعك، وذكر ألواناً من الفساد
والاختلاط الذي يجري فيه آنذاك، وذكر أن المسلمين يشاركون فيه وأن أعدادهم
تفوق أعداد النصارى - والعياذ بالله [13] .
وذكر ابن الحاج: أنهم يجاهرون بالفواحش والقمار ولا أحد ينكر عليهم [14] ولعل هذا ما دفع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى إنكار ما رآه من
المسلمين من تقليد النصارى في أعيادهم وشعائرهم؛ فإنه ذكر شيئاً كثيراً من ذلك
في كتابه القيم الاقتضاء، وكذلك ألف الذهبي رسالته آنفة الذكر.
ويحتفل به عامة النصارى إلى اليوم في أول أَحد بعد كمال الهلال من فصل
الربيع في الفترة ما بين (22 مارس و 25 إبريل) والكنائس الشرقية الأرثوذكسية
تتأخر عن بقية النصارى في الاحتفال به وهو بشعائره وصيامه وأيامه فصلٌ كامل
من السنة النصرانية [15] .
2 -
عيد ميلاد المسيح عليه السلام وعند الأوروبيين يسمى عيد
الكريسمس وهو يوم (25 ديسمبر) عند عامة النصارى، وعند الأقباط يوافق يوم
(29 كيهك) والاحتفال به قديم ومذكور في كتب التاريخ قال المقريزي: وأدركنا
الميلاد بالقاهرة ومصر وسائر إقليم مصر جليلاً تباع فيه الشموع المزهرة وكانوا
يسمونها الفوانيس [16] .
ومناسبة هذا العيد عند النصارى تجديد ذكرى مولد المسيح عليه السلام
كل عام، ولهم فيه شعائر وعبادات؛ حيث يذهبون إلى الكنيسة ويقيمون الصلوات
الخاصة. وقصة عيد الميلاد مذكورة في أناجيلهم (لوقا) و (متَّى) وأول احتفال به
كان عام 336م، وقد تأثر بالشعائر الوثنية؛ حيث كان الرومان يحتفلون بإله
الضوء وإله الحصاد، ولما أصبحت الديانة الرسمية للرومان النصرانية صار
الميلاد من أهم احتفالاتهم في أوروبا، وأصبح القديس (نيكولاس) رمزاً لتقديم
الهدايا في العيد من دول أوروبا، ثم حل البابا (نويل) محل القديس (نيكولاس)
رمزاً لتقديم الهدايا خاصة للأطفال [17] . وقد تأثر كثير من المسلمين في مختلف
البلاد بتلك الشعائر والطقوس؛ حيث تنتشر هدايا البابا (نويل) المعروفة في المتاجر
والمحلات التي يملكها في كثير من الأحيان مسلمون، وكم من بيت دخلته تلك
الهدايا، وكم من طفل مسلم يعرف البابا (نويل) وهداياه! فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وللنصارى في هذا العيد شعائر منها: أن نصارى فلسطين وما جاورها
يجتمعون ليلة عيد الميلاد في (بيت لحم) المدينة التي ولد فيها المسيح - عليه
الصلاة والسلام - لإقامة قداس منتصف الليل، ومن شعائرهم: احتفالهم بأقرب يوم
أحد ليوم (30 نوفمبر) وهو عيد القديس (أندراوس) وهو أول أيام القدوم - قدوم
عيسى عليه السلام ويصل العيد ذروته بإحياء قداس منتصف الليل؛ حيث تزين
الكنائس ويغني الناس أغاني عيد الميلاد وينتهي موسم العيد في (6 يناير) .
وبعضهم يحرق كتلة من جذع شجرة عيد ميلاد المسيح، ثم يحتفظون بالجزء غير
المحروق، ويعتقدون أن ذلك الحرق يجلب الحظ، وهذا الاعتقاد سائد في بريطانيا
وفرنسا والدول الاسكندنافية [18] .
3 -
عيد الغطاس: وهو يوم (19 يناير) وعند الأقباط يوم (11 من شهر
طوبة) وأصله عندهم أن يحيى بن زكريا - عليهما الصلاة والسلام - والمعروف
عندهم بيوحنا المعمدان عمّد المسيح ابن مريم عليه الصلاة والسلام في نهر
الأردن، وعندما غسله اتصلت به روح القدس، فصار النصارى لأجل ذلك
يغمسون أولادهم في الماء في هذا اليوم وينزلون فيه بأجمعهم [19] ، وقد ذكر
المسعودي أن لهذا العيد - في وقته - شأناً عظيماً بمصر، يحضره آلاف النصارى
والمسلمين، ويغطسون في نهر النيل ويزعمون أنه أمان من المرض ونشرة
للدواء [20] . وعلى هذا المفهوم تحتفل به الكنائس الأرثوذكسية، وأما الكنائس الكاثوليكية والبروتستانتية فلهم مفهوم آخر في الاحتفال به، وهو إحياء ذكرى تقديس الرضيع المسيح عليه الصلاة والسلام على يد الرجال الثلاثة الذين قدموا من الشرق.
وأصل كلمة (غطاس) إغريقية وهي تعني الظهور، وهو مصطلح ديني
مشتق من ظهور كائن غير مرئي، وقد جاء في التوراة أن الله - تعالى - تجلى
لموسى عليه الصلاة والسلام على هيئة أجمة محترقة [21]- تعالى الله عن
قولهم علواً كبيراً.
4 -
عيد رأس السنة الميلادية: وللاحتفال به شأن عظيم في هذه الأزمنة؛
حيث تحتفل به الدول النصرانية وبعض الدول الإسلامية، وتنقل تلك الاحتفالات
بالصوت والصورة الحية من شتى بقاع الأرض، وتتصدر احتفالاته الصفحات
الأولى من الصحف والمجلات، وتستحوذ على معظم نشرات الأخبار والبرامج التي
تبث في الفضائيات، وصار من الظواهر الملحوظة سفر كثير من المسلمين الذين لا
تقام تلك الاحتفالات النصرانية في بلادهم إلى بلاد النصارى لحضورها والاستمتاع
بما فيها من شهوات محرمة غافلين عن إثم الارتكاس في شعائر الذين كفروا.
وللنصارى في ليلة رأس السنة (31 ديسمبر) اعتقادات باطلة، وخرافات
كسائر أعيادهم المليئة بذلك، وهذه الاعتقادات تصدر عن صُنّاع الحضارة الحديثة
وممن يوصفون بأنهم متحضرون ممن يريد المنافقون من بني قومنا اتباعهم حذو
القذة بالقذة حتى في شعائرهم وخرافاتهم لكي نضمن مواقعنا في مصافِّ أهل التقدم
والحضارة، وحتى يرضى عنها أصحاب البشرة البيضاء والعيون الزرقاء! !
ومن اعتقاداتهم تلك: أن الذي يحتسي آخر كأس من قنينة الخمر بعد منتصف
تلك الليلة سيكون سعيد الحظ، وإذا كان عازباً فسيكون أول من يتزوج من بين
رفاقه في تلك السهرة، ومن الشؤم دخول منزل ما يوم عيد رأس السنة دون أن
يحمل المرء هدية، وكنسُ الغبار إلى الخارج يوم رأس السنة يُكنس معه الحظ
السعيد، وغسل الثياب والصحون في ذلك اليوم من الشؤم، والحرص على بقاء
النار مشتعلة طوال ليلة رأس السنة يحمل الحظ السعيد.... إلخ تلك
الخرافات [22] .
ولهم أعياد سوى تلك: منها ما هو قديم، ومنها ما هو محدث، وأعياد
أخذوها عمن سبقهم من اليونان والرومان، وأعياد كانت في دينهم ثم اندثرت، ومن
هذه الأعياد ما هو كبير مهم لديهم، ومنها ما هو صغير تقتصر أهميته على بعض
كنائسهم أو بعض مذاهبهم.
ولكل أصحاب مذهب منهم أعياد تخصهم وتخص كنائسهم ورهبانهم
وقساوستهم لا يعترف بها أهل المذاهب الأخرى، فالبروتستانت لا يؤمنون بأعياد
الكنائس الأخرى [23] ، ولكنهم يتفقون على الأعياد الكبرى كعيد الفصح والميلاد
ورأس السنة والغطاس وإن اختلفوا في شعائرها ومراسم الاحتفال بها، أو في بعض
أسبابها وتفاصيلها، أو في زمانها ومكانها.
أعياد الفرس:
1 -
عيد النيروز: ومعنى النيروز: الجديد، وهو ستة أيام؛ حيث كانوا في
عهد الأكاسرة يقضون حاجات الناس في الأيام الخمسة الأولى، وأما اليوم السادس
فيجعلونه لأنفسهم وخواصهم ومجالس أنسهم، ويسمونه النيروز الكبير، وهو أعظم
أعيادهم [24] .
وذكر أصحاب الأوائل أن أول من اتخذ النيروز حمشيد الملك، وفي زمانه
بعث هود عليه السلام وكان الدين قد تغيّر، ولما ملك حمشيد جدّد الدين وأظهر
العدل، فسُمي اليوم الذي جلس فيه على سرير الملك نيروزاً، فلما بلغ من عمره
سبعمائة سنة ولم يمرض ولم يوجعه رأسه تجبر وطغى، فاتخذ شكلاً على صورته
وأرسلها إلى الممالك ليعظموها، فتعبَّدها العوام، واتخذوا على مثالها الأصنام،
فهجم عليه الضحاك العلواني من العمالقة باليمن فقتله كما في التواريخ [25] . ومن
الفرس من يزعم أن النيروز هو اليوم الذي خلق الله فيه النور. ويعتبر النيروز
عيد رأس السنة الفارسية الشمسية ويوافق الحادي والعشرين من شهر مارس من
السنة الميلادية [26] ، وكان من عادة عوامهم إيقاد النار في ليلته ورش الماء في
صبيحته.
ويحتفل بعيد النيروز أيضاً البهائيون، وذلك في ختام صيامهم الذي مدته 19
يوماً وذلك في (21 آذار)[27] والنيروز، أيضاً أول يوم من السنة عند
القبط ويسمى عندهم عيد شم النسيم ومدته عندهم ستة أيام أيضاً تبدأ
من (6 حزيران)[28] . وقد مضى ذكر شم النسيم عند الفراعنة فلا يمنع أن يكون الأقباط أخذوه من تراث الفراعنة وآثارهم، ولا سيما أن الجميع في مصر.
2 -
عيد المهرجان: كلمة (مهرجان) مركبة من (المهر) ومعناه: الوفاء،
(جان) : السلطان، ومعنى الكلمة: سلطان الوفاء، وأصل هذا العيد: ابتهاج
بظهور (أفريدون) على الضحاك العلواني الذي قتل (حمشيد) الملك صاحب عيد
النيروز، وقيل: بل هو احتفال بالاعتدال الخريفي، ولا يمنع أن يكون أصله ما
ذكر أولاً لكنه وافق الاعتدال الخريفي فاستمر فيه. والاحتفال به يكون يوم (26 من
تشرين الأول من شهور السريان) وهو كسابقه ستة أيام أيضاً، والسادس منها
المهرجان الكبير، وكانوا يتهادون فيه وفي النيروز المسك والعنبر والعود الهندي
والزعفران والكافور [29] ، وأول من رسم هدايا هذين العيدين في الإسلام الحجاج
بن يوسف الثقفي، واستمر إلى أن رفعه الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز -
رحمه الله تعالى -[30] .
ومن عظيم ما ابتلي به المسلمون استخدام لفظ (المهرجان) على كثير من
الاجتماعات والاحتفالات والتظاهرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية؛ بل وحتى
الدعوية فيقال: مهرجان الثقافة، ومهرجان التسوق، ومهرجان الكتب، ومهرجان
الدعوة، وما إلى ذلك مما نرى دعاياته ونسمع عباراته كثيراً يتصدرها هذا
المصطلح الوثني (المهرجان) الذي هو عيد عَبَدَة النار.
ولهذا فإن إطلاق هذا الشعار الفارسي الوثني على اجتماعات المسلمين من
مواطن النهي الجلي [31] يجب اجتنابه والنهي عن استعماله، وفي المباح من
الألفاظ غنية عنه، واللغة العربية أغنى اللغات لفظاً ومعنى.
(1) أخرجه أبو داود (4341) ، والترمذي (3060) وابن ماجه (4014) .
(2)
أخرجه البخاري (6576) ومسلم (2297) .
(3)
أخرجه أحمد 2/50 وأبو داود 4021.
(4)
اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية 1/475.
(5)
السابق 1/476.
(6)
أخرجه البخاري في الفتن (11/30) ومسلم في الإمارة 1847.
(7)
الإبداع في مضار الابتداع 275-276 و436 ومجلة الأزهر 10/ 1149.
(8)
قصة الحضارة لديورانت 6/361.
(9)
المنهل 525/105.
(10)
قصة الحضارة 6/361.
(11)
أعياد اليهود في موسوعة المذاهب والأديان المعاصرة1/504 واليوبيل10 ومجلة المنارعدد 7، ص102، ومجلة الاجتهاد عدد 20، ص357، ومجلة الإسلام عدد 43، ص23، ومجلة المنهل عدد 525، ص106.
(12)
انظر اقتضاء الصراط المستقيم (1/473) وانظر أيضا الأمر بالاتباع للسيوطي (141) .
(13)
انظر نخبة الدهر للذهبي (280) والبدء والتاريخ المقدسي (4/47) .
(14)
المدخل 1/309.
(15)
انظر تاريخ ابن الوردي 1/80، والكامل 1/125، وتاريخ الطبري 1/735، وابن خلدون
2/147، ومجلة المشرق الكاثوليكية عدد 4 ص 241 253، والموسوعة العربية العالمية
16/709، والموسوعة العربية الميسرة 2/ 1247.
(16)
الخطط 1/495.
(17)
الموسوعة العربية العالمية 16/711.
(18)
السابق 16/712.
(19)
مجلة الإسلام عدد 43ص 24.
(20)
مروج الذهب 1/357.
(21)
الموسوعة العربية العالمية 16/709، والموسوعة العربية الميسرة 2/ 1247.
(22)
مجلة الاستجابة 4 29.
(23)
موسوعة المذاهب والأديان المعاصرة 2/632.
(24)
مجلة الأزهر عدد 10ص 1485.
(25)
شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد للسفاريني 1/578.
(26)
حاشية الحلو والتركي على المغني لابن قدامة 4/428.
(27)
موسوعة الأديان والمذاهب المعاصرة 1/415.
(28)
عيد اليوبيل بدعة في الإسلام، 15.
(29)
شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد 1/578، ومجلة المنار عدد 6ص 99، وحاشية المغني
4/428، والأزهر.
(30)
المنار عدد 6 ص 100.
(31)
معجم المناهي اللفظية.
دراسات في الشريعة والعقيدة
من القواعد الفقهية
(2-2)
عبد اللطيف بن محمد الحسن
في الحلقة الأولى أشار الكاتب إلى أهمية القواعد الفقهية، وعلاقة الأحكام
الجزئية بها، ثم شرع يعرض بعضاً منها ممثلاً بما يندرج تحتها من أحكام فقهية.
ويستكمل الكاتب في هذه الحلقة عرض بقية مختاراته من هذه القواعد وبعض ما
ينبثق عنها من أحكام وقواعد فرعية، وقد أخذ على نفسه ابتداءً ألا يعرض إلا
للصحيح الثابت.
- البيان -
قاعدة: (لا عبرة بالظن البَيّن خَطَؤهُ) :
الظن هو: إدراك الاحتمال الراجح الذي ظهر رجحانه على نقيضه بدليل
معتبر. فإذا ازداد قوة حتى أصبح خلافه موهوماً فهو غالب الظن.
معنى القاعدة: البناء على الظن صحيح؛ إذ هو أعلى مرتبة من الشك؛ فهو
أقرب إلى اليقين. والأحكام الشرعية في غالبها مبنية على الظن، لكن قد يظهر
خطأ ذلك الظن، ويتبين أنه خلاف الواقع، وحينئذ فإنه لا يجوز البناء عليه،
لنزوله عن المرتبة المعتبرة، وبذلك ينتقض كل ما بني عليه من أحكام.
وهذه القاعدة فرع من القاعدة الكلية الكبرى: (اليقين لا يزول بالشك) . ووجه
العلاقة بينهما أن القاعدة الكبرى تفيد أن الإنسان لا بد أن يبني أحكامه على اليقين،
وهو الأمر المجزوم به، أو ما يقوم مقامه شرعاً وهو الظن الصحيح. أما الظن
الخطأ فهو الذي تتحدث عنه هذه القاعدة [1] .
من فروع القاعدة:
- إذا توضأ بماء ظنه طهوراً، فبان أنه نجس بطلت طهارته، ولا عبرة
بظنه: كونه طهوراً.
- إذا صلى يظن الوقت دخل، فظهر خلافه، لم تصح صلاته.
- إذا حج إنسان بولده يظنه بالغاً، والحال خلافه، لم تسقط عنه الفريضة.
- لو صلى يظن نفسه متطهراً، ثم تبين له أنه محدث، فإنه لا عبرة بظنه
الطهارة، ولا تصح صلاته.
- إذا كان صائماً فأكل يظن الشمس قد غربت، ولم تغرب بعد؛ فلا عبرة
بظنه، وعليه القضاء.
- لو وجد في بيته أو مركبه مالاً ظنه له، فاستهلكه، فبان أنه لغيره، لزمه
العوض.
ومن الصور المستثناة من القاعدة:
- لو صلى خلف من يظنه متطهراً، فبان أنه محدث: صحت صلاته.
قاعدة: (الأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته) :
هذه القاعدة أيضاً من القواعد المندرجة تحت القاعدة الكبرى: (اليقين لا يزول
بالشك) ، ومعناها: أنه إذا وجد أمراً ما حادثاً، وأمكن أن يكون وقته قريباً أو بعيداً، ولا بيِّنة، فإن القاعدة هي أن وقته المعتبر هو القريب؛ لأنه هو المتيقن، والبعيد
مشكوك فيه.
من فروع القاعدة:
- لو رأى في ثوبه منياً، يعلم أنه من أثر احتلام، ولم يذكر احتلاماً، فإنه
يُرجعه إلى آخر نومة نامها، ويعيد الصلوات التي صلاها بعد تلك النومة.
- لو ضرب إنسان بطن حامل فوضعت جنينها حياً، وبقي زمناً بلا ألم، ثم
مات، فإن موته يُنسب إلى سبب آخر بعد الضرب، بخلاف ما لو وضعته ميتاً،
أو حياً متألماً حتى مات، فإنه يُنسب إلى ضربه لها، فتجب فيه دية كاملة [2] .
قاعدة: (إذا اجتمع أمران من جنس واحد متفقا المقصد دخل أحدهما في الآخر
غالباً) [3] :
من فروع القاعدة:
- إذا حلف عدة أيْمان على أمر واحد دخل بعضها في بعض في الكفارة،
وأجزأته كفارةٌ واحدةٌ، أما إذا حلف على أكثر من شيء فقد اختلف القصد، فيجب
عليه كفارات بعدد الأيْمان. وكذلك إذا حلف على أمر ثم حنث وكفّر عنه، ثم حلف
عليه ثانية، وحنث: وجب عليه كفارة ثانية؛ لأن الكفارة يجب أن تكون بعد
الحلف.
- إذا فعل عدة محظورات في الإحرام من جنس واحد، كأن قص أكثر من
ظفر، فتكفيه فدية واحدة، ولكن إذا اختلف الجنس تعددت الفدية، كما لو قص
ظفراً وشعراً وغطى رأسه عمداً.
- لو كرر آية فيها سجدة، أو آيات فيها سجدات - للتعليم مثلاً كتطبيق
التجويد - كفاه عنها سجدة واحدة.
وقد عبر ابن رجب عن القاعدة بقوله: (إذا اجتمعت عبادتان من جنس واحد، في وقت واحد، متفقتا المقصد، ليست إحداهما مفعولة على جهة القضاء، ولا
عن طريق التبعية للأخرى في الوقت.. تداخلت أفعالهما، واكتفى فيها بفعل
واحد) [4] . وجعلها على ضربين:
أحدهما: أن يحصل له بالفعل الواحد العبادتان جميعاً، ويشترط أن ينويهما
جميعاً. وله صور عدة منها:
- القارن يكفيه لحجه وعمرته سعي واحد، وطواف واحد.
- إذا اغتسل الجنب اغتسالاً نوى به الطهارتين: حصلتا له.
- المرأة إذا حاضت، وكانت جُنُباً كفاها عن حيضها وجنابتها غسل واحد.
الثاني: أن يحصل له إحدى العبادتين بنيتها، وتسقط عنه الأخرى. وله عدة
صور منها:
- إذا دخل المسجد وصلى فريضة أو راتبة، دخلت فيها تحية المسجد.
- إذا طاف الحاج عند خروجه من مكة طوافاً ينوي به الإفاضة والوداع أجزأه.
- لو صلى فريضة أو نافلة بعد الطواف: كفته عن الركعتين - على قول.
- طواف العمرة يجزئ عن طواف القدوم الذي هو سنة.
- إذا اجتمع العيد مع الجمعة في يومها فأيهما قدم في الفعل أولاً سقط به
الثاني [5] .
قاعدة: (التابع تابع) :
وعبر عنها بعض العلماء بقوله: (يثبت تَبَعاً ما لا يثبت استقلالاً) ، ومعنى
القاعدة: أن بعض المسائل يختلف حكمها في حال الانفراد، عن حكمها في حال
التبع لغيرها؛ فلها حكم إذا انفردت، ولها حكم آخر إذا اتبعت غيرها [6] .
ويستدل لهذه القاعدة بالنهي عن بيع حَبَل الحَبَلَة، وهو الحمل في بطن
أمه [7] . ولكن يجوز بيعه مع أمه تبعاً لها، ويجوز أن يكون له أثر في الثمن، فثبت له تبعاً ما لم يثبت له استقلالاً.
ومن أمثلة القاعدة: الصلاة لا تدخلها النيابة، ولكن بالنظر إلى أنها تابع للحج
كما في ركعتي الطواف فإنها تدخلها النيابة بهذا الاعتبار وهو التبع للنيابة في الحج.
ومن أمثلتها: شد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز
استقلالاً، ويجوز تبعاً لشد الرحال لزيارة المسجد النبوي، بأن ينويهما معاً كما
صرح به بعض أهل العلم.
ويدخل تحت هذه القاعدة قواعد، منها:
1 -
التابع لا يفرد بالحكم، ما لم يصر مقصوداً، كالمفتاح يجوز بيعه دون القفل؛ لكونه صار مقصوداً بذاته، وكذا عجلة السيارة، وسائر قطع التبديل فيها، ونحو ذلك.
2 -
التابع يسقط بسقوط المتبوع، كمثل من فاتته صلاة في أيام الجنون - وقلنا بعدم القضاء - فإن س'ننها الرواتب تسقط تبعاً. وكالشروط المشترطة في عقد البيع أو النكاح تسقط ببطلانه.
3 -
التابع لا يُقدم على المتبوع، كالمأموم مع إمامه لا يجوز له تقدمه في المكان
أو الأفعال.
4 -
يُغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها.
ومن فروعها: سجود التلاوة في الصلاة يجوز على الراحلة تبعاً للصلاة،
واختلف فيه استقلالاً.
ومنها: وقوع الطلاق لا يثبت بشهادة امرأة، ولكنه يقع إذا شهدت المرأة
بالرضاع.
ومنها: ثبوت النسب: يثبت تبعاً لثبوت الولادة على الفراش بشهادة النساء،
مع أن قولهن غير مقبول في النسب.
5 -
من مَلَك شيئاً مَلَك ما هو من ضروراته: كمن اشترى سيارة ملك
عجلاتها، وعجلتها الاحتياطية وأدوات الإصلاح الموجودة فيها، ومن اشترى بيتاً
أو استأجره ملك الانتفاع بأبوابه ونوافذه وبقية منافعه.
قاعدة: (ما حرم استعماله حرم اتخاذه، وما حرم أخذه حرم إعطاؤه، وما حرم فعله حرم طلبه) :
هذه القواعد الثلاث متقاربة المعنى، وكلها تفيد سد أبواب الحرام: استعمالاً
واتخاذاً، وأخذاً وإعطاء، وفعلاً وطلباً [8] .
فالشيء الذي حرم الشرع استعماله - كآلات اللهو مثلاً - أو حرم أكله أو
شربه فإنه لا يجوز اتخاذه؛ لئلا يكون اتخاذه وسيلة وذريعة إلى استعماله. وكذلك
الشيء الذي منع الشرع من أخذه والاستفادة منه - كالربا مثلاً - فإنه يمنع من
إعطائه للغير وتقديمه له، سواء كان على سبيل المنحة ابتداءاً، أم على سبيل
المقابلة، لما في ذلك من الدعوة إلى المحرم أو الإعانة والتشجيع عليه، فيكون
المعطي شريك الفاعل، وقد نهى الله تبارك وتعالى عن المعاونة على المحرم
أياً كانت صورة ذلك التعاون، فقال - تعالى -: [وتعاونوا على البر والتقوى ولا
تعاونوا على الإثم والعدوان] [المائدة: 2] .
وأيضاً ما حرم الشرع فعله - كالرشوة مثلاً، وشرب الخمر والزنا - فإن
طلب ذلك الفعل محرم أيضاً؛ إذ الحرام لا يجوز فعله، ولا الأمر بفعله.
وهذه القواعد لا إشكال في صحتها لمن عرف عمومات نصوص الشريعة،
ومقاصدها، ومع ذلك فقد ورد من الأدلة ما يؤيدها، ويشهد لها، كحديث: (لعنت
الخمر على عشرة أوجه: بعينها، وعاصرها، ومعتصرها، وبائعها، ومبتاعها،
وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها، وشاربها، وساقيها) [9]، وحديث: (لعن
الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجمَّلوها فباعوها) [10] ، وحديث لَعْن آكل
الربا وموكله [11] .
أمثلة على القواعد الثلاث تباعاً:
- على القاعدة الأولى: حرم الشارع اتخاذ آلات الملاهي، وأواني الذهب
والفضة، والكلب لغير الصيد أو الحراسة، والخنزير، والفواسق، والخمر،
والحرير، والحلي للرجال، وكل ذلك لئلا يجر الاتخاذ إلى الاستعمال.
- وعلى القاعدة الثانية: حرم أخذ الربا، والرشوة، وأجرة النائحة،
والمطرب، ومهر البغي (الفاجرة) ، وحلوان الكاهن (المنجِّم، ومدعي علم الغيب)
…
والصدقة للقوي المكتسب، والعقل يدل على أن الأخذ لا يكون إلا من معطٍ؛
فتحريم الأخذ تحريم للإعطاء.
- وعلى القاعدة الثالثة: يحرم طلب شرب الخمر، والزنا، والقتل وكل ما حرم الله فعله.
وللقاعدة استثناءات [12] :
- منها: جواز إعطاء الرشوة، لمن لا يستطيع أخذ حقه إلا بها، والإثم على
الآخذ.
- منها: جواز الاستقراض بالربا في حالة الاضطرار مع حرمة أخذه على
الآخذ [13] .
…
قاعدة: (الإيثار في القُرَبِ مكروه، وفي غيرها محبوب) :
الإيثار نوعان: إيثار في الحظوظ الدنيوية، كالإيثار بطعام أو شراب أو
لباس أو مركب، فهذا مطلوب محمود، قال عز وجل: [ويؤثرون على
أنفسهم ولو كان بهم خصاصة] [الحشر: 9] ، وقد يصل إلى الإيثار بالنفس
والحياة، وهو داخل تحت قاعدة: الأمور بمقاصدها.
والنوع الثاني: إيثار في الطاعات والقُرْبَاتِ، وهذا يختلف حكمه باختلاف
حكم الأمر المؤْثَر فيه، فقد يكون حراماً، أو مكروهاً، أو خلاف الأوْلى.
فيكون حراماً إذا أدى إلى ترك واجب، مثل ما إذا آثر غيره بماء الطهارة؛
حيث لا يوجد غيره، أو ساتر العورة، أو آثره بمكان في جماعة، ويترتب عليه
تأخيره للصلاة، أو آثره بمكان يسمع فيه خطبة الجمعة، بحيث تفوته هو.
ويكون مكروهاً إذا أدى إلى ترك سنة، أو فعل مكروه.
ومثال ما أدى إلى ترك سنة: إيثاره لغيره بالصف الأول، أو الأذان، أو
القراءة على الشيخ، أو إيثاره بقلم أو ورق يكتب فيه درساً يفوت، أو مكان يسمع
فيه خطبة العيد، بحيث لا يسمعها هو.
ومثال ما أدى إلى فعل مكروه: أن يؤثره بإناء الشرب؛ بحيث لا يمكنه أن
يشرب هو إلا قائماً - من صنبور الماء مثلاً -.
ويكون خلاف الأَوْلى إذا أدى إلى ارتكاب خلاف الأَوْلى، كمن آثر غيره
بمكانه - الأقرب للإمام - في نفس الصف، أو قدمه على نفسه في القراءة على
الشيخ، وقد يقال في هذه المرتبة والتي قبلها بمشروعية الإيثار أو استحبابه بحسب
ما يترتب عليه من دفع مفسدة، أو تحقيق مصلحة أرجح.
سبب كون الإيثار بالطاعات مكروهاً:
قد تشتبه هذه المسألة بمسألة: (إهداء ثواب الطاعات للأموات) ، وهي محل
خلاف؛ فالحنفية والشافعية قالوا بجواز إهداء ثواب جميع الطاعات قياساً على ما
ورد فيه النص، وجعلوا ما ورد في النص مثالاً يصلح القياس عليه، أما المالكية
والحنابلة فقصروا الأمر على ورود النص من الحج والعمرة والأضحية والصدقة
بخلاف بقية الطاعات - ولعله الراجح والله أعلم -.
والمقصود: أنه إذا كان الإيثار بالثواب - الذي هو غاية العمل - جائزاً،
فلماذا يمنع الإيثار بالقُرَبِ - وهي سبب الثواب -؟ ولماذا لا يمنع الإيثار بالثواب؟
وقد أجاب ابن القيم على هذا الاستشكال بثلاثة أجوبة هي في الحقيقة أوجه
الفرق بين الصورتين، ويتضح من خلالها سبب كراهة الإيثار بالقُرَب والطاعات،
فقال:
(أحدها: أنَّ حال الحياة حال لا يوثق فيها بسلامة العاقبة؛ لجواز أن يرتد
الحي فيكون قد آثر بالقربة غير أهلها وهذا قد أمن بالموت.
فإن قيل: والمهدَى إليه أيضاً قد لا يكون مات على الإسلام باطناً فلا ينتفع بما
يُهدَى إليه! وهذا سؤال في غاية البطلان؛ فإنَّ الإهداء له من جنس الصلاة عليه،
والاستغفار له والدعاء له، فإن كان أهلاً انتفع به، وإلا انتفع به الدَّاعي وحده.
الجواب الثاني: أن الإيثار بالقرب يدل على قلة الرغبة فيها والتأخر عن
فعلها، ولو ساغ الإيثار بها لأفضى إلى التقاعد والتكاسل والتأخر، بخلاف إهداء
ثوابها؛ فإن العامل يحرص عليها لأجل ثوابها لينتفع به، أو ينفع به أخاه المسلم،
فبينهما فرق ظاهر.
الجواب الثالث: أن الله سبحانه وتعالى يُحبُّ المبادرة والمسارعة إلى
خدمته والتنافس فيها؛ فإنَّ ذلك أبلغ في العبودية؛ فإن الملوك تحب المسارعة
والمنافسة في طاعتها وخدمتها؛ فالإيثار بذلك منافٍ لمقصود العبودية؛ فإنَّ الله -
سبحانه - أمر عبده بهذه القربة إما إيجاباً وإما استجاباً، فإذا آثر بها ترك ما أمره
وولاه غيره، بخلاف ما إذا فعل ما أمره به طاعة وقربة، ثم أرسل ثوابه إلى أخيه
المسلم.
وقد قال - تعالي -: [سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض
السماء والأرض] [الحديد: 21]، وقال:[فاستبقوا الخيرات][البقرة: 148] ، ومعلوم أن الإيثار بها ينافي الاستباق والمسارعة.
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يسابق بعضهم بعضاً بالقرب، ولا
يُؤْثِرُ الرجل منهم غيره بها. قال عمر رضي الله عنه: والله ما سابقني أبو
بكر رضي الله عنه إلى خير إلا سبقني إليه، حتى قال: والله لا أسابقك إلى
خير أبداً.
وقد قال - تعالى -: [وفي ذلك فليتنافس المتنافسون][المطففين: 26]
يقال: نافست في الشيء إذا رغبتُ فيه على وجه المباراة، ومن هذا قولهم: شيء
نفيس، أي هو أهل أن يُتنافس فيه ويُرغب فيه، وهذا كله ضد الإيثار والرغبة
عنه) [14] .
وقد نقل عن بعض العلماء قوله: لا إيثار في القربات، فلا إيثار بماء
الطهارة، ولا بستر العورة، ولا بالصف الأول؛ لأن الغرض بالعبادات التعظيم
والإجلال لله سبحانه وتعالى فمن آثر به غيره فقد ترك إجلال الإله وتعظيمه،
فيصير بمثابة من أمره سيده بأمر فتركه، وقال لغيره: قم به؛ فإن هذا يُستقبح عند
الناس بتباعده من إجلال الآمر وقربه [15] .
قاعدة: (الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً) :
ومعنى هذا أنه: إذا وجدت العلة وجد الحكم، وإذا انتفت العلة انتفى الحكم،
كالسفر أو المرض علة لجواز الفطر فإذا حصل السفر أو المرض جاز الفطر، وإذا
لم يحصل لم يجز.
وحتى تتم الاستفادة من القاعدة على الوجه الصحيح فإنه لا بد من بيان لمعنى
العلة، وشروطها، والطُرُق التي يتوصل بها إلى معرفتها.
هناك فرق بين العلة والحكمة: فإن الحكمة هي المصلحة التي قصد الشرع
تحقيقها بتشريعه الحكم من جلب مصلحة للخلق أو دفع مفسدة عنهم، كما تقول مثلاً: الحكمة من تشريع القصاص: حفظ الحياة، ومن حِكَم تشريع الحج: شهود
المنافع
…
وهكذا.
وأما العلة فيعرفها الأصوليون بأنها: الوصف الظاهر المنضبط الذي بُني
عليه الحكم، ورُبط به وجوداً وعدماً؛ لأنه مظنة تحقيق المصلحة المقصودة من
تشريع الحكم، والغالب هو تحققها، وإن تخلفت فعلى وجه الندرة، والعبرة بالغالب
لا بالنادر.
ثم إن ربط الأحكام بالعلل يؤدي إلى استقامة التكليف وضبط الأحكام واطرادها، واستقرار أوامر التشريع العامة ووضوحها، وهذه فوائد عظام لا يؤثر فيها فوات
الحكمة في بعض الجزئيات والوقائع في بعض الأحيان؛ ذلك لأن الحكمة تكون
أحياناً وصفاً غير منضبط، أي يختلف باختلاف الناس وتقديرهم، ولا يمكن بناء
الحكم عليه؛ لأنه يؤدي إلى الاضطراب والفوضى في الأحكام، وتكثر الادعاءات
للتحلل من الأحكام.
ومثال ذلك: مسألة الفطر في رمضان، ربطها الشارع بالسفر أو المرض؛
لأنه مظنة المشقة، ولم يربطه بالمشقة؛ لأنه أمر يختلف باختلاف الناس وتقديرهم، والغالب في المشقة الحاصلة من غير السفر والمرض أنها محتملة؛ فاتضح أن
ربط الحكمة بالعلة يحقق الحكمة غالباً.
ولهذه العلة شروط عدة:
1 -
أن تكون العلة وصفاً ظاهراً، كعلة الإسكار في الخمر؛ فهي أمر ظاهر
مُدْرَكٌ.
2 -
أن تكون وصفاً منضبطاً لا تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال كالسفر
والمرض، بخلاف المشقة.
3 -
أن تكون وصفاً مناسباً للحكم؛ بحيث يكون ربط الحكم به مظنة تحقق
حكمة الحكم؛ فالسفر في رمضان وصف مناسب للحكْم بإباحة الإفطار؛ لأنه بهذا
الربط يغلب تحقق حكمة الحكْم، أي دفع المشقة.
ومعرفة علة الحكم تكون بالنص الدال عليها، أو بالإجماع، أو بنظر المجتهد
بالسبر والتقسيم، أو بتنقيح المناط.
وتطبيقات هذه القاعدة كثيرة جداً:
فمن أمثلتها: أن التكليف علة لوجوب العبادات - على المكلف - وصحة
العقود في المعاملات، ووجوب الحدود والعقوبات كلها؛ فهذه كلها معلقة بالتكليف
تثبت بوجوده، وتنتفي بعدمه.
ومنها: أن إسكار الخمر علة لتحريمها ونجاستها - عند الجمهور - فإذا زال
إسكارها بتحولها خلاً زال تحريمها.
ومنها: أن حصول الضرورة علة لإباحة المحظور: يباح بتحققها، ويحرم
بانتفائها.
ومنها: أن الإغماء والنوم والجنون أسباب لزوال التكليف وعدم نفوذ
التصرف، فإذا زالت حصل التكليف ونفذ التصرف، وكلما عادت هي أو بعضها
زال التكليف بزوال علته، وهي العقل الذي يزول بهذه الأمور.
وجميع شروط الأحكام داخلة تحت هذا الأصل، فإذا تحققت الشروط - وهي
علة ثبوت الحكم - ثبت الحكم، فإذا زالت أو بعضها زال الحكم [16] .
قاعدة: (إعمال الكلام أوْلى من إهماله) :
تظهر أهمية هذه القاعدة بمعرفة مرتبتها؛ فهي:
أولاً: محل اتفاق بين العلماء.
وثانياً: تتعلق ببعض المسائل الأصولية المتعلقة بالخطابات الشرعية، من
كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
وثالثاً: أنها تتعلق بالكلام الصادر عن المكلِّف من حيث كونه يجب صونه
عن الإهمال والإلغاء؛ فهي إذن تتعلق بتصرفات المكلَّف القولية كلها وتصحيحها.
معنى القاعدة:
إعمال الكلام: أي إعطاؤه حكماً مفيداً حسب مقتضاه اللغوي.
وإهماله يعني: عدم ترتب ثمرة عملية عليه بإلغاء مقتضاه ومضمونه، فلا
يترتب عليه حكم.
أصل القاعدة:
يدل لها دليل عقلي صحيح وهو: أن إهمال الكلام يؤدي إلى أن يكون الكلام
لغواً، وكلام الإنسان العاقل يصان عن اللغو ما أمكن ذلك؛ إذ الأصل فيه أن يكون
له معنى يقتضيه اللفظ.
من فروع القاعدة:
- إن أوقف داراً على أولاده، وليس له إلا أولاد أولاد فإنه ينصرف إليهم؛
لئلا يهمل كلامه.
- من حلف ألا يأكل من هذه النخلة شيئاً، ثم أكل من ثمرها أو نحوه مما
يخرج منها، فإنه يحنث؛ لأن النخلة لا يمكن أكل عينها، فحُمل كلامه على ما
يخرج منها.
- وإذا حلف لا يأكل من القدر شيئاً، حمل على ما يطبخ فيه؛ حيث لا يمكن
حمله على عين القدر.
ويتفرع على هذه القاعدة عدة قواعد ترسم كيفية إعمال الكلام الذي أوجبته
القاعدة، وتبين الطرق الراجحة المعقولة فيه.
الأولى: الأصل في الكلام الحقيقة:
المراد بالقاعدة: أن الراجح عند السامع أن يحمل كلام المتكلم على معناه
الحقيقي.
والحقيقة في الاصطلاح هي: اللفظ المستعمل في المعنى الذي وضع له في
أصل اللغة. كلفظ السماء لكل ما علا وارتفع، ولفظ الجنة للبستان كثيف الأشجار،
ولفظ النور للنور المعروف.
والمجاز معناه: اللفظ المستعمل في غير المعنى الأصلي الذي وضع له في
أصل اللغة لقرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي. كاستعمال لفظ النور للعلم أو
الإسلام، وكاستعمال لفظ الأسد للقوي الشجاع. ويشترط فيه: وجود علاقة بين
المعنى الأصلي، والمعنى المنقول إليه، كما يشترط وجود قرينة تدل على إرادة
المتكلم للمعنى المجازي دون الحقيقي.
فمعنى القاعدة إذن: أن إعمال كلام المتكلم (الشارع، أو المكلف العاقل) إنما
يكون بحمل ألفاظه على معانيها الحقيقية، عند الخلو من القرائن التي ترجح إرادة
المجاز.
ومن أمثلة القاعدة:
- ما لو أوقف شيئاً على أولاده، دخل فيهم الذكور والإناث؛ لأن لفظ الولد
يشملهم حقيقة. وإذا قال شخص لآخر: وهبتك هذا الشيء، لم يحق له المطالبة
بالثمن زعماً أنه أراد البيع؛ لأن الهبة تمليك بلا عوض،
وإرادة البيع بها مجاز.
الثانية: إذا تعذرت الحقيقة يصار إلى المجاز:
فيشترط في الحمل على المعنى المجازي وجود قرينة تمنع من إرادة المعنى
الحقيقي، كاستحالة الحقيقة، أو تعذرها، أو يكون المعنى الحقيقي مهجوراً شرعاً
أو عرفاً. - كما سبق في بعض الأمثلة على القاعدة الأصلية -.
الثالثة: إذا تعذر إعمال الكلام يهمل:
ومن أسباب إهمال الكلام وإلغائه:
1 -
تعذر إرادة كل من المعنيين الحقيقي والمجازي جميعاً.
2 -
أن يكون اللفظ مشتركاً بين معنيين، ولا يوجد مرجِّح لأحدهما على
الآخر.
3 -
تعذر صحة الكلام شرعاً.
4 -
أن يكذبه الظاهر، كمن ادعى على رجل أنه قتل شخصاً، فإذا هو حي.
5 -
أن يكون فيه مصادمة للشرع، كمن أقر بأن أخته ترث ضعفي حصته
من تركة أبيه.
الرابعة: ذكر بعض ما لا يتجزأ كذكر كله:
لأنه إذا لم يعتبر كله، أهمل الكلام وصار لاغياً؛ حيث إنه لا يقبل التجزئة.
ومن أمثلتها: إذا طهرت المرأة من حيضها، أو نفاسها ولم يبق من وقت
الصلاة إلا مقدار ما يمكنها من الاغتسال والتحريمة للصلاة فإنه يلزمها صلاة ذلك
الوقت؛ لأن الواجب لا يتبعَّض. وكذلك الكافر إذا أسلم آخر الوقت.
ومنها: إن تنازل الشريك عن جزء من حق الشفعة سقط كله.
ومنها: أن يوجب على نفسه ركعة، فإنه يصلي ركعتين؛ لأن ذلك لا
يتبعض.
ومنها: لو عفا عن جزء من القصاص، سقط كله وانتقل إلى الدية، ولذا فإن
الورثة إذا عفا أحدهم عن حقه من القصاص، انتقل منه إلى الدية، وليس لبقية
الورثة القصاص من القاتل.
الخامسة: المطلق يجري على إطلاقه ما لم يقم دليل التقييد نصاً أو دلالة:
من فروعها:
- إذا وكَّل شخصاً بشراء سيارة - ولم يقيدها بوصف أو لون - فاشتراها له
حمراء أو زرقاء، فقال: أردت بيضاء، فإنه يلزم بما اشتراه الوكيل؛ لأن كلامه
مطلق، فيجري على إطلاقه.
- إذا أجّر شخصاً، أو أعاره شيئاً، فإنه يسوغ للمستأجر أو المستعير جميع
وجوه الانتفاع، بالحدود المعتادة، فلا يتقيد الانتفاع بها بوقت أو مكان أو استعمال
مما ليس عليه دليل.
وتقييد الكلام يكون بأحد أمرين:
1 -
النص: وهو اللفظ الدال على القيد، كأن يقول: بِع بمائة؛ فلا يسوغ
له البيع بأقل مما حدد له.
أو يقول: خذ السيارة - عارية - لتركبها، لكن لا تحمل فيها متاعاً، فينتفع
كما حدد له.
2 -
الدلالة: وهي نوعان:
أ - حالية: كما لو وكَّل طالب علم شرعي شخصاً آخر لشراء كتب، فإنه
ينصرف إلى شراء كتب العلم الشرعي، لا الطب ولا الكيمياء كما تنبئ حاله عنه.
ب - عرفية: ومثالها: لو أعاره كتاباً، كان له القراءة فيه والنسخ منه،
وتصويره ما لم يتضرر الكتاب بخلاف الكتابة فيه وعلى هوامشة
…
، كما هو العرف السائد.
السادسة: التأسيس أوْلى من التأكيد:
التأسيس: إفادة معنى جديد. والتأكيد: تقوية معنى سابق.
فإذا احتمل كلامٌ معنيين: أحدهما تأكيد لسابق، والآخر تأسيس لمعنى جديد
كان حمله على التأسيس أوْلى من حمله على التوكيد؛ لأن التأسيس يضيف معنى
جديداً.
ومن أمثلة ذلك:
- من حلف يمينين: ألَاّ يأكل من بيت فلان، فإن نوى بالثاني التأكيد للأول،
فعليه كفارة واحدة، وأما إن نوى يميناً آخر، أو نوى التشديد على نفسه فعليه
كفارتان، وكذا إذا لم ينوِ شيئاً فعليه كفارة يمينين؛ لأن التأسيس أوْلى من التأكيد.
- وكذلك الحكم في الطلاق إذا كرره.
السابعة: الوصف في الحاضر لغو، وفي الغائب معتبر:
- هذه القاعدة تجري في سائر عقود المبادلة كالبيع والإجارة والنكاح؛ حيث
يشترط لصحتها معرفة البدلين، وانتفاء الجهالة، وذلك يكون بتمييز الشيء عن
غيره بجنسه ونوعه وصفته،
…
فإذا كان هذا الشيء حاضراً فالعبرة لتعريفه
بالإشارة؛ لأن التعريف بها أقوى من التعريف بالوصف، وأما إذا كان هذا الشيء
غائباً، فإن العبرة بذكر أوصافه؛ إذ لا تمكن الإشارة إليه.
من فروعها:
- إذا قال: بعتك هذه السيارة البيضاء - وأشار إلى سيارة سوداء - وقَبِلَ
المشتري، تم البيع؛ لأن وصفها بالبياض لغو، لأجل أنها حاضرة أمامه يراها،
بخلاف ما لو باعه سيارة بيضاء وهي غائبة؛ فإن للمشتري خيار الفسخ.
- إذا قال: زوجتك ابنتي هذه الطويلة، والزوج يعرف أنها قصيرة، وقَبِلَ،
تم النكاح ولا فسخ له، بخلاف ما لو لم يكن يعرف أنها قصيرة.
- إذا قال: أجَّرتك هذه الدار الجديدة بحديقتها - مع أنها لا حديقة لها -
والمشتري يراها ويعرف ذلك، تم التأجير، ولا خيار للمستأجر، بخلاف ما لو
وصف له داراً جديدة وذكر له أن فيها حديقة فإن للمستأجر فسخ العقد إذا تخلف
الوصف.
الثامنة: السؤال معاد في الجواب، أو كالمعاد في الجواب:
فمن سئل: هل لفلان عليك دين؟ فقال: نعم، أو سئل: ألم تسرق كذا؟
فقال: بلى
…
فإنه يكون إقراراً منه، كأنه قال: نعم لفلان عليَّ دين، وبلى
سرقت كذا
…
وقد يكون المراد بالسؤال أعم من الاستخبار والاستفهام، فيشمل الإخبار
والإنشاء، كمن قيل له: باع فلان دارك، فقال: رضيت، صح البيع، واعتبر
قوله إذناً، وكما في سائر العقود من الإيجاب والقبول، كما لو قال لآخر: بعتك هذا، فقال قبلت، أو نعم، تم البيع أو قال الولي: زوجتك فلانة، فقال: قبلت، تم
العقد [17] .
(1) انظر: الأ شباه والنظائر، للسيوطي: ص157، وابن نجيم: 188، والوجيز للبورنو:210.
(2)
انظر: القواعد الفقهية، ص353، 354.
(3)
انظر الأشباه والنظائر للسيوطي، ص 126 - 128، ابن نجيم، ص 148- 149، ورسالة السعدي، ص32 ومبحث التداخل مبحث كبير مهم من مباحث الفقه، له ضوابطه وحالاته، ينظر فيه: التداخل بين الأحكام، للخشلان، والتداخل وأثره، لمحمد منصور.
(4)
انظر: القواعد: 23.
(5)
واختلف في سقوطه عن الإمام والأفضل للمأموم أن يشهد الصلاتين، وإذا شهد العيد ولم يشهد الجمعة فأنه يصلي الظهر في وقتها.
(6)
انظر: رسالة السعدي: 22، والقواعد، لابن رجب:298.
(7)
الحديث أخرجه البخاري، ح/2143، ومسلم، ح/ 1514.
(8)
انظر: الوجيز: 387.
(9)
أخرجه ابن ماجه، ح/3380، وانظر صحيح ابن ماجه، ح/2725.
(10)
أخرجه مسلم، ح/1582.
(11)
أخرجه البخاري، والزرقا:215.
(12)
انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي: 150، وابن نجيم: 183، والوجيز: 387، والزرقا 215.
(13)
ولابد من التنبيه على أمرين بالنسبة لهذه الصورة لكثرة وقوعها: الأول: أن وصول التعامل بين المسلمين إلى هذا الحد، منذر خطر عظيم؛ إذ هو دليل على زوال الرحمة والتعاون، وتغلغل حب الدنيا في القلوب، حبا مقدما على حب الله، وتعظيم نواهيه الثاني: أن الضرورة تقدر بمقدرها، وليس كل ما يظنه الناس ضرورة يكون كذلك، فليس من الضرورة الاقتراض لسفر مباح فضلا عن محرم أو تجديد أثاث أو مركب فإذا تحققت الضرورة جاز الأخذ على قدر الحاجة.
(14)
الروح، لابن القيم، ص322323.
(15)
وهو منسوب إلى العز بن السلام، انظر: أشباه السيوطي: 116، والوجيز:162.
(16)
انظر: قواعد الأحكام، للعز: 2/190191، ورسالة السعدي: 3031، والوجيز في أصول الفقه، لزيدان: 200 وما بعدها، والقواعد للندوي:388.
(17)
انظر: أشباه السيوطي: 128، وابن نجيم: 150، والوجيز: 314، والقواعد للندوي:355.
تأملات دعوية
التربية الأسرية مطلب ملحٌّ
محمد بن عبد الله الدويش
لقد أسهم انفتاح العالم الإسلامي اليوم على المجتمعات الأخرى في انتشار
ألوان من المؤثرات والمغريات، ولم يعد البيت ذاك الحصن الذي يتحكم راعيه فيما
يدخله ويخرج منه؛ بل أصبح معرضاً متنوعاً لما ينتجه العالم بأسره من نتاج فكري، أو مادي لا يخلو هو الآخر من أبعادٍ فكرية، مما يفرض تحديات تربوية أكبر،
ويزيد من عبء أولئك الذين يعنون بتربية أبنائهم ورعايتهم.
وفي المقابل أفرزت التغيرات الاجتماعية نتائج أسهمت في تقليص دور
الأسرة؛ فالأسرة التي كانت تسكن في بيت صغير يجتمع أفرادها فيه ويتحلقون
ساعات عدة ويتبادلون ألوان الحديث تفرقوا في منزل شاسع يحتاجون معه لأجهزة
اتصال داخلية.
واستولت أجهزة الإعلام على جزء لا يستهان به من وقت الأسرة، حتى
الوقت الذي يتناولون فيه الطعام أو الشاي، صاروا ينصتون فيه لما تبثه تلك
الوسائل.
وأدى الاعتماد على السائقين والخدم إلى تبديد جزء من الوقت الذي يقضيه
الأولاد مع آبائهم وأمهاتهم.
كل تلك المؤثرات أدت إلى تضاؤل وقت الأسرة ودورها، وصار من
المألوف أن نرى هوة واسعة بين سلوك الآباء والأبناء.
وهذا يدعو إلى إعادة النظر في دور الأسرة ومهمتها، وهل الأسرة المسلمة
اليوم تترك أثرها في رعاية أبنائها؟
إننا نحتاج إلى أن يعتني الدعاة بأُسرهم، ويوفروا لهم جزءاً من أوقاتهم، ولا
يسوغ أن تكون أسرهم ضحية لبرامجهم وانشغالاتهم الدعوية، ولا بد أن يفكروا
بجد في تخصيص أوقات يشاركون فيها أبناءهم ويعايشونهم.
ونحتاج إلى أن نعيد النظر في كثير مما أفرزته التغيرات الاجتماعية، وألا
نستسلم ونستجيب لها بغض النظر عن آثارها؛ بل نقبل منها ونرفض وَفْقَ ما
يحقق مصالحنا الشرعية، ويدرأ عنا المفاسد.
ونحتاج إلى أن يتعاون الدعاة فيما بينهم، من خلال تنظيم برامج وزيارات
أسرية مشتركة؛ فهم يعيشون واقعاً متقارباً، وتطلعات واحدة، وأن يتعاونوا من
خلال مقترحات وبرامج متبادلة.
ونحتاج إلى ترتيب برامج وأنشطة على مستوى الأسر والعائلات، وأن تدعم
هذه اللقاءات ويُسعى لإحيائها.
ونحتاج إلى بذل جهود واقتراح أفكار وبرامج تسهم في تطوير دور الأسرة
التربوي، ولعل مثل هذه الدراسات العلمية أوْلى بالاعتناء من كثير مما يطرح في
الساحة من نتاج مكرر أو لا يرقى إلى مستوى النشر.
ونحتاج قبل ذلك كله إلى تصحيح الفهم حول الدور التربوي للأسرة الذي
صار يقتصر - لدى فئة كبيرة من الناس - على الحماية والرقابة والأمر والنهي
فقط، كما ينبغي أن يكون للأسرة دور في تربية النفوس على الإيمان والتقوى،
وأن تعمر بذكر الله وما يرقق القلوب، وها هي قصة لقمان وحواره مع ابنه تبقى
قدوة للناس أجمع، وها هو النبي صلى الله عليه وسلم يولي هذا الجانب أهميته،
فيُعنى بتربية مَنْ تحتَ يديه وتوجيههم؛ فعن الحسن بن علي رضي الله عنهما
قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر: (اللهم
اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت) [1] .
ومن بعده سار السلف على هذا المنوال؛ فعن مصعب بن سعد بن أبي وقاص
عن أبيه -ضي الله عنهما- قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا هؤلاء
الكلمات كما تُعلَّمُ الكتابة: (اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن،
وأعوذ بك من أن نُرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب
القبر) [2] .
(1) رواه أبو داود (1425) والترمذي (464) ، والنسائي (1745) ، وأحمد (1720) .
(2)
رواه البخاري (6390) .
دراسات تربوية
صفات المربي دراسة تحليلية
(1-2)
أحمد فهمي
إن تأمُّل تاريخ الدعوة يخبرنا أن كل من أحدث فتنة أو أثار مشكلة أو تنكَّب
طريقاً كان - غالباً - من الذين لم ينالوا التربية الكافية الراشدة في أوائل أمرهم.
وإذا اعتبرنا أن ركني التربية الأساسيين - من الناحية العملية -: منهج
واضح شامل (يمثل الشق النظري) ، ومربٍ كفء (يمثل الشق العملي) ، وأن
جوانب الخلل في العملية التربوية إنما تؤول في معظمها إلى الاختلال في هذين
الركنين، فإن حديثاً عن صفات المربي ومؤهلاته يتناول - ولا شك - نصف
قضية التربية وجانباً هاماً من أسباب مشكلاتها، بل لا نبالغ إذا قلنا: إنه النصف
الأهم الذي بدونه يتحول الكلام عن المنهج إلى حبر على ورق.
فمن ثم تبرز أهمية تحرير المواصفات الكاملة لشخصية المربي. وبادئ ذي
بدء ينبغي استعراض بعض الملاحظات التحليلية الهامة وصولاً إلى تحديدٍ أمثل لهذه
الصفات، وابتعاداً عن المغالاة أو التساهل.
1 -
العوامل المؤثرة على المتربي:
وهي تحدث تغييرات متفاوتة بالسلب والإيجاب في مستواه التربوي في
مختلف جوانبه.
أهم هذه العوامل: المجتمع الذي يعيش فيه، ويخضع لقواعده ونظمه،
وتتحكم فيه أعرافه وتقاليده، ويؤثر فيه قربه أو بعده عن الإسلام، وكل ذلك
يحتوي - غالباً - على الكثير من المؤثرات الفاسدة والمعوقات الفاعلة التي تعرقل
نموه التربوي أو تؤخره أو تشوهه.
وأيضاً هناك الظروف الشخصية مثل: الحالة الأسرية، والاقتصادية،
والثقافية، والعلاقات الاجتماعية والشخصية.
وأيضاً هناك المجتمع المتدين نفسه الذي يحتويه ويرتبط معه بعلاقات الأخوة
والدعوة؛ فله تأثيراته المتفاوتة عليه.
وهذه العوامل - مع اختلافها - يجمعها: أن تأثر شخصية المتربي بها يتسم
بالعشوائية فيما صلح منها أو فسد؛ بحيث لو اعتمدنا نموه وَفْقَها فحسب، لوجدنا
أنفسنا بعد فترة أمام شخصية تجمع متناقضات عديدة.
وهنا يبرز دور المربي الذي يمثل الجهد التربوي الرشيد الذي يُصلح ما فسد،
ويُبقي ويُنَقِّي ما صلح، ويرتقي بمستوى المتربي بصورة متوازنة بعيدة عن
الاختلال والعشوائية.
ولهذا نقول: إنه لا يصلح كل أحد أن يكون مربياً؛ فللمربي صفات تتناسب
مع الدور الذي يقوم به.
2 -
المربي والداعية والقائد:
يخلط الكثيرون بين أدوار الدعوة والتربية والقيادة، ومن ثَمَّ يخلطون بين
الصفات اللازمة للقائم بكلٍ منها. ونحن نريد تحديداً علمياً لصفات المربي بعيداً عن
مبدأ (كُلُّه خيرٌ) ، وبعيداً أيضاً عن نموذج الداعية الشامل - المسيطر إلى حد كبير
في الأوساط الدعوية - الذي يصلح لأداء جميع الأدوار.
فالمسلم منذ أن يضع قدمه على طريق الدعوة، ينبغي أن تلزمه صفات
ومؤهلات عامة للقيام بهذه المهمة الجليلة مثل: الإخلاص، والعلم، والحكمة،
ونحوها، أما إن أُريد تخصيصه في مجال التربية فلا بد عندها من البحث عن توفر
مستويات وصفات إضافية يتطلبها أداء ذلك العمل، وهذه المستويات والصفات
الإضافية هي موضوعنا لا غير.
ونستطيع أن نقول: إن القائد هو الذي يتولى إدارة الأفراد وعملهم نحو تحقيق
الأهداف الموضوعة، والمربي هو الذي يتولى إعداد الأفراد وتأهيلهم ليعملوا على
تحقيق تلك الأهداف، ولقب الداعية يجمعهم وغيرهم من أصناف العاملين في إطار
واحد.
ويمكن أن نتلمس ذلك بوضوح في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في منهج
انتقائه من بين الصحابة لأدوار تربوية أو قيادية، فهو صلى الله عليه وسلم قد
رباهم على الإخلاص وعلمهم دينهم بداية، فكان الرجل منهم لا يألو أن يدعو إلى
الإسلام ما استطاع، ثم كان ينتقي أشخاصاً بعينهم لأدوار تربوية - في المقام الأول
- مثل اختياره مصعب بن عمير وإرساله إلى المدينة، واختياره معاذ بن جبل
وإرساله إلى اليمن، ونعرف أثر كل منهما في المكان الذي أرسل إليه، ونعرف
أيضاً أن الدور التربوي ظل ألصق الأدوار بهما.
فإذا كان الدور يتطلب رجلاً قيادياً - في المقام الأول - كان له رجاله أيضاً،
مثل اختياره عمرو بن العاص وأبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما لقيادة
بعض السرايا، ونعرف أيضاً أن الدور القيادي ظل ألصق الأدوار بهما.
3 -
المربي بين التساهل والمبالغة:
هناك اتجاهان في انتقاء الشخصيات المربية:
الأول: يقوم على المبالغة في تحديد الصفات الخاصة بالمربي، ولزوم تحققها
فيه بمستويات عالية، فتغلب عليه المثالية في تصور حال المربي؛ بحيث ينتهي
الأمر عند مطابقة هذه المواصفات واقعياً إلى أنه يكاد ألَاّ يكون هناك تربية ولا
مربون، وإنما هو العبث وسد الخانات، ثم تبقى هذه المواصفات المثالية طي
الأوراق بعيدة عن محاولة تحقيقها اكتفاءً بآهات الحسرة.
الثاني: يقوم على التساهل في صفات المربي؛ بحيث تتسع الدائرة لتشمل
أعداداً كبيرة لا يمثل الانتقاء معها مشكلة، ودافع ذلك الاتجاه تغليب احتياجات
الدعوة وتبعات انتشارها وانفتاحها دون اعتبار حقيقي لحال المُنتقى.
وكلا الاتجاهين لا يصلح منطلقاً لمعيار معتدل للمربي.
فالاتجاه الأول يتجاهل أن (المثاليات تتفرق في نفوس شتى، ولا تجتمع في
نفس واحدة كل المثاليات) [1] ، ولا يجتمع أغلبها إلا في نفوس معدودة و (إنما
الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة) [2] كما قال النبي عليه الصلاة والسلام فربْط العمل التربوي بذلك تعطيل له، وإعاقة لجهود الارتقاء به، ومدعاة لكل
من يعجز عن محاكاة الصورة المثالية أن يتراجع ويترك العمل، وهذا ما حذرنا منه
عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد رحمه الله إذ لما استَعْمَل على الجزيرة
وعلى قضائها وخراجها ميمونَ بن مهران رحمه الله صعب على ميمون أن
يحاكي الوضع المثالي هناك، فكتب إلى عمر يستعفيه: كلفتني ما لا أطيق. فكتب
إليه عمر: اجْبِ من الخراج الطيب، واقضِ بما استبان لك، فإذا التبس عليك أمر
فادفعه إليَّ؛ فإن الناس لو كان إذا كَبُر عليهم أمر تركوه ما قام لهم دين ولا دنيا [3] .
ولذلك؛ فمهمة الصورة المثالية إذن: العلاج من الانحرافات على ضوئها،
وكذلك هي التي تشجعنا على الصعود أولاً، ثم على العودة إلى الصعود بعد كل
انتكاس، ومن هنا يلتقي الواقع بالمثال [4] .
أما الاتجاه الثاني الذي يتبنى شعار: (الجُود بالموجود) فيفوته أن اعتبار
احتياجات العمل الدعوي مع الإعراض عن كفاءة المربي وصلاحيته خلل في
التصور يتبعه خلل في العمل؛ إذ إن إتاحة الفرصة لغير ذوي الأهلية والكفاية
مهلكة لهم، فوق أنها مضيعة للعمل.
وهنا يأتي السؤال: إذا كان النموذج المثالي استرشادياً، والنموذج الواقعي
المنفتح لا يصلح للاسترشاد أو البدء به، فماذا نفعل؟
والجواب: أنه يلزمنا تحديد نموذج معتدل معياري للمربي يتوفر فيه أمران:
الأول: صفات أساسية هي من لوازم عمل المربي تحديداً.
الثاني: أن تتحقق هذه الصفات في المربي بمستوى معين - يختلف باختلاف
الظروف والبيئة الدعوية - يمثل الحد الأدنى الذي يفصل بين اختلال عمل المربي، وبين عروجه على طريق الرشد التربوي، وبمعنى آخر يفصل بين النموذج
الانفتاحي وبين النموذج المعتدل.
وينبغي ألا تُسند للداعية أي مسؤوليات تربوية قبل موافقة حاله لهذا النموذج - وفق حده الأدنى - وإنما يحكم بذلك أهل العلم والخبرة بهذا الأمر، كما قرر
الإمام مالك رحمه الله: (لا ينبغي للرجل يرى نفسه أهلاً لشيء حتى يسأل من
كان أعلم منه) [5] ، ثم يأتي بعده التفاعل والارتقاء مع الهمة الذاتية واكتساب
الخبرة والتمرس في العمل التربوي.
والآن نصل إلى الكلام عن صفات المربي: وتجدر الإشارة هنا إلى الاعتماد
على الأسلوب التحليلي في هذه الدراسة مع تجاوز اقتصار كتابات سابقة كثيرة على
ذكر فضل الصفات وأهميتها، نتجاوز ذلك إلى تحديدٍ أدق لمعنى تلك الصفات
تربوياً مع الخوض في كيفية الاتصاف بها وأثر كل صفة على العمل التربوي.
الصفات الأساسية للمربي: وهذه الصفات المختارة - والتي هي من
مؤهلات الداعية لممارسة العمل التربوي - يمكن تقسيمها وترتيبها - وفق ابتداء
تأثيرها - إلى ثلاث مجموعات:
الأولى: مقومات البدء والانطلاق، (العلم - حسن السمت وتمثل مستوى
القدوة - الثقافة والتجربة - العمق الإيماني) .
الثانية: مقومات الإتقان، (وهي مجموعة قدرات نفسية وعملية مهمتها رفع
مستوى الأداء التربوي) .
الثالثة: مقومات الاستمرار، (الصبر على.... و....... و......) .
أولاً: مقومات البدء والانطلاق:
الصفة الأولى: العلم: ويهمنا في تحلي المربي بهذه الصفة لا مجرد حفظ
واستظهار مجموعة من الكتب - وإن كثرت - بل تحقُّق أمور بعينها تمثل ما
نقصده من وصف المربي بالعلم، وهي:
1 -
المنهجية في تحصيل العلم: وطبيعة عمل المربي وإن كانت لا تسمح له
بالاستغراق في طلب العلم وبلوغ الغاية فيه، إلا أنه ينبغي أن يحرص على
تعويض ذلك بأمرين:
الأول: الشمول والتوازن في طلب العلم: وذلك بأن يحرص أن يكون له في
كل مجال طلب، وفي كل علم قدم، ويأخذ من كل باب بقدر أهميته في مجال عمله
التربوي، فيتجنب أن يكون هناك علوم لا يعلم عنها شيئاً البتة، أو أن يتعمق في
مجال ما على حساب تسطيح مجالات أخرى، وضابطه في ذلك درجة تعلُّق ما
يُحصِّل بما يعمل.
الثاني: الضبط العلمي: ونعني به أن يتقن المربي أموراً مثل إسناد الأقوال
لقائليها أو مواضعها أو مظانها، وبيان درجة الحديث من الصحة أو الضعف،
وإتقان لفظ النص، وضبط التواريخ والأسماء ونحو ذلك، وقبيح بالمربي أن تكثر
على لسانه عبارات مثل: أظن أن قائله فلان، أو أظنه صحيحاً، أو ما معناه،
ونحوه.. فإنه إن كان (نصف العلم: لا أدري)، ف (نصف الجهل: يُقال،
وأظن) [6] .
واتصاف المربي بالضبط العلمي يعطي له سمت أهل العلم ولو كان قليل العلم
نسبياً، في حين أن اتصافه بعدم الضبط العلمي يفقده هذا السمت وإن كان كثير
القراءات متشعب الاهتمامات العلمية.
وقد كان السلف - رضوان الله عليهم - يهتمون بضبط علمهم اهتماماً شديداً،
فيكفي أن نتأمل في علوم الرواية لنرى مصطلحات كثيرة على شاكلة: الإملاء،
العرض، المقابلة، وكلها تدور حول تحقيق الضبط العلمي لما يقولون ويكتبون.
كما أن عدم الضبط يعني كثرة الخطأ، أي: تلقين المتربين معلومات أو
أفكاراً خاطئة يحملونها، وقد لا يكتشفون خطأها إلا بعد فترات طويلة؛ بل قد
ينقلونها إلى غيرهم على ما هي عليه مما يعني توارث الأخطاء. أسند الخطيب عن
الرحبي قال: سمعت بعض أصحابنا يقول: إذا كتب لحَّان، فكتب عن اللحَّان لحَّان
آخر، فكتب عن اللحَّان لحَّان آخر، صار الحديث بالفارسية [7] .
2 -
التفرقة بين تحصيل العلم للاستظهار والامتحان، وبين تحصيله لتبليغه
وتربية الناس عليه: فطالب العلم في الحالة الأولى يهتم أساساً بحفظ الألفاظ وضبط
الاختلافات، ويغيب عنه الكثير من المعاني والإشراقات والدلالات التي تحملها
الألفاظ وتدعو إليها؛ بينما طالبه في الحال الثانية بغيته المُقَدَّمة تلك الدلالات
والإشراقات، وليس أقوى في تمثُّل الحال الثانية من اتباع طريقة السلف في حفظ
العلم عن طريق العمل به؛ فذلك مما يفتح على طالبه باباً عظيماً من فوائد العلم
وإشراقاته إن عَلم فعمل؛ فقد روي عن السلف أنهم كانوا يقولون: (كنا نستعين
على حفظ الحديث بالعمل به) [8] .
3 -
التوازن بين مذاكرة العلم واستمرار البناء العلمي وبين العطاء التربوي.
فإذا كنا نشترط للمربي صفة العلم، فإن اتصافه بذلك مقترن باستمراره في
المراجعة والطلب، فإذا توقف كان إلى الجهل أقرب. قال سعيد بن جبير: (لا
يزال الرجل عالماً ما تعلَّم، فإذا ترك العلم وظن أنه قد استغنى واكتفى بما عنده فهو
أجهل ما يكون) [9] .
والذي يحتج بأن العمل التربوي لا يتيح له استمرار التعلم يغفل عن أن عمله
ذلك لن يستمر إلا لمدة ثم لا يجد ما يعطيه؛ ففعله كفعل صاحب الحديث الذي
يتشاغل عن مراجعته وطلبه بالتحديث ببعضه؛ فهو كما قال عبد الرحمن بن
مهدي: (إنما مثل صاحب الحديث مثل السمسار: إذا غاب عن السوق خمسة أيام ذهب عنه أسعار ما في السوق)[10] .
فلا يلبث إلا وقد نضب ما لديه من العلم، ثم يصل بعدها إلى مرحلة
التحضير بالقطعة أو بالطلب، ثم إلى مرحلة الإعادة والتكرار، وقد يشعر المتربي
بأن مربيه قد فرغ جرابه، مع ما في ذلك من أثر سيئ.
وكان أهل العلم من السلف يحرصون على إيجاد هذا التوازن بين طلبهم
ومذاكرتهم العلم، وبين تعليمهم إياه، ويتضح ذلك جلياً في قول ابن مهدي - رحمه
الله -: (كان الرجل من أهل العلم إذا لقي من هو فوقه في العلم فهو يوم غنيمته،
سأله وتعلم منه، وإذا لقي من هو دونه في العلم علَّمه وتواضع له، وإذا لقي من
هو مثله في العلم، ذاكره ودارسه) [11] .
4 -
وضع العلم في إطار من الهيبة والوقار عند إلقائه أو تدريسه:
قال عمر رضي الله عنه: تعلموا العلم، وتعلموا له السكينة
والوقار [12] .
فذلك من شأنه أن يجعل للعلم الأثر النفسي ثم العملي اللائق به، مما يوفر
على المربي جهداً كبيراً، ويُقرِّب له التوفيق من عمله. قال أحمد بن سنان: (كان
عبد الرحمن بن مهدي لا يُتحدث في مجلسه، ولا يُبْرى قلم، ولا يقوم أحد كأنما
على رؤوسهم الطير، أو كأنهم في صلاة، فإن تُحُدِّث أو بُري قلم صاح ولبس
نعليه ودخل) [13] فما ظنك بأثر العلم الذي يتلقونه (في نفوسهم) وهم على هذه
الحال؟ !
وفي المقابل: حين دخل رحمه الله على الوليد بن يزيد - وهو خليفة -
فقال له الوليد: يا ربيعة! حدثنا! قال: ما أحدِّثُ شيئاً. فلما خرج من عنده قال:
ألا تعجبون من هذا الذي يقترح عليَّ كما يقترح على المُغنية: حدثنا يا
ربيعة! [14] .
الصفة الثانية: حسن السمت وتَمثُّلُ مستوى القدوة:
عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الهَدْي الصالح،
والسمت الصالح، والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة) [15] .
فهذا الحديث يبين لنا أن الذي يتحلى بالسمت الصالح والهدي الصالح يُقتدى به
ويحاكي بعض صفات النبوة، وكفى بذلك شرفاً.
والسمت والهَدْي متقاربا المعنى؛ فالسمت بمعنى الطريقة أو هيئة أهل
الخير [16] ، والهدي هو الطريقة أو السيرة [17] ، وهدي الرجل سيرته العامة
…
والخاصة وحاله وأخلاقه [18] .
فهذا يشمل إذن ما يتعلق بحال المسلم من كلام وفعال وتعاملات وملبس وهيئة
وحركات وسكنات ونحوه، ولا يتسع المجال - بالطبع - لاستعراض تفاصيل ذلك، ولكن لكل علم مظانه [19] .
والمراد: أن المربي أوْلى الناس بالاتصاف بحسن السمت والهدي والأدب؛
إذ إنه القدوة الأولى لمن يربيهم، وقدوة المرء من تسنن واقتدى به [20] ، وإذا كان
مجرد المخالطة والاجتماع تفتح مجالاً كبيراً لتبادل الطباع والأخلاق؛ إذ الطبع لص
- كما يقولون - يسرق من غيره؛ فكيف بمن يجتمع في حقه أثر المخالطة مع أثر
الاحترام والاعتراف بالفضل.
ويكفي لتصور أهمية هذه الصفة بالنسبة للمربي أن نعلم أنه عندما ينزل عن
مستوى القدوة الحسنة فيتدنى مستوى فعله عن مستوى كلامه فإنه يكون أشبه بمن
يُمسك في إحدى يديه قلماً، وفي الأخرى ممحاة، فكلما كتب كلاماً بيمناه محته
يسراه، (ومن لا يستطيع تصحيح أخطاء نفسه فلا يصح له أن يكون قيِّماً على
أخطاء الآخرين يصحح لهم وينقد) [21] .
ولبيان موقع القدوة الحسنة من التأثير التربوي نقول: إن الخطاب التربوي
يمكن تجريده إلى ثلاثة أمور:
الأول: الكلام النظري ونعني به: بيان الأمر مع الثواب أو العقاب.
الثاني: حكاية الفعل ونعني به: ذكر مثال عملي لما سبق سواء كان معاصراً
أو تاريخياً.
الثالث: رؤية الفعل (عمل المربي) ونعني به: التنفيذ العملي الذاتي لما سبق
فيما يُستطاع شرعاً وواقعاً.
ولو نظرنا في أثر كل من هذه الثلاثة - منفرداً - في تكوين الدافعية للعمل،
لوجدنا أن ثالثتها (رؤية الفعل) أشد أثراً وأبقى.
فالنفس لديها استعداد للتأثر بما يلقى إليها من الكلام؛ ولكنه استعداد مؤقت في
الغالب، ولذلك يلزمه التكرار. وحكاية الفعل وإن كانت تُقرب المسافة أكثر إلا أن
أثرها بمفردها لا يكفينا لتحقيق ما نطمح إليه من رفع المستوى التربوي.
وأما القدوة المنظورة الملموسة فهي التي تعلق المشاعر، ولا تتركها تهبط إلى
القاع وتسكن بلا حراك، بل سرعان ما تترجمها إلى عمل.
وفي هذا المثال من السيرة بيان ذلك:
في صلح الحديبية: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قضية الكتاب
(يعني الصلح) قال لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا، فلم يقم منهم رجل، حتى
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ثلاث مرات، فلم يقم أحد، فدخل على أم
سلمة رضي الله عنها فأخبرها الخبر، فقالت له: اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم
كلمة حتى تنحر بُدْنَكَ، وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج رسول الله صلى الله عليه
وسلم فلم يكلم منهم أحداً حتى فعل ذلك، فلما رأوا فعله صلى الله عليه وسلم قاموا
فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً [22] .
نرى في المثال أن الخطاب النظري أحدث أثراً في نفوس السامعين إلا أنه لم
يترجم إلى عمل، ولما اقترن الأمر بممارسة الفعل سهل عليهم الامتثال والتنفيذ؛
فممارسة الفعل إذن هي بمثابة المرحلة الحاسمة والأخيرة التي تبرز قيمة ما سبقها
وأثره، وتُخرج ما أحدثه من مشاعر نفسية إلى الوجود في صورة عملية، وبدونها
يظل كَمٌّ كبير من مفاهيم الإسلام حبيس النفس في غياهب الإهمال أو النسيان.
ومن الآثار التربوية المفيدة لتمثل المربي مستوى القدوة الحسنة:
1 -
توفير الجهد التربوي عن طريق انتقال مفاهيم كثيرة - انتقالاً غير
مباشر - بالمحاكاة والتقليد.
عن الصَّلت بن بسطام التيمي قال: قال لي أبي: الزم عبد الملك بن أبجر
فتعلَّمْ من تَوَقِّيهِ في الكلام؛ فما أعلم بالكوفة أشد تحفظاً للسانه منه [23] .
2 -
تكون حال المربي تلك بمثابة المحفز والمنشط للكثيرين لمحاولة الوصول
إليها، وبذل الجهد في ذلك؛ فإن النفس كلما اقتربت من الكمال في جانب صارت
لها قوة جذب بحسب حالها تشد الناس إليها؛ فهذا عبد الله ابن عون رحمه الله
من أعلام السلف، كانت حاله نموذجاً يُحفز الكثيرين لمحاكاته. عن معاذ قال:
حدثني غير واحد من أصحاب يونس بن عبيد أنه قال: إني لأعرف رجلاً منذ
عشرين سنة يتمنى أن يسلَمَ له يوم من أيام ابن عون، فما يقدر عليه [24] ، وورد
مثل ذلك عن كثير من السلف في محاولتهم التأسي بحال ابن عون.
3 -
يكون له أثر عام يتعدى من يرتبط بهم من المتربين ارتباطاً مباشراً،
فينتفع به آخرون بمراقبته أو بمعرفة حاله، ونحوه فيُسهم ذلك في إيجاد بيئة تربوية
راشدة.
قال يونس بن عبيد: كان الرجل إذا نظر إلى الحسن انتفع به وإن لم يرَ عمله
ولم يسمع كلامه [25] .
4 -
اكتساب كلامه وتوجيهاته قوة نفسية مؤثرة بحسب حاله، كان أبو
العباس السرّاج من علماء نيسابور وعُبَّادها، وكان رجلاً تقياً حسن السيرة، وكان
الناس يسمعون كلامه. قال الحاكم: سمعت أبي يقول: لما ورد الزعفراني وأظهر
خلق القرآن سمعت السرّاج يقول: العنوا الزعفراني، فيضجُّ الناس بلعنه، فنزح
إلى بُخارى [26] .
ولأن سوء سيرة المربي تُذهب بركة علمه وتفقده تأثيره كان بعض السلف إذا
ذهب إلى شيخه تصدق بشيء، وقال: اللهم استر عيب شيخي عني، ولا تُذهب
بركة علمه مني [27] .
كيف يُكتسب السمت الحسن؟
هناك عدة وسائل لذلك نذكر أهمها:
1-
إصلاح الباطن: فأدب الظاهر عنوان أدب الباطن، وقد قال النبي صلى
الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت
فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) [28] .
2 -
إعلاء قيمة التأدب وجعله من الأولويات: وقد كان السلف رحمهم الله
- منهم من ينفق في ذلك جزءاً كبيراً من عمره، ويعتبر أنه رابح لا خاسر. قال
الحسن رحمه الله: إن كان الرجل ليخرج في أدب نفسه السنتين ثم السنتين [29] ،
ومكث يحيى بن يحيى عاماً كاملاً يأخذ من شمائل مالك رحمه الله بعد أن فرغ
من علمه [30] .
3 -
الاطلاع على حكايات العلماء: قال أبو حنيفة: الحكايات عن العلماء
أحب إليَّ من كثير من الفقه؛ لأنها آداب القوم وأخلاقهم [31] .
4 -
لزوم الصالحين والقدوات الحسنة ومن يُستحْيى منه: فإن معاشرة هؤلاء
ومخالطتهم تسهل على النفس الاقتباس عنهم والانضباط بوجودهم.
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: من فقه الرجل ممشاه ومدخله ومخرجه
مع أهل العلم [32] .
وقال عبدوس: رآني أبو عبد الله يوماً وأنا أضحك، فأنا أستحييه إلى
اليوم [33] .
5 -
التنفيذ الفوري لما يتعلمه: عن الحسن أنه قال: قد كان الرجل يطلب
العلم، فلا يلبث أن يُرى ذلك في تخشعه، وهديه، ولسانه وبصره، وبره [34] .
6 -
مجاهدة النفس وتعويدها على الخير: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحرَّ الخير يُعْطَهُ ومن يتَّق الشر
يوقه) [35] .
وكان عبد الله بن مسعود يقول: تعوَّدوا الخير، فإنما الخير عادة.
7 -
معاقبة النفس والشدة عليها: قال الجيلاني: لا تهربوا من خشونة كلامي، فما رباني إلا الخشن في دين الله عز وجل ومن هرب مني ومن أمثالي لا
يفلح [36] .
وقال ابن وهب: نذرت أني كلما اغتبت إنساناً أن أصوم يوماً، فأجهدني،
فكنت أغتاب وأصوم، فنويت كلما اغتبت إنساناً أن أتصدق بدرهم؛ فمِنْ حُبِّ
الدراهم تركت الغيبة [37] .
الصفة الثالثة: الثقافة والتجربة:
وذلك فيما يتعلق مباشرة بالعمل التربوي، أو ما له تعلق غير مباشر به،
ونبدأ بالثاني، ونقصد به أمرين:
الأول: الثقافة أو التجربة الواقعية المتعلقة بمعرفة أحوال الناس وطبائعهم
وصفاتهم.
ومصادر هذا النوع من الثقافة والتجربة متنوعة، يمكن استقاؤها من الأفراد
مباشرة، كلٌّ بحسب حاله من خلال اغتنام لحظات الحوار العابر، أو توجيه
السؤال والاستفسار مع تقوية ملكة جمع المعلومات الشفوية، وأيضاً يمكن استقاؤها
من البحوث والدراسات التي تتناول هذه الموضوعات، وفي الجلوس مع الكبراء
في السن وفي الخبرة فائدة لا تترك؛ قال المناوي: المجربون للأمور المحافظون
على تكثير الأجور، جالسوهم لتقتدوا برأيهم وتهتدوا بهديهم [38] .
وعن أبي جُحيفة رضي الله عنه قال: كان يقال: جالس الكبراءَ،
وخالِلِ العلماءَ، وخالِطِ الحكماء [39] .
وأيضاً يمكن استمداد هذه الثقافة والتجربة من الكثير من مراجع التاريخ
القريب أو البعيد؛ فإنه كما قال السخاوي: (من عرفه كمن عاش الدهر كله وجرب
الأمور بأسرها وباشر تلك الأحوال بنفسه، فيغزر عقله، ويصير مجرباً غير غر
ولا غمر) [40] .
الثاني: الثقافة العامة، بمعنى: الاطلاع السريع على العلوم الأساسية
الطبيعية أو الإنسانية وأحدث التطورات العامة فيها.
ويمكن جمع الفوائد التي تعود على المربي من هذين المجالين في النقاط الآتية:
1-
معرفة سبل الخير وسبل الشر، وكيف يُسلك كلٌ منها؟ يصف ابن القيم رحمه الله حال المؤمن المُجرب الذي يعرف الخير والشر كليهما فيقول:(وهذه حال المؤمن: يكون فطناً حاذقاً أعرف الناس بالشر وأبعدهم عنه، فإذا تكلم في الشر وأسبابه ظننته من شر الناس، فإذا خالطته وعرفت طويته رأيته من أبر الناس)[41] .
2 -
توسيع المدارك وتعميق الأفهام وتنشيط العقول: فهذه الثقافات من شأنها
أن تنمي قدرة المربي على التفكير، وعلى القياس المستقيم، وربط الأسباب
بمسبباتها، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في فائدة الاطلاع على
مختلف العلوم كلاماً نفيساً: (ففي الإدمان على معرفة ذلك تعتاد النفس العلم
الصحيح والقضايا الصحيحة الصادقة والقياس المستقيم؛ فيكون في ذلك تصحيح
الذهن والإدراك) [42] .
3 -
زيادة قدرة المربي على التحدث والحوار الثنائي أو الجماعي؛ فالمربي
يتعامل مع عقول مختلفة وثقافات متنوعة يحتاج إلى التواصل معها بكفاءة،
والمربي محدود الثقافات أشبه شيء بمذياع الشيوعية القديم ليس فيه إلا محطة
واحدة: إما أن تسمعها أو تغلقه، بينما المربي متنوع الثقافات: متعدد الموجات؛
فاحتمال غلقه غير وارد.
4 -
فهم ظروف المتربين المختلفة اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً؛ انطلاقاً من
فهمه لأحوال المجتمع الذي يعيشون فيه والتي تمثل الخلفية الدافعة للكثير من أقوالهم
وتصرفاتهم.
أما النوع الثاني: - وهي الثقافة والتجربة التربوية - فلا غنى عنها للمربي؛
فهي التي تصبغه بهذه الصبغة بداية وعن طريقها يتعرف منهج التربية وما يتضمنه
من أهداف التربية ووسائلها ومراحلها وأساليبها ومشكلاتها ونحوه، وهو يتعرف
على ذلك بوصفه إما كلاماً نظرياً مجرداً يعرض المفاهيم والمبادئ، وإما وصفاً أو
نقداً للمحاولات التطبيقية: ظروفها ونتائجها.
ويمكن استمداد تلك الثقافة والتجربة من مصدرين رئيسين:
الأول: الكتب (المصادر المقروءة) : وهي مصدر أساس لتلقي المبادئ
والمفاهيم التربوية، وكذا التجارب والخبرات التربوية. وهنا وقفة وهي: أنه قد
يتحرَّج بعضٌ من الاستفادة من الكتب الدعوية الكثيرة التي تنقل خبرات وتجارب
العديد من الدعوات والدعاة، وهذا أمر غير مستقيم؛ فالحكمة ضالة المؤمن، ومن
العار أن تمنعنا مشاعر التعصب أو أخطاء الآخرين من الاستفادة من تلك التجارب؛
خاصة أن ذلك لا يعني إعطاءها الصلاحية المطلقة، بل كلا الأمرين وارد، ومفيد
أن نعرف تجربة الصواب وتجربة الخطأ.
قال الإمام أحمد رحمه الله: سمعت أن قَلَّ رجل يأخذ كتاباً ينظر فيه إلا
استفاد منه شيئاً [43] .
الثاني: السماع والممارسة: والسماع يعني أن يسعى المربي للاستفادة من
تجارب المربين الأقران له والسابقين عليه، مع إعطاء أهمية خاصة لقدامى
المربين.
والممارسة تعني: أن ينتفع المربي من تجربته الذاتية في العمل التربوي،
فيستفيد من أخطائه وإصاباته السابقة فيما يُستجد من أعماله اللاحقة، وكما قيل:
من التوفيق حفظ التجربة.
الصفة الرابعة: العمق الإيماني:
ونعني به ذلك النور وتلك الجاذبية التي تصدر عن المؤمن مع صلاح باطنه
وقربه من الله عز وجل فينعكس ذلك على جوارحه وعلى كلامه وأفعاله،
والمربي إن كان كذلك فهو لإخوانه بمثابة البحر العميق تمخر فيه كبار السفن هادئة
مستقرة، بينما الماء الضحل لا يسلك فيه مركب صغير فضلاً عن كبارها، وقد
كان السلف يهتمون بذلك ويُرجعون كل قصور عن بلوغ الكلام مراميَه في القلوب
إلى ضعف القلب الصادر عنه قبل اتهام قلوب السامعين. قال الحسن وقد سمع
متكلماً يعظ فلم تقع موعظته من قلبه ولم يرقَّ لها -: يا هذا! إن بقلبك لشراً أو
بقلبي [44] .
فتحقيق هذا العمق الإيماني إذن لا يكون بالكلام، أو بالتكلف والتحلي الزائف، بل ليس له إلا طريق واحد هو الإخلاص لله عز وجل والتقرب إليه -
سبحانه - فإذا اقترب المربي من ربه اقتربت منه قلوب العباد، وإن ابتعد عن ربه
بعدت عنه القلوب.
ومن أروع المشاهد التربوية الإيمانية التي تصور لنا أثر العمق الإيماني على
التربية، ذلك المشهد الذي رسمه ابن القيم لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمهما الله -
يقول: وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه؛ فما
هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً
وطمأنينة [45] .
(1) دراسات في النفس الإنسانية، محمد قطب، ص379.
(2)
البخاري، ح/6498، ومسلم، ح/2547.
(3)
البداية والنهاية لابن كثير، ج/9/317.
(4)
دراسات في النفس الإنسانية، ص382.
(5)
حلية الأولياء، ج/6/316.
(6)
حلية طالب العلم، بكر أبو زيد، ص45.
(7)
المصدر السابق، ص59.
(8)
اقتضاء العلم العمل، ص90.
(9)
تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة، ص28.
(10)
النظم التعليمية عند المحدثين، المكي أقلانية، ص93.
(11)
المصدر السابق، ص82.
(12)
التذكرة، ص16.
(13)
سير أعلام النبلاء، ج9، ص201.
(14)
الجامع لآداب الراوي والسامع، الخطيب البغدادي، ج/1/336.
(15)
صحيح الأدب المفرد، ص294.
(16)
القاموس المحيط، ص197.
(17)
المصدر السابق، ص1734.
(18)
الإعلام، ص139.
(19)
يمكن أن يراجع في ذلك كتب كثيرة مثل: (مختصر منهاج القاصدين ربع العبادات، تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة، ورسالة تقرير ميداني، لمحمد الراشد) .
(20)
القاموس المحيط، ص1706.
(21)
فضائح الفتن، ص5.
(22)
تفسير ابن كثير، ج4، ص198.
(23)
العقلاء لابن أبي الدنيا رقم 742.
(24)
سير أعلام النبلاء، ج6، ص366.
(25)
رسالة للمحاسبي، ص:60.
(26)
سير أعلام النبلاء، ج14، ص394.
(27)
لباب الآداب، ص:227.
(28)
البخاري، ح/520، ومسلم، ح/1599.
(29)
الأعلام، ص143.
(30)
سير أعلام النبلاء، ج 14، ص35.
(31)
التذكرة، ص50.
(32)
حلية الأولياء، ج14، ص35.
(33)
الإعلام، ص206.
(34)
شعب الإيمان للبيهقي، ج2/291.
(35)
حسن صحيح الجامع للألباني، ص461، ج1.
(36)
الفتح الرباني، ص22.
(37)
سير أعلام النبلاء، ج/9/228.
(38)
فيض القدير للمناوي، ج/3/220.
(39)
جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، ج/1/126.
(40)
الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ السخاوي.
(41)
مفتاح دار السعادة، ج/1/295.
(42)
الفتاوي، ج9/128.
(43)
صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل، عبد الفتاح أبو غدة، ص1.
(44)
البيان والتبيين للجاحظ، ص59.
(45)
الوابل الصيب، ص 45.
قضايا دعوية
العمل المؤسسي
…
معناه، ومقومات نجاحه
عبد الحكيم بن محمد بلال
لعل من أخطر ما تعانيه الأمة الإسلامية: غياب الروح الجماعية.
ولقد انعكس هذا الواقع على الفكر - كما للأخير انعكاس عليه - فصار من
عللنا الفكرية: ممارسة التفكير بطريقة فردية، ومنها أيضاً: نمو التفكير في شؤون
الفرد على حساب التفكير بشؤون المجتمع. وعليه: فإن الفقه المتعلق بشئون الفرد
وحركته وحقوقه وواجباته ظل أكثر نمواً من الفقه الذي يهم الجماعة، ففُصِّلت
الفروض العينية، وبقيت الفروض الكفائية - والتي تصير عينية بالتقصير فيها -
بقيت عند بعضهم عائمة، كمسألة: كفاية الأمة في كل جوانبها، وكمسألة: أهل
الحل والعقد، وبيان تشكيلهم، ودورهم.. وبقيت الدراسات التي تتناول أبنية
المجتمعات الإسلامية التاريخية ومشكلاتها وأطوارها محدودة؛ ونتيجة لذلك فقد
رأينا سجل التاريخ حافلاً بالمآثر الفردية ضامراً في الأعمال الجماعية.
والسبب أن الوعي المدني لم يتم تنظيمه بشكل كافٍ، فهو بحاجة إلى
المؤسسات المختلفة [1] .
ولقد تأصلت فكرة الفردية اليوم، ثم تأزم الموقف حين ورث كثير من الدعاة
إلى الله-تعالى- ذلك المرض من أمراض التخلف الحضاري، فلا تزال ترى اليوم
كثيراً من التجمعات الإسلامية محكومة بعقلية الفرد، تعيش مركزية القرار، رغم
ازدياد التحديات، وتوالي المحن، وتفاعل الأزمات.
ولئن كان بعض الدعاة في العقود الماضية يسعون إلى مجرد الانتشار الأفقي
للدعوة، فإنه لا يقبل من أحد اليوم التفكير بعقلية تلك المرحلة؛ فلقد صارت
الصحوة اليوم معادلة صعبة في الموازين العالمية، والخطر الأوحد أمام الأنظمة
الغربية، بل نستطيع القول: إن كثرة الأتباع غير الواعين أصبح يمثل هاجساً
للدعاة والمصلحين أنفسهم.
وعليه فلا بد من مراجعة أساليب العمل الدعوي اليوم. كما أنه من الضروري
العناية بتنمية الفكر الجماعي، وأسلوب العمل المؤسسي المحكم الذي صار أسلوب
القوة والتحدي في هذا الزمان، ويكفي برهاناً من الواقع أن الدول الكبرى في الوقت
الحالي دول مؤسسية ليست مرتبطة ارتباطاً كلياً بالأفراد؛ فالولايات المتحدة
الأمريكية مثلاً هي بجملتها مؤسسة ضخمة تضم في ثناياها عدداً هائلاً من
المؤسسات مختلفة التخصصات، ولا تتغير استراتيجياتها الرئيسة بتغير أفراد
حكوماتها إلا من منطلق جماعي.
وفي هذه المقالة: محاولة لتأصيل الفكر الجماعي، وبيان معنى العمل
المؤسسي، وتحديد المراد به، ثم عرض شيء من مزاياه وفوائده، وبعض أسباب
تقصير الدعاة في الأخذ به، ثم ذكر مقومات نجاحه. وما هذا الطرح إلا إثارة
للموضوع؛ ليأخذ طريقه إلى حوار جاد [2] .
نحو وعي أعمق للروح الجماعية:
إن تغيير واقع الأمة يتطلب في المستوى الأول تغيير النفوس، ومن عناصر
ذلك التغيير: تعميق الفهم، وتجديد الفكر، وتصحيح المفاهيم التي من أهمها:
مفهوم الفرد، والجماعة، وهو - بحمد الله - مفهوم في غاية الوضوح.
إن الفرد هو العنصر الأساس في بناء الأمة، ولكن شرط قيامه بدوره الأكمل
هو تعاونه مع بقية أفراد الأمة.
والأمة التي يتعاون أفرادها هي أمة الريادة؛ لأن تعاونهم يضيف كل فرد إلى
الآخر إضافة كيفية لا كمية، ومن ثم تتوحد الأفكار والممارسات من أجل تحقيق
رسالة الأمة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي صحابته على الروح
الجماعية، روح الأمة، كما ضرب مثلاً - للمجتمع - بقوم أقلَّتهم سفينة، إن أراد
أحدهم خرقها وجب على الجميع الأخذ على يده، وإلا غرقوا جميعاً [3] ؛
فالمسؤولية في بلوغ الريادة تقع على الأمة جميعاً في مقابل أمة الكفر.
والعودة بالناس إلى روح الأمة يستدعي إجراءات، أولها: فك الارتباط القائم
بين العمل الإسلامي والأُطُر الحزبية الضيقة [4] ؛ ليتقبل العمل الإسلامي
الاستراتيجية الصائبة الموصلة إلى الهدف، سواء انبعثت من داخله أو خارجه.
وهذا يجرنا إلى الإجراء الثاني المتمثل في تنمية الصفات التي تحقق التفاعل
بين الأفراد وتعميقها، كالأخوة، والشورى، والتواصي بالحق وبالصبر، والعطاء
المتبادل، والقدرة على التجميع، مع موالاة الأمة، لا الحزب.
ولا بد في ذلك من تحقيق التوازن بين الروح الفردية والروح الجماعية،
وهذه مهمة التربية المتوازنة التي لا تحيل الأفراد أصفاراً، وأيضاً لا تنمي فيهم
الفردية الجامحة، بل توفر لهم المناخ المناسب لتنمية شخصياتهم، مع اختيار
أساليب العمل التي تحول دون التسلط، وتنمي المبادرات الذاتية، وترسخ الشورى.
ويكفل كلَّ ذلك إجراءٌ ثالثٌ يحوِّل العمل من أسلوب المركزية في اتخاذ القرار
وتطبيقه ومراقبة تنفيذه إلى أسلوب المشاركة التي تُحسِّن الأداء وتنمي الشخصية،
فيلتقي نموها مع روح الفرد التي أثمرها التعاون فيزداد التفاعل وتتكامل الجهود.
إن الجماعة والتنظيم في الإسلام يعني كلٌ منهما: (التعاون) و (العلمية)
أي تعاون الجهود في خطة يضعها العلم؛ فجوهر الجماعة وحقيقة التنظيم إنما
…
هو التعاون بين المسلمين، والتكامل بين نشاطاتهم في طريق التمكين لشريعة
الله، وإقامة دولة الإسلام، وإحياء الأمة الإسلامية [5] .
تعريف العمل المؤسسي:
كل تجمع منظم يهدف إلى تحسين الأداء وفعالية العمل، لبلوغ أهداف محددة، ويقوم بتوزيع العمل على لجان كبرى وفرق عمل وإدارات متخصصة: علمية،
ودعوية، واجتماعية؛ بحيث تكون لها المرجعية وحرية اتخاذ القرار في دائرة
اختصاصها
…
يعتبر عملاً مؤسسياً.
وليس المراد بالعمل المؤسسي العمل الجماعي المقابل للعمل الفردي؛ إذ
مجرد التجمع على العمل، وممارسته من خلال مجلس إدارة، أو جمعية أو مؤسسة
لا يجعله مؤسسياً، فكثير من المؤسسات والمنظمات والجمعيات التي لها لوائح
ومجالس وجمعيات عمومية إنما تمارس العمل الفردي؛ لأنها مرهونة بشخص منها
فهو صاحب القرار [6] ، وهذا ينقض مبدأ الشورى الذي هو أهم مبدأ في العمل
المؤسسي.
مزاياه وفوائده [7] :
1 -
تحقيق مبدأ التعاون والجماعية الذي هو من أسمى مقاصد الشريعة.
2 -
تضييق الفجوة بين عمل الدعاة، وردم الهوة بينهم بتحقيق ذلك المبدأ،
وتأسيس الأعمال المشتركة بينهم؛ فإن ذلك يقلل التصادم والنزاع، وهي الطريقة
المتبعة بين الدول في تأسيس اللجان والمجالس المشتركة، وهو ما لم يشعر بعض
الدعاة بأهميته وضرورته بعد [8] .
3 -
تحقيق التكامل في العمل، وذلك في عمل الفرد عزيز، فكثيراً مما
يحصل من القصور في عمل الفرد يتلاشى في عمل المؤسسة؛ إذ المفترض حدوث
التكامل باجتماع الجهود، والمواهب، والخبرات، والتجارب، والعلوم، مع التزام
الشورى، والتجرد للحق.
وأيضاً: فإن العمل الفردي يصطبغ بصبغة الفرد، بينما المفترض أن يخلو
العمل المؤسسي من ذلك [9] .
4 -
الاستقرار النسبي للعمل، بينما يخضع العمل الفردي للتغير كثيراً - قوة
وضعفاً أو مضموناً واتجاهاً - بتغير الأفراد، أو اختلاف قناعاتهم.
5 -
القرب من الموضوعية في الآراء أكثر من الذاتية؛ حيث يسود الحوار
الذي يَفْرض قيامُه وضعَ معايير محددة وموضوعية للقرارات تنمو مع نمو الحوار،
في حين ينبني العمل الفردي على قناعة صاحبه.
6 -
دفع العمل نحو الوسطية والتوازن؛ إذ اجتماع الأفراد المختلفين في
الأفكار والاتجاهات والقدرات يدفع عجلة العمل نحو الوسط، أما الفرد فلو توسط
في أمر فلربما تطرف - إفراطاً أو تفريطاً - في آخر.
7 -
توظيف كافة الجهود البشرية، والاستفادة من شتى القدرات الإنتاجية؛
وذلك لأن العمل المؤسسي يوفر لها جو الابتكار والعمل والإسهام في صنع القرار،
بينما هي في العمل الفردي أدوات تنفيذية رهن إشارة القائم بالعمل، ويوم أن
أعرض المسلمون عن هذا العمل خسروا كثيراً من الطاقات العلمية والعملية، فانفرد
أصحابها بالعمل، أو فتروا عنه [10] .
8-
ضمان استمرارية العمل - بإذن الله تعالى - لعدم توقفه على فرد يعتريه
الضعف والنقص والفتور، ويوحشه طول الطريق وشدة العنت وكثرة الأذى.
وللمثال: فقد كان من أقوى أسباب استمرار التعليم قوياً في الدولة الإسلامية -
حتى في عصور الضعف السياسي -: قيامه على المؤسسات العلمية القوية التي
تمدها الأوقاف، كما تمد سائر الجهود الدعوية والإغاثية - التي لم يُتجرأ عليها إلا
في العصر الحديث - واليوم نرى استمرار المؤسسات الغربية قوية تساندها
جمعيات كثيرة [11] .
9-
عموم نفعه للمسلمين؛ لعدم ارتباطه بشخصية مؤسسه، وهذا بدوره ينمي
الروح الجماعية الفاعلة، ويحيي الانتماء الحقيقي للأمة، وهذا مكمن قوتها.
10-
مواجهة تحديات الواقع بما يناسبها؛ فإن الأمة اليوم يواجهها تحدٍّ من
داخلها، في كيفية تطبيق منهج أهل السنة مع الاستفادة من منجزات العصر، دون
التنازل عن المبادئ [12] ، كما يواجهها تحدٍّ من خارجها مؤسسي منظم؛ والقيام
لهذا وذاك فرض كفاية لا ينهض به مجرد أفراد لا ينظمهم عمل مؤسسي، كما لا
ينهض أفراد الناس لتحدي العمل المؤسسي في مجالات الحياة الاقتصادية، أو
السياسية، أو الإعلامية، أو غيرها.
11-
الاستفادة من الجهود السابقة والخبرات التراكمية، بعد دراستها وتقويمها
بدقة وإنصاف وحيادية، وبذلك يتجنب العمل تكرار البدايات من الصفر الذي يعني
تبديد الجهود والعبث بالثروات.
لماذا الإحجام عن العمل المؤسسي؟
ولسائل أن يقول: عَمَلٌ بهذه المزايا ما الذي حدا بالأمة اليوم أن تحجم عنه؟
ويجاب: بأن للأمر خلفيات وأسباباً، منها:
1 -
طبيعة المجتمعات الإسلامية المعاصرة عامة، وعدم ترسخ العمل
المؤسسي في حياتها؛ لما اعتراها من بُعد عن الدين أدى إلى تأصل الفردية،
وضعف الروح الجماعية، والحوار والمناقشة والمشاركة، ولما حلّ بها من تخلف
حضاري أقعدها عن الأخذ بأسباب الفاعلية والنجاح، فأصابها التأخر وتبدد الطاقات.
2 -
ضعف الملكة الإدارية لدى كثير من العاملين في الحقل الإسلامي،
بسبب إهمال العلوم الإنسانية التي أفاد منها الغرب، وهذا مما ورثه العاملون عن
مجتمعاتهم. وقد أدى هذا الضعف إلى الجهل بالعمل المؤسسي ومقوماته وأسباب
نجاحه فتلاشت الخطط، وأغلقت دراسة الأهداف وإقامة المشاريع، وصار العمل
مجرد ردود أفعال غير مدروسة أو عواطف غير موجهة [13] .
3 -
حاجة الدعوة إلى الانتشار، مع قلة الطاقات الدعوية المؤهلة؛ مما حدا
بكثير من الدعاة إلى التركيز على الكم لا الكيف، والغفلة عن قدرة العمل المؤسسي
على الموازنة بين الكم والكيف، وتحقيق أكبر قدر منهما.
4 -
الخلط بين العمل الجماعي والمؤسسي، والظن بأن مجرد قيام الجماعة
يعني عملاً مؤسسياً، في حين أن كثيراً من التجمعات والمؤسسات لا يصدق عليها
حقيقة هذا الوصف؛ لانعدام الشورى، والمركزية في اتخاذ القرار.
5 -
الشبهات العارضة التي يتذرع بها المانعون من العمل الجماعي، بحجة
بدعيته؛ فأحجموا بذلك عن العمل المؤسسي انطلاقاً من هذه الشبهة.
6 -
حداثة العمل الإسلامي المعاصر، فإنه إذا ما قورن عمره بعمر
المؤسسات الغربية بان قصيراً جداً. يقال هذا لئلا تُهضم الحقوق، ولكي نقترب
بالحديث من الإنصاف لهذه الصحوة المباركة؛ حيث نرى بوادر الاهتمام بالمجالات
الإدارية أكثر من ذي قبل.
لكي ينجح العمل المؤسسي:
للتربية الإيمانية المتكاملة أكبر الأثر في بناء الطاقات، وتنميتها، واستثمارها
استثماراً مناسباً، وهذا عماد العمل المؤسسي، ويمكن تفصيل المقومات اللازمة
لنجاحه على النحو الآتي:
1 -
توفر القناعة الكافية بهذا الأسلوب من العمل؛ بإدراك ضرورته،
وخاصة في زمن القوة، وبمعرفة مزاياه وثمراته، وفهم مقومات نجاحه للوصول
به إلى المستوى المطلوب.
2 -
صدور القرارات عن مجالس الإدارة، أو اللجان ذات الصلاحية،
حرصاً على خروجها من أدنى مستوى ممكن، لتكون أقرب إلى الواقعية وقابلية
التنفيذ، ولا يجوز أن يكون المصدر هو الفرد أو المدير؛ فإنه يستمد صلاحياته -
هو أيضاً - من المجالس، لا العكس، ويجب أن تملك المجالس واللجان صلاحية
مراجعة قرارات المديرين ونقضها.
3 -
أن تكون مجالس الإدارة أو اللجان غير محصورة في بيئة واحدة
محكومة بأطر تنشئة وتربية وتفكير محددة مما يؤثر على طبيعة اتخاذ القرار،
فوجود أفراد من بيئات مختلفة ضمن هذه المجالس يثري العمل المؤسسي بتوسيع
أنماط التفكير وتعديد طرق التنفيذ [14] .
4 -
أن تسود لغة الحوار، حتى تتلاقح الآراء للخروج بأفضل قرار، وأيضاً
حتى يخضع الرأي الشخصي لرأي المجموعة.
ويذكر هنا بالمناسبة: نزول النبي صلى الله عليه وسلم على رأي أصحابه في
أحد، وخروجه من المدينة تلبية لرغبتهم، مع ميله للبقاء في المدينة، وتأييد رؤياه
لرأيه [15] ، وبعدما حصل ما حصل لم يصدر منه لَوْم لأولئك المقترحين للخروج.
5 -
تحديد ثوابت ومنطلقات مشتركة للعاملين في المؤسسة تكون إطاراً
مرجعياً لهم، توجه خطة العمل، وتناسب المرحلة والظروف التي تعيشها المؤسسة.
6 -
التسامي عن الخلافات الشخصية، وتقديم المصلحة العامة على المصلحة
الشخصية، وهذا يتم بتحسين الاتصال والتواصل بين أفراد المؤسسة بعضهم مع
بعض، وبينهم وبين سائر العاملين في الحقل الإسلامي.
وهذا أساس قوي للنجاح؛ ففي استفتاء لعدد من القياديين الناجحين اتضح أن
الصفة المشتركة بينهم هي القدرة على التعامل مع الآخرين [16] ، ولن يتم ذلك
لأحد ما لم تتربَّ أنفسنا على العدل والإنصاف، ومعرفة ما لدى الآخرين من حق،
ومحاولة فهم نفسياتهم من خلال نظرتهم هم لأنفسهم، لا من خلال نظرتنا نحن.
7 -
الاعتدال في النظرة للأشخاص؛ فإنه في حين يصل الأمر لدى
المنحرفين عن أهل السنة والجماعة في نظرتهم للأشخاص إلى حد الغلو والتقديس،
فإنَّا نجده عند بعض أهل السنة - الذين سلموا من الغلو - بالغاً إضفاء هالة على
بعض الأشخاص تؤثر في مدى استعدادهم لمناقشة رأيهم، أو احتمال رفضه مع
بقاء الاحترام الشخصي، وهؤلاء يشكلون ضغطاً على العمل المؤسسي وتوجيهاً
غير مباشر للآراء [17] .
وكأن هذا ما أراده عمر رضي الله عنه حين عزل خالد بن الوليد -
رضي الله عنه خشية تعلق الناس به، وربطهم النصر بقيادته [18] .
8 -
إتقان التخطيط، وتحديد الأهداف لتنفيذها، وتوزيع الأدوار، وهذا
يتطلب مستوى جيداً في إعداد القادة والمسؤولين، وتدريب العاملين مع الاستفادة من
كل الإمكانات، وتوظيف جميع الطاقات، بعد التعرف عليها جيداً [19] .
والمهم هو التركيز في جداول الأعمال على المنطلقات والأسس والخطوط
العامة، دون الانهماك في المسائل الإجرائية، والتي قد لا تحتاج إلا لمجرد قرار
إداري أو إجراء تقليدي، ودون المسائل التي يكثر الجدل والخلاف حولها.
ولضبط الخطط، وإتقان تنفيذها، وبلوغ الأهداف، يراعى الآتي:
أ - الأناة في التخطيط، والحماسة في التنفيذ [20] ؛ فالأول: لمراعاة
القدرات والإمكانات، ومعرفة التحديات وحسن تقدير العواقب، وتحاشي مخاطر
السرعة، والثاني: لاستباق الخيرات، وكسب الزمان، واغتنام الهمة، ومبادرة
العزيمة.
ب - أهمية قيام المؤسسات بأداء أعمالها بأساليب علمية حكيمة تكفل
استمرارها وأداءها لعملها على الوجه المطلوب، وحتى لا تتعرض لكيد الكائدين
وأساليب المغرضين، ولا ينبغي أن يكون أهل النفاق أكثر حنكة منا؛ فكم نالوا
أهدافهم من جمعياتهم وأعمالهم حتى بلغوا مناهم [21] . اللهم ألهمنا رشدنا، وأعذنا
من شر أنفسنا [22] .
(1) انظر: مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي، د عبد الكريم بكار، ص 39.
(2)
بعد إعداد هذه المقالة اطلعت على رسالة قيمة لما تطبع بعد بعنوان: العمل المؤسسي الإسلامي ودوره في التغيير الشمولي، د سامي الدلال جزاه الله خيرا.
(3)
انظر الحديث في البخاري، كتاب الشركة، باب (6) ، 3/11.
(4)
التي تحبس صاحبها في بوتقة ضيقة، فيحصر ولاءه في الحزب، ولايعرف الدعوة إلا بمفاهيمه، بغض النظر عن مدى التوافق مع الشريعة.
(5)
انظر: مقالا بعنوان: روح الفريق والمبادرات الذاتية، لمحمد بدري، في مجلة البيان، العدد83، ص42.
(6)
انظر: مقالا لعبد الله المسلم، مجلة البيان، العدد: 118، ص18.
(7)
انظر: مقال: لعبد الله المسلم، في مجلة البيان، العدد: 117، ص 38.
(8)
انظر: مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي، د عبد الكريم بكار، ص 238.
(9)
انظر: العمل الجماعي، د عبد الوهاب الديلمي، ص 35.
(10)
انظر: خواطر في الدعوة، محمد العبدة، ص165.
(11)
انظر: خواطر في الدعوة، ص147.
(12)
انظر: خواطر في الدعوة، ص37.
(13)
انظر: البيان، العدد: 110، ص4.
(14)
الفكرة مقتبسة من: المسار، لمحمد الراشد، ص6266، فليراجع.
(15)
كما في مسند أحمد: 3/351، وصححه الألباني في تخريج فقه السيرة للغزالي، ص269.
(16)
انظر: دليل التدريب القيادي، ص142.
(17)
انظر: مقالأ لعبد الله المسلم، في مجلة البيان، العدد: 118، ص 18.
(18)
راجع البداية والنهاية، 8/115، وقد يوجه الأمر توجيها آخر، انظره في الفتاوي لابن تيمية: 28/256.
(19)
انظر: مشكلات وحلول، للبلالي، ص183، ودليل التدريب القيادي، ص137 وما بعدها، والمسار للراشد، ص166167.
(20)
انظر: مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي، د بكار، ص162.
(21)
انظر مقالا لعبد القادر حامد، البيان، العدد: 31، ص96.
(22)
الموضوع بحاجة ماسة إلى إثراء، ويمكن الاستفادة فيه من كتب الإدارة، مثل: الخطوات الذكية، الإدارة، مثل: الخطوات الذكية، الإدارة بضمير، (مترجمة) ، وتنظيم العمل الإداري في النظام الإسلامي، د محمد الأغبش.
إصدارات
تتوالى الإصدارات الحديثة حاملة بين طياتها الجديد في عالم الدراسات
الإسلامية، والفكرية، والاقتصادية، والسياسية، وغيرها. ورغبةً منَّا في إطلاع
قراء على ما يتسير لنا من هذه المطبوعات الجديدة التي نرى فيها الفائدة لقارئها
سيكون لنا بإذن الله وقفات مع بعض تلك الإصدارات بين عدد وآخر، والله الموفق.
* التعليقات الرضية على الروضة الندية، للإمام المحدث محمد ناصر الدين الألباني، دار ابن عفان، القاهرة، 1420هـ.
تعليقات لطيفة أثبتها - حفظه الله - أثناء تدريس الكتاب، ولكنها لم تستوعب
كل ما ينبغي التعليق عليه، فضلاً عن تغيُّر الاجتهاد في عدد منها، وهي ما بين
شرح لغريب أو مصطلح، أو تخريج ونقد، أو مناقشة وتعقب، أو ذكر قاعدة، أو
اختيار وترجيح.
* مجموع فتاوى وبحوث، للشيخ عبد الله بن منيع، دار العاصمة، 1420هـ.
المؤلف فقيه أصولي، عضو في اللجنة الدائمة للإفتاء، وقد جمع في كتابه
عدداً كبيراً من بحوثه العلمية، وفتاواه الشرعية، وأحاديثه الإذاعية فجاءت متنوعة
وشاملة لأبواب عديدة في العقيدة والشريعة والأخلاق، فجاءت حديقة غنَّاء تسر
الناظر، وتفيد المُطالع.
* الحكم بغير ما أنزل الله: أحواله، وأحكامه، د. عبد الرحمن بن صالح المحمود، دار طيبة، 1420هـ.
بيّن المؤلف منزلة تحكيم الشريعة في العقيدة، وأورد الأدلة على وجوبه،
وبين أحوال الحكم بغير ما أنزل الله ومتى يكون كفراً أكبر أو أصغر، وأورد نماذج
لمواقف العلماء من المبدلين لشرع الله، مع تحرير مسائل الموضوع والرد على
الشبهات فيه.
دراسة متميزة، حسبها أنها بينت خطورة الأمر، وحذرت من الإعراض عن
شريعة الله عز وجل أما التطبيق على الواقع فيحتاج إلى توفر شروط وانتفاء
موانع.
* حول التربية والتعليم، د. عبد الكريم بكار، دار المسلم، الرياض 1420 هـ، (492 صفحة بالفهارس) .
هذا الكتاب هو الخامس والأخير من السلسلة القيمة: (المسلمون بين التحدي
والمواجهة) التي تهدف لإيجاد (فهم أعمق للواقع الإسلامي) ؛ (من أجل انطلاقة
حضارية شاملة) ، و (للنهوض بالعمل الدعوي) في الطريق إلى (التنمية المتكاملة)
أسعد الله القلوب بتحققها آمين.
الكتاب يتحدث حول جوهر التربية وأهميتها، ويورد مبادئ وأساليب وأهدافاً
تربوية، ويثنِّي بالحديث حول التعلم والتعليم والمعلم، ويخص بالذكر التعليم
الشرعي والتعليم الجامعي.
تجد في الكتاب بياناً لواقع التربية والتعليم، وتحديداً للمشكلة، ووصفاً للعلاج؛ ففي الكتاب: طرح متميز، ومعالجة جادة، وأفكار رائدة.
* الربا في المعاملات المصرفية المعاصرة، د. عبد الله بن محمد حسن السعيدي، رسالة دكتوراه، دار طيبة، 1420هـ.
دراسة علمية رصينة، تتكون من شقين، أولهما: تجلية ما يثار حول ربا
القروض - الذي هو أساس العمل المصرفي - من شكوك وشبهات وتأويلات،
بقصد إخراجه من إطار الربا، أو تسويغه على الأقل. وثانيهما: بيان المعاملات
المصرفية التي ابتكرتها المصارف وسيلة لنشر الربا، كبطاقات الائتمان، وفتح
الاعتماد البسيط، والمستندي، والكمبيالة
…
بذكر جوانبها المصرفية والشرعية.
وتبعهما بابان آخران، الأول: لبيان كيفية التصرف في المال الحرام، وحكم
العمل والإيداع في البنوك الربوية، والثاني: لبيان مؤسسات العمل المصرفي
التجاري - المروِّج للربا - والإسلامي - البديل المقبول.
* أصول العلاقات الدولية في فقه الإمام محمد بن الحسن الشيباني، دراسة فقهية مقارنة، د. عثمان جمعة ضميرية، رسالة علمية لنيل العالمية (الدكتوراه) ، من الأزهر، نشر: دار المعالي، 1419هـ، الأردن.
عنيت الرسالة ببيان أثر الإمام محمد في العلاقات الدولية في السلم والحرب،
فكان البحث ذا شقين: الأول: مفهوم العلاقات الدولية وتطورها، والعلاقة بين
المسلمين وغير المسلمين، والمعاهدات الدولية، والسفارة والسفراء. الثاني:
تعريف الجهاد ومشروعيته، وقواعد السياسة الحربية، والقواعد العليا في قانون
القتال، وآثار الحرب.
في البحث تجلية وتغطية موفقة لمجهود الإمام محمد في إرساء قواعد وأصول
ما عرف بـ (القانون الدولي) ، تلك الظاهرة الحديثة ذات الجذور الموغلة في القِدَم، والذي صار علماً مستقلاً حديثاً مرتبطاً بالدول النصرانية الأوربية التي تحول
تعصبها ضد المسلمين قانوناً دولياً!
* قواعد الوسائل في الشريعة الإسلامية، دراسة أصولية في ضوء المقاصد الشرعية، تأليف: د. مصطفى بن كرامة الله مخدوم، رسالة
دكتوراه من الجامعة الإسلامية، بالمدينة النبوية، نشر دار إشبيليا، الرياض، 1420هـ.
اشتملت الدراسة على خمسة أبواب: التعريفات، والمقدمات، والتقسيمات،
وأحكام الوسائل، ثم القواعد الأصولية والفقهية المتعلقة بالوسائل خاصة وبيان وجه
علاقتها، كقاعدة: سد الذرائع، ومقدمة الواجب، والاستصلاح، والاحتياط، ومن
تعجل شيئاً قبل أوانه، كما ذكر البدع والأسباب والحيل، وبيّن علاقة كل منها
بالوسائل.
تميزت معالجة الباحث للموضوع بالمزاوجة بين علمي الفقه وأصوله وبين
سائر العلوم الأخرى، وخرجت الرسالة تؤكد ثبات الشريعة وشمولها، من خلال
موضوع ذي صلة بعلوم وأبواب شتى.
* الجهاد والتجديد في القرن السادس الهجري، عهد نور الدين، وصلاح الدين، دراسة مقارنة مع الواقع المعاصر، للأستاذ محمد حامد الناصر، نشر مكتبة الكوثر 1419هـ، الرياض.
تحدث المؤلف فيه عن أن التاريخ مرآة الشعوب، وحقل تجارب الأمم، وما
من شك في أن استقراء التاريخ واستنطاقه يساعد على تحديد مساراتنا الحالية
والمستقبلية.
* فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري، دراسة دعوية للأحاديث من أول كتاب الوصايا إلى نهاية كتاب الجزية والموادعة، د. سعيد بن علي بن وهف القحطاني، 1420هـ.
دراسة تأصيلية في علم فقه الدعوة، مادتها من حديث رسول الله صلى الله
عليه وسلم، تبين المنهج الدعوي النبوي المتعلق بالداعية والمدعو وموضوع الدعوة
ووسائلها وأساليبها.
* العلو للعلي الغفار وإيضاح صحيح الأخبار من سقيمها، جمع الإمام الذهبي، دراسة وتحقيق وتعليق: عبد الله بن صالح البراك، دار الوطن، الرياض، 1420هـ.
الكتاب موسوعة فذة في مسألة زلت فيها أقدام، جمع فيها الذهبي أقوال عدد
كبير من الأئمة في إثباتهم كمال علو الله - تعالى - وفوقيته مع إثبات معية الله
وقربه من عباده عز وجل. وللذهبي كتاب آخر صدر هذا العام أيضاً بعنوان
(العرش) وهو سابق في تأليفه على كتاب العلو وأخصر منه، حققه د. محمد بن خليفة التميمي.
أما الدراسة فمختصرة وجيزة، وأما التحقيق فقد توسع المحقق في خدمة
الآثار ودراسة أسانيدها دراسة مطولة.
حوار
د. محمد حرب في حوار مع (البيان)
تشويه تاريخ العثمانيين..
تشويه لجزء من تاريخ الإسلام
أجرى الحوار:وائل عبد الغني
السيرة الذاتية:
حاصل على دكتوراه في التاريخ العثماني من جامعة استانبول.
أستاذ التاريخ التركي بجامعة عين شمس.
رئيس المركز المصري للدراسات العثمانية وبحوث العالَم التركي والبلقان.
عضو فخري في مجلس العلماء بأكاديمية العلوم في قازاقستان.
من مؤلفاته:
- مذكرات السلطان عبد الحميد.
- المسلمون في آسيا الوسطى.
- دور الكنيسة في هدم الدولة العثمانية.
- يهود الدونمة.
1-
في البداية: أنتم متخصصون في العالَم التركي والتاريخ العثماني، ولكننا
لا نعرف حدود هذا العالم.
العالَم التركي عالم كبير - مثل العالم العربي - له وحدة دينية.. مذهبية..
جغرافية.. عرقية.. لغوية مشتركة؛ فهو عالم يدين بالمذهب السني في عمومه.
يمتد جغرافياً من حدود الصين شرقاً إلى حدود البوسنة والهرسك غرباً مروراً بآسيا
الوسطى والفولجا والقوقاز، وهو من جهة العرق واحد؛ فهو كله من سلالة العرق
التركي، وثقافته واحدة ولغته واحدة في مجمله، هذا العالم يحوي حوالي 250
مليون نسمة.
2-
هناك سؤال كثيراً ما يلح على المرء منا: لماذا العثمانيون مكروهون
بشكل ملحوظ لدى بعض الأوساط؟ وهل هناك ما يدعو لكل هذا الكره؟
كلامك هذا ذكَّرني بمقولة أستاذي (نهاد جتين) : (العثمانيون يُشتمون في
كتب التاريخ العربي، وفي كتب التاريخ التركي، وفي كتب التاريخ الإيراني،
وفي كتب التاريخ الأوروبي، وفي كتب التاريخ الروسي) .
وربما نجد ما يسوِّغ هذا الكره لدى الأوروبيين أو الروس أو الشيعة، ولكن
المسوِّغ لدينا - نحن العرب - أو لدى الأتراك غير موضوعي ويجافي الإنصاف؛
لأن الإنصاف يقتضي أن دولة بلغت كل هذا المجد، وتحقق لها كل هذا التمكين
خلال أكثر من ستة قرون من الزمان، وامتدت رقعتها إلى ما لم تصل إليه دولة في
تاريخ الإسلام، وحفلت بما لم تحفل له دولة في التاريخ البشري كله - بعد الدولة
النبوية في المدينة - من حيث القوة والحضارة والعدل، ومع هذا يستحيل أن تكون
بكل هذا السوء! فالغربيون والروس والشيعة قد ورثوا هذا العداء وراثة طبيعية؛
أما العرب والأتراك فقد رضعوه من النظرة الأوروبية.
3 -
إذن المسألة مسألة مصادر؛ فأين هي المصادر السليمة؟
المصادر غير متوافرة ليس لعدم وجودها وإنما لأسباب أخرى؛ فقد كان
العثمانيون شديدي الولع بالتاريخ، مهتمين جداً بكتابة تاريخ دولتهم حتى إنه كان
هناك مؤرخ رسمي للدولة له تلاميذه وطريقته في الكتابة، ولكن عدم توافرها ناتج
عن عدم استطاعة الأجيال اليوم التعامل معها وقراءتها؛ لأنها مكتوبة بالحروف
العثمانية التي ألغاها أتاتورك وبدَّلها بالحروف اللاتينية، وبهذا نجد أن الحضارة
العثمانية لم تنل حظها من الدراسة لضخامة التعتيم العلمي والسياسي في الوقت الذي
تُدرس فيه الحضارات القديمة وتُفك رموزها! والأجيال اليوم ظُلمت من هذا الباب. ومن جانب آخر تأثرت بالنظرة الغربية التي نقلتها الدراسات الأكاديمية التي تربى
منظِّروها والمتخصصون فيها في الجامعات الأوروبية مثل أوكسفورد وكمبردج،
وهم لا يعلمون أن هذه الجامعات كانت عبارة عن مدارس أنشئت في الكنائس
لدراسة الحالة العثمانية - بعد أن توالت الهزائم الأوروبية أمام الجيوش العثمانية -
من أجل فتح القلعة من الداخل، وهذه المدارس كان لها رصيدها العدائي لا للدولة
العثمانية فقط وإنما للتاريخ الإسلامي كله، وإذا كانت قد نجحت في تشويه تاريخ
أكثر من ستة قرون من تاريخ هذه الأمة فمعنى ذلك تشويه ما يقارب من نصف
تاريخ الإسلام.
4 -
معلوم أن الاشتغال بالتاريخ يورث المشتغل خبرات واسعة، ومعارف
كثيرة؛ وها أنت قد قطعت شوطاً كبيراً في هذا المجال؛ فما هي أبرز النتائج التي
يمكنك أن تهديها للقارئ؟
يمكنني أن أوجز ذلك في أمرين:
الأول: هو: من أين نستقي تاريخنا الإسلامي؟ أو ما هي مصادر الاطلاع
عليه؟ لا بد أن يكون ذلك من مصادر موثوقة؛ لأن التاريخ الإسلامي على امتداده
وامتلائه بكل عناصر القوة والسمو والإبداع نجد أن معالجاته المتأخرة قد ملأته
بالتشكيك والتشويه، هذه المعالجات تأثرت بمنهجين منحرفين أو بأحدهما وهما:
المنهج الشيعي، والمنهج الأوروبي.
أما الشيعة فبرزوا في تشويه أكمل فترات التاريخ الإسلامي بعد عصر النبوة؛
حيث أوّلوا الأحداث تأويلاً شيعياً أضر بعلاقات المسلمين بالمسلمين وأفسدها، وهي
إلى اليوم فاسدة!
وأما الغرب فقد أثَّر ميراث عداوته للإسلام على منهجيته في دراسة تاريخنا
الإسلامي؛ هذه المنهجية هي التي امتدت إلى جامعاتنا وباحثينا، ومن خلالها يُقَدَّم
لنا التاريخ الإسلامي، والعثماني منه بالذات.
ولهذا أقول: إنه متى استطعنا إبعاد أثر الشيعة والغرب على دراسة التاريخ
استقامت كل أمورنا.
أما الأمر الثاني: فهي تجربة شخصية تتعلق بكيفية تقديم التاريخ للناس؛ فقد
وجدت أن التناول الأدبي للتاريخ وقضايا المسلمين يؤثر تأثيراً أقوى مما كنت
أتصور، وأبلغ في إيصال الفكرة للجمهور من الدراسة الأكاديمية والبحثية.
5 -
في تاريخ أي دولة هناك نقاط تحوُّلٍ - صعوداً وهبوطاً - أثَّرت في
شكل الدولة وقوتها ووجودها. نريد أن نعرف أبرز هذه النقاط في التاريخ العثماني؟
هذا سؤال يعجبني؛ لأنه يركِّز على أعظم النقاط خطراً في تاريخ الدول
ويضيف إلى حصيلة الباحث تجارب كبيرة وعميقة.
أما بالنسبة للتاريخ العثماني فنجد نقاطاً من هذا النوع مثل:
- هجرة القبائل التركية من وسط آسيا والتحاقهم بالدويلة العثمانية، وقد
استفاد القائد عثمان من هؤلاء المهاجرين في تنظيم إمارته على أساس شرعيٍّ سنِّي.
- توحيد الإمارات العثمانية في الأناضول وجمعها في دولة واحدة مستقلة.
- عبور أورخان بن عثمان إلى أوروبا - وكان ذلك في وقت مبكر من عمر
الدولة - حيث استفاد من اشتداد الصراع الأوروبي - الأوروبي في فرض إثبات
وجودهم على الساحة الأروربية.
- كذلك فتحه لمدينة (أزنيق) التي كانت تحوي المجمع الكنسي الأوروبي،
وتحويل المؤسسات الدينية إلى مدرسة عثمانية.
- ثم فتح سليم الأول للبلاد العربية هذا الفتح الذي تصوِّره لنا الكتب اليوم
على أنه استعمار.
- ثم انتصاره على الشيعة وهي نقطة حيوية في التاريخ العثماني بعد أن
أسس لمبدأ: (حسم الجبهة الداخلية مقدم على فتح جبهات جديدة مع أوروبا) .
كل النقاط السابقة تمثل عناصر تحوُّل نحو القوة.
- أما فتح القسطنطينية فقد كان نقطة تحول في اتجاهين:
إيجاباً: لأن الدولة حققت بشارة النبي صلى الله عليه وسلم وفتحت الباب إلى
قلب أوروبا.
وسلباً: كان في تغيُّر النظام السلطاني بعد محمد الفاتح تأثراً بأوروبا؛ فانعزل
السلطان عن حاشيته؛ حيث كان يجلس خلف ستار يراقب مجلسهم وهم لا يرونه
هذا فضلاً عن انعزاله عن الرعية مما أضعف أثر السلطة وفتح الباب أمام
الانحراف.
- اختراق الشيعة للطريقة البكتاشية التي تربت عليها الانكشارية مما أدى إلى
الانحراف في العقائد والسلوك، وكانت النتيجة هي الانهيار الداخلي للجيش
العثماني.
- موقف السلطان عبد الحميد من اليهود وتضحيته بكرسيه في سبيل الحفاظ
على الأرض الإسلامية.
هذه المواقف مما ينبغي الوقوف عندها وتأملها للاستفادة منها باعتبارها
تجارب يبقى أكثرها في دائرة التأثير حتى اليوم.
6 -
بسرعة نقفز من الماضي إلى المستقبل، ونتحول من الإمبراطورية
المسلمة إلى أحد أقاليمها (البلقان) ونسأل عن كوسوفا وعن توقعاتكم؟ [1]
أوروبا لن تسمح باستقلالٍ لألبان كوسوفا، على عكس ما يريدون، وهي
تسعى لتهميش الوجود الإسلامي هناك بأن يبقى المسلمون على الأقل تحت حصار
صربي يمكن أن يضمن عدم التطور نحو الإسلام، وهو الخطر الذي تخشاه أوروبا.
7 -
وهل يمكن للبلقان أن تفجر حرباً جديدة، أعني عالمية؟
من الصعب إن لم يكن من المستحيل؛ لأن أوروبا اليوم موحدة وهي تملك
زمام الأمور، وهي تتبنى مبدأ كول:(الثقافة الأوروبية ثقافة نصرانية) .
أوروبا وقفت ضد استقلال البوسنة والهرسك ذات الهوية الإسلامية، وحين
أرادوها دولة أرادوها علمانية، وهي اليوم ضد استقلال كوسوفا؛ لأنها باستقلالها
تشكل مع ألبانيا دولة (ألبانيا الكبرى) . وبالمناسبة فإن عدد الشعب الألباني خارج
أرضه أكبر من عدده في الداخل، وهناك أقاليم ألبانية أخرى تطمح إلى الاستقلال
مثل السنجق ومقدونيا والدول المحيطة بها، وهي حين تتجمع لا بد أن تقيم دولة
إسلامية ممتدة تاريخياً وحضارياً إلى حيث تخاف أوروبا؛ لأنها ذهلت من ظهور
جيل ألباني متمسك بالإسلام رغم النحت الأيديولوجي الذي قام به أنور خوجة.
8 -
وكيف ترى مستقبل البوسنة والهرسك؟ وإلامَ يتطلع المسلمون هناك؟
نظام دايتون المطبق الآن نظام غريب وجديد على العالم؛ لأن الحكم يتم
بصورة غير معهودة من قبل؛ إذ تتعاقب الطوائف الثلاث على الحكم: فترة
الرئيس عزت بيجوفيتش الأولى، ثم إلى صربي، وبعده ينتقل الحكم إلى رئيس
كرواتي وهكذا
…
ولهذا يصعب الحكم إلا بعد فترة من استمرار هذا النظام؛ فهل سيستمر أم لا؟ هذا مما يصعب التنبؤ به الآن، خاصة إذا تغير الوضع الأوروبي.
أما تطلعات المسلمين هناك فهي إقامة مجتمع مسلم وليس دولة مسلمة.
التيارات الإسلامية هناك في تنامٍ وهي رغم إيجابيتها قد ورثت نوعاً من التحزب
من تيارات الجهاد التي جاءت من أفغانستان، ومع هذا فعامة الناس يحبون الإسلام، والسلوك العام زاد اقتراباً من الإسلام.
في زيارتي الأخيرة كنت أصلي الفجر في مسجد (الشهداء) بموستار فأشعر
بسعادة غامرة لامتلاء المسجد عن آخره بالمصلين الذين أكثرهم من الشباب.
الجمعيات الخيرية لها دور مشكور في مجال التعليم والتوعية والتأهيل المهني، ومما أثر في نفسي كثيراً ما حكته لي إحدى موظفات جامعة موستار عن المذابح
والجرائم الصربية فلما رأت تأثري قالت لي: نحن لسنا نادمين على ما جرى؛ لأن
هذه الفترة بكل مرارتها أعادتنا إلى شيء جميل جداً اسمه (الإسلام) .
9 -
عفواً سأعود للوراء بسؤال عن الفتوحات: في رأيك ما سر بلوغ
العثمانيين كل هذا النجاح في فتوحاتهم التي نجحت في غرس الإسلام ورسوخه في
بلاد مثل البوسنة؛ ورغم رحيل العثمانيين عنها منذ وقت بعيد وتعرُّض المسلمين
هناك للتصفية إلا أنهم ما زالوا على إسلامهم؟
هناك عدة أسباب منها:
أن الدولة كلها كانت تتبنى المذهب السني بالإضافة إلى الإبداع العسكري
المتمثل في إنشاء جيش نظامي متمثل في الانكشارية الذين تربَّوْا على الزهد وحب
الجنة والجهاد في سبيل الله، وبذلك ارتفعت الروح لدى الجنود مما كان يرهب
الجيوش المعادية.
وهناك سبب يمثل بذاته عنصر إبداع قوي، وهو أن الدولة كانت تخطط لفتح
المدن قبل فتحها بسنوات طويلة وتتخذ لذلك ترتيبات من أهمها:
أنها كانت ترسل دعاة مسلمين فرادى وبعض عائلات مسلمة تستوطن تلك
المدن وتقيم الإسلام في ذاتها، وتعامل الناس على أكمل وجه، فكان الناس ينبهرون
بالإسلام مما يعزز من قبول الناس للفتح، ومن أعظم ما رسَّخ للحكم الإسلامي إقامةُ
الدولة للعدل وترك الناس أحراراً، وإيجاد حل للمشاكل المستجدة من خلال ما
يعرف بـ (قانون نامة) ، وهذا كان يدفع الناس إلى ترك حكم الكنائس والتحاكم
إلى المحاكم الإسلامية.
وهناك وثيقة مجرية تشيد بحكم الإسلام. والغريب حقاً أن كثيراً من سكان
المجر والدول المحيطة ما زالوا يحبون العثمانيين ويعتزون بمآثرهم الحضارية التي
ما زالت شاهدة على روح الإسلام التي استقرت في حس تلك الشعوب.
10 -
نعود إلى البلقان وأزمته الراهنة: هل هناك بؤر أخرى مرشحة
للانفجار سيأتي دورها؟
المسلمون عرفوا النتيجة مسبقاً، أوروبا تتركهم يقتلون ويقتلون ويقتلون، ولا
تبدأ في حل المشكلة إلا بعد أن تضمن تدمير المسلمين أو تحقيق أدنى الحلول خطراً
على وضعها وحساباتها.
هناك أقليات في السنجق، والجبل الأسود، وفي بلغاريا، ولكن البلغار
سمحوا أخيراً بإقامة حزب لهم، هذا الحزب جاء في المرتبة الثانية في الانتخابات
رغم أن المسلمين هناك من الصعب أن يحلوا مشاكلهم من خلال الديمقراطية.
هناك وجود إسلامي في تراقيا الغربية، وهو إقليم تركي لغة وعرقاً تخلت
عنه تركيا لليونان، المسلمون هناك في حالة صعبة جداً، ويعاملون معاملة مواطنين
من الدرجة الثالثة، الحكومة استولت على أوقافهم، وتمارس ضغطاً عليهم بشكل
واضح، وإن كانوا قد استطاعوا أخيراً أن يوصلوا صوتهم للعالم.
11 -
هل لك أن تحدثنا عن جمهوريات آسيا الوسطى، وهل ماتت الشيوعية؟ وماذا كسب المسلمون، وماذا خسروا؟ وكيف ترى الوضع هناك؟
الشيوعية ولَّت؛ ولكن لصالح العلمانية، وإن كان المسلمون كسبوا هناك
الاستقلال والحرية، إلا أنهم ما زالوا تابعين في حساباتهم السياسية لموسكو
واستراتيجياً للولايات المتحدة.
المنطقة هناك واعدة من حيث الطبيعة والسكان؛ بل من حيث الاقتصاد؛
حيث تسمى (خليج المستقبل) .
هناك صراع أيديولوجي، وصراع اقتصادي وسياسي، هناك صراعات
تركية أمريكية إسرائيلية خليجية إيرانية قوية. الكنائس لها أنشطة قوية، وإيران
تلعب دوراً خطيراً، وإن كان المردود ضعيفاً من كليهما، والجامعات الأوروبية تقيم
هناك مؤتمرات سنوية.
إيران تقدم نموذجها الشيعي، ودول الخليج تقدم نموذجها السني، وتركيا
تروِّج لتجربتها العلمانية بتأييد أمريكي.
وإسرائيل تحقق مكاسب اقتصادية، ودبلوماسية قوية بمشاركة أمريكية -
…
تركية. ونتيجة للنفوذ الأمريكي المبكر فقد سارعت الحكومة هناك بإعلان العلمانية على الطريقة التركية.
12 -
ولماذا كانت (إسرائيل) أسبق إلى هناك؟
لإخفاق المسلمين والعرب من جهة؛ لأنهم لم يتبنوا استراتيجية ثابتة أو
سياسات قوية لعدم شعورهم من قبلُ باحتياجهم إلى تلك المنطقة في المستقبل.
ومن جهة ثانية: لأن (إسرائيل) نجحت في التسلل إلى هناك؛ لتكسر
الحصار حولها وتقيم علاقات كاملة، هناك سفارات وتمثيل دبلوماسي، هناك تواجد
للخبرة الإسرائيلية، هناك تبادل تجاري، و (إسرائيل) سارعت إلى إقامة خطوط
طيران مباشرة إلى هناك بينما لا يوجد خطوط طيران بين تلك العواصم والعواصم
العربية. وإلى هذا وذاك فإن هذه الدول تتقرب من (إسرائيل) ؛ لأنها أقرب طريق
موصل إلى الولايات المتحدة.
13 -
وماذا عن النفوذ الروسي؟
النفوذ الروسي يضعف يوماً بعد يوم في مقابلة ازدياد النزعات العرقية
والوطنية على سبيل المثال: في أوزبكستان تتبنى الحكومة هناك سياسة استقلالية
بتوطين اللغة الرسمية ضمن خطة تمتد حتى عام 2016م؛ لإزالة جميع آثار
الاحتلال الروسي.
14 -
وماذا عن إقليم (أبخازيا) ؟
(أبخازيا) هو النطق الأوروبي أما النطق العربي الصحيح هو: (أباظة)
هذا الإقليم المسلم يعاني من تسلط جورجيا النصرانية، ولهذا يجاهد أهله من أجل
الاستقلال، ولكن الوضع مؤرجح نتيجة لضعف الحكومة الجورجية من جهة،
ولضعف إمكانات المسلمين وقياداتهم من جهة أخرى.
15 -
اقترنت المقاومة الإسلامية للشيوعيين بمناطق وشخصيات كان أبرزها
الشيشان، وقائدها التاريخي الإمام (شامل) ، وقائدها المتأخر (دوداييف) فإلى أي حد
يُظلل الإسلام التجربة الشيشانية اليوم؟
الشيشان هي الدولة الوحيدة القوقازية ذات الاستقلال الداخلي في روسيا
الاتحادية وتتوق لأن تكون إسلامية 100% شعباً وحكومة، وعندما جاء دوداييف
إلى السلطة استدعى بعض الإسلاميين العرب وقال لهم: أنا لا أفهم الإسلام بالقدر
الكافي؛ لكني أعدكم إذا ما شرحتم لي ما هو الإسلام جيداً أن أطبقه. وكان هذا
إيذاناً بإنشاء معهد الإمام الشافعي لتخريج الدعاة وتأثيره في واقع الحياة هناك،
والمفتي العام لدولة الشيشان جعل مسخادوف عند توليه الرئاسة يقْسم على القرآن
بإسلامية دولة الشيشان. وها هم الداغستانيون قد تحركوا أيضاً للسبب نفسه رغم
تعدد لغات داغستان وأعراقها. ولن يكون عجباً إذا قام شعب أنجوشيا المجاور
للشيشان ولداغستان بنفس العمل: إعلاء الإسلام.
في الحقيقة التجربة الشيشانية تجربة فريدة؛ فبعد فراغ السلطة بمقتل دوداييف
اختلف الناس حول مسخادوف حتى كادت أن تقع فتنة، وهنا بادر شيخ الإسلام في
الشيشان لحل تلك الأزمة، فاشترط على الشعب - قبل الانتخاب - تأييد الرئيس
الذي تختاره الأغلبية على إقامة الإسلام في البلاد، وأقسم الشعب على الولاء له
شرط أن يطبق الإسلام، ولكن مسخادوف باعتباره رئيساً للبلاد لا يُعتبر في أعلى
منصب؛ لأنه عضو في المجلس الرئاسي، هذا المجلس يرأسه شيخ الإسلام - هذا
الرجل عنده أمل في أن يُكتب تاريخ الشيشان بأقلام إسلامية، وأن يُعَد مشروع
تعليمي متكامل باللغة العربية لتعميمه في المدارس الشيشانية.
16-
لعلك سبقتنا إلى الكلام عن دور الحركات الإصلاحية والدعاة هناك:
كيف ترى دورهم؟
المؤسسات الإسلامية محجمة عن التعامل مع دول آسيا الوسطى. نعم! هناك
تعامل ولكنه محدود إذا ما قورن بالمؤسسات الأوروبية والأمريكية والإسرائيلية.
المؤسسات الإسرائيلية هناك واضحة الهوية، وهناك شريك تركي أمريكي
محلي. ولا ننكر الدور المشكور الذي تقوم به بعض المؤسسات الخيرية؛ ولكن
ينبغي أن تتميز الأنشطة ذات التأثير القوي والمردود الفعال وتتلافى سلبيات
التجارب الماضية.
مجال الاستثمار هناك واعد ويحتاج لرؤوس أموال إسلامية ترسخ للتواصل
والانتماء، وعلى المؤسسات الدعوية هناك أن تعي المدخل السيكولوجي لهذه
الشعوب وتصدير احتياجاتها الفعلية؛ فبعض المؤسسات وزعت ما يزيد على ربع
مليون نسخة عربية من أحد كتب العقيدة مع أن هذا الرقم لو وُزع نصفه في تبسيط
المفاهيم الإسلامية باللغات المحلية لرأينا لذلك تأثيراً قوياً.
هناك عقبة قوية تعترض طريق الدعوة هي استعداء بعض الدعاة للحكومات
وللصوفية هناك قبل أن تمهِّد لنفسها الطريق.
وفي رأيي إذا نجح الدعاة في تقديم الإسلام بصورة ميسرة وقوية فلا أستبعد
أن تنطلق الصحوة من هناك.
(1) كان هذا الحوار قبل توقف الحرب في كوسوفا.
نص شعري
قالوا: السلام
سليمان محمدي
قفْ في الحياة مجاهداً متصبراً
…
أو عشْ ذليلاً تحت أطباق الثرى
لمَّا نظرت لقومنا وسباتهم
…
عَصَر الأسى روحي وشِبْتُ لما أرى
وسألت في التاريخ عن أجيالنا
…
لِمَ ضيعوا أرضاً وباعوا العسكرا؟
ورنوتُ للأقصى يُضمخه الأسى
…
يشكو بنيه من الرجوع القهقرى
وسمعته بل هاجس في خاطري
…
قطع الخواطر كي يزيل الأخطرا
وأعاد لي الأملَ الضحوكَ فوارسٌ
…
(يا سين أحمد) شمسهم أَسَدُ الشرى
(ياسين) يا رجل المبادئ والنُّهى
…
حيثُ المبادئُ قد تُباع وتُشترى
لك في فؤاد المسلمين مكانة
…
شمَّاء تُذكي في النفوس تحرراً
أكبرتُ نُبلك حين قالوا: تغتدي
…
حراً طليقاً ما تشا متبخترا
لكن لنا شرط. أجبت مقاطعاً:
…
سأظل في سجني ولن أتغيرا
لا خير في عيش أظل منعماً
…
ويبيت شعبي بائساً متحيرا
لا، لن أخون قضيَّتي في مطمع
…
أنا لن أكون بأمتي مستهترا
أبغي العُلا أبغي الفخار لأمتي
…
أعظ الأنام معلماً ومحذرا
لما انتصرتَ على العدوِّ وكيده
…
هتف الزمانُ مهللاً ومكبرا
خلِّ السلام وخلِّ كل مخرف
…
عشق الهوان فحيثما يُجرى جرى
نفخوك يا طبلاً بحكمٍ تافه
…
فغدوتَ مشدوهاً ورحْت مصفِّرا
هذا - لعمركم - الصَّغَار بعينه
…
حتى الحياء بمقلتيه تحجرا
والمرء يعلو بالهدى، فإذا هوى
…
عاش الحياة مطبلاً ومزمرا
قالوا: السلام وجندُوا طاقاتهم
…
فغدا السلامُ بأهله متعثرا
قلبوا المبادئ طامسين ضياءها
…
كم دنستْ عرضاً وجرَّتْ منكرا
قلبوا الحقائق تاركين عقولهم
…
حاشا الحقيقة أن تغيب وتُقْبرا
قل في المناضل: مرعبٌ متوحشٌ
…
سمِّ الجبانَ - إذا تشاءُ - غضنفرا
وكذاك (ناتنياه) قل: هو عادل
…
يسعى لخير شعوبنا ما قصرا
قل في اللئيم: مفاوض متحضر
…
طفل الحجارة سَمِّهِ المتهوِّرا
كم في المحافل من قتيل لسانِه
…
كان السكوت دواءَه لو فكرا
لكنْ ستعلن فعلَكم أجيالُكم
…
يا ويحَ من باع المبادئ واشترى
الله أكبر في المصاب دواؤنا
…
في يوم عشناها تملكْنا الورى
الله أكبر صيحة علوية
…
دانت لها فُرْسٌ وهدَّتْ قيصرا
الله أكبر في العدو تدكه
…
وتزلزل الباغي وما قد عمَّرا
الله أكبر يا جبالُ فرددي
…
هذا النشيدَ وأسمعيه الأعصرُا
الله أكبر بالجهاد حياتنا
…
ودمُ الشهادة خيرُ ريح عنْبرا
والروحُ إنْ حنَّتْ لمقدم ربها
…
تجد الشهادة مغنماً بل أكبرا
نص شعري
كوسوفا الحزينة
عبد الله موسى بن بيلا
أكوسوفَ هل من قبلُ أسعدك الدهرُ؟ وهل كنتِ بستاناً يسيل به النهرُ؟
وهل كنت مثل الطفل يفترُّ ضاحكاً ليبسم في أحشائه الخير والبِشرُ؟
وهل كنتِ قبل اليومِ للشرِّ مرتعاً؟ وهل عاش فيك الضَيْمُ والجَوْر والغدرُ؟
فما كنت إلا روضةً مطمئنةً فزمجر في آفاقها الصربُ والفقرُ
فماذا جنى الإسلام حتى تواطؤوا عليه، فما يُخشى وليس له أمرُ
كأني أرى الإسلام يندب حظَّه ويذكر تاريخاً يزيِّنُهُ النصرُ
ويَلطِمُ وجهاً طالما عزَّ شأنه وطار له صيتٌ وعانقه الفخرُ
فقلت له: كفكف دموعك
…
إنَّما صخور البوادي لا يُحرِّكها النقرُ
فلو كان للإسلام عزٌّ ومنعةٌ لما هان يوماً أو تمالكه الذُعرُ
فقد كان طوداً شامخاً لا تهزُّه رياح الأعادي أو تخوِّفه السُّمرُ
وما هان دينُ الله بل هان أهله وذلُّوا
…
فما يغني المَقامُ ولا الذِكرُ
فقد عاث فينا الصرب سراً وجهرةً ومُكِّن منَّا الظُلم والبطشُ والأسرُ
أكوسوفَ مهما طال ليلٌ سينجلي ليَنفُر عَنك العسرُ يطرُدُه اليُسرُ
فويلاه يا ويلاه مِن حالِ أمةٍ تَشبَّث فيها الخوفُ والذلُ والعَفْرُ
فكيف لنا صبرٌ وفي القلبِ حُرقةٌ يهون على كتمانها الموت والقبرُ
فمن للثكالى فاضَ دمعُ عيونها ومن لوليدٍ فاض من عينه الجمرُ
فكيف لهم أن يهتكوا عرضَ غادةٍ وحوريةٍ حسناء يحسدها البدرُ
مآسٍ يَعِزُّ الصبر عند وقوعها ويعجز عن وصفٍ لها القولُ والشعرُ
إلى الله نشكو ما ألمَّ بحالنا ونسأله فتحاً فقد نَفِدَ الصبرُ
وما كنت أرجو أن تحين منيَّتي وأرضُ بني الإسلام يغصبها الكفرُ
ولكن إذا شاء القدير مشيئةً فليس لها ردٌّ وليس له قهرُ
سلامٌ على الشهداء في كلِّ مشهَد يردده التاريخ ينشده الدهرُ
سأنظمه كالطيبِ يغسل روحكم عليكم سلامُ الله ما انهمر القطْرُ
الإسلام لعصرنا
الانفراط العظيم الأسباب
والآثار
أ. د. جعفر شيخ إدريس
ما زلنا نستعرض بعض ما جاء في كتاب الانفراط العظيم لعالم السياسة
الأمريكي الشهير فوكوياما.
الأسباب:
يبدأ الكاتب في شرحه للأسباب التي أدت إلى ذلك التمزق في المجتمعات
الغربية بمقدمة منهجية معقولة هي أنه ما دامت مظاهر هذا التمزق عامة في كل
الدول الغربية الصناعية، وما دامت قد حدثت مجتمعة، وفي فترة زمنية محددة،
فإن هذا يدعونا لأن نبحث لها عن أسباب في أمر أو أمور مشتركة بين هذه الأقطار، لا في الأسباب الخاصة ببعضها دون بعض.
ويرى تبعاً لذلك أن السبب الأساس لها كان تحولاً ثقافياً، تحولاً قيمياً تمثل في
اشتداد النزعة الفردية، وأن أعظم ما أثرت فيه هذه النزعة الفردية هو العلاقات
بين الجنسين، والأسرة على وجه الخصوص. وأن مظاهر ذلك الانفراط أو التمزق
نشأت كلها تقريباً عن التفكك الذي أصاب الأسرة.
لكنه يعود فيقول: إن القول بأن عزو سبب الانفراط إلى تغير في الثقافة -في
القيم- مصادرة على المطلوب؛ إذ إن السؤال ما يزال باقياً: لماذا حدث هذا التغير
في القيم في كل هذه البلاد المتقدمة صناعياً، وفي فترة معينة من الزمان؟
ويعترف بأن التحولات القيمية لها أسباب كثيرة؛ لكنه يرى أن أهم أسبابها في
هذه الفترة التي يدرسها أمران جاء بهما التطور العلمي، هما: حبوب منع الحمل،
والإجهاض الآمن.
يقول: إن حبوب منع الحمل وتوفُّر الإجهاض أَذِنا للنساء - لأول مرة في
التاريخ - بأن يتعاطين الجنس بلا خوف من العواقب، وأن هذا جعل الذكور
يشعرون بالتحرر من القيم التي كانت تفرض عليهم مسؤولية العناية بالنساء اللاتي
حملن منهم.
ويقول: إن الذي كان يمنع النساء من استبدال زوج يناسبهن مكان الزوج
الذي يعشن معه، ويكتشفن أنه لا يناسبهن هو أنهن لم يكُنَّ قادرات على الإنفاق
على أنفسهن بسبب أنهن لم يكن يعملن، فلما عمل النساء وصارت دخولهن تزداد
باطراد وجدن أنه بإمكانهن أن يربين أطفالهن من غير عون من الأزواج، لكن
إنجاب الأطفال يقلل من فرص المرأة في العمل؛ فلكي تنجب المرأة فإما أن لا
تعمل إطلاقاً، وإما أن تتوقف عن العمل لفترات، فإذا كانت حريصة على العمل
فإنها ستلجأ إلى الحد من الإنجاب، ثم إن قلة الأطفال تزيد بدورها من احتمالات
الطلاق؛ لأن الأطفال هم (الرأسمال المشترك) بين الزوجين. ويقول: إن هناك
دلائل تجريبية كثيرة تؤكد الصلة بين الدخول العالية للنساء وبين الطلاق والإنجاب
خارج نطاق الزوجية، ثم إن ازدياد معدلات الطلاق يؤدي بدوره إلى عدم ثقة
النساء باستمرار الحياة الزوجية، ويدفعهن إلى تأهيل أنفسهن للعمل، كي يضمَنَّ
مستقبلهن. ثم إن التحول من العصر الصناعي إلى عصر المعلومات زاد من فرص
النساء في العمل؛ وذلك لأن الأعمال ذوات الرواتب العالية لم تعد تلك التي تحتاج
إلى جهد جسدي لا يقوى عليه إلا الرجال، بل تلك التي تحتاج إلى جهد عقلي،
كالعمل في مجال الحاسوبات، وهو أمر ينافس فيه النساءُ الرجالَ.
الآثار:
يذكرنا الكاتب بما قال في بداية كتابه من أن الجريمة وانهيار الأسرة وتناقص
الثقة هي معايير سلبية لما سمي بالرأسمال الاجتماعي (معايير سلبية بمعنى أن
زيادتها تدل على نقص في رأس المال هذا) ، وكيف أثر ذلك التغيير في القيم على
رأس المال الاجتماعي هذا؟ وكيف أثر في مقدرة الناس على الاجتماع لتحقيق
غايات تعاونية؟ وكيف أثر على مستوى الثقة بينهم؟ يذكر الكاتب آثاراً نوجزها
فيما يلي:
1 -
إن نصف السكان في أوروبا واليابان ستكون أعمارهم أكثر من خمسين
عاماً في غضون العقدين القادمين، وسيؤدي هذا - بالإضافة إلى ما يصحبه من
نقص في عدد السكان - إلى نقص في الدخل القومي، ثم يؤدي هذا كله إلى ضعف
هذه الأقطار وقلة تأثيرها على المسرح العالمي.
2 -
وأن الدول الاسكندنافية التي هي الأعلى في نسبة التفكك الأسري، هي
الأعلى أيضاً في نسبة التوحد؛ إذ إن خمسين بالمائة من البيوت صارت تتكون من
شخص واحد، بل إنه في مدينة أوسلو (عاصمة السويد) بلغت النسبة خمساً وسبعين
بالمئة!
3 -
أثبتت كثير من الدراسات في الولايات المتحدة أن تأثير الأسرة والأقران
على أداء الطلاب أعظم مراراً من كل العوامل التي هي بيد السياسة التعليمية العامة
كرواتب المدرسين، وأحجام الفصول الدراسية، والصرف على التسهيلات
الطلابية؛ لكنه يرى أن النساء لسن هن المسؤولات عن هذا، وأن الحل لا يكون بعدم خروجهن إلى مكان العمل. لكنه يرى في الوقت نفسه أن قائدات الحركة النسوية قد بالغن في إطراء عمل المرأة، وغفلن عن تأثيره على الأطفال، وهو تأثير لازم وواقع، وسيستمر كذلك حتى يتطور العلم فيريحهن من عبء الحمل والإنجاب! !
4-
إن ضرر الجريمة لا يقتصر على من يقع ضحية لها، بل يتعداه إلى
المجتمع كله، وذلك أن انتشار الجريمة يقلل من ثقة الناس بعضهم ببعض، ويعوق
أو يحول دون تعاونهم؛ بل إن الجريمة لتؤدي إلى جعل المجتمع مجتمعاً ذرياً
يحصر كل إنسان فيه اهتمامه في نفسه وفي أقرب الناس إليه. من ذلك - مثلاً -
أن الجيران كانوا يتعاونون جميعاً على تربية أولادهم، وأما الآن - وبعد أن كثر
الاعتداء على الأطفال - فإذا رأى والد شخصاً يؤنب ولده فالاحتمال الأقرب أن
يتصل بالشرطة.
ما المخرَج؟
هل كان الانفراط هذا ضربة لازب؟ هل كان أمراً حتَّمه التطور التقني، أم
أنه كان بملك الناس أن يتفادوه؟ يرى الكاتب أن الوسائل الاختيارية المتاحة للناس
للتأثير في سير أحداثهم الاجتماعية تتمثل في أمرين، هما: السياسات العامة (يعني
ذلك التي ترسمها وتنفذها الجهات المسؤولة) ، والثقافة الشائعة بين المواطنين وما
تتضمنه من قيم، ويقول: إن كوريا واليابان وبعض الدول الكاثوليكية استطاعت أن
تقلل من تأثير التطور التقني بسبب اختلاف ثقافاتها عن الثقافة الشائعة في
المجتمعات الغربية؛ لكنه يرى أن محاولاتهم هذه إن أخرت حصول تلك النتائج
التي حصلت في البلاد الغربية، فلن تستطيع الحيلولة دون وقوعها، ثم يتساءل:
هل معنى ذلك أن المجتمعات الليبرالية المعاصرة صائرة لا محالة إلى مستويات
أدنى فأدنى من الانحطاط الخلقي والفوضى الاجتماعية حتى تنفجر من الداخل؟
يرى أن الأمر ليس ميئوساً منه إلى هذه الدرجة وأن هنالك حلاً. فما هو؟ نجيب
عن هذا في مقالنا القادم - إن شاء الله -.
وقفات
أُخَيَّتِي.. كفى عجزاً
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
المرأة المسلمة قلعة من قلاع الإسلام، وحصن من حصونه المنيعة، لها دور
عظيم في صيانة الأمة وتربيتها وحمايتها من كل ألوان الفساد والرذيلة. استقامتها
على الحق صيانة للمجتمع كله، وصلاحها وعفتها رعاية للأمة من الانحدار
والتردي في دروب الهوى.
لذا حرص أعداء الله - تعالى - من المستغربين والعلمانيين على انتهاك هذا
الحمى الكريم، واستباحة هذه البيضة العفيفة، وأجلبوا بخيلهم ورجلهم لانتزاع
البقية الباقية من ديانة المرأة وتقواها، وسعوا إلى اختراق إعلامي واسع النطاق
يقوم على تزيين الفواحش، ونشر ثقافة الرذيلة، والمتاجرة بالأعراض، ويهدف
إلى تغيير البنية الاجتماعية والفكرية للأمة المسلمة.
وذلك كله ليس بغريب على الإطلاق؛ فذلك ديدنهم وهجِّيراهم [1]، ولكن:
ألا يحق لنا أن نتساءل بكل صدق: أين دعاتنا من هذا الحِمَى الكريم؟ ! وأخص
بالذكر هاهنا نساءنا الصالحات؛ فهن أوْلى بذلك من غيرهن.
إنَّ علينا أن نعترف بأن واقعنا الاجتماعي والدعوي أدى إلى إهمال جلي
واضح للدعوة في أوساط النساء، فغلب على صالحاتنا - فضلاً عن عامة نسائنا-
العجز والقعود، وأصبحن يتعذرن بمعاذير واهية يُسوِّغن بها قصورهن وتفريطهن.
نعم.. أُدرك أن العوائق الدعوية التي تواجه المرأة أضخم من تلك التي تواجه
أخاها الرجل، ولكن أيصح أن يكون ذلك حابساً للمرأة عن الإقدام والنهوض؟ !
أيصح أن تغفل المرأة الداعية وتصاب بالوهن والفتور..؟ !
دعينا نتأمل خبر أبي هريرة حينما يحدثنا: (أن امرأة سوداء كانت تقمُّ (وفي
رواية: تلتقط الخرق والعيدان) من المسجد، ففقدها النبي صلى الله عليه وسلم
فسأل عنها بعد أيام، فقيل له: إنها ماتت. فقال: هلَاّ كنتم آذنتموني؟ قالوا:
ماتت من الليل ودفنت، وكرهنا أن نوقظك - قال: فكأنهم صغروا أمرها - فقال:
دلّوني على قبرها، فدلوه، فأتى قبرها فصلى عليها) [2] .
سبحان الله.. امرأة ربما كان بعض الناس يزدريها وينظر إليها نظرة لا مبالاة
.. ولكنها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عزيزة كريمة يسأل عنها ويصلي
عليها.
قامت هذه المرأة بعمل - قد نظنه يسيراً - ولكنه عند الله - تعالى - عمل
عظيم يستحق تقدير النبي صلى الله عليه وسلم واهتمامه.
إنها الفاعلية التي دفعت هذه المرأة لخدمة المسلمين والسعي في حاجتهم..
صورة عظيمة تتجلى فيها صورة المرأة المستضعَفة عند الناس، لكن قلبها عامر
بالطاعة، حفَّزها على البذل والعطاء دون أن تهن أو تضعف.
إنها الفاعلية التي اطمأنت بها ذوات القلوب المرهفة الحية، فقدَّمْنَ ما يَقْوَيْنَ
عليه ابتغاء وجه الله - تعالى - دون أن يشعرن بالاتكالية والاعتماد على الآخرين.
وكم يحز في النفس أن يرى المرء ذلك التمرد الأخلاقي الذي يعصف بنا من
كل صوب، ثم يجد من بعض صالحاتنا عزوفاً أو انشغالاً عن تلك المسؤولية
العظيمة؟ !
فيا - سبحان الله - لمن تتركن الميدان؟ ! ومن تنتظرن أن يقوم بهذا
الدور..؟ !
ألا يكتوي قلبك حين ترين تلك الوحوش الكاسرة التي كشرت عن أنيابها
الفضائية ومخالبها الصحفية، وراحت تعبث في أخواتك، وتنتهك عفتهن
وكرامتهن؟ !
ألا يتفطر فؤادك وأنت ترين التفسخ والانحلال يستشري في نسائنا، وينتشر
في بيوتنا انتشار النار في الهشيم؟ !
أيطيب لك طعام أو شراب وأنت ترين الفتاة تلو الفتاة وقد رمت بحجابها
وراحت تركض هنا وهناك ملبية نداء تلك الأبواق الخاسئة التي ملئت بكل ألوان
الدهاء والفتنة
…
؟ !
يا الله
…
! ! كيف تقوى نفسك على القعود وأنت تملكين - بفضل الله -
القدرة على تحصين أخواتك من حبائل المفسدين ومكائد العابثين
…
؟ !
أيرقأ لك دمع؟ أم هل يسكن لك قلب؟ آلله - تعالى - يرضى لك بذلك..؟ !
أخيتي في الله:
إما أن تتقدمي أنت.. وإلا فإن أولئك القوم لنا بالمرصاد، وبقدر تقصيرك
يكون إقدامهم، ومن أيقنتْ بعظيم مسؤولياتها هانت عليها كل العقبات التي تواجهها
.. ومن صدق الله صدقه.
ومن رعى غنماً في أرض مسبعة
…
ونام عنها تولى رَعْيَها الأسَدُ
(1) الهِجِّيري والهجير ، والإهجيري: الدأب والعادة (لسان العرب) .
(2)
رواه أحمد/ح /8804.
قضية للمناقشة
من سُنَّة الله عز وجل في الخلق اختلاف الناس في معارفهم وأفهامهم،
وليس بالضرورة أن يكون هذا الاختلاف محصوراً في دائرة الصواب والخطأ فقط؛
بل قد يكون اختلافاً في التنوع تظهر فيه درجات من الاجتهاد والنظر اقتضاها
اختلاف زاوية النظر والتأمل، أو الاطلاع على دائرة أوسع من العلوم، أو الانفتاح
على أفق أرحب من الفهم والفقه، أو اقتضاها اختلاف النظر إلى المآل والعاقبة
المتوقعيْن للأمر نفسه.
ومن سنة الله عز وجل تجدد الحوادث والوقائع في الحياة، ولذا: كان
الاجتهاد المنضبط بالأصول الشرعية أحد مميزات الشريعة الإسلامية السمحة،
ولذلك أيضاً: ظهر الخلاف في النوازل والمستجدات بين أئمة المسلمين بدءًا من
عصر الصحابة الكرام - رضوان الله عليهم - حتى عصرنا الراهن، وهو خلاف
قد يُنظر إليه على أنه ثراء في الرأي وتنوع في الوقائع، بل قد ينظر إليه بعض
أهل العلم على أنه فسحة في العمل ورحمة للخلق!
على أرضية هذه المفاهيم كلها تفتح مجلة البيان باب المناقشة لنازلة جديدة
على المسلمين، ألا وهي مسألة مشاهدة المواد التلفزيونية، سواءًا أكانت عن طريق
البث المباشر أو المشفر أو عن طريق الفيديو أو الإنترنيت أو غيرها من التقنيات،
والبيان تطرح على صفحات هذا العدد مشاركتين قد تبدوان لدى بعض القراء أنهما
تحملان وجهتي نظر مختلفتين، وقد يبدو لقرَّاء آخرين أن كلَاّ منهما يعالج القضية
من زاوية نظر مختلفة وليست متعارضة، وقد يبدو لآخرين أن كلاًّ منهما موجَّه إلى
واقعيْن متغايريْن ووسطيْن مختلفيْن.
وأيًّا كانت نظرة القارئ إلى المقالين فإن تطرحهما وتفتح باب المناقشة حول
الموضوع والاجتهادات فيه.
ولكن عندما نتحدث عن (اجتهادات) فلا يفوتنا أن نتذكر أن الاجتهاد مهما
علا قدر صاحبه فليس له أن يصادم نصاً محكماً، أو هدْياً ثابتاً، فبوسع المجتهدين
علمياً أو فكرياً في قضيةٍ ما أن يعددوا التحليلات والاستنباطات والاستنتاجات؛
ولكن ليس من حق أحد أن يُخضِع مُحكَمات الشريعة للنظر بالرأي؛ فما كان ديناً
وشريعة منذ أن نزل الوحي هو دين وشريعة إلى أن تقوم الساعة، نقول نعم
لاقتحام مشاكل العصر، ولكن بشرط ألا نتقحم المحرمات أو نتخطى الحدود إلى
الشبهات.
التلفاز أو الفيديو أو الإنترنت أو غير ذلك تعرض أشياء على الأسماع
والأبصار والقلوب، وهذه الأشياء التي تُعرض متفاوتة في نفعها وضرها، في
جدها أو هزلها، في عمقها أو سطحيتها؛ ولكن الذي لا ينبغي أن تتفاوت فيه
الأفهام ولا الاجتهادات هو أن تلك الأسماع والأبصار والقلوب هي محل إظهار
العبودية لله في أمره ونهيه: [إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه
مسئولا] [الإسراء: 36] .
ونحن مع أي حل لمعضلة من معضلات العصر بشرط أن لا يحل حراماً، أو
يفتح على المسلمين المزيد من أبواب الفتنة؛ فماذا يفيد المسلم إذا أصلح دنياه وخسر
آخرته؟ وماذا تستفيد الدعوة إن أصلحت شريحة من العامة في مقابل خسارة
الخاصة من المصلحين الذين إذا أُفسدوا أوشك الله أن يعم الجميع بعقاب؟ !
لا شك أن القضية معقدة ومتشابكة، ولها تداخلاتها وتفاعلاتها؛ ولهذا كانت
تلك المبادرة من (البيان) إلى فتح باب النقاش لتفكيك تعقيداتها، وإلقاء الضوء على
أبعادها المختلفة.
والله الهادي إلى سواء السبيل.
دراسات إعلامية
ماذا تعرف عن:
العجل الفضي [*]
محمد بن أحمد إسماعيل
أعدها للنشر:إسلام دعدوشة
إن أمتنا - إلا من عصم الله - تعيش اليوم مع التلفاز وتوابعه في محنةٍ لم
تُكْره عليها؛ بل رغبت فيها، واستشرفت لها، وفتحت ذراعيها وتشبثت بأذيالها؛
لأن بعض المسلمين في حالة رغبة فيما يفسد دينهم ويخرب دنياهم وهم يحسبون
أنهم يحسنون صنعاً.
فما أشبه حال المنجذبين نحو التلفاز، والقابعين باستمرار لمتابعة الأطباق
الفضائية، ما أشبه حال هؤلاء بحال الفَراش الذي يتساقط في النار لجهله واعتقاده
النفع في النار المهلكة. لكن: هل الناس اليوم في غفلة عما يعرض في التلفاز؟
وهل يجهلون ما يبث لهم ليلاً ونهاراً عبر البث المباشر؟ ألم يشاهدوا الآثار التي
طفحت على المجتمعات، وانعكست على شبابنا وفتياتنا؟ ! كلا؛ إنهم على علم،
وربما سمعوا القصص المخجلة، وذاقوا الآثار المدمرة لأجهزة التلفاز؛ لكنهم
مبهورون، أسكرتهم الرغبة، وأعمتهم الشهوة؛ فلم يحركوا ساكناً! ولسوف
نعرض لآثار هذا الكابوس من خلال العناوين الآتية:
الناس على دين التلفزيون:
استولى التلفزيون على زمام التربية والتوجيه حسبما خطط لها وما يبث فيها،
وهجم الفيديو ليهدد الثروات، ويقتل الساعات، ويعرض المحرمات، وأطلت فتنة
البث المباشر لتضييع أوقاتنا، وتعبيدنا لغير ربنا [1] ، واستذلالنا لننضم إلى
القطيع الهائم الذي تردى في هاوية الرذيلة، وغرق في مستنقع الشهوات.
لقد صدرت عشرات الدراسات العلمية الجادة التي تكشف مخاطر التلفاز وآثار
البث المباشر الخطيرة، وحذرت من مسخ هويتنا التي يميعها الغزو الفكري
والثقافي من خلال برامج التلفاز، واللغة المحلية التي يفسدها التلفاز، والذوق
الاجتماعي الذي يشوهه، والروح الاستهلاكية التي يشجعها وقليلة هي الدراسات
التي تتناول مشكلة التلفاز من منظور شرعي، على أساس الحلال والحرام،
والولاء والبراء، والصلاح والفساد.
اعرفْ هذا العدو من نعوته وأسمائه:
نحن لا نعجب أن فُتن بنو إسرائيل (بالعجل الذهبي) وأُشربوا في قلوبهم حبه
كما قال تعالى: [وأشربوا قلوبهم العجل بكفرهم][البقرة: 93] . لكن نعجب
من مسلمين موحدين حنفاء أشربت قلوبهم حب (العجل الفضي) فقطعوا الساعات
الطوال أمام الشاشة الفضية، عاكفين في محرابه في صمت ومتابعة مستمرة، فلا
يبالون بالصلوات المضيَّعة، وقد شُغِلت عيونهم بمتابعة مشاهد الفسوق والعصيان،
استدبروا قبلة الحنفاء واستقبلوا قبلة العجل الفضي.
أحسب أنه ما دخل بيتاً إلا أذن بخرابه، وإذا اقتناه متدين بدأ العد التنازلي في
التزامه، وإذا اقتناه فاسق مفرط بدأ العد التصاعدي في فسوقه وعصيانه، وبقدر
التصاقه وعكوفه عليه بقدر ما يزيغ عن صراط الله المستقيم، ويذوب في صراط
المغضوب عليهم والضالين. وصدقني أنك لو تأملت أحوال المنتكسين والمتنكبين
الصراط المستقيم، فغالباً ما تجد أن التعلق بالعجل الفضي قاسم مشترك بين أولئك
الناكصين على أعقابهم.
إن التلفزيون وتوابعه قد يكون مدرسة الإجرام [2] ، فمن خلال برامجه التي
تخدم أهدافاً خبيثة محددة صار مدرسة تربي، وأستاذاً غير أمين يدفع بالأجيال إلى
الجريمة والفساد، فيشيع الفاحشة، وينفث روح الجريمة ويقلب القيم رأساً على
عقب، ويدرِّب الصغار على الجريمة والانحراف، وينشئ الأبناء على قبول
الانحراف والتعايش معه، والانخراط في سلك أهله، فيمتصون هذه المفاهيم،
ويستلهمون هذه القيم: يُعَلِّمُهم أن اللصوصية بطولة، والغدر كياسة، والخيانة
فطانة، والعنف هو أقصر الطريق لتحقيق المآرب، وعقوق الآباء تحرر، وبر
الوالدين ذل، وطاعة الزوج رق واستعباد، والنشوز حق، والعفة كبت، والدياثة
فن راقٍ رفيع!
لقد اهتم أستاذ الإجرام بأساليب نشر الفساد، وكشف للشباب الساذج والفتيات
البريئات عن طرق الاتصال بين أهل الأهواء، ولقنهن طرق التحايل على الأهل
وخداعهم، وعرض لهم الفواحش بطريقة تحريضية مثيرة.
وقد توصلت الدراسات التحليلية إلى (أن التلفاز بما يعرضه من أفلام ومناظر
إجرامية أو انحلالية [3] قد يؤدي إلى انحراف كثير من النشء عن طريق ما تخلفه
من خيالات يعيشها. كما تبين من مجموعة ذكور منحرفين قد تناولتهم تلك الدراسة
أن أحد الأفلام أثارت فيهم الرغبة في حمل السلاح، وعلمتهم كيفية ارتكاب
السرقات وتضليل البوليس، وشجعتهم على المخاطرة بارتكاب الجرائم) .
حتى الفتاة لم تسلم من وسوسته وتأثيره الذي أفسد فطرتها، وشوَّه هويتها،
فشاع التحرر من القيود الأخلاقية، وظهر التمرد على الأسرة. وأما تأثيره على
النشء باغتيال براءتهم ووداعتهم، وإفساد فطرتهم فحدِّث ولا حرج! كيف لا؟ وقد
صار موجهاً في عصر يعيش فيه الأطفال يُتماً تربوياً هو المربي والقائد! فشاع
الاستخفاف بكل القيم، والسخرية بالمثل الروحية، وأشبع الأطفال بالروح
الإجرامية والميول العدوانية.
ففي ولاية (ميامي) هاجم اثنان من الفتيان الصغار امرأة فضرباها على رأسها
بمؤخرة المسدس، وما إن أغمي عليها حتى قاما بركلها بأرجلهما تماماً مثلما شاهدا
في الأفلام البوليسية [4] .
وفي (واشنطن) قام أحد الصغار بسحب وقود سيارة جارهم وصبه عليه وهو
نائم، ثم أشعل الثقاب ورماه على الجار الذي أخذ يركض والنار تلتهمه، وكان
عمر هذا الصغير ست سنوات [5] ! !
ملوّث البيئة الأخلاقية:
إن أثر التلفزيون وتوابعه يكاد يكون من أخطر أنواع التلوث الأخلاقي،
وأعمقها في نفوس البشر خصوصاً الشباب والأطفال. يقول (يوري ديو زيكوف)
أخصائي الاجتماع: (إدمان مشاهدة التلفاز وباء سيكولوجي جديد يعم كوكبنا؛ إنه
إذ يسلِّينا يلوث طبيعتنا السيكولوجية والحِسِّية) [6] .
مخرّب البيوت:
إن التلفاز له دوره في تحطيم الاستقرار الأسري، والتفريق بين المرء
وزوجه؛ فمن وسائله ووسائل توأمه الفيديو في تنغيص الحياة الزوجية ما يلي:
1 -
يدفع الزوجات إلى المقارنة بين حياتها ومستواها المعيشي وبين ما تراه
على الشاشة من الكذب والمَشَاهِد، فتنقم على حياتها، وتزدري نعمة الله عليها،
وتجحد فضل زوجها عليها، وتنسى المسكينة أن ما تراه ما هو إلا (تمثيل) .
…
2 -
التزوير العاطفي من إبراز الزوجة (التلفزيونية) في غاية الرقة واللطف
في معاملة زوجها التلفزيوني، وإبراز الأخير في صورة العاشق الموله بزوجته،
فتنبعث مشاعر الحسرة والألم من قلب الزوج المشاهد، والزوجة المشاهدة، وينسى
الاثنان أن هؤلاء لا يعرفون حياة (الأسرة) ولا قيمها، وإنما يتقنون فقط
…
تمثيلها [7] !
3 -
افتتان المشاهدين والمشاهدات بما يرون من صور؛ حيث قال أحدهم
لمجالسيه وهو يحدق في صورة المذيعة: (بالله عليكم أهذي امرأة، وأم فلان -
يعني زوجته - امرأة؟) [8] .
4 -
إشاعة الأفكار الهدامة المعادية للإسلام من خلال التمثيليات والأفلام التي
يكتبها من لا خلاق لهم، فيسوغون الخيانة، وتبرير الفاحشة، ونفث سموم ما
يسمى بالحرية الشخصية بمفهومها الإباحي، وتحريض المرأة على التمرد على أبيها
وزوجها، والتنفير من أحكام الشريعة المطهرة في قضايا: الحجاب، والطلاق
وتعدد الزوجات، ونحوها.
هاتك الأستار:
الإسلام دين الستر، ندبنا إلى ستر العورات الحسية والمعنوية على المستوى
الفردي والجماعي، وحرم الإسلام إشاعة الفاحشة في البلاد والعباد، قال - تعالى-: [إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا
والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون] [النور: 19] وأحاط الخلوة بين الزوجين
بالسرية والاحتشام والستر، فجاء (هاتك الأسرار) ليمزق الحجب، ويقتحم الأعين
البريئة فيغتال براءتها، ويفسد فطرتها، فيتولى الإلحاح في عرض صور النساء
في أبهى زينة وأكمل فتنة.
وبينما يحرم الإسلام هتك أسرار الزوجية المغيَّبة، إذا بـ (هاتك الأستار)
يحول الغيب شهادة، والخبر معاينة، قال عليه الصلاة والسلام: (إن من أشر
الناس عند الله منزلة يوم القيامة: الرجل يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم
ينشر سرها!) [9] .
إن من أسوأ آثار التلفاز وأضرار توابعه هو خدش الحياء، وتحطيم القيم،
ونشر الرذيلة، وقتل الغيرة على حرمات الله التي هي مادة حياة القلب.
ولا ريب أن توالي هذه المشاهد المسموعة وتكرارها يجعلها مع الوقت شيئاً
عادياً، فيروِّض المشاهِد على غض الطرف عن الفضائل وقبول الخيانة الزوجية،
إلى غير ذلك من الأحوال، ألا ترى أن السذج صاروا يقبلون أن يحتضن رجل
بنتاً شابة؛ لأنه يمثل دور أبيها! فلم يعودوا يستنكرونه. وتعجب أن ترى الزوج
المسلم يجلس مع زوجه وبناته وأبنائه في محراب العجل الفضي وهم يرون ما
يعرضه من مشاهد إباحية، وتسكر أهله تلك المشاهد، ويلذ لزوجته وبناته وأبنائه
هذه المناظر وهو قرير العين، قد استنوق، ثم هو يضحك ملء فيه، وينام ملء
جفنه!
وهكذا تتعود القلوب رؤية مناظر احتساء الخمور والتدخين، وإتيان
الفواحش [10] ، والتبرج والاختلاط، وتألف النفوس هذه الأحوال ويكون
…
(التطبيع) مع المعاصي والكبائر والدياثة؟ !
محرقة الحياء:
إن من أخطر مفاسد التلفاز هو القضاء على ذلك الخلق الفطري الأصيل لدى
العذراوات. فجاس الممثلون والفنانات والراقصات خلال تحصيناتنا الأخلاقية
فدمروها تدميراً، وصاروا هم الأساتذة والموجهين و (الأبطال) وكان (إحراق
الحياء) وتبخيره هو أول مقاصد القوم بأبنائنا وفتياتنا.
قال العلَاّمة عبد الله بن حميد: (هل ينتظر من النساء قطرة من الحياء وهن
كل ليلة ينسللن من كل حدب إلى حيث تمثل روايات الغرام المهيجة على شاشة
التلفاز؛ حيث ترى المرأة بعينيها كيف يعمل العاشق مع معشوقته وما يقع بينهما من
الآثام والكلمات الغرامية، وتبادل كلمات التلاقي والشوق المبرح، ترى المرأة هذا
وتسمعه بأذنها، وترى ويرى الرجال الرقص الخليع والمخاصرة وغير ذلك، ولو
أنها لا ترى هذا إلا مرة واحدة في حياتها لكفى في فسادها أبد الدهر، ولكنها تراه
كل ليلة يتكرر على سمعها وبصرها وهي امرأة ضعيفة.. فما قولك في امرأة هذه
حالتها؟ أيبقى شيء من الحياء والعفة؟ فالنفوس مولعة بالتقليد خصوصاً نفوس
النساء) .
وحينما يُدخِل الأب التلفاز إلى بيته، فإنه يكون قد أحضر لأبنائه وبناته
مدرساً خصوصياً مقيماً في البيت، وهو بارع في تلقينهم فنون العشق والغرام،
وأصول الفسق والفجور، فينشأ الفتيان على الاستهانة بالخلق، والفضيلة،
والشرف، والعفة، وصيانة العرض، فيصور هذه القيم على أنها تافهة لا يتمسك
بها إلا السذج والرجعيون [11] فهل آن لهذا الكابوس أن يرحل عن بيوتنا؟ ألا
فليتذكر أولو الألباب [12] ؛ فإنه من يُعْط ِمن نفسه أسباب الفتنة أولاً، لم ينجُ آخراً
وإن كان جاهداً.
آثاره على الصحة:
للتلفاز وتوابعه آثار ضارة على الصحة الجسمية والنفسية للعاكفين أمامه.
أما أضراره على الصحة البدنية فمنها:
1 -
الأمراض التي تنشأ عن ركود الدورة الدموية بسبب تقييد حركة الجسم،
وحرمانه من الرياضة والنشاط العضلي.
2 -
الترهل والسمنة التي هي بحق (أم الأمراض) والتي تنشأ نتيجة للطعام
التلفزيوني المتميز بالالتهام السريع، والازدراد النهم لكميات كبيرة من المأكولات
والمسليات.
3 -
التعود على السهر أمام الشاشة المرتعشة وما يترتب عليه من:
أ - تضييع صلاة الفجر: إما بالتخلف عن الجماعة، أو بقضائها في غير
وقتها، أو بأدائها في جماعة دون خشوع بسبب الإعياء والنعاس.
ب - التقصير في الواجبات الوظيفية: بالحضور إلى العمل متأخراً وفوت
المحاضرات الأولى على الطلاب، أو جلوسهم على الكراسي كالكراسي.
ج - قلب نظام الفطرة: حيث ينام بالنهار، ويسهر ليلاً مما يترتب عليه
تضييع وقت حيوي ثمين قال - تعالى -: [وجعلنا الليل لباسا. وجعلنا النهار
معاشا] [النبأ: 10، 11] كما يُحرَمون بركة وقت قال فيه النبي صلى الله عليه
وسلم: (بُورك لأمتي في بكورها)[13] .
4 -
أظهرت الفحوص الطبية للأطفال المتقدمين للمدارس المغرمين بالجلوس
الطويل أمام التلفاز إصابتهم بانحناء الظهر وضعف البصر [14] .
5 -
الأخطار الناجمة عن التعرض للأشعة الصادرة عن الشاشة التلفزيونية،
وفي دراسة تشير أصابع الاتهام إلى دور التلفاز الفعال في إحداث (السرطان)
مرض العصر الذي حار فيه الأطباء [15] .
وقد وجَّهت صحيفة الأهرام للأمهات الحوامل تحذيراً [16] من الجلوس أمام
التلفزيون كي لا يصاب الجنين بإشعاعاته فقالت: (أكدت نتائج بحث علمي مصري
أن تعرض الأم الحامل لمصادر الإشعاع الشديد الموجودة حولنا في كل مكان ينتج
عنه تشوهات في الأجنة قد تتسبب في موت الجنين قبل أو بعد الولادة) [17] .
وينصح الدكتور (محمد منصور) رئيس وحدة بحوث المناعة والطفيليات
بالمركز القومي لتكنولوجيا الإشعاع - ينصح السيدات الحوامل وكذلك الأطفال
…
(بعدم الجلوس لفترات طويلة أمام أجهزة التلفزيون الملون الموجودة حالياً في معظم
البيوت المصرية؛ إذ به مصدر للإشعاع القاتل للجنين، كما أنه يؤدي إلى ضعف
الإبصار عند الأطفال إضافة إلى تأثيره على عدسة زجاج النظارة الطبية ومن ثَمَّ
درجة ملاءمتها لقوة العين) ا. هـ.
وأضاف الدكتور (كروب) قبل موته: (إن شركات التلفزيون تكذب وتخدع
الناس عندما تزعم أن هناك حداً أدنى للطاقة الإشعاعية لا تضر.. فالعلم بعد
التجارب العديدة يقول: إن أية كمية من الإشعاع مضرة بالجسم على درجات
متفاوتة وذلك حسب نسبة التعرض والجلوس أمام التلفزيون) .
وأيّد كل من د. هاسل، ود. لامب أقوالَ د. كروب. وطالبت مجلة
(الاقتصاد) التي نقلت هذه المعلومات في نهاية مقترحاتها أن على كل أب وكل أم أن
يتناولوا مطرقة ضخمة، ويحطموا بها كل ما لديهم من أجهزة تلفزيونية [18] .
أليس فيما أكدته تلك الدراسات مدعاة إلى إعادة النظر في تلك العلاقة الحميمة
الآثمة بالتلفاز ووليده الخبيث الفيديو؟
وهل يحسب العاقل الذي يتهاون في حفظ نعمة العافية ويفرط فيها أنه غير
مسؤول عن هذا التفريط؟ ألم يسمع لقول الصادق المصدوق: (لا ضرر ولا
ضرار) وقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى
يُسأل عن عمره فيمَ أفناه؟ وعن علمه فيمَ فعل؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ
أنفقه؟ وعن جسمه فيمَ أبلاه؟) [19] .
ثانياً: أخطاره على الصحة النفسية: يظهر أثر التلفاز وخطره على أهم
شريحتين في الأمة:
وهما: الأطفال وهم مستقبل الأمة، والشباب حاضرها وعدَّتها. فماذا يبقى
للأمة إذا تشرَّب أبناؤها القيم الهابطة، والآفات الفكرية، والعاهات النفسية من
المهد إلى اللحد؟ !
- تكاد الدراسات العلمية التي أجريت لدراسة آثار التلفاز على الصحة النفسية
أن تجمع كلها على أنه يدرب مشاهديه على الكسل الذهني، ويشيع فيهم روح
السلبية، ويجعلهم إمَّعات يميلون مع الريح حيث مالت، وأنه ينفث في روعهم روح
(عدم المسؤولية) والاستسلام، والانهزامية، ويصرفهم عن معالي الأمور،
ويشغلهم عن الأهداف السامية، ويزيد رقعة الخواء الفكري في نفوسهم [20] .
- كما أنه يولد الغلظة في المشاعر، والبلادة في الحس، كما تؤثر
المسلسلات البوليسية ومشاهد العنف والقتل على نفسية الأطفال [21] ، كما أنه
يظهر للصغار أن الكبار يحيون حياة حافلة بالصراع والتنافس فيشوه مفاهيمهم
مبكراً.
- التعود على الضجيج والصخب الذي يضر بحاسة السمع فيسبب كثيراً من
حالات الصداع والاضطرابات العصبية والتوتر.
ومن أضراره النفسية: تعلق قلب الشباب المراهقين بمذيعة أو ممثلة أو مغنية
حسناء، وابتلاؤه بمعصية العشق الذي يتلف الدنيا والدين، والأخطار نفسها يخشى
منها على الفتيات اللائي هن أضعف قلوباً وأسرع استجابة لداعية الهوى.
المخدر الكهربي:
لقد كتب الكثيرون محذرين من إدمان المخدرات والسموم البيضاء، وما أقل
الذين انتبهوا لمخاطر إدمان مشاهدة الفيديو والتلفاز، وها هي وسائل الإعلام تنشر
سموم هذا المخدر العجيب، إنه يعتبر أمضى وسائل تخدير الشعوب.
إن المخدر الكهربائي يعتبر - على حد تعبير (جيري ماندر) (ورقة عمل
جاهزة للطغاة والمستبدين) [22] ، يستعبدون بها رعيتهم عن طريق عزل الناس
عن فهم أنفسهم، وعن ماضيهم وتراثهم، وتقليل العلاقات الشخصية بين الناس،
وفصل عقول الناس عن أجسادهم، ثم إحباط التفكير الحر بكل الوسائل.. بل ربما
زرع (المخدر الكهربي) في نفوسهم أن المخدرات والخمر والتدخين هي الوسيلة
المثلى للهروب من المعاناة. فتراهم يُهرعون إلى التدخين أو الخمر أو المخدرات لا
إلى صلاة الاستخارة أو ذكر الله عز وجل وقراءة القرآن والدعاء.
فهو يسرق سمعك وبصرك وفؤادك، ويجوب بك المراقص والمسابح،
والحانات والمسارح، ويطوف بك في المسلسلات والأفلام التي تدور حول قطب
واحد هو قيم الحب والغرام، والعشق والهيام وكأن هذه هي المشكلة اليتيمة التي
تمزق من الأمة الأوصال، وتتفتت في سبيلها أكباد الرجال، فضلاً عن ربات
الحجال!
هكذا يجري قتل الإنسان اليوم: بالمهرجانات، بالرقص الخليع، بالأفلام،
باللهو الماجن، وبالضحك الهستيري يميت القلب مصداق قوله - عليه الصلاة
والسلام -: (لا تكثروا الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب)[23] .
وهكذا يجري مسخ الإنسان وتحويله إلى حيوان مستهلك، أو حيوان قاتل، أو
حيوان كاسر، لا فرق [24] .
ومن عقاقير الهلوسة التي يوفرها (المخدر الكهربي) لمدمنيه عقار (المجنونة
المستديرة) التي في سبيلها تُنفق الأموال، وتشد الرحال، وتهدر الأوقات ويتخاصم
الإخوان، وتحترق الأكباد، وتسكب العبرات، وتتعالى الصيحات من الأحشاء
الملتهبة. إن عقار (الهلوسة الكروية) نقل عقول الأمة إلى أقدامها، وتعاطاه
الرجال والنساء، والشباب والشيبة، والمراهقون والأطفال وفي سبيله خُرِّبت
المساجد، وهُجرت حِلَقُ الذكر واشتعلت النزاعات العائلية، وضُيِّعت الواجبات
الدينية والالتزامات الوظيفية.
فمن المسؤول عن هذا (الخبل الكروي) الذي طغى على عقول أكثر الناس
اليوم؟
إنها - بلا شك - (الشاشة المخدرة) التي تذل الناس بهذا العقار، وتستعبدهم
بهذا الإدمان [25] !
إن أمة هذه حالها تحتاج بالضروة إلى تحليل نفسي، وعلاج قلبي، وتحويل
جذري إلى وجهة أخرى نحو معالي الأمور، إنها بحاجة إلى من ينقذها من هذا
(الإدمان) لتقوم من رقدتها، وتفيق من غفلتها، إنها بحاجة إلى أن تعرف أعداءها
الرابضين خلف الشاشة الذين يُهرِّبون من خلالها هذا العقار الخبيث في غير كتمان
وخفاء، بل في وضوح وجلاء، ليصدوهم عن ذكر الله وعن الصلاة، وليشغلوهم
بهذا اللهو عن حقوقهم وواجباتهم، ليعيشوا انتصارات وهمية، وهزائم خيالية بعيداً
عن واقع الحياة، بعيداً عن الرسالة التي حملتها خير أمة أخرجت للناس.
يا أحفاد أبي بكر وعمر، وعثمان وعلي وصلاح الدين إن (البطل) ليس
الذي يتقن اللهو الباطل واللغو الفارغ لتكون راية فريقه العليا، ولكن البطل هو
الذي يعمل بالإسلام، ويغيظ أعداء الله، ويجاهد في سبيل الله لتبقى كلمة الله هي
العليا.
يا أصحاب بدر، والقادسية، وحطين، والقسطنطينية! القدس تستصرخكم،
والأقصى يناديكم، وإخوانكم في العقيدة مشردون في الأرض، وحرمات الله تنتهك، والفقر والجهل والمرض يخيم في أكثر بقاعكم، وأنتم تستغيثون ربكم - بلا حياء- في ساحات اللهو:(يا رب - يا رب) !
هلم نصنع المجد في المساجد، ثم المدارس والجامعات، والمعامل والمصانع
حتى نخرج من وهدة التخلف، ونطهر بلادنا من وحل المعاصي، ومستنقع الفن
العفن.
هيا نمضي إلى الهدف: (إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة) .
دوره في التغريب:
تطورت أساليب الغزو الفكري وتنوعت طرائقه؛ ففي دراسة أجراها
اليونسكو تذكر: (إن إدخال وسائل إعلام جديدة وخاصة التلفزيون في المجتمعات
التقليدية أدى إلى زعزعة عادات ترجع إلى مئات السنين، وممارسات حضارية
كرسها الزمن) [26] .
وفي تعليقه على دخول البث المباشر إلى تونس قال الأستاذ فهمي هويدي:
(خرج الاستعمار من شوارع تونس عام 1956م ولكنه رجع إليها عام 1989م لم يرجع إلى الأسواق فقط، ولكنه رجع ليشاركنا السكن في بيوتنا، والخلوة في غرفنا، والمبيت في أسِرَّة نومنا. رجع ليقضي على الدين واللغة والأخلاق، كان يقيم بيننا بالكره، ولكنه رجع لنستقبله بالحب والترحاب، نتلذذ بمشاهدته، والجلوس معه، إنه الاستعمار الجديد لا كاستعمار الأرض وإنما استعمار القلوب، إنه الخطر الذي يهدد الأجيال الحاضرة والقادمة، يهدد الشباب والشابات والكهول والعفيفات، والآباء والأمهات)[27] .
إن أهداف البث المباشر الذي يجوس خلال ديار المسلمين نلخصها في النقاط الآتية:
1 -
تسميم الآبار الفكرية التي يستقي منها شباب المسلمين، وإضعاف
مناعتهم عن طريق تسويق القيم والسلوكيات الغربية لتذويب انتمائهم الإسلامي.
2 -
تجميل الوجه القبيح للحضارة الغربية، وإخفاء حقيقة هذه المجتمعات
التي وإن تقدمت في الحضارة المادية - فإنها انتكست بالإنسان إلى أحط من مستوى
القردة. يقول حمدي قنديل: (المعروف أن القردة هي التي تقلد الإنسان، ولكن
إنسان العالم الثالث قد اختار أن يقلد قردة أوروبا) [28] .
3 -
القضاء على الأخلاق الإسلامية كالحياء والطهارة والعفة عن طريق نشر
الخنا والرذيلة وتزيين السلوك البهيمي للغربيين. ومن ثم لا يتعذر عليك جواب
التساؤلات الآتية:
- لماذا تحرص أمريكا وأوربا - وبخاصة فرنسا - على دعم البث المباشر
في بلاد المسلمين؟
- ولماذا يقدمون هذه الخدمة المجانية وينفقون عليها من أموال شعوبهم
الراضية بذلك؟
ففي الوقت الذي يشجع فيه الغرب البث المباشر إلى بلاد المسلمين تتعالى
صرخات مفكريهم وساستهم شفقاً من الغزو الأمريكي مع انتمائهم إلى ملة واحدة
وحضارة مادية واحدة! [28] .
فهل آن الأوان أن يفر المسلمون من دجال العصر، ويطهروا بيوتهم من هذا
الرجس والنجس، ولا يُفْرِطُوا في الثقة بأنفسهم أنهم لن يتأثروا بفتنته؛ فإن البطولة
ليست أن تتعرض للفتن وتثبت؛ ولكن البطولة هي ألا تتعرض للفتن أصلاً.
آثار التلفاز الاجتماعية والنفسية على الأطفال:
إليك أقدم الآثار المرعبة على أطفالنا من جراء هذه الأجهزة الشيطانية:
1 -
يحرم الطفل من التجربة الحياتية الفعلية التي تتطور من خلالها قدراته
إذا شغل بمتابعة التلفاز.
2 -
(يحرم الطفل ممارسة اللعب الذي يعتبر ضرورياً للنمو الجسمي
والنفسي فضلاً عن حرمانه من المطالعة والحوار مع والديه) [29] .
3 -
التلفاز يعطل خيال الطفل لأنه يستسلم للمناظر والأفكار التي تقدم له دون
أن يشارك فيها، فيغيب حسُّه النقدي وقدرته على التفكير [30] .
4 -
يستفرغ طاقات الأطفال الهائلة وقدرتهم على الحفظ في حفظ أغاني
الإعلانات وترديد شعاراتها.
5 -
يشبع التلفاز في النشء حب المغامرة، كما ينمي المشاغبة والعدوانية
عن طريق محاكاة الممثلين ويزرع في نفوسهم التمرد على الكبار والتحرر من القيود
الأخلاقية [31] .
6 -
يقوم التلفاز والفيديو وكذا البث المباشر - نافذة المجون والضياع -
بإثارة الغرائز البهيمية مبكراً عند الأطفال، وإيقاظ الدوافع الجنسية قبل النضوج
الطبيعي [32] مما ينتج أضراراً عقلية ونفسية وجسدية.
7 -
يدعو التلفاز وتوابعه النشء إلى الخمر والتدخين والإدمان ويلقنهم فنون
الغزل والعشق.
8 -
للتلفاز دور خطير في إفساد اللغة العربية - لغة القرآن الكريم - وتدعيم
العجمة، وإشاعة اللحن.
9 -
تغيير أنماط الحياة - الإفراط في السهر، فأفسد الدنيا والدين كما يرسخ
في الأذهان أن الراقصات والفنانات ونجوم الكرة أهم من العلماء والشيوخ والدعاة
والمبتكرين [33] .
ماذا يقول العقلاء والمنصفون؟
إن أي عاقل يتفكر في أضرار هذه الأجهزة ومفاسدها لا يتردد في اتخاذ
القرار الحاسم بوضع حد لآثارها السلبية وعربدتها الشيطانية في البيوت.
فقد ناشد (هيلموت شميت) مستشار ألمانيا الغربية السابق (الآباء والأمهات
أن يغلقوا أجهزة التلفزيون على الأقل يوماً واحداً خلال الأسبوع، وقد رفض رئيس
جمهورية فنزويلا أن يسمح بإدخال التلفزيون الملون إلى بلاده، زاعماً أنه سيكون
دافعاً جديداً لزيادة الروح الاستهلاكية المحقونة) [34] .
ذهب الكاتب الأمريكي (جيري ماندر) في كتابه (أربع مناقشات لإلغاء
التلفزيون) الذي أودعه خلاصة تجربته في حقل الإعلام إلى القول: (ربما لا
نستطيع أن نفعل أي شيء ضد الهندسة الوراثية والقنابل النيوترونية، ولكننا
نستطيع أن نقول (لا) للتلفزيون ونستطيع أن نلقي بأجهزتنا في مقلب الزبالة؛
حيث يجب أن تكون، ولا يستطيع خبراء التلفزيون تغيير ما يمكن أن يخلفه الجهاز
من تأثيرات على مشاهديه، هذه التأثيرات الواقعة على الجسد والعقل لا تنفصل
عن تجربة المشاهدة) [35] .
وأضاف: (إنني لا أتخيل إلا عَالَماً مليئاً بالفائدة عندما أتخيل عَالَماً بدون
تلفزيون، إن ما نفقده سيعوض عنه أكثر بواسطة احتكاك بشري أكبر، وبعث جديد
للبحث والنشاط الذاتي) [36] .
حكى الأستاذ مروان كجك أن صديقاً له زار أستاذه الجامعي في بيته وكان هذا
الأستاذ نصرانياً، فلاحظ الأخ أنه ليس لدى أستاذه تلفزيون فسأله عن سبب ذلك
فأجاب: (أأنا مجنون حتى آتي إلى بيتي بمن يشاركني في تربية أبنائي؟)[37] .
يقول الكاتب محمد عبد الله السمان مشيراً إلى حلقة تلفزيونية استضيف فيها
بعض طلبة مدرسة معروفة للمتفوقين يقول الكاتب: (كان المتوقع أن تكون الحلقة
إلى آخر دقيقة فيها من الحلقات الجادة التي يتلقى منها سائر الطلبة دروساً في
التفوق. وسأل مقدم البرنامج الطلبة واحداً واحداً عن مثله الأعلى في الحياة،
وكانت الإجابات مذهلة؛ فالمثل الأعلى لدى الطلبة المتفوقين هم على الترتيب
ولست أدري أهو ترتيب تصاعدي أم تنازلي؟ : عبد الحليم حافظ، بليغ حمدي،
نزار قباني، محمد عبد الوهاب، أنيس منصور. قلت تعقيباً على هذه الإجابات:
لم أكن أنتظر من هؤلاء المتفوقين أن يقولوا: إن مثلنا الأعلى هو أبو بكر أو عمر
أو علي أو خالد بن الوليد، بل كنت أتوقع أن يقول واحد منهم: إن مثلي الأعلى
هو: أبي) [38] .
ألم يَأْنِ للبيوت المسلمة الواعية المستنيرة أن لا يدخلها تلفزيون بعد اليوم؛
فهذه الأجهزة لا تساهم في تربية مستقيمة صالحة تعيننا على صياغة رجال الغد،
وأمهات المستقبل (إنني أُطمئن الذين يستعدون للتخلي عن تلك القنوات الفضائية
بأنهم لن يخسروا شيئاً ذال بال) [39] بل ستربح أسرهم كثيراً، فليس من العقل أو
الإنصاف بعد كل هذا احتمال هذا الكم الهائل من الضرر في دين المرء ودنياه مقابل
تلك الفوائد التي لا تكاد تذكر أمام هذا الركام المدمر من البرامج السيئة القصد.
فيا قومنا إن هذه الأجهزة ليست عفوية؛ بل هي أجهزة تربوية وتعليمية بالغة
الخطورة، تعمل على نسف الأسس الصحيحة للتربية السليمة، إنها - والله -
معاول هدم وتدمير للتحصينات الأخلاقية.
يا قومنا إن من أعطى أسباب الفتنة من نفسه أولاً لم ينج آخراً وإن كان جاهداً، وهل إن تحكمت في هذا الجهاز أثناء وجودك فهل تضمن أن تنضبط الأمور عند
غيابك حين يكون الجهاز بين يدي أهلك وأولادك؟ !
فعلى المسلم الحقيقي أن يحتاط لدينه، وعرضه، وتربية أسرته وأولاده، ولا
يتأتى ذلك إلا بإبعاد هذا الخطر الداهم، وهذا الكابوس الجاثم على أنفاس البيت
والأسرة.
وأي خطر على العرض والشرف والأخلاق أكبر وأعظم من البرامج والسموم
التي تنفثها هذه الأجهزة لمسخ هويتنا والقضاء على قيمنا [**] .
نحن لا نرفض التقنية، ولكننا نرفض المحتوى الإعلامي الهدام، وإننا لندعو
الله أن يأتي اليوم الذي تستطيع فيه البشرية أن تفيد من هذه المخترعات الفذة
كالفيديو والتلفاز والكمبيوتر، وأن تقف مع البشرية لا مع أعدائها، ولن يتأتى ذلك
إلا حين تصبح المؤسسات الإعلامية في أيد أمينة شديدة الإحساس بما ينفع ويضر.
(*) أصل هذه الدراسة، محاضرة ألقيت في مصر.
(1)
انظر الأسرة المسلمة أمام الفيديو والتلفزيون، مروان كجك ص66.
(2)
راجع: الإعلام الإذاعي والتلفزيوني، ص32 حيث يقول د ستيفن بانا حبيب بجامعة كولومبيا: إذاكان السجن هو جامعة الجريمة، فإن التلفزيون هو المدرسة الإعدادية لانحراف الأحداث.
(3)
راجع كتاب: الأسرة المسلمة أمام الفيديو والتلفزيون، ص 134 لبيان أثر مشاهد العنف والجريمة التي يعرضها التلفاز على الشباب.
(4)
الإسلام في مواجهة الجاهلية، ص189 190.
(5)
المصدر السابق، ص185.
(6)
بصمات على ولدي، ص6 نقلا عن جريدة الأنباء الكويتية، بتاريخ13 /7/198م، مقال حول تأثير التلفزيون على الأسرة.
(7)
فهذا الوسط الفني يعتبر أكثر الطبقات شقاء وتفككا وتعرضا للأمراض النفسية والجسمية انظر: الأسرة المسلمة ص217.
(8)
الأسرة المسلمة، 164.
(9)
رواه من حديث أبي سعيد الخدري ابن أبي شيبة (4/391)، ومن طريقه مسلم رقم (1437) والإمام أحمد (3/69) بلفظ: إن من أعظم الأمانة عند الله، وانظر فيض القدير (2/539) .
(10)
بصمات على ولدي، ص11.
(11)
انظر: أبناؤنا بين وسائل الإعلام وأخلاق الإسلام، ص41.
(12)
حكم الإسلام في وسائل الإعلام للشيخ عبد الله ناصح علوان، ص 15.
(13)
رواه من حديث أبي هريرة الطبراني في الأوسط، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، (3/10) .
(14)
بصمات على ولدي، ص32.
(15)
الأسرة المسلمة ص 122، دراسة أجراها د جون على أثر الأشعة على النباتات والفئران.
(16)
بتاريخ 17/2/1984م كما في الأسرة المسلمة ص126.
(17)
ولهذا أصدرت وزارة العمل في كندا قانونا بإعفاء النساء الحوامل من العمل في أقسام الكمبيوتر طوال فترة الحمل الأسرة المسلمة، ص124.
(18)
التلفاز وحكمه في الشريعة الإسلامية، للعلامة عبد الله بن حميد رحمه الله.
(19)
رواه عنه الترمذي من حديث أبي برزة (4/612) رقم (2417) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(20)
انظر الأسرة المسلمة، ص113 114.
(21)
انظر بصمات على ولدي ص 23 24.
(22)
أربع مناقشات لإلغاء التلفزيون، ص 82 83.
(23)
سنن ابن ماجه، الزهد 4193.
(24)
الإسلام في مواجهة الجاهلية، ص120 121 بتصرف.
(25)
علق مراسل الإذاعة البريطانية على حال إحدى العواصم العربية في سخرية: لو أن عدوا أراد أن يحتل () دون مقاومة تذكر لما وجد أنسب من تلك الليلة.
(26)
البث المباشر، ص73 نقلا عن أصوات متعددة، ص 338.
(27)
نقلا عن الأهرام، 27/6/1989م.
(28)
نقلا عن المنتدى العربي ص 63.
(29)
شن وزير الثقافة الفرنسي جاك لانق حملة قاسية على القنوات التلفزيونية التجارية وقال: إنها أصبحت تتدفق منها المسلسلات الأمريكية، وشكا رئيس وزراء كندا بيار ترودو من تأثير الثقافة الأمريكية على الشعب الكندي، وصرح وزير خارجية كندا عام 1976م بأن برامج التلفزيون الأمريكي تدفع كندا نحو الكارثة.
(30)
طفلك ليس لك أنت، ص 62.
(31)
المصدر السابق ص 62.
(32)
التلفزيون بين اهدم والبناء.
(33)
راجع كيف تؤثر وسائل الإعلام؟ نقلا عن المنظور الاجتماعي للاتصال الجماهيري، ص 136، وكذا الأسرة المسلمة.
(34)
انظر الإعلام الإذاعي والتلفزيوني ص 238.
(35)
الأسرة المسلمة، ص 252.
(36)
أربع مناقشات لإلغاء التلفزيون ص 346 بتصرف.
(37)
المصدر السابق، ص348، بتصرف.
(38)
الأسرة المسلمة أمام الفيديو والتلفزيون ص 271 272.
(39)
التلفزيون بين الهدم والبناء، ص 50 51 نقلا عن العقيدة والقوة.
(40)
من تقديمه لكتاب: أربع مناقشات لإلغاء التلفزيون لجيري ماندر، ص1112 بتصرف.
(**) لمزيد من المعلوما والحقائق ننصح بالاطلاع على ما يلي: الأسرة المسلمة أمام الفيديو والتلفزيون بصمات على ولدي التلفزيون بين الهدم والبناء سموم على الهواء، فريد التوني الإنسان حيوان تلفزيوني البث المباشر حقائق وأرقام د ناصر العمر التلفزيون وحكمه في الشريعة الإسلامية، الشيخ عبد الله بن حميد.
دراسات إعلامية
قراءات هادئة.. في القنوات الفضائية
عبد العزيز بن محمد الخضر
منذ زمن بعيد وفي السنوات الأولى من هذا القرن، وقبل أن تعرف البشرية
هذا الحجم من التقدم التقني، وقبل أن تظهر مخترعات عديدة كانت هناك قصة من
قصص الخيال العلمي اسمها: (الآلة تتوقف) رسم فيها الكاتب رؤية مستقبلية
يتخيل ويحلم بعالم توجد فيه شبكة إلكترونية يرتبط بها كل فرد؛ حيث يجلس الناس
في غرفهم ويحكمون إغلاقها، ولا تنقطع الصلات بينهم مع أنهم في هذه الغرف
المغلقة! !
شيء غريب أن لم تعد هذه القصة الخيالية غريبة! !
ما زال العالم يتجه إلى مغامرة معرفية غير مسبوقة في التاريخ لها خصائصها
المتجددة، وغير محدودة الأفق، وأصبحت حدود الزمان والمكان متداخلة بسبب
تكنولوجيا المعلومات والطرق السريعة لها؛ حيث تشبه الثوراتُ الدوائرَ؛ إذ ليس
لها بدايات أو نهايات، وهي عبارة عن سيل لا ينقطع من التغيير انطلاقاً من
الماضي الذي يقع خلف حدود الذاكرة وانتهاء بالمستقبل الذي يقع خارج حدود
التصور.
وتبدو ثورة الاتصالات عبارة عن فكرة تحدد كوناً من التغيير الذي انطلقت
حركته بفعل التوسع الإلكتروني للمعرفة البشرية والتجربة البصرية لشعوب العالم
كافة تقريباً ضمن بُعد حدود الزمان والمكان؛ إذ - ولأول مرة في التاريخ - نجد
الغني والفقير، الأمي والمتعلم، عامل المدينة وفلاح الريف يتصلون معاً عبر
صور الحياة العالمية، ومن الجار المحلي إلى أبعد مدينة [1] .
لقد شاء الذي [يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير][الملك: 14] أن تصل
البشرية إلى هذه المرحلة!
في هذا الوقت: أين هي تصوراتنا المستقبلية ورؤيتنا الاستراتيجية؟ ما هي
طرق التفكير في التعامل مع هذا الواقع الذي يحيط بنا؟ ما هي الأسس العلمية
والمنهجية التي نملكها؟ وما هي الدراسات والتأملات العميقة التي تفكك هذه
الظاهرة؟ وهل آن الأوان لرسم خطوط جديدة في العقل والرؤية للأمور لرفع
قدراتنا على التقييم: أين المصلحة والمفسدة في المدى القريب والبعيد؟
قراءة في المحتوى (تحليل كمي) :
إن هذا التسارع في حركة الاتصالات والبث الفضائي الذي أصاب بالحيرة
عقولاً كبيرة من العلماء والمفكرين، يشير بخطورة الانعزال، وعدم الفهم الواضح
لمحتوى هذه الفضائيات، والتغيرات السلبية والإيجابية التي قد تحدثها، والاكتفاء
بالآراء العامة واجترارها على مدار الأعوام، والشجب العاطفي الذي لن يساهم في
تفعيل جهود المصلحين في التعامل مع هذا الواقع المتغير في كل لحظة.
وهذه محاولة لوضع تصور عام عن هذا المحتوى لبعض أهم القنوات في
العالم العربي، والقيام بتحليل كمي بعيد عن الانتقائية والتصيد للأخطاء، وإنما
بصورة موضوعية تُعَد خطوة رئيسة لفتح آفاق أخرى تساعد على رسم حلول
ومقترحات للتعامل مع هذا الواقع.
وفي هذه الدراسة الموجزة يبدو أن الإحاطة بمضمون جميع القنوات الفضائية
التي تبث في فضاء العالم العربي خارج السيطرة؛ لأنها بدأت بالتكاثر بصورة
ملفتة للنظر، ويصعب استقصاء الكثير منها، وستقتصر هذه الدراسة على أهم هذه
القنوات على قمر عرب سات. ويمكن تقسيم القراءة في المحتوى بما يلي:
أولاً: واقع البث الفضائي:
تطور الاستخدام العربي للاتصالات تطوراً مثيراً خلال السنوات الماضية؛
فبعد إطلاق القمر الصناعي الأول لعرب سات الذي تعاملت معه الدول العربية
بتحفظ شديد في مجال الاستخدام التلفزيوني في البداية تدافعت هذه الدول بعد ذلك
لاستئجار ما بقي من قنوات الجيل الأول، ودفعت مقدماً مقابل استئجار قنوات
الجيل الثاني، ثم دخلت المؤسسات غير الحكومية الحلبة ونافست القنوات
الحكومية [2] وتم بنجاح مؤخراً إطلاق الجيل الثالث لـ (عرب سات 3 - أ) .
وتبث البلدان العربية الآن من خلال (20) قناة فضائية مفتوحة، وقناتين
مشفرتين من داخل البلدان العربية، ومن خلال (4) قنوات مفتوحة و (8) قنوات
مشفرة من خارج البلدان العربية. إضافة إلى قناة واحدة لكل بلد من البلدان الآتية:
المغرب، الجزائر، تونس، السودان، اليمن، عمان، قطر، البحرين، الكويت، الأردن، سورية، موريتانيا، (mbc) . وهناك قناتان لكل من مصر والسعودية
art، ولبنان orbit، وأربع قنوات للإمارات العربية المتحدة، وهناك أقنية مشفرة
لمصر ولبنان، و orbit وشبكة الأخبار العربية ANN (2) .
ويزداد عدد القنوات العربية باستمرار مع دخول بلدان جديدة مجال استئجار
قنوات فضائية أو زيادة بعض البلدان قنواتها، (كما هو الحال في النايل سات)
إضافة إلى أن القنوات القائمة تنحو دائماً إلى زيادة ساعات البث؛ ويبلغ مجموع
البث بالقنوات العربية حوالي 300 ألف ساعة سنويا [3] .
وقد تجنبت معظم الدول العربية اتخاذ موقف محدد إزاء استقبال البث
الفضائي، كما تجنبت معظمها إعلان موقف السماح أو المنع، ولم تحدد موقفاً
واضحاً محدداً من الصحن اللاقط (الدش) ، ولذلك هي لم تمنعه؛ ولكنها لم تسمح به، ومن المؤكد أن هذا الموقف لا يعود إلى (ضعفٍ ما) أو إلى (عجزٍ مَّا) لحسم
الموقف إزاء قضية محددة كهذه بقدر ما يعود إلى اعتبارات متداخلة يفرضها واقع
الحياة [4] .
ويطول المقام لو تم التوسع في إعطاء تفصيلات لواقع البث الفضائي في
الوقت الحاضر، خاصة مع انتشار أقمار متعددة تبث القنوات الروسية والتركية
والأوروبية وقنوات شرق آسيا، إضافة إلى القنوات المشفَّرة. وهذه الدراسة
الموجزة مقتصرة على القنوات التي تشاهدها الأكثرية في مجتمعاتنا.
ثانياً: تحليل كمي:
ما هي المادة التي تشكل مضمون هذه القنوات التي تتسلل إلى عقل المجتمع
الذي يستقبله؟ سؤال يصعب الإحاطة به، وهو يحتاج إلى جهود ضخمة من عدة
باحثين، وسأقدم هنا تصوراً عاماً وموجزاً عن مضمون بعض القنوات التي تحظى
بمتابعة ليست قليلة في العالم العربي.
وقد أمضيت وقتاً طويلاً في التفكير حول الأسلوب المناسب والموضوعي
لتقييم المضمون لأي قناة، بعيداً عن الآراء الشخصية، بسبب ما يصاحب البث
التلفزيوني من تداخلات ومتغيرات يختلف عن أسلوب التقييم لمجلة أو صحيفة.
ولتقسيم الموضوعات كانت هناك قائمة طويلة لتوزيع البرامج وتصنيفها
لإعطاء تصور مفصل عن المادة التي تُبث، ولكن لكثرة التداخلات وصعوبة
التقسيم من الناحية العملية، ووجود تغيرات متجددة كان التقسيم للبرامج وفقاً لقائمة
الإطار العام الذي توضع فيه، والذي يبدو كافياً في هذه الدراسة لوضع صورة عامة
من قبيل أن تكون خطوة مبدئية ربما تحتاج لتفصيلات أكثر دقة لكافة ما يبث.
والتقسيم الذي تم اختياره يتوزع إلى أربعة فروع رئيسة تضم كافة البرامج:
القسم الأول: يمكن وضعه في خانة البرامج الجادة: ويضم الأخبار والتحاليل
السياسية، والبرامج العلمية والاقتصادية والثقافية والدينية والفكرية، والحوارات
التي تهتم بالقضايا الجوهرية في حياة الشعوب.
القسم الثاني: يشكل البرامج الفنية: ويضم الأفلام والمسلسلات والأغاني
والحوارات الفنية.
القسم الثالث: ما يتعلق بالعائلة مما يخص المرأة والطفل.
القسم الرابع: يلحق بالمنوعات: كالمسابقات والرياضة والسياحة والتسلية.
هذا التقسيم للمحتوى في الحالات العادية، وليس في أوقات المناسبات
كالأعياد والمواسم الدينية.
والنتائج التقريبية التي ظهرت لنا من خلال التحليل الكمي لبعض أهم القنوات
السائدة في فضاء العالم العربي هي ما يلي:
1 -
قناة دبي: تمثل البرامج الجادة حوالي 68، 46%، البرامج الفنية
حوالي 96، 35%، البرامج العائلية حوالي 93، 9%، البرامج المنوعة حوالي
31، 8%.
2 -
قناة عجمان: تمثل البرامج الجادة حوالي 75، 3%، البرامج الفنية
حوالي 5، 32%، البرامج العائلية حوالي 20% البرامج المنوعة حوالي 75،
43%.
3 -
قناة مصر الفضائية: تمثل البرامج الجادة حوالي 16، 24%، البرامج
الفنية حوالي 95، 43%، البرامج العائلية حوالي 125، 13%، البرامج
المنوعة حوالي 76، 18%.
4 -
قناة LBC: تمثل البرامج الجادة حوالي 97، 7%، البرامج الفنية
حوالي 3، 44%، البرامج العائلية حوالي 67، 22%، البرامج المنوعة حوالي
05، 25%.
5 -
قناة المستقبل: تمثل البرامج الجادة حوالي 67، 7%، البرامج الفنية
حوالي 32، 42%، البرامج العائلية حوالي 5، 28%، البرامج المنوعة حوالي
5، 21%.
6 -
قناة mbc: تمثل البرامج الجادة حوالي 23، 18%، البرامج الفنية
حوالي 24، 55%، البرامج العائلية حوالي 9، 9%، البرامج المنوعة حوالي
63، 16%.
7 -
قناة الجزيرة: تمثل البرامج الجادة حوالي 57، 90%، البرامج الفنية
حوالي 59، 0%، البرامج العائلية حوالي 59، 0%، البرامج المنوعة حوالي
23، 8%.
8 -
قناة الشارقة: تمثل البرامج الجادة حوالي 3، 73%، البرامج الفنية
حوالي 38، 6%، البرامج العائلية حوالي 76، 10%، البرامج المنوعة حوالي
52، 9%.
ثالثاً: تقييم عام للمحتوى الكمي:
قد يكون من الأفضل في التقييم للمحتوى الكمي في البرامج الفضائية أن يكون
من خلال قراءة عمودية تتعمق في أجزائها، ولكن للقراءة الأفقية فوائدها التي ترسم
الصورة العامة لواقع كبير ومتشعب الجوانب.
ومن خلال الاستعراض الموجز لواقع بعض أهم القنوات العربية كانت تلك
أهم محتويات المادة التي تغطي ساعات البث دون وضعها تحت مجهر نقدي علمي
لمحتوياتها، والنتيجة التي يصل إليها الناقد تعتمد على المنهج الذي ينطلق منه
لتقييم مادة البث، وما هي المعايير التي يرجع إليها كمقياس يحكم من خلالها على
نجاح أو إخفاق هذه البرامج، ونتيجة " لم ينجح أحد! " قد تكون طبيعة لأكثر
القنوات لو تم اعتماد معايير ومفاهيم إسلامية دقيقة.
إن القراءة التحليلية المنهجية تحتاج تفصيلات طويلة لا تناسب هذه الدراسة،
ولذا سأكتفي بوضع نقاط عامة وملاحظات تكشف بعض الجوانب حول التحليل
الكمي السابق:
1-
بعد سنوات قليلة من بداية البث الفضائي بدأت في الانتشار ظاهرة
القنوات المتخصصة في الأفلام والأغاني والرياضة والأطفال، وهي قنوات مشفَّرة
وبرسوم معينة، وعلى النايل سات توجد باقات من القنوات للتعليم بالمراحل
الابتدائية والإعدادية والثانوي والفني وتعليم اللغات والجامعة، وقنوات متخصصة
بالصحة والأسرة والثقافة، وبدأت مؤخراً القناة الجامعية للتعليم عن بعد لمجموعة
art، وقناة المناهج، وستبدأ قريباً قناة خاصة بالشعر الشعبي، وبدأت أيضاً قناة
اقرأ في البث.
2 -
يلاحظ أن القنوات الحكومية التقليدية في العالم العربي لها نمط متشابه
في النسق العام لبرامجها، وهي تتميز بالقطرية باهتماماتها وخطها الإعلامي
الدعائي، والابتعاد عن حاجات الجمهور وواقعه، مما يعفي من الدخول في
تفصيلات هياكلها البرامجية، والاختلاف الذي يجدر ذكره فيما بينها هو في معايير
الرقابة على الأفلام لبعض المشاهد وبعض الأفكار الثقافية والسياسية.
وقد انقطع حبل السرة الذي يربط محطات التلفزيون العربية العامة بالجمهور، وهذا تعبير الشكوى من أحد المسؤولين العرب من كثرة القنوات المتاحة، بل
حتى داخل الأسرة الواحدة تعددت الاتجاهات؛ فلكل واحد منهم قناة خاصة [5] .
3 -
هناك أهمية خاصة لمعرفة حجم المشاهدين، ويربط عاد بحصص وحجم
الإعلانات، وتوجد دراسات متعددة في بعض المجلات على مدار السنوات الماضية
حول حجم الإعلان لبعض القنوات، ولكن التغيرات تحدث سنوياً في هذا الشأن،
وقد أشارت مؤخراً مجلة الاقتصاد والأعمال، تحت عنوان: (الإعلام المرئي
والمأزق المخفي) الذي يبدو فيه أن جميع القنوات تعاني من أزمة في هذا الشأن؛
حيث تدنت أسعار الإعلان بصورة كبيرة نظراً للتنافس الشديد، وأيضاً لتدني أسعار
النفط بالفترة الأخيرة؛ حيث أشارت إلى أن حصة الأسد تتوزع على منافسين هم:
mbc، LBC، المستقبل تبالغ كثير من المحطات الفضائية بالتركيز على الترفيه
والإغراءات بالمعنى المبتذل، art، أوربت، شوتايم، الجزيرة، وهناك من
يضيف قناة دبي والفضائية المصرية [6] ويُلاحظ في المستقبل، LBC، حجم
أكثر في الإعلانات لعدة أسباب منها منهجها الإعلامي القائم على إثارة الغرائز. أما
القنوات الإخبارية فلا يمكن لها أن تنافس في الإعلانات التي تخص المرأة والطفل.
4 -
إن التحليل الكمي للبرامج من خلال عينة زمنية لمدة أسبوع أو شهر أو
أكثر ربما لا يسعف كثيراً في إيجاد دلالات عميقة ما لم توضع المعطيات ضمن
إطار تحليل النسق من أجل استيعاب الكيفية التي يقوم عليها هذا المضمون أصلاً
وفروعاً [7] ، خاصة أنه يلاحظ عدم وضوح الأهداف والوظائف لدى المحطات،
مما أدى إلى استحالة وضع خطة برامجية شاملة ومتوازية في القنوات الفضائية؛
خطة قادرة على تحديد نسب متوازية لمواد البرامج المختلفة حسب أولويات معروفة
مسبقاً.
لهذا يلاحظ في الدورة البرامجية لقنوات عديدة أن ما يخصص للثقافة - مثلاً- يختلف كلياً بين دورة وأخرى، سواء من حيث الزمن المخصص أو من حيث
المواضيع المطروحة، والأمر نفسه بالنسبة للمواد الأخرى، ويلاحظ أن النسبة
ترتفع أحياناً للمادة وتنخفض أحياناً أخرى دون سبب واضح؛ لذا فإن تذبذب
الأولويات في الدورات البرامجية وعدم تناسب البرامج مع حاجات التنمية واضح؛
وكثيراً ما تلعب المصادفة أو مدى توفر مادة معينة دولاً في زيادة حجم المواد
المخصصة لموضوع ما؛ لذا فهي تتميز بالعشوائية والمصادفة لبعض القنوات،
ومع هذا فالتغيرات ليست كبيرة، والنسق العام للبرامج لقنوات مضت عليها سنوات
عديدة يعطي التوجه والاستراتيجية العامة لهذه القناة أو تلك.
5 -
النسب العامة التي سبق استعراضها تشير بوضوح إلى الحضور الكبير
للبرامج الفنية وما يلحق بها من أفلام وأغانٍ ومسلسلات تقترب من نصف ساعات
البث، وهي مؤشر واضح إلى العجز الكبير الذي تعانيه هذه القنوات في إنتاج
برامج متنوعة وجادة تغطي ساعات البث الذي تلتزم بها كل قناة.
وهناك حضور لا بأس به للبرامج الجادة، ويمكن اعتبارها نسبة ضئيلة إذا تم
توزيعها على عدة أنواع من البرامج في الدين والقضايا السياسية والاقتصادية
والثقافية، ويستثنى منها الحضور القوي لقناة الجزيرة باقترابها من أن تكون
إخبارية متخصصة، وما تحويه من مضامين جادة تصل إلى 90%، وقد شكلت
قفزة نوعية كبيرة في عالم الفضائيات العربية أربكت استراتيجيات مستقبلية لدى
قنوات أخرى، وساهمت في تحسن بعض القنوات الأخرى من أجل المنافسة،
والنخبة المثقفة في المجتمع هم أكثر المتابعين لها.
أما البرامج العائلية والخاصة بالمرأة والطفل، والبرامج المنوعة، فلا يبدو
أن هناك إشكالية في الوقت المخصص لها، إلا أن بعض المضامين تحتاج شيئاً من
المراجعة.
6 -
تبالغ الكثير من المحطات الفضائية العربية في التركيز على جوانب
الترفيه والتسلية - بالمعنى المبتذل لمفهوم الترفيه - مع التركيز على جانب الأفلام
والمسلسلات وإبراز شخصيات فنية، وبالمقابل يحدث نقص واضح في الاهتمام
بجوانب تهمُّ المواطن العربي بما يتعلق بالتنمية ومشكلاته الحياتية. وفي العالم
النامي تسود عقلية من أصحاب القطاع الخاص في الابتعاد عن الأشياء الجوهرية
والميل إلى القضايا الهامشية، بمعنى أن الهرم مقلوب كما هي عادتنا في كثير من
الأمور!
7-
التحليل الكمي ربما يعطي صورة موضوعية بوجه عام، إلا أن تقارب
النسب بين بعض القنوات في هيكلة برامجها، لا يدل على تقارب مضمونها السلبي
أو الإيجابي فيما بينها؛ لأن بعض القنوات كالمستقبل، و LBC غالبية برامجهما
تملك منهجاً تغريبياً واضحاً وبنسبة كبيرة في كافة ما يُبث حتى في البرامج العائلية
والأطفال.
8 -
هناك أوقات ميتة تتخلل البث اليومي وأوقات حية يدركها صاحب
الرسالة الإعلامية، لذا تتركز معظم البرامج الرئيسة لكل قناة في الوقت الذهبي،
أما الأوقات الميتة فيتم استغلالها في إعادة البرامج، وبرامج أخرى ليست جماهيرية، والوقت الذهبي يكون عادة فيما بين الساعة السادسة والساعة العاشرة مساء
بتوقيت جرينتش، ويلاحظ أن هذه الفترة الحية كانت تشكو في بدايات نشوء هذه
القنوات في أول التسعينات من طغيان المادة الفنية والترفيهية إلى حد التخمة،
وتدريجاً بدأت تزداد المساحة في هذه الفترة للبرامج الجادة والحوارية؛ نظراً للملل
الذي أصاب المتابع، ولظهور قنوات متخصصة وأخرى جادة مما أشعر بعض
القائمين أن المشاهد لا تستهويه دائماً المواد الهابطة، حتى بدأ يلاحظ أنه - في
وقت واحد - تبث عدة برامج حوارية جادة على الهواء مباشرة في أكثر من قناة.
وهذا التحسن يبقى محدوداً؛ خاصة مع إصرار بعض القنوات على جعل المواد
الدينية دائماً في الأوقات الميتة، واستغلال هذه الفترة الذهبية في عرض برامج
وأفلام تتكئ على إثارة الغرائز.
9 -
وجود عدد كبير من البرامج الحوارية المباشرة وغير المباشرة، وهي
تأخذ مساحة واسعة من الوقت يصعب عادة وضع ميزان دقيق لها وتصنيفها من
خلال عينة زمنية محددة؛ لأن البرامج الحوارية قد يكون ضيوفها من أصحاب الفن
من الممثلين والمغنين والعاملين في المجال الفني، أو شخصية سياسية أو عسكرية، أو شخصيات ثقافية أو دينية، إلا أن توجه القناة العام من خلال سنوات عديدة
يعطي مؤشراً على نسبة الضيوف ونوعيتها، ولكن المتابع يجد أن أغلب القنوات
التي يطغى التوجه الفني على برامجها هو التركيز على الضيوف من أهل الفن
بكافة تخصصاتهم، لدرجة أن الشخصية الفنية ربما أُجريت لها مقابلات متعددة في
أكثر من قناة في أوقات متقاربة، ولا تُترك شاردة ولا واردة إلا قيلت في حياة
الفنان، مما يشعر المشاهد بالتشبع حتى لمن يهوى الجانب الفني.
10 -
من الأشياء التي لا تخفى على المتابع أن البث الفضائي الأجنبي أكثر
تنظيماً ولا يعمل في فراغ، ولديه حسابات تبعده عن التسلية المجردة لإنجاح
مشاريعه، وهي تمثل أفكار مالكيها من دول أو مؤسسات أو أفراد، ووجود هذا
البث بما يملكه من آليات وتكنولوجيا متقدمة ظاهرة موضوعية نتيجة اختلاف
موازين القوى في العالم لصالح الجانب الغربي.
والبث الأجنبي يحتاج إلى وقفة مستقلة لحصر القنوات الأجنبية التي يصل
بثها إلى المنطقة العربية. ففي عرب سات توجد قناة الـ CNN الأمريكية وهي
قناة إخبارية تمثل الثقافة والسياسة الأمريكية، وقناة TV5 الفرنسية وهي أيضاً قناة
إخبارية تمثل الثقافة والسياسة الفرنسية، وللقناتين جمهور محدود من النخب،
ويغلب عليهما البرامج الجادة التي تهتم بالشؤون العالمية.
والقنوات المشفرة التي تعرض الأفلام الأجنبية بدأت تأخذ مساحة متزايدة في
الساحة العربية، وهي تحمل مخاطر تستحق الدراسة خاصة أن بعض هذه القنوات
تقوم بالترجمة إلى اللغة العربية، وهذا يعني أن الخطورة لا تقتصر على المشاهد
الفاضحة وإنما الأفكار والمضامين التي تصل إلى عقل المشاهد البسيط.
لا تكاد تفرق بين الإعلام العربي والغربي لتداخل مفاهيم عدة في ظل غياب
الميزان الأخلاقي.
ومما يؤسف له أنك قد لا تجد فوارق كبيرة بين ما يبثه الإعلام العربي
والإعلام الغربي؛ حيث تداخلت مفاهيم عديدة في ظل غياب الوعي الإسلامي الذي
يحافظ على القيم والأخلاق، وغياب القدرة على إنتاج مواد محلية لتغطي ساعات
البث الذي يزداد بصورة عشوائية؛ حيث تشير أرقام اليونسكو إلى أن المحطات
التلفزيونية في العالم النامي تستورد أكثر من 50% مما تقدمه، وأن أكثر من 75%
من هذه المادة المستوردة من منشأ أمريكي [8] .
وبعيداً عن أدبيات اتهام الآخر فإن الثقافة أصبحت صناعة وسلعة تُنتج وتُباع
وتُشترى ويتم تبادلها، وتسيطر عليها الشركات المتعددة الجنسيات، وتَحوَّل
الجمهور إلى سوق واسعة يجب استثمارها، وظهرت أسواق تجارية لمحاصيل
ثقافية وفيرة وجاهزة، ففي 1991م بلغت قيمة صادرات بريطانيا من المواد الثقافية
25 مليار دولار - المرتبة الثانية في الدخل القومي بعد السياحة - بينما الصناعة
تحتل المرتبة الخامسة. وفي العام ذاته بلغت قيمة الصادرات الأمريكية 60 مليار
دولار، وهو رقم قريب من صادرات السلاح.
11 -
مع حقيقة طغيان المواد السطحية في الإعلام العربي، إلا أنه توجد
برامج رصينة وبرامج حوارية ذات فائدة، خاصة أن أغلبها ليست مغلقة، وإنما
أصبحت ندوات مفتوحة للجميع على الهواء مباشرة، وتطرح فيها قضايا هامة
للمجتمع العربي، فلم يعد الضيف الذي يختاره معد البرنامج داخل غرفة مغلقة يقول
ما يريد دون أن يأخذ في حساباته أن التحليل والمعلومة الخاطئة يمكن تعديلها من
أحد المتصلين للمشاركة، فأصبح المشاهد في كل مكان رقيب على ما يقوله
الضيوف في مثل هذه البرامج، وهذه الأنواع من البرامج تجعل التلفزيون يتجه إلى
أن يكون تفاعلياً وليس من طرف واحد.
قراءة في التأثيرات:
ليس من السهل في هذه القراءة الموجزة استعراض النظريات الرئيسة التي
توصلت إليها الدراسات في وسائل الإعلام وتأثيراتها، والتي مرت بثلاث مراحل
خلال هذا القرن؛ حيث (لا توجد نظرية واحدة متفق عليها عن كيفية عمل وسائل
الإعلام وعن تأثرها وتأثيراتها في الأفراد والنظم والمؤسسات الاجتماعية المختلفة؛
وإنما يوجد عدد من النظريات الاجتماعية التي تقدم لنا تصورات مختلفة عن العملية
الإعلامية وآثارها الاجتماعية) [9] .
(ولا يختلف اثنان في أن وسائل الإعلام تقوم بدور رئيس في كثير من
القضايا، غير أننا لا نعرف حتى الآن تفسيراً علمياً كاملاً عن طبيعة تأثيرات
وسائل الإعلام، وعن النظم الاجتماعية العامة من ثقافة وفكر وسلوك ممارَس؛ لأن
طبيعة هذه التأثيرات والنظم لها جذور تاريخية واجتماعية ضاربة في القِدَم. ومما
يقلل من معرفتنا عن تأثيرات وسائل الإعلام أنه من غير المنطقي أن نتحدث عن
وسائل الإعلام وكأنها عنصر فاعل واحد؛ فالحقيقة هي أن العملية الإعلامية تمثل
مجموعة كبيرة ومتنوعة من الرسائل والصور والأفكار التي لا يكون مصدرها
الوسائل الإعلامية ذاتها؛ فمعظم هذه الرسائل والصور والأفكار تنبع من المجتمع
وإليه تعود) .
إنه من المهم أن ندرك (أن مضمون الإعلام ليس له تأثير الحقنة التي يحقن
بها المريض تحت الجلد فتحدث تأثيراتها المباشرة عليه بكل بساطة. وتأثير
التلفزيون هو ثمرة التفاعل الواقعي الحيوي بين خصائص التلفزيون وخصائص
مشاهديه، وليس من الإنصاف والموضوعية العلمية أن ننظر إلى التلفزيون على
أنه السبب الوحيد في الانحراف؛ لأن الانحراف سلوك معقد للغاية ينجم عن
مؤثرات متشابكة لها جذورها في الأسرة والأقران والمدرسة.
(1) مايكل أونيل، طبيعة المعرفة التلفزيونية، ت/د عماد خضور، المكتبة الإعلامية، دراسات تلفزيونية.
(2)
حسين العودات كيف يمكن أن نجعل القنوات الفضائية العربية أداة للتعريف بالثقافة العربية الإسلامية، المجلة العربية للثقافة، مجلة نصف سنوية العدد 33 جمادى الأولى 1418هـ.
(3)
المصدر السابق.
(4)
المصدر السابق.
(5)
د أديب خضور، القنوات الفضائية العربية، المكتبة الإعلامية دراسات تلفزيونية.
(6)
جريدة الحياة، العدد 123290، 27 أكتوبر 1996م.
(7)
مجلة الاقتصاد والأعمال، العدد 231، مارس 1999م.
(8)
د زكي الجابر (قراءة في المضمون الثقافي والإعلامي في القنوات العربية) المجلة العربية للثقافة، العدد 33، جمادى الأولى 1418هـ.
(9)
د أديب خضور (الدور التثقيفي للتلفزيون) المكتبة الإعلامية، دراسات تلفزيونية.
(10)
دنيس مكويل، الإعلام وتأثيراته، دراسات في بناء النظرية الإعلامية، ت/د عثمان العربي.
(11)
د إبراهيم إمام: حول أثر التلفزيون على الأطفال والشباب، جريدة الندوة السعودية، العدد 8903، 21/10/1418.
(12)
التلفزيون والأطفال، مجموعة من الباحثين ترجمة وإعداد: د أديب خضور.
(13)
بيل جيتس، المعلوماتية بعد الإنترنت (طريق المستقبل) ، الكويت سلسلة عالم المعرفة، رقم 231، ترجمة: عبد السلام رضوان.
(14)
كانت الثورة الثقافية الأولى سياسية الثقافة وطرحت مسألة طبقية الثقافة، وكانت الثورة الثقافية الثانية ذات مضمون حقوقي طرحت حق كل فرد في الثقافة، وكانت الثورة الثالثة الثورة العلمية.
(15)
مجلة ستالايت، 30يناير 1999م، العدد 282.
(16)
د علي جريشة، نحو إعلام إسلامي التلفزيون وثورة الاتصالات، ملحق خاص عن التلفزيون نشرته مجلة الأيكونوميست 12/2/1994م، ت/ د عماد خضور، المكتبة الإعلامية، دراسات تلفزيونية.