الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قضايا دعوية
حمل الرسالة ومقاومة الاستضعاف
د. جلال الدين صالح
لم يكن الدين أبداً مجرد معرفة قلبية لا صلة لها بقول اللسان وعمل الجوارح؛
فذلك محض ابتداع لا يعرف له الإسلام مصدراً سوى قلوب الذين مرقوا عن فقه
الدين على أصوله الصحيحة.
ومن الضروري أن تكون هذه الحقيقة عند حامل الرسالة محل إقرار واعتبار، ينطلق منها في بسط رسالته وإيصالها إلى قلوب الناس، ويدفع بها ما لا بد منه من ابتلاءات حمل الرسالة؛ ذلك أن الإسلام اليوم يعاني غربة في مفاهيمه أشبه بالتي عاصرها في أول تجدده برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يكون انجلاؤها إلا على أيدي حاملي الرسالة الذين نعتهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالغرباء في قوله: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى
…
للغرباء) [1] .
وهم وحدهم الذين يقدمون الدين غضاً طرياً كما أُنزِل (ينفون عنه كما قال
الإمام أحمد رحمه الله: تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل
الجاهلين) [2] ، فيتداعى عليهم الجاهلون، ويمكرون بهم سوءاً. إلا أنه مهما اشتدت ضائقتهم فلا بد من يوم تنفرج فيه، ويمكَّن للدين كما مُكّن له من قبل، ووعد الله يتجدد كلما تجددت شروطه:[إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ][غافر: 51] .
قال ابن كثير رحمه الله: (وهذه سنة الله في خلقه في قديم الدهر وحديثه: أنه
ينصر عباده المؤمنين في الدنيا ويقرّ أعينهم ممن آذاهم. قال السدي: لم يبعث الله
عز وجل رسولاً قط إلى قوم فيقتلونه، أو قوماً من المؤمنين يدعون إلى الحق فيقتلونهم، فيذهب ذلك القرن حتى يبعث الله تبارك وتعالى لهم من ينصرهم فيطلب بدمائهم ممن فعل ذلك بهم في الدنيا) [3] .
ولكن سنة الله في حمل الرسالات اقتضت أن يقرن بها ابتلاءات التمحيص
والتمييز حتى يميز الخبيث من الطيب.
قال ابن كثير رحمه الله موضحاً معنى قوله تعالى: [وتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ
النَّاسِ] [آل عمران: 140] : (أي نديل عليكم الأعداء تارة، وإن كانت لكم
العاقبة، لما لنا في ذلك من الحكمة) [4] .
وما كان فضل الله على بني إسرائيل إلا بعد ابتلاء لحق بهم وأذاقهم مر
الحياة: [وأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ ومَغَارِبَهَا الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا][الأعراف: 137] .
كذلك كان جيل الصحابة رضوان الله عليهم تحيط بهم المحن من كل جانب،
إلا أن وعد النبي صلى الله عليه وسلم بتغلب الدين على شانئيه، وظهوره على
الكافرين كان يملأ جوفهم إيماناً، ويُذهِب عنهم عناء الطريق، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:(واللهِ ليتمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)[5] .
بل إنه صلى الله عليه وسلم ساعة خروجه من مكة مهاجراً إلى ربه ظل يرى
من وراء هذا الحدث تَمَكُّن الدين وعلوَّه، يثبت صاحبه الصدّيق رضي الله عنه
بقوله: [لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا][التوبة: 40] ، ويعد سراقة بسواري كسرى.
وما كان ذلك منه صلى الله عليه وسلم مجرد وعد مبتور عن أسباب تحققه،
ولكنه كان وعداً موصولاً بدرء القنوط، وعقد العزيمة على النهوض، ومغالبة الباطل حسب مراعاة ظروف الحال والمآل؛ لذا قال ابن سعدي رحمه الله في تفسيره:(الأمة المستضعفة ولو بلغت في الضعف ما بلغت لا ينبغي لها أن يستولي عليها الكسل عن طلب حقها ولا الإياس من ارتقائها إلى أعلى الأمور خصوصاً إذا كانت مظلومة، وأن الأمة مادامت ذليلة مقهورة لا تأخذ حقها، ولا تتكلم به لا يقوم لها أمر دينها ولا دنياها، ولا يكون لها إمامة فيه)[6] ؛ ذلك أن
…
نزع الاستضعاف عن الذات طريق من طرائق الارتقاء بهذا الدين نحو مقاصده، وسبب من أسباب مَنِّ الله على المستضعفين من عباده. وترويض الذات على نزع
الاستضعاف، ودفعه بجهدها وجهادها ضرورة من ضروريات حمل الرسالة؛
فما كان الاستضعاف أبداً حالة لازمة غير قابلة للانفكاك؛ ولكنه نوع من الابتلاء
تجب مغالبته ومجاهدته.
والابتلاء به ليس شراً خالصاً بل في طياته من الخير الكثير؛ فهو يُدني من
مقام الأخيار، ويوثِّق الصلة بالله؛ فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:(إن من أشدِّ الناس بلاءاً الأنبياء، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)[7] .
وقال: (إن عِظَم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم؛
فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط) [8] .
ولكنْ من الغلو في الدين تعقُّبُ مواطن الابتلاء، والسعي للوقوع فيه، لقوله
صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه، قالوا: وكيف يذل
نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيق) [9] .
وحذَّر صلى الله عليه وسلم وهو المجاهد الأكبر أصحابه من التشوق إلى
ملاقاة العدو بقوله: (لا تمنَّوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا)[10] .
قال ابن بطال: (حكمة النهي أن المرء لا يعلم ما يؤول إليه الأمر، وهو
نظير سؤال العافية من الفتن، وقد قال الصدّيق: لأن أعافى فأشكر أحب إليّ من أن أُبتلى فأصبر) [11] .
لهذا من الخطأ أن ينهج حاملو الرسالة وهم يقاومون الاستضعاف مسلكاً دعوياً
يجلب عليهم من الابتلاءات ما لا يطيقون، أو يقعد بهم مقاعد القاعدين، بل لا بد
من أن يحكم مسارهم الدعوي منهج أهل السنة والجماعة، وإلا جرفهم منهج
الجموح، أو الجمود، وهما منهجان لا يسلكهما إلا أولئك الذين يبغون الإسلام عوجاً ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ولا تقوم تأصيلاتهم إلا على تجاوز النصوص بالتعطيل تارة، أو التأويل على هوى الذات واعتقاداتها المتأصلة سلفاً تارة أخرى، ويتسم السائرون عليهما بالانحراف في معالجة الانحراف؛ فمنهم من يرى لزوم إلغاء الجهاد ابتداءاً حتى ظهور الإمام الغائب كتيار الرفض، أو حمله على نوع من النسك يوهن البدن كنهج التصوف، ومنهم من يرى في حمل السيف فريضة شرعية محتومة يلجأ إليها في تصويب كل ما يبدو له نكوصاً عن الدين، كما هو فقه الخوارج خلافاً لمنهج أهل السنة والجماعة الذي يأخذ في الحسبان مراعاة الأحوال ومآلات الأمور، ويتقدم بالدين نحو غاياته بوسطية واعتدال.
(1) رواه مسلم في كتاب الإيمان 1/130، رقم 232.
(2)
الرد على الزنادقة والجهمية /1.
(3)
تفسير القرآن العظيم 4/83 84.
(4)
تفسير القرآن العظيم 1/408.
(5)
البخاري مع الفتح، كتاب المناقب 6/619، حديث رقم 3612، وأيضاً في الإكراه 12/315، حديث رقم 6943.
(6)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 6/34.
(7)
أحمد في مسنده 6/369، رقم 27124، وانظر أيضاً سلسلة الأحاديث الصحيحة 2/66.
(8)
الترمذي في الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء رقم 2398، وابن ماجة في الفتن، باب الصبر على البلاء رقم 4023.
(9)
ابن ماجة، كتاب الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رقم 4016.
(10)
البخاري مع الفتح 6/181، رقم 3025، باب لا تمنوا لقاء العدو.
(11)
البخاري مع الفتح 6/181.
قضايا دعوية
التدرج في الإصلاح والتغيير
عبد العزيز بن ناصر الجليل
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا
محمد وآله وصحبه أجمعين. وبعد:
روى لنا صاحب الحلية أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز دخل على أبيه
عمر بن عبد العزيز فقال:
(يا أمير المؤمنين! إن لي إليك حاجة، فأخْلِني وعنده مسلمة بن عبد الملك
فقال له عمر: أسِرٌّ دون عمك؟ فقال: نعم! فقام مسلمة وخرج، وجلس بين يديه
فقال له: يا أمير المؤمنين! ما أنت قائل لربك غداً إذا سألك فقال: رأيتَ بدعةً فلم
تُمِتْها، أو سنة لم تُحْيِها؟ فقال له: يا بني أشيء حَمَّلَتْكَهُ الرعية إليَّ، أم رأي
رأيته من قِبَل نفسك؟ قال: لا، واللهِ، ولكن رأي رأيته من قِبَل نفسي، وعرفت
أنك مسؤول؛ فما أنت قائل؟ فقال أبوه: رحمك الله وجزاك الله من ولد خيراً؛
فوالله إني لأرجو أن تكون من الأعوان على الخير. يا بني! إن قومك قد شدُّوا هذا
الأمر عقدة عقدة، وعروة عروة، ومتى ما أريدُ مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم
لم آمن أن يفتقوا عليَّ فتقاً تكثر فيه الدماء، واللهِ لَزوالُ الدنيا أهون عليَّ من أن
يهراق في سببي محجمة من دم، أَوَ ما ترضى أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام
الدنيا إلا وهو يميت فيه بدعة ويحيي فيه سنة، حتى يحكم الله بيننا وبين قومنا
بالحق وهو خير الحاكمين؟) [1] .
وبعد هذا الحوار الجميل الحكيم بين خليفة المسلمين العادل وابنه الورع الزاهد
رحمهما الله تعالى يمكن لنا تسجيل الدروس الآتية:
1-
دور البطانة الصالحة للحاكم المسلم وبخاصة إذا كانت من قرابته كما هو
ظاهر في نصح هذا الابن البار المشفق على أبيه الخليفة العادل، وهذا من علامة
توفيق الله عز وجل للحاكم المسلم. ولكن متى يظهر أثر البطانة الصالحة؟ إنها لا
تظهر إلا إذا وجد الاستعداد الصادق عند الحاكم؛ بحيث يظهر عليه حب أهل الخير
والسعي إلى تقريبهم، وبُغض أهل الشر والنفاق والنفور منهم، وأما إذا وجد العكس
من ذلك فإن الأثر سيكون ضعيفاً؛ بل وربما كان معدوماً.
2-
التماس العذر لمن لم يتمكن من أهل الخير من الإصلاح السريع وتغيير
كل الفساد الذي يقوم به مَنْ تحت أيديهم، ويكفينا أن نرى السعي الجاد للتغيير من
قِبَلهم، وأن نرى الخير يزداد والشر يتناقص يوماً بعد يوم ولو كان ذلك قليلاً. وهذا
الكلام يسري من باب أوْلى على من تولى من أهل الخير الحكم في بلد من بلدان
المسلمين وأراد صادقاً أن يحكم بشريعة الله عز وجل وأن يحارب الفساد العظيم في
مرافق الحياة الذي ورثه ممن سبقه، فهنا يجب أن نطبق ما قال عمر بن عبد
العزيز رضي الله عنه لابنه حينما طالبه بالتغيير السريع الشامل، ونلتمس العذر
فيما يقوم به الحاكم الصادق من التغيير المتدرج، ويكفي أن نلمس الصدق والإرادة
الحازمة منه في التغيير، وأوضح القرائن على ذلك الصدق في العزيمة والبدء في
إبعاد البطانة الفاسدة عن مواقع التأثير، وتقريب البطانة الصالحة. أما أن يبقى
أهل السوء والفساد في مواقعهم ويظل أهل الصلاح مبعدين فإن هذا يدل على عدم
المصداقية وكذب ما يعلن؛ وإنما هو للاستهلاك وكسب عواطف المسلمين. وهذا
يذكرنا بما نسمعه بين الفينة والأخرى من أن حاكم البلد الفلاني قد أعلن تطبيق
الشريعة وتحكيمها فيغتر بهذا الادعاء من يغتر من المسلمين مع أن القرائن تدل على
كذبه ونفاقه؛ وذلك لأنه لو كان صادقاً لبدأ أول خطوة في التغيير ألا وهي تغيير
البطانة الفاسدة، وإبدالها ببطانة صالحة تستلم مواقع التغيير، وهنا يُلتَمَسُ العذر له
في التدرج وعدم العجلة في التغيير. أما أن يبقى أهل الشر في تسلطهم، ويظل
أهل الخير مبعدين أو مغيبين في السجون، والشر والفساد في زيادة واستفحال؛
وهو أبعد ما يكون عن الإسلام فإن هذا لا يجدي شيئاً وإنما هو مجرد نفاق ولعب
على جهلة المسلمين ومغفليهم، ورحم الله عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ حيث
يقول: (لست بالخِبِّ، ولا الخِبُّ يخدعني) .
3 -
التدرج في دعوة الناس، وعدم مطالبتهم بالتغيير السريع في أنفسهم؛
وذلك لما ألفوه وتلبسوا به دهراً طويلاً من الزمان من المنكرات والمخالفات،
وضرورة أخذهم بالرفق والبدء بالأهم فالمهم.
ومما يدخل في ذلك ما ينبغي أن يقوم به المربون في تربيتهم لأولادهم
وطلابهم، وأن لا يطالبوهم في بداية تربيتهم بما يطالبون به أنفسهم أو من أمضى
سنوات في التربية والتزكية، ولذلك قيل: على الزاهد أن لا يجعل زهده عذاباً على
أهله وإخوانه.
ومما يلحق بذلك أيضاً: التدرج في دعوة الداخلين في الإسلام حديثاً، وأن
يبدأ معهم بالأهم وهو توحيد الله عز وجل وبيان ما يضرهم من الشرك بجميع
أنواعه، ثم إعلامهم بواجبات الإسلام العينية ومنهياته. ولا يعني هذا التسويف
واتخاذ التدرج وسيلة للإبطاء بالالتزام بأحكام الله تعالى؛ وتطبيق شرعه، بل
المقصود الرفق بالمدعو وأن يبدأ بالأهم الذي هو الأصل في النجاة من عذاب الله
تعالى؛ إذ ما قيمة أن يصلي الداخل في الإسلام أو يحج أو يصوم وهو لا يعرف
التوحيد، أو لا يزال متلبساً بما كان عليه في ديانته السابقة من شرك بالله تعالى؟
(1) حلية الأولياء 5/382.