الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الافتتاحية
تزوير التاريخ
بعض من يطلقون على أنفسهم صفة دارسي التاريخ روجوا - ويروجون -
مقولات لا يسأمون من ترديدها وتكرارها، وهذه المقولات لا تساق في معرض
وضع وتحديد الأسس الصحيحة لدراسة التاريخ، بل تقحم في ثنايا حديثهم الموجه
دائماً للهجوم على كل ما له صلة بالإسلام، فيتخذونها تكأة للتنفير من الرموز
الإسلامية: حضارة وشخصيات، ودعوة لنبذ كل ما له علاقة بهذا التاريخ تحت
دعاوى أصبحت مملولة وممجوجة مثل: التطور، التقدم، النهضة، التحرر..
وهؤلاء الذين اتخذوا التاريخ مجالاً لنفث سمومهم غالبًا ما يخرجون بنتيجة،
هي: أننا حتى نبرأ من تلك العيوب - التي توصلوا إليها بدراستهم القاصرة،
ونياتهم الفاسدة -، لا بد لنا من اتخاذ العلمانية مبدءًا للحياة، فنفرق بين ما هو دين
وما هو دنيا، ونعطي ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، ونقيم حياتنا على العلم البعيد
عن العواطف، ونبنيها على التخطيط الذي يعطي نتائج محايدة، ونتيح تكافؤ
الفرص للجميع، فيُعطى كل ما يستحقه، ونخرج من دوامة الاختلاف والتفرق،
وهكذا لا يكون التاريخ حِكراً على شخص أو أشخاص، وإنما يقوم على جهد
جماعي يؤدي كل فرد فيه واجبه، ويعرف له حقه.
هذا هو مجمل الفكرة التي تدور في فكر الذين أرادوا للأجيال الإسلامية - في
ظل الاستعمار الغربي - أن ترسخ في نفوسهم، واستدلوا عليها بصنوف من
التزوير والتهويش، فرموا التاريخ الإسلامي بأنه تاريخ أشخاص، وأبرزوا من هذا
التاريخ كل الجوانب السلبية، وكتموا كل الجوانب المضيئة، وحملوا الإسلام
والحضارة الإسلامية وزر كل مخالف عاش في ظلالها، ومرغوا - بكل خِسَّة
ووقاحة وظلم واضح - كل الصفحات المشرقة بالتراب، وسودوا الكتب الكثيرة
بأهواء نفوسهم وخزاياهم، وأسقطوا على كل مكرمة عيوبهم فاستحالت مثلبة،
وسلبوا حق الدفاع من المتهم، فكانوا خصوماً وقضاة في ثوب واحد.
هكذا كان، وهكذا انكشف عن المسلمين عصر، وحل عصر.
ماذا نجد إذا نظرنا خلفنا خلال قرن، وهي الفترة التي نُحِّيَ الإسلام بالقوة
عن أن يقول كلمته في حياة الناس؟
يكفينا في هذا المجال أن ننظر إلى هدفين من أهداف العلمانيين هما:
العلمانية نفسها، ثم الحرية.
أما إذا نظرنا إلى الهدف الأول، وهو العلمانية:
فلا أحد يستطيع القول: إن المسلمين يعيشون في ظل شرعية إسلامية،
(وهذا لحسن حظ من يشمئزون عند ذكر الإسلام) ، حتى الزاوية الضيقة جدًا التي
سمح للإسلام - عن غير طيب خاطر طبعاً - أن يبقى فيها، وهي زاوية الأحوال
الشخصية، تُتَحَيَّف مرة من هنا، ومرة من هناك، وياما أكثر المناسبات التي رأينا
وسمعنا وقرأنا عنها، حيث يقف ساقط أو ساقطة يتنقص أخص ما يخص المسلمين
من أحكام كالطلاق، وتعدد الزوجات، ومسائل الإِرث، والولاية في الزواج وغير
ذلك، ويصب جام غضبه على هذا الدين وأهله، بين تصفيق السفهاء وتشجيع
المشجعين، دون أن يؤذن لمسلم بالرد على هذه التهجمات المسعورة والترهات
الباطلة.
لقد خلت الساحة للعلمانية أن تسود، وبعد أن كانت مطمحاً لدعاة التغريب في
أواخر عهد الدولة العثمانية، أصبحت حقيقة واقعة بعد القضاء عليها، وتولت
فرضها بالحديد والنار الدول الصليبية المستعمرة، ثم النخبُ الحاكمة المستظهرة بها
بعد ذلك.
ولكن آية علمانية تلك التي طبقت على العالم الإسلامي؛ هل هي العلمانية
الغربية بنصها، والتي كانت المثل الأعلى والنموذج المحتذى؟
لا!
ففي حين نادت علمانية الغرب بالفصل بين الكنيسة والدولة، وجعلت كل
جبهة مستقلة كل الاستقلال عن الأخرى؛ فلا الكنيسة تتدخل بشؤون الدولة، ولا
الدولة تتدخل بشؤون الكنيسة ونشاطها الخاص، وليس لها كلمة لا في إرسالياتها،
ولا في برامجها داخل الكنيسة، ولا في أوقافها، وأموالها.
نقول: بينما كانت علمانية الغرب المقتدى به هي هذه، إذا بنا نرى علمانية
أخرى كأنما صنعت لنا خصيصاً،
فلم تكُ تصلح إلا (لنا)
…
ولم (نك نصلح) إلا لها! !
علمانية تفترس كل شيء، وتتدخل في كل شيء، وتجتاح كل شيء، حتى
البيوت والمساجد، لا تتدخل في أخص خصائص الإسلام فحسب؛ بل هي التي
تفتي وتشرع وتحدد للمسلم: ماذا يجب أن يقرأ، وماذا يجب أن يسمع، وماذا يجب
أن يأخذ، وماذا يجب أن يدع، علمانية تعطي الحرية لكل الأديان إلا الإسلام،
وتتأدب عند دخول كل معابد الملل والنحل إلا الإسلام.
فهل آل أمر العلمانية إلى أن تصير إلى هذه الصورة؟ ، وهل على المسلم من
سبيل إذا ما طوى جوانحه على مقت هذه العلمانية، ومقت دعاتها، وأسرّ وجهر
بالبراءة منها، وتربص بها حتى يحين موعد رميها في وجوه أصحابها؟ !
إن الباحث في تاريخ تطبيق العلمانية على الشعوب الإسلامية ليهوله أن يرى
أن كل الكوارث التي حلت بهم مرجعها إلى هذه الوصفة الحمقاء، ولا أحد يستطيع
أن يدعي أن ما نعاني منه، وما عانينا خلال الفترة السابقة، قد حصل في ظل
هيمنة إسلامية، أو توجه له أدنى علاقة بالإسلام كنظام مستقل متفرد شامل، بل إن
الانهيار الاقتصادي المتمثل بالديون التي ترهق كاهل الشعوب الإسلامية؛
والأزمات التي تشغل بالها، والانهيار الحضاري المتمثل في فقدان الثقة بالنفس؛
وشيوع الاتكالية، والفساد، والتسلط، والبطالة المقنعة، وضعف الكفايات،
وهجرة الأدمغة.. كل ذلك هو بعض أعراض فصل المجتمعات الإسلامية عن قيمها
التي تستمد منها مبرر وجودها، هذه القيم التي لا يمكن أن نجد لها مصدراً صحيحاً
خارج الإسلام.
الهدف الثاني هو: الحرية.
والحرية شعار ومصطلح قد يثير الالتباس، ويعطي معاني مختلفة باختلاف
الأمكنة والأزمنة التي يرفع فيها، وباختلاف الأشخاص الذين يرفعونه.
فبينما كانت الحرية تعني في عصر الاستعمار إخراجه من البلاد، والاستقلال
عن وصايته وتدخله في شؤون الشعوب المستعمرة! أصبحت بعد الاستقلال شعاراً
يحمل مضامين أخرى:
- فهي عند عبيد الغرب: التحرر من سيطرة الأفكار الإسلامية.
- وهي عند فريق من الفقراء: التحرر من تسلط الأغنياء والرأسماليين.
- وهي عند الأقليات: التحرر من سلطان الأغلبية، وهكذا..
وفي ظل الغموض الذي يحيط بهذا الاصطلاح الفضفاض الذي فتن - ومازال
يفتن - الناس تسربت إلى حياتنا مؤثرات نعاني أشد المعاناة من أجل التخلص منها، وانقلب معنى الحرية في كثير من الأحيان إلى ضده، وتقلص وانحسر في أحيان
أخرى لينعم بخيره فرد أو عائلة أو طبقة صغيرة أو نخبة هي التي تملك حق فهم
معناه وشرحه وتفسيره، ووضع الحواشي والتعليقات على متنه؛ أما غيرها ممن
هو خارج نطاق هذا الأكليروس [1] الزائف فليس له إلا حق السمع والطاعة.
من قال: إن حكم الكنائس في العصور الوسطى قد ولى بعد الثورة الفرنسية
إلى غير رجعة؟ ! لقد انتقل عبر ما يسمى بعملية " تناسخ الأرواح " لتحل روحه
في عصر ما بعد الاستعمار! !
إن من بركات الحرية التي نعيش فيها أن يضرب بحجاب صفيق على كل
الحوادث والشخصيات التي كان لها أثر لا يمكن إنكاره في تحرر الشعوب من
شرور المستعمرين الغاصبين، وإبقائها في الظل، وبتر كل ما يتعلق بها من الكتب
والدوريات، في حين توجه الأنظار والأفكار إلى شخص واحد من أجل غرس
حقيقة: أن الأمة قد خلقت من أظافر قدميه، وخيراتها نبعت من تحت أخمصيه!
إن أمة يقودها فرد يقنع نفسه بذلك، ويصدق تملق المتملقين الذين يخدعونه
بتملقهم الرخيص هذا، فيسلطهم على رقاب العباد والبلاد، لهي أمة مقضي عليها
بالفشل في أي مجال تخوض.
آخر ما حملته الأخبار: أن الحكومة التونسية قد أعادت الاعتبار إلى الشيخ
عبد العزيز الثعالبي بعد أن أسدل عليه ستار كثيف من التجاهل المتعمد والإهمال
المفروض طيلة حكم بورقيبة.
والشيخ عبد العزيز الثعالبي (1874-1944) زعيم تونسي، وخطيب،
وكاتب، أبرز مناهضي الاستعمار الفرنسي، نفته فرنسا من تونس، فعاش متنقلاً
بين مصر وسورية والعراق والحجاز والهند، مشاركاً في الحركات الوطنية،
مقاوماً الاستعمار الفرنسي، عاملاً على التعاون بين حركات التحرير في بلاد
المغرب العربي.
ناوأه بورقيبة وأنصاره العداء لأنه أراد الحفاظ على هوية تونس العربية
الإسلامية، بينما أراد هؤلاء ربطها بالغرب، وبفرنسا خاصة، وعمل بورقيبة
خلال حكمه على محو آثار الشيخ الثعالبي وتصفية دوره من كتب التاريخ، بل
أصبح يتهكم عليه كثيراً في خطبه.
ما الجريمة التي اقترفها الشيخ الثعالبي فدعت الحاكم السابق أن يصب عليه
جام سفهه وغضبه؟ ليست إلا اعتباره تونس بلداً عربياً إسلامياً، وليس ولاية من
ولايات فرنسا، ولا تربطها بأوربا أية صلة.
ليس الغرض من الحديث عن الشيخ الثعالبي باعتباره فرداً؛ ولكن الهدف
الإشارة إلى ما يمثله من قيم وفكر وتوجه، وكذلك ليس القصد هنا شن هجوم على
حاكم تونس السابق بعد أن جرد من سلطانه، واستراح الناس من هَيْله وهيلمانه -
فهذا متروك للتاريخ الذي احتكره لنفسه قرابة أربعين عاماً -، وإنما القصد:
الوصول إلى ما كان يمثله من أفكار (العلمانية المصنَّعة) ، والحرية (حرية بطانته)
التي ربطت بلداً عربياً إسلامياً ربطاً متعسفاً بالغرب، وحولته إلى منتجع يعيث به
هؤلاء فساداً، بينما عاش التونسي أزمات خانقة، ليس له من الأمر شيء، إلا أن
ينام ويصحو على أخبار دمى يتلاعب بها ذاك الأفاك العابث الأثيم.
كذلك لم نشر إلى هذه الحادثة إلا إشارة؛ لأنها تمثل ظاهرة في تاريخنا
الحديث في كثير من البلاد الإسلامية: يُعلل الناس بأكاذيب، وتتلى على أسماعهم
أباطيل فترة تطول أو تقصر، ثم يأتي الله بأمره، [فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا
يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ] .
(1) الأكليروس: طبقة رجال الدين عند النصارى الذين لهم الحق في تفسير الأناجيل.
وقفه مع آية
[إنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ
ويُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً]
[الإسراء: 9]
" أضواء البيان " - للشيخ الشنقيطي (3 / 396 - 397) .
…
ومن هدي القرآن الذي هو أقوم؛ هديه إلى أن التقدم لا ينافي التمسك
بالدين، فما خيله أعداء الدين لضعاف العقول ممن ينتمي إلى الإسلام من أن التقدم
لا يمكن إلا بالانسلاخ من دين الإسلام باطلٌ لا أساس له، والقرآن الكريم يدعو إلى
التقدم في جميع الميادين التي لها أهمية في دنيا أو دين، ولكن ذلك التقدم في
حدود الدين، والتحلي بآدابه الكريمة، وتعاليمه السماوية، قال تعالى: [وأَعِدُّوا
لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ] ، وقال: [وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ
وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ] يدل على الاستعداد
لمكافحة العدو في حدود الدين الحنيف، وداود من أنبياء (سورة الأنعام) المذكورين
فيها في قوله تعالى [ومِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ] ، وقد قال تعالى مخاطباً لنبينا -صلى الله
عليه وسلم- وعليهم بعد أن ذكرهم: [أُوْلَئِكَ الَذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ] .
وقد ثبت في " صحيح البخاري " عن مجاهد أنه سأل ابن عباس- رضي الله
عنهما-: من أين أخذت السجدة في " ص "؟ ، فقال: أو ما تقرأ: [ومِن ذُرِّيَّتِهِ
دَاوُودَ
…
أُوْلَئِكَ الَذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ] ، فسجدها داود، فسجدها رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
فدل ذلك على أنا مخاطبون بما تضمنته الآية مما أمر به داود. فعلينا أن
نستعد لكفاح العدو مع التمسك بديننا، وانظر قوله تعالى: [وأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم
مِّن قُوَّةٍ] ، فهو أمر جازم بإعداد كل ما في الاستطاعة من قوة ولو بلغت القوة من
التطور ما بلغت. فهو أمر جازم بمسايرة التطور في الأمور الدنيوية، وعدم الجمود
على الحالات الأُول إذا طرأ تطور جديد، ولكن كل ذلك مع التمسك بالدين.
هجر المبتدع
الشيخ بكر أبو زيد
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن
محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم
بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإنه في حال من انفتاح ما كان يخشاه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته
في قوله عليه الصلاة والسلام: (أبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله لا الفقر
أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم،
فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم) [1] .
وانفتاح العالم بعضه على بعض، حتى كثرت في ديار الإسلام الأخلاط،
وداهمت الأعاجم العرب، وكثر فيهم أهل الفرق، يحملون معهم جراثيم المرض
العقدي والسلوكي.
وفي وسط من تداعي الأمم كما قال صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن
تداعى عليكم الأمم من كل أفق
…
) [2]، وأمام هذا: غياب رؤوس أهل العلم
حيناً، وقعودهم عن تبصير الأمة في الاعتقاد أحياناً، وفي حال غفلة سرت إلى
مناهج التعليم بضعف التأهيل العقدي، وتثبيت مسلمات الاعتقاد في أفئدة الشباب،
وقيام عوامل الصد والصدود عن غرس العقيدة السلفية وتعاهدها في عقول الأمة.
فى أسباب تمور بالمسلمين موراً، يجمعها غايتان:
الأولى: كسر حاجز (الولاء والبراء) بين المسلم والكافر، وبين السني
والبدعي، وهو ما يسمى في التركيب المولَّد باسم:(الحاجز النفسي) ، فيكسر
تحت شعارات مضللة: (التسامح)(تأليف القلوب) (نبذ: الشذوذ والت طرف
والتعصب) ، (الإنسانية)[3] ، ونحوها من الألفاظ ذات البريق، والتي حقيقتها
(مؤامرات تخريبية) تجتمع لغاية القضاء على المسلم المتميز وعلى الإسلام.
الثانية: فُشو (الأمية الدينية) حتى ينفرط العقد وتتمزق الأمة، ويسقط المسلم
بلا ثمن في أيديهم وتحت لواء حزبياتهم، إلى غير ذلك مما يعايشه المسلمون في
قالب: (أزمة فكرية غثائية حادة) أفقدتهم التوازن في حياتهم، وزلزلت السند
الاجتماعي للمسلم (وحدة العقيدة) ، كلٌّ بقدر ما علَّ من هذه الأسباب ونهل، فصار
الدخل، وثار الدخن وضعفت البصيرة، ووجد أهل الأهواء والبدع مجالاً فسيحاً
لنثر بدعهم ونشرها، حتى أصبحت في كف كل لافظ، وذلك من كل أمر تعبدي
محدث لا دليل عليه (خارج عن دائرة وقف العبادات على النص ومورده) .
فامتدت من المبتدعة الأعناق، وظهر الزيغ، وعاثوا في الأرض الفساد،
وتاجرت الأهواء بأقوام بعد أقوام، فكم سمعنا بالآلاف من المسلمين وبالبلد من ديار
الإسلام يعتقدون طرقاً ونحلاً محاها الإسلام.
إلى آخر ما هنالك من الويلات، التي يتقلب المسلمون في حرارتها،
ويتجرعون مرارتها، وإن كان أهل الأهواء في بعض الولايات الإسلامية هم:
مغمورون، مقموعون، وبدعهم مغمورة مقهورة، بل منهم كثير يؤوبون لرشدهم،
فحمداً لله على توفيقه، لكن من ورائهم سرب يحاولون اقتحام العقبة، لكسر الحاجز
النفسي وتكثيف الأمية الدينية في ظواهر لا يخفى ظهور بصماتها في ساحة
المعاصرة وأمام العين الباصرة.
والشأن هنا في تذكير المسلم بالأسباب الشرعية الواقعية من " المد البدعي،
واستشرائه بين المسلمين، والوعاء الشامل لهذه الذكرى ":
القيام بواجب الدعوة إلى الله تعالى على بصيرة، والتبصير في الدين،
وتخليص المنطقة الإسلامية من شوائب البدع والخرافات والأهواء والضلالات،
وتثبيت قواعد الاعتقاد السلفي المتميز على ضوء الكتاب والسنة في نفوس الأمة.
ومن أبرز معالم التميز العقدي فيها، وبالغ الحفاوة بالسنة والاعتصام بها،
وحفظ بيضة الإسلام عما يدنسها:
نصب عامل " الولاء والبراء " فيها، ومنه: إنزال العقوبات الشرعية على
المبتدعة، إذا ذكروا فلم يتذكروا، ونهوا فلم ينتهوا، إعمالاً لاستصلاحهم وهدايتهم
وأوبتهم بعد غربتهم في مهاوي البدع والضياع، وتشييداً للحاجز بين السنة والبدعة، وحاجز النفرة بين السني والبدعي، وقمعاً للمبتدعة وبدعهم، وتحجيماً لهم ولها
عن الفساد في الأرض، وتسرب الزيغ في الاعتقاد، ليبقى الظهور للسنن صافية
من الكدر، نقية من علائق الأهواء وشوائب البدع، جارية على منهاج النبوة وقفو
الأثر، وفي ظهور السنة أعظم دعوة إليها ودلالة عليها، وهذا كله عين النصح
للأمة.
فالبصيرة إذاً في العقوبات الشرعية للمبتدع: باب من الفقه الأكبر كبير،
وشأنه عظيم، وهو رأس في واجبات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأصل
من أصول الاعتقاد بدلالة الكتاب والسنة والإجماع، ولهذا تراه بارز المعالم في
كتب الاعتقاد السلفي " اعتقاد أهل السنة والجماعة ".
كل هذا تحت سلطان القاعدة العقدية الكبرى (الولاء والبراء)[4] التي
مدارها على الحب والبغض في الله تعالى، الذي هو (أصل الدين) وعليه تدور
رحى العبودية.
وهذه العقوبات الشرعية التي كان يتعامل بها السلف مع أهل البدع والأهواء،
متنوعة ومتعددة في مجالات:
الرواية، والشهادة، والصلاة خلفهم وعليهم، وعدم توليتهم مناصب العدالة
كالإمامة والقضاء، والتحذير منهم ومن بدعهم وتعزيرهم بالهجر، إلى آخر ما تراه
مروياً في كتب السنة والاعتقاد، مما حررت مجموعه في " أصول الإسلام لدرء
البدع عن الأحكام ".
وما في هذه الرسالة هو في خصوص (الزجر بالهجر للمبتدع ديانة)[5]
لأهميته في: التميز، والردع، وعموم المطالبة به، ولأنه أصبح في الغالب من
(السنن المهجورة) ، تحت العوامل المذكورة في صدر هذه المقدمة، لهذا رأيت إفراده بهذه الرسالة إحياءً لهذه السنة، ونشراً لها بضوابطها الشرعية التي تحفظ للمبتدع كرامته مسلماً، وتكشف بدعته بوصفه مبتدعاً، ما لم تكن مكفرة كبدعة: القدر [6] ، والباب، والبهاء
…
وتحفظ على أهل السنة والجماعة كف بدعته ومداخلتها في صفوفهم، وهذا واجب باتفاق المسلمين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في بيان وجوب النصح
لصالح الإسلام والمسلمين:
ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة، أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة، فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين حتى قيل لأحمد بن حنبل: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في
أهل البدع؟ فقال: إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل
البدع فإنما هو للمسلمين، هذا أفضل، فبيَّن أن نفع هذا عام للمسلمين في دينهم من
جنس الجهاد في سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعته، ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم
على ذلك واجب على الكفاية باتفاق المسلمين، ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر
هؤلاء لفسد الدين، وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب، فإن
هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعاً، وأما أولئك فهم
يفسدون القلوب ابتداءً ا. هـ. [7] .
هذا وما سيمر نظرك عليه في هذه الرسالة، فإنه ينتظم في جملته: أحكام
الهجر الشرعي للكافر والمبتدع الضال ببدعته والعاصي المجاهر بمعصيته، لكن
صار نسج الكلام وجلب الروايات والنقول في " هجر المبتدع "، لأن ضرره أعظم
وخطره أشد، كما مر بك في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-،
ويأتي له نظائر إن شاء الله تعالى.
وتجد رؤوس المعتبرات في هذه الرسالة على ما يلي:
1 -
مقاصد الإسلام في الهجر.
2 -
أنواعه.
3 -
شروطه.
4 -
صفته.
5 -
منزلة هجر المبتدع من الاعتقاد.
6 -
الأدلة العلمية من الكتاب والسنة والإجماع.
7 -
إعمال الصحابة فمن بعدهم له في مواجهة المبتدع.
8 -
ضوابط الهجر في الشرع.
9 -
عقوبة من والى المبتدعة.
10 -
التحذير من إشاعة البدعة.
فاللهم (ارزقنا هدياً قاصداً)[8] و (جنِّبنا منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء) .
المبحث الأول
مقاصد الإسلام في الهجر:
فوائد الهجر للمبتدع التي قصدها الشرع كثيرة، منها ما يعود إلى الهاجرين
القائمين بهذه الوظيفة الشرعية العقدية، ومنها ما يعود إلى المهجور وإلى عامة
المسلمين، وإلى حماية السنن من البدع والأهواء، فالهجر الشرعي ومنه (هجر
المبتدعة) : عقوبة زجرية متعددة الغايات والمقاصد الشرعية المحمودة، وهي على ما يلي:
1 -
أن (الزجر بالهجر) عقوبة شرعية للمهجور، فهي من جنس الجهاد في
سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا، وأداء لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، تقرباً إلى الله تعالى بواجب الحب والبغض فيه سبحانه وتعالى.
2 -
بعث اليقظة في نفوس المسلمين من الوقوع في هذه البدعة وتحذيرهم.
3 -
تحجيم انتشار البدعة.
4 -
قمع المبتدع وزجره، ليضعف عن نشر بدعته، فإنه إذا حصلت
مقاطعته والنفرة منه بات كالثعلب في جحره.
أما معاشرته ومخالطته، وترك تحسيسه ببدعته: فهذا تزكية له، وتنشيط
وتغرير بالعامة، إذ العامي مشتق من العمى، فهو بيد من يقوده غالباً، فلابد إذاً من
الحجر على المبتدع استصلاحاً للديانة وأحوال الجماعة، وهو ألزم من الحجر
الصحي لاستصلاح الأبدان.
وبعد أن نقل الشاطبي -رحمه الله تعالى- بعض الآثار في النهي عن توقير
المبتدع، قال:
(فإن الإيواء يجامع التوقير، ووجه ذلك ظاهر، لأن المشي إليه والتوقير له تعظيمٌ له لأجل بدعته، وقد علمنا أن الشرع يأمر بزجره وإهانته وإذلاله بما هو أشد من هذا، كالضرب والقتل، فصار توقيره صدوداً عن العمل بشرع الإسلام.
وإقبالاً على ما يضاده وينافيه، والإسلام لا ينهدم إلا بترك العمل به والعمل بما
ينافيه.
وأيضاً فإن توقير صاحب البدعة مظنة لمفسدتين تعودان بالهدم على الإسلام:
أحدهما: التفات العامة والجهال إلى ذلك التوقير، فيعتقدون في المبتدع أنه
أفضل الناس، وأن ما هو عليه خير مما عليه غيره، فيؤدي ذلك إلى اتباعه على
بدعته دون اتباع أهل السنة على سنتهم.
والثانية: أنه إذا وقر من أجل بدعته صار ذلك كالحادي المحرض له على
انتشار الابتداع في كل شيء.
وعلى كل حال فتحيا البدع وتموت السنن، وهو هدم الإسلام بعينه اهـ[9] .
5-
إعطاء ضمانة للسنن من شائبة البدع ومداخلتها لصفاء السنن. والله أعلم.
المبحث الثاني
أنواع الهجر: وهى ثلاثة:
الأول: الهجر ديانة، أي:(الهجر لحق الله تعالى) وهو من عمل أهل
التقوى، في: هجر السيئة، وهجر فاعلها، مبتدعاً أو عاصياً.
وهذا النوع من الهجر للفجار على قسمين:
1 -
هجر ترك: بمعنى هجر السيئات، وهجر قرناء السوء الذين تضره
صحبتهم إلا لحاجة أو مصلحة راجحة.
قال الله تعالى: [والرُّجْزَ فَاهْجُرْ]، وقال سبحانه: [واهْجُرْهُمْ هَجْراً
جَمِيلاً] . وقال تعالى: [وإذَا رَأَيْتَ الَذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى
يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وإمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ
الظَّالِمِينَ] [10] .
وقال تعالى: [وقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أَنْ إذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا
ويُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إنَّكُمْ إذاً مِّثْلُهُمْ] ، وفي
الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه) .
2 -
هجر تعزير: وهذا من العقوبات الشرعية التبصيرية التي يوقعها المسلم
على الفجار كالمبتدع، على وجه التأديب، في دائرة الضوابط الشرعية للهجر،
حتى يتوب المبتدع ويفيء.
وهذا القسم هو الذي تدور عليه الأبحاث في هذه الرسالة المباركة.
وهذا النوع بقسميه من أصول الاعتقاد، والأمر فيه أمر إيجاب في أصل
الشرع، ومباحثه في كتب السنن والتوحيد والاعتقاد وغيرها.
تنبيه: في هجر الكافر:
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-:
(قال الطبري: قصة كعب بن مالك أصل في هجران أهل المعاصي، وقد
استشكل كون هجران الفاسق أو المبتدع مشروعاً ولا يشرع هجران الكافر، وهو
أشد جرماً منهما لكونهم من أهل التوحيد في الجملة.
وأجاب ابن بطال: بأن لله أحكاماً فيها مصالح للعباد وهو أعلم بشأنها وعليهم
التسليم لأمره فيها، فجنح إلى أنه تعبد لا يعقل معناه.
وأجاب غيره: بأن الهجران على مرتبتين: الهجران بالقلب، والهجران
باللسان، فهجران الكافر بالقلب وبترك التودد والتعاون والتناصر لا سيما إذا كان
حربياً، وإنما لم يشرع هجرانه بالكلام لعدم ارتداعه بذلك عن كفره، بخلاف
العاصي المسلم فإنه ينزجر بذلك غالباً، ويشترك كل من الكافر والعاصي في
مشروعية مكالمته بالدعاء إلى الطاعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما
المشروع ترك المكالمة بالموادة ونحوها " اهـ[11] .
والظاهر ما قاله النووي -رحمه الله تعالى- من أن للمسلم هجر الكافر من
غير تقييد [12] ، لما هو معلوم من الأصل الشرعي العام من تحريم موالاة الكفار،
والتحذير من موادتهم وتعظيم ما يؤدي إلى ذلك، ونصب الأسباب الموصلة إلى
ظهور المسلم عليهم كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم قال: " لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم
في طريق فاضطروهم إلى أضيقه " رواه أحمد ومسلم وغيرهما. والنصوص في
تحريم موالاة الكافرين من الكتاب والسنة وآثار السلف كثيرة مشهورة، والله أعلم
[13]
.
- يتبع -
(1) انظر: فتح الباري 6 / 58 2، 263.
(2)
السلسلة الصحيحة برقم / 956، وصحيح الجامع الصغير برقم / 8035.
(3)
عن " مذهب الإنسانية " انظر: مذاهب فكرية معاصرة لمحمد قطب: 589 - 604، وفي: معجم المناهي اللفظية، حرف الألف، ومقدمة طه العلواني لكتاب: النهي عن الاستعانة والاستنصار في أمور المسلمين بأهل الذمة والكفار، لمصطفى الوارداني.
(4)
هذه القاعدة مبحوثة في كتب الاعتقاد، وقد أفردت بمؤلفات منها: تحفة الإخوان للشيخ حمود التويجري، سبيل النجاة، للشيخ حمد بن عتيق، الولاء والبراء، للشيخ محمد سعيد القحطاني، الموالاة والمعاداة للشيخ محمد الجلعود، الولاء والبراء للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، وخمستها مطبوعة.
(5)
للسيوطي رسالة باسم (الزجر بالهجر) ولم أقف عليها، وللشيخ محمد الزمزمي بن محمد الصديق الغماري رسالة باسم:" إعلام المسلمين بوجوب مقاطعة المبتدعين والفجار والظالمين " طبعت بتطوان بلا تاريخ، رد بها على أخيه عبد الله في رسالته:(القول المسموع في بيان الهجر المشروع) ، وكان الزمزمي قد قاطع آخاه عبد الله لما لديه من الدعوة إلى القبوريات وإلى بناء المساجد على القبور، وخدمة زاوية أبيه، في سلسلة يطول ذكرها من البدع المضلة، فبلغت الصورة الغضبية مبلغها من عبد الله فألف رسالة:(النفحة الزكية) هجر فيها دلالة النصوص على الهجر، وخرق إجماع الأمة عليه، وهي من الباطل الذي لا يلتفت إليه، والله الهادي إلى سواء السبيل.
(6)
ما أحسن ما قاله الحربي أبو اسحاق -رحمه الله تعالى-: من لم يؤمن بالقدر لم يتهنَّ بعيشه انظر: ولاية الله للشوكاني /396.
(7)
الفتاوى 28 /231 232.
(8)
اقتباس من حديثين مرفوعين رواهما ابن أبي عاصم في " السنة " برقم / 13، 95، وانظر: ظلال الجنة 1/12، 46.
(9)
الاعتصام 1 / 114.
(10)
الفتح 28 / 211 - 213، 216 - 217، 203، فتح الباري 10 / 497 الترغيب والترهيب 3/ 454 - 462، الدرر السنية 4 / 216 -208.
(11)
فتح الباري 10 / 497.
(12)
فتح الباري 10 / 496.
(13)
انظر: تحفة الإخوان، فهو مهم في هذا، والدرر السنية 4 / 135، 140 - 143، 20، 208 - 216، ومن النظر فيها يتبين أن ما استشكله الطبري غير مشكل والله أعلم.