الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثبات على دين الله
-2
-
محمد صالح المنجد
التربية: التربية الإيمانية العلمية الواعية المتدرجة عامل أساسي من عوامل الثبات.
التربية الإيمانية: التي تحيي القلب والضمير بالخوف والرجاء والمحبة،
المنافية للجفاف الناتج من البعد عن نصوص القرآن والسنة، والعكوف على أقاويل
الرجال.
التربية العلمية: القائمة على الدليل الصحيح، المنافية للتقليد والإمعية الذميمة.
التربية الواعية: التي تعرف سبيل المجرمين، وتدرس خطط أعداء الإسلام، وتحيط بالواقع علماً، وبالأحداث فهماً وتقويماً، المنافية للانغلاق والتقوقع على
البيئات الصغيرة المحدودة.
التربية المتدرجة: التي تسير بالمسلم شيئاً فشيئاً، ترتقي به في مدارج كماله بتخطيط موزون، والمنافية للارتجال والتسرع والقفزات المحطِّمة.
…
ولكي ندرك أهمية هذا العنصر من عناصر الثبات، فلنعد إلى سيرة رسول
الله صلى الله عليه وسلم ونسائل أنفسنا: ما هو مصدر ثبات صحابة النبي -
صلى الله عليه وسلم في مكة إبَّان فترة الاضطهاد؟ كيف ثبت بلال وخباب
ومصعب وآل ياسر وغيرهم من المستضعفين وحتى كبار الصحابة في حصار
الشِّعب وغيره؟ هل يمكن أن يكون ثباتهم بغير تربية عميقة من مشكاة النبوة ثقَّلت
شخصياتهم؟ لنأخذ رجلاً صحابياً مثل: خباب ابن الأرت رضي الله عنه الذي
كانت مولاته تُحْمي أسياخ الحديد حتى تحمَر، ثم تطرحه عليها عاري الظهر فلا
يطفئها إلا ودك (شحم) ظهره حين يسيل عليها، ما الذي جعله يصبر على هذا كله؟
و" بلال " تحت الصخرة في الرمضاء، و " سميَّة " في الأغلال والسلاسل
…
وسؤال منبثق من موقف آخر في العهد المدني، من الذين ثبتوا مع النبي -صلى
الله عليه وسلم- في حنين لما انهزم أكثر المسلمين؟ هل هم مسلمة الفتح الذين
خرج أكثرهم طلباً للغنائم، وحديثو العهد بالإسلام؟ كلا
…
إن غالب من ثبت هم
أولئك الصفوة المؤمنة التي تلقت قدراً عظيماً من التربية على رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-، لو لم تكن هناك تربية تُرى هل سيثبت هؤلاء؟
ثامناً - الثقة بالطريق:
لا شك أنه كلما ازدادت الثقة بالطريق الذي يسلكه المسلم كان ثباته عليه أكبر
…
ولهذا وسائل منها:
- استشعار أن الصراط المستقيم الذي تسلكه ليس جديداّ ولا وليد قرنك
وزمانك، وإنما هو طريق عتيق [1] ، قد سار فيه من قبل من الأنبياء والصديقين
والعلماء والشهداء والصالحين، فتزول غربتك، وتتبدل وحشتك أُنساً، وكآبتك
فرحاً وسروراً، لأنك تشعر بأن أولئك كلهم أخوة لك في الطريق والمنهج.
- الشعور بالاصطفاء، قال الله عز وجل: [الحَمْدُ لِلَّهِ وسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ
الَذِينَ اصْطَفَى] [النمل: 59] ، [ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا]
…
[فاطر: 32]، [وكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ويُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ] [يوسف: 6]
وكما أن الله اصطفى الأنبياء؛ فللصالحين نصيب من ذلك الاصطفاء وهو: ما
ورثوه من علوم الأنبياء.
ماذا يكون شعورك لو أن الله خلقك جماداً، أو حيواناً، أو كافراً ملحداً، أو
داعية إلى بدعة، أو فاسقاً، أو مسلماً غير داعية لإسلامه، أو داعية في طريق
متعدد الأخطاء؟
ألا ترى أن شعورك باصطفاء الله لك؛ وأن جعلك داعية من دعاة أهل السنة
والجماعة من عوامل ثباتك على منهجك وطريقك؟
تاسعاً - الالتفاف حول العناصر المثبتة:
تلك العناصر التي من صفاتها ما أخبرنا به عليه الصلاة والسلام: (إن
من الناس ناساً مفاتيح للخير مغاليق للشر) [2] .
البحث عن العلماء والصالحين والدعاة المؤمنين، والالتفاف حولهم معينٌ كبير على الثبات، حتى قال بعض السلف: ثبَّت الله المسلمين برجلين: (أبي بكر) يوم
الردة، و " الإمام أحمد " يوم المحنة.
وهنا تبرز الأخوة الإسلامية كمصدر أساسي للتثبيت، فإخوانك الصالحون هم
العون لك في الطريق، والركن الشديد الذي تأوي إليه؛ فيثبتونك بما معهم من آيات
الله والحكمة
…
الْزمْهم وِعِش في أكنافهم، وإياك والوحدة فتخطفك الشياطين.
عاشراً - الثقة بنصر الله وأن المستقبل للإسلام:
نحتاج إلى الثبات كثيراً عند تأخر النصر، حتى لا تزل الأقدام بعد ثبوتها.
قال تعالى: [وكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ ومَا ضَعُفُوا ومَا اسْتَكَانُوا واللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * ومَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلَاّ أَن قَالُوا
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى القَومِ الكَافِرِينَ *
فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ] [ال عمران: 146-148] .
ولما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يثبت أصحابه المعذبين
أخبرهم بأن المستقبل للإسلام في أوقات التعذيب والمحن؛ فماذا قال؟
جاء في حديث خباب عند البخاري: (ليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير
الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه) [3] .
فعرْض أحاديث البشارة بأن المستقبل للإسلام على الناشئة مهمٌّ في تربيتهم
على الثبات.
حادي عشر- معرفة حقيقة الباطل وعدم الاغترار به:
في قول الله عز وجل: [لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَذِينَ كَفَرُوا فِي البِلادِ]
…
[ال عمران: 196] تسريةٌ عن المؤمنين وتثبيت.
وفي قوله عز وجل: [فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً][الرعد: 17] عبرةٌ
لأولي الألباب في عدم الخوف من الباطل والاستسلام له.
ومن طريقة القرآن فضحُ أهل الباطل وتعريةُ أهدافهم ووسائلهم [وكَذَلِكَ
نُفَصِّلُ الآيَاتِ ولِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ] [الأنعام: 55] ، حتى لا يؤخذ
المسلمون على حين غرة، وحتى يعرفوا من أين يؤتى الإسلام، وكم سمعنا ورأينا
حركات تهاوت ودعاة زلت أقدامهم؛ ففقدوا الثبات لما أتوا من حيث لم يحتسبوا
بسبب جهلهم بأعدائهم.
الثاني عشر - استجماع الأخلاق المعينة على الثبات:
وعلى رأسها: الصبر، ففي حديث الصحيحين: (ما أُعطي أحدٌ قط خيراً
وأوسع من الصبر) ، وأشد الصبر: عند الصدمة الأولى، وإذا أصيب المرء بما لم
يتوقع تحصل النكسة ويزول الثبات إذا عُدم الصبر. تأمل فيما قاله ابن الجوزي -
رحمه الله: (رأيت كبيراً قارب الثمانين وكان يحافظ على الجماعة، فمات ولدٌ
لابنته، فقال: ما ينبغي لأحدٍ أن يدعو، فإنه ما يستجيب. ثم قال: إن الله تعالى
يعاند فما يترك لنا ولداً) [4] . تعالى الله عن قوله علواً كبيراً.
لما أُصيب المسلمون في أُحد لم يكونوا ليتوقعوا تلك المصيبة لأن الله وعدهم
بالنصر، فعلمهم الله بدرس شديد بالدماء والشهداء: [أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ
أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ] [آل عمران: 165] .
ماذا حصل من عند أنفسهم:
- فشلتم،
- وتنازعتم في الأمر،
- وعصيتم،
- منكم من يريد الدنيا.
مواطن الثبات:
وهي كثيرة تحتاج إلى تفصيلٍ، نكتفي بسرد بعضها في هذا المقام:
أولاً: الثبات في الفتن:
التقلبات التي تصيب القلوب سببها الفتن، فإذا تعرض القلب لفتن السراء
والضراء فلا يثبت إلا أصحاب البصيرة الذين عمّر الإيمان قلوبهم. ومن أنواع
الفتن:
- فتن المال: [ومِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ولَنَكُونَنَّ مِنَ
الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وتَوَلَّوْا وهُم مُّعْرِضُونَ] [التوبة: 75-
76] .
- فتنة الجاه: [واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ
وجْهَهُ ولا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ولا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا
واتَّبَعَ هَوَاهُ وكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً] [الكهف: 28]
- فتنة الزوجة: [إنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُواً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ] [التغابن:
14] .
- فتنة الأولاد: " الولد مجبنة مبخلة محزنة "[5] .
- فتنة الاضطهاد والطغيان والظلم: ويمثلها أروع تمثيل قول الله -عز
وجل-: [قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الوَقُودِ * إذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وهُمْ
عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * ومَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إلَاّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ العَزِيزِ الحَمِيدِ
* الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ واللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] [البروج: 4-5] .
وروى البخاري عن خباب رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله -
صلى الله عليه وسلم وهو متوسد برده في ظل الكعبة. فقال عليه السلام: (قد
كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها فيؤتى بالمنشار،
فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد، ما دون لحمه وعظمه،
ما يبعده عن دينه
…
) .
- فتنة الدجال: وهي أعظم فتن المحيا: " يا أيها الناس؛ إنها لم تكن فتنة
على وجه الأرض منذ ذرأ الله آدم أعظم من فتنة الدجال
…
يا عباد الله، أيها
الناس؛ فاثبتوا، فإني سأصفه صفة لم يصفها إياه قبل نبيٌّ
…
) [6] .
وعن مراحل ثبات القلوب وزيغها أمام الفتن: يقول النبي -صلى الله عليه
وسلم-: (تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير عوداً عوداً، فأي قلب أُشربها
نكتت في قلبه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى يصير
القلب أبيض مثل الصفا؛ لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود
مُربَّداً كالكوز مُجَخِّياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، إلا ما أُشرب من
…
هواه) [7] .
ثانياً: الثبات في الجهاد:
[يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا][الأنفال: 45] .
ثالثاً: الثبات على المنهج:
[مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ
ومِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ومَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً] [الأحزاب: 23] ، مبادئهم أغلى من أرواحهم، إصرار لا يعرف التنازل
…
رابعاً: الثبات عند الممات:
[إنَّ الَذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلَاّ تَخَافُوا ولا
تَحْزَنُوا وأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ] [فصلت: 30] .
اللهم اجعلنا منهم، اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد،
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
(1) عتيق: صفة مدح، مثل:[وليطوفوا بالبيت العتيق] ، " عليكم بالأمر العتيق ".
(2)
حسن رواه ابن ماجه عن أنس مرفوعاُ صحيح الجامع (9 221) .
(3)
البخاري.
(4)
" الثبات عند الممات " لابن الجوزي.
(5)
صحيح الجامع (7037) .
(6)
رواه ابن ماجه والحاكم عن أبي أمامة صحيح الجامع (7752) .
(7)
رواه أحمد ومسلم عن حذيفة مرفوعاً.
الزيارة بين النساء
على ضوء الكتاب والسنة
خولة درويش
أهمية الوقت لدى المرأة وأضرار إضاعته:
لقد جرت العادة في أكثر بلادنا الشرقية: أن تخصص المرأة فترةَ بعد العصر
لاستقبال صديقاتها، أو زيارتهن على اختلافٍ في طريقة الزيارة أهي دورية منظمة
أم عفوية؟ ، وأياً كانت الحال لا يخلو البيت يومها من إعلان حالة طوارئ فيها.
فاستعدادات فوق العادة، تستنزف الجهد، وتضيع الوقت، وتبعثر المال. وتحول
يوم الاستقبال إلى مباراة بين الأسر فيما يقدم للضيوف، وفي إبراز مظهر البيت
ولباس أهله.
ولو سئلت غالبية النساء عن الهدف من هذه الزيارة؟ لكان أحسن ما يفصحن
به: إنه التلاقي لقتل الوقت والتسلية ودفع السأم والملل عنهن.
ولا أدري هل الوقت إلا عمر الإنسان الذي يسأل عنه؟ ومتى السؤال؟ إنه
يوم الفزع الأكبر.. يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله.
عن أبي بردة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه؟ ، وعن
علمه ما عمل به؟ ، وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ ، وعن جسمه فيما
أبلاه؟) [1] .
ومن السائل؟ إنه رب العالمين الذي خلق الجن والإنس لعبادته لا للهو ولا
للتسلية؛ [لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لَاّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إن كُنَّا فَاعِلِينَ][الأنبياء: 17] .
فماذا نقول لرب العالمين إذا سألنا عن الوقت المهدور الذي إن لم يخل من
المحرمات فلا يخلو من لغو الكلام والثرثرة التي ذمها الرسول -صلى الله عليه
وسلم-: (إن أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني يوم القيامة: الثرثارون المتشدقون والمتفيهقون) ؟ [2] .
ومن أضاع وقته فقد أضاع جزءاً لا يعوض من حياته، وجديرٌ أن تطول
عليه حسرته، وهل الوقت للمرأة وحدها؟ ! أين حق الزوج والأولاد؟ ومتى تؤدي
حقوق مجتمعها وأمتها الإسلامية؟
لمن تترك مهمتها إذا كان همها الخروج من البيت واللهو الفارغ؟ وقد تقول
إحداهن: إنها أدت واجباتها، ظناً منها أن مهمتها محصورة في التنظيف وإرضاء
الزوج والإنجاب، وإن التفتت إلى تربية من أنجبتهم فقد لا يتعدى اهتمامها إطعامهم
وكسوتهم المناسبة ودراستهم المتفوقة.
لا يا أختاه، فأنت مربية الأجيال، وممولة للمجتمع المسلم ببناته من نساء
ورجال، إن واجبي وواجبك التربية الرشيدة لأبنائنا، وإعدادهم إعداداً إسلامياً
يجعلهم قادرين على حمل الأمانة والنهوض بالأمة وبناء المجتمع الفاضل المنشود.
فإن تركتُ وإياكِ أبناءنا والتفتنا للتسلية فقد خلفنا أبناءً هم الأيتام حقاً رغم
وجود أبويهم، إن اليتيم هو الذي تلقى له أماً تخلت أو أباً مشغولاً، بل من فقد
والديه بالموت قد يجد من يشفق عليه ويرعاه ويحنو عليه، أما من فقدهما في اللهو
عنه: فأنى يجد من يرحمه ويفطن لمأساته، فالمرأة المشغولة بنفسها دائماً لن تجد
الوقت الكافي للإشراف على فلذات كبدها وتوجيههم ومتابعتهم والأنس بهم، مما
يساعدها على أداء رسالتها وإرضاء ربها.
صحيحٌ أن الدنيا - هي دار الامتحان - مليئة بالمتاعب والصعاب وفي اللقاء
تسلية ومؤانسة
…
لكن هل التسلية غاية من تشعر أنها على ثغر من ثغور الإسلام،
فلا يؤتى من قبلها؟ أم هي غاية العابثات؟ أمَا وإن الترويح ضروري بين الفينة
والأخرى فليكن على غير حساب الأخريات وأوقاتهن
…
! !
كثيراً ما نشكو من غزو أعدائنا الفكري
…
وأننا مستهدفون محاربون، فهل
أعددنا العدة لمجابهتهم، أو على الأقل هل حصَّنا أنفسنا ضدهم روحياً وثقافياً
لنطالب بالتسلية؟ ولا تنصر الدعوات وتنتشر بالتشكي والأسى.
إن ما نعانيه يوجب علينا أن نراعي واقعنا على أسس إسلامية لنستطيع
النهوض من كبوتنا، وإلا ستبقى آمالنا سراباً وأمانينا حلماً نرجو أن يتحقق،
وهيهات أن يتحقق بدون عمل وجهد وجهاد. [والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا]
[العنكبوت: 69] .
إن العقوبات التي يوقعها الله في أمتنا ما هي إلا لتخاذلنا عن نصرة ديننا وعدم
القيام بواجبنا، والانهزامات التي أصابتنا قد ساهمت بها المرأة من حيث لا تدري،
يوم بدأ دورها ينحسر وتخلت عن القيام بواجبها كما ينبغي في التربية والتنشئة
والتعليم.
وهذه الحقيقة المؤلمة التي تدمي القلب وتحز في النفس، تدفعنا في الوقت
نفسه إلى الاستفادة من أوقاتنا للقيام بمهمتنا التي سنسأل عنها: " المرأة راعية في
بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها " [3] .
فلنقم بواجبنا في تربية رجال وأمهات المستقبل ثم لنلتفت إلى التسلية. هذا
وإن الرسول صلى الله عليه وسلم دلنا على طريقة لإبعاد الهم عن النفس؛ ألا
وهى: توثيق الصلة بالله، نقبل عليه بالطاعات، ونجعل همنا الدار الآخرة، فما
الهم إلا نتيجة الحرص على الفانية.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: " من كانت الآخرة همه: جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته
الدنيا وهى راغمة، ومن كانت الدنيا همه: جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه
شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدِّر له " [4] .
ولقد قال تعالى مبيناً مدى الضيق والضنك، والعيش النكد الذي يكون به
الغافل المعرض عن ذكر الله، وذلك في الدنيا قبل الآخرة: [ومَنْ أَعْرَضَ عَن
ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى
وقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنسَى] [طه: 126]
فلنجعل غايتنا رضا الله تعالى، وسبيلنا اتباع شريعته، عندها: نشعر أنه لا
فراغ يثقل على النفس ويجلب الهم والحزن، بل أوقاتنا معمورة بذكر الله وطاعته،
والحياة كلها تصبح عبادة وقُربة، واستفادة من كل لحظة في حياة الإنسان عملاً
بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل
موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك
قبل فقرك " [5] .
وإن كان ابن الجوزي قد عجب من أهل زمانه وإضاعتهم للوقت فقال:
(رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعاً عجيباً، وإن طال الليل فبحديثٍ لا ينفع أو
بقراءة كتاب فيه غزاة وسمر، وإن طال النهار فبالنوم وهم في أطراف النهار على
دجلة أو في الأسواق نشبههم بالمتحدثين في سفينة وهي تجري بهم وما عندهم خبر، ورأيت النادرين قد فهموا معنى الوجود، فهم في تعبئة الزاد للرحيل، إلا أنهم
يتفاوتون، وسبب تفاوتهم قلة العلم وكثرته بما ينفق في بلد الإقامة) [6] .
فماذا نقول نحن عن الناس في زماننا؟ ! وقد أصبح العبث الفارغ أساس حياة
أكثرهم، والتبرم بالحياة سبباً في أمراض نفسية غريبة، وصار الضيق والهلع من
المجهول شبحاً يطارد ضعاف النفوس والإيمان؟ !
إن أساليبهم في اللهو وإضاعة الأوقات تفوق الخيال: فبعد السهر والسحر
على شتى البرامج في وسائل اللهو الحديثة المحرمة والمباحة، النوم حتى الضحى،
واللهاث بقية النهار للدنيا فقط، وفي أعمال الدنيا.. وكثرة النوم والتناوم هو شأن
الخاملين اللاهين. أما الجادون: فيحرصون على أوقاتهم حرص الشحيح على ماله
أو أشد حرصاً. حقاً: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة
…
والفراغ) [7] .
أيهما أفضل المخالطة أم الانفراد؟
وكأني بك أختي المسلمة تتساءلين: وهل هذا يعني البعد عن الناس وعدم
الاختلاط بهم؟
(إن اختيار المخالطة مطلقاً خطأ، واختيار الانفراد مطلقاً خطأ)[8] ،
والإسلام دين تجمع وألفة، والاختلاط بالناس والتعارف بينهم من تعاليمه الأساسية،
وقد فضل الرسول صلى الله عليه وسلم المسلم الذي يخالط الناس على ذلك الذي
هجرهم ونأى عنهم: (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من
الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم) [9] ، وكيف يكون الإحسان للجيران
والأقارب إلا بمواصلتهم ومعرفة أحوالهم؟
فكم من زيارة دلت على خير في الدنيا والآخرة مسحت بها المسلمة آلام أختها
المصابة، تقوي عزيمتها، تشد أزرها وتدفعها إلى الصبر، تحس عندها حسن
الظن بالله وقرب الفرج، تشاركها أفراحها، تعلمها ما تجهله من أمور الدنيا والدين، تتناصح وإياها وتتشاور لما فيه خيرها وخير المسلمين. أما المخالطة العشوائية
التي لا يأبه لها كثير من النساء: فما هي إلا مظهر من مظاهر انهزام المرأة
وتخاذلها عن القيام بواجباتها الأسرية، وهروب من التبعات المنزلية لتمضي مع
صويحباتها فترة لهو ولغو. وهى حالة مرضية من حيث الهدف والمضمون.
فحري بنا أن نسعى حثيثاً للعلاج قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله. [ويَوْمَ يَعَضُّ
الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا ويْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ
فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إذْ جَاءَنِي وكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإنسَانِ خَذُولاً]
[الفرقان: 27-29] .
ولما للمرأة من مكانة عظيمة في توجيه الناشئة وغرس العقيدة الصافية في
نفوس الأبناء -أجيال المستقبل، كان لابد من محاولة جادة للاستفادة من وقتها وعدم
إضاعته سدى في مجاملات تافهة، ومظاهر فارغة.
لقد كانت المرأة أما وزوجة خير عون على الخير لما تطلعت نحوه، وشر
دافع نحو الخراب والدمار لما سعت إليه. كانت مطية للأفكار الهدامة في القرن
العشرين، وستكون مشعل نور للأجيال إن تمسكت بعقيدتها ودينها.
والله أسأل: أن يجعل هذه المحاولة لبنة تعين الأسرة المسلمة على إكمال
رسالتها، وأن يلهم مسلمة عصرنا رشدها لتعود كسالفتها الصالحة مرشدة لكل خير
وفضيلة.
- يتبع-
(1) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
(2)
أخرجه الترمذي في البر والصلة من حديث جابر وحسنه وهو في المسند 4/193، وانظر شرح السنة 12/367.
(3)
صحيح مسلم بشرح النووي 12 / 213.
(4)
رواه الترمذي / 2583.
(5)
أخرجه أبو نعيم في الحلية مرسلاً، وأخرجه الحاكم 4 / 306 موصولاً ينظر شرح السنة
14/ 224.
(6)
صيد الخاطر / 142.
(7)
رواه البخاري في الرقاق، والترمذي في الزهد.
(8)
فتاوي ابن تيمية 1/426.
(9)
مصنف ابن أبي شيبة 8 / 564.