الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسلمون والعالم
دروس مستفادة من جهاد خطاب
هيثم بن جواد الحداد [*]
إن من رحمة الله بهذه الأمة أن جعلها مستعلية بإيمانها حتى لو توالت عليها
الهزائم، وتكالب عليها الأعداء: [وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم
مُّؤْمِنِينَ] (آل عمران: 139) .
ومن أهم عوامل استعلاء الأمة بإيمانها أن ترى بين أبنائها بين فينة وأخرى
من يعيدون سير الأوائل، ويرسمون معالم التاريخ، عظماء تسير العظمة حيث
ساروا، ويدور النصر حيث داروا.
وحتى يتحقق الوعد الرباني بحفظ هذه الأمة، واستعلائها بإيمانها، يُخرِج الله
لها بين حين وآخر من يجدد فيها حياتها، فيكون منها علماء أفذاذ، وكذلك مجاهدون
أفذاذ.
ومن بين المجاهدين الأفذاذ في هذا العصر المجاهد القائد سامر بن صالح بن
عبد الله السويلم، المعروف (بخطاب) الذي اتخذه الله شهيداً نحسبه كذلك ولا
نزكي على الله أحداً في أوائل شهر صفر من عام 1423هـ من الهجرة وله من
العمر 33 عاماً، نسأل الله أن يرحمه رحمة واسعة، وأن يسكنه فردوسه الأعلى،
وأن يلحقنا به في عليين.
هذه بعض الوقفات السريعة لاستلهام عظات وعبر من حياته، ثم من جهاده:
أولاً: لقد تعرضت الأمة لحرب ضروس على شعيرة من أخص سمات
عقيدتها، شعيرة الجهاد في سبيل الله، هذه الحرب التي جيشت لها كل القوى
المعادية للإسلام، حتى تبناها مسلمون من أهل ديننا، حاولوا بكل وسيلة طمس
معالم هذه الشعيرة في النفوس، ومحوها من حياة المسلمين، فمنعوا تدريس الأحكام
المتعلقة بها في المدارس والمعاهد، وشوهوا حقيقتها، وأسقطوا من حياة العظماء
الجوانب الجهادية من حياتهم، وجندوا بعض المنافقين ممن ينتسب للعلم لتغيير
معانيها وحقائقها.
ثم لم يكتفوا بذلك حتى وصفوا كل من يدعو لها بالإرهابي استجداء لرضى
أعداء الله، وتقرباً منهم؛ كل ذلك تعرضت له هذه الشعيرة على مدى سنوات
متوالية دون كلل ولا ملل، ثم بعد ذلك ترى هذه الأجيال التي نشأت وقد جُففت
منابع الخير عنها، واستبدلت بمنابع الفجور والرذيلة، والسخف، بإعلام ساقط
ماجن يغرس الخنا، ويبعث على حب الدنيا، ويمسخ معاني العزة والإباء في
النفوس، ترى هذه الأجيال تُخرِج من بين أبنائها شخصاً يتمرد على الذل، ويتخلى
عن حياة الدعة والراحة، وتسمو همته إلى العلياء، ويرفع راية الجهاد، ويعيد
غرس معاني العزة في النفوس.
إن أمة تعاني من هذه الجراح، ثم تخرج مثل هذا الشاب ولمَّا يتجاوز
العشرين من عمره، لهي أمة عظيمة، أمة لا تعرف الهزيمة، ولا تقبل الذل، ولن
تذعن للاستسلام.
في زمن مضى كنا نقرأ سيرة أسامة بن زيد لمَّا سيَّره الرسول صلى الله عليه
وسلم لقتال الروم وهو شاب لم يتجاوز العشرين من عمره، فنقول: ذلك أحد
الصحابة الذين رباهم النبي صلى الله عليه وسلم بيده، ورأوا الوحي يتنزل،
وعاشوا في أكناف عظماء الرجال أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
ثم إذا قرأنا سيرة محمد بن القاسم الثقفي الذي قاد جيشاً جراراً فتح به بلاداً
تجاوز مساحتها مساحة أوروبا الغربية، وهو ابن الثامنة عشرة، إذا قرأنا ذلك كله،
فإنما نطالع تلك الأمجاد، وكأنها حلم لا يتوقع أن يتحقق في أرض واقعنا.
فإذا أنجبت أرحام نسائنا في زمن الانكسار هذا بطلاً مثل ذلك المغوار خطاب،
فإنها تثبت للمسلمين أن هذه الأمجاد سرعان ما تعود، وأن سِيَرَ عظمائنا لم
يطوِها التاريخ، وأن جذوة الجهاد ما زالت متوقدة حية في ضمير هذه الأمة، وبين
أبنائها.
التحق خطاب رحمه الله بالجهاد الأفغاني عام 1408هـ وله من العمر
17 عاماً فقط؛ حيث ترك دراسته في شركة أرامكو البترولية التي هي من أكبر
الشركات، والتي يحلم كثير من الشباب بالالتحاق بها، رغبة في الميزات المادية
التي تمنحها لطلابها والدارسين بها، وظل يشارك في الجهاد في أفغانستان حتى
نهاية تلك الحقبة عام 1412هـ، حين رجع خلال تلك الفترة للعلاج من إصابته
أثناء إحدى المعارك الأفغانية. لقد ظهرت طلائع حنكته وبراعته في مدينة لوجر
الأفغانية ولم يكن عمره قد جاوز الثالثة والعشرين، حيث ولي قيادة «سرية أُحُد»
التي أصبحت فيما بعد نموذجاً يحتذى به في سرايا المجاهدين، ثم انتقل بعد ذلك
إلى طاجكستان لمدة سنة واحدة؛ حتى أصيب في إحدى معاركها، وقطع أصبعان
من يده اليمنى بسبب قنبلة يدوية، واضطر للذهاب إلى الشيشان لعلاج يده فاستقر
به المقام والجهاد هناك.
كان رحمه الله يقول: «ماذا نفرق عن صحابة الرسول صلى الله عليه
وسلم؟ هم بشر ونحن بشر: نأكل كما يأكلون، ونشرب كما يشربون؛ ولكنهم
غيَّروا مجرى التاريخ؛ فلا بد أن نغير التاريخ كما غيروا حتى نشبههم وإن كنا لسنا
بمثلهم» .
إن هذا الشعور يعيد لأبناء هذه الأمة ثقتهم بأنفسهم، وبإيمانهم، وبحقيقتهم،
وهذا من أعظم الدروس المستفادة.
ثانياً: إن بروز هذا القائد بهذه الدرجة يعني أن ثمة رجالاً آخرين ساهموا في
نبوغه، وساعدوا على ارتقائه؛ بحيث كانوا يمدونه بكل أنواع الدعم المادي
والمعنوي. وإن معرفة ذلك يبعث العزة في النفس، والثقة بها، والتفاؤل الباعث
على العمل الجاد، وليعلم العالم كله بأنهم إن قتلوا خطاباً، فلنا راياتُ نصرٍ خالدية!
لن تُغمد أسيافها.. وليعلموا أن أرحام نساء هذه الأمة لن تعقم عن إنجاب العظماء،
ولن يتم لهم ما أرادوا وما يريدون [وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ
المُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ] (المنافقون: 8) .
ثالثاً: حينما يرى أبناء هذه الأمة، الشباب منهم خاصة، هذه النماذج
المشرقة في هذه الأيام، حينما يرون شاباً لم يجاوز الثالثة والثلاثين من عمره
رهبته روسيا، بل ربما رهبه العالم كله، عَمَرَ أوقاته كلها بالطاعة، فإما هي
مجالدة للكفار، أو دعوة وتعليم وتربية وتدريب، فإنها تشحذ هممهم وترفع من
طموحاتهم، وترتقي بتطلعاتهم.
قال ابن الجوزي: «من علامة كمال العقل علو الهمة، والراضي بالدون
دنيء» .
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
…
وتأتي على قدر الكرام المكارم
إن ظهور مثل هذه الأمثلة يساهم وبقوة في رفع همة أبناء الأمة، حتى إذا
حصل ذلك كانت الأمة قادرة على رفع راياتها فوق قمم المعالي، وركز ألويتها في
طرق المجد.
لم تشغله مجالدة الأعداء ولا التخطيط لحربهم عن الدعوة إلى الله جل وعلا
وإعداد المجاهدين بالإيمان قبل إعدادهم بالسلاح؛ فها هو يقوم بعمل محاضن دعوية
لتكوين مجموعات دعوية جهادية على النهج الصحيح؛ فأنشأ «معهد القوقاز لإعداد
الدعاة» حيث يلزم كل شخص بالانضمام إليه قبل قبوله في الجهاد، فيخضع لدورة
علمية مكثفة تقارب الشهرين، ثم ما لبث أن تكاثر الناس عليه يريدون العلم والجهاد
حتى وصل عددهم إلى 400 طالب جاؤوا من التتر وداغستان وطاجكستان
وأوزبكستان والأنجوش وغيرها، وهذا هو الذي أفزع روسيا، ثم تطور العمل
فأنشأ رحمه الله داراً لتحفيظ القرآن، ووضع برنامجاً لإعداد الدعاة، وبرنامجاً
آخر لإقامة محاضرات في القرى، ودورة للتعليم الأساسي، ودورة لرفع مستوى
الدعاة، وكما قال رحمه الله: «رأينا أثر هذا العمل على مجاهدين في
تضحياتهم وبذلهم» .
رابعاً: الترفع عن الاختلاف من أجل المصلحة العليا؛ فقد كان رحمه الله
يحذر أصحابه من الخوض فيما يثير الناس في بداية جهاده في كل منطقة، بل
ويمنع أصحابه من الذهاب إلى الأماكن التي تثير حفيظة الصوفية، وكان يكره
الالتحام مع المخالفين ممن ينتسبون إلى الإسلام حتى لا يشغل المسلمين عن عدوهم
المشترك، فكان يمنع التعرض للجماعات السنية بأي سوء حتى لا يحصل التشرذم
والتفرق، ولهذا كان إذا سمع أحداً يخوض في هذا يقول له: «عجباً لبعض الناس
سلم منه الملاحدة والنصارى ولم يسلم منه إخوته المسلمون» .
إن كثيراً من شباب المسلمين اليوم لا همَّ لهم إلا كثرة الحديث، وإشغال النفس
بخلافات سطحية تافهة، والدفاع عن حزب ضد آخر، والانتصار لشيخ، والحط
من قدر آخر، وما نتيجة ذلك إلا طاقات مهدرة، وأوقات ضائعة، عمل قليل،
وكلام كثير، وكأنهم لم يسمعوا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «من كان
يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» ، بل خلافات مستطيرة، وتراجع
في الأمة.
لقد واجه خطاب كثيراً من الحساد، حتى وصفه أحد القادة الصوفيين في
الشيشان بأنه «أمير حرب خبيث» ، بل إن بعض مشايخ الصوفية بعد إخفاقهم في
استثارته وصفوه بأنه وهابي أكفر من اليهود والنصارى، وعندما كان في
طاجكستان حاول أحد القادة الطاجيك التحرش به والإساءة إليه، وحين طلب منه
معاونوه أن يرد عليه طلب منهم أن لا يشغلهم هذا القائد الحاسد عن هدفهم الأهم
وهو قتال الشيوعيين.
هكذا كان نظره البعيد المؤسس على نظرية المصلحة والمفسدة، صحيح أن
خطاباً لم يكن من أهل العلم، لكن توفيق الله جل وعلا ثم فطرته السليمة وأسسه
العلمية، وبُعده عن هوى النفس نحسبه والله حسيبه هو الذي قاده إلى هذا الرأي
الموفق الذي كان له أكبر الأثر في جعل الجهاد الشيشاني مضرب مثل في قلة
النزاعات واتحاد الكلمة، وائتلاف القلوب، وهذا الذي ساهم في تحقيق هذه
الانتصارات على الرغم من قلة العدد والعتاد.
خامساً: سمو الهمة يفعل بصاحبه الأفاعيل: لم تكن نشأة بطلنا الشاب نشأة
فيها كثير من التدين، بل نشأ كما ينشأ كثير من أبناء جيله في هذا الزمن، ذكروا
في سيرته أنه في شبابه اليافع كان يحلم بالسيارات الفارهة، والقصر الكبير،
والوظيفة العالية، ولكن سرعان ما انقلب كل ذلك.
انقلب إلى حياة مشردة بين جبال أفغانستان اليابسة، وسهول الشيشان القارسة،
لا بيت ولا مأوى، لا سيارة فارهة، ولا وظيفة عالية.
لقد باع نفسه لله فيما نحسب فكأنه يرى الجنة والنار عياناً، فاشترى الجنة
بكل ما يملك، باع متاع الدنيا كلها.
إنه الإيمان إذا تحركت شعلته في القلب، أوجد ناراً متأججة تتطلع إلى
الفردوس الأعلى، فتسترخص كل شيء في سبيل ذلك: [إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ
المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً
عَلَيْهِ حَقاًّ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ
الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ] (التوبة: 111) .
كان أبيَّ النفس، كريم الخصال، نبيل الطبع، يأبى الضيم، يحنو على
الضعيف، ويساعد المحتاج.
اعتاد في طفولته وشبابه أن ينفق أمواله، حتى عرف بأنه صاحب الجيب
الخالي، وهكذا ظل حتى في أحلك الظروف وأصعبها في مسيرته الجهادية؛ هكذا
هي النفس الكريمة، لا تحتاج إلى كثير جهد لتصحو من غفلتها.
وهذا هو خطاب، سمت به همته، فأدخلته في مصاف قادة الإسلام، حتى
قيل عنه: خالد عصرنا.
ليس من المستحيل على شباب المسلمين أن يخرج منهم آلاف مثل خطاب إذا
أراد الله ذلك، ولكن علينا أن نربي أبناءنا على هذه المعالي، وأن لا نيأس، بل
نغرس جذوة الإيمان وحلاوة الشهادة في نفوس أبنائنا.
سادساً: التضحية هي طريق القبول: إن دعوة الإسلام لن تجد آذاناً صاغية
إلا إذا رأى الناس من دعاتها التضحية في سبيلها، فعندئذ سيستمعون، وسيسيرون
في ركب الدعاة المجاهدين؛ أما إذا لم ير الناس إلا الكلام، فلن تنتشر الدعوة،
ولن تجد إلى القلوب سبيلاً.
وهذا من أهم الأسباب التي جعلت الناس يقبلون على خطاب ويحبونه.
قاتل في أفغانستان، ولم نسمع أنه تقاتل مع أحد الأفغان لخلاف عقدي رغم
انتشار التصوف فيهم، ثم قاتل في طاجكستان التي ساد فيها التصوف، وعندما
وصل للشيشان دعاهم للصلاة والزكاة وقراءة القرآن، ولم يدعهم إلى أي مسألة
عقدية، فلما تمكن هناك وصار حبه في قلوب الناس أنشأ المعاهد العلمية لتعليم
العقيدة الصحيحة.
هل أقبل الناس على أحمد بن حنبل إلا بعد أن ثبت في المحنة، وهل أصبح
شيخ الإسلام شيخاً للإسلام إلا بعد أن جاهد بنفسه في ساح الوغى، وألقي في
غياهب السجون مرات عديدة، وفي الأمة علماء كثيرون طواهم التاريخ لم يصنعوا
لهذه الأمة مجداً، ولم يزيحوا عنها ظلماً.
سابعاً: لا سبيل للتفاوض مع أعداء الله، ولا يمكن أن يجلس المجاهدون مع
قتلة المسلمين على مائدة واحدة لكي يخرجوا بقرارات وهمية يذوب أثرها قبل أن
يجف حبرها وهذا الدرس يُقَدَّمُ لإخواننا المرابطين في فلسطين، بل للمرابطين في
كل بقعة يذكر فيها اسم الله جل وعلا. يقول خطاب رداً على احتمال التفاوض مع
الروس: «لم نناقش هذا الأمر أبداً وليس لدينا وقت له، لا يفكّر المجاهدون في
المفاوضات كما قال شامل باساييف: سوف يكون كل شيء طبقاً للشريعة، وأي
شيء يكون هكذا سيتقبله المجاهدون، وأيّ شيء ضدّه لن يقبل، إذا غادرت
جيوشهم أرضنا كان ذلك ممكنا، لكن بينما تكون جيوشهم هنا، حتّى على متر واحد
لهذه الأرض، فإن الحرب لن تنتهي» .
وفي مناسبة أخرى قال خطاب: «لقد حاول القادة الميدانيون من قبل حل
القضية بطرق المفاوضات طبقاً لشروط دولية والنتيجة أن الحرب كانت مستمرة
بشكل آخر ضد الشعب الشيشاني وشباب القوقاز المسلم في داغستان وقرتشاي
وأنغوشيا وسائر الجمهوريات، وكما قال أخي شامل باساييف - حفظه الله -: إن
الجميع على قناعة تامة أنه لا يوجد حل إلا بتطبيق الشريعة الإسلامية ومحاكمة
روسيا ومجرمي الحرب فيها ولو بعد حين» .
هذه بعض الدروس المستفادة [**] بإيجاز شديد، نسأل الله الكريم أن ينفع بها
المسلمين، وأن يحيي بها في نفوس الأمة حب الجهاد والاستشهاد.
(*) المشرف الثقافي بالمنتدى الإسلامي - لندن.
(**) تمت الاستفادة في المعلومات التاريخية من موقع «مفكرة الإسلام» على شبكة الإنترنت.