الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذه هي الوسطية
رؤية حقيقية لا أوهام متخيلة
د. علي بن عبد الله الصياح
الوسطية أو على الأصح (الوسط) كلمةٌ جميلةٌ جليلة، ولا أدلَّ على ذلك من استعمالها وصفاً لهذه الأمة كما قال ـ تعالى ـ:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] .
وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الوسط بالعدل كما في الحديث الذي أخرجه البخاريّ في صحيحه عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً.
وفي سورة القلم: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم: 28] أي: أعدلهم، وفي سورة المائدة:{فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] أي أعدل.
وقال الشاعر:
هُمُ وسَطٌ يرضى الأنامُ بحكمهم إذا نزلتْ إحدى اللّيالي بمُعظَمِ
أي عدول.
وهذه الوسطية والعدالة متضمنةٌ للخيرية، والاعتدالِ في كلّ شيء. قال الطبري:«إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين؛ فلا هم أهل غلو فيه غلو النصارى الذين غلوا بالترهُّب وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدَّلوا كتاب الله وقتلوا أنبياءهم وكذبوا على ربهم وكفروا به، ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك؛ إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها» (2) .
فتبين أنّ الوسطية والتوسط في الدين هي: كل حق بين باطلين من الاعتقادات والأعمال والأخلاق.
فمن سلَّم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وعمل بما ورد في القرآن وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من العقائد والشرائع فهو من أهل هذه الوسطية والاعتدال والخير، وكلّ من تعدى حدود الشرع أو قصَّر عن القيام بها فقد خرج عن دائرة الوسطية بحسب عدوانه أو تقصيره.
ومما ينبغي التفطُّن له خطأ ما انتشر في الكتابات المعاصرة من جعل «الوسطية» حالة تقوم على التوفيق بين السنَّة والبدعة، بل بين الكفر والإسلام كما في دعوتي التقريب بين السنة والشيعة، والنصرانية والإسلام التي هي فرع عن الدعوة لوحدة الأديان.
ومن هذه الوسطية الترخصات المذمومة التي أساسها اتباع الهوى بتتبع الأقاويل الشاذة والمخالفة للدليل، والتي قال فيها بعض العلماء:«من تتبع الرخص تزندق» .
ومن أصحاب هذه الوسطية بعض الإعلاميين والمنتسبين إلى الدعوة الذين يعطون الفرصة ـ باسم الحوار ـ لذوي الأقلام المسمومة والأفكار المشبوهة لينفثوا سمومهم وأفكارهم.
ومعلومٌ أن ليس من أسس الدعوة إلى الله ومطالبها استدعاء الشبهات ونشرها بحجة الردّ عليها، بل المطلوب في الدعوة إلى الله - وهو نوعٌ من الجهاد ـ كشف شبهات المبطلين من الكافرين والمبتدعين، ونشر ذلك إذا ظهرت المصلحة.
ودعوى التوفيق منهجٌ قديم سلكه المنافقون أوَّلاً كما قال ـ تعالى ـ: {وَإذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنْ أَرَدْنَا إلَاّ إحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء: 61 - 62] ، ودرج على طريقتهم طوائف من المبتدعة، والمتفلسفة، والجهلة.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وفي هذه الآيات أنواع من العِبَر الدالة على ضلال من تحاكم إلى غير الكتاب والسنة وعلى نفاقه وإن زعم أنه يريد التوفيق بين الأدلة الشرعية وبين ما يسميه هو عقليات من الأمور المأخوذة عن بعض الطواغيت من المشركين وأهل الكتاب، وغير ذلك من أنواع الاعتبار» (4) .
وربما تلتبس هذه الدعوات على بعض الناس فينساق خلفها، فيضل ويُضِل. قال شيخ الإسلام ابن تيمية:«ولا ريب أن كثيراً من هؤلاء قد لا يعلم أنه منافق، بل يكون معه أصل الإيمان، لكن يلتبس عليه أمر المنافقين حتى يصير لهم من السمَّاعين. قال: ـ تعالى ـ: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إلَاّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47] ، ومن المعلوم أن كلام أهل الإفك في عائشة كان مبدؤه من المنافقين، وتلطخ به طائفة من المؤمنين، وهكذا كثير من البدع كالرفض والتجهم مبدؤها من المنافقين، وتلوث ببعضها كثير من المؤمنين؛ لكن كان فيهم من نقض الإيمان بقدر ما شاركوا فيه أهل النفاق والبهتان» (2) .
ومن العجيب أنّ كلاً يدعي الوسطية لنفسه:
فالخارجي يدعي أنّ مذهب الخوارج «وَسَطَ» .
والمرجئي يدعي أنّ مذهب المرجئة «وَسَطَ» .
والعقلاني يدعي أنّ منهجه «وَسَطَ» .
والمفرط يدعي أنّ منهجه «وَسَطَ» .
وربما العلماني ـ وغيره ـ يدعي أنّ منهجه «وَسَطَ» !!.
والوسطية لا تعرف بمجرد الدعوى، وإنما تعرف بالدلائل والبينات.
والدعاوى ما لم يقيموا عليها بينات أبناؤها أدعياء
وإنما تعرف الوسطية الحقة بطاعة الله ورسوله، والتسليم لهما ظاهراً وباطناً. قال ـ تعالى ـ:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65](*) .
(1) معجم مقاييس اللغة (6/ 108) . (2) جامع البيان (2/6) .
(3)
تفسير القرآن العظيم (1/191) .
(1)
إغاثة اللهفان (1/182) . (2) الروح (2/752) .
(3)
شرح العقيدة الطحاوية (ص70) . (4) الفتاوى الكبرى (1/459) .
(5)
العقود الدرية (ص99) . وانظر: الفتاوى الكبرى، (5/12) .
(1)
الصواعق المرسلة (1/341) .
(2)
الفتاوى الكبرى (5/33) .
(*) ومن العجيب أن إحدى الكاتبات قد تجنت على مصطلح (الوسطية) وافترت عليه في مقالة لها في إحدى الصحف بأوهام لا تمت للحقيقة بصلة، وربما لا توجد إلا في ذهنها حينما زعمت أن دعاة الوسطية من العلماء والمفكرين والدعاة هم تلاميذ في مدرسة الإرهاب!! ونعتقد أن هذه الدعوى الباطلة نتيجة طبيعية للجهل؛ وفاقد الشيء لا يعطيه. ونعتقد أن هذه المقالة تفضح ادعاءات تلك الكاتبة ومن يسير على منهجها.