الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شئون العالم الإسلامي ومشكلاته
مشكلة الفرات من نتائج العصبية القومية
-التحرير-
أبلت الصحف والمجلات العربية بلاء حسناً في عرض قضية (نقص المياه)
و (حرب المياه) . وقدمت تحليلات كثيرة حول هذا الموضوع الذي أبرزته
واهتمت به الصحافة العالمية. وأشارت إلى أن الحرب المقبلة التي قد تنشغل بها
الدول العربية فيما بينها، أو فيما بينها وبين جيرانها في المستقبل قد تكون حروباً
على المياه، وأن تركيا تريد أن تسخر موضوع المياه لتحقيق أغراض سياسية
واستراتيجية في المنطقة.
وقدمت هذه الصحف بعض الأرقام الإحصائية التي أصدرتها دول حوض
الفرات عما يمكن أن يكون تصوراً أولياً عن نسبة استحقاق كل دولة من ماء الفرات، وعما تنوي أن تحتجزه تركيا من مائه، وما سمحت بمروره، وعن مستقبل
توزيع الحصص. وهناك ملاحظات حول المعلومات والتحليلات التي تضمنتها هذه
الصحف، ومن ذلك:
1 -
كان هذا الموضوع متشابهاً حيث عرض، وكانت أكثر الصحف تنقل عن
بعضها الأرقام والنتائج المتوقعة، وليس من اختلاف إلا في التلاعب في بعض
الجمل والألفاظ الرابطة، والتي يظن المحررون بسذاجة أنهم - بمهارتهم وحنكتهم
-يستطيعون أن يقنعوا القراء أنهم يحققون سبقاً صحفياً لمطبوعاتهم؛ سواء على
مستوى أهمية القضية وما تمثله في الواقع؛ أو على مستوى تحليلها.
2 -
كل التحليلات العربية تقريباً كانت تتكئ على التحليلات الغربية ونظرتها
المسبقة المغرضة إلى المنطقة، أي تناول القضية وكأنها بنت الواقع الحالي دون
ربطها بقرائنها التاريخية والجغرافية، والنظر إلى أن الحالة الراهنة هي حالة
مطلقة لن يدركها التبديل ولا التحويل.
ولتوضيح ذلك نقول:
إن الأوربيين - مؤرخين، وصحفيين، ومفكرين - لا ينظرون إلى العالم
العربي كوحدة فكرية وتاريخية بينها من الروابط ما بين أقاليم فرنسا، أو بريطانيا،
أو إيطاليا، أو غيرها، بل ينظرون إلى العرب كما يحبون أن يروهم: منقسمين
على أنفسهم، بينهم من الخلافات العميقة التي يستحيل حلها، ولا شيء يجمعهم،
وأن هذه الحدود التي تفصلهم هي حدود أزلية أبدية! وكأنهم ليسوا هم الذين رسموا
هذه الحدود على الورق أولاً، ثم نفذت على الأرض ثانياً، لا العكس - كما هو
الطبيعي في كل البلاد، ما عدا تلك التي فتحها المسلمون؛ أو دخلها وانتشر فيها
الإسلام!
يتجاهل هؤلاء الأوربيون في تحليلاتهم أن الحدود بين العراق والشام،
وبينهما وبين تركيا بل الحدود بين دول المشرق العربي جميعها؛ لم تبرز إلا بعد
اتفاقية سايكس -بيكو عام 1916 وأنها لم تنفذ على هيئتها الحالية تقريباً إلا بعد عام
1920.
إن النظرة التي ينظر بها الأوربيون إلى هذه البلاد هي أنها بلاد كانت مشرعة
الأبواب على مصاريعها، تدخلها الموجات البشرية الغازية من جهاتها الأربع.
وأنهم إذا حدوا لكل رقعة حدوداً، ورسموا لها مجالاً لا تتعداه؛ فقد أسدوا إليها
معروفاً لا ينبغي أن ينكر أو ينسى.
ولكن، هل بقيت كلمة حول قضية المياه لم تطرح؟ أو شيء غامض لم
يكشف عنه الحجاب؟ .
والجواب: نعم، هناك مسألة يمليها التصور القائم على أساس الإسلام،
وتتهرب الصحافة العربية التي تسير على هدي الصحافة الغربية من تناولها من هذه
الزاوية. وسواء كان هذا التهرب جهلاً أو تجاهلاً؛ فالنتيجة واحدة.
هذه المسألة هي مسالة القومية التي استوردناها - عرباً وأتراكاً - من الغرب، فنفخت في أنوفنا، وأعمتنا عن رؤية الحقائق كما هي، وجعلتنا نتعصب للجنس
على حساب الحق، ونبرز الفوارق العنصرية، ونخفي ما نتفق عليه، والذي هو
مبرر عزتنا، وعنوان حضارتنا - وهو الإسلام الذي خرجنا بفضله من الظلمات
إلى النور، وقدمنا عن طريقه إلى العالم شيئاً نعتز به ونفتخر، والذي قد لا تزول
كراهية الغرب بتاتا للعرب وغيرهم من أمم الشرق إذا تخلوا عنه؛ ولكن ستكون
كراهيتهم لهم ما داموا يعتزون به ولا يرضون عنه بديلاً أكثر وأكبر.
إن القضايا الاقتصادية التي تؤثر على العلاقات بين الشعوب لا تعالج معالجة
معزولة عن القضايا النفسية والتاريخية التي توجه هذه الشعوب، ونعني بذلك هنا
قضايا العقائد والمبادئ. هناك عقائد ومبادئ تتصارع على هذه الرقعة من العالم،
هناك قوى ظاهرة تتحرك تحت الشمس، وقوى خفية تتحرك في الظلام، والقوى
الظاهرة والخفية لم تتوقف يوماً عن محاولات العبث في أمن هذه المنطقة المهمة من
العالم، ولا تريد لها أن تهدأ أو تستقر.
لقد نجح الاستعمار وأعوانه أن يصدروا إلينا (النظرية القومية) ، ويغرسوا
العنصرية التي ألوت بمجد العرب والترك، وأضرت بهم محلياً وعالمياً، وجعلتهم
يتسولون القروض والحسنات من الغرب الصليبي والشرق الملحد، وغادرتهم مجرد
صغار لا قيمة لهم، وسلعاً للمساومة لا حول لها ولا قوة.
إن كل نظرية لا بد لها من ثمار ونتائج، وإن هذه الثمار والنتائج تقوم بما
تعطيه من خير لمصلحة أكبر عدد من المنتفعين بها، وخير المعنيين بها مباشرة
وإن العصبية القومية التي مزقت البشرية، وكنا نحن - المسلمين - أشد ضحاياها
غباءً، لما نملك من أسباب الهداية؛ لم تثمر لنا إلا مر الثمر، ولم نجن من ورائها
إلا السراب! نعم، استفاد منها قوم؛ استفاد منها الغرب وأعوانه، واليهود
وأشياعهم، واستفاد منها من يتاجر بآلامنا وفرقتنا، ويراهن على زوالنا واندثارنا.
ماذا ينتظر الذين جروا - ويجرون - وراء الغرب الذي طغى في البلاد،
فأكثر فيها الفساد، ونشر فيها الأوبئة النفسية والجسدية؛ نشر الأفكار الهدامة
كالقومية والمبادئ الباطلة كالشيوعية والوجودية، وضمن حرية التحلل الخلقي
وصدر الإيدز وسائر الأمراض (الإفرنجية) .. ماذا ينتظرون من نتائج لما صنعته
أيديهم التي نفذت خطط (لورانس) ، والتي كانت تهدف - فيما تهدف إليه -إلى دق
إسفين سميك عريض في علاقة العرب والترك، والقضاء على رابطة الدين
الإسلامي التي تجمعهم.
لا شيء ينتظر إلا مزيداً من التمزق والحروب والويلات التي تذهب هذه
الشعوب الإسلامية وما تثمره وتملكه وقوداً لها.
إن العصبية القومية تستمد غذاءها من الجانب المظلم من الإنسان، يل من
الجزء الحيواني فيه؛ من الأثرة، والشح، والحقد، والكراهية، والحسد، ومن
حب التسلط والتفاخر والتعالي على الآخرين بقهرهم.. ومن سائر الأهواء
الشخصية والجماعية.. في حين أن الرابطة الإسلامية رابطة اختيارية متطلعة إلى
الحق، وتستمد شرعيتها من وعي الإنسان بذاته، ومن إدراكه لدوره الذي حده
خالقه له، هذا على المستوى الفردي، أما على المستوى الجماعي؛ فإن الرابطة
الإسلامية هي التي جعلت للعرب دوراً تاريخياً على الأرض، وحملهم هذه الرسالة
إلى العالمين هو الذي يحترمهم من أجله من يحترمهم من أهل الحق، ويكرههم من
أجله من يكرههم من أهل الباطل. وفضلهم يتجلى في تضحياتهم وبلاءاتهم الأولى
التي دخل بسببها من دخل في الإسلام من الشعوب الأخرى. ومن ينكر فضل
العرب في ذلك فهو إما مكابر متعصب؛ أو جاهل يحتاج إلى نصح وتعليم.
على أن كل هذا لا يجوز أن يعطي العرب حق التسلط على غيرهم من
الشعوب وهضمهم وتنقصهم، والنظر إليهم من فوق؛ بل ينبغي للعرب وغير
العرب من المسلمين أن يقولوا: [الحَمْدُ لِلَّهِ الَذِي هَدَانَا لِهَذَا ومَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ
هَدَانَا اللَّهُ] .
إن ما بين العرب والترك من العلائق والروابط الطيبة أكثر بكثير من
الاختلافات التي ضخمها أعداؤهم، ونجحوا في زرع العداوة بسببها بينهم. وإن
علاج مشكلة المياه يكون بإبراز تلك العوائق والروابط والتذكير بها، فالعرب
والترك مسلمون، والعرب والترك كانوا أمة واحدة، هدفها واحد، وعدوها واحد،
وهم الآن متجاورون، لا زال الهدف واحداً، والمصير واحداً، والعدو هو هو.
ولست أدري، بل ولست أعقل: كيف تجتمع دول أوربا على أمور تحرم
علينا نحن المسلمين، ولئن كانت هناك نقاط التقاء بين الطليان الكاثوليك والإنكليز
البروتستانت وبين الألمان البروتستانت والإسبان الكاثوليك.. يجتمعون عليها
ويستثمرونها في تقوية أنفسهم وفيما يعود بالفائدة على شعوبهم؛ أفليس بين العراق
والشام من روابط يبنى عليها؟ ! أليس بيننا - نحن العرب - وبين الأتراك من
العلائق ما بين الأوربيين؟ ! إي والله بل أكثر! ! لو أنصف المتنفذون من هؤلاء
وهؤلاء.
بعد أن تفرق المسلمون إلى قوميات، وانشعبت القوميات إلى وطنيات،
وأشرفت الوطنيات أن تتطاير طائفيات؛ فإن هذا ليس بمقنع أعداءهم، بل لن
ينثنوا عن الانقضاض بكل الوسائل عليهم حتى يستحيل عليهم الخروج مما رموا به.
ومع هذا فإن أخطاء التاريخ قابلة للتصحيح إذا ما صحت العزائم وخلصت
النوايا، ورزقت الأمة برواد تلتف حولهم، فيخرجون بها من الضيق إلى الرحابة،
ومن التبعية إلى امتلاك القرار.
وإذا كان يصعب علينا أن نطالب بوحدة أقطار حوض الفرات - لأن هذا قد
يكون غير واقعي، وإغراقاً في الخيال، وأحلام يقظة - فلا أقل أن تتذكر أن بينها
أرحاماً قطعت ولا يستحيل وصلها؛ وقدراً مشتركاً من العلاقات التاريخية، وبعد
كل ذلك وقبله؛ جواراً أبدياً. وإن مما أمر الله به الإحسان إلى الجار ذي القربى،
والجار الجنب، والصاحب بالجنب.
الجبهة الشعبية
والعبث الأمريكي بالقضية الأرترية
بلال محمد
في الوقت الذي أعلنت فيه الشيوعية إفلاسها عالمياً بدأت القوى الصليبية
بإعادة ترتيب أوراقها للوثوب على مواقع التأثير، وبالذات تلك التي كانت تأمل
العثور على متنفس من خلال وجودها داخل القفص الماركسي الحديدي.
وحيث إن النظام الإثيوبي كان أحد الذين أووا إلى الكهف الشيوعي منذ
صعوده إلى سلم القيادة قرر أن يجعل من بلاده بؤرة المد الشيوعي وموطناً لنفوذها
الأمر الذي مكنه من تلقي الدعم السوفياتي بعناية فائقة للقضاء على من أسماهم
بالانفصاليين المتمردين في شمال البلاد.
وبعد أن كان الروس في سابق عهدهم ينعتون ارتباط أرتريا بإثيوبيا فدرالياً
وأنه تم برضى أحد الطرفين، دون الالتفات إلى رغبة الآخر، غيروا من سياستهم
وأبدوا صفحة الغدر فأدانوا حركة التحرر الإرترية رغم تلويحها بالشعارات
الماركسية ووصفتها (برافدا) عام 1987 بالإمبريالية التي تهدف إلى إضعاف
إثيوبيا وحرمانها من منافذ البحر الأحمر.
وقالت: إنه في هذه الظروف تورط الانفصاليون الإرتريون في لعبة يلعبها
الآخرون وإنهم يساهمون موضوعياً في تنفيذ المخططات الإمبريالية..
إلا أن فشل نظام (الدرق) الإثيوبي في سحق المقاومة الإرترية بالسلاح
الروسي أوصل السوفيات إلى قناعة تامة بأن الحسم العسكري غير ممكن لإحلال
السلام، وإن طريق السلام في إثيوبيا سيبقى مسدوداً ما لم يتم التفاوض مع القوى
الإرترية، وعليه أظهر الروس فتورهم وهبوط حماسهم ومارس جورباتشوف
ضغوطاته على منجستو للتخلي عن عنجهيته العسكرية والنزول إلى ساحة الواقع.
وفي ذات الوقت أخذ الجيش الإثيوبي يشهد موجات من التبرم من مواصلة
الحرب في إرتريا، وصار ينادي بالبحث عن بدائل أخرى لحل الأزمات الإرترية،
وتزايدت في وسطه حركات التذمر، وخلايا المعارضة السرية حتى قام في عام
1988 بمحاولة انقلاب فاشلة على منجستو.
وإثر هذه المحاولة لم يجد قائد الدرق بداً من طرح القضية الإرترية على
بساط منظمة الوحدة الإفريقية ولأول مرة في التاريخ بعد أن ظل مجرد الحديث
حولها محرماً بوضعها تحت بند عدم التدخل في الشئون الداخلية، طالب منجستو
زعماء الكتلة الإفريقية مساعدته في حل القضية الشائكة، التي استنزفت اقتصاده،
وبهذا تكون القضية الإرترية وضعت قدميها على منعطف جديد.
إلا أن الشيء الذي يستدعي وقفة تأمل هو عودة أمريكا وللمرة الثانية إلى
العبث بالقضية الإرترية لصالح القوى الصليبية العالمية، فقد أخذت أمريكا في
الآونة الأخيرة تبدي اهتماماً بالغاً بالقضية حيث أجرت عدة اتصالات ببعض الرموز
الإرترية عبر أحد رؤسائها السابقين (جيمي كارتر) ولأمر في نفسها أناطت المهمة
برجل كامب ديفيد الذي أسعف المنطقة بزياراته المتكررة ولقاءاته العديدة التي
نظمها مع العناصر الصليبية في كل من إرتريا، والسودان، وإثيوبيا.
وهكذا ظهر كارتر فجأة ليكون وسيطاً بين نظام منجستو والجبهة الشعبية
الإرترية وبالفعل تم عقد لقاء بينه وبين الأمين العام للجبهة الشعبية إسياس أفورقي
في العاصمة السودانية الخرطوم بتاريخ 19، 22 أبريل 1989 وذلك عقب عودته
من أديس أبابا عاصمة إثيوبيا.
وبهذه السرعة انقلبت أمريكا رأساً على عقب من قمة جفائها وغلظة عدائها
للشعب الإرتري وبعد أن جعلت في أذنها وقراً عن سماع مطالبه منذ اندلاع ثورته
إلى وسيط يؤرقه مآسيه ويسعده إسداء المعروف إليه.
كما أن الجبهة الشعبية الإرترية التي عودتنا التنديد بمواقف الولايات المتحدة
وسائر القوى الإمبريالية من القضية الإرترية أصبح الوجه الأمريكي منذ حلول
الثمانينات من أحب الوجوه إليها فأخذت تتبنى مواقف سياسية مباينة بنهجها
الماركسي وهذا لا يعني إلا أن العناية الأمريكية وبعد دقة ودراسة متأنية طبعاً وقع
اختيارها بالدرجة الأولى على الجبهة الشعبية الإرترية فمنحتها المباركة الرسمية
لتلج مؤسساتها السياسية، ومن ثم سهل على قيادة الجبهة الشعبية التردد بين الحين
والآخر على الولايات المتحدة للتعبير من خلال منابرها السياسية عن آراء تنظيمها
وتوجهه الجديد.
وباتت اللقاءات التي تعقدها قيادة التنظيم تحظى بقدر كبير من اهتمام
المسئولين الأمريكان وتشهد حضورهم ومتابعتهم، ففي ظل رعاية أعضاء من
وزارتي الخارجية والدفاع بالإضافة إلى عدد من السفراء والصحفيين والكتاب
وأعضاء المؤسسات الأمريكية الكبرى عقد الأمين العام إسياس أفورقي لقاء في 3
مايو 1989 بمركز الدراسات الإستراتيجية والدولية بواشنطن، ومُكن في مدينة
سان فرنسيسكو من اللقاء بمنظمة (نادي كومنولث) حيث خاطب ما يربو على
مائتين وخمسين شخصاً بمقر النادي ونقل حديثه هذا عبر موجات الأثير إلى كل
أنحاء مدينة سان فرنسيسكو وضواحيها وعكست صداه أكثر من مائتين وتسع
وسبعين محطة إذاعية في الولايات المتحد ة [1] .
وأخيراً كلل هذا النشاط بلقاء أتلانتا [2] التمهيدي بولاية جورجيا بين وفد
الجبهة الشعبية برئاسة الأمين محمد سعيد، والوفد الإثيوبي برئاسة (أشاقري) والذي تمخض عنه لقاء نيروبي [3] وهو اللقاء الذي تم فيه الاتفاق على اختيار
نيريري رئيس تنزانيا السابق نائباً للرئيس الأمريكي جيمي كارتر في الإشراف على
سير المفاوضات.
ولكن السؤال الجدير بالطرح هنا: لماذا كانت الجبهة الشعبية هي الفصيل
الذي وقع عليه اختيار الإدارة الأمريكية دون غيره؟ .
فيما أحسب ليس لدي كثير من الإرتريين والمهتمين بأوضاع الساحة الإرترية
جواب أكثر من أن يقال: إن الثقل العسكري الذي تمثله الجبهة الشعبية في الساحة
الإرترية أهّلها لأن تتبوأ مكانها المناسب في قضية السلام الأمريكى، وهذه الرؤية
وإن كانت تمثل جزءاً من الحقيقة فإنها ليست كل الحقيقة، وحتى هذه الجزئية منها
ما كان لها أن تكون إلا بعد أن رأت القوى الصليبية العالمية أن تجعل من الجبهة
الشعبية الفصيل الذي لا منافس له، وذلك بالدعم الإعلامي والعسكري الذي أغرقت
به ساحة التنظيم [4] ، وحين انفرد لها بالساحة وخلا بها وحيداً أتته مهرولة تتكئ
عليه في تنفيذ مخططها الرامي إلى بسط الهيمنة الصليبية في البحر الأحمر، فهي
تدرك تماماً أهمية موقع إرتريا الذي يطل على قاعدة عريضة من البحر الأحمر،
ومن ثم رأت ضرورة إيجاد حليف لها يؤمن مصالحها ويتحرك وفق وحيها لا سيما
وأن المنطقة تشهد تمدداً إسلامياً، وحيث إن الهيمنة الإسلامية على إرتريا تؤكد
هوية البحر الأحمر وانتماءه الإسلامي فإن القوى الصليبية ممثلة في الولايات
المتحدة وحلفائها لن تتوانى في إقصائه عن السيطرة الإسلامية.
ولهذا كانت الجبهة الشعبية الإرترية هي اليد التي ارتضت (السي آي إيه)
مصافحتها والعمل على وضع القضية الإرترية بين فكيها، فمنذ وقت مبكر كانت
وكالة الاستخبارات الأمريكية قد زرعت رجالها في قلب الثورة الإرترية عبر
قاعدتها (قانيو ستيشن)[5] في أسمرا، وظلت تتفقد النبتة بالسقاية والحماية حتى
أينع ثمرها، وحان وقت قطافها.
وهكذا انتقلت قضية شعب مسلم إلى إدارة صليبية تتدحرج بين أقدام الثالوث
الصليبي إسياس أفورقي، وكارتر، ونيريري الذي سجل أبشع تاريخ في التنكيل
بالمسلمين العرب في زنجبار.
وكانت أمريكا على يقين من الوصول إلى هذه النتيجة وجني هذه الثمار من
خلال مراقبتها للصراعات الدائرة في القرن الأفريقي، فما انزعجت أصلاً من
التدخل الروسي في القرن الأفريقي لأنها أيقنت بأن الاتحاد السوفياتي سوف يجد
نفسه غارقاً في مشاكل لا طاقة له بها وأنه سيفشل وسيفقد موقعه في إثيوبيا كما فقده
من قبل في مصر والسودان والصومال.
ومن هنا ظلت الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس كارتر تحافظ على علاقتها
بإثيوبيا وتمد نظام (الدرق) بمساعدات عسكرية حتى عام 1977 وحتى إلى ما بعد
77 بقيت العلاقات الاقتصادية بين إثيوبيا والولايات المتحدة قائمة.
وكان من حرص الإدارة الأمريكية على مصالحها في المنطقة، أن أسندت إلى
كارتر مسئولية تأكيد السيطرة الصليبية على البحر الأحمر، ومن هنا رغم إدراكها
بقصور الجبهة الشعبية وعجزها عن تمثيل الشعب الإرتري كله لما تعانيه من عزلة
جماهيرية وقع اختيارها عليها، ومحال أن يكون هذا الاختيار وليد الصدفة ومحض
العفوية بل كان لأمر قد قدر في دهاليز الاستخبارات الأمريكية، وسوف تنجاب عنا
كل غشاوة من شأنها أن تحول دون هذه الرؤية الصحيحة السليمة إذا ما استحضرنا
بيان الخارجية الأمريكية الذي صدر في 11 حزيران يونيو 1977 والذي قال فيه
كارتر نفسه: (إني ميال إلى أن أتحدى بقوة وبطريقة سلمية الاتحاد السوفياتي وآخرين من أجل النفوذ في مناطق العالم التي نشعر أنها أساسية بالنسبة لنا الآن أو أنها قد تصبح كذلك خلال خمسة عشر سنة أو عشرين سنة من الآن) .
إن هذا التحدي كفيل بأن يفسر لنا الغاية التي يهدف إليها تحرك كارتر وإنه
ليس قائماً في وجه السوفيات فحسب، وإنما يتخطاهم إلى غيرهم. ومن ثم إن
عبارة (وآخرين) هي جماع كل قوة تسول لها نفسها مزاحمة الأمريكان في مناطق
النفوذ التي قد تصبح ولو بعد عشرين سنة هامة بالنسبة للأمريكان.
واقتضت الخطة الأمريكية حالياً قص أجنحة التنظيمات الأخرى وتقليم
أظافرها فأغرت حليفها بتصفية كل القوى الإرترية المنافسة والتي تحاول الاقتراب
من الساحة فكان لها ما رأت وأرادت [6]
…
بقي أن ندرك حقيقة أخرى من وهي: إذا كانت الجبهة الشعبية هي الفصيل
الجدير باقتفاء أثر كارتر والسير على خطاه، فإن التنظيمات الأخرى جديرة أيضاً
بأن تلعب الولايات المتحدة الآن على حبالها حسب الحاجة، كما أن إثيوبيا ذاتها
رسم لها أن تستغل نفور الشعب ومعارضته للجبهة الشعبية بإيجاد شرائح من
صنائعها فاستطاعت أن توجد عدداً من رجال الطرب واللهو وطائشي الرأي أطلقت
عليهم ممثلي المنخفضات [7] واستدعت نفراً إلى كينيا لتراهن بهم على أطروحتها
وتوقع الجبهة الشعبية في مأزق حرج.
وأياً كانت الأسباب التي دفعت هذه العناصر إلى الارتماء في أحضان
المخابرات الإثيوبية فإن الأطروحات التي يتبنونها لا تمثل إلا سطراً على حقائق
التاريخ، فما كانت إرتريا يوماً من الأيام جزءاً لا يتجزأ من إثيوبيا، ولم تكن
الثورة الإرترية وليدة اضطهاد وقع وزال كما يحلو لهؤلاء الاستسلاميين أن يروجوا.
إن بروز هذه الفئة تزامن مع ظهور حركة الجهاد الإسلامي الإرترية وهذا
يوحي إلى أنه يمكن أن يستخدموا كأداة للشعب تكفه عن الالتحاق بالحركة، وذلك
أن غياب الفكر الإسلامي عن الثورة الإرترية في فجر نشوئها إذا كان من أهم
العوامل الأساسية في تحويل مسارها والتلاعب بها تارة من قوى اليسار، وأخرى
من قوى اليمين فإن وجوده الآن ممثلاً في حركة الجهاد الإسلامي الإرترية يجعل من
الصعوبة بمكان استقطاب العنصر المسلم الثائر الواعي لإسلامه والتلاعب بعواطفه. ولا يتأتى هذا في نظرهم إلا حين توضع أمامه هذه الدمى المعممة والتي تحرك
وفق الإرادة الإثيوبية وحلفائها اليهود.
والخلاصة إن منطقة القرن الأفريقي مقبلة على أمر يتعارض مع هويتها
الإسلامية، وإن عودة الولايات المتحدة إلى القضية الإرترية لا يرمي إلا إلى
تطويق الصحوة الإسلامية وإخماد جذوتها المتقدة - لا قدر الله -عبر تمكين عناصر
صليبية إرترية من التحكم بزمام القضية، وكذلك العمل على امتصاص الشعور
الإسلامي المتنامي في أوساط الارتريين بدفع بقية التنظيمات العلمانية التي يتربع
على عرشها أناس لا يحملون من الإسلام إلا اسمه إلى مائدة التفاوض مع إثيوبيا.
(1) انظر مجلة ساقم لسان حال الجبهة الشعبية عدد 23، يونيو 1989م.
(2)
بتاريخ7/9/1989م.
(3)
عقد لقاء نيروبي في 20 نوفمبر 1989 م، وستعقبه جلسات في كل من الخرطوم والقاهرة وتنزانيا وهرارى بزمبابوي.
(4)
تم ذلك عن طريق ما يعرف بالجمعيات الإنسانية وهيئات الإغاثة الأوربية ورجال الصحافة الغربية.
(5)
يقال إن إسياس ذاته كان على اتصال بالقاعدة الأمريكية بأسمرا عن طريق تسفا يوهينس برهي أحد عملاء نظام هيلا سلاسي وحلفائه.
(6)
وقفت حركة الجهاد الإسلامي وحدها بصلابة في وجه سياسة التصفية وعززت وجودها في الساحة - ولله الحمد - بينما لاذ غيرها بالفرار.
(7)
يقول كاسا كيبدا عن هؤلاء: (إن هؤلاء يطالبون بالحكم الذاتي الخاص والمساواة الكاملة في الحقوق الدينية والقومية وقد اتفقنا مع هذه الفتنة واستجبنا لمطالبها) انظر المصدر السابق.