الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خواطر في الدعوة
إنَّه أمر الله
محمد العبدة
كنا نقول في السنوات السابقة: إن المسلمين لا ينقصهم الإخلاص، وإنما جاء
الضعف والتقصير من جانب قلة الصواب ومعرفة سنن الله في التغيير، وهذا
الكلام - بمجمله - مازال صحيحاً، ولكن عند التدقيق سوف نجد أن
الإخلاص أيضاً تشوبه شوائب، ويحول حوله حوائل، من أعظمها حب الرئاسة، هذا الداء العضال الذي أهلك الناس قديماً وحديثاً، حتى قيل إنه آخر داء يخرج من قلوب العلماء، فكيف بالدهماء وأصحاب الأهواء و (مجانين الزعامة) .
وهذا الداء وإن كان غريزة في جميع البشر، إلا أنه قد يكون أظهر وأوضح
في بعض الشعوب والعرب حظهم وافر منه، إلا إذا هذبهم الإسلام وردهم إلى
الاعتدال والجادة المستقيمة، وقد فعل ذلك في الرعيل الأول فظهر أمثال أبي عبيدة ابن الجراح أمين الأمة، والذي لا يهمه إن كان أميراً أو مأجوراً وقد مدح الرسول -
…
صلى الله عليه وسلم ذاك المؤمن في قوله: «طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في
سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة،
وإن كان في الساقة كان في الساقة إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع له» [1]
…
ولذلك قال العلماء: (ما صد عن الله مثل طلب الرفعة، ولا يفلح من شُمت
رائحة الرياسة منه) .
وإذا كان الله سبحانه وتعالى يعطي من هذه الدنيا المؤمن والكافر، وذلك
لهوانها ومنزلتها عنده، ولكنه سبحانه أغير من أن يتم أمره بالتمكين لهذا الدين في
الأرض على يد أناس عندهم شوب في الإخلاص، ويحبون الرئاسة والاستعلاء في
الأرض، فكيف إذا كانوا مشعبذين يتخذون الدين مطية للدنيا، يبيعون دينهم بعرض
قليل، ويسخرون كل شيء لأهوائهم ومطامعهم، فهؤلاء أبعد وأبعد عن التمكين،
لأنه أمر الله ولا يعطيه إلا لمن أحب.
والعجيب أن زعماء الغرب عندما تنتهي مدة رئاستهم يرجعون إلى مكانهم
الأول ويعيشون مع المجتمع كأفراد عاديين، وربما رجع المدرس إلى عمله والتاجر
إلى تجارته، ولا يبحثون عن الرئاسة مرة ثانية، فهل يكون هؤلاء أقل حباً للرئاسة
منا وذلك لما اعتادوه من النظام الذي ارتضوه لأنفسهم، ونحن عندنا كتاب ربنا
يؤدبنا ويهذبنا!
أيكون لغير المسلمين منظمات ومؤسسات استطاعوا من خلالها التعايش بينهم، ولم تنهدم بسبب تسلط واحد منهم، ولا يقوم للمسلمين مثل ذلك، ولا يجتمعون
على صيغة تحل فيها عقد حب الرئاسة، ويتنازل المسلم لأخيه قليلاً حتى تستمر
آصرة التعاون؟
نرجو أن يكون لهم مثل ذلك وخاصة في مثل هذه الأيام.
(1) صحيح البخاري، كتاب الجهاد.
منهج أهل السنة في
النقد والحكم على الآخرين
هشام بن إسماعيل
إن الذي دفعني للكتابة في هذا الموضوع هو عدة أمور:
أولاً: أهمية بيان منهج أهل السنة في النقد والحكم على الآخرين، لكثرة
صدور الأحكام من جهات إلى أخرى دون تحري المنهج السليم في إصدار الأحكام،
مما أدى إلى الوقوع في أخطاء جسيمة في حق الآخرين.
ثانياً: حاجة المجتمع إلى أن تكون عنده قواعد عامة في الحكم على الآخرين، ليكون الحكم بعلم وعدل وإنصاف، يقول ابن تيمية رحمه الله: (لابد أن يكون
مع الإنسان أصول كلية يرد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات
كيف وقعت، وإلا يبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات،
فيتولد فساد عظيم) . [1]
ثالثاً: عظم حرمة المؤمن عند الله تعالى.
رابعاً: الآثار السيئة المترتبة بسبب الانحراف عن هذا المنهج، من بخس
للناس، وتقطيع الأواصر، وحدوث الفرقة، ووقوع الغيبة والحسد والبغضاء،
وغير ذلك من الأدواء الكثيرة، والتي لا تخفى على القارئ لكثرة وقوع هذا الأمر.
القاعدة الأولى
الخوف من الله عز وجل عند الكلام في الآخرين
حرم الله عز وجل الغيبة في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال الله عز وجل: [وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ
مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ] [الحجرات /12] .
وتفسير الغيبة جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أتدرون ما
الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذكرك أخاك بما يكره. قيل: أفرأيت إن
كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد
بهته» [2] .
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن حرمة الأعراض بحرمة يوم
عرفة من الشهر الحرام في البيت الحرام، فقال: «إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم
حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت» [3] .
وعن عبد الرحمن بن غنم يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم: «خيار
عباد الله الذين إذا رؤوا ذكر الله، وشرار عباد الله: المشاءون بالنميمة، المفرقون
للأحبة، الباغون للبرآء العنت» [4] .
ومعنى الباغون للبرآء العنت: أي الذين يحبون أن تقع المشقة للأبرياء،
وغالباً لا يكون هذا إلا عن حسد وحقد.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: «يا معشر من أسلم بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه لا تؤذوا المسلمين،
ولا تعيروهم، ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من اتبع عورة أخيه المسلم، تتبع الله
عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله» [5] .
وقد كان السلف -عليهم رحمة الله - من أشد الناس بعداً عن الغيبة والخوف
منها.
ومن ذلك ما قاله البخاري رحمه الله: سمعت أبا عاصم يقول: منذ أن
عقلت أن الغيبة حرام ما اغتبت أحدا قط [6] .
وقال البخاري رحمه الله: أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت
أحداً قال (الذهبي) : صدق رحمه الله، ومن ينظر في كلامه في الجرح والتعديل،
علم ورعه في الكلام في الناس، وإنصافه فيمن يضعفه
…
حتى إنه قال: إذا قلت: فلان في حديثه نظر، فهو متهم واه، وهذا معنى قوله: لا يحاسبني الله أني
اغتبت أحداً، وهذا والله غاية الورع [7] .
وقال رحمه الله: (ما اغتبت أحداً قط منذ أن علمت أن الغيبة تضر أهلها)[8] .
بل إن المغتاب في الحقيقة يقدم حسناته إلى من يغتابه، حتى إن عبد الرحمن
ابن مهدي رحمه الله قال: (لولا أني أكره أن يعصى الله، لتمنيت أن لا يبقى
أحد في المصر إلا اغتابني، أي شيء أهنأ من حسنة يجدها الرجل في صحيفته لم
يعمل بها) [9] .
وأما ما يفعله بعض من ينتسب إلى الدعوة في هذا الوقت من غيبة الآخرين
بحجة التقويم والإصلاح، فإنه ينبغي لهم قبل أن يتكلموا في غيرهم أن يتدبروا عدة
أمور:
أولاً: يسأل نفسه، ما هو الدافع الحقيقي لكلامه في غيره؟ هل هو الإخلاص
والنصح لله ورسوله وللمسلمين؟ أم هو هوى خفي، أو جلي؟ أم هو حسد
وكراهية له؟ !
فإنه كثيراً ما يقع الأشخاص في غيبة غيرهم بسبب أحد الأمور المذمومة
السابقة، ويظن أن دافعه هو النصح وإرادة الخير، وهذا مزلق نفسي دقيق قد لا
ينتبه له كثير من الناس إلا بعد تفكر عميق وبإخلاص وتجرد لله تعالى [10]
ثانياً: ينظر في هذا الدافع الذي دفعه للكلام في أخيه المسلم، هل هو من
الحالات التي تجوز فيها الغيبة أم لا؟ [11] .
ثالثاً: أن يتأمل كثيراً قبل أن يقدم على الكلام في الآخرين: ما هو جوابي
عند الله تعالى يوم القيامة إذا سألني: يا عبدي فلان لم قلت في فلان كذا وكذا؟
وليتذكر أن الله تعالى يقول: [وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ] [البقرة 235] .
القاعدة الثانية
تقديم حسن الظن بالمسلم
والأصل في هذه القاعدة هو قول الله عز وجل: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا
كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا] [الحجرات 12] .
فأمر الله عز وجل باجتناب كثير من الظن لأن بعض هذا الكثير إثم، وأتبع
ذلك بالنهي عن التجسس، إشارة إلى أن التجسس لا يقع في الغالب إلا بسبب سوء
الظن.
وأمر المسلم - في الأصل - قائم على الستر وحسن الظن به، ولذلك أمر الله
عز وجل المؤمنين بحسن الظن عند سماعهم لقدح في إخوانهم المسلمين، بل وشدد
النكير على من تكلم بما سمع من قدح في إخوانه.
ففي حادثة الإفك، عندما قيل ما قيل، بيّن الله عز وجل الموقف الصحيح
الذي ينبغي لكل مسلم أن يقفه، فقال سبحانه وتعالى: [لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ
المُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ] ثم بيّن سبحانه وتعالى أن
التلفظ بهذا الكلام ونقله أمر عظيم، فقال سبحانه وتعالى: [إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ
وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ (*) وَلَوْلا
إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ] ثم وعظنا الله
عز وجل أن نعود إلى الوقوع في مثل هذا الذنب العظيم فقال: [يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن
تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] .
وقد بيّن سبحانه وتعالى أن مجرد نقل الجرح في الآخرين بلا ضرورة شرعية، وبلا تثبت وروية، أنه إثم، فقال سبحانه وتعالى: [لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ
مِنَ الإِثْمِ] .
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم «كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل
ما سمع» [12] .
وبوب الإمام مسلم في مقدمة الصحيح: باب النهي عن الحديث بكل ما سمع،
وأورد تحته الحديث السابق، كما أورد قول الإمام مالك لابن وهب: اعلم أنه ليس
يسلم رجل حدث بكل ما سمع، ولا يكون إماماً أبداً، وهو يحدث بكل ما سمع.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: لا يكون الرجل إماماً يقتدى به حتى يمسك عن
بعض ما سمع [13] .
وقد أمر الله عز وجل بالتثبت من الأخبار فقال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ]
[الحجرات 6] .
القاعدة الثالثة
الكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل إنصاف
والأصل في هذه القاعدة هو قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ
لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] [المائدة 8]، وقوله عز وجل: [وَلَا تَبْخَسُوا
النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ] [هود85] ونحو ذلك من الآيات.
يقول ابن جرير في آية المائدة: (يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا
بالله ورسوله محمد، ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام لله شهداء بالعدل في أوليائكم
وأعدائكم، ولا تجورا في أحكامكم وأفعالكم فتجاوزوا ما حددت لكم في أعدائكم
لعداوتهم لكم، ولا تقصّروا فيما حددت لكم من أحكامي وحدودي في أوليائكم
لولايتهم لكم، ولكن انتهوا في جميعهم إلى حدي، واعملوا فيه بأمري.
وأما قوله: [وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا]، فإنه يقول: ولا يحملنكم عداوة قوم أن لا تعدلوا في حكمكم فيهم وسيرتكم بينهم، فتجوروا عليهم من أجل ما بينكم من العداوة) [14] .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم، كحال أهل البدع)[15] .
وقال الذهبي في ترجمة الفضيل: (قلت: إذا كان مثل كبراء السابقين قد تكلم
فيهم الروافض والخوارج، ومثل الفضيل يتكلم فيه، فمن الذي يسلم من ألسنة
الناس، لكن إذا ثبتت إمامة الرجل وفضله، لم يضره ما قيل فيه، وإنما الكلام في
العلماء مفتقر إلى وزن بالعدل والورع) [16] .
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام نفيس جداً، يتضح فيه المنهج الصحيح في
الحكم على الآخرين - وخاصة العلماء - إذا أخطأوا حتى في مسائل الاعتقاد،
يقول: (قلت: أبو ذر (يعني الهروي) فيه من العلم والدين والمعرفة بالحديث
والسنة، وانتصابه لرواية البخاري عن شيوخه الثلاثة، وغير ذلك من المحاسن
والفضائل ما هو معروف به، وقد كان قدم إلى بغداد من هراة، فأخذ طريقة ابن
الباقلاني وحملها إلى الحرم، فتكلم فيه وفي طريقته من تكلم، كأبي نصر السجزي، وأبي القاسم سعد بن علي الزنجاني، وأمثالهما من أكابر أهل العلم والدين بما
ليس هذا موضعه، وهو ممن يرجح طريقة الصبغي والثقفي، على طريقة ابن
خزيمة وأمثاله من أهل الحديث، وأهل المغرب كانوا يحجون، فيجتمعون به،
ويأخذون عنه الحديث وهذه الطريقة ويدلهم على أصلها، فيرحل منهم من يرحل
إلى المشرق، كما رحل أبو الوليد الباجي، فأخذ طريق أبي جعفر السمناني الحنفي
صاحب القاضي أبي بكر ورحل بعده القاضي أبو بكر بن العربي، فاخذ طريقة أبي
المعالي في الإرشاد.
ثم إنه ما من هؤلاء إلا له في الإسلام مساع مشكورة، وحسنات مبرورة، وله
في الرد على كثير من الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين، ما
لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وعدل وإنصاف، لكن لما التبس
عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداءً عن المعتزلة، وهم فضلاء وعقلاء، احتاجوا إلى
طرده والتزام لوازمه، فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل
العلم والدين، وصار الناس بسبب ذلك:
ا- منهم من يعظمهم، لما لهم من المحاسن والفضائل.
2-
ومنهم من يذمهم، لما وقع في كلامهم من البدع والباطل.
وخيار الأمور أوساطها.
وهذا ليس مخصوصاً بهؤلاء، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين، والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات ويتجاوز لهم عن السيئات
[رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا
رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ] [الحشر 10] .
ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول -صلى الله
عليه وسلم-، وأخطأ في بعض ذلك، فالله يغفر له خطأه، تحقيقاً للدعاء الذي
استجابه الله لنبيه وللمؤمنين حيث قالوا: [رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا]
[البقرة 286] .
ومن خلال النصوص السابقة؛ نعلم أنه لا يجوز للإنسان أن يتكلم في غيره - إن احتاج إلى ذلك شرعاً - إلا:
1-
بعلم.
2-
وعدل وإنصاف.
فمن تكلم في غيره بغير علم، فهو مخالف للكتاب والسنة ومنهج السلف
الصالح، مخالف لقوله تعالى: [وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ
وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً] [الإسراء 36] .
ومن تكلم في غيره بظلم وجور فقد خالف قوله تعالى: [وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ
قَوْمٍ عَلَى أَلَاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] والكلام في الآخرين بدون علم، أو
بظلم وهوى سبب لكثير من التفرق بالقلوب، وحدوث الشحناء والحسد والتباغض،
بل سبب الفشل وذهاب وحدة الصف وقوته، والله المستعان.
(1) انظر منهاج السنة النبوية (5/83) .
(2)
رواه مسلم 4/2001.
(3)
المصدر السابق 2/886-892.
(4)
أخرجه أحمد 4/227، وعزاه صاحب حصائد الألسن ص 68 إلى صحيح الترغيب والترهيب، باب الترهيب من النميمة، وهذا الجزء لم يطبع.
(5)
صحيح سنن الترمذي (2/200) .
(6)
التاريخ الكبير 4/336.
(7)
سير أعلام النبلاء 12/439.
(8)
المرجع السابق 12/441.
(9)
سير أعلام النبلاء 9/195.
(10)
وللمعلمي في التنكيل 2/180 كلام نفيس جداً عن اتباع الهوى، ذكر فيه بعض مزالق الهوى الخفية.
(11)
وانظر ما ذكره الشوكاني في كتابه: رفع الريبة عما لا يجوز من الغيبة.
(12)
أخرجه مسلم في المقدمة برقم 5.
(13)
المرجع السابق 1/10-11.
(14)
انظر تفسير ابن جرير 10/95 تحقيق: أحمد محمود شاكر.
(15)
منهاج السنة النبوية 4/337.
(16)
انظر سير أعلام النبلاء 8/448.
(17)
انظر تعارض العقل والنقل 2/101-103 (هامش غير مشار إليه ماس) .
قراءة في كتاب
أزمتنا الحضارية
في ضوء سنة الله في الخلق
تأليف د. أحمد محمد كنعان
عرض وتقديم: محمد السيد المليجي
من رزق نور البصيرة، ونعمة الاستنباط، يستطيع أن يخرج من معطيات
الطبيعة التي تمثلت في سنة الله في مخلوقاته، الكثير والكثير من سبل التقدم
ووسائل الرفاهية التي تعود على الإنسان بالخير الوفير في وقته الذي يعيش فيه.
هذا ما يريده الدكتور كنعان أن يجسده في بحثه القيم.
دور المنهج السماوي في بناء الحضارات:
وفي وقفة سريعة وإطلالة عاجلة على أهم ما احتواه الباب الأول، بين لنا
الكاتب أهم الأسباب التي حالت دون تقدمنا ورقي مجتمعنا الإسلامي في العصر
الذي نعيش فيه والتي كان من أهمها (الغفلة عن منهج الله) .
فقد قدم لنا الباحث أهمية النظر في السنن التي تسير عليها المخلوقات، وفهم
مرادها وتسخيرها الصحيح لكي نستخلص منها ما يعيننا على صنع حضارة إسلامية
عريقة.
فهؤلاء العرب الذين لم يكن لهم علم ولا معرفة بالسنن التي تتحكم في حياة
الأفراد والمجتمعات، جاء الإسلام بقرآنه ودستوره الأزلي، فقدم لهم تلخيصاً وافياً
دقيقاً عن تلك السنن، حتى إذا فهموها وأخذوا بها في حياتهم، تغيرت نظرتهم
للكون والحياة تغييراً جذرياً، ولم يلبثوا أن أصبحوا أمة واحدة يشد بعضها بعضاً.
كما اكتسبت الأمة الإسلامية إلى جانب ذلك قدرة بفضل الله باهرة على تسخير
ما في أيديها لتنتفع به وتفيد به الآخرين، فحملت إليهم نور الهداية والرحمة حتى
انتشرت راية التوحيد في أرجاء المعمورة، وقد تم هذا الفتح المبين في سنوات
معدودات لا تعد شيئاً في عمر التاريخ
…
وهذا النور الذي استمر شعاعه ألف سنة بكاملها، دعا الكاتب إلى هذا التساؤل
المنطقي: ما الذي تغير حتى عاد المسلمون فانتكسوا؟ وكيف حط التخلف رحاله
في ديارهم بعد أن ظلت الحضارة الإسلامية أولى الحضارات تقدماً ورقياً على مدى
ألف سنة؟
يسوق لنا الباحث وجهة نظره، وجوابه عن هذا التساؤل في كلمتين خفيفتين
هما (الغفلة عن منهج الله)
وأعرب الكاتب عن مراده في معنى الغفلة حيث قال: وأهم ما تعنيه هذه
الغفلة، تجاهل السنن الربانية التي تحكم حياة الأفراد والأمم، وفهم هذه السنن
وتسخيرها على الوجه الصحيح، بالإضافة إلى ضعف اهتمامنا بمسألة السير في
الأرض، والبحث عن السنن التي يمكن أن تعيننا في تصريف شؤوننا المختلفة،
وتذلل لنا الصعاب وتيسر لنا أمر عمارة الأرض، وفق المنهج الذي يأمرنا إسلامنا
بإقامته في واقع الحياة، فالذي يطلب الأسباب لابد وأن يجد من يقوده إليها، وهنا
تبدأ رحلته معها.
فعلى قدر تسخيرها تجاه الطريق الصحيح يكون هناك التقدم والرقي
والإزدهار.
من ثمار النظر في السنن الكونية:
يطل علينا الباب الثاني والذي ضمنه الباحث عدة ثمار هي نتيجة للنظر
والتفكر في السنن الكونية.
وإن من أغلى هذه الثمار (الإيمان بالله تعالى) الذي يؤكد فهمنا واستجابتنا
والإقرار بأن هذا الكون البديع في آياته، لابد له من مبدع أوجد هذه السنن وسيرها
حسبما يريد الصالح العام للخلائق.
وبجانب هذه الثمرة اليانعة (ثمرة الإيمان) هناك ثمرات عديدة لها مساس
مباشر وعميق بسلوكنا وحركتنا في الحياة، ومنها على سبيل المثال، الحرية،
العلم، وهو المعرفة اليقينية بالسنن التي تحكم جزئية من جزئيات هذا الوجود.
مبدأ الاجتهاد في الشريعة الإسلامية:
هذه نقطة أخرى من نقاط الباب الثاني تعرض لها المؤلف ليثبت للغافلين عن
المنهج الإسلامي القديم، موافقته ومطالبته بالتفكر والاجتهاد القائم على مقدمات
علمية صحيحة سابقة، بالإضافة إلى الإعراب عن أهمية وجود الاستنباط في
المنهج الإسلامي بما يكفل لحياة الناس في كل وقت وحين حياة هادئة مطمئنة
يعيشون فيها.
فقد قسم المؤلف الاجتهاد في الشريعة الإسلامية على قسمين:
1-
مسائل لا يجوز الاجتهاد فيها بل يجب الالتزام بالأحكام الشرعية التي
وردت بخصوصها مثل الصلوات الخمس والزكاة والصوم وتحريم الجرائم كالقتل
والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وما ورد فيها من عقوبات مقدرة مما هو
معروف بالقرآن الكريم أو السنة النبوية المطهرة.
2-
مسائل يمكن الاجتهاد فيها إما لعدم ورود نص فيها، وإما لأنه ورد نص
ظني الدلالة، أو ظني الثبوت والدلالة معاً، فهنا المسائل يجوز الاجتهاد فيها
للوصول إلى حكم شرعي أو لمعرفة السنة التي تحكمها، وبذلك يجدد الكاتب تأكيد
الإسلام على أهمية الاجتهاد وثمرة ذلك على الفرد والمجتمع.
خلاصة النتائج التي توصل إليها الباحث:
ومع مطلع الفصل الثالث الذي يبين لنا قرب انتهاء الرحلة، يقدم لنا الدكتور
كنعان خلاصة النتائج التي توصل إليها وتعيننا في نفس الوقت على فهم طبيعة
الأزمة التي تحل بنا وترشدنا أيضاً إلى الطريقة العلمية والميسرة لتجاوز العقبات.
ومن بعض هذه النتائج:
1-
أن لهذا الكون ربا، خلق كل ما في هذا الكون من خلائق وأخضها جميعاً
لسنن كونية تحكم كل صغيرة وكبيرة منها.
2-
تتصف هذه السنن التي فطر الله عليها أمور خلقه، بمجموعة من
الصفات التي تعطيها صيغة القانون الرياضي الصارم، فهي من جهة ثابتة لا تتبدل
ولا تتحول، ومن جهة ثانية مطردة، تتكرر على الوتيرة ذاتها كلما توافرت
شروطها وانتفت الموانع التي تحول دون بلوغها.
3-
وسنة الله في الخلق تسري على كل شيء في هذا الوجود من غير تمييز
سواء أكان هذا الشيء مادياً أم معنوياً، ونحن البشر خاضعون كغيرنا من خلائق
هذا الوجود لسنن الله، سواء شئنا أم أبينا، وهذه الحقيقة تحتم علينا مسايرة هذه
السنن لكي نتمكن من تسخيرها فعما ينفعنا، وإلا فإن مخالفة السنن أو معاندتها لا
تأتي بخير.
4-
يقتضي معرفة السنة التي يقوم عليها أي عمل قبل الشروع فيه، فإذا
عرفنا سنته علينا أن نهيئ الشروط اللازمة لهذه السنة.
5-
فإذا فشلنا في إنجاز العمل المطلوب فإن هذا الفشل يعني وقوع خلل ما في
الخطة، ويمكن أن نحصر مواضع الخلل في ثلاثة مواضع رئيسية:
ا- عدم سلوك الطريق الصحيح نحو الهدف أو عدم إصابة السنة التي توافق
العمل.
ب - وجود عوامل خارجية تحول دون تحقيق السنة وبلوغها.
ج- وجود عوامل داخلية تؤدي إلى الإخلال بشرط أو بأكثر من الشروط
اللازمة السنة التي تتحكم بالعمل.
وبهذه النتائج يصبح الباحث مصيباً في محاولته في هذا المجال، وهي تعد
علامة بارزة تفتح الأبواب والنوافذ بمزيد من الدراسات والبحوث في هذا الموقع
الحيوي الهام والغائب بالنسبة لاستئناف المسلمين دورهم الحضاري، ومعالجة حالة
الركود التي يعيشونها.