الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسلمون في العالم
النظام العالمي الجديد:
الوجه الآخر للاستعمار
-1
-
د. أحمد عجاج
تجتاح العالم فرحة غامرة، وتسوده حالة من الارتياح والاسترخاء عقب انتهاء
حرب الخليج أو ما أصبح يعرف بحرب (تحرير الكويت) ، فالمعتدي، وهو هنا
طبعاً العراق، قد لقن درساً قاسياً ورد على أعقابه، والمنطقة بدأت تتنفس من جديد
هواء الحرية الذي حرمت منه في الأشهر الأخيرة.
فالمستقبل يحمل كل بشائر الخير للمنطقة، وعلامات الرضى والتفاؤل بدأت
تظهر ملامحها من خلال تصريحات المسؤولين الغربيين والمتجلية في إعادة ترتيب
أوضاع العالم والمنطقة بشكل خاص.
فنادراً ما نجد صحيفة أو مسؤولاً عربياً إلا ويتحدث عن الترتيبات الجديدة
التي من شأنها أن تنقل المنطقة بلمسة سحرية من حالة الفوضى وعدم الأمن إلى
واحة الاستقرار والحرية.
وجوهر هذا التفاؤل يرجع أساساً إلى الرئيس الأمريكي جورج بوش في
خطابه الشهير أمام جلسة مشتركة لمجلسي الشيوخ والنواب في كانون الثاني حيث
أعلن صراحة ودون مواربة رغبته في بناء نظام عالمي جديد للعالم، وهذا النظام
سيتم بناؤه بإرادة الولايات المتحدة الأمريكية لأنها (هي الدولة الوحيدة بين دول
العالم التي لديها المبدأ الأخلاقي والوسائل المتوفرة لتنفيذه) .
إن ترديد معزوفة النظام الجديد، لم تعد محصورة في إطار التصريحات
السياسية، بل تعدتها إلى الدوائر الثقافية والاجتماعية حتى أصبحت تردد على ألسنة
العامة، دون أن يدرك بالفعل مكنونها ونتائجها. هذا الواقع بالذات يستدعي البحث
لكشف جوهر هذا النظام العالمي الجديد والأسباب التي أدت إلى ظهوره ونتائجه
المتوقعة على العالم ومنطقة الشرق الأوسط بشكل خاص. ولتبيان ذلك فإنه ستتم
دراسة هذا النظام.
1-
النظام الحالي أو ما يعرف بالنظام الثنائي:
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية شهد العالم مرحلتين من التغيير، تميزت
المرحلة الأولى بانحسار نفوذ الإمبراطوريتين العظميين بريطانيا وفرنسا بشكل
ملحوظ وتدريجي إلى أن بلغت ذروتها عقب حرب السويس عام 1956 والتي
توجته بانسحابهما من منطقة الشرق الأوسط.
وبدأت المرحلة الثانية مع ظهور الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية
دولتين عظيمتين في الساحة الدولية، وبظهورهما ابتدأ العالم يعيش مرحلة جديدة
تختلف كلياً عن سابقتها. ولعل من أبرز صفات هذه المرحلة أو الفترة ظهور النظام
القطبي الثنائي على مسرح السياسة الدولية.
وما يقصد بكلمة القطبي الثنائي هو سيطرة دولتين فقط على مقاليد القوة
والزعامة في العالم دون مشاركة غيرهما. فالاتحاد السوفييتي الذي ظهر كقوة
يحسب لها حسابها عقب الحرب العالمية الثانية اعتنق الفكر الماركسي كعقيدة يسير
ضمن نمطها ونواميسها ويلتزم بموجبها بتقديم كل الدعم لحركات التحرر العالمية
التي تناضل من أجل حريتها وسيطرة الطبقة العاملة على مقاليد السلطة. فما يميز
السياسة السوفييتية هو الالتزام التام بدعم نظرية الصراع الطبقي الهادفة إلى تقليص
نفوذ البورجوازية في العالم، والسيطرة على حركات التحرر والعالم.
في الجبهة المقابلة ظهرت الولايات المتحدة التي دخلت الساحة الدولية بعد
فترة من الانعزال والانكماش كقوة عظمى استطاعت أن تحطم الآلة العسكرية
الألمانية شر تحطيم.
فالولايات المتحدة الأمريكية اعتنقت النظام الرأسمالي القائم على الحرية
والمبادرة الفردية في امتلاك وسائل الإنتاج والتوزيع. وهكذا فإن كلا النظامين
مناقض للآخر بطبيعته ويسعى كل منهما لإلحاق الهزيمة بالآخر. هذا الواقع دفع
الرئيس الأمريكي ترومان إلى القول أن العالم منقسم إلى قسمين: أحدهما:
…
(ديمقراطي مبني على حكم الأكثرية) والآخر: (دكتاتوري مبني على حكم الأقلية التي تفرض نفسها على الأكثرية) لذلك فإن واجب الولايات المتحدة الأمريكية هو أن تقدم (الدعم للأحرار من الشعوب الذين يتحدون الخضوع للقلة الحاكمة التي تفرض نفسها عليهم عبر الدعم الخارجي) . وهكذا يتضح أن الصراع بين هاتين الدولتين هو صراع عقائدي ومصلحي في آن معاً؛ لأن انتصار أي منهم هو تهديد لأمن ومصالح الآخر. لذلك كان من الطبيعي جداً أن تعمد الولايات المتحدة الأمريكية إلى تقليص النفوذ السوفيتي في أية بقعة من بقاع العالم من أجل تدعيم موقفها، والسيطرة على مقاليد الزعامة التامة.
غير أنه رغم ضراوة هذا التنافس وشدته فإن هناك ضوابط ومعايير ونظماً
تحكم نمط أو أطر سياسة كل منهما بالآخر. وجوهر هذه الضوابط والنظم يتمثل في
اعتماد الدولتين العظميين نظرية الدمار المتبادل كمرتكز أساسي في سياستهما.
ومفاد هذه النظرية أن نتيجة السلاح النووي المتكدس في ترسانتها - والذي هو من
القوة والتدمير بمكان إذ يسمح بتدمير الكرة الأرضية خمس مرات إن هو استعمل-
تحتم على الفريقين حسب هذه النظرية تجنب أية مواجهة عسكرية مباشرة، لأنها
ستؤدي فعلاً إلى كارثة بشربة تنهي العالم. وبالفعل فإن الدولتين العظميين استطاعتا
عبر عقود من الزمن أن يتجنبا المواجهة المباشرة عن طريق تذليل أية عقبات مهما
عظمت أو تفاقمت، ولا تزال أزمة الصواريخ الروسية في كوبا مثلاً حياً على ذلك، إذ انتهت بسحب الصواريخ الروسية مقابل سحب الصواريخ الأمريكية في جنوب
تركيا، وتعهدت الولايات المتحدة الأمريكية بعدم التدخل بشؤون كوبا البلد الحليف
للاتحاد السوفيتي. إلا أن هذه المواجهة لم تمنع كلا الدولتين من الاتفاق على مناطق
نفوذ خاصة بينهما. فأوروبا الشرقية هي حكر خاص للاتحاد السوفيتي يفعل بها ما
يشاء دون أي تدخل مباشر من الولايات المتحدة، وما اجتياح الاتحاد السوفيتي
لتشيكوسلوفكيا والمجر وغيرها إلا دليل ساطع على اعتراف الولايات المتحدة
بسلطته المطلقة على البقعة، وكذلك الأمر بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية التي
سيطرت على أمريكا اللاتينية دون أي تدخل مباشر من الاتحاد السوفييتي. إلا أن
هذا الاعتراف لم يمنع الدولتين من التسابق والتزاحم على الزعامة في العالم الثالث
وخصوصاً منطقة الشرق الأوسط ذات الأهمية الخاصة لكل من الدولتين. إلا أن
هذا الصراع يبقى مرتبطاً ارتباطاً جذرياً بنظرية الدمار المتبادل التي تمنع أي
تطور في المجابهة من شأنه أن يقود إلى حرب مباشرة، وذلك من أجل الحفاظ على
مصالحها المشتركة.
هذا النظام استطاع أن يؤمن نوعاً من التوازن في العلاقات الدولية تستطيع
الدول الأخرى بموجبه أن تلعب دوراً عن طريق الالتفاف حول دولة دون الأخرى
من أجل تأمين مصالحهم. وهذا الواقع استطاع أن يستمر فترة طويلة من الزمن منذ
قمة مالطا عام 1945 بين الدولتين العظميين إلى أن تسلم الرئيس السوفييتي
غورباتشوف مقاليد السلطة والزعامة في الكرملين، حيث ادخل تغييرات جذرية
على نظرية الدمار المتبادل، مما أدى إلى زوال النظام القطبي الثنائي.
2-
التغييرات الجديدة في النظام القطبي الثنائي:
ما إن تسلم الرئيس السوفيتي غورباتشوف مقاليد السلطة حتى سارع إلى
عملية إعادة النظر في السياسة الخارجية للاتحاد السوفيتي، فالزعيم السوفيتي نتيجة
لأوضاع محلية واقتصادية متردية وغياب تام للحرية الفردية بدأ مرحلة من التطوير
البطيء في هيكلية السياسة الخارجية والداخلية لبلده، ذلك التحول بدأ بهدم السياسة
القديمة، والمبنية على دعم حركات التحرر من أجل نصرة الصراع الطبقي
والتصدي للإمبريالية، واستبدالها بنظرية الوفاق الدولي والتعاون الاقتصادي
خصوصاً مع الولايات المتحدة الأمريكية وإيجابية هذه النظرية الجديدة تتلخص في
تقليل الدعم المادي للحركات الثورية وإعادة استخدامه ضمن مشاريع اقتصادية داخل
الاتحاد السوفييتي من أجل دفع عجلة التنمية التي يحتاجها بصورة ماسة. إضافة
إلى ذلك فإن الاتحاد السوفيتي لم يعد يرى نفعاً في التسابق مع الولايات المتحدة
الأمريكية، لأن من شأن هذا التسابق أن يلحق الضرر بالطرفين وأن يهدد أمن
العالم في لحظة ما، لذلك رأى الاتحاد السوفيتي في الاعتماد على منظمة الأمم
المتحدة مدخلاً إيجابياً ومهماً في تطوير العلاقات الدولية وتوظيفها في خدمة السلام
العالمي، وهكذا فإن الاتحاد السوفييتي بسياسته الجديدة قد تخلى عن نظرية الدمار
المتبادلة لمصلحة إحلال التعاون والتبادل الاقتصادي بين الدولتين العظميين كبديل
واقعي ومنطقي. هذا التفكير قد لخصه المحلل للعلاقات الدولية (ولندر) في مقالة
عن الاتحاد السوفيتي حيث قال: (الدول العظمى لا يمكن أن تحمي أمنها
…
عن طريقة المواجهة، لأن أية محاولة إلحاق الضرر بأي منها سيدفع الآخر إلى الرد، وهكذا فإن الحرب تصبح حقيقة. لذلك فإن حالة التصعيد المستمرة والبحث المتبادل عن إلحاق الهزيمة بالآخر سيؤديان إلى نقل الصراع من حرب غير مباشرة إلى حرب مباشرة بين طرفين لم يختاراها طائعين) .
وهكذا فالاتحاد السوفيتي، يكون قد تخلى عن سياسته القديمة تماماً، ولا
عجب إذن أن نجد كاتباً في صحيفة (إزفستيا) السوفياتية مقرباً من الرئيس
غورباتشوف يقول: (من الممكن جداً أن توجد حالة يضحي بها الاتحاد السوفييتي
بمبدأ الصراع الطبقي من أجل مصلحة أعم وأشمل) . وما يقصده بتلك المصلحة
هو زيادة التعاون الاقتصادي مع الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية من أجل
الحصول على مساعدات اقتصادية لدعم الاقتصاد السوفيتي المنهار.
هذا التحول الهائل في سياسة الاتحاد السوفييتي لم يقابله أبداً حدوث أي تغيير
في السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية على الإطلاق، فالولايات المتحدة
لم تتخل مطلقاً عن تفكيرها القديم الهادف إلى تقزيم النفوذ السوفييتي في العالم على
الصعيدين الأيديولوجي والعسكري. فعلى الصعيد الأيديولوجي توجته أمريكا بانهيار
النظرية الماركسية والتي اعترف بها قادة الاتحاد السوفيتي أنفسهم. أما على
الصعيد العسكري فقد اغتنمت الولايات المتحدة الفرصة ووظفتها لتقوية نفوذها
السياسي عبر السيطرة العسكرية، وتوظيف الطاقة العسكرية هو ناتج طبيعي
للسياسة الأمريكية التي أصابتها أيضاً بوادر الضعف والانحسار.
فأمريكا بعد عقود من الزمن قضتها في التصدي للشيوعية أصبحت دولة
منهكة اقتصادياً مما أجبرها على التراجع في ميادين المنافسة الاقتصادية التي هي
عنصر هام من عناصر القيادة العالمية. فالولايات المتحدة التي تصاعد نجمها بعد
الحرب العالمية الثانية تميزت بنمو اقتصادي سريع انعكس في زيادة فائض كبير في
رأس المال استطاعت أن توظفه في أوربا عبر مشروع مارشال الذي بلغ حوالي
13-
15مليار وأن تمول به حلف شمال الأطلسي لمواجهة الاتحاد السوفييتي. إلا
أن النجم الأمريكي لم يتسن له أن يستمر في التطور الاقتصادي السريع نتيجة
ظهور قوى اقتصادية أخرى حدَّت من التقدم الاقتصادي الأمريكي. ففي الفترة
الممتدة بين عامي 1945-1958 استطاعت أوربا الغربية واليابان أن تظهر بقوة
على الساحة الاقتصادية، مما أثر بشكل بالغ على الناتج الإجمالي للاقتصاد
الأمريكي من إجمالي الناتج العالمي حيث تدهور من نسبة 27% عام1950 إلى 18
% عام 1984
فالتردي الاقتصادي أجبر الرئيس الأمريكي نيكسون في فترة السبعينات
وبالتحديد عام 1971 وبقرار منفرد ودون الرجوع إلى صندوق النقد الدولي إلى
وقف قابلية تحويل الدولار إلى ذهب حسب اتفاق بريتون وودز لأن استمرار هذا
التعهد سيؤدي في النهاية إلى فقدان الولايات المتحدة الأمريكية رصيدها من الذهب
وبانتهاء عصر (بريتون وودز) فقدت الولايات المتحدة الأمريكية سلطتها في مجال
النقد الدولي إذ أن معظم التحويلات النقدية بدأت تتم خارج صندوق النقد الدولي
الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة الأمريكية.
وهكذا انقلبت المعادلة فأصبحت الولايات المتحدة مع مرور الوقت دولة مدينة
بدل أن تكون دائنة. فحسب الإحصاءات الرسمية والموثوقة فإن ديون الولايات
المتحدة قفزت من 112 مليار عام 1985 إلى 263. 6مليار دولار عام 1986.
ومما زاد أزمة الولايات المتحدة الأمريكية سوءاً مبادرة الرئيس غورياتشوف
القائمة على نزع فتيل التفجير مما أدى إلى تقليل الدور العسكري الأمريكي لدى
الدول الغربية واليابان، إضافة إلى ذلك فإن عامل الانفجار الدولي أدى إلى تخفيض
الاتفاق العسكري الأمريكي مما هدد قطاع الصناعة العسكري الذي يلعب دوراً هاماً
في عجلة الاقتصاد. هذا العامل من الأهمية بمكان إذ أن تخفيض الإنفاق العسكري
سيؤدي إلى خلق نسبة عالية من البطالة في قطاع الصناعة الحربية مما ينعكس سلباً
على الوضع الاقتصادي والسياسي.
هذه المعطيات المتمثلة بتخلي الاتحاد السوفييتي عن سياسته القديمة
والصعوبات الاقتصادية التي تمر بها الولايات المتحدة الأمريكية دفعت الأخيرة إلى
التركيز على الدور العسكري من أجل تثبيت هيمنتها والتأكد من اندحار النظرية
الماركسية من أجل تكريس دورها في صناعة نظام جديد تستطيع من خلاله أن
تتخطى الصعوبات الاقتصادية، وتتابع دورها في العالم، وقد تسنى لها أن تحقق
ذلك الحلم عبر ما يعرف بأزمة الخليج.
(يتبع)
الأزمة الحالية في يوغوسلافيا
مازن عبد الله
عام 1918 كان عام ظهور يوغوسلافيا إلى الوجود. لقد بدأت يوغوسلافيا
حينذاك رحلتها السياسية باتباع نظام ملكي، وكانت مؤلفة من ثلاثة عناصر أساسية، هي العنصر الصربي، العنصر الكرواتي والعنصر السلوفيني. لقد بقيت
يوغوسلافيا تحت النظام الملكي حتى نشوب الحرب العالمية الثانية حيث انهارت
تلك المملكة (الصربو - كرواتية - سلوفينية) .. ولكن إبان الحرب، جاء الجنرال
جوزيف تيتو ليقود حركة التحرير الشعبية ويحرر البلاد من الاحتلال ويعيد بناءها
حسب نظام فيدرالي مختلف تماماً عن سابقه، تحت اسم اتحاد الجمهوريات
اليوغوسلافية الاشتراكية.
إن النظام السياسي المتبع في يوغوسلافيا منذ الحرب العالمية الثانية وحتى
الآن، هو نظام فيدرالي يضم اتحاداً لست جمهوريات هي جمهورية صربيا،
جمهورية كرواتيا، جمهورية سلوفينيا، جمهورية البوسنة والهرسك، جمهورية
مكدونيا وجمهورية الجبل الأسود، بالإضافة إلى إقليمي كوسوفو وفويفودينا اللذين
يتمتعان بحكم ذاتي واستقلال إداري..
لقد ذكرنا سابقاً بأن الزعيم اليوغوسلافي جوزيف تيتو استطاع أن ينهض
بالبلاد إبان الحرب العالمية الثانية، ويجمع كل الجمهوريات اليوغوسلافية تحت
صيغة اتحادية فيدرالية، فاجتمعت البلاد وتوحدت في ظل النظام الاشتراكي الجديد، ولكن التركيبة الاجتماعية للبلاد بقيت على حالها التي كانت عليها قبل الاتحاد ولم
تتغير. وتلك التركيبة الهشة التي صمدت تحت الحكم الاشتراكي 45 سنة، كانت
نقطة الضعف الرئيسية التي رافقت البلاد طوال تلك الفترة، وكانت الأرضية
الأساسية لأي خطر ممكن أن يهدد الاتحاد اليوغوسلافي في أي وقت؛ فالجمهوريات
اليوغوسلافية عبارة عن تجمعات لعدة قوميات وديانات مختلفة؛ فجمهوريتا الصرب
والجبل الأسود معظم سكانها من الأرثوذكس، وجمهوريتا كرواتيا وسلوفينيا معظم
سكانها من الكاثوليك، أما جمهورية البوسنة والهرسك فأغلبية السكان من المسلمين..
لقد انتهت الحرب الباردة بسقوط النظام الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، ومع
سقوط النظام الشيوعي في عقر داره، بدأت الأنظمة الشيوعية تنهار في الخارج.
الواحد تلو الآخر، وسقط النظام الشيوعي في يوغوسلافيا. وما إن سقط النظام
الشيوعي حتى بدأت الأصابع الأمريكية بالتدخل. مستغلة الحدث الذي لم تكن بعيدة
عنه
…
فلقد ذكرت بعض المصادر أنه قبيل البدء بالانتخابات العامة والرئاسية
والمحلية في الجمهوريات اليوغوسلافية مؤخراً، فوجئ الرأي العام بإصدار وزارة
الخارجية الأمريكية وثيقة تضمنت اثني عشر شرطاً على اليوغوسلافيين أن يلتزموا
بها في انتخاباتهم حتى تكون النتائج مقبولة من قبل الولايات المتحدة، فتوافق فيما
بعد على تقديم مساعدات اقتصادية. لقد استنكر اليوغوسلافيون واعترضوا على هذا
التدخل السافر في شؤونهم الداخلية، ولكن ضعف حيلتهم جعلهم يرضخون في نهاية
الأمر. وجرت الانتخابات تحت الرقابة الأمريكية المباشرة، فكانت النتيجة فوزاً
كاسحاً للأحزاب الليبيرالية، اليمينية المتطرفة، والقومية المتعصبة. فلقد أسفرت
الانتخابات في كرواتيا وسلوفينيا عن تأييد كاسح من قبل المواطنين لإعلان
الاستقلال والسيادة الكاملة. فأقامتا فعلاً جميع مؤسساتهما الديمقراطية والتمثيلية،
وأكملتا أيضاً الانتقال الاقتصادي من المركزية إلى السوق الحرة. ففي سلوفينيا،
فاز تحالف أقصى اليمين المنضوية في إطار جبهة ديموس وسيطر على الأغلبية
الساحقة في البرلمان وعلى رئاسة الدولة، ورئاسة الحكومة وأعضائها. وفي
كرواتيا، فاز أيضاً تحالف أحزاب أقصى اليمين بزعامة الرئيس الحالي للجمهورية
(فراينو توجمان) الذي يرأس أيضاً الحزب الليبرالي الكرواتي الحر، أما على
صعيد صربيا (أكبر وأهم الجمهوريات) ، فلقد فاز فيها الحزب الاشتراكي (الشيوعي
سابقاً) بالأغلبية المطلقة في البرلمان كما فاز زعيم الحزب، رئيس الدولة
(سلوبودان ميلوسيفيتش) في انتخابات رئاسة الجمهورية.
لقد أتت نتائج الانتخابات هذه لتشكل تصعيداً في المواجهة بين الجمهوريات
اليوغوسلافية وخاصة بين صربيا وبين الجمهوريتين كرواتيا وسلوفينيا. فهاتان
الجمهوريتان ذات الأغلبية الكاثوليكية، تدعوان وتعملان على قيام جمهوريات
مستقلة، ذات سيادة كاملة وفق الحدود التي رسمها تيتو في دستور 1974، مع
الاعتراف بحقوق الأقليات في كل جمهورية وقيام دولة كونفدرالية يوغوسلافية تشبه
الدولة الأوربية الموحد التي ستقوم عام 1992. أما جمهورية الصرب، ذات
الأغلبية الأرثوذوكسية، فتعتبر المعقل الرئيسي للخط المتشدد في يوغوسلافية الذي
يعارض التوجه نحو تحويل الاتحاد بين الجمهوريات الست والإقليمين المتمتعين
بالحكم الذاتي، إلي كونفدرالية من دول ذات سيادة، كما يعارض بشدة التحول من
الخط الاشتراكي المتميز الذي عرفت به يوغوسلافيا، إلى الخط الرأسمالي، ويدعو
إلى الإبقاء على النظام الفيدرالي وإعطاء صلاحيات أوسع لصربيا باعتبارها
الكبرى، وإعادة توزيع الثروات والمصالح بما يتفق وتضحيات صربيا وتحسين
مستويات المعيشة في الجمهوريات الفقيرة. أما بالنسبة للجمهوريات الثلاث الباقية،
فجمهورية الجبل الأسود تؤيد المشروع الصربي تأييداً تاماً، وتتحالف مكدونيا
مرحلياً مع صربيا لكنها تدعو للحوار لإيجاد صيغة وسطى بين الفيدرالية
والكونفدرالية، أما جمهورية البوسنة والهرسك فتقف على الحياد بسبب موقعها
الجغرافي الخطير بين صربيا والشمال وتكوين سكانها العرقي الفسيفسائي الذي يضم
أقليات متقاربة العدد من جميع شعوب يوغوسلافيا، وتؤيد هذه الجمهورية مشروع
اتباع القومية الإسلامية الذين يشكلون أكبر أقليات الجمهورية والذين يدعون
للمحافظة على وحدة يوغوسلافيا وإقامة نظام أقرب إلى الصيغة التي يطرحها رئيس
الحكومة (ماركوفيتش) ولكنهم يركزون على استقلال البوسنة والهرسك في حال
انهيار يوغوسلافيا ويرفضون اقتسام الجمهورية بين دولة صربيا والدولة الشمالية.
(تجدر الإشارة هنا بأن مشروع الوزراء أنتي ماركوفيتش، الذي يستند إلى حركة
سياسية أنشأها مؤخراً وتضم المثقفين والعقلاء من كل الجمهوريات الداعيين لنبذ
التطرف القومي والتعصب العرقي والديني، يدعو لإلغاء الحدود نهائياً بين
الجمهوريات وتطبيق نظام ديمقراطي على جميع المواطنين والمساواة واحترام
حقوق الإنسان بصرف النظر عن العقيدة والقومية) .
لقد دخلت يوغوسلافيا خلال الأسابيع القليلة الماضية في نفق مظلم، والحالة
الأمنية والسياسية والاقتصادية في البلاد في تردٍ مستمر. فعلى الصعيد الاقتصادي
يذكر أن يوغوسلافيا تعاني حالياً من معدل تضخم سنوي نحو 120 في المائة.
ويتدنى الإنتاج الصناعي فيما يهدد العمال بتنظيم إضرابات عامة. ويبلغ مجموع
الديون الخارجية المترتبة على يوغوسلافيا 18بليون دولار..
وعلى الصعيد السياسي، فالعلاقات بين الجمهوريات اليوغوسلافية تتدهور
باستمرار والمؤسسات القوانين الفيدرالية تنهار وتخترق على نحو يدفع البلاد إلى
مزيد من انبعاث مشاعر التعصب القومي والتطرف المصحوب بالعنف.. أما على
الصعيد الأمني فعقب النزعات المستمرة بين كرواتيا وصربيا، أخذت الأمور تتفاقم
حتى بدأت الصدامات التي كانت الأسوأ في مدينة باكاراتش في كرواتيا. فلقد
اندلعت الاضطرابات عندما اقتحمت قوات الشرطة الخاصة الكرواتية باكاراتش في
2/3/91. إثر إعلان القوميين الصرب استقلال المدينة عن الحكم الكرواتي
واستلائهم على المركز الرئيسي للشرطة. وكانت الصدامات عنيفة، حدثت خلالها
عمليات إطلاق نار متبادلة أسفرت على عدة إصابات بين الطرفين مما اضطر
الجيش إلى التدخل ونشر قواته ودباباته في الشوارع الرئيسية في المدينة، من دون
أن تحصل أي مواجهة بينه وبين قوات الشرطة الخاصة الكرواتية التي سحبت قسماً
من قواتها من المدينة بعد أن خف التوتر فيها. ونذكر هنا أن المجلس الرئاسي
اليوغوسلافي كان قد أصدر إنذاره إلى جمهوريتي كرواتيا وسلوفينيا في
9/1/1991ممهلاً إياهما عشرة أيام لحل كل التنظيمات المسلحة فيهما، ومن ضمنها قوات الشرطة الخاصة، أو مواجهة تحرك من الجيش اليوغوسلافي لتنفيذ ذلك بالقوة. ولكن المهلة انتهت، فمددت فانتهت ولم يحصل شيء. لقد نزح نتيجة لتلك الصدامات أكثر من خمسة آلاف صربي معظمهم من النساء والأطفال، ولجأوا إلى صربيا وإقليم فويفودينا. ويخشى الصرب الآن الذين يشكلون أحد عشر في المائة من سكان كرواتيا البالغ عددهم ة 44 مليون نسمة، تكرار مجازر الحرب العالمية الثانية التي ارتكبها الكرواتيون بحقهم.
لقد دامت الاضطرابات في كرواتيا ثلاثة أيام، بدأت الحياة بعدها تعود ببطئ
إلى طبيعتها، ولكن بعد أربعة أيام فقط من انتهائها عادت الاضطرابات والصدامات
لتنفجر من جديد، ولكن مع انتقال الكرة هذه المرة من الملعب الكرواتي إلى الملعب
الصريي. ففي 9/3/91 انفجر الوضع الأمني في بلغراد، عاصمة صربيا، عندما
وقعت اشتباكات عنيفة بين شرطة مكافحة الشغب وعشرات الألوف من المحتجين
المناهضين للشيوعية، أسفرت عن مصرع شخصين على الأقل أحدهما من الشرطة
وإصابة ما لا يقل عن 75 بجروح. ولقد امتدت الاشتباكات إلى مناطق عدة في
العاصمة، وأسفرت عن إحراق عدد كبير من السيارات وتحطيم نوافذ مئات المتاجر، وعلى أثر تلك الاشتباكات، تدخل الجيش اليوغوسلافي وأنزل دباباته إلى شوارع
المدينة، معززة بعدة آلاف من أفراد شرطة مكافحة الشغب، واستطاع أن يسيطر
على الوضع، وأعاد الهدوء إلى المدينة، ولكن لم تمضي 24 ساعة على تدخل
الجيش وإعادة الأمور إلى طبيعتها، حتى جاء قرار من المجلس الرئاسي بسحب
الجيش، وتم سحبه فعلاً من شوارع المدينة في وقت متقدم من ليلة الأحد 10/3/91
وفي اليوم التالي لانسحاب الجيش تجددت الصدامات بين الشرطة والمتظاهرين
المعادين للشيوعية مما أدى إلى المزيد من الأضرار. ومع بزوغ فجر الثلاثاء
12/3/91 انسحبت وحدات شرطة مكافحة الشغب وسمح للمتظاهرين بالتجمع في الساحة المركزية للمدينة التي تدفقت إليها عشرات الألوف من المتظاهرين الذين راحوا يهتفون ضد الحزب الاشتراكي الحاكم وضد الشيوعية.. لقد شكلت تلك التظاهرات الضخمة ضربة قوية للسلطة الصربية التي وجدت نفسها مضطرة إلى الرضوخ لبعض مطالب المعارضة والإفراج عن زعيمها الذي كانت قد اعتقلته منذ أيام.. إن الوضع الأمني في جمهورية الصرب حالياً متوتر جداً، والأجواء المشحونة والاضطرابات ما زالت على حالها، ويبدو أن الكرة التي استطاعت القوى التحررية الديمقراطية أن تقذفها إلى الملعب الصربي، ما زالت هناك وستبقى، حيث إن اللعبة التي لعبتها تلك القوى كانت موفقة وناجحة وذلك طبعاً بفضل ضغوطات القوى الخارجية وخاصة الأمريكية. فالمراقب للتطورات الدولية، يرى جلياً بأن الأحداث والاضطرابات التي اندلعت في الفترة الأخيرة في يوغوسلافيا، لم تبدأ إلا بعد انتهاء أزمة الخليج التي كانت المطابخ الأمريكية مشغولة بها
…
أخيراً، فإن الساحة الدولية الآن، ومع انتهاء حرب الخليج، تشهد تغييرات
جذرية وخاصة على الصعيد السياسي حيث إن المعركة بين النظامين الرأسمالي
والاشتراكي اللذين ولدا في نفس المطبخ مع نهاية القرن التاسع عشر في أوروبا؛
انتهت لمصلحة النظام الرأسمالي. وعلى هذا الأساس فيبدو أن المعركة في
يوغوسلافيا الآن، وكما حسمت في غيرها من دول أوربا الشرقية، سوف تحسم
لمصلحة القوى الرأسمالية والتحررية
…
السؤال المتبقي الآن، هو عن كيفية حسم
تلك المعركة، وان كان الحل السلمي هو المرجح فهل بناء دولة كونفدرالية جديدة
سيكون البديل عن الفيدرالية القديمة؟ وما هو مصير الجمهوريات الصغيرة
والأقليات القومية وخاصة الإسلامية في هذه الحال؟