المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌نصيحتي لأهل السنة - مجلة البيان - جـ ٤

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌نصيحتي لأهل السنة

‌نصيحتي لأهل السنة

مقبل بن هادي الوادعي

قال البخاري رحمه الله (ج13، ص193) حدثنا يعقوب بن إبراهيم،

حدثنا هشيم، أخبرنا سيار، عن الشعبي، عن جرير بن عبد الله قال: (بايعت

رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فلقنني ما استطعت،

والنصح لكل مسلم) .

قال الإمام مسلم رحمه الله (ج1، ص74) : حدثنا محمد بن عباد المكي،

حدثنا سفيان، قال: قلت لسهيل: إن عمراً حدثنا عن القعقاع عن أبيك، قال: -

ورجوت أن يسقط عني رجلاً - قال: فقلت: سمعته من الذي سمعه منه أبي، كان

صديقاً له بالشام. ثم حدثنا سفيان، عن سهيل، عن عطاء بن يزيد، عن تميم

الداري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة قلنا: لمن؟ قال:

لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) .

نصيحتي لأهل السنة أن يتباعدوا عن أسباب الفُرقة والاختلاف؛ فعقيدة أهل

السنة واحدة، واتجاههم واحد، وليس هناك مسوغ للفرقة والاختلاف إلا الجهل

والبغي والشيطان، وفي صحيح مسلم أن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في

جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم.

والخلاف شر، كما قال عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، عندما صلى

عثمان، رضي الله عنه، بمِنى بالناس أربعاً فاسترجع عبد الله، رضي الله عنه،

ثم قال: صليت مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمنى ركعتين، وصليت مع

أبي بكر رضي الله عنه بمنى ركعتين، وصليت مع عمر بمنى ركعتين،

فليت حظي ركعتان متقبلتان (رواه البخاري) زاد أبو داود - كما في الفتح - فقيل

لعبد الله: عبت عثمان ثم صليت أربعاً! فقال: الخلاف شر. ورب العزة يقول في

كتابه الكريم [ولا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ][الأنفال: 46] . وفي

الصحيح عن جندب، رضي الله عنه، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال:

(اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه)

وفي مسند الإمام أحمد - ما معناه - عن عبد الله بن عمرو بن العاص -

رضي الله عنهما أن جماعة من الصحابة جلسوا عند حجرة رسول الله - صلى

الله عليه وسلم -، فجعلوا يتنازعون، هذا يستدل بآية، وهذا يستدل بأخرى،

فخرج النبي صلى الله عليه وسلم مغضباً وقال: ما بهذا بُعثتم، لا تضربوا

القرآن بعضه ببعض، ألا تكونوا كهذين الرجلين؛ يعني عبد الله بن عمرو وصاحباً

له، وكانا قد جلسا بعيدين عن الجالسين.

وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله

عليه وسلم - أنه قال: (ذروني ما تركتكم؛ فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم) . وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه سمع رجلاً يقرأ آية سمع النبي صلى الله عليه وسلم قرأ خلافها، قال: فأخذت بيده فانطلقت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كلاكما محسن، فاقرآ - أكبر علمي قال - فإن من كان قبلكم اختلفوا.

وأما حديث: اختلاف أمتي رحمة، فهو حديث باطل، لا سند ولا متن،

فالسند معضل، والمتن يدفعه ما تقدم من الأدلة، وقوله تعالى: [ولا يَزَالُونَ

مُخْتَلِفِينَ إلَاّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ] [هود: 118، 119] . فمفهوم الآية الكريمة أن

المختلفين ليسوا ممن رحمهم الله، والله أعلم.

ولست أستدل عليكم - يا أهل السنة! - بقول الله عز وجل: «إنَّ

الَذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ» [الأنعام: 159] ؛ فأنتم -

بحمد الله - ما فرقتم دينكم، وإنما اختلفتم في بعض المسائل التي اختلف فيها

سلفنا رحمهم الله في أكبر منها، وما كان ذلك سبباً لهجر ولا قطيعة.

إن مَن يقرأ في المحلَّى لأبي محمد بن حزم رحمه الله، أو في كتاب

اختلاف العلماء لمحمد بن نصر المروزي رحمه الله، أو في كتاب الأوسط في

السنن والإجماع والاختلاف لابن المنذر رحمه الله، أو في فتح الباري، أو في

تفسير الحافظ ابن كثير - يرى أن سلفنا رحمهم الله قد اختلفوا في كثير من

مسائل العبادات والمعاملات، وما أدى ذلك إلى هجران بين العلماء، وأما الأتباع

فربما حصل بينهم بسبب الجهل والتعصب.

إن أهل السنة - بحمد الله - ليسوا كغيرهم، يختلفون في العقيدة؛ فالخوارج

يكفر بعضهم بعضاً، وهكذا رؤوس الاعتزال يكفر بعضهم بعضاً، كما في المِلل

والنِّحل، أما أهل السنة فالحمد لله غالب اختلافهم في مفهوم حديث أو في

عبادات وردت عن الشارع متنوعة، أو في حديث اختلفت أنظارهم في تصحيحه وتضعيفه، إلى غير ذلك من أسباب الاختلاف التي ذكرها شيخ الإسلام ابن

تيمية رحمه الله.

أنتم تعلمون - يا أهل السنة! - أن أعداءكم يشمتون بكم، وأن أعداء الإسلام

لا يهابون إلا إياكم فهم يحرصون على تشتيت شملكم بأي وسيلة.

إن الواجب على أهل السنة أن يكونوا مهيَّئين لحل مشاكل العالم كله، فهم

أهل لذلك وأحق به، فهم الذين أعطاهم الله فهم كتاب الله وسنة رسول الله - صلى

الله عليه وسلم - على الوجه الصحيح.

إن أهل السنة يعتبرون أكثر العالم الإسلامي، ولكن تفرقهم واختلافهم وجهل

أهل كل شعب بأحوال الآخرين جعلهم يذوبون في المجتمعات، وإنا لنرجو أن يوفق

الله (مجلة البيان) لتفقُّد أحوال أهل السنة، والنشر عنهم وعن أحوالهم وعسى الله

أن يجمع شملهم.

أو لستم أحق الناس - يا أهل السنة! - بجمع الشمل، ووحدة الكلمة؟

ورب العزة يقول في كتابه الكريم: [واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ولا تَفَرَّقُوا][آل عمران: 103] ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول -كما في

الصحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه: (المؤمن للمؤمن كالبنيان

يشد بعضه بعضاً) .

ويقول، كما في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير -: (مثل المؤمنين

في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد

بالحمى والسهر) .

فالرافضة شغلت العالم بإعلامها، وأضلت كثيراً من الناس، بل شغلتهم عن

أداء مناسك الحج، فالناس يأتون من كل فج عميق، ليؤدوا مناسكهم، وليذكروا الله

في تلك الشعائر المباركة، فما يشعرون إلا بخروج الرافضة بالمظاهرات الجاهلية

يهتفون: (خميني.. خميني) ، فمن الذين يستطيع أن يفرق هذه الجموع التي عتت

عن أمر ربها، وجعلت الحج شعاراً للفوضى والصخب والدعوات الجاهلية، لا

يستطيع - بإذن الله - إلا أهل السنة إن اجتمعت كلمتهم وكانوا أهل سنة حقاً.

إن هذه اليقظة الإسلامية التي أرادها الله تحتاج إلى رعاية، ومن يقوم

برعايتها إلا أهل السنة؟ ! .

علاج الاختلاف الناشئ بين أهل السنة المعاصرين:

إن الاختلاف الناشئ بين أهل السنة يزول بإذن الله بأمور:

* منها: تحكيم الكتاب والسنة، قال الله سبحانه وتعالى: [فَإن تَنَازَعْتُمْ

فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ]

[النساء: 59]، وقال تعالى:[ومَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ]

[الشورى: 10]، وقال سبحانه وتعالى: [وإذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ

الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ولَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَذِينَ

يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ولَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ورَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إلَاّ قَلِيلاً]

[النساء: 83] .

* ومنها: سؤال أهل العلم من أهل السنة، قال الله سبحانه وتعالى:[فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إن كُنتُمْ لا تَعْلَمُون][النحل: 43] ، ولكن بعض طلبة العلم رضي بما عنده من العلم، وأصبح يجادل به كل من يخالفه، وهذا سبب من أسباب

الفرقة والاختلاف. روى الإمام الترمذي في جامعه عن أبي أمامة قال: قال رسول

الله صلى الله عليه وسلم: (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل)

ثم قراً: [مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إلَاّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ][الزخرف58] .

* ومنها: الإقبال على طلب العلم، فإذا نظرت إلى قصورك بل إلى أنك

لست بشيء إلى جانب العلماء المتقدمين، - كالحافظ ابن كثير، ومن تقدمه من

الحفاظ المبرزين في فنون شتى - إذا نظرت إلى هؤلاء الحفاظ شُغلت بنفسك عن

الانتقاد على الآخرين.

* ومنها: النظر في اختلاف الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم من العلماء

المبرزين إذا نظرت إلى اختلافهم حملت مخالفك على السلامة، ولم

تطالبه بالخضوع لرأيك، وعلمت أنك بمطالبته بالخضوع لرأيك تدعوه إلى تعطيل فهمه وعقله، وتدعوه إلى تقليدك، والتقليد في الدين حرام، قال الله سبحانه

وتعالى: [ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ][الإسراء: 36] إلى غير ذلك

من الأدلة المبسوطة في كتاب الشوكاني " القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد) .

* ومنها: النظر إلى أحوال المجتمع الإسلامي، وما تحيط به من الأخطار

أعظمها جهل كثير من أهله به، وإنك إذا نظرت إلى المجتمع الإسلامي شغلت عن

أخيك الذي يخالفك في فهمك، وقدمت الأهم فالأهم، فإن النبي - صلى الله عليه

وسلم - عندما أرسل معاذاً إلى اليمن قال له: (أول ما تدعوهم إلى شهادة أن لا إله

إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم) . متفق عليه من حديث

ابن عباس.

وبعد.. فإنا قد نظرنا في المسائل التي يختلف فيها أهل السنة المعاصرون

الذين لا يختلفون عن هوى فوجدناها تقارب ثلاثين مسألة، وزعناها على إخواننا

أهل السنة، يذكرون إن شاء الله الأحاديث بأسانيدها، وينظرون في أقوال الشراح

في فهم هذه الأحاديث، وإن اُحتِيج إلى نظر في كتب الفقهاء رحمهم الله نظر فيها،

فإن كان إخواننا أهل مجلة البيان - بارك الله فيهم - سيفتحون صدورهم لهذا فقد

بلغني أن أهل السنة الذين يهمهم أمر المسلمين في غاية من الشوق إلى هذا، فإن

شاء الله سيرسل كل موضوع ولا مانع من أن يجزئوه وبعدها إن شاء الله يخرج

كتاباً، وهذا من باب التعاون على البر والتقوى والاهتمام بأمر المسلمين وقطع

ألسنة الحاقدين على أهل السنة الذين يسخرون منهم، ويقولون: إنهم يختلفون في

الشيء التافه، وينفرون عنهم، ويلمزونهم بما ليس فيهم، شأن المبتدعة وذوي

الأهواء في كل مكان وزمان أنهم ينفرون عن أهل السنة، وقد ساق عنهم

ابن قتيبة رحمه الله في كتابه (تأويل مختلف الحديث) الشيء الكثير من السخرية بأهل السنة، وقد مات النظام، وأبو الهذيل، وغيرهما من أعداء

السنة، وبقيت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بيضاء صافية لم يضرها سخريتهم، وسيموت أعداء السنة المعاصرون وتبقى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله تضمن بحفظها فقال: [إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإنَّا لَهُ

لَحَافِظُونَ] [الحجر: 9] والذكر يشمل الكتاب والسنة؛ إذ كلاهما (وحي) من عند

الله سبحانه وتعالى: [ومَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى. إنْ هُوَ إلَاّ وحْيٌ يُوحَى][النجم: 3، 4] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه) .

هذا، ولسنا نطالب أهل السنة المعاصرين ألا يختلفوا في صحة الحديث

وتضعيفه، وألا يختلفوا في فهم الأدلة، فإن هذا أمر قد اختلف فيه سلفهم، رحمهم

الله، كما هو معروف من سيرتهم.

فهذه نصيحتى لإخوانى في الله - أهل السنة - وأسأل الله لهم النصر والتوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

ص: 17

تعريف الملأ

في الفكر الإسلامي

عثمان جمعة ضميرية

كانت الحلقة السابقة من هذا البحث تمهيداً عاماً ومدخلاً لدراسة موقف الملأ

والزعماء من دعوات الرسل والأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، حيث تعرفنا على

طبيعة دعوتهم التي بعثهم الله تعالى بها إلى الناس، وأثر هذه الدعوة في النفوس،

ثم أصناف الناس أمام هذه الدعوة ومواقفها.

وفي هذه الحلقة وما يتلوها، إن شاء الله تعالى، نعرض لتعريف الملأ

وصفاتهم ونتتبع أساليبهم ووسائلهم في التصدي للدعوة، ومن ثم نعرض لموقف

القرآن الكريم من هؤلاء الملأ، والرد عليهم في كل ما استعملوه من وسائل وتسويغ

لمواقفهم العدائية، ونوازن بين مواقف الملأ في تاريخ الدعوات قديماً، ومواقف

الملأ من الدعوة الإسلامية المعاصرة، مما يظهر أن هذا الموقف سنة طبيعية في

الدعوات، وبالله التوفيق.

تعريف الملأ:

نعرض فيما يلي طائفة من أقوال أهل اللغة وعلماء التفسير عن معنى الملأ،

نتبين من خلالها الصفات البارزة لهؤلاء الملأ ومعالم شخصيتهم، ونرتب هذه

التعريفات بحسب الترتيب التاريخي لحياة من نعرض أقوالهم، مما يساعد على

معرفة تأثر كلٌ منهم بمن سبقه، وتطور استعمال هذا المصطلح.

1-

أبو عبيدة معمر بن المثنى (ت 201هـ) :

في تفسير قوله تعالى: [أَلَمْ تَرَ إلَى المَلأِ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ][البقرة:246] .

قال: الملأ من بني إسرائيل، وجوههم وأشرافهم، ذكر أن النبي - صلى الله

عليه وسلم - لما رجع من بدر سمع رجلٌ من الأنصار يقول: (إنما قتلنا عجائز

صلعاً) ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(أولئك الملأ من قريش، لو احتضرت فعالهم - أي حضرت - احتقرت فعالك مع فعالهم)[1] .

2-

الأزهري (ت 370هـ) :

قال الإمام أبو منصور محمد ابن أحمد الأزهري في كتابه " تهذيب

اللغة " [2] :

الملأ: أشراف الناس ووجوههم؛ قال الله عز وجل: [أَلَمْ تَرَ إلَى

المَلأِ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ] [البقرة: 246]، وقال:[قَالَ المَلأُ مِن قَوْمِهِ]

[الأعراف: 60] .

ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلاً من الأنصار -

مرجعه من غزوة بدر- يقول: ما قتلنا إلا عجائز صلعاً، فقال النبي - صلى الله

عليه وسلم-: (أولئك الملأ من قريش، لو حضرت فعالهم لاحتقرت فعلك) .

والملأ أيضاً: الخُلُق: يقال: أحسنْ مَلأك أيها الرجل، وأحسنوا أملاءكم،

وفي حديث أبي قتادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تكابُّوا على الماء في

تلك الغزاة - خيبر - لعطش نالهم، قال:(أحسنوا أملاءكم فكلكم سيروى)[3]

أي أحسنوا أخلاقكم.

ومنها قول الشاعر:

تنادَوا يالَ بُهثة إذ رأَوْنا

فقلنا أحسِني مَلأً جُهيِنا

ويقال: أراد: أحسني ممالأة، أي معاونة، من قولك: مالأتُ فلاناً، أي

عاونته وظاهرته.

وفي حديث عمر رضي الله عنه أنه قتل سبعة نفر بصبي قتلوه غيلة،

وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به [4] .

والملأ: الرؤساء، سُمُّوا بذلك لأنهم مِلاء بما يحتاج إليه.

قال أبو إسحاق: الملأ: الخَلْق.

قال أبو عبيد: يقال للقوم إذا تتابعوا برأيهم على أمر: قد تمالؤوا عليه.

وقال شَمِر: يقال: فلان أملأ لعيني من فلان، أي: أتم في كل شيء،

منظراً وحسناً.

وهو مالىء للعين، إذا أعجبك حسنه وبهجته.

وقال ابن الأعرابي: (مالأه، إذا عاونه) .

3 -

وقال الإمام الخطابي (ت 388هـ) :

الملأ: الرؤساء والأشراف.

يقال: هؤلاء ملأ بني فلان: أي ساداتهم، ومن هذا قول النبي - صلى الله

عليه وسلم -: (اللهم عليك الملأ من قريش)[5] يريد الرؤساء منهم، وهم الملأ

بالقصر والهمز. فأما الملأ مقصوراً غير مهموز فالمتسع من الأرض، قال الشاعر:

ألا غنِّياني وارفَعا الصوتَ بالمَلا

فإن الملا عندي يَزيدُ المدى بُعدا [6] .

وقال أيضاً، في شرح قول عمر رضي الله عنه: (لو تمالأت عليه أهل

صنعاء..) .

تمالأ: مهموز من الملأ: أي لو صاروا كلهم ملأً واحداً في قتله، ويقال:

مالأتُ الرجل على الشيء إذا واطأتُه عليه [7] .

مامالأت: معناه طابقت وساعدت، وأصله مالأتُ - مهموزاً - من ملأ القوم، يريد أنه لم يدخل في مِلأئهم، ولم يطابقهم على رأيهم.

ويقال: ما كان هذا الأمر عن ملاء منا: أي تشاور واجتماع عليه [8] .

4 -

وقال العلامة اللُّغوي ابن فارس (ت 395هـ) :

الملأ: الميم واللام، يدل على المساواة والكمال في الشىء.. ومنه: الملأ:

الأشراف من الناس؛، لأنهم مُلِئُوا كرماً.

فأما قول الشاعر:

تنادوا يال بهثة إذ لقونا

فقلنا أحسني ملأ جهينا

فقال قوم: أراد به الخُلُق، وجاء في الحديث:(أحسنوا أملاءكم) والمعنى

فيه: أن حسن الخلق من سجايا الملأ، وهم الشِّراف الكرام [9] .

5 -

وقال الراغب الأصفهاني (ت 502هـ) :

الملأ: جماعة يجتمعون على رأي، فيملؤون العيون رواءً ومنظراً، والنفوس

بهاءً وجلالاً، قال تعالى:[أَلَمْ تَرَ إلَى المَلأِ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ][البقرة: 246] وقال: [وقَالَ المَلأُ مِن قَوْمِهِ][المؤمنون: 33]، [إنَّ المَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ] [القصص: 20] ، [قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ] [النمل: 29] .. إلخ.

يقال: فلان مِلء العيون: أي مُعظَّم عند من رآه، كأنه ملأ عينه من رؤيته،

ومنه قيل: شاب مالىء العين. والملأ: الخَلق المملوء جمالاً، قال الشاعر: فقلنا

أحسني ملأ جهينا..

ومالأته: عاونته وصرت من ملئه: أي جمعه، نحو شايعته: أي صرت من

شيعته [10] .

6-

وقال الإمام محيي السنة البغوي، ت (516هـ) :

الملأ من القوم: وجوههم وأشرافهم، وأصل الملأ: الجماعة من الناس، ولا

واحد له من لفظه، كالقوم والرهط.. وجمعه أملاء [11] .

7 -

وقال الإمام مجد الدين بن الأثير (ت 656هـ) :

تكرر ذكر الملأ في الحديث. والملأ: أشراف الناس ورؤساؤهم، ومُقدَّموهم

الذين يرجع إلى قولهم، وجمعه أملاء.. ومنه حديث عمر عندما طُعن: (أكان هذا

عن ملأ منكم؟) ، أي: تشاور من أشرافكم وجماعتكم [12] .

8 -

وقال القرطبي (ت 671هـ) :

الملأ: الأشراف من الناس، كأنهم ممتلئون شرفاً. وقال الزجاج: سُمُّوا بذلك

لأنهم ممتلئون مما يحتاجون إليه منهم. والملأ في قوله تعالى: [أَلَمْ تَرَ إلَى

المَلأِ] [البقرة: 246] القوم؛ لأن المعنى يقتضيه. والملأ: اسم للجمع كالقوم

والرهط. والملأ أيضاً: حسن الخلق [13] .

9 -

وقال العلامة اللُّغوي ابن منظور (ت: 711هـ) :

الملأ: الرؤساء، سموا بذلك لأنهم مِلاء بما يُحتاج إليه. والملأ مهموز

ومقصور: الجماعة. وقيل: أشراف القوم ووجوههم ورؤساؤهم، ومقدموهم الذين

يرجع إلى قولهم.. والجمع: أملاء. وحكى أحمد بن يحيى قال: رجل مالىء:

جليل العين بجُهرته، وشابّ مالىء العين: إذا كان فخماً حسناً، ويقال: فلان أملأ

لعيني من فلان: أي أتمُّ في كل شيء، منظراً وحسناً. وهو رجل مالىء العين:

إذا أعجبك حسنه وبهجته.

وحكى: ملأه على الأمر يملؤه ومالأه.

وكذلك الملأ: إنما هم القوم ذوو الشأن والتجمع للإدارة. والملأ على هذا

صفة غالبة.

وقد مالأته على الأمر ممالأة: ساعدته عليه وشايعته، وتمالأنا: اجتمعنا،

والملأ في كلام العرب: الخُلُق.

والملأ: العِلْيَة. وما كان هذا الأمر عن ملاً منا: أي عن تشاور

واجتماع [14] .

10-

وقال أبو حيّان الغِرناطي الجيّاني النحوي المفسر (ت 754هـ) :

الملأ: الأشراف من الناس، وهو اسم جمع، ويُجمع على أملاء.

قال الشاعر:

وقال لها الأملاءُ من كل معشر

وخير أقاويل الرجال سديدها

وسموا بذلك؛ لأنهم يملؤون العيون هيبة، أو المكان إذا حضروا، أو لأنهم

مليؤون بما يُحتاج إليه.

وقال الفرّاء: الملأ من الرجال في كل القرآن لا تكون فيهم امرأة، وكذلك

القوم والنفر والرهط.

وقال الزجاج: هم الوجوه وذوو الرأي [15] .

11-

وقال الفيروز آبادي (ت 817هـ) :

الملأ: التشاور. والأشراف والعلية والجماعة والطمع والظن. والقوم ذوو

الشارة والتجمع والخُلُق [16] .

12 -

وقال العلَاّمة الآلوسي (ت 1270هـ) :

الملأ من القوم: وجوههم وأشرافهم، وهو اسم للجماعة لا واحد له من لفظه،

وأصل الباب: الاجتماع فيما لا يحتمل المزيد.

وإنما سمي الأشراف بذلك؛ لأن هيبتهم تملأ الصدور، أو لأنهم يتمالؤون:

أي يتعاونون بما لا مزيد عليه [17] .

13 -

ومن الكُتاب المعاصرين:

وممن عرض لمعنى الملأ وموقفهم من الدعوات عدد من الكُتاب المعاصرين،

نذكر فيما يلي نماذج لما يمكن استخلاصه من آرائهم في ذلك. قال الشيخ محمد

أحمد العدوي: عن الملأ:

الأشراف والسادة الذين امتلأت نفوسهم بحب الجاه والسمعة والرياسة

والاستئثار، وهم المترفون الذين قال الله - تعالى - فيهم: [وَمَا أَرْسَلْنَا فِي

قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلَاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ] [سبأ: 34][18] ،

وهم الذين تحدث عنهم الكاتب والمؤرخ محمد عزة دروزة رحمه الله في بحثه

عن معركة النبوة مع الزعامة في مكة والذين سماهم بجمهورية زعماء الأسر

العريقة، حيث كان يتولى هؤلاء الزعماء شؤون مكة العامة على اختلافها في نطاق

ما يسمى بدار الندوة، فوصفهم بأنهم: الزعماء والأغنياء في مكة - بصورة عامة - يتمتعون بالنفوذ والسيادة، يأمرون فيُطاعون، ويُدعون فيُستجابون، ويسنّون

فيُتبعون، وتكون لهم الكلمة الفاصلة في المشاكل والقضايا العامة الداخلية والخارجية

والدينية والسياسية والاجتماعية [19] .

وقال الشيخ محمد سرور زين العابدين في كتابه (نهج الأنبياء في الدعوة إلى

الله) [20] :

الملأ: هم بطانة الحكام الظالمين وأعوانهم، وأصحاب المصالح والأغنياء

المترفون، وزعماء المناطق والقبائل.. ومن سنن الله الثابتة في خلقه أن يكون

هؤلاء جميعاً في طليعة مَن يتصدى لأنبياء الله؛ لأن نفوسهم امتلأت بحب المال

والجاه، وقلوبهم قد أُشربت كُره كل من يدعو إلى دين الله.. وهؤلاء هم الذين قال

الله فيهم: [وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلَاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ][سبأ: 34] .

والخلاصة:

أننا نريد من (الملأ) الذين ورد ذكرهم في كتاب الله - تعالى - لبيان موقفهم

من الدعوة إلى الله - تعالى -: أولئك العلية من القوم، وجوههم وأشرافهم،

ساداتهم وزعمائهم المستكبرين في الأرض بغير الحق، يريدون عُلوًا في الأرض

وفسادًا، يجتمعون على رأي واحد، هو الصد عن دين الله - تعالى - والتصدي

للأنبياء والرسل، وحرب الدعاة إلى الله - تعالى - فيتمالأون على ذلك ويجتمعون

ويتعاونون مع بطانة سوء لهم.

امتلأت نفوسهم بما يحتاجون إليه، إلى درجة لا مزيد عليها، فقد

أُبْشِمُوا [21] بالمال والترف، والجاه والشرف، والزعامة والسيادة والمكانة بين قومهم، فأصبحوا يملؤون العيون رواءً ومنظرًا، والنفوس بهاءً وجلالاً، ونادي القوم أو المجلس - إذا حضروه وتصدروه - هيبةً ومكانة، ويعظمون في عيون من يرونهم، إليهم ترجع العامة في القول والرأي، وعليهم تعقد الخناصر، وتشير الأصابع إليهم، فأصبحت كلمتهم كلمة الفصل المسموعة، ورأيهم رأيًا سديدًا مطاعاً، وإشارتهم أمراً نافذاً. يقولون فلا معقب على قولهم، ويتكلمون فتلجم أفواه غيرهم وتنعقد الألسنة. يرون الرأي فليس لأحد وراء رأيهم رأي في قضيةٍ ما صغيرةٍ أو كبيرة، داخلية أو خارجية.

يظلمون غيرهم فيكون ظلمهم عدلاً، ويتسلطون على أرواح الناس وعقولهم

وأجسادهم وأموالهم، فيكون هذا كله حقاً لهم، وديناً في أعناق غيرهم، تحقيقاً

لمصالحهم الشخصية ودوافعهم الذاتية وأهوائهم الجامحة ومطامعهم الكثيرة.. أولئك

هم الملأ من كل قوم، الذين ينبغي أن نتعرف على سمات شخصياتهم ومعالمها

وعلى أساليبهم في الصد عن الدعوة ومحاربتها، والدوافع التي تدفعهم لذلك، ثم

نتبين موقف القرآن الكريم وموقف الرسل - عامةً - منهم؛ لنكون على بينة من

الأمر في موقفنا منهم.

والله الموفق.

(1) مجاز القرآن، لأبي عبيدة معمر بن المثنى: 1/77، 280، تحقيق د محمد فؤاد سزكين، والحديث ذكره ابن هشام في السيرة: 2/77 من الروض الأُنُف، بلفظ:(أي ابن أخي أولئك الملأ)، قال ابن هشام: يعنى الأشراف والرؤساء، وعنه نقله ابن كثير في البداية والنهاية: 3/305، وليس فيه قوله:(احتضرت أفعالهم) إلخ.

(2)

تهذيب اللغة للأزهري: 15/ 404-406.

(3)

أخرجه مسلم في كتابه المساجد: 1/472-474، وأبو داود وأحمد في المسند: 5/298، 302، 307.

(4)

أخرجه مالك في الموطأ، المنتقى للباجي: 7/115، وأخرجه الشافعي والبيهقي والدارقطني، انظر بالتفصيل: إرواء الغليل للشيخ ناصر الدين الألباني: 7/259، 261.

(5)

أخرجه البخاري في الجزية، فتح الباري: 6/382-383، ومسلم في الجهاد: 3/229، وأحمد في المسند: 1/393 7، 417.

(6)

غريب الحديث للخطابي: 1/668.

(7)

المصدر السابق: 3/229.

(8)

المصدر السابق: 2/151.

(9)

معجم مقاييس اللغة، لابن فارس: 5/346.

(10)

مفردات القرآن، للراغب الأصفهاني:473.

(11)

تفسير البغوي بهامش الخازن: 1/213.

(12)

النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير: 4/351، وفيه عرض للمعاني التي سبقت عن الملأ مع شواهدها من الحديث والشعر، تركناها لأنها سلفت فيما نقلناه عمن سبقه رحمهم الله .

(13)

الجامع لأحكام القرآن، للإمام القرطبي: 3/243، 7/234.

(14)

لسان العرب لابن منظور: 1/ 153 - 155، طبع الدار المصرية للتأليف.

(15)

البحر المحيط، لأبي حيان: 2/248.

(16)

ترتيب القاموس المحيط، للأستاذ الطاهر أحمد الزاوى: 4/474.

(17)

روح المعاني للآلوسي: 2/164.

(18)

دعوة الرسل إلى الله تعالى، لمحمد أحمد العدوي، ص1، 2.

(19)

معركة النبوة مع الزعامة، للأستاذ محمد عزة دروزة، في المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية في الدوحة بقطر عام 1400 هـ، مجموعة البحوث والدراسات المقدمة للمؤتمر:

6/407، وما بعدها.

(20)

منهج الأنبياء، ص59-60، دار الأرقم بالكويت.

(21)

بَشِمَ من الطعام بَشَماً: أكثر منه حتى اتَّخَمَ وسئمه، فهو بشيم المعجم الوسيط: 1/59.

ص: 22