المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الافتتاحية ‌ ‌قالوا وقلنا   قالوا: إن الأوطان تبنى بالمشاركة وتعاون جميع فئات المجتمع، - مجلة البيان - جـ ٤١

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: الافتتاحية ‌ ‌قالوا وقلنا   قالوا: إن الأوطان تبنى بالمشاركة وتعاون جميع فئات المجتمع،

الافتتاحية

‌قالوا وقلنا

قالوا: إن الأوطان تبنى بالمشاركة وتعاون جميع فئات المجتمع، ولا يتصور

قيام مجتمع إلا بمساهمة كل أفراده -كل حسب طاقته وتخصصه - في عملية البناء

والتنمية.

قلنا: نعم، وهذا هو عين ما نفتقده في مجتمعاتنا الإسلامية التي لا يصنف

الإنسان فيها على حسب جدارته ومواهبه الفردية، بل على حسب أمور أخرى:

كالنسب، والجاه، والمال، ومدى قربه من أصحاب السلطان

ولذلك فإن الوقت

قد حان للخروج من أسر هذه المعوقات والمثبطات التي أصبحت غير صالحة في

هذا الزمن الذي اقتنع فيه جل سكان الأرض أن هذه المقاييس لا تبني بل تهدم،

وهذا المعنى هو الذي يلح عليه العاملون في الحقل الإسلامي في كل مكان، مع

اختلاف بينهم وبين غيرهم في أنهم يريدون تحكيم الإسلام واستلهام مبادئه وآدابه.

قالوا: ولكن من يفسر الإسلام؟ ، ولماذا تنصبون أنفسكم متحدثين باسم

الإسلام؟

قلنا: إن الإسلام - بحمد الله - دين محفوظ الأصول، ويفسره علماؤه الذين

ترتضيهم الأمة. وليس لأحد أن يحتكر حق التحدث باسم الإسلام، بل كل مسلم

أنس من نفسه القدرة على التوجيه والنصح فله ذلك - إذا كان منضبطاً بالأصول

المتعارف عليها - فإن أخطأ رد الناس عليه، وبينوا خطأه.

لكننا نرى أن هذه العبارة: (احتكار التحدث باسم الإسلام والوصاية عليه) قد

أصبحت قالباً جامداً من القوالب الجاهزة التي ترمى في وجه كل من يدعو إلى

الإصلاح ومحاربة الفساد مستنداً إلى تعاليم الإسلام، فكلما أمر بمعروف أو نهى عن

منكر قوبل من يستند إلى هذا الأمر المشروع بهذه التهمة = تهمة الاحتكار

والوصاية، وهذا أسلوب معروف في المداورة والمناورة، فعندما لا تستطيع نكران

الحق إلى تجريد من ينطق به من الشرعية التي يستند إليها، وعندما تفعل ذلك

سوف لن تظل وحدك في مواجهة هذا الحق؛ بل سينضم إليك جموع وأفراد من

دعاة الحق أنفسهم، وهذا هو ما يفعله العلمانيون في حربهم للإسلام ودعاته في

بلادنا، وهكذا فإن هؤلاء العلمانيين لا يحبون ألا يظهروا وحدهم في جبهة، ودعاة

الإسلام في جبهة أخرى، بل يفضلون أن تكون المعركة في صورتها الظاهرة بين

فرقين أو أكثر من المسلمين، وفي الوقت الذي يورِّثون نار العداوة بين طوائف

المسلمين ويذكونها بشتى الحيل، يظهرون بمظهر الآسف أحياناً لما يجري،

وبمظهر الحكم الذي (تدارك عبساً وذبيان بعدم تبزل بين العشيرة بالدم)[1] .

قالوا: إن ما ترونه معروفاً أو منكراً قد تخالفكم طبقات من الناس في اعتباره

ذاك، وعندما تلجأون إلى إقرار ما ترونه حقاً ومعروفاً وإنكار ما ترونه منكراً

وباطلاً فإنكم تتدخلون في حرية الآخرين، وهذا هو الإرهاب الفكري.

قلنا: إذن هو اختلاف على تحديد معاني الألفاظ، ونحن نرضى أن يكون

للألفاظ التي نستخدمها معانٍ محددة لا رجراجة، ونكره التلاعب بالألفاظ والرضا

بمعانيها في حال أخرى، والنكوص عن الاعتراف بها في حال أخرى، وهذا ما

ننقمه على أصحاب الشعارات التي ترفع ثم تفرغ من محتواها، وما نكرهه في لغة

السياسيين تلامذة (ميكافيلى) والشيطان، فنحن لا نبتكر معروفاً من عند أنفسنا ولا

نختلق منكراً، كما لا نحوِّل محرماً إلى معروف، ولا حقاً إلى منكر. بل المعروف

والمنكر معنيان لهما في حس المسلم وشعوره معانٍ وجذور لا تزيلها السفسطة، ولا

تمحوها الأجهزة الإعلامية على اختلافها وجبروتها، فهي من الحق القديم الذي لا

يمحوه الباطل بهيله وهيلمانه، فالمعروف ما عرفه الشرع، والمنكر ما أنكره الشرع. وهذه حقيقة بسيطة وسهلة، وكلما حاول المحاولون الدوران حول هذه الحقيقة،

أو استبدالها بتعريف لا تعرفه الأمة، ولا يلامس شعورها؛ فإن عاقبة ذلك مزيد من

عدم الثقة، ومزيد من المعاناة لأكبر عدد من أفراد المجتمع، وباختصار؛ كل

محاولة لاستيراد مفاهيم جديدة لا عهد للأمة بها، ولا تمثل شيئاً لما سوف ينعكس

أثرها آلاماً وفقدان أمن، وركوداً في جميع المجالات.

قالوا: أنتم لا تريدون الديمقراطية، وإنما تستغلونها من أجل الوصول إلى

الحكم، فأنتم قوم متعطشون ضد السلطة، وتتخذون من الديمقراطية سُلَّماً لذلك،

وإذا وصلتم إلى ما تريدون سوف تحكمون حكماً استبدادياً، وسوف تتسلطون على

غيركم، وتنتهكون حقوق الإنسان، ولهذا فمن الطبيعي والمشروع لمؤسسات

المجتمع والدولة أن تقف في وجهكم.

قلنا: هذا هو أسلوب فرعون في الجدل، الذي قصه الله-عز وجل علينا

بقوله: [وقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا المَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ

عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إلَى إلَهِ مُوسَى وإنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الكَاذِبِينَ *

واسْتَكْبَرَ هُوَ وجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وظَنُّوا أَنَّهُمْ إلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ

وجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ] [القصص: 38- 40] .

إن في قولكم هذا من المغالطة قدراً كبيراً، وكأنكم حينما تلقون بهذا الكلام

تصفون أنفسكم بغيركم، وتنتزعون صفات المظنون من المحقق.

أما المظنون: فهو أن يكون من يلحون بتحكيم الإسلام لهم شأن مؤثر

بمؤسسات الحكم في هذا القرن الأخير على الأقل، فقد أبعدوا وأهملوا قسراً وعمداً، وعملت القوى التي ترى في الإسلام عدوها الأول على تشويه صورتهم بكل ما

أوتيت من قوة وحنكة ووسائل.

وأما المحقق: فعلى العكس من ذلك، إذ ولِّيت الأمور إما إلى من ليس يعنيه

شأن الشريعة الإسلامية بقليل أو كثير، وإما من اعتبر أن مهمته الأساسية كبت هذه

الشريعة ومحاربتها، واعتقدَ أن الأمة لن تنهض إلا بتخليصها من كل أثقال

الماضي ورواسبه المتخلفة بزعمه. ولا يمكن لأحد أن يزعم أن الشعوب العربية

والإسلامية كانت بعيدة عما يرمي به العلمانيون المسلمين من نزوع إلى التسلط

والاستبداد، فإن هذه الشعوب قد جربت أبشع أنواع الاستبداد والقهر في ظل هذه

الحكومات التي تسلمت حكم البلاد بعد الرحيل الصوري للمستعمر الغربي، وعانت

من فقدان الحرية بعد فترة الاستعمار ما جعل كثيراً من أفراد هذه الشعوب - ممن

جرب العهدين -يتحسر على عهود الاستعمار، ويتمنى لو رجع هذا الغربي الغريب

ينقذهم من ظلم ذوي القربى، فقد شاهدوا كيف تنحر الحرية باسم الحرية، وكيف

يسود الظلم بدعوى محاربة الظلم، وكيف تمزق الأوطان بدعوى الحفاظ على

الوحدة الوطنية، وكيف تتعطل أحكام الإسلام باسم الإسلام، وكيف تتحول أغلبية

الناس إلى عبيد في عصر حرمت فيه تجارة الرقيق.

فكيف يُرمى الداعون إلى الإسلام بالتسلط والاستبداد وهم لم يحكموا؟ ! !

وكيف يحرمون من حق الاختيار وهم بشر؟ ! وكيف تفرض عليهم وجهات النظر

الأحادية في العصر الذي يدعي (المتحضرون والمتنورون) فيه أن حرية العقيدة

وحرية التفكير مكفولة؟ وأي حصانة لمن ينتهك كل المحرمات ثم يرمي البرآء

بانتهاك حقوق الإنسان؟ وأي شرعية هذه التي يستند عليها من يداه ملطختان بالدماء

فيتهم الناس جزافاً أنهم ظلمة فجرة، ويسخر مؤسسات المجتمع والدولة للوقوف في

وجههم؟ والمؤسسات والدولة ما احتاج الناس إليها إلا إقراراً للعدل لا تثبيتاً للظلم،

وحرباً للباطل، لا تمرداً على الحق، وللأخذ على يد الظالم المستهتر، لا لتقييد

الداعين إلى ضمان الحقوق وسيادة التشريع الذي يتساوى جميع الناس أمامه! :

[إنَّ الَذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ويَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ ويَقْتُلُونَ الَذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ

مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] [آل عمران: 21] .

إن أجهزة الدول ومؤسساتها ليست حكراً على مجموعة تستخدمها لمصالحها

الشخصية وضمان استمرار تسلطها، بل هي مرفق عام لدفع الضرر عن المجموع

وجلب المصالح لهم. وما دمتم قد ارتضيتم الديمقراطية سبيلاً لإدارة الشؤون العامة؛ فلماذا لا تدعونها تجري مجراها، وعندما تتكرمون بمنحها للشعب؛ فلماذا لا

تصحبونها بتعريف محدد يزيل عنها الغبش والإبهام، فتقولون مثلاً: نريدها

ديمقراطية بطول كذا، وعرض كذا، وارتفاع كذا! وكل مجاوزة لهذه الأبعاد سوف

تجعلنا نسحب هذه (العطية) من أيدي الذين أعطيت لهم، ونعيدها إلى مخازنها

للحفاظ عليها من الجروح والخدوش؟ !

لكن مهلاً، إن (العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه)[2] . هذا إذا سلمنا

أنكم تملكون ما وهبتم، فكيف بمن يَمُنُّ بما لا يملك؟ ! لقد آن لمن يتعسفون في

استخدام ما بأيديهم من وسائل الإذلال أن يدركوا أن الناس قد شبت عن الطوق،

وأنه لا سبيل للخروج من المآزق التي يجدون أنفسهم فيها إلا بأن يعاملوا المسلمين

كبشر، فيريحوا ويستريحوا.

(1) تضمين لمعنى بيت زهير في معلقته في مدح هرم بن سنان والحارث بن عوف:

تداركتماً عبسا وذبيان بعدما

...

تبزَّل ما بين العشيرة بالدمِ.

(2)

صحيح ابن ماجه 2/47، وصحيح النسائي 2/786.

ص: 4

علماء الاجتماع والعداء للصحوة الإسلامية

(2)

الاعتراف بفشل التحليلات الماركسية

د. أحمد إبراهيم خضر

تعرضنا في الحلقة الأولى لبيان كيف أن الصحوة الإسلامية قد باغتت رجال

الاجتماع في بلادنا ولتساؤلهم لأنفسهم أين كانوا وقت حدوثها؟ وكيف كانوا يعتقدون

بأن ما يسمونه بالانتصارات الوطنية والقومية قد خلفت الدين وراءها؟ ، ثم

اعترافهم بعدم قدرة الوطنية والقومية على البقاء أو جذب الجماهير حولهما،

واعترافهم كذلك بأن (العقلانية) التي علقوا عليها آمالهم في فهم الواقع العربي قد

أصبحت عاجزة على الصعيدين النظري والمنهجي، وأن التفكير العقلاني أصيب

بأزمة عميقة وخيبة أمل، ثم اعترافهم بسقوط شعارات التحديث والعلمنة وبناء

المجتمع الحديث. ثم عرضنا أخيراً لتشخيصهم لسمات الحركة الإسلامية التي سعوا

إلى رصدها أملاً في التحكم فيها.

وسنخصص هذه الحلقة لبيان اعترافات الماركسيين العرب من رجال الاجتماع

في بلادنا بفشل تحليلاتهم عن الصحوة الإسلامية والدروس التي تعلموها منها.

في كلمات بسيطة وموجزة حسم الأستاذ (محمد قطب) القضية التي قضى

رجال الاجتماع من الماركسيين العرب زمناً في دراستها. يقول الأستاذ محمد قطب: (جاءت الصحوة الإسلامية في موعدها المقدور من الله.. وكانت مفاجأة ضخمة

لكثير من الناس) وعن الذين باغتتهم هذه الصحوة يقول: (هؤلاء قد أغفلوا حقيقة

ضخمة تندرج تحتها حقائق كثيرة لا تسير حسب حساباتهم، ولا تستطيع حساباتهم

أن تصل إليها، لأن الله قد جعل على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقراً.. أغفلوا بادئ

ذي بدء أن الذي يدبر الأمر في هذا الكون العريض كله ليسوا هم وليس غيرهم من

البشر، إنما هو الله) . [1]

الماركسيون من رجال الاجتماع العرب ليس مرجعهم (الله عز وجل) ،

إنما مرجعهم ماركس ولينين وماكس فيبر وألتوسير وغرامشي وسمير أمين وطيب

تيزيني وعابد الجابرى وحسين أحمد أمين ومحمد أركون وعبد الله العروي.. الخ.

يقول (علي الكنز) أستاذ الاجتماع في جامعة الجزائر في تفسيره للصحوة

الإسلامية: (لتفسير صحوة وانتعاش التوجه الديني الذي تعرفه المجتمعات العربية

المعاصرة استعملت العديد من فرضيات البحث، لكل واحدة منها فعاليتها النظرية

الخاصة. وباختلاف هذه الفرضيات من حيث التناول والطرح فهي ساعدت على

كشف واقع التشكيلات الاجتماعية العربية الراهنة. هذه الفرضيات العديدة

والمختلفة وضعت من قبل الكثيرين من أمثال: سمير أمين والطيب تيزيني ومحمد

أركون وعبد الله العروي ومحمد عابد الجابري وغيرهم من الذين زودوا الانتاج

العلمي بإنتاجهم الذي لا يستهان به من حيث نوعية التحليل وثراؤه) . [2]

وفي إحدى الحواشي لدراسته عن الإسلام والهوية يذكر أنه تبنى عنوان كتاب

حسين أحمد أمين: دليل الحزين إلى مقتضى السلوك في القرن العشرين [3] ، وفي

حاشية أخرى يقول: (ونستطيع هنا أن نردد الطريقة اللينينية المتعلقة

(بالحلقة الأكثر ضعفاً) ، أو بطريقة غرامشي (الزمن التاريخي) ، أو حتى المقولة الألتوسيرية المستوحاة من التحليل النفسي [4] .

هؤلاء هم مراجع الماركسيين العرب من رجال الاجتماع في تفسير الصحوة

الإسلامية. وسنعرض فيما يلي اعترافاتهم الصريحة بإخفاق تحليلاتهم وتفسيراتهم

لهذه الصحوة، وما تضمنته هذه الاعترافات من تأكيد على خيبة أملهم في

(العقلانية)[5] التي ظنوا أنها ستساعدهم في فهم الواقع العربي.

أولاً: قولهم بارتباط الدين بالتراجع والتقهقر، وارتباط العقلانية بالصعود

والتطور.

الدين عند رجال الاجتماع تعبير عن الحزن وانعكاس لبؤس العالم وشقائه،

أما الفكر العقلاني فهو تعبير عن حيوية الوعي الجماعي الذي يعكس تطور العالم

وازدهاره.. ومن ثم فإن الصحوة الإسلامية وما يسمونه بانتعاش التوجه الديني هو

عندهم تراجع وتقهقر إلى الوراء.

يقول علي الكنز: (.. فهل يمكن لنا أن ندلي بأن الوعي الديني أو التشبث

بالدين هو مُزامن للفترات التراجعية والمراحل المتقهقرة، وأن الفكر العقلاني يزامن

الفترات التصاعدية أو المتطورة، ونقول أن ذلك هو تطبيق للقانون التاريخي..

وعليه؛ فإن الدين هو بمثابة تعبير عن الحزن، وبالتالي فهو انعكاس لبؤس العالم

وشقائه، وعكس ذلك اعتبار الفكر العقلاني بمثابة تعبير عن حيوية الوعي الجماعي

الذي يعكس هذه المرة تطور العالم وازدهاره) [6]

اعترف الماركسيون العرب من رجال الاجتماع بعد مراجعة حساباتهم بفشل

تصوراتهم عن الارتباط بين الدين والتقهقر، وبين العقلانية والصعود، وساقوا

الأسباب الآتية لبيان فشل هذا الارتباط: -

1-

أن هذا الارتباط يأخذ تاريخ الغرب على أنه النموذج الأصلي والمرجعي

لتاريخ البشرية وهذا غير صحيح باعترافهم.

2-

أن هذا الارتباط يعتبر أحكاماً مسبقة لا أساس لها من الصحة لكونها غير

مبنية على وقائع تاريخية أو براهين استدلالية.

3-

أن هذا الارتباط يمثل في رأيهم سقوطاً فيما يسمونه (بغي الأيديولوجية

الوضعية [7] ، والعلموية [8] التي أنتجتها الثقافة الغربية) ، بمعنى أنه: (استهلاك

لقراءة غربية يستهلكها الفكر العربي باسم العقلانية) ، وبصورة أخرى: أنه (تبنٍ

لايديولوجيات وفكر ونظريات أنتجت خارج المجتمعات العربية) ، وذلك حسب

تعبيراتهم ذاتها التي أوردوها في ثنايا اعترافهم [9] .

ثانياً: قولهم بالقدوم المظفر والمنتصر لرجل التقنية وزوال ما يسمى (برجل

الدين) .

من المعروف أنه ليس هناك رجال دين في الإسلام وإنما هناك علماء،

فمصطلح (رجال الدين) ، انتقل إلينا من النصرانية، وشاع استخدامه في بلادنا

بسبب التأثر بحضارة الغرب.

اعتقد الماركسيون العرب من رجال الاجتماع نقلاً عن عبد الله العروي بأن ما

يسمى برجل الدين قد اختفى وزال من الساحة بسبب القدوم المظفر والمنتصر لرجل

التقنية لكنهم عادوا يعترفون بعدم صحة ذلك مؤكدين في نفس الوقت اعترافهم بفشل

العقلانية وأشكال تحليلاتها.. وساقوا بأنفسهم أيضاً أدلة عدم صحة افتراضهم السابق

على النحو التالي: [10]

1-

ان الاعتقاد بزوال ما يسمى برجال الدين مغالطة لا تشاهد في التاريخ،

يقول علي الكنز معترفاً: (إن التحليل السوسيولوجي الذي جاء به عبد الله العروي

وتبنيناه نحن بدورنا.. ما هو في نهاية الأمر إلا مغالطة يمكن أن تكون انطلقت من

حالة تلبس صامتة وهي مغالطة لا تشاهد في التاريخ) .

2-

أن إيمانهم بزوال ما يسمى برجل الدين كان سببه تبنيهم للعقلانية كشكل

إيديولوجي جعلهم يرون ما يريدون هم رؤيته، وهو زوال ما يسمى برجل الدين،

يقول علي الكنز معترفاً: (وهل اختفى رجل الدين عن الساحة فعلاً، أم أن إداركنا

الإيديولوجي لهذه الساحة هو الذي أوحى لنا بذلك تحت أشكال عقلانية، حتى

أصبحنا نؤمن بالوهم القائل بزوال رجل الدين؟ إنها صورة مزيفة جعلتنا نشاهد ما

نريد نحن مشاهدته) ، ويعترف علي الكنز مرة أخرى: (وبناءً عليه وبما أنه من

المحتمل جداً عدم اختفاء رجل الدين عن الساحة؛ فإنه يجب أن نتساءل، بل نسأل

أنفسنا ليس عن هذا الاختفاء بما أنه لا وجود له على الإطلاق، بل عن عدم قدرتنا

على كشف حضور رجل الدين بين فجوات الأيديولوجية المسيطرة حالياً) . [11]

ثالثاً: قولهم بأن الصحوة الإسلامية ظهرت بسبب عدم نضوج التركيبة

الطبقية العربية:

يعلل الماركسيون العرب ظهور الصحوة الإسلامية يما يسمونه عدم نضوج

وعدم اكتمال تكوين التركيبة الطبقية في العالم العربى التي من شأنها إذا كانت كاملة

منسجمة وناضجة أن تؤدي إلى ظهور إيديولوجية علمانية وعقلانية، وأنها إذا كانت

غير كاملة ومذبذبة ستؤدي إلى ظهور إيديولوجية دينية ولا عقلانية. ولهذا فإن عدم

اكتمال ونضوج هذه التركيبة الطبقية في العالم العربي -كما يتصور الماركسيون

العرب - الذين وصفوها بأنها عاجزة ومشوهة أدى إلى فراغ، هذا الفراغ هو الذي

أدى لظهور الصحوة الإسلامية.

ويستند الماركسيون من رجال الاجتماع العرب هنا إلى فكرة (محمد أركون)

القائلة بأن المجتمعات العربية لا يوجد لديها ما يقابل أو يعادل طبقتي (البورجوازية

والبيروليتاريا) في المجتمعات الغربية، بمعنى أن هاتين الطبقتين اللتين تضامنتا

وتصارعتا عملتا على إظهار الأيديولوجية العلمانية في الغرب، لكن ضعفهما

الملحوظ في عالمنا العربي ساعد على ظهور الصحوة الإسلامية. هذا ويضيف

الماركسيون العرب أسباباً أخرى لظهور الصحوة الإسلامية منها: الفشل الاجتماعي

والاقتصادي للمجموعات التي أزالت الاستعمار وقامت بالتنمية الوطنية، ومنها

أيضاً: وجود مجموعات متحالفة مع الغرب وأخرى طفيلية ظهرت وانتشرت

أخيراً. [12]

ثم يعود الماركسيون العرب من رجال الاجتماع إلى الاعتراف بفشل هذا

التحليل، استناداً إلى ما يلي:

1-

أن هذا التحليل اعتمد على المماثلة والقياس بالغرب، بمعنى أنه يعتبر أن

الفئات التي ظهرت وتصارعت قديماً في أوربا، وأنها تشبه الطبقات الرئيسية بها

وخاصة البورجوازية والبروليتاريا. هذه المماثلة - باعترافهم - غير صحيحة لأن

هاتين الطبقتين الرئيسيتين في المجتمعات العربية تختلفان من حيث السلوك عن

النموذج الأصلي لهما، ومن ثم - نعتوهما - بعدم النضوج واللاعقلانية الذي مهد

لظهور الصحوة الإسلامية [13] ، ويلخص الماركسيون العرب من رجال الاجتماع

هذه النقطة بقولهم: (إن هذا الفكر التحليلي سجن نفسه في إطار محدد وحبس نفسه

في حقل تاريخي واجتماعي غريب عنه) . [14]

2-

أن واقع المجتمع العربي لا يتفق مع ما يريده الماركسيون ولا يخضع

أفراده (لقيم الإنتاج) التي يتحدثون عنها، ويعني هذا: أن الناس لا تربطهم

المصالح الاقتصادية دائماً وإنما الدين هو الذي يسيطر عليهم. [15]

3-

الخطاب الديني - باعترافهم - خطاب متفوق وليِّن، يجتاز ويؤثر على

جميع الفئات الاجتماعية، بما فيها تلك الفئات التي يأملون أن تقوم بالتغيير

كالبورجوازية والبروليتاريا، بالإضافة إلى فئات صغار وكبار الموظفين [16] ،

وفي عبارات صريحة تحوي اعترافاً صريحاً بفشل نموذج التحليل الماركسي،

وبإخفاق واضطراب الفكر العقلاني، وبسعي كل الطبقات إلى تطبيق الشريعة

الإسلامية وممارسة الشعائر الدينية، يقول علي الكنز: (نحن اليوم أمام فشل نموذج

التحليل، وأمام قلق واضطراب الفكر العقلاني، وإذا كنا ننتظر على الأقل تأثرات

الطبقة العاملة والبورجوازية أن تتبلور وتتجسد داخل الحركة الاجتماعية، فنحن

نلاحظ هروب هذه الطبقات عن كل الفاعلين: شعائر دينية وأصول عرقية

والتحريض لتطبيق الشريعة الإسلامية في قانون الأسرة.. الخ، إنه إخفاق في

نظري يضع الفكر التحليلي أمام البديل) . [17]

رابعاً: اعترافهم بأن نظرية الصراع الطبقي مسؤولة عن الدمار الذي

يتخبطون فيه، لا زال الماركسيون العرب من رجال الاجتماع يصرون على أن

فكرة الصراع الطبقي فكرة صائبة، بالرغم من أنهم اتهموا هذه النظرية بأنها

مسؤولة عن الدمار الذي يتخبطون فيه. كما يعترفون بأن بعض المحللين العرب

أرادوا قراءة الواقع العربي ماضياً وحاضراً انطلاقاً من معطيات المجتمعات الغربية

وفي ضوئها. ويعترفون كذلك بأنه في هذا التاريخ الأوربى الذي يتخذونه كنموذج:

نادراً ما تطاحنت الطبقات الاجتماعية في المجتمعات الرأسمالية، وأنها لم تكن

فاعلة مباشرة، ولم تتمكن من فرض نفسها كطبقات..

كما يعترفون بأنهم تسرعوا في الحكم على الواقع العربي لأنهم لم يراجعوا

نظرية الصراع الطبقي في فئاتها المرجعية المستعملة وفي منطلقاتها النظرية ولم

يتأكدوا من صحتها ومدى ملائمتها ومدى صحة وقابلية أدواتها، بل اعتبروا أن هذه

النظرية هي الواقع الوحيد، واحتقروا الحركة الإسلامية لأنها لم تتطابق مع

نموذجهم المرسوم [18] .

وسجل هذه الاعترافات علي الكنز بقوله:

(لقد تسرعنا في مشاهدة الطبقات وفئاتها، وكذلك البورجوازية والبروليتاريا

والبورجوازية الصغيرة والفلاحين، داخل الحركات الاجتماعية والسياسية التي

زعزعت بلدان العالم الثالث، وقد تم هذا التسرع دون مساءلة المنطلقات النظرية

والفئات المرجعية المستعملة، وحتى التأكد من صحتها ومدى ملائمتها. وهكذا قمنا

بالمعاينة دون التفكير في مدى صحة وقابلية تلك الأدوات، بحيث أصبحت النظرية

العلمية للطبقات هي المرجع الوحيد، وعندما نشاهد الطبقات الاجتماعية حيث لم

تكن موجودة حتى وإن تم ذلك على حساب الحركة الاجتماعية واحتقارها لا لشيء

إلا لأنها غير مطابقة للنموذج المرسوم) . [18]

خامساً: اعترافهم بعدم ارتباط ظهور الجماعات الإسلامية بانحطاط وتدهور

الظروف الاقتصادية والاجتماعية أو تطورها.

تبني بعض الماركسيين العرب من رجال الاجتماع فكرة أن هزيمة 1967

وتدهور الظروف الاجتماعية والاقتصادية هي السبب الرئيسي لظهور الجماعات

الإسلامية، ومن ثم رأوا أن ما يسمى بالفهم العلمي السليم لما يسمونه بهذه الظاهرة

والتصدي لها بجدية لا يتحقق إلا بفهم البنية الاجتماعية التي ظهرت فيها، وفهم

مجموعة الظروف الاقتصادية والسياسية السائدة، بمعنى أن الصحوة الإسلامية

ظهرت كرد فعل لحالة أزمة حادة وعامة على المستوى الاجتماعي، وأن وجود

أزمة حادة وعامة كان ولا يزال الشرط الضروري اللازم لظهور واندفاع ما يسمونه

بالحركات الدينية والاجتماعية ذات الطابع التعبيري.

يقول (عضيبات) أستاذ الاجتماع بجامعة اليرموك بالأردن: (هذا ويلاحظ

خلال التاريخ العربي أن ظهور الحركات الدينية الاجتماعية كان ولا يزال مرتبطاً

بفترات الاضطراب الحاد، التي يكون فيها بقاء المجتمع وتماسكه واستمراره مهدداً، لذلك كانت هذه الحركات الدينية الاجتماعية ولا تزال بمثابة استجابات للأزمات

الروحية والاجتماعية والسياسية الحادة التي شهدها ولا يزال يشهدها مجتمعنا العربي

الإسلامي) . [19]

واستشهد (عضيبات) بالأزمة التي مر بها المجتمع العربي الإسلامي خلال

فترة حكم معاوية، والتي مهدت لعمر بن عبد العزيز إعادة توجيه الحكم بما يتفق

والمبادئ الإسلامية، كما استشهد أيضاً بتجربة الإخوان المسلمين التي أسسها (حسن

البنا) ، والأزمات التي كان يعانيها المجتمع في عهده، ليصل في النهاية إلى القول

بأنه (من المؤكد أنه في ظل الظروف البالية والقلقة التي يعيشها الآن مجتمعنا

العربي الإسلامي، فإن نشاط الحركات الدينية مستمر لمواجهة هذه الظروف) [20]

أخذ سمير نعيم أستاذ الاجتماع بجامعة عين شمس بالقاهرة كمثالٍ، سعى فيه

جاهداً ليثبت أن سبب انتشار الدين والجماعات الإسلامية كان مرتبطاً بالخلل الذي

أصاب النظم الاجتماعية في مصر على كافة المستويات.

تعرض نعيم لفساد النظام الاقتصادي الذي قال: أن مفاتيحه قد أصبحت في يد

الغرب الذي يملك في أي لحظة إحداث انهيار في هذا الاقتصاد؛ إذا ما تهددت

مصالحه، أو تعارضت القرارات القومية المصرية مع هذه المصالح، كما كشف

عن تراجع الصناعات التحويلية والزراعة، وتراجع دور الدولة في إقامة

المشروعات الكبرى التي تستوعب الطاقة العاملة، وتحدث عن ظهور واستشراء

الفئات الطفيلية التي شهدت ثراء فاحشاً من خلال عملية تخرب الاقتصاد المصري،

وانتشار تجار العملة، وزيادة معدلات التضخم، واشتداد أزمة الإسكان، وبطالة

الشبان المتعلمين، وكذلك انتشار الفساد والانحلال الخلقي، وتراجع قيم الشرف،

وأن المال أصبح هو القيمة العليا، وأصبحت الغاية تبرر الوسيلة حتى لو كانت هذه

الوسيلة هي بيع الشرف أو الدعارة.

وعن تدهور النظام التعليمي؛ أوضح نعيم: أنه نظام يعتمد على التلقين القائم

على حشو ذهن الطالب خلال مراحل الدراسة بمعلومات عليه أن يحفظها دون أن

يشغل عقله بالتحليل والنقد، ودون أن يشجع على المعرفة والفكر أو المطالعة في

المكتبات.

وعن فساد الثقافة والإعلام؛ بيَّن نعيم كيف أن الثقافة تحولت إلى سلعة

تجارية واستثمارية تهتم بالربح وبالمظهر أكثر من الفائدة والمضمون، وأشار أيضاً

إلى الفن الهابط والمبتذل في المسارح، المتاح فقط لمن يقدرون على تحمل أثمان

دخول هذه المسارح، ولتلك الفئة من الشباب التي تتفق قيمها وميولها مع ذلك النوع

من الفن المشجع على الانحراف. أما وسائل الإعلام: فإنها تعرض لجماهير

الشباب صوراً متنوعة وبكثافة عالية للإنفاق البذخي والمظاهر الاستهلاكية، التي

تعجز غالبية الشباب عن مجاراتها كما أنها تعرض نماذج سلوكية وثقافية غريبة

مبتذلة، بما يثير نقمة واشمئزاز الكثير من الشباب، أو يمثل غواية لهم للانحراف.

أوضح نعيم: أن نتائج فساد كل الأنظمة من اقتصادية وسياسية وتربوية

وثقافية، تصب في الأُسرة التي تقوم بالتنشئة الاجتماعية الأولى للإنسان، ثم تحدث

عن المشكلات اليومية التي تواجهها الأسرة المصرية من مواصلات وإسكان وغذاء

وملبس وتعليم وصحة وتلوث وضوضاء وفوضى واضطراب وتسيب وفساد،

وحصار إعلامي ودعائي.. الخ [21] .

انتهي سمير نعيم من كل ذلك إلى القول: بأن كل هذه الظروف أدت إلى

ظهور الجماعات الإسلامية التي انضم إليها الشباب لمواجهة هذا الفساد وهذا الخلل

في النظم الاجتماعية، وأن هذه الجماعات قد سارعت لملء الفراغ الثقافي الذي

تسبب عن فساد الثقافة والإعلام بطبع كتب وصحف ومجلات وأشرطة وفيديو

كاسيت بحجم ضخم، واعترف نعيم كذلك بزيادة حجم الإقبال على هذا المنتج. كما

أشار إلى دور هذه الجماعات في بيع ملابس المحجبات والكتب والدروس

الخصوصية بأسعار رمزية زهيدة، وأنها قامت بخدمات إنسانية اجتماعية عبر

الساجد، كالعلاج الصحي في المستوصفات والدروس المجانية للطلاب، أو

المساعدات الاجتماعية، ودور الحضانة.. الخ. [22]

تؤكد الشهادة السابقة لعضيبات وسمير نعيم هذا الدور الإيجابي والبنَّاء

للجماعات الإسلامية في موجهة الخلل والفساد الذي حل بالنظم الاجتماعية وأصابها

في الصميم، ومع ذلك يصر رجال الاجتماع على مهاجمة هذه الجماعات ومناصبتها

العداء؛ لا لشيء إلا لأن ماركسيتهم تعادي الدين وكل ما يرتبط به من حركات

ورموز.

ومع كل هذا؛ فإن الصحوة الإسلامية لم تظهر بسبب تدهور البنية الاجتماعية

والاقتصادية والسياسية للمجتمع، وإنما جاءت كما يقول الأستاذ محمد قطب: (في

موعدها المقدور من الله) ، ونأتي هنا إلى اعترافات البعض الآخر من الماركسيين

العرب من رجال الاجتماع بخطأ الربط بين ظهور الصحوة الإسلامية وتدهور

الظروف الاقتصادية والاجتماعية.

يرى (علي الكنز) أن ربط انتشار الدين بالانحطاط أو التطور الاقتصادي

والاجتماعي منزلق وقع فيه رجال الاجتماع، واستدل الكنز لإثبات ذلك بالماضي

الأوربي ذاته الذي ظهرت فيه الرأسمالية في الأصل في وقت عرفت فيه البلدان

الأوربية إصلاحات دينية، وربطت التنمية بانتشار الأيديولوجية الدينية كما حدث

في كل من بريطانيا وأمريكا الشمالية وهولندا..

استدل الكنز أيضاً باليابان في الحاضر المعاصر التي تربعت على عرش

الاقتصاد العالمي مقابلة بالصين، فاليابان ربطت الدين بالمجتمع والدولة ربطاً

عضوياً، وفعلت الصين المستحيل لمنع ذلك [23] .

ويشير الكنز في مثال آخر إلى الكاثوليكية التي أثارت العمال والشعب

البولوني لمحاربة الطبقة الحاكمة، وإلى الإيرلنديين ومناهضتهم للبروتستانت

الإنجليز، ويوجز الكنز ملاحظاته هذه معترفاً بقوله: (وبإمكاننا تعداد هذا النوع من

الملاحظات اللامنتهية، وتوضح اليوم -كما في الأمس- بأن البعد الديني قد ساهم

دوماً بشكل أو بآخر في تبلور الهوية الجماعية، وبأن انتشاره لم يرتبط في كل

زمان ومكان بفترات الانحطاط أو التطور الاقتصادي الاجتماعي [24] .

ويعطي (فرحان الديك) مثالاً آخر من الواقع العربي على خطأ هذا الربط؛

فيقول: (.. فظهور مثل هذه الحركات لا يمكن رده كما يفعل البعض إلى تردي

الوضع الاقتصادي، وربط ظاهرة الصحوة الدينية بالأزمة الاقتصادية؛ لأن ما

يسمى بالمد الديني ظهر وتطور في الفترة الزمنية نفسها التي تميزت أيضاً بالطفرة

أو الفورة الاقتصادية التي عرفتها -ولكن بدرجات متفاوتة بالطبع- كل المجتمعات

العربية [25] .

إلا أن المثير للدهشة والعجب أن يدعي رجال الاجتماع بعد كل اعترافاتهم

بفشل تحليلاتهم أن التيارات الوطنية والليبيرالية واليسارية والقومية هي المحاصرة

في بلادنا، وأن هناك تضييقاً على دعاتها وتنظيماتها، وأنه لهذا السبب فإن الساحة

ستظل شبه خالية أمام الحركات الدينية الاجتماعية، وسيملأ فكرها وتنظيماتها

الفراغ القائم [26] .

لا أحد يشك في عدم صحة هذا الادعاء، ولا أحد ينكر أن التنظيمات

الإسلامية هي المحاصرة من الداخل والخارج، وأن هناك تضييقاً على دعاتها،

وأن الساحة ليست خالية تماماً أمامها، ولا يرد هذا الادعاء إلا اعترافاتهم أنفسهم

بفشل تحليلاتهم وتفسيراتهم وافتراضاتهم، وعلى رأسها نظرية الصراع الطبقي.

جاءت هذه الاعترافات للماركسيين العرب من رجال الاجتماع إثر دروس

قاسية تعلموها من الصحوة الإسلامية، كان أقسى هذه الدروس عليهم أن تاريخ

الوطن العربي ليس هو إعادة ولا تكرار لتاريخ أوربا في القرن العشرين، عبر

الماركسيون عن ذلك بمرارة في قولهم: (وبكل قساوة تمكن الفكر العربي العقلاني

اليوم من اكتشاف هذا الدرس الجدلي) [27] ، أما الفكر العقلاني ذاته فقد أصيب كما

أوضحنا سابقاً بأزمة عميقة أجبرت أصحابه على ضرورة التفكير في نقده نقداً

جذرياً، مع الاعتراف بأن هذا الفكر العقلاني مأخوذ من الثقافة الغربية بطريقة

سيئة جداً بنص عباراتهم.

علمتهم الصحوة الإسلامية: أن عليهم التخلي عن الوضعية التي غلفت لهم

بغطاءات ماركسية متدنية ورديئة بنص عباراتهم أيضاً، وأن الجماعات الإسلامية

ليست بطبقات اجتماعية، وأن عليهم أن يلاحظوا هذه الصحوة بكل رصانة وبكل

سكينة -بنص عباراتهم كذلك -، على أساس أن هذا هو أول شرط للتحليل

العقلاني الذي أجبرته هذه الصحوة على أن يعيد النظر في افتراضاته ومنطلقاته

النظرية، وحتى إشكالياته ومنهجياته، على أمل زائف من أن يتمكنوا من ضبط ما

يسمونه بالواقع التاريخي.

الصحوة الإسلامية عند الماركسيين العرب من رجال الاجتماع (تحديد سالب

لكيان اجتماعي يستعيد حيويته، ويتبلور في حركة سياسية) [28] ، تصور رجال

الاجتماع أنه لا زال بإمكان الفكر العقلاني مواجهة هذه الصحوة إذا نوَّع مجالات

بحثه وانفتح على هذه الصحوة، واعترف بها كواقع، وأن يتخلى عن منهجيته

القائمة على أساس عالم متخيل. إلا أنهم رغم ذلك يرون أن الصحوة الإسلامية هي

انحراف للوطن العربي عن مساره الطبيعي وتجميد لتطوره، ذلك لأن هذه الصحوة

رفضت رفضاً كلياً الحداثة والعلمانية والليبيرالية والتقدمية؛ ولهذا رموها

بالانحراف والجمود.

اعترف رجال الاجتماع بأن فشل التجارب التنموية والوطنية تسببتا في ثغرة

أدت إلى ما أطلقوا عليه بالهجمة الواسعة للتوجه الديني الذي غاص في هذه الثغرة

وحقق نجاحاً لامعاً وسريعاً.

تعلم الماركسيون العرب من الصحوة الإسلامية درساً قاسياً آخر هو: أن

الدين يمكن أن ينوب عن رمزيتهم العقلانية والعلموية التي تشهد -كما يقولون -

أزمة عميقة.

تعلموا أيضاً: أن الإسلام بصفة خاصة يمكن أن يستفيد بشدة من الاضطراب

الذي تسبب عن التقنية الغربية وأزمة الأنظمة السياسية الغربية [29] .

تعلموا أيضاً: أن الإسلام لا العقلانية هو المطابق للوسط الثقافي المحلي،

وللمرجع التاريخي الحضاري للشعوب وأخلاقياتها، أما الإسلام السياسي - كما

يسمونه - فهو كالحوت في البحر بنص عباراتهم [30] ، وأنه يتميز باستراتيجية

وبتكتيك وبتقنيات الخطابة والدعاية، وأنه يستمد سلطته من الجماهير [31] .

علمتهم الصحوة الإسلامية أن الدين يمكن أن يتغلب على غيره في كل

الفترات، سواء أكانت فترات صعود نحو العلمانية والعقلانية، أو فترات انحطاط

وتدهور كما يتصورون؟ .

ودرس آخر شديد القسوة تعلموه من الصحوة الإسلامية هو: قدرة الإسلام

على الانتشار الواسع المحلي والوطني، وقدرته على إفشال الأحزاب والحركات

السياسية العلمانية التي تأسست في خضم حركات التحرر والتشييد الوطني، وقدرته

على التحول بسرعة خاطفة إلى أحزاب جماهيرية تستطيع توجيه أسلحتها الثقيلة

حسب عباراتهم نحو مسألة شرعية السلطة السياسية وأنظمتها القائمة على الوطنية

والتنموية [32]، يقول علي الكنز:

(لقد بنيت الأنظمة العربية اليوم على أسس الوطنية والتنموية، ونراها اليوم

تنحسر وتنهار بوطنيتها وتنميتها في الوقت ذاته) [33] .

- يتبع -

(1) محمد قطب، واقعنا المعاصر، مؤسسة المدينة، جدة 1989، ص364.

(2)

علي الكنز، الإسلام والهوية، الدين في المجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت1990، ص 97.

(3)

تابع ص 100.

(4)

تابع ص 108.

(5)

انظر تعريف العقلانية، الحلقة الأولى، حاشية رقم 9.

(6)

علي الكنز ص 99.

(7)

أول من استخدم مصطلح الوضعية هو سان سيمون ليشير به إلى منهج علمي يمتد ليشمل الفلسفة أيضاً، ثم تبناه بعد ذلك أوجست كونت ليؤسس به حركة فلسفية ك بيرة انتشرت بقوة في كل بلاد العالم الغربي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والعقود الأولى من القرن العشرين، تقوم الإلزامية الوضعية على مبدأ أن العلم هو المصدر الصادق والوحيد للمعرفة والحقائق وتتخذ الوضعية موقفاً عدائياً من الدين، ولهذا فهي تنكر كل جوهر يذهب وراء حقائق وقوانين العلم، وترفض أي نوع من الميتافيزيقيا، واستبدلت الدين المعروف بدين وضعي، كما وضعت أخلاقاً وسياسة وضعية انظر: Nicola Abbagnano، Posivitism، The Encyclopedia of Philosophy Macmillan Publishing N Y Q London p 414 هذا وأطلق الشيخ مصطفى صبري على هذه الفلسفة بالفلسفة الوضعية (الإثباتية) : الالحادية، وعاب على علماء الأزهر انخداعهم بها وعدم إدراكهم لإلحادها، انظر: مصطفى صبري، موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين، دار إحياء التراث العربي، بيروت [ج ا / ص148 -149، ويعتبر الشيخ فريد وجدي من أبرز العلماء في الأزهر الذين خدعتهم هذه الفلسفة إلى درجة أنه قد توافقها مع الإسلام، وكتب عنها قائلاً: (هذا هو رأى الفلسفة الوضعية التي أساسها الدليل المحسوس الذي لا ينقض في أي عهد من العهود المستقبلة، وهو يعتبر أساس الحكمة الإسلامية:] يُثَبِّتُ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ [انظر: محمد فريد وجدي، السيرة المحمدية تحت ضوء العلم والفلسفة- مجلة الأزهر ج 3 ربيع الأول1364/1945، مجلد 16، ص100.

(8)

العلموية أو النزعة التعالمية مصطلح يعني: أن العلم يستطيع أن يزود الجنس البشري بفلسفة شاملة في الحياة، وبحل لجميع المشكلات، وينظر إليه كأيديولوجية تشتمل على أرفع القيم وأرقاها انظر: محمد عاطف غيث، قاموس علم الاجتماع، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية ص 403.

(9)

على الكنز: ص 99-102.

(10)

على الكنز: ص 99-102.

(11)

على الكنز: ص 99-102.

(12)

على الكنز: ص 99-102.

(13)

على الكنز: ص 99-102.

(14)

على الكنز: ص 99-102.

(15)

على الكنز: ص 99-102.

(16)

على الكنز: ص 99-102.

(17)

على الكنز: ص 99-102.

(18)

على الكنز: ص 99-102.

(19)

عاطف العقلة عضيبات، الدين والتغير الاجتماعي في المجتمع العرب الإسلامي، الدين والمجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ص 155.

(20)

تابع ص 157.

(21)

سمير نعيم أحمد، المحددات الاقتصادية والاجتماعية للتطرف الدينى، الدين والمجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت ص 223، 235، 237.

(22)

تابع ص 234.

(23)

علي الكنز ص 105.

(24)

تابع 105-106.

(25)

فرحان الديك، الأساس الديني في الشخصية العربية، الدين في التجمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ص 118.

(26)

عضيبات ص 160.

(27)

علي الكنز ص: 100-109.

(28)

علي الكنز ص: 100-109.

(29)

علي الكنز ص: 100-109.

(30)

علي الكنز ص: 100-109.

(31)

علي الكنز ص: 100-109.

(32)

علي الكنز ص: 100-109.

(33)

علي الكنز ص: 100-109.

ص: 9