الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الافتتاحية
نحن والإعلام الغربي
محمد بن حامد الأحمري
كتب أحد أدباء كينيا يصف الحال التي أوصلتهم إليها مرحلة الاستعمار فقال:
(جاؤوا إلينا يحملون البندقية والإنجيل، فأمطرونا بالرصاص، ثم غمموا أعيننا،
ووضعوا أيدينا على المحاريث نقلب لهم الأرض ونزرعها، وبعد عناء طويل فتحنا
أعيننا لنجد بأيدينا الإنجيل وبأيديهم الأرض والثروة، وكنا قد نسينا استعمال السلاح، فنحن اليوم نقلب الإنجيل، ونتقلب في المجاعة والتبعية) .
تلك خلاصة حال المستعمرات التي عانت من عماء طويل ونهب منظم أشد
خطراً على الأمة من الهزائم العسكرية التي تلحق بها مؤقتاً، حيث يهب الناس بعد
ذلك لتغيير ما حل بهم، ولكن هذا التغيير مشروط بوجود الوعي العام لدى الأمة.
وقد سارعت القوى الغربية لإيجاد عوازل كثيفة بين الناس وبين سبل الوعي، وجعلت من الإعلام الذي يفترض أن يكون هو وسيلة التوعية والفهم جعلت منه
وسيلة لاستمرار الجهل والتخلف في دول العالم الثالث حيث يمارس هذا الإعلام
دوراً رئيسياً في تعمية الشعوب وصرفها عن طريق الحق والخير. وكلما تطورت
الصناعة الإعلامية في عصرنا سارع المشوهون للمفاهيم والعقول إلى استخدامها
لكبح وعرقلة طريق الوعي للأمة. وشاهد ذلك ما يحيا عليه المسلمون من مشرق
العالم إلى مغربه من وسائل إعلامية تعرض وتكتب في كل الأوقات مادة واسعة
حول شئون العالم، ولكنه حين يقف أمام هذا الكم الهائل لا يجد الصحيفة التي تهتم
به وبشئونه، ولا يرى ولا يسمع من يعبر عن وجهة نظهره، ولا يسمح له بالتعبير
عن رأيه ولذا فقد صودرت أبسط حقوقه في الرؤية أو السماع أو القراءة.
…
إن إرغام العالم الإسلامي بجماهيره الواسعة على سماع وتقبل وجهة النظر
الغريبة في كل الأحداث لا يمكن أن يجعله قابلاً لها ومُسلِّماً بها، بل إن هذا
الإصرار الغربي الشديد على رأيه في إسماع العالم صوتاً واحداً ورأياً واحداً فقط في
كل مسألة يدفع المسلمين إلى تكوين وجهة نظرهم الخاصة المضادة والتي قد
تنحرف أو يسودها العنف في بعض الأوقات حين لا يتوفر لها حرية الإقناع
والاقتناع وذلك لأن الشعوب الإسلامية أصبحت هامشاً مهملاً لا حق له ولا صوت
ولا رأي.
وإذا سمح بقسط أوسع من الحرية والكرامة للشعوب نضجت عامتها وخاصتها، وأصبح لذوي القرار قدرة ووعي وتوفر للمعلومات أكثر في حال تنوع مصادرها
وتنوع التحليل. ولا يمكن أن توجد لديهم هذه القدرة حين ترى وسائلهم الإعلامية
العالم من خلال المنظار الغربي فقط، ومن خلال زوايا ضيقة يسمح بأن ينظر
الناس من خلالها.
والإعلام الغربي عجوز قديم سبر الشعوب الصغيرة التي تحبو على أبواب
عالم اليوم وتحاول أن تدخل محافله وأن تؤثر في قراراته، ولكن خبراته تحاول أن
تجعل من الشعوب الصغيرة - أو التي هي في طرقها للتصغير لا للكبر - أبواقاً
للحن العام مشاركة في فريق الإنشاد ملتزمة بكل تفصيلات الإيقاع، فهذه الشعوب
آلات صغيرة يجب أن تلتزم بدور هامشي في المهرجان العالمي، وأن تكتفي فيه
بدور المصفق والمشاهد المغبون الذي يكدح وتوضع يده على المحاريث ويغطى
بصره، ثم بعد عناء طال أم قصر تزول الحجب وتكون عاقبته كعاقبة الأفارقة لا
يجد في يديه إلا (النظام العالمي القديم) خرافة يقلب فيها نظره فلا يعرف لها معنى
…
ولا تقيه من حر ولا قر.
واليوم يواجه مسلمو البوسنة المجازر والتهجير وإنهاء الوجود وتصفية دولتهم
التي اعترف بها العالم والأمم المتحدة، ويترقب المسلمون ويقلبون أيديهم فلا يجدون
إلا مؤامرات ومؤتمرات تكون عاقبتها كعاقبة مؤتمر فلسطين أو أسوأ [1] .
لهذا فحقيقة الشعارات والمظاهرات الإعلامية خديعة للضعفاء والمنقسمين. إذ
لا يصنع السلام إلا السلاح والقوة، والقادر على الحرب هو القادر على السلام وهو
الذي يلهي الضعفاء بالخداع والشعارات والضجة الإعلامية ثم يشرب المهزومون
السراب.
إن المسلمين اليوم لا يستفيدون من الانغلاق الإعلامي وإحكام المنافذ ضد
المعرفة أو الوعي بما يدور في العالم، وهم كذلك لا يستفيدون من جعل أنفسهم
مستهلكين فقط للمادة الإعلامية الغربية. فلا بد مع الانفتاح الإعلامي العالمي الذي
يحياه المسلمون اليوم من المشاركة الإسلامية البديلة، بل لا بد من فرض البدائل
وفتح المجال لها مهما بدأت صغيرة واهنة قليلة الأنصار محدودة الدعم، فإنها -
بإذن الله - هي الوارثة وهي التي تملك جذورها في الشعوب المسلمة؛ في قلوبهم
وأيديهم وألسنتهم وأموالهم، فهي لسانهم الناطق ومنبرهم المعبر عن آمالهم، ويمنعنا
نحن المسلمين عن هذه المشروعات المهمة أمور كثيرة منها ما هو بأيدي أعدائنا
ومنها ما نحن سببه، كبخلنا وعجزنا وترددنا وخوفنا من الأعمال المؤثرة. ومتى
تغلبنا على هذه المثبطات في أوساطنا فلا يملك العالم إلا الاعتراف بالصوت المؤثر
والخبر الصادق.
أما أن المسلمين سيستفيدون من الانفتاح العالمي فهذا مما لا شك فيه لأن الله لم
يخلق شراً محضاً. فالمسلمون بواسطة الإعلام الغربي والوكالات الغربية يعرفون
ما يحدث في أرجاء العالم ويتجاوبون معه قدر المستطاع. وحين يرون ما يقوم به
إخوانهم في بلدان بعيدة من عمل لإعزاز دين الله ونصرته فإن ذلك يثير العزائم
ويقوي الآمال ويحث المسلمين أجمعين على تقوية الصلة ومناصرة قضايا المسلمين
على الرغم من انحياز اللغة التي يُنقل بها الحدث. وكثير من قضايا الإسلام
والمسلمين في العالم ما كان للمسلمين أن يعرفوها بسهولة لو لم توصلها لهم أجهزة
الإعلام الغربي على ما فيها من تشويه.
ترسخت لدى الغرب صناعة إعلامية تجعل له تأثيراً وقابلية، ويشارك بدور
أساسي في صناعة القرارات ذلك لأنه إعلام مستقل إلى درجة كبيرة عن نفوذ
الحكومة المباشر، ورقيب عليها وعلى سير عملها بما يخدم مصلحة الشعوب. ثم
هو إعلام تنافسي تتنافس فيه هذه الوسائل على السبق الخبري، والتحليل المؤثر
والأسلوب الجذاب، وبالتالي تحصل الوسيلة الإعلامية على الإعلانات والمال
وجماهير المتابعين لتلك الوسيلة الإعلامية مرئية كانت أو مسموعة أو مكتوبة.
وقد تنافست هذه الوسائل في إعطاء صورة لمجازر المسلمين في البوسنة
وكان لهذه التغطية الإعلامية أثرها العالمي في كشف هدف الصرب وهو إخلاء
أوروبا من الإسلام. وفي هذه المرة بقي القرار السياسي العالمي يلعب بكلمات
الحرب العرقية والعنصرية وتجنب الدخول فيها. وقد كان أحد الصحفيين يحاور (جون ميجر) ليستخرج من فمه كلمة تصف هذه الحرب بأنها حرب نصرانية، ولكنه كان يهرب تماماً من أي إشارة إلى هوية الحرب الدائرة حتى يتجنب ما يبنى على هذا الوصف من موقف سياسي أو عسكري لا يريد النصارى اتخاذه ضد إخوانهم الصرب ويكتفى بإرسال الطعام للقتلى! !
وهذا نموذج للمصطلحات والتسميات التي يتداولها الإعلام من أسلحة الكلمة
المؤثرة، حيث يبتدعون تسميات ومصطلحات جديدة محملة بالمعاني التي يريدون
نشرها.
مثال ذلك مصطلح (الشرق الأوسط) الذي اخترعوه ليكون بديلاً (للمشرق
العربي) ، الذي يعني كون هذه المنطقة الجزء الشرقي من بلاد العرب المسلمين،
…
أما (الأوسط) فإنه يحمل دلالات أخرى منها أن هذه المنطقة للعرب ولغيرهم؛
للمسلمين واليهود والنصارى، ثم هي وسطى بالنسبة لغيرنا وليس لنا. وقد أشيع
هذا المصطلح وقبل به حتى أصبح وكأنه الأصل.
ومن المصطلحات التي يراد نشرها مصطلح الأصولية، والتطرف،
والأيديولوجية، بدائل عن الإسلام ولمزاً للمسلمين. وهذه شنشنة نعرفها من قديم،
منذ وصف محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه بأنهم صابئون، وأنهم
…
مسحورون، ووصفت أمم أخرى أنبياءها بأشنع من هذا. وهذه المصطلحات من
إشاعة الإعلام الغربي ومن حصائده وسلبياته الكبيرة التي تصغر أمام فوائده.
وقصارى القول إننا لا نملك الغياب عن العالم والحياة ولا أن نجعل من هذا
زمن العض على أصل شجرة ما دام بإمكاننا أن نعمل وأن نؤثر في مسيرة العالم: (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط
…
الناس ولا يصبر على أذاهم) [2] ، ولا نلجأ للعزلة الإعلامية فهي وهم، بل
…
إن استخدام هذه المادة الإعلامية السيئة وإعادة صياغتها في المرحلة الأولى بما يناسب أوضاع المسلمين مطلب ملح حتى يأتي ذلك اليوم الذي نصنع فيه الخبر ابتداءاً.
ولا يفهم من هذا القول أن تكون بيوتنا وحياتنا ساحة للإعلام الغربي، ولا أن
تُسلم الأمة لهذه الهيمنة الإعلامية، فقد نهينا عن الاستماع لأهل الباطل والقعود معهم
حين يخوضون في باطلهم ويستهزئون بالحق الذي معنا. وهم يتربصون بنا
ويخادعوننا ويحاولون الاستحواذ على عقولنا وألسنتنا، وللحق في ليل الظلام نجوم
تهدي ذوي البصائر، الذين لا يقفون في صف من يقول: [إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا
لَكُمْ] وسدوا عليكم الأرض والسماء والأعين والأبصار، ولكنهم من الذين لا
يحزنهم الذين يسارعون في الكفر، وإنما يدفعهم هذا إلى بذل الجهد لإيجاد منابر
للحق جديدة وتدعيم ما هو موجود منها.
(1) ملف البوسنة في هذا العدد ناقش بتوسع العديد من جوانب القضية البوسنية.
(2)
رواه أحمد والترمذي والبخاري وصححه الألباني.
مقابلة
البيان تحاور الدكتور
جعفر شيخ ادريس
الدكتور جعفر شيخ ادريس علم من أعلام الفكر الإسلامي ومن رواد الدعوة
الإسلامية في هذا العصر وقد زار المنتدى الإسلامي محاضراً في الملتقى الثالث
عشر وقد اغتنمت البيان هذه الفرصة لإجراء هذا الحوار:
* البيان: نود أن نبدأ الحوار معكم من زاوية الهم الثقافي، فهل أنتم راضون
عن المستوى الفكري للعمل الإسلامي بعد مرحلة الستينات، مرحلة سيد قطب
والمودودي؟ وهل هناك من جديد أو من تقدم في هذا المجال أم لا؟
* من ناحية كتب الثقافة العامة لا أظن أن هناك كتباً في مستوى هؤلاء الرواد
الأوائل، لكن الذي حدث - وهو شيء حسن نحمد الله عليه - نشر كثير من كتب
السلف، وانتشرت بين كثير من الشباب، خصوصاً في السعودية - البلد الذي
أعرفه - وأعرف أنه حصل شيء مماثل في بعض البلاد العربية الأخرى كمصر،
وهذه من الظواهر الجديدة التي لم تكن موجودة سابقاً. هذه الكتب الفكرية لها فوائد، وكتب السلف أيضاً لها فوائد، والشيء الأمثل أن يوجد هذا وهذا.
فنحن لا نريد أن نعيش فقط على كتب التراث، بل نريد أن نستفيد أيضاً من
هؤلاء الأئمة ومن مناهجهم، ونواجه مشكلاتنا بمستوى ثقافي وعلمي رفيع نرجو
أن يتحقق.
* البيان: تعني: لم يتحقق تطور قوي في هذه الفترة
* أظن هذا والله أعلم.
* البيان: لا شك أنه حصل رجوع إلى الأصالة، فأقبل الشباب على
الاستزادة من العلم الشرعي، مما أسهم في تصويب مسيرة العمل الإسلامي إلى حد
كبير. ولكننا نلاحظ أن مواجهة المسائل المتعلقة بفقه الواقع لا تزال دون المستوى
المطلوب.
* لقد كررت هذا الكلام كثيراً وأقوله الآن. أنا متصل بالحضارة الغربية وأنا
عندما أنتقد، أنتقد أيضاً نفسي لأني كنت من الذين يُتوقع منهم شيء في هذا السبيل. وأنا ما زلت أقول لإخواني: ينبغي أن لا نخدع أنفسنا ونظن أن الغرب يعدنا
تحدياً فكرياً، أنا لا أظن إلى الآن أن الغرب يعدنا تحدياً فكرياً، ربما بعض
المستشرقين الذين درسوا الإسلام وعرفوه قد يعتبرونه تحدياً فكرياً، لكن عامة
المثقفين الغربيين كانوا يعدون الماركسية تحدياً فكرياً ويناقشونها، وتجد أن بعض
الطلاب والأساتذة صاروا ماركسيين، لكن لأن الماركسية أيديولوجية غربية انتقدت
الرأسمالية، وانتقدت الحياة الغربية بمستوى فكري كبير. أما نحن فإلى الآن لا
توجد لدينا كتب تضاهي كتب الأقدمين في نقد النصرانية أو في نقد الفلسفة، ككتب
الغزالي وابن حزم وابن تيمية وغيرهم في مواجهة الفكر غير الإسلامي، حتى
كتابات الدعاة الكبار التي ذكرناها لا تكفي، لا يوجد لدينا شيء يمكن أن يقرأه
المثقف الغربي ويعتبره نقداً قوياً فينبهر به ويقول: إن هذا نقد قوي.
* البيان: أظن أن هناك نوعاً من التبسيط لقضية فهم الغرب وتحديه، الآن (شعار المسلمون قادمون) رفعته مجلات في أمريكا وكتبت مقالات رئيسية في المجلات اليمينية المعروفة، وأساتذة جامعيون كتبوا أن المسلمين قادمون، والإعلام سواء المسموع أو المكتوب اهتم بهذه القضية. وهناك نوع من الأحاديث عن الوحدة الأوربية وأثرها في ضبط منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المستقبل، وهناك نوع من الكلام والتحركات السياسية والعسكرية وغيرها للمحافظة على النفوذ في العالم الإسلامي في المرحلة القادمة خوفاً من الإسلام، فهل من المناسب الآن أو هل من الحق أن نقول: إنهم لا يشعرون بالتحدي الفكري، أظن أنهم يشعرون أن الإسلام كمجتمعات تشعر بهويتها، ويمكن أن تتحد سياسياً ويمكن أن تكون قوة مواجهة يمثل تحدياً فهم يضايقهم أن الصين ليست في صفهم فكيف إذا ولد عالم إسلامي.
* قلت: أنهم لا يشعرون أنه تحدٍ فكري، أما كونه تحدياً سياسياً اقتصادياً
فطبعاً، يمكن لأي قوة أن تصير تحدياً والذي أقوله أنهم لا يعدوننا تحدياً فكرياً.
وصورة الإسلام عندهم ليست هي الصورة الصحيحة، حتى الصحفيون الذين
يكتبون عن أحوال العالم الإسلامي وعامة المثقفين وحتى الذين يهتمون بالشرق
الأوسط والعالم الإسلامي؛ ليست صورة الإسلام عندهم هي الصورة الصحيحة،
والذي يخيفهم ليس هو الإسلام الذي نعرفه. وهذا أمر طبيعي فإذا كانت صورة
الإسلام ليست هي الصورة الصحيحة حتى في قلوب وعقول معظم المسلمين؛
فكيف نتصور أنها تكون هي الصورة الصحيحة عند الغربيين؟ ! أنا لا أقول إنهم
لا يعتبروننا تحدياً أو لا يخافون من الإسلام أو أنهم لا يعدون العدة لمواجهة الإسلام؛ لكن أقول أولاً: هذا الإسلام الذي يخيفهم لا يعدونه تحدياً فكرياً. وثانياً: الصورة
التي يخافون منها هي في غالبها ليست الصورة الإسلامية الصحيحة وعندهم خلط
عجيب، فلا تراهم يفرقون بين رجل يفهم الإسلام وتطبيقه، وبين صدام حسين
مثلاً.
* البيان: نحن متفقون على أنه في الوقت الحاضر عندنا تراجع في إنتاج
دراسات فكرية، أو في تكملة ما بدأه بعض المفكرين الإسلاميين في العصر الحديث، وعندنا الآن فقر فكري شديد، لا شك في ذلك، ما سبب ذلك؟ هل الموضوعات
التي تصلح أن تكون مدار بحث ودراسة أم أن هناك أسباباً أخرى طرأت كفقدان
الحرية مثلاً؟
* أنا أقول: إن جزءاً منها راجع إلى الأفكار؛ فهؤلاء الرواد الأوائل عاشوا
في أجواء من الحرية، نحن الآن قد لا نتمتع بها، وتثقفوا وكونوا أنفسهم، وهذا
التكوين كان شخصياً فالمودودي، وحسن البنا وسيد قطب.. هؤلاء عاشوا في
أجواء ديموقراطية نسبية، وكونوا أنفسهم، وهناك سبب قد لا يرضى عن ذكره
المتأثرون بالعقليات الحزبية، وهو أن هؤلاء كونوا أنفسهم خارج التنظيمات،
ولكن المؤسف أن حركة هؤلاء الرواد التي تحولت إلى تنظيمات كانت هي من
أسباب الركود الفكري، لأن كثيراً من الشباب اكتفوا بالحركة اليومية والمواجهات
السياسية، وظنوا أن ما كتبه الرواد يكفي، والمهم أن نقوم بشيء عملي! مع
الأسف عملهم هو الذي أدى إلى هذا الركود.
* البيان: لكن إذا قلنا أن التنظيمات هي من الأسباب؛ هناك من الناس
خارج التنظيمات وهم مفكرون وعندهم قدرات لماذا لا يكتبون؟ إذاً العامل الرئيسي
هو الجو المخيم، انعدام الحرية وحالة اليأس الفاشية بين المسلمين الآن، يقولون:
ما الفائدة من الكتابة؟ الإسلام مهدد في عقر داره.
* نعم هذا السبب الأول الذي قلناه، وهو سبب إضافي، والذي قلته عن
التنظيمات هو شيء معروف ليس فقط في التنظيمات الإسلامية، بل حتى في
التنظيمات الأخرى، أحياناً التنظيم يصور للشخص المنتمي إليه أن مجرد الانتماء
إليه عمل عظيم، ويكتفي بهذه الاجتماعات، كان بعض الغربيين قد لاحظوا تشابهاً
بين الحزب الشيوعي والكنيسة الكاثوليكية، قالوا: إن كثيراً من المفكرين ضاقوا
بالكنيسة الكاثوليكية لأنها تخنقهم، فخرجوا منها، وأن الحزب الشيوعي قد أخذ
كثيراً من مواضعات الكنيسة الكاثوليكية فصار قرار الحزب عندهم جزءاً من
الشيوعية، كما أن قرار البابا جزء من الدين، وإلى حد ما لولا أن الإسلام فيه كلام
واضح عن أن مصادر الدين هي الكتاب والسنة فإن بعض الأحزاب كادت تجعل
قراراتها جزءاً من الدين، وإن لم تقل ذلك صراحة؛ لكنها تهتم بالالتزام بها أكثر
من اهتمامها بالالتزام بكثير من نصوص الكتاب والسنة، وتجد كثيراً من الشباب
المنتمين إلى التنظيمات يلتزم فعلاً ولا يداخله شك في وجوب الالتزام بقرارات
التنظيم، وإن داخله شك في الالتزام في بعض النصوص الشرعية أو أنه يتسامح
في بعض الأمور الشرعية أكثر من تسامحه في الامور التنظيمية، على كل حال
غاية ما يقال أنه سبب من الأسباب وليس هو السبب الرئيسي..
* البيان: ذكرتم في الحديث عن الغرب وقضية المواجهة أن في الغرب الآن
عودة إلى الإيمان بالخالق، كيف هذا، وهل نعتبر هذه نقلة تساعدنا في دعوتهم
للإسلام؟
* استقر في أذهان الغربيين في الماضي أن مسألة وجود الخالق هذه مسألة
انتهت، عندما كنت طالباً أدرس الفلسفة (الغربية) ؛ كان الشيء الشائع بين الفلاسفة
أن هذا الموضوع انتهى، لكن الذي فتحه الآن ليس الفلاسفة وليس رجال الدين،
بل رجال الفيزياء، الفكرة ببساطة أنه في الماضي كان يقال بحسب النظرية
الفيزيائية القديمة أن هذه المادة أزلية لم تخلق ولا تنعدم، فالسؤال من أين جاءت لا
يطرأ، وهذه هي التي بني عليها الإلحاد الأوروبي تقريباً ولا سيما الإلحاد الماركسي، النظرية الحديثة التي يسمونها الانفجار الكوني العظيم تقول: إن الكون كله كان
…
في شكل ذرة صغيرة وأن هذه الذرة مسبوقة بالعدم، فصار السؤال: من أين
جاءت، - سؤالاً مشروعاً - ففتح الباب بهذه الطريقة، لكن مع الأسف من الأشياء التي نحن ملامون عليها أنهم عندما بدأوا بمناقشة هذا الكلام لم يجدوا عندهم شيئاً إلا كتابات فلاسفتهم وفيها الكثير من الخلط الفكري، وأنا حاولت في مقال سينشر في شكل رسالة صغيرة أن أجمع حججهم الحديثة التي يدافعون بها عن الإلحاد بالرغم من حدوث المادة، وجئت بكلام العلماء المسلمين كالغزالي وابن تيمية في رد الحجج العقلية الشائعة بين الفلاسفة، تستغرب أن عقل إنسان يقول لهم أن شيئاً يأتي من العدم، القرآن يقول:[أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ] ، يعنى إما أحد هذين أو أن له خالقاً، وكل من هذين مستحيل لذلك جاء ذلك في القرآن بصيغة سؤال استنكاري [أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) خلقوا أنفسهم؟ ! هذا مستحيل، الذي يقوله الآن كبار هؤلاء الفيزيائيين والفلاسفة هو أحد هذين: إما أن يقول المادة خلقت نفسها، أو يقول أنها جاءت من العدم، وقليلون هم الذين يقولون ليس هناك مخرج إلا في وجود خالق، فلو أن الفكر الإسلامى كان متصلاً بهذه المسائل، ولو أن المسلمين شاركوا لربما ساعد ذلك على أن يعود هذا العلم الشارد إلى الله، وقد شجعت بعض الإخوان الذين أعرف أنهم متعمقون بعلم الفيزياء ولهم معرفة حسنة بدينهم أن يكتبوا في هذه القضية التي أصبحت الآن مفتوحة.
* البيان: لا يسمحون، فهم لا يعترفون بعالم عربي أو مسلم فيزيائي أحب
أن يكتب بحثاً في هذا الموضوع. لا أظن أن هناك دورية أو مجلة تنشر له هذا
البحث.
* ما داموا هم يكتبون تستطيع أن تناقشهم، وبعض الإخوة الآن يكتبون في
المجلات الفيزيائية في الاتجاه العادي، أما الموضوع الديني فقد أصبح موضوعاً
شائعاً بينهم، والمهتمون بعلم الفلك وأصل الكون يسمحون، ولا يشترط أن أقول
لهم هذا إسلام أو غير إسلام، الحجج التي عرفتها من الدين وعلماء المسلمين
أذكرها وأبطل بها حججهم.
* البيان: لكن أنت سوف تتعرض لأشياء إسلامية استقيتها من القرآن الذي
نعتقد - نحن المسلمين - أنه وحي من السماء، وهم يرون أنك تتحدث عن أمور
هي عندهم غيبية وليست عالمية.
* لا ينبغي أن أطرح هذه المسألة، لأن المناقشة عقلية: هل الكون له خالق؟ ومن المفروض أن أواجهه بما عندي من حجج عقلية أخذتها من كتاب الله وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم، أو بحسب ما وسعها علماء المسلمين وشرحوها، طبعاً لا أواجهه بأن القرآن قال كذا أو السنة قالت كذا. لأنه لا يؤمن بالأصل
حتى إني قرأت منذ أيام كلاماً لشيخ الإسلام فحواه أن الخطاب في مكة كان: يا أيها
الناس، لأن الكلام كان عن أصول الدين، والذي لا يؤمن بالأصول لا يخاطب
بالفروع، وما نزلت] يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا [إلا في المدينة ومعها أيضاً] يَا أَيُّهَا
النَّاسُ [فنحن الآن في عصر نقول فيه يا أيها الناس ويا أيها الذين آمنوا، فعندما
نقول يا أيها الناس نواجههم بأصول الدين وبحججه العقلية والعلمية لا بالاستناد إلى
مصدرها.
- يتبع -
تدوين العقيدة في القرن الرابع الهجري
عثمان جمعة ضميرية
إذ انتهى بنا البحث في تدوين العقيدة الإسلامية إلى القرن الرابع الهجري،
وهو ما أسماه بعضهم بـ (عصر النهضة في الإسلام) ، فإننا نجد مصطلحاً شاع
…
استعماله كثيراً، ولا يزال، حتى أصبح عَلَماً على هذا الجانب الذي نؤرِّخ له،
وهو (التوحيد) ، وبجانبه مصطلح آخر هو (الشريعة) مع مصطلحات أخرى.
نقف لها هذه المقالة المختصرة، لعل فيها بعض الغَناء عن كثير من التطويل
والإسهاب.
4-
التوحيد:
قال ابن فارس في (معجم المقاييس)[1] :
(وحد - الواو والحاء والدال، أصل واحد يدل على الانفراد، من ذلك:
…
الوحدة. وهو واحد قبيلته، إذ لم يكن فيهم مثله. قال الشاعر:
يا واحد العرب الذي
…
ما في الأنام له نظير
ولقيتُ القوم مَوْحَد مَوْحَد، ولقيتهُ وحدَه. ولا يضاف إلا في قولهم: نسيج
وحده، وعيير وحده.. والواحد: المنفرد..) .
وقال الراغب الأصفهاني في (المفردات)[2] :
…
(الوحدة: الانفراد. والواحد - في الحقيقة - هو الشيء الذي لا جزء له
…
البتة. ثم يطلق على كل موجود، حتى إنه ما من عدد إلا ويصح أن يوصف به..
…
فالواحد لفظ مشترك يطلق على ستة أوجه) وذكر هذه الوجوه.
وقال ابن منظور في (اللسان)[3] :
(قال ابن سِيْده: والله الأوحد المتوحد وذو الوحدانية. ومن صفاته: الواحد
الأحد. والفرق بينهما - كما قال الأزهري وغيره -: أن (الأحد) بني لنفي ما
…
يذكر معه من العدد، و (الواحد) اسم بني لمفتتح العدد
…
ولا يوصف شيء
…
بالأحدية غير الله تعالى) .
والتوحيد في اللغة: الحكم بأن الشيء واحد، والعلم بأنه واحد، وهو على
وزن التَّفعيل، وهذا النوع من الفعل يأتي متعدياً، إلا أحرفاً جاءت لازمة، كقولهم: روَّض الرَّوْضُ، إذا تمَّ حسنه ونضارته..
وهذه الصيغة لها معنيان: أحدهما: تكثير الفعل وتكريره والمبالغة فيه،
كقولهم: كسَّرت الإناء، وغلَّقت الأبواب.
والوجه الثاني: وقوعه مرة واحدة كقولهم: غدَّيت فلاناً وعشَّيته.
ومعنى وحَّدته: جعلته منفرداً عما يشاركه أو يشبهه في ذاته وصفاته.
والتشديد فيه للمبالغة، أي: بالغت في وصفه بذلك.. وقولهم: وحَّدت الله، أي
علِمْتُه واحداً منزَّهاً عن المثل في الذات والصفات. وقال بعض العلماء: التوحيد
نفي التشبيه عن ذات الله وصفاته وألوهيته [4] .
وبعد هذا التعريف اللغوي نشير إلى المعنى الاصطلاحي الشرعي، فإن
التوحيد هو أساس دعوة الإسلام، وهو دين جميع الرسل والأنبياء، وهو إفراد الله
تعالى بالربوبية والطاعة أو العبادة، ويشمل ذلك أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد
الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات. وهي كلها متلازمة
مترابطة.
وتطلق كلمة (التوحيد) أيضاً: على العِلْم الذي يدرس الجانب العقائدي من
الدين، وعندئذ عرفه العلماء بأنه: علم يبحث فيه عن وجود الله، وما يجب أن
يثبت له من صفاته، وما يجوز أن يوصف به وما يجب، وما ينفى عنه، ويبحث
عن الرسل لإثبات رسالتهم وما يجوز أن ينسب إليهم وما يمتنع. وسمي بهذا الاسم
تسمية له بأهم أجزائه، فهو من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل.
ولما أصبح التوحيد لقباً لهذا العلم، وجدنا عدداً من العلماء كتب فيه تحت هذا
…
العنوان مثل: (كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل) لابن خزيمة (306 هـ) ، و (التوحيد ومعرفة أسماء الله عز وجل وصفاته على
…
الاتفاق والتفرُّد) لابن منده (395 هـ) ، و (الحجة في بيان المحجة وشرح التوحيد ومذهب أهل السنة) للحافظ قوَّام السنة الأصبهاني (535 هـ) ، و (التمهيد لقواعد التوحيد) لأبي المعين النسفي (508 هـ) وهكذا وضعت كتب بهذا العنوان في عصور تالية، لن نستقصيها ونتحدث عنها، لأن ذلك يخرج بنا عما أرد ناه من إيجاز [5] .
5-
الشريعة:
قال ابن فارس في (معجم المقاييس)[6] :
(شرع - الشين والراء والعين أصل واحد، وهو شىء يُفْتح في امتداد يكون
فيه، من ذلك: الشريعة، وهي مورد الشاربة الماء. واشتق من ذلك: الشرعة في
الدين والشريعة) .
وقال ابن منظور في (اللسان) مادة شرع [7] :
(الشريعة والشرعة: ما سنَّ الله من الدين وأمر به، كالصوم
…
والصلاة.. مشتق من شاطئ البحر. ومن قوله تعالى: [لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومِنْهَاجاً] قيل في تفسيره: الشرعة: الدين، والمنهاج: الطريق..) .
…
والشريعة - كما قال الكَفَوي - اسم للأحكام الجزئية التي يتهذب بها المكلَّف
معاشاً ومعاداً، سواء كانت منصوصة من الشارع أو راجعه إليه.
ومما ذكره العلماء من تعريف للشريعة نجد أنها تطق على معانٍ متعددة:
أ- فالشريعة هي: كل ما أنزله الله تعالى على أنبيائه، وهي تنتظم الاعتقاد
والأحكام العملية والأخلاق. فهي ما شرعه الله من الاعتقاد والعمل. وبهذا تلتقى مع
مفهوم السنة الذي سلف بيانه فيما سبق [8] .
ب- وتطلق كذلك على ما خص الله تعالى به كل نبي من الأحكام لأمته، مما
يختلف من دعوة نبي لآخر، من المنهاج وتفصيل العبادات والمعاملات، ومن هنا
نقول: إن الدين في أصله واحد، والشرائع متعددة.
ج- وتطلق أحياناً على ما شرعه الله تعالى لجميع الرسل من أصول الاعتقاد
والبِّر والطاعة مما لا يختلف من دعوة نبي لآخر، كما قال تعالى: [شَرَعَ لَكُم مِّنَ
الدِّينِ مَا وصَّى بِهِ نُوحاً والَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ ومَا وصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ ومُوسَى وعِيسَى]
[الشورى 13] .
د- وتطلق الشريعة بخاصة على العقائد التي يعتقدها أهل السنة من الإيمان. مثل اعتقادهم أن الإيمان قول وعمل، وأن الله موصوف بما وصف به نفسه
ووصفه به رسوله، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق.. وأنهم لا يكفرِّون أهل
القبلة بمجرَّد الذنوب.. فسمَّوا أصول اعتقادهم: شريعة..
والشريعة في هذا كالسنة، التي تقدم الكلام عليها، فقد يراد بها ما سنَّه
وشرعه من العقائد، وقد يراد بها ما سنَّه من العمل، وقد يراد بها كلاهما [9] .
وممن كتب في اعتقاد أهل السنة والجماعة باسم الشريعة: الإمام الآجري
(360 هـ) ، وابن بطة العكبري في كتابه (الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة) وتوفي ابن بطة سنة (387 هـ) . وطبع الكتاب
…
الأول أكثر من مرة، وحقَّق رسالة علمية بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، قدمها الشيخ عبد الله الدميجي، وحقق الثاني كذلك الشيخ رضا معطي، رسالة جامعية في الجامعة نفسها ثم طبع القسم المحقق منها في مجلدين.
6-
العقيدة:
قال ابن فارس في (معجم مقاييس اللغة)[10] :
(عقد - العين والقاف والدال، أصل واحد يدل على شدٍّ وشدَّةِ وثوقٍ. وإليه
ترجع فروع الباب كلها. من ذلك: عقد البناء، والجمع أعقاد وعقود.. وعقدْتُ
الحبل أعقده عقداً، وقد انعقد، وتلك هي العقدة. وعاقدته مثل عاهدته. وهو العقد، والجمع عقود.
والعقد: عقد اليمين، ومنه قوله تعالى:[ولَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ] . وعقدة كل شيء: وجوبه وإبرامه. وعقد قلبه على كذا فلا ينزع عنه. واعتقد
الشيء: صَلُب. واعتقد الإخاءُ: ثَبَتَ..) .
وقال الراغب في (المفردات)[11] :
(العقد: الجمع بين أطراف الشيء. ويستعمل ذلك في الأجسام الصلبة كعقد
…
الحبل وعقد البناء. ثم يستعار ذلك للمعاني نحو: عقد البيع والعهد وغيرهما،
فيقال: عاقدته وعقدته وتعاقدنا وعقدت يمينه..) .
وفي (المصباح المنير) : (اعتقدت كذا: عقدت عليه القلب والضمير، حتى قيل: العقيدة ما يدين به الإنسان. وله عقيدة حسنة: سالمة من الشك) . ومن هذه النصوص اللغوية نلاحظ أن مدار كلمة (عقد) على الوثوق والثبات والصلابة في الشيء.
ومن هنا جاء تعريف العقيدة والاعتقاد - كما في المعجم الوسيط - حيث قال: (العقيدة) : الحكم الذي لا يقبل الشك فيه لدى معتقده.
ومن هذا المعنى اللغوي أخذ تعريف العقيدة في الاصطلاح الشرعي، فقال
الشيخ حسن البنا رحمه الله في تعريف العقائد - بصيغة الجمع -: (هي
الأمور التي يجب أن يصدِّق بها قلبك، وتطمئن إليها نفسك، وتكون يقينا عندك،
لا يمازجه ريب ولا يخالطه شك) .
فهي إذن اعتقاد جازم مطابق للواقع، لا يقبل شكاً ولا ظناً، فما لم يصل العلم
بالشيء إلى درجة اليقين الجازم لا يسمى عقيدة. وإذا كان الاعتقاد غير مطابق
للواقع والحق الثابت ولا يقوم على دليل، فهو ليس عقيدة صحيحة سليمة، وإنما
هو عقيدة فاسدة، كاعتقاد النصارى بالتثليث وبألوهية عيسى عليه السلام.
والناس في هذا الاعتقاد يتفاوتون، وهم في العقيدة على مراتب، كما أن آثار
هذه العقيدة تختلف من شخص لآخر حسب ما يقوم به بنفسه منها، واستيقانه بها
وفهمه لها وتفاعله معها.
والدراسة التحليلية للعقيدة تشير إلى أنها تعتمد على جوانب نفسية وجدانية
وإرادية وعقلية في حياة الإنسان، وتتصل بها كلها اتصالاً وثيقاً، بها تتكامل
شخصية الفرد، وبها ينتفي التضارب والصراع بين قواه المتعددة.
هذا، وقد أصبحت كلمة (العقيدة) اسم عَلَمَ على العلم الذي يدرس جوانب
الإيمان والتوحيد - التي سبقت الإشارة إليها - وأصبح كل من يكتب في هذا
الجانب يُطلق على ما كتبه اسم العقيدة، فيقال: عقيدة الطحاوي، وعقيدة فلان من
العلماء.. وأصبحت هذه الكلمة مضافة إلى الإسلام عنواناً على المادة الدراسية في
المعاهد والكليات وغيرهما، فيقال (مادة العقيدة الإسلامية) .
وأقدم من عرفته ممن استعمل هذه الكلمة عنواناً لما كتبه هو الإمام الحافظ
اللالكائي (418 هـ) في كتابه (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة) . ويقع الكتاب في ثمانية أجزاء طبعت بتحقيق الدكتور أحمد سعد حمدان. وفي القرن
…
نفسه كتب الإمام أبو عثمان الصابوني (449) رسالته باسم (عقيدة السلف
…
أصحاب الحديث) . وكتب الجويني (478) كتابه (الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد) . وقد سبق كتاب (الحجة في ترك المحجة وشرح عقيدة التوحيد) للحافظ قوَّام السنة الأصفهاني. وهناك كتب كثيرة تحت هذا العنوان نكتفي بما ذكرناه منها.
7-
أصول الدين:
والأصل في اللغة: ما يبتنى عليه غيره من حيث أنه يبتنى عليه، حسياً كان
أو عقلياً. ويطلق عند الفقهاء والأصوليين على معان: أحدها: الدليل، فيقال:
الأصل في المسألة الكتاب والسنة. ويطلق على القاعدة الكلية، كقاعدة لا ضرر ولا
ضرار. ويطلق بمعنى ثالث: وهو الراجح والأولى، كما يطلق على المستصحب.
والأصل في الدين هو التوحيد، والأصل في الاعتقاد هو الإيمان بالمبدأ أو
المعاد.
وعلى هذا فأصول الدين هي: ما يقوم الدين عليه ويعتبر أصلاً له. وهو
…
يقوم على عقيدة التوحيد، ومن هنا سمي علم التوحيد بـ (أصول الدين) كما سماه
…
...
بعضهم علم (الفقه الأكبر) أو علم (الأصول) . وهي ألفاظ متقاربة. وعرَّ فه
…
بعضهم بأنه: علم يقتدر معه على إثبات الحقائق الدينية، بإيراد الحجج لها، ودفع
…
الشُبَهِ عنها [12] .
وهكذا أصبحت كلمة (أصول الدين) لقباً لعلم العقيدة، وقد استخدمه الشافعي
…
في كتابه (الفقه الأكبر) ، ولم يشتهر وقتها. ثم وضع الإمام الأشعري (329هـ)
…
كتابه: (الإبانة عن أصول الديانة)، ولابن بطة العكبري (387 هـ) :
…
(الإبانة عن أصول السنة والديانة) ، وللإمام أبي منصور عبد القادر البغدادي
…
(429هـ) كتاب (أصول الدين) ولأبي عثمان الصابوني كتابه السابق في العقيدة، يمكن أن نسلكه هنا، حيث قال فيه:(سألني إخواني أن أجمع لهم فصولاً في أصول الدين..) ثم ذكر هذه الأصول. ولإمام الحرمين الجويني كتاب (الشامل في أصول الدين) .
…
وغير ذلك من الكتب لغيرهم.
(1) 6 / 90-91.
(2)
514-515.
(3)
3/450-451.
(4)
انظر: التعريفات للجرجاني ص (96)، الحجة في بيان المحجة للأصفهاني: 1/305-306.
(5)
انظر بالتفصيل: محاضرات في العقيدة، لكاتب هذا المقال ص (67- 70) .
(6)
3/262.
(7)
8-176.
(8)
انظر العدد (54) من مجلة البيان، ص (18-20) .
(9)
انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيميه: 19/306-307.
(10)
4/86-87.
(11)
ص 341.
(12)
أبجد العلوم لصديق خان: 3/67 وانظر فيما سبق: الكليات للكفوي 1/ 188، فتاوى شيخ الإسلام ابن تيميه: 19/134.