المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌معالم في طريق التغيير - مجلة البيان - جـ ٦١

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌معالم في طريق التغيير

‌معالم في طريق التغيير

محمد محمد بدري

لا شك أن المسلم الذي يرى الحياة من خلال واقعه وليس من خلال أمانيه، يدرك لأول وهلة أن (واقع) الأمة الإسلامية اليوم هو مصداق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:(يوشك أن تداعي عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ ، قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من صدور أعدائكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)[1] .

فقد أصبحت الأمة الإسلامية (غثاء) من النفايات البشرية الخاوية، تعيش

على (ضفاف) مجرى الحياة الإنسانية كدويلات متناثرة ومتصارعة، تفصل لينها

حدود جغرافية ونعرات قومية مصطنعة، وتعلوها راية (الوطنية) ، وتحكمها

قوانين الغرب العلمانية.. تدور بها (الدوامات) السياسية فلا تملك نفسها عن

الدوران، ولا تختار حتى المكان الذي تدور فيه! !

لقد قذف الله في قلوب المسلمين (الوهن) فأصبحت أمتهم تخاف من تكاليف

الحرية ومجابهة الظلم في الداخل، وتجبن عن صد الغزاة في الخارج.. فتداعت

عليها الأمم، وأحاط بها الأعداء الذين أوصلوها إلى مرحلة (القصعة المستباحة)

التي حذرها إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولا ريب أن هذه الحال تؤرق أكثر المسلمين وتقض مضاجعهم، فتقفز إلى

أذهانهم أسئلة بكثيرة: كيف نخرج بأمتنا من أزمتها، وننتقل بها من الاستضعاف

إلى التمكين؟ ومن التبعية إلى الريادة؟ كيف نرفع (غثاء) الأمة الإسلامية من

حضيضه الذي يعيش فيه ليعود كما أراده الله خير أمة أخرجت للناس؟

ولكن لا موغل في (حلم) الريادة البشرية على حساب (حقيقة) التبعية، أو

تهرب من مواجهة (واقع) الاستضعاف بالانغماس في (خيال) التمكين، لا بد أن نحزم أمرنا ونعد عدتنا، ونجد السير في طريق التغيير الذي يمكن أن نتبين بعض معالمه فيما يلي:

1-

إقامة الفرقان الإسلامي:

بينما كان الاستعمار القديم يستعين بقواته العسكرية لقهر شعوب المستعمرات،

لم يعد الاستعمار الجديد في حاجة إلى استخدام القهر بالقوات العسكرية، بعد أن

أفلح في اختيار عملائه وصنائعه من النخبات (الوطنية) التي أشربت في قلوبها

ثقافة الاستعمار وتربت على يديه، ونشأت في كنفه ورعايته.. ثم وقفت تحت راية

(الوطنية) وتخفت وراء لافتة (الإسلام) لتقوم بمؤامرة (التباس) الحق بالباطل

التي تفتن الأمة عن دينها، وتمزق وحدتها وتشتت شملها، وتوجد الثغرات فيها كي

ينفذ من خلالها أعداء الأمة الذين يحطمون قواها ويستنزفون طاقاتها

لقد تمكن أعداء الأمة الإسلامية عبر النخبات الوطنية، من مزج الإسلام

بالأفكار الغربية عنه من (علمانية) وقومية و (وطنية) وغيرها، ليلتبس على

الأمة أمر دينها، وليصبح الإسلام الواحد بعقيدته ومبادئه تشريعاته اسماً متعدداً

بتعدد ألوان مؤامرة (الالتباس) التي تصد الأمة عن سبيل الإسلام الحق.

ومن هنا فإنه لا يمكن تحقيق انطلاقة قوية في طريق إحياء الأمة الإسلامية إلا

باقامة (الفرقان) الذي يرفع (الالتباس) ويسقط اللافتات الخادعة التي تتوارى

خلفها العلمانية. فيتمايز الناس إلى فسطاطين: فسطاط نفاق لا إيمان فيه، وفسطاط

إيمان لا نفاق فيه.. وعندها تخرج الأمة الإسلامية من حال التذبذب إلى الانحياز

إلى دينها وشريعتها، والانتصار لإسلامها من كل أعدائها.

2-

إحياء الهوية الإسلامية:

تشكل الهوية - في أية أمة - الحافز العقدي والدافع النفسي الذي يدفع الأمة

في طريق التقدم والحضارة، ويقاوم في ذات الوقت الاجتياح الحضاري للأمم

الأخرى.. فما هي هوية الأمة الإسلامية؟

لا شك أن الإسلام (وحده) هو هوية الأمة الإسلامية، ومحور اجتماع أفرادها، والقوة الدافعة التي تفجر طاقاتها وتقوي وقفتها في مواجهة كل أعدائها. لقد قام العملاء من بني جلدتنا بإبعاد الإسلام كهوية للأمة الإسلامية، وزعموا أن طريق (الإحياء الحضاري) للأمة هو (إحياء الهوية الوطنية) و (المشروع القومي المتجدد) !!

فأما (الهوية الوطنية) فقد فرقت الأمة الإسلامية إلى كيانات جزئية ومجتمعات منفصلة، وأصبح الفرد في ظلها يعاني من (الاغتراب) و (فقدان الانتماء) للأمة،

... فانعزل داخل همومه الفردية واهتماماته الذاتية،. . وتحولت المجتمعات الإسلامية إلى (ركام) من الأفراد لا يربطهم خيط جامع.. ووصلت الأمة إلى المعادلة الصعبة: وطن بلا مواطنين، ومواطنون بلا وطن..

3-

التربية الإسلامية الشاملة:

يتأسس بنيان المشروع الحضاري العلماني على شفا جرف هار من مفاهيم

الغرب النصراني عن الدين، والتي تجعل الإسلام مجموعة من الطقوس والشعائر

لا علاقة لها بشأن من شؤون الحياة! !

ومن هنا كان تعامل زعماء العلمانية مع مشاكل الأمة الإسلامية وأزماتها

الحضارية، تعاملاً ناقصاً يشوبه الاضطراب والعجز.. وما ذلك إلا لأن هؤلاء

الزعماء يحاولون مصالحة (كل) أزمات الأمة ومشاكلها بـ (جزء) من الإسلام! !

ومن هنا فإن المشروع الحضاري الإسلامي لا بد أن يكون منهاجاً للتغيير

الكامل والجذري، يقوم بمجابهة الأزمات الحضارية للأمة والانتكاسات الفردية

والاجتماعية عبر (خطاب إسلامي شامل) يهتم بالجانب العقدي التشريعي والسلوكي اهتماماً متوازناً ومتعانقاً، يعالج السقوط العقائدي والاجتماعي والأخلاقي علاجاً شافياً..

4-

إخراج الأمة المسلمة:

وفي ظل عنف الحكام في معاملة خصومهم السياسيين، وإرهابهم لكل من

يعارض أمراً يهمون به. في ظل ذلك تخلى أكثر الأمة عن (واجب) الأمر

بالمعروف والنهي عن المنكر بالنسبة للحكام، وآثروا العافية يأساً من الإصلاح،

ورغبة في إصلاح الذات! !

وفي ظل هذا الواقع، لا بد أن نؤكد أن المسئولية عن الإسلام هي مسئولية

كل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله على تفاوت في الدرجات بتفاوت

الاستعدادات، والقدرات، والمواقع، والظروف.. وأن العمل الإسلامي هو جهاد (أمة) وليس جهاد (حزب) أو (جماعة) أو (تنظيم) .

ومن هنا فإن (إخراج الأمة المسلمة) هو العلاج الحاسم، والوقاية الحقيقية

لكل المسلمين من نماذج الأنظمة الطاغية التي تُخرجها العلمانية، والتي يراد بها

حرق (المستضعفين) من المسلمين في أتون الظلم والقهر والاستعباد.

5-

الطليعة تقود الأمة:

يضع الإسلام لقيادة الأمة الإسلامية شروطاً دقيقة ومواصفات خاصة. وتؤكد

الأصول الإسلامية أن (أولي الأمر) هم (العلماء والأمراء) .. بل إن أكثر المفسرين يرون أنهم (العلماء) وحدهم.

ولا شك أن هذا الاهتمام بأمر القيادة في الأمة الإسلامية، يرجع إلى أن الأمة

التي يقودها ويتولى زمام أمورها (فقهاء) و (أولو ألباب) تتقدم وتنتصر، أما

الأمة التي يقودها ويتولى زمام أمورها (خطباء) لا يحسنون إلا التلاعب بالمشاعر

والعواطف.. فإنها تبقى تتلهى بـ (الأماني) حتى إذا جابهت الأزمات لم (يفقه)

حكامها من (الخطباء) ماذا يصنعون؟ وآل أمرهم إلى الفشل، وأحلوا أمتهم دار

البوار.

ومن هنا فإنه لا سبيل إلى الإحياء الحضاري للأمة الإسلامية إلا أن يوجد في

الأمة (فقهاء) يتصفون بصفات المؤمنين ويتحركون على أساس من الوعي يقيم

الوحي قرآناً وسنة مع الدراية بشؤون الواقع.. (فقهاء) يتميزون بمنهجيتهم

وموضوعيتهم في رؤية حقائق الواقع، ومواجهة تحديات العصر..

ولكي يستطيع هؤلاء الفقهاء حمل رسالة أمتهم وتقديم العطاء الحضاري

المنشود، لا بد أن يكون عملهم بـ (روح الفريق) ولا بد أن تربط بينهم من شبكة

من العلاقات العقائدية والاجتماعية خيوطها الإيمان والتكامل والتناصر والجهاد في

سبيل الخروج بالأمة الإسلامية من التبعية إلى الريادة ومن الاستضعاف إلى التمكين.

إن (نواة) الفقهاء التي تتسم بالفاعلية والحيوية، تجذب إليها (صفوة) الفكر والتجارب، و (خيرة) القدرات والإمكانات ليتكون من هؤلاء جميعاً

(طليعة) قوية قادرة على تحدي كل أعداء الأمة، ومواجهة جميع أزماتها،

والسير في طريق الإحياء الحضاري بصبر ودأب، حتى يأذن الله بالانبعاث الإسلامي المنشود.. وإذن فإن قيادة الطليعة المؤمنة للأمة الإسلامية هو في حقيقة أمره (تشترطه) أسس التغيير، وتستدعيه متطلبات التمكين.

6-

إحياء الفاعلية الإسلامية:

يُقَسِّم المراقبون العالم اليوم إلى (الشمال) تعبيراً عن العالم المتقدم..

و (الجنوب) تعبيراً عن العالم المتخلف..

فأما الأول: فيمثل في الدول المتقدمة، ويشمل محور اليابان ودول أوربا

الغربية وأمريكا الشمالية وحلفاءهم..

وأما الثاني: فيتمثل في بقية دول العالم التي تقع خارج هذه المحاور.

ولا شك أن السبب الأول للهوة الحضارية بين الشمال والجنوب، أن دول

الأول يتميز أفرادها بـ (الفاعلية) والحرص على الوقت، والتوجه بنشاطهم الجاد

في سبيل تقدم أمتهم.

أما دول الثاني، فإن أفرادها يغلب عليهم (انعدام الفاعلية) والنظر إلى الوقت

على أنه لا قيمة له، وتوجه نشاطهم إلى اللغو والحديث غير المنتج.

وكي نوضح ما نقول فإنه من المستحسن أن نتأمل تجربة بلد مثل اليابان..

إن هذه الدولة تعيش في منطقة فقيرة في موادها الخام.. كما أن وضعها الجغرافي

لا يجعلها منطقة استراتيجية.. ولكنها مع ذلك تتقدم يوماً بعد يوم ويغزو إنتاجها

التكنولوجي العالم الغربي.. فما سر ذلك؟

إن السر يكمن في أن فاعلية (الإنسان) الياباني أضعاف أضعاف غيره من

أفراد الأمم المتخلفة الذين انعدمت فاعليتهم وتوارت جهودهم..

إن المتأمل للنماذج التنموية في الأمة الإسلامية يجد أن الأنظمة العلمانية

ترتكز على عنصر رأس المال على أنه العنصر الوحيد القادر على تحيق التقدم..

ولذلك فهي تهمل بناء (الإنسان) لتنفق على بناء (المصانع) ! !

ولا شك أن هذه الطريقة في البناء الحضاري هي طريقة (العملاء) الذين

يحبون أن تظهر أنظمة حكمهم بمظهر التقدم، فيقيمون المصانع العملاقة، ثم

يستوردون كل معداتها من الدول المتقدمة.. ويستوردون معها (كوادر) العمل في

هذه المصانع. فلا يكون لهذه المصانع والمشروعات التنموية - رغم الإنفاق الكثير

فيها - أدنى أثر في التقدم الحضاري المادي.. وما ذلك إلا لأن (الإنسان)

في كل هذه المشروعات يكون غائباً، أو على أحسن الأحوال يكون حاضراً ولكنه يعاني من (اللافاعلية) ..

7-

الريادة البشرية:

يتوقف (وجود) أية أمة في الحياة على حمل هذه الأمة لرسالتها.. فإذا

ضعفت عن حمل هذه الرسالة، انتهى (وجود) الأمة وحل محلها أمة أخرى لا

علاقة لها بها، وإن ربطتها بها روابط الدم والأرض واللغة والثقافة..

وهذا هو ما فهمه عمر بن الخطاب رضي الله عنه من قول الله - عز

وجل-: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ

وتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] [آل عمران 110]، حيث قال في تفسيرها: لو شاء الله لقال:

أنتم، فكنا كلنا.. ولكن قال: كنتم في خاصة من أصحاب رسول الله - صلى الله

عليه وسلم -، ومن صنع صنيعهم، كانوا خير أمة أخرجت للناس يأمرون

بالمعروف وينهون عن المنكر.

وإذن فالأمة الإسلامية إنما تتميز بقيامها برسالتها في الدعوة إلى المعروف

وفعل الخير، والنهي عن المنكر وجميع الشرور.. فإذا تخلت عن شيء من هذه

الرسالة نقصت قيمتها بقدر ذلك.. أما إذا تخلت عن هذه الرسالة بكاملها، فإن

مصيرها هو الاختفاء من الوجود والحياة..

ولا شك أن الأمة الإسلامية لا تستطيع حمل رسالتها في الأمر بالمعروف

والنهي عن المنكر إلا إذا كانت تمتلك (الرادع) للعقل الغريب الذي لم يتخل بعد،

وقد لا يتخلى عن حب العدوان والسيطرة، لاستعباد الآخرين، ونهب مقدراتهم،

وإشاعة التخلف في حياتهم..

ومن هنا يبرز (الجهاد) رادعاً للعقل الغريب ومضاعفاته في الفتنة والفساد..

يبرز الجهاد ليعكس مفهوم (الأمن الإسلامي) الذي يركز على إيصال الرسالة

وتبليغها إلى الآخرين في جو من الأمن الفكري والمادي والنفسي والشعوري يزيل

العوائق التي تحول بين الناس وبهت رؤية الحق على حقيقته، أو تمنع من تبينه

من اتباعه..

وحين تقوم الأمة الإسلامية بهذا الدور، وتخوض في سبيله الجهاد الشاق،

سيكون (البقاء للأصلح) لا بالمعنى الدارويني الفاسد، وإنما بالمعنى الرباني:

[فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ][الرعد 17] . وسيُخرج الله بهذه الأمة من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.. وستعود الأمة الإسلامية مرة أخرى إلى (الريادة البشرية) .

(1) أخرجه أحمد وأبو داود.

ص: 45

إسلامية الأدب.. لماذا وكيف؟ ؟

د. عبد الرحمن صالح العشماوي

الشبهة الثالثة:

يقول المعارضون لمصطلح الأدب الإسلامي إنَّ هذا المصطلح يجعل الأدب

واضحاً ومباشراً في خطابه، والوضوح والمباشرة عدوان لدودان لفنيَّة النص

الأدبي.. والذي يثير العجب أن أصحاب هذا الرأي يعيبون الوضوح والمباشرة

على إطلاقهما، ويدعون إلى الغموض من خلال الرموز الغائمة بحجة أن الأديب لا

ينزل إلى مستوى القراء، بل هم المطالبون بأن يرقوا إلى مستواه فإن فهموا فذلك

ما يريد، وإن لم يفهموا فليس الأديب مسؤولاً عنهم، ويستدلون على ذلك بالمقولة

المشهورة التي قالها أبو تمام لأبي العميثل عندما سأله: لماذا لا تقول ما يُفهم، فردَّ

عليه أبو تمام بقوله: لماذا لا تفهم ما يقال؟ ؟ وهو استدلال في غير محلِّه فما كان

غموض أبي تمام مستغلقاً على الفهم، والذي سأله لم يكن جاهلاً بمعاني أبيات أبي

تمام - كما يظهر لي - فهو ذو مقدرة لغوية وأدبية استحق بها أن يكون هو الذي

يجيز القصائد التي تُلقى أمام الخليفة. والذي أميل إليه أن سؤاله لأبي تمام كان من

قبيل إشعاره بمخالفته لعمود الشعر العربي، وهو أمر واضح عند أبي تمام، وهذه

قضية خارجة عن موضوعنا هذا ويمكن أن أفصِّل في موضع آخر القول فيها - إن

شاء الله -[1] .

أقول: إن قضية الوضوح والمباشرة بحاجة إلى بيان حتى لا تظلَّ شبهة

مثارة تنطلي على ناشئة الأدب في بلاد المسلمين فيظنون أن الوضوح والمباشرة

عيبان مخلَاّن بفنية الأدب، ونحن نعلم أن التعميم في الأحكام النقدية كثيراً ما يكون

سبباً في قتل الموضوعية، وضياع الإنصاف في الحكم على الأديب، أو على

النص الأدبي [2] .

ولا بد من الإشارة إلى (الرمزية) عندما نتحدَّث عن قضية الوضوح

والمباشرة لأنها إنما طُرحت في شكل قضية أدبية ملحة بعد اجتياح موجة الغموض

والإبهام لمساحة كبيرة من النصوص الأدبية في العالم، وكان ذلك الغموض المبهم

نتيجة طبيعية للرمزية التي نادت بتغيير وظيفة اللغة الوضعية بإيجاد علاقات لغوية

جديدة تشير إلى موضوعات غير معهودة تؤدي إلى تغيير مقام الكلمات ومجرى

الصياغة المألوفة.. ولذلك لا يستطيع القارئ أو السامع أن يجد المعنى الواضح

المعهود في الأدب [3] .

تحركت هذه الرمزية صوب المناطق المعتمة في النفس البشرية، وجرَّت

معها نصوص الأدب إلى أدغال الرموز والأساطير والإشارات التي لا أثر فيها

لضوء، ولا مكان فيها لشمس أو قمر أو نجوم، ونشأت بتأثير الرمزية مدرسة

الغموض والإبهام في الأدب العالمي، وتبعه في ذلك - كما هي العادة - الأدب

العربي، وكان طبيعياً أن تعادي مدرسة الغموض المولودة في أحضان الرمزية

الوضوح والمباشرة عداءً عاماً لا مكان فيه للمناقشة الموضوعية الهادئة، وسرت

لوثة الغموض والرمزية الغارقة في الإبهام في عدد غير قليل من نصوص الأدب

العربي المعاصر معتمدة على موجة الحداثة الفكرية التي نادت وما تزال بمعارضة

المألوف والخروج عليه كما هو شائع في كتابات أصحاب هذه الدعوة، وهنا أصبح

(الوضوح) في الأدب هدفاً من أهداف دعاة الخروج عن المألوف يرمونه بسهام

التشكيك، ويشنعوه على الأدباء الذين يكتبون أدباً واضحاً فيه مقومات الصياغة

الفنية الرائعة من أسلوب متقن، وصورة بديعة، ومشاعر دفَّاقة مؤثرة.

ولعل من المصلحة هنا أن نحدِّد نقاطاً لتناول هذه الشبهة حتى لا يطول بنا

المقام.

أولاً: نحن لا نقف ضد الرمز الموحي الذي يغلِّف الكلمة بغلاف رقيق

تطالعك من ورائه فكرة الأديب، والأدب الإسلامي يحترم الرمز المعبِّر وقدوته في

ذلك القرآن الكريم، ففيه عبارات وجمل ترمز إلى المعنى المراد ولا تصرح به،

وكذلك في حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهناك فرق كبير يغفل عنه

كثير من الناس، بين الرمز الشعري الذي يستخدمه الشاعر للدلالة على فكرة ما،

وبين الرمزية التي هي مذهب أدبي غربي. ولذلك حصل الاضطراب عند بعض

النقاد في قضية الوضوح والمباشرة.

ثانياً: الوضوح والمباشرة ليسا عيبين في الأدب بهذا الإطلاق الذي يرد في

بعض الدراسات النقدية، فهما ضرورتان ملحتان لكل أديب يريد أن يوصل مشاعره

وأفكاره إلى الناس، خاصة عندما يكون الأديب صاحب رسالة عظيمة في الأمة كما

هو شان الأديب الإسلامي، وإنما يعاب الوضوح، وكذلك المباشرة، عندما يطغيان

على فنية العمل الأدبي فتصبح القصيدة كلمات وجملاً مصفوفة لا يربط بينها إلا

الوزن الشعري وليس فيها روح الأدب، ولا جمال تصويره، ولا إيحاء عباراته.

فعندما يقول شاعر مخاطباً شخصاً ما:

تعيش وتبقى ما حييت وتسلمُ

فإنه بهذا المطلع الخاوي الذي لا روح فيه يخرج من مفهوم فنية الأدب،

والأدب الإسلامي لا يقر (فنياً) مثل هذه الكلمات الجافة الجامدة، وهذا الجفاف

والجمود لم يأت من قبل الوضوح والمباشرة كما قد يتخيل البعض، وإنما أتى من

قبل خواء المعنى وعدم نجاح الشاعر في نقل تجربة شعورية صادقة.

ولو كان الوضوح والمباشرة هو العيب، لألغينا مساحة شاسعة من الآداب

العالمية، ومحوناها من خارطة الأدب، وذلك ما لا يقول به ذو بصيرة. عندما

يقول الشاعر الإسلامي محمد محمود الزبيري رحمه الله:

خرجنا من السجن شُمَّ الأنو

ف كما تخرج الأُسْدُ من غابها

نمر على شفرات السيوفِ

ونأتي المنيَّة من بابها

فإن في هذين البيتين وضوحاً ومباشرة، ولكنها شعر مؤثر، وفيها تصوير

فني جميل لثبات الإنسان على مبادئه التي يؤمن بها، فالفنية هنا موجودة ولم تكن

المباشرة أو الوضوح عيباً بالرغم من وجودهما هنا. وبهذه النظرة النقدية العادلة

نستطيع أن نردَّ مثل هذه الشبهة الباطلة.

ثالثاً: الرمز الموحي مطلوب من النص الأدبي، والأديب المقتدر هو الذي

يحسن استخدام الرموز وتوظيفها، سواء أكانت رموزاً تاريخية أم معاصرة، وسواء

أكانت بشرية أم غير بشرية بل إن الشاعر إذا استخدم رمزاً موحياً وأحسن توظيفه

في النص الأدبي، استطاع أن يؤثر تأثيراً أعمق وأن يحقق للقارئ متعة أكبر،

وإنما يأتي الخلل عندما يصبح الرمز هدفاً ووسيلة لا يتنازل عنها الشاعر فإنه بهذا

يخرج عن إطاره الصحيح ويتجاوز حدَّه المعقول.

رابعاً: الوضوح والمباشرة موجودان في كل نصٍ أدبي يحمل فكرة وإنما

تختلف النسبة من نص إلى نص، اللهم إلا عند الأدباء الذين يجعلون الرمزية غاية

وهدفاً، ويسعون إلى الغموض والإبهام ولا يعنيهم أن يفهم القارئ ما يكتبون، وإنما

يعنيهم أن يتفنَّنوا في استخدام أساليب الرمزية الغامضة، وباستطاعة كل أديب

مقتدر أن يستخدم التعابير اللغوية استخداماً مباشراً ولكنه مفعم بأثر تجربته الشعورية

التي تتناغم مع الإيقاع الشعري الذي يستخدمه، أليس شعر المتنبي واضحاً

ومباشراً؟ ؟ بلى هو كذلك، فلماذا أحبه الناس وما زالوا يحبونه؟ ؟ لماذا لم يكن وضوحه ومباشرته سببين في رفضه وحاجزين أمام إبداعه؟ ؟ وغير المتنبي كثير.

ونخلص من هذا إلى القول بأن الوضوح والمباشرة ليسا مما يعوق العملية

الفنية، وبأن الأدب الإسلامي لا يقف ضد الرمز الموحي، ولا يقبل الجمود

والجفاف في النص الأدبي، وإنما ينظر إلى (الوضوح والمباشرة) بمنظار نقدي

سليم.

(1) راجع كتاب " الفن ومذاهبه في الشعر العربي "، لشوقي ضيف، ص 239 وما بعدها.

(2)

راجع كتاب " الوضوح والغموض في الشعر العربي القديم " تأليف عبد الرحمن القاعود، فقد طرح القضية طرحاً مفصلاً.

(3)

الاتجاهات الجديدة في الشعر العربي المعاصر للدكتور عبد الحميد جيدة ص 121.

ص: 53