المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌هدايا رابين د.محمد وليد   طال الأسى وتفطَّر القلبُ … فإلامَ ذاكَ القهرُ - مجلة البيان - جـ ٦١

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌ ‌هدايا رابين د.محمد وليد   طال الأسى وتفطَّر القلبُ … فإلامَ ذاكَ القهرُ

‌هدايا رابين

د.محمد وليد

طال الأسى وتفطَّر القلبُ

فإلامَ ذاكَ القهرُ يا ربُّ

المسلمون نفوسُهم مُلِئتْ

كرباً وفي أوطانهم كَرْبُ

فإلى متى أموالهم نَهْبُ

وإلى متى أقداسُهم غَصبُ

لو كان قلبي قُدَّ من حجرٍ

لتَفَطرتْ أحجاره الصُلبْ

ومضى ينادي ربَّهُ جزعاً

حتام ذاكَ القهرُ يا ربُّ

وأتاه صوتٌ غاضب يجب

ملء السماء وكلُّه عَتبُ

ضلّت بكم أهواؤكم شِيَعاً

وتفرقَ الحادونَ والرَّكبُ

إن السراجَ اليوم مُتَّقِدٌ

ما بالُه في أرضكم.. يخبو

قد سادَ فيكم كلُّ طاغيةٍ

وبكل صَرْحٍ شامخ ذئبُ

قهر البلاد وفيه قد جُمعِتْ

كلَّ العباد فشخصُهُ الشَّعبُ

تحيا الحقيقة وهي بائسة

في أرضكم ويُجَمَّلُ الكذبُ

أو تحسبون اليوم ويلكُمُ

أنَّ الحقيقةَ مالها ربُّ! !

الخيرون اليوم قد قُتلوا

في أرضكم وتفرق الصَّحبُ

والعابدون لربهم حُشروا

ملء السجون ومالهم ذنبُ

إلا محبتهم.. لخالقهم

ولسانهم من ذكره رْطبُ

مدريدُ قد جمعت قبائلكم

وخطابهم في قصرها خَطبُ

يا ليت شعري ويح مؤتمر

أبطاله الأغنامُ والذئبُ

رابينُ يُهديكم.. بضاعَتَه

حرباً هواناً بعدها حربُ

ووفودكم تأتيه طائعة

وجلوسها بمقامه كسبُ

أتفلسفونَ الذلَّ في سفهٍ

كي لا يقالَ تشدَّد العُرْبُ

يا أيها التاريخ.. مرحمة

داء المذلة مالهُ طبُّ

لا تعجبوا إن غاضَ ماؤكمُ

أو أُطفئت بسمائها الشُّهبُ

سيُذلكُّم من كان ذا ضَعَةٍ

وسيحكم الخنزيرُ والكلبُ

وسيفدحُ الخطبُ الجليلُ بكم

وسيعظم التقتيلُ والرُّعبُ

ما كان ربُّ العرش يظلمكم

الظلم فيكم أيها العُرْبُ

سُننُ الإله اليومَ ماضية

فيكم إلى أن يرعوي القلبُ

هلاّ رجعتم نحو بارئكم

حتى يعودَ إليكمُ الربُّ

ص: 58

الحركة العلمية في بلاد

الحجاز في العصر الأموي

(3)

د.محمد أمحزون

السيرة والمغازي:

لقد كان النزوع إلى جمع المعارف وحفظها من الضياع متعدد الجوانب في

صدر الإسلام، وبدأ في فترة كان فيها عدد كثير من الصحابة وكبار التابعين لا

يزالون على قيد الحياة. وبناء على بعض الأخبار سبق ذكرها يتضح لنا أن

الصحابة والتابعين كان لديهم حس تاريخي؛ فكانت المعارف والذكريات تدوّن من

الذاكرة على الورق، حتى تبقى بعد وفاة مدوّنيها.

وقد استخدم الواقدي كتباً من تأليف بعض الصحابة أسهمت إلى حد ما في

رواية كتب المغازي. ومن هذه الكتب كتاب بخط مؤلفه الصحابي سهل بن أبي

حتمة الأنصاري توفي زمن معاوية بن أبي سفيان. وقد بقيت بعض المعلومات التي

جمعها لدى حفيده محمد بن يحيى، وعنه أخذ الواقدي بعض المغازي [1] . وتعطي

المقتبسات منه صورة تكفي لإيضاح أن سهلاً قد اهتم في كتابه بغزوات الرسول -

صلى الله عليه وسلم[2] .

وهناك قطعة من مصنف للصحابي العلاء بن الحضرمي يعطي مثلاً آخر على

أن بعض الصحابة قد اعتادوا أن يسجلوا ذكرياتهم المهمة عن سيرة الرسول -

صلى الله عليه وسلم[3] .

لكن كتب السيرة المختصة كتبت على وجه التحديد في جيل التابعين، حيث

كان عدد من الصحابة موجودين، فلم ينكروا على كتاب السيرة، مما يدل على

إقرارهم لما كتبوه. والصحابة على علم دقيق وواسع بالسيرة لأنهم عاشوا أحداثها

وشاركوا فيها، وكانت محبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم وتعلقهم به

ورغبتهم في اتباعه وأخذهم بسنته في الأحكام سبباً في ذيوع أخبار السيرة

ومذاكرتهم فيها وحفظهم لها؛ فهي التطبيق العملي لتعاليم الإسلام.

وجدير بالإشارة أن هذا التبكير في كتابة السيرة قلل إلى حد كبير من احتمال

تعرضها للتحريف أو للمبالغة والتهويل أو للنسيان والضياع.

ومن أقدم من ألف من التابعين في السيرة والمغازي عروة بن الزبير (ت سنة

14 هـ) وأَبان بن عثمان بن عفان (ت سنة 105 هـ) وشرحيبل بن سعيد (ت سنة 123 هـ) وابن شهاب الزهري (ت سنة 124 هـ) وعاصم بن عمرو بن قتادة (ت سنة 129 هـ) وموسى بن عقبة (ت سنة 141 هـ) .

وكل هؤلاء من أهل المدينة، وقد تأثروا برأي أهل المدينة الذي يغلب عليه

طابع الحديث فمن الأمور الطبيعية نشوء علم السيرة في المدينة، إذ كانت المكان

الذي نصر الإسلام وحاطه، فاكتسبت السيرة بذلك ثوباً مدنياً، وطبعت بالطابع

الذي تميز به أهل الحجاز وهو ميلهم إلى الحديث والرواية، والتدقيق والمحافظة.

أما عروة بن الزبير بن العوام، فيعدّ أحد فقهاء المدينة السبعة [4] . انصرف

بكليته إلى الدراسة وإلى العناية بجمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم،

والبحث في سيرته ومغازيه حتى قال عنه الزهري: «رأيت عروة بحراً لا تكدّره

الدّلاء» [5] .

روى عن علي وعائشة وأبي هريرة وأمثالهم، وحدث عنه حبيب بن أبي

ثابت وخالد بن أبي عمران قاضي أفريقيا وأبو الزناد والزهري وغيرهم [6] . وقد

وصلت إلينا بعض كتبه في مؤلفات ابن اسحاق والواقدي والطبري، وهي من أقدم

ما وصل إلينا مدوناً عن مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما أبان بن عثمان، فإنه وإن كان قد شارك في بعض الأحداث مثل وقعة

الجمل، وتولى إمارة المدينة في أيام عبد الملك بن مروان [7] إلا أنه فضل

الاشتغال بالعلم، إذ يعد من فقهاء المدينة السبعة [8] ومن أقدم من ألفوا في المغازي

والحديث [9] . لكن لم يقتبس منه من المؤرخين سوى اليعقوبي في تاريخه [10] .

ويشاركه في هذا الميل شرحبيل بن سعيد، وهو أحد المؤلفين والعلماء الأوائل

في ميدان المغازي، قال سفيان بن عيينه عنه: «لم يكن أحد أعلم بالبدريين

منه» [11] . وكان شيخاً قديماً حدث عن زيد بن ثابت ومعظم الصحابة [12] .

وروى بالخصوص عن أبيه سعيد بن سعد بن عبادة الخزرجي الذي كان له

اهتمام بجمع المعلومات التاريخية المتعلقة بالمغازي [13] . وقد بقيت بعض

المعلومات التي جمعها في مسند الإمام أحمد وتاريخ الطبري [14] ، واعتمد ابنه

شرحيبل عليها في كتاباته. فسار على سنة أسرته في التأليف في المغازي، إذ كان

جدّه سعد بن عبادة الصحابي المشهور ذا مؤلف في السنن لا يزال معروفاً في القرن

الثالث الهجري [15] . وقد ذكر محمد بن طلحة الطويل أن شرحبيل أعدّ قوائم بمن

اشتركوا في غزوتي بدر وأحد، لكن فيها شيء من المبالغة [16] .

ومن الرواد الأوائل في كتابة السيرة أيضاً عاصم بن عمر بن قتادة المدني؛

روى عن بعض الصحابة مثل جابر وأنس، وحدث عنه بكير بن الأشجّ وابن

عجلان وابن اسحاق وغيرهم [17] . وكان عالماً بالسيرة، ثقة، كثير الحديث

[18]

، يعتمد عليه ابن اسحاق في كثير من مروياته [19] .

وقد أمره الخليفة عمر بن عبد العزيز أن يجلس في جامع دمشق فيحدث

بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومناقب أصحابه [20] . ثم رجع إلى

المدينة، فلم يزل بها حتى توفي سنة ثلاث وعشرين ومائة [21] .

ومنهم محمد بن مسلم بن شهاب الزهري الذي يعدّ من كبار المحدثين في

عصره، وثقه جهابذة علماء الجرح والتعديل [22] ، وأثنى عليه الأئمة بالفهم وسعة

العلم [23] . وهو أول من استخدم طريقة جمع الأسانيد ليكتمل السياق وتتصل

الأحاديث دون أن تقطعها الأسانيد [24] . وكان صاحب دراسات في التاريخ

الحديث والفقه، يكتب ما يسمعه ويجمعه من مشايخه؛ قال عنه أبو الزناد: «كنا

نطوف مع الزهري على العلماء ومعه الألواح والصحف يكتب كل ما سمع» [25] .

وكان حريصاً على الطلب، بصيراً بالعلوم حتى صار مرجع علماء الحجاز

والشام. قال فيه الليث بن سعد: «ما رأيت عالماً قط أجمع من الزهري، يحدث

في الترغيب فتقول: لا يحسن إلا هذا، وإن حدث عن العرب والأنساب قلت:

لا يحسن إلا هذا، وإن حدث عن القرآن والسنة فكذلك» [26] .

وبذلك تكونت من كتاباته وعلومه هذه مجموعات ضخمة دخلت قصور الخلفاء

الأموين. فقد أمر الخليفة هشام بن عبد الملك اثنين من كتابه بمرافقة الزهري

فرافقاه سنة في مجالسه التي يحاضر فيها، ثم أودع ذلك النقل خزانة هشام [27] .

وحكي أنه حين قتل الوليد بن يزيد (ت سنة 126 هـ) حملت الدفاتر من خزانته على الدواب من علم الزهري [28] .

ومنهم موسى بن عقبة الأسدي مولى آل الزبير، وهو محدث ثقة من تلاميذ

الزهري [29] وقد أثنى الإمام مالك على كتابه في المغازي وقال أنه أصح

المغازي [30] . وقال يحيى بن معين: «كتاب موسى بن عقبة عن الزهري من أصح هذه الكتب» [31] .

عاش موسى بن عقبة في المدينة، وكانت له في مسجد رسول الله - صلى

الله عليه وسلم - حلقة علم يمنح فيها كذلك إجازاته العلمية [32] . ويبدو أن

البخاري قد أفاد من مغازيه في الصحيح [33] . واختصرها ابن عبد البر بعنوان:

(كتاب الدرر في اختصار المغازي والسير)[34] . كما استخدمها الحافظ ابن حجر

في كتابه (الإصابة)[35] .

هؤلاء هم الرواد الأوائل في كتابة السيرة في المدينة المنورة موطنها الأصلي، ويتضح من توثيق نقاد الحديث لهم ما تميزوا به من العدالة والضبط، وهما

شرطان عند العلماء لتوثيق الرواة. فلئن كانوا عُدَّلوا عند المحدثين رغم دقة

شروطهم في التوثيق، فإن هذا التوثيق يعطي كتاباتهم في السيرة قيمة علمية كبيرة.

ويعد ذلك دليلاً ساطعاً بأن الله تعالى حفظ سيرة نبيه صلى الله عليه وسلم

من الضياع والتحريف والمبالغة، بأن هيأ لها جهابذة المحدثين ليعنوا بها ويدونوا

أصولها الأولى قبل أن تتناولها أقلام الإخباريين والقصاصين.

(1) الواقدي: المغازي، ص هـ 9، 108، 197.

(2)

انظر مثلاً الطبري: تاريخ الرسل، 1/1757 1609 1264 وابن سعد: المصدر السابق، 1/332.

(3)

ابن حجر: الإصابة، 2/1184.

(4)

ابن خلكان: وفيات الأعيان، 1/399.

(5)

ابن عساكر: المصدر السابق، 11/284، والفسوي: المصدر السابق، 1/552.

(6)

الذهبي: سير أعلام النبلاء، 4/421-435.

(7)

ابن سعد: المصدر السابق 5/152.

(8)

ابن حجر: تهذيب التهذيب، 1/97.

(9)

انظر مقال تسترسين، دائرة المعارف الإسلامية، 1/5.

(10)

اليعقوبي: التاريخ، 1/3.

(11)

الذهبي: الكاشف، 2/7.

(12)

ابن حجر: تهذيب التهذيب، 4/321.

(13)

ابن حجر: المصدر نفسه، 4/69.

(14)

أحمد: المسند، 5/222، والطبري: تاريخ الرسل 1/111.

(15)

الترمذي: السنن، 1/251.

(16)

ابن حجر: تهذيب التهذيب، 10/361.

(17)

الذهبي: الكاشف، 2/46-47.

(18)

ابن سعد: المصدر السابق، ص 128 (القسم المتمم لتابعي أهل المدينة) .

(19)

الذهبي: سير أعلام النبلاء، 5/240.

(20)

ابن سعد: المصدر السابق، ص 128 (القسم المتمم لتابعي أهل المدينة) .

(21)

ابن سعد: المصدر نفسه، ص 128.

(22)

ابن معين: التاريخ، 2/538، والدرامي: التاريخ، ص 44-203، والعجلي: تاريخ

الثقات، ص 412.

(23)

الطبري: المنتخب- من ذيل المنديل، ص 97، والذهبي: سير أعلم النبلاء، 5/336.

(24)

اكرم ضياء العمري: المجتمع المدني في عهد النبوة، ص 40.

(25)

الذهبي: سير أعلام النبلاء، 5/329.

(26)

الذهبي: المصدر نفسه، 5/328.

(27)

أبو نعيم: المصدر السابق، 3/361.

(28)

الدرامي: التاريخ، ص 204، وابن حجر: تهذيب التهذيب، 10/ 360-361.

(29)

ابن حجر: تهذيب التهذيب، 10/361.

(30)

الذهبي: سير أعلام النبلاء، 6/117.

(31)

الذهبي: المصدر نفسه، 6/117.

(32)

انظر الجامع الصحيح: كتاب المغازي، 5/44.

(33)

سزكين: المرجع السابق، 2/85.

(34)

ابن حجر: الإصابة، 3/1349.

(35)

ابن حجر: تهذيب التهذيب، 3/437.

ص: 60

مشاهدات في بلاد البخاري

(3)

د. يحيى اليحيى

مشاهد تسر المسلم:

لقد سرني كثيراً من أحوال تلك البلاد وما كنت لأتوقع ذلك أبداً، وها أنذا

أسجل أشياء مما رأيته ومما ينشرح له صدر المسلم:

* طهارة تلك البلاد من القبور المعظمة عندهم فلم نر مسجداً قط يطوف الناس

حوله أو يتبركون به، ولم أر مسجداً داخله قبر، وهذه نعمة كبيرة ومؤشر كبير

لنشر التوحيد هناك.

* الناس عموماً على الفطرة وإن كان ظاهرهم الإعراض عن الإسلام،

فالمرأة المتبرجة لم تتعر عناداً أو عصياناً كالمرأة في البلاد العربية، لا ولكن جهلاً

منها فمتى عرفت شيئاً بادرت إلى تطبيقه، وإذا دخلت المحلات التجارية - وكل

البائعات فيها نساء - فإذا رأتنا المرأة استغربت الشكل: فسألت صاحبي: عربستان؟ أي من العرب. قال نعم ومن المدينة النبوية فتشهق فرحاً وشوقاً إلى تلك الديار،

وتقديراً لنا تضع يدها على صدرها، ثم تتنهد تنهداً عظيماً وتزفر زفرة قوية،

توضح شوقها وحبها إلى ديار الإسلام وأهله.

ولقد سكنت في فندق في مدينة تشاوز من دولة تركمانستان، فلما علمت

مسؤولة الفندق أننا من البلاد العربية طلبت منا مصحفاً وكان طلبها في نظرها من

أشباه المستحيلات، فأعطيتها مصحفاً ففرحت فرحاً شديداً أبكاها ووضعته على

رأسها، ثم أخذت بتقبيله قائلة: أنا أملك مصحفاً! ثم ذهبت إلى مكتبتها ووضعته

في أعلى مكان منه متمنية سرعة انتهاء دوامها حتى تذهب به إلى بيتها.

فالناس هناك على الفطرة، فطرة الله التي فطر الناس عليها: حب للإسلام

وحب للعرب خاصة، لأنهم هم الذين حملوا الإسلام إليهم.

3-

ترابط الأسرة، وقيام المرأة بشأن بيتها، وقوامة الرجل على أهل بيته،

فتجد البيت فيه الأب والأم والأولاد وزوجاتهم، والمرأة تقوم في شأن البيت كله:

تطحن وتخبز وتطبخ وتنظف وتخيط الخ.

4-

الكرم وحسن الضيافة، أما كرمهم فلم أر أحداً أكرم للضيف منهم مع

الفرح والسرور والابتهاج، فلا أتصور أحداً يذهب إلى تلك البلاد، وفيه خير ودين، ويعلم به المسلمون، يدفع شيئاً من جيبه لطعام أو شراب، وقد وصل الأمر إلى

أننا أنكرنا عليهم بعض المبالغة في كرمهم.

فإذا دعاك أحد إلى بيته فلا تتصور أنك ستطرق الباب عليه، فإن أهل البيت

كلهم ينتظرونك عند الباب، فإذا دخلت البيت فمكانك أحسن المجالس، ولا يجلسون

حتى تجلس، أما الطعام فمقدم لك قبل جلوسك ويأتيك الطعام من كل نوع ويقربون

لك أحسنه وأطيبه، أما غسل اليدين قبل الطعام وبعده فيأتيك وأنت جالس مع

المنديل، ولن تخرج من بيت الضيافة إلا ويهدون إليك شيئاً!

والقصص في كرمهم كثيرة وأجتزئ منها قصتين تدلان على كرمهم وحسن

ضيافتهم:

الأولى: خرجنا من مدينة (طشقند) قرب الغروب وبعد مسيرة ثلاثين ميلاً

غربت الشمس فقصدنا شخصاً يعرفه أحد المرافقين معنا ففرح لقدومنا فرحاً شديداً،

وأدخلنا بيته على سرور منه وفرح وما هي إلا دقائق حتى قدم لنا الطعام، وما زال

يقدم لنا أنواعاً من الأطعمة، فما استطعنا أن نوقف سيل الأطعمة إلا بالمناداة

للصلاة، فلما أدينا الصلاة استأذنا في الخروج فبكى وطلب منا أن نبيت عنده،

وقال: ما أكرمتكم، ثم أخذ بإلحاح علينا علنا ننام عنده فلما علم إصرارنا على

المسير، قال: متى ترجعون إلى طشقند، فقلنا: بعد عشرة أيام، فلما قدمنا

(طشقند) وجدناه واقفاً على باب الفندق صباحاً، فحاولت الحديث معه، لكنه لا

يعرف العربية وسمى لي شخصاً ممن يصحبوننا يريد مقابلته فدخلت الفندق وبحثت

عنه، فلم أجده فخرجت إليه وأخبرته وطلبت منه أن يدخل فأبى، فدخلت الفندق،

وتصورت أنه سيذهب ولكنه بقي على باب الفندق حتى جاء صاحبه بعد العصر،

فقال: لا بد من أن يزورني الضيوف الكرام، فقال له: إن سفرهم صباحاً ولا

يستطيعون، فإذا معه بعض الهدايا من عسل مصفى - في إناء لا يقل وزنه عن

خمسين كيلو غراماً- فأقنعه صاحبي أننا لا نستطيع حمله بسبب الجمارك وظننا أن

الأمر انتهى إلى هذا، وبعد صلاة العشاء نزلت من الفندق فإذا بصاحبنا على بابه،

فأدخلته غرفتي فبدأ يبكي: كيف نذهب ولم نزره، ثم أعطاني لباساً من ألبستهم

وشيئاً من العسل يبلغ اثنين كيلوجرام، ولصاحبي مثل ذلك، فحاولت إقناعه بعدم

أخذها وأننا قد ربطنا أمتعتنا فبكى، فأخذتها مجاملة له ثم خرج مودعاً باكياً.

ولا تظن أخي الكريم أن هذا الرجل يتصور أننا أكرم الناس، لا فقد حج في

العام الماضي ورأى من كرمنا أننا نبيع الماء للحجيج! !

الثانية: التقينا مع بعض زملائنا من أهل الرياض في مدينة (طشقند) فتجاذبنا

وإياهم أطراف الحديث فذكروا أن لنا بعض ما شاهدوه من كرم الناس فقالوا: وجدنا

رجلاً يزيد عمره على الأربعين في (طشقند) فقال: أود أن تزوروننا في قريتي،

فأمي منذ زمن تريد أن ترى أحداً من أهل مكة أو المدينة، قلنا كم تبعد قريتك عن

(طشقند) قال قرابة ستمائة من الكيلومترات، فقلنا له: إن شاء الله سنزورك،

كعادتنا في كل من طلب منا الزيارة نسوف له، فإن حانت فرصة فعلنا، ولكن

الرجل فهم منهم القبول فسافر إلى قريته ووصل إلى أمه ليلاً، وأخبرها الخبر،

فأخذت تبكي من الفرح حتى الفجر وفي الصباح اشترت ضأناً بمبلغ ألفين روبل،

- راتب أستاذ الجامعة عندهم ألف روبل - وذبحته وطبخته، فلما حان الظهر

خرج كل أهل القرية ومعهم الأعلام والرايات إلى ظاهر القرية لاستقبال الضيوف

ومعهم المرأة - فلما جاء العصر ولم يحضر الضيوف أمرت ولدها بأن يحضر

طبيباً، خشية أن أحداً منهم قد مرض، ثم بقوا في انتظارهم حتى العشاء الآخرة،

فقال الرجل لأمه نرجع، فقالت: لا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم واعد

رجلاً فجلس ينتظره ثلاثة أيام، وأنا سأنتظرهم سبعاً، وبعد الإلحاح عليها خشية

البرد رجعت إلى البيت على أن يسافر ابنها في طلب الضيوف، ولكن الضيوف

سافروا إلى مدينة أخرى فهم في نظرهم لم يعقدوا موعداً معه، فخرج الرجل يبحث

عنهم حتى وجدهم فقال لهم: أين الموعد؟ فقالوا: مستغربين، وهل واعدناك،

فلما أخبرهم بانتظار الناس لهم رجعوا معه، فوجدوا الناس في انتظارهم في ظاهر

القرية ومعهم الرايات، قالوا: فلما رأونا رفعوا أصواتهم بالتكبير، وأسرعت المرأة

وأكبت عليهم تريد تقبيل أيديهم، فابتعدوا عنها، ثم أكبت على أقدامهم تقبلها، فلما

دخلوا القرية وجدوا طريقهم قد فرش حتى البيت، قالوا: فلما جلسنا على الطعام

والعجوز قريباً منا وهي تبكي فرحاً حتى خشينا عليها من التشنج، فلما أكلوا

أحضرت لهم الماء بنفسها للتغسيل ومعها المنديل وأبت أن يأخذه أحد منها، قالوا:

ثم ذهبنا إلى المسجد فإذا الناس مجتمعون فيه فأخذ الصغار بالتكبير والكبار بالبكاء

عند مرآنا هذا والقصص في كرمهم كثيرة، ولكن ذكرت هاتين القصتين للتدليل

فقط.

الأدب الإسلامي وحسن الخلق:

شباب عاشوا في جو الإلحاد والضياع ولكن أدب الإسلام وأخلاقه باد عليهم،

فالشاب مثلاً لا يمكن أن يمد رجليه بين يديك، بل ولا يجلس متربعاً، وإنما جلسته

أمامك كجلسة التشهد، أما إن طلبت منه أن يقرأ عليك شيئاً من القرآن، فاليدان

على الفخذين، والرأس مطأطئ والبصر في حجره. لا يتقدم الصغير على الكبير

ولا يتكلم الولد بحضرة والده إلا بإذنه، ولا يعمل الوالد مع وجود ولده، يسود بينهم

الإيثار والاحترام المتبادل، يرقبون حركتك بعين التقدير والاحترام، فإن أردت

القيام قاموا جميعاً ليقدموا لك ما تريد.

الصبر والجلد والغربة في طلب العمل:

وقد ذكرت سابقاً شيئاً من صبرهم وجلدهم وتحملهم في طلب العلم وتحصيله،

ولقد زرت قرية (طبق سه) وهي تبعد عن طشقند قرابة ستين كيلومتراً، فدخلت

مدرسة فيها أكثر من سبعين طالباً أعمارهم ما بين الثانية عشرة إلى العشرين،

وكلهم غرباء، قدموا من مسافات بعيدة للتعلم، وكانوا على مستوى متقارب من

حيث الفهم والمقصد والأهداف، تسود بينهم المحبة والإخوة والإيثار، يخدمون

أنفسهم فهم الذين يطبخون ويغسلون وينظفون. وقد قمت بمقابلتهم واحداً واحداً،

وكان منهم شاب عمره ست عشرة سنة قدم من سيبيريا، وهي تبعد عن مكان

المدرسة أكثر من ألف كيلومتر، فقلت له: لماذا تركت أهلك وقدمت إلى هذا المكان؟ قال: لطلب الدين! ! فقلت له: متى تزور أهلك قال: في الصيف أذهب إلى

الأهل.

سبحان الله شاب بهذا العمر ويعيش في جو الإلحاد والضلال ثم يتغرب

مسافات شاسعة مفارقاً الأهل والخلان والوطن في طلب الدين. إن هذا المجتمع

يحمل مقومات وخصال عظيمة ينبغي تنميتها وتربيتها وتوجيهها لخدمة الإسلام.

احترام وإجلال أهل العلم:

وهذه الخصلة الحميدة سائدة بين مختلف طبقاتهم وعلى تفاوت مستوياتهم في

العلم والالتزام، فإذا قدم عليهم طالب علم أو مرّ بهم احترموه وقدروه وأفسحوا له

الطريق. ولقد وقفت في الشارع أطلب سيارة فتوقف لي صاحب سيارة خاصة في

وسط الطريق وكاد أن يتسبب في وقوع حادث، وقال لي: أنا موظف ذاهب إلى

عملي ولكن لما رأيتك قلت هذا من العلماء فوقفت لك! ! وهذا الاحترام ليس خاصاً

بالمدنيين فقط بل إنني وجدت حتى من العسكريين المسلمين تقديراً واحتراماً يفقده

كثير من الناس عندنا اليوم، فما تمر في نقطة تفتيش مثلاً إلا وتجد أول ما

يبادرونك به تحية الإسلام (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) ويعرضون عليك

بإلحاح النزول عندهم.

ص: 67