الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مصطلحات وتعريفات
الكُفْر
بقلم / عثمان جمعة ضميرية
-1-
الكفر في اللغة هو الجحود. وأصله من الكَفْر، وهو السَّتْر والتغطية.
يقال: كفرتُ الشيء: إذا غطيته. ومنه قيل للَّيل: كافر، لأنه يستر الأشياء
بظلمته.
وسمى الزارع كافرا لأنه يستر الحبَّ بالتراب. وليس الكافر اسما لليل أو
الزارع، ولكنه وصف لهما.
والكفر: ضد الإيمان، سمى بذلك لأنه تغطية وستر للحق، فالكافر ساتر
للحق، أو ساتر لِنَعم الله تعالى عليه.
ويقال: كفر بالله، يكفُر كُفراً، وكفوراً، وكُفرْاناً. وأكفر فلانا: دعاه كافراً.
وتستعمل كلمة «الكُفْر» في الدين أكثر من استعمالها في كفران النعمة،
«الكفران» في جحود النعمة، و «الكَفور» فيهما جميعاً. و «الكافر» عنه
الإطلاق - متعارف فيمن - يجحد الوحدانية أو النبوة أو الشريعة، أو يجحدها
جميعاً [1] .
وأما تعريف الكفر اصطلاحاً، فيقول ابن تيمية في ذلك: - «الكفر: عدم
الإيمان، باتفاق المسلمين، سواء اعتقد نقيضه وتكلم به، أولم يعتقد شيئاً ولم يتكلم» مجموع الفتاوي 20/86.
ويقول أيضاً: - «إنما الكفر يكون بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم
فيما أخبر به، أو الامتناع عن متابعته مع العلم بصدقه، مثل كفر فرعون واليهود
ونحوهم» درء تعارض العقل والنقل 1/242.
ويعرف ابن حزم الكفر بهذه العبارة:
وهو [أي الكفر في الدين] : صفة لمن جحد شيئاً مما افترض الله تعالى
الإيمان به بعد قيام الحجة عليه بقلبه دون لسانه، أو بلسانه دون قلبه، أو بهما معاً، أو عمل عملاً جاء النص بأنه مخرج له بذلك عن اسم الإيمان.
ويقول السبكي: «التكفير حكم شرعي سببه جحد الربوبية، أو الوحدانية،
أو الرسالة، أو قولٌ أو فعلٌ حكم الشارع بأنه كفر، وإن لم يكن جحدا» (فتاوي
السبكي 2 / / 586) .
فالكفرْ اعتقادات، وأقوال، وأعمال، حكم الشارع بأنها تناقض الإيمان.
والكفر حكم شرعي، والكافر من كفره الله ورسوله صلى الله عليه وسلم
فليس الكفر حقا لأحد من الناس، بل هو حق الله تعالى.
يقول ابن تيمية: - «ولهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم،
وإن كان ذلك المخالف يكفرن؛ لأن الكفر حكم شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب
بمثله، كمن كذب عليك، وزنى بأهلك، ليس لك أن تكذب عليه، ولا تزنى بأهله؛ لأن الكذب والزنا حرام لحق الله تعالى. وكذلك التكفير حق الله فلا يُكفر إلا من
كفّره الله ورسوله» الرد علي البكري ص 257.
ويقول ابن الوزير: - «إن التكفير سمعي محض لا دخل للعقل فيه، وإن
الدليل على الكفر لا يكون إلا سمعياً قطعياً، ولا نزاع في ذلك» العواصم والقواصم
4 / 158.
والكفر نوعان: كفر أكبر، وكفر أصغر.
أما الكفر الأكبر؛ فهو ما يضادُّ الإيمان من كل وجه، ويُخرج صاحبه من
الدين والملة، ويُوجب له الخلود في النار. قال الله تعالى: [إنَّ الَذِينَ كَفَرُوا مِنْ
أَهْلِ الكِتَابِ والْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا] [البينة: 6]
وهذا الكفر يأتي في النصوص الشرعية مقابلاً للإيمان فيكون ضده. وإذا
أطلق لفظ «الكفر» فإنه ينصرف إلى هذا النوع، فهو الكفر الأكبر الذي يحبط
العمل، ولا يغفره الله لصاحبه إذا مات عليه.
ويتنوع الكفر إلى ستة أنواع، من لقى الله تعالى بواحد منها لم يغفر له،
وهي [2] :
1 -
كفر الإنكار، وهو أن ينكر بقلبه ولسانه، ويزعم أنه لا يعرف الله أصلا
ولا يعترف به، ولا يعرف ما يذكر له من التوحيد، قال الله تعالى: [إنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ] [البقرة: 6] : أي كفروا
بتوحيد الله وأنكروا معرفته.
2 -
كفر الجحود، وهو أن يعرف الله بقلبه، ولا يقرّ ولا يعترف بلسانه،
فهو كافر جاحد، مثل كفر اليهود وجحودهم لنبوة نبينا محمد -صلى الله عليه
وسلم-، وكتمانهم لصفاته في كتبهم: [إنَّ الَذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ
والْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ ويَلْعَنُهُمُ اللَاّعِنُونَ]
[البقرة: 159] .
وهذا الجحود قد يكون عاما بأن يجحد جملة ما أنزله الله تعالى أو يجحد إرسال
الرسل، وقد يكون خاصاً مقيداً، بأن يجحد فرضاً من فروض الإسلام، أو يجحد
تحريم محَّرم من محرماته.
3 -
كفر الشك، حيث لا يجزم بصدق رسول الله ولا بكذبه، بل يشك في
أمره، ولا يستمر هذا الشك إلا إذا ألزم نفسه الإعراض عن آيات الله، ودلائل
صدق الرسول.
4 -
كفر الإعراض؛ بأن يعرض بسمعه وقلبه عن الرسول -صلى الله عليه
وسلم-، فلا يصدقه ولا يكذبه ولا يواليه ولا يعاديه. وبينه وبين ما سبق صلة.
5 -
كفر النفاق، بأن يظهر بلسانه الإيمان، وينطوي قلبه على التكذيب،
وهو النفاق الاعتقادي.
6 -
كفر العناد؛ وهو أن يعرف الله بقلبه ويعترف ويقرّ بلسانه، ويأبى أن
يقبل الإيمان أو أن يدين به، فهو كفر إباء واستكبار، مثل كفر إبليس.
- وما أكثر الأبالسة اليوم - فإنه لم يجحد أمر الله تعالى، وإنما تلقاه بالإباء
والاستكبار. وكذلك كفر فرعون وأبي طالب إنما هو من هذا اللون.
وأما الكفر الأصغر فهو مخالفة لحكم من أحكام الشريعة، ومعصية عملية لا
تُخْرج عن أصل الإيمان، وإنما توجب لصاحبها الوعيد بالنار دون الخلود فيها،
وسميت كفرا لأنها من خصال الكفر. [3]
ويمكن تعريفه بأنه كل معصية أطلق عليها الشارع اسم الكفر ولم تصل إلى
حد الكفر.
وهذا النوع من الكفر يسميه بعض العلماء: الكفر العملي، الذي يقاب الكفر
الاعتقادي. وهو أيضاً: كفر النعمة، مع العلم أن الكفر العملي ينقسم إلى: ما لا
يخرج عن الملة كالطعن في الأنساب والنياحة على الميت.
وقسم يخرج عن الملة كالسجود لغير الله، وإهانة المصحف.
ومن الأمثلة الظاهرة على الكفر الأكبر في عصرنا الحاضر: الامتناع عن
الحكم بشريعة الله تعالى، وتطبيق القوانين الوضعية بدلاً عنها.
إن الحكم بما أنزل الله تعالى وحده هو إفراد الله بالطاعة، قال تعالى:
[إنِ الحُكْمُ إلَاّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إلَاّ إيَّاهُ][يوسف: 40] .
والإشراك بالله في حكمه، والإشراك به في عبادته كلها بمعنى واحد، لا فرق
بينهما البتة، فالذي يتبع نظاماً غير نظام الله، وتشريعاً غير تشريع الله، كالذي
يعبد الصنم، ويسجد للوثن، لا فرق بينهم البتة.
ويكون الحكم بغير ما أنزل الله كفراً أكبراً في عدة حالات منها:
1 -
أن يجحد أو ينكر الحاكم بغير ما أنزل الله أحقية حكم الشريعة.
2 -
أن يفضل حكم الطاغوت على حكم الله تعالى.
3 -
أن يساوي بين حكم الله تعالى حكم الطاغوت.
4 -
أن يجوز الحكم بما يخالف حكم الله وروسوله، أو يعتقد أن الحكم بما
أنزل الله تعالى غير واجب، وأنه مخير فيه.
5 -
من لم يحكم بما أنزل الله إباءً وامتناعاً، فالكفر ليس تكذيبا فحسب، بل
قد يكون امتناعاً عن اتباع الرسول مع العلم بصدقه، والإيمان قول وعمل،
وتصديق وانقياد، فلا يتحقق الإيمان مع ترك الانقياد والطاعة.
(1) انظر: الزاهر للأزهري ص: (379)، معجم مقاييس اللغة: 5/9، لسان العرب: 5/144 الكليات للكفوي: 2/535، مفردات القرآن للراغب ص (434)، المغُرِب للمطرزي: 2/224.
(2)
هذا التقسيم نجده عند علمائنا قديما، فهو في الزاهر للأزهري ث (380 - 381) وتفسير البغوي: 1 / 64 طبعة دار طيبة وشهره ونشره الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومن قبله ابن القيم - رحمهم الله تعالى.
(3)
فتح البارى لابن حجر: 1 / 83 - 84، شرح النووي على صحيح مسلم: 2/49-50.
من فقه الدعوة
دعوة إبراهيم عليه السلام
(3)
أساليب إبراهيم عليه السلام في نشر دعوته
محمد بن عبد العزيز الخضيري
1-
تقرير توحيد الألوهية ببيان دلائل الربوبية:
جميع دعوات الرسل قائمة على تقرير توحيد الألوهية الذي من أجله خلق الله
الثقلين [ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنسَ إلَاّ لِيَعْبُدُونِ] ، وهو الذي اختلف الناس فيه،
ووقع لديهم بسببه زيغ عظيم، ولذلك أخبرنا الله عن هدف بعث الرسل بقوله
[ولَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ واجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ] .
أما توحيد الربوبية: فأكثر الناس متفقون عليه، وهو الإقرار لله بالخلق
والتدبير والملك [ولَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ] وتوحيد
الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية، فالذي يستحق العبادة وحده هو الذي يخلق
ويرزق، ويحي ويميت، وينفع ويدفع، ويملك ويدبر، وقد بيّن الأنبياء لأقوامهم
هذا أتم بيان، ومنهم إبراهيم [إذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ واتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن
كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * إنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وتَخْلُقُونَ إفْكاً إنَّ الَذِينَ تَعْبُدُونَ مِن
دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ واعْبُدُوهُ واشْكُرُوا لَهُ إلَيْهِ
تُرْجَعُونَ] فبين أن الله هو الرزاق، فهو إذن المستحق للعبادة دون سواه ممن لا
يملكون لأنفسهم - فضلاً عن غيرهم - رزقاً ولا نفعاً ولا ضراً، وقال: [أَفَرَأَيْتُم
مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إلَاّ رَبَّ العَالَمِينَ * الَذِي
خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * والَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي ويَسْقِينِ * وإذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * والَّذِي
يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ
…
] وأمثلة ذلك كثيرة.
2 -
التصريح بقصد النصيحة وأنه لا هدف للداعي إلا نفع المدعوين وأنه لايريد على ذلك حظا من الدنيا:
إن إعلان الداعية عن هذا للمدعوين من شأنه أن يلين قلوبهم، ويدعوهم إلى
تأمل ما يُدعون إليه، ولقد درج على ذلك الأنبياء جميعاً، فقال نوح: [ويَا قَوْمِ لا
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إنْ أَجْرِيَ إلَاّ عَلَى اللَّهِ..] وقال هود: [يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ
أَجْراً إنْ أَجْرِيَ إلَاّ عَلَى الَذِي فَطَرَنِي] وفي سورة الشعراء ذكر الله: [ومَا أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إنْ أَجْرِيَ إلَاّ عَلَى رَبِّ العَالَمِينَ] ذكرها عن نوح وهود وصالح
ولوط وشعيب، وقال محمد صلى الله عليه وسلم: [قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ
لَكُمْ إنْ أَجْرِيَ إلَاّ عَلَى الله وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] .
وحكى الله عن إبراهيم أنه قال لأبيه: [يَا أَبَتِ إنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ
مِّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ ولِياً] فهو لا يريد شيئاً من أبيه، وإنما يخاف عليه من
عذاب الرحمن، فيكون ولياً للشيطان، وتأمل في العبارات التي نطق بها إبراهيم:
(أخاف) و (يمسك) و (عذاب من الرحمن) تُلفها تعبر بصدق عما يكنه إبراهيم لأبيه.
3 -
الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة:
وقد جاءت جلية في دعوته لأبيه وخطابه الرقيق الحاني المتدفق ليناً - وعطفاً
ولطفاً، اتباعاً للحكمة التي تقرب المدعو من الدعوة وتلين قلبه للاستجابة.
4 -
التشنيع على المعبودات الباطلة وعابديها:
لما بين إبراهيم لقومه دعوته، وألان لهم الخطاب، لعنهم يستجيبون، وما
زادهم ذلك إلا التمادي في باطلهم، فما كان من إبراهيم إلا أن أظهر تهافت
معبوداتهم وأحنق النكير عليهم، فقال:[مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ]
فسماها تماثيل ولم ينعتها بوصف (الألوهية) ، ولما ظهر له أنهم لا يعتمدون فيما
فعلوا على حجة وبرهان قال لهم: [لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ] وزاد
فقال: [أُفٍّ لَّكُمْ ولِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ] ولقد برهن لهم على
سفههم ما سوغ في تهكمه بتصرفاتهم حيث سألهم: [هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إذْ تَدْعُونَ * أَوْ
يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ] فإن أقل ما يقال في هؤلاء المعبودين أنهم لا يسمعون
كعابدين فكيف يجلبون لهم نفعاً أو يدفعون عنهم ضراً؟
5 -
التذكير بنعم الله على عباده:
جبلت النفوس على حب من أحسن إليها ولذلك عنىَ الدعاة إلى الله بتذكير
الخلق إحسان الله إليهم ليكون ذلك أدعى إلى قبول الدعوة فهذا هود يقول:
[واذْكُرُوا إذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وزَادَكُمْ فِي الخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] . وقال صالح: [واذْكُرُوا إذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وتَنْحِتُونَ الجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ ولا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ] وأما إبراهيم فقال: [أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إلَاّ رَبَّ العَالَمِينَ * الَذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * والَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي ويَسْقِينِ * وإذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * والَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * والَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ] .
6 -
التذكير بأيّام الله:
ما من أمة تَخْلف في الأرض إلا وتنظر في أحوال من سلف من الأمم تتبع
مواطن العبرة فيها، فتستفيد من الإيجابيات، وتحذر من السلبيات، وكان أنبياء الله
يذكرون أممهم بأحوال الغابرين ممن كذبوا أو آمنوا، فيذكرونهم بعاقبتهم،
وينذرونهم أن يحل بهم ما حل بمن كفر من أمم الأرض، لعلهم يتعظون أو
يرتدعون، ولذا قال إبراهيم لقومه: [وإن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ومَا عَلَى
الرَّسُولِ إلَاّ البَلاغُ المُبِينُ] أي فقد كذبت أممٌ أنبياءهم فحل بهم ما تعلمون من
العذاب، فإن فعلتم عوقبتم بمثل عقابهم، وما على الرسول إلا البلاغ المبين.
7 -
المناظرة والتدرج في إفحام الخصم:
قال ابن القيم في مناظرات إبراهيم: «وهو الذي فتح للأمة باب مناظرة
المشركين وأهل الباطل، وكسر حججهم، وقد ذكر الله مناظرته في القرآن مع إمام
المعطلين، ومناظرته مع قومه المشركين، وكسر حجج الطائفتين بأحسن مناظرة،
وأقربها إلى الفهم وحصول العلم [1] » وسنذكر هنا مناظرتين وقعتا لإبراهيم،
وذكرهما القرآن الكريم:
- الأولى: مناظرته لعبدة النجوم قال الله تعالى [وإذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ
أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إنِّي أَرَاكَ وقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * وكَذَلِكَ نُرِي إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ
السَّمَوَاتِ والأَرْضِ ولِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا
رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى القَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ
لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ القَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا
رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إنِّي وجَّهْتُ وجْهِيَ
لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ حَنِيفاً ومَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ * وحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ
أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وقَدْ هَدَانِ]
…
الآية إلى قوله [وتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ
عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ] [*]
لقد عني إبراهيم بإخوانه من الأنبياء بالتوحيد وإيضاحه، والاستدلال له أيما
عناية، وسلك في سبيل بيان الحق، وتزييف الباطل كل وسيلة تؤدي إلى ذلك،
ومنها هذه المناظرة التي قامت بينه وبين قومه لبيان حقيقة ما هم عليه من الضلال.
فأنكر على أبيه اتخاذ الأصنام آلهة، ولما أشرك قومه معه شدد في إعلان
الفكر عليهم، وبين أن ما هم فيه ما هو إلا ضلال يبُين عن نفسه، وذلك ليثير
عواطفهم، ويدفعهم إلى التفكير الجاد العميق فيما هم فيه، وكان إبراهيم قد بصره
الله بالدلائل الكونية الدالة على وحدانية الله تعالى، فآراه آياته في ملكوته، ليعلم
حقيقة التوحيد، أو ليزداد علما به، ويقينا إلى يقينه.
وأرشده إلى طريقة الاستدلال بها على المراد من العباد.
ودخل إبراهيم مع قومه الصابئة الذين يعبدون النجوم، ويقيمون لها الهياكل
في الأرض، دخل معهم في مناظرة لبيان بطلان ربوبية هذه الكواكب المعبودة،
ولم يشأ أن يقرر التوحيد مباشرة. بل جعل دعوى قومه موضوع بحثه، وفرضها
فرض المستدل لما لا يعتقده، ثم كر عليها بالنقض والإبطال، وكشف عن وجه
الحق، فحينما أظلم الليل ورأى النجم قال: هذا ربي فرضا وتقديرا، وقال: أهذا
ربي، فلما غاب عن أعينهم علم أنه مسخر ليس أمره إليه، بل إلى مدبر حكيم
يصرفه كيف شاء، ثم انتقل بهم في البحث إلى كوكب هو في أعينهم أضوأ وأكبر
من الأول، وهو القمر، فلما رآه قال مثل مقالته الأولى، فلما ذهب عن أعينهم
تبين أنه ليس بالرب الذي يجب أن تألهه القلوب، ويضرع العباد إليه في السراء
والضراء، ثم انتقل بهم إلى معبود لهم آخر أكبر جرماً من السابقين فلما أفل، قال: يا قوم إني بريء مما تشركون، إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض
حنيفا وما أنا من المشركين، فاستدل بما يعرض لها من غيرها على أنها مأمورة
مسخرة بتسخير خالقها.
فإذا كانت هذه الكواكب الثلاثة في نظرهم أرفع الكواكب السيارة وأنفعها قد
قضت لوازمُها بانتقاء سمات الربوبية والألوهية عنها، وأحالت أن تستوجب لنفسها
حقاً في العبادة فما سواها من الكواكب أبعد من أن يكون لها حظ ما في الربوبية أو
الألوهية، ولذا أعلن إبراهيم في ختام مناظرته براءته مما يزعمون من الشركاء،
وأسلم وجهه لفاطر السماوات والأرض ومبدعهما، دون شريك أو ظهير، وضمَّن
إعلان النتيجة الاستدلال بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية، وهذا هو معنى (لا
إله إلا الله) فإن ما فيه من البراءة من الشركاء نظير نفي الألهية الحقة عن الشركاء
في كلمة التوحيد، وبهذا يكون إبراهيم قد سنَّ للدعاة إلى الله أسلوبا متميزا في دعوة
المنحرفين، وذلك بالتنزل معهم بالتسليم بأباطيلهم فرضاً، ثم يرتب عليها لوازمها
الباطلة، وآثارها الفاسدة، ثم يكر عليها بالنقض والإبطال، فإن الدعوة إلى الحق
- كما تكون بتزيينه، وذكر محاسنه - تكون بتشويه الباطل، وذكر مساويه
ومخازيه (بتصرف من مقالة الشيخ عبد الرازق عفيفي في مجلة التوعية الإسلامية
عدد 6، 7) .
الثانية: مناظرته للملك في قوله تعالى _[أَلَمْ تَرَ إلَى الَذِي حَاجَّ إبْرَاهِيمَ فِي
رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ المُلْكَ إذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَذِي يُحْيِي ويُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وأُمِيتُ
قَالَ إبْرَاهِيمُ فَإنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الَذِي كَفَرَ
واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] [البقرة: 258] .
لقد جادل الملكُ إبراهيم في ربه، وفي ذكر الرب وإضافته إلى الضمير العائد
على إبراهيم تشريف لإبراهيم وإشعار بأن الله سيتولاه وينصره.
ولماذا يجادله؟ لأن الله آتاه الملك، فحمله كبره وبطره على طلب المخاصمة، ولم يكن بسبب إيثاره الحق وطلبه له.
وكان الملك قد طلب من إبراهيم عليه السلام أن يقيم له الدليل على وجود
الرب الذي يدعو إليه، فقال إبراهيم:«ربي الذي يحيي ويميت» أى أن الدليل
على وجوده هو: هذه المعجزة المتكررة الظاهرة المستترة، معجزة الحياة والموت، عندئذ قال الملك «أنا أحيي وأميت» فآتى برجلين استحقا القتل فأمضيه في
أحدهما دون الآخر، فأكون قد أحييت الثاني، وأمت الأول، وهذه مكابرة صريحة، وعناد ظاهر، يعلمه كل ذي عقل، ولذلك ترك إبراهيم الخوض معه في مكابرته، وجاءه بواقعة لا يحير معها جوبا، قال: «فإن الله يأتي بالشمس من المشرق
فأت بها من المغرب» أي إذا كنت قادراً على الإحياء والإماتة، وهما من صفات
الرب، فيلزم أن يكون بمقدورك التصرف في الكون، وأن تأتي بالشمس من
المغرب، عندئذ بهت الذي كفر، والله لا يهدي القوم الظالمين.
إن انتقال إبراهيم من دليل إلى آخر دون مناقشة لإجابة الملك الساذجة ليس
عن هزيمة؛ لأن حجته كانت قائمة، إذ إبراهيم وكل عاقل يعلم أن المراد حقيقة
الإحياء والإماتة، أما ما فعله الملك فأمر يقدر عليه كل أحد، حتى إبراهيم كان
يمكن أن يقول له: إني أردت حقيقة الإحياء والإماتة، أما هذا فأنا أفعل مثله،
ولكن إن قدرت على الإماتة والإحياء فأمت هذا الذي أطلقته من غير استخدام آلة
وسبب، وأحي هذا الذي قتلته، فيظهر به بهت اللعين، إلا أن القوم لما كانوا
أصحاب ظواهر، وكانوا لا يتأملون في حقائق المعاني خاف إبراهيم الاشتباه
والالتباس عليهم، فضم إلى الحجة الأولى حجة ظاهرة، لا يكاد يقع فيها أدنى
اشتباه.
وهذا الانتقال من أحسن ما يكون، لأن المحاجج إذا تكلم بكلام يدق على
سامعيه فهمه، ولجأ الخصم إلى الخداع والتلبيس جاز له أن يتحول إلى كلام يدركه
السامعون، وأن يأتي بأوضح مما جاء به، ليثبت ما يريد إثباته، وهذا لأن الحجج
مثل الأنوار، وضم حجة إلى حجة كضم سراج إلى سراج، وهذا لا يكون إلا دليلا
على ضعف أحدهما أو بطلان أثره.
8 -
استثارة الخصم:
والمقصود بذلك: تحريك نفوس المدعوين، وتنبيه عقولهم، ولفت أنظارهم
إلى الأمر الذي يدعوهم إليه الداعية.
لقد فعل إبراهيم ذلك حين ترك كبير الأصنام بلا هدم (فجعلهم حطاماً إلا كبيراً
لهم لعلهم إليه يرجعون) وذلك من أجل أن تدور في أذهانهم الأسئلة التالية
- من فعل هذا بآلهتنا؟
- لِم لمْ يدافع الصنم الكبير عن صغاره؟ وهل كان ذلك عن عجز أو عدم
إدراك لما يقع حوله؟
- لِم لمْ يوقع الصنم. الكبير سوءاً بمن فعل ذلك؟
ثم استشارهم مرة أخرى حينما جاؤا إليه يسألونه عمن أوقع ذلك بآلهتهم فقال:
- بل فعله كبيرهم هذا، فنسكب التكسير إلى جماد لا يتحرك، ليقولوا له
مباشرة: إنه لا يفعل شيئاً، وليقروا بضعف هذه الآلهة.
- ولم يكتف بذلك، بل أمرهم أن يوجهوا إليها الأسئلة إن أخبرهم بمن أوقع
بها ذلك، ولذلك أجابوا بكل سذاجة:«لقد علمت ما هؤلاء ينطقون» وعند ذلك
انطلق مبادرا «أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضركم، أف لكم ولما
تعبدون من دون الله أفلا تعقلون» .
ثانياً الأساليب العلمية:
وهي كثيرة نختار منها:
1 -
القدوة: لقد كان إبراهيم مثالاً يحتذى في الخير، ولذلك وصفه الله بقوله
[إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً] أي جامعا للخير، كلفه الله بأمور فقام بها خير قيام [وإذِ
ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ] وكان الجزاء: [إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَاماً]
فالسبب الذي أهله للإمامة إتمامه الكلمات التي ابتلاه ربه بها، ومن أجل ذلك أُمر
نبينا صلى الله عليه وسلم باتباع ملته (ثم أوحينا إليك ان اتبع ملة ابراهيم حنيفا)
وأُمرت هذه الأمة أن تأتسي بإبراهيم ومن معه، لكونهم قدوة (قد كانت لكم أسوة
حسنة في إبراهيم والذين معه) والأمر الذي نهينا عن الإقتداء بإبراهيم فيه استغفاره
لأبيه «إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك، وما أملك لك من الله من شيء» وقد
تقدم ذكر بعض من صفات هذا النبي الكريم وأساليبه وأعماله وما كان به قدوة
للمصلحين من بعده (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه) .
2 -
البداءة بالأهم: بدأ إبراهيم بالدعوة إلى توحيد العبادة، وهو أهم ما
يدعي إليه، وأول ما يبدأ به (وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم
إن كنتم تعلمون) .
3 -
اللين والشدة: وهذا ظهر جليا في دعوته لأبيه، وفي دعوته لقومه، فقد
دعا كلا منهم باللين والاستعطاف، لعل كلامه يتخلل قلوبهم، ولينه يعطف أفئدتهم
لقبول الحق الذي جاء به، ولكن ما زادهم إلا عتوا، فما كان منه إلا أن أغلظ لهم
القول، وشدد اللهجة، ففي اللين قال: [يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ ولا يُبْصِرُ ولا
يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً] وفي الشدة قال: [وإذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً
إنِّي أَرَاكَ وقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ] .
4-
البراءة والمعاداة: التي تعني البراءة من الشرك وأهله واعتزالهم، وهي
أصل من أصول العقيدة ومن مستلزمات (لا اله إلا الله) . قال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-: «أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله» ومفاصلة
خصوم الدعوة ارتفاع بالنفس والعقيدة إلى المستوى اللائق بهما، فلا يستوي حزب
الله الذى كتب الله له العزة والكرامة وحزب الشيطان الذي كتب الله له الذلة والهوان، وفيها إشعار لأولئك الخصوم بأنهم على باطل، وأن الأمر ما وصل بالداعية إلى
المقاطعة إلا لحق يعتنقه ويدعو إليه، فيكون ذلك ردعا لهم عما هم فيه. وفيها قطع
لآمال أعداء الدعوة في الحصول على تنازلات من الدعاة، يستدرجونهم بها.
وقد قال إبراهيم لأبيه حين استكنف واستكبر: (واعتزلكم وما تدعون من دون
الله وأدعو ربي
…
) وجعله الله في براءته من المشركين قدوة، فقال: [قَدْ كَانَتْ
لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ ومِمَّا تَعْبُدُونَ
مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وبَدَا بَيْنَنَا وبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ والْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ
وحْدَهُ إلَاّ قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ومَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنَا وإلَيْكَ أَنَبْنَا وإلَيْكَ المَصِيرُ] . وقد اشتملت هذه الآية على أمور نوجزها فيما
يلي: -
- أن البراءة قائمة على الإيمان بالله فمن كان مؤمنا بالله أحب في الله.
- أنها نهج الأنبياء، فمن أراد النجاة فليلحق بركابهم، ويستن بهديهم.
- أن البراءة ليست من أشخاصهم فحسب، بل ومن آلهتهم، وأفكارهم،
ومذاهبهم.
- أنها مستمرة علنية، وليست مجرد شعور قلبي إلا عند الضرورة.
- أنها مما اتفقت عليه الشرائع، وليست لهذه الأمة الخاتمة فحسب.
- أن دعامتها التوكل على الله والدعاء كما ذكر في ختام الآية [رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وإلَيْكَ أَنَبْنَا وإلَيْكَ المَصِيرُ] .
- أنه لا فرق في البراء بين قريب أو بعيد مادام قد وحد بينهم كفر أو شرك.
5 -
الدعاء والتضرع: وهو السلاح الذي لا يحق للمؤمن أن يسير في ركاب
الحياة بدونه، وقد امتدح الله خليله بدعائه فقال:[إنَّ إبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ]
وقد تقدم معنى (الأواه) ، ولذا تل أن نجد موطنا تذكر فيه دعوة إبراهيم إلا ويذكر
معها جانب من تضرعه ودعائه ومن ذلك: [رَبَّنَا وابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً
…
] ،
[رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ] ، [وتُبْ عَلَيْنَا إنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ] ، [واجْنُبْنِي وبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ] ، [رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ ومِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وتَقَبَّلْ دُعَاءِ] ، [رَبَّنَا اغْفِرْ لِي ولِوَالِدَيَّ
…
] ، [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ
…
] . إلى آخر ما هناك من الدعوات المباركات، التي تضرّع بها إبراهيم، وخلدها القرآن، فكان قدوة في اللجوء إلى الدعاء.
6-
تحطيمه للأصنام: لم يكتف إبراهيم في دعوته بالكلمة والحجة التي
أبطل بها حجج الخصوم، بل عضد ذلك بعمل كبير، أقدم عليه بشجاعة وعلو همة، وهو تحطيم الأصنام التي تعلق بها قومه، حتى صرفهم تعلقهم بها عن التفكير في
حقيقتها، والنظر في ماهيتها، فأراد إبراهيم أن يبين عن ذلك بالقول والفعل فكان
بيانه القولي الذي شرحنا طرفا منه فيما تقدم، وكان بيانه الفعلي بما أقدم عليه من
تحطيم الأصنام، وجعلها جذاذاً [إلَاّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إلَيْهِ يَرْجِعُونَ] . والآية هذه
تشير إلى مدي البيان الذي أراد إبراهيم إبلاغه لقومه، فلم تأخذه فورة التكسير
بتحطيمها كلها، بل ترك كبيرها لا لعجز ولا لخوف بل لعلهم إليه يرجعون، فيحقق
إبراهيم غرضه من هذا الأسلوب الدعوي الرائع، وفعلاً لقد كان ما أراده إبراهيم
حين قالوا: [لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ] وحينها انقض عليهم كالشهاب:
[أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً ولايَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ ولِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ] وتحقق لإبراهيم مراده حين قالوا: [قَالُوا حَرِّقُوهُ وانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إن كُنتُمْ فَاعِلِينَ] فالآلهة تحتاج إلى من ينصرها، ويدافع عنها، وتحقق له كذلك حين (رجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون) ولكنه التعصب الذي ردهم على أعقابهم [ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ] .
7 -
الهجرة: ذكر الله تعالى هجرة الخليل في ثلاثة مواطن فقال: [ونَجَّيْنَاهُ
ولُوطاً إلَى الأَرْضِ الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ] [وقَالَ إنِّي ذَاهِبٌ إلَى رَبِّي
سَيَهْدِينِ] .
فهو أول من هاجر لله - كما ذكره بعض المحققين - وكانت سنة لمن بعده من
الأنبياء وأتباعهم، وممن عمل بها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه، فكانت هذه من ثمرات تلك التجربة الإبراهيمية ولونا من الإقتداء به.
إن الهجرة أسلوب يلجأ الدعاة إليه لأن أرضهم ما عادت تقبل الكلمة الطيبة،
فهم يبحثون عن أرض طيبة تحمل دعوتهم، أو لأن القوم المعرضين بدأوا يناوشون
الداعية، ويوصلون الأذى إليه فهو يفر بدينه من الغتن [ومَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وسَعَةً] .
(*)[والصحيح أن إبراهيم في هذا الموطن كان مناظرا لقومه لا ناظرا بنفسه ويدل على ذلك: أ - قوله تعالى:] ولَقَدْ آتَيْنَا إبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ [والمراد بالقَبْلية ما كان قبل النبوة على الصحيح، وأي رشد آتاه الله إبراهيم إن لم يكن موحداً مؤمنا بالله ب - قوله تعالى:] ومَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ [يقتضي نفي الشرك عن إبراهيم في كل مراحل عمره السابقة ج - أن الله ذكر هذه الحادثة بعد إنكاره على أبيه وقومه، مما يدل على المناظرة د - أن الله تعالى ذكر القصة بعد أن ذكر منته على إبراهيم برؤية ملكوت السماوات والأرض ليكون من المؤمنين، ولذلك ذكر الفاء التعقيبية] فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ [ر - أن الله ذكر فيها] وحَاجَّهُ قَوْمُهُ [مما يدل على قيام المناظرة بينه وبينهم و - أن الله تعالى ذكر في خاتمتها] وتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ [فقال (على قومه) ولم يقل (على نفسه) وبهذا القول قال كثير من علماء السلف والخلف وهو الذي تدل عليه الأدلة.
(1)
جلاء الأفهام ص 159.
من إيجابيات الدعوة الإسلامية
«مقاومة التغريب»
د/ عابد السفياني
التغريب مصطلح يستعمله بعض الكتّاب للدلالة على جهود
الغرب في نشر أفكاره وقوانينه ونظمه في أقطار العالم الإسلامى.
لقد بذل الكفار - على اختلاف مللهم ونحلهم - جهداً كبيراً في نشر التغريب
الذي يمثله النموذج الغربي في مجالات الحياة المعاصرة في التشريع والنظم
الوضعية، وفي مجال الإعلام، والاقتصاد، وفي مجالات أخرى متذرعا تارة
بالديمقراطية، وتارة بالمحافظة على حقوق الإنسان، وتارة بالمشاركة في تنمية
أحوال «العالم الثالث» بشرط الالتزام بتلك النظم نفسها.
وأكبر عائق يقف في وجه «النموذج الغربي» هو تطبيق الشريعة الإسلامية، ولهذا كانت جهود الكفار تبذل في تغيير مفهوم تطبيق الشريعة.
يقول المستشرق «جب» في كتابه «الاتجاهات الحديثة في الإسلام» ص26، «ليس لدى الإنسان أنظمة كبرى في العقيدة، والفكر، والإرادة من شأنها أن
تظل ثابتة أكثر من عشرة قرون» .
والبديل عن الشريعة الإسلامية هو بزعمهم انتشار العلمانية:
يقول أيضاً في ص 74 «إن انتشار العلمانية في البلدان الإسلامية طيلة
المائة سنة الماضية قد جعل مثقفي المسلمين عرضة لنفس التأثيرات التي زعزعت
التفكير الغربي بالنسبة للمسائل الدينية» .
ويرى هذا المستشرق أن تكوين «الرأي العام» على الطريقة الأوروبية عن
طريق نشر التعليم «العلماني» أي الغزو الفكري الأوروبي، وذلك هو السبيل
الوحيد لإدخال التطور والتحرر من سلطان الدين، «وجهة الإسلام» ص 214-
217.
وعندما يتحدث عن استبدال، القوانين الوضعية بالشريعة الإسلامية، وأن
ذلك قد أدى إلى تمكن القوانين الوضعية وانتشار النموذج الغربي فإنه يحذر قومه
من الاطمئنان القائم على هذه المكاسب، ويطالبهم بإدخال الاقتناع بها إلى قلب كل
مسلم عن طريق التعليم ص 213 -214 وهذا الطريق هو «التغريب» وتغيير
المفاهيم وأما تغير مفهوم تطبيق الشريعة، فبدلاً من أن يكون مفهوم الحكم بالشريعة
شاملاً لجميع المجالات، فلا بأس أن يكون قاصراً على جوانب معينة، وبقية
الجوانب يحكمها «التغريب» ، المهم أن يكون له سلطان مع الشريعة.
ولذلك يقول هذا المستشرق - وهو من المستشرقين الذين يعرفون هذا الدين
كما يعرفون أبناءهم كما قال الله - تعالى - عنهم: [الَذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ
كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ] 2 - الأنعام يقول في
كتابه السابق الذكر ص 121، «إن قبول القانون الإسلامي كان منوطا بقبول
الشريعة الإسلامية، كما كان ذلك النتيجة الحتمية لكون المرء مسلما» وبالنسبة
للذين يتمسكون بهذا المعتقد تعتبر فكرة تعديل هذه القوانين الأساسية أو إلغائها من
باب الكفر 123 - 124.
وأمامكم هذه العقيدة الإسلامية التي هي أكبر عائق في وجه التغريب، لابد -
كما يقول هذا المستشرق - من نقد تاريخي خاص، «فعجز الإسلام من طريق
اللجوء إلى عناصر قد سبقت نتائج التغريب وما على العالم الإسلامي أن يعيش من
جديد مجمل التطور الذي صادف العالم الغربي الحديث» [1] .
وخلاصة ما يخطط له الأعداء للتمكين للتغريب هو أن يصبح النموذج الغربي
سائداً ومنتشراً في العالم الإسلامي، ويكفي أن تبقى معه بعض أحكام الشريعة،
وأما مفهوم التحاكم إلى الشريعة الإسلامية في جميع المجالات - والاعتقاد بأن ذلك
واجب، وأن قبوله شرط لصحة الإسلام فمفهوم يمكن أن يغير ويبدل، ليصبح
مقصورا على بعض المجالات، وحينئذ لا يكون قبول الشريعة - في جميع
المجالات - شرطا لصحة الإسلام، ولا يكون التشريع من دون الله كفرا، فيأمن
حماة التغريب والقوانين الوضعية من وصمة الكفر، وهذا ما يريده الاستشراق.
وللمشرعين من دون الله أن يحكموا ببعض أحكام الشريعة، ويحكموا بالأنظمة
القانونية، ويأذنوا تارة للناس بأن يتحاكموا تارة إلى هذا وتارة إلى هذا، فالشريعة
والحالة هذه ليست حاكمة بإطلاق بل هي محكومة، والدين ليس كله لله، بل بعضه
لله، وبعضه لغير الله، وحينئذ يستقر التغريب في العالم الإسلامي. ولاريب أن
أئمة المستشرقين - وهذا أحدهم - يعرفون هذا الدين، ويحسنون التخطيط للتمكين
للنموذج الغربي في العالم الإسلامي، وقد عملوا لذلك دهرا طويلا.
وإذا أدركنا هذا المكر والدهاء منهم علمنا أن من أعظم إيجابيات الدعوة
الإسلامية مقاومة ذلك التغريب، وقد سخرت الصحوة - ولله الحمد - كثيرا من
طاقتها وفي جميع المجالات لمحاربته وتحذير الناس منه، وتنشأ في هذه المرحلة
بالذات أسئلة كثيرة أمام حملات الإبادة التي يتعرض لها المسلمون، فيقول قائلهم:
ماذا يريد الكفار منا؟ ألم تنتشر مذاهبهم وتحكم قوانينهم، وينتشر سلطانهم،
ويقطعو الطريق على المسلمين كل ما أرادوا أن يتميزوا بشريعتهم، بل ويلاحقوهم
بالفساد عن كل طريق؟ والآن وفي هذه المرحلة بالذات - يقتلون بصورة لم يسبق
لها نظير، ويهجرون، ولا خيار لهم، فإما الخضوع للقوانين الوضعية، وعبادة
النموذج الغربي، والتمكين لشهواته، وإما تدمير الإنسان المسلم وحقوقه باسم حقوق
الإنسان الغربي. والنتيجة أن المسلمين لا حق لهم في الحياة إلا تحت إشراف
حقوق الإنسان الغربي، وانتشار مذاهبه وأفكاره، وهذا يمثل قمة الصراع بين
النموذج الغربي والشريعة الإسلامية، فلا عجب أن تبذل الدعوة الإسلامية من خلال
علمائها ودعاتها وأنصارها في هذا المجال كل غال ونفيس، وأن تستنهض همم
المسلمين في كل مكان لمناصرتها، وأن تنادي بإخراج آثار التغريب من مجال
التربية، والإعلام، والاقتصاد، وجميع المجالات التي حاولوا التغلل فيها.
ولنضرب أمثلة محدودة تدل على حتمية الصراع بين الصحوة الإسلامية
ودعاة التغريب، وأن على جميع المسلمين مناصرة علمائهم ودعاتهم؛ ليتمكنوا من
إقامة الدين الحق، وتقديمه لسائر الملل بصورته الشاملة الصحيحة، لعل ذلك يكون
سبباً في هداية الكثيرين منهم للإسلام.
المثال الاول: - يتسلط «النموذج الغربي» لا على الناس ويعطي باسم
حقوق الإنسان «الحق» للقوانين الوضعية، لتتستر على مظاهر الشرك والكفر،
وتمنع الدعوة الإسلامية من أن تنتشر مبادئها، وتعبد ربها، وأن تظلل الأرض
بتحكيم شريعته، وفضح دعاة التغريب، الذين يعتبرون قتل المجرم وحشية،
وتحريم الزنى تدخل في الحرية الشخصية، والفوائد الربوية ضرورة اقتصادية.
المثال الثاني: - يبذل دعاة التغريب جهودهم لاستمرار الاختلاط والخلاعة،
ومحاربة التستر والفضيلة.
والشريعة الإسلامية تأمر اتباعها بالتستر، كما قال الله سبحانه وتعالى:
[قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ويَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ
بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ ويَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ ولا
يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ولْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ]
[النور: 30 - 31] .
وحرم الله سبحانه وتعالى الزنى بقوله [ولا تَقْرَبُوا الزِّنَى إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً
وسَاءَ سَبِيلاً] [الإسراء: 32] .
فهل يقتنع الكفار الغربيون، وغيرهم من دعاة التغريب بأن يسلمو ويتبعوا
الشريعة الإسلامية، وينبذوا الجاهليات التي زينوها للناس؟
وهناك أمثلة أخرى في مجال الاقتصاد وغيره من المجالات لا يتسع المقام
لذكرها.
ولقد كان من جهود الدعاة والعلماء والمصلحين أن يبينوا للناس أحكام الشريعة
ومقاصدها، ووجوب التحاكم إليها، ونبذ ما سواها والكفر به، ودعوة الكفار
للإسلام، ونصحهم وجدالهم بالتي هي أحسن، وقد استفاد الناس من جهود الصحوة
الإسلامية التي تواترات بها الأخبار في كل مكان، والتي أصبح همها إحياء صفات
النموذج القدوة - جيل السلف الصالح - ليكون منهجهم هو الطريق العملي لمقاومة
أثار النموذج الغربي، وقد تربى كثير من المسلمين - ولله الحمد - على هذه
الصفات، وانتشرت طريقة السلف في مجال الاعتقاد، والتربية، والتعليم،
والصبر، والورع، والعطاء، والبذل، والولاء، والبراء، ونشر الدعوة،
والاحتساب، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على مناصرة الدعوة، وحذر العلماء من الجاهلية الحديثة ومسائلها وقوانينها، ودعوا إلى وجوب إزالتها
وتغييرها، وأجمع العلماء أيضاً في هذا العصر على وجوب تطبيق الشريعة
الإسلامية في جميع المجالات، وانتشرت - ولله الحمد - جهودهم عن طريق الكتب، والمقالات، والأشرطة، والبحوث العلمية، والإفتاء والرسائل العلمية،
والمجلات الإسلامية، وهذا قليل من كثير أُشير إليه مجرد إشارة لأذكّر بالجهد
المبارك الذي بذلته الدعوة الإسلامية في مقاومة التغريب، متمنين لجهود العاملين
لنصرة الإسلام التوفيق لمزيد من العمل والصبر حتى تزول آثار التغريب من العالم
الإسلامي من كل مجال دخلت فيه، ويحل محلها الأحكام الشرعية والاعتقادات
الصحيحة، ومن المعلوم أن من أحب شيئا تمسك به، وقدمه على غيره، وأن من
أبغض شيئا تركه، فيجب على جميع الدعاة بيان الحق للناس، حتى يؤمنوا بأن الله
هو وحده المستحق للعبادة، وأن شريعته هي الحاكمة على أمورهم بإطلاق، فيحبوا
الله سبحانه وتعالى، ويحبوا شريعته ورسوله صلى الله عليه وسلم: [قُلْ إن
كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ واللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] [آل
عمران: 31] ، وبيينوا لهم ويبشروهم بأن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثواباً
من عند الله.
وفي الوقت نفسه يجب عليهم أن يحذروهم من أسباب الشرك والكفر وأثاره
وقوانينه، فيبغضون أثار «التغريب» والقوانين الوضعية وجميع مظاهر البدع
والشرك، القديم منها والجديد، ليعرف ذلك الجميع، وعلى الدعاة إلى الله
…
والمصلحين بذل الجهد والصبر حتى يجتمع الناس على عبادة الله وحده بلا شريك،
ويحكموا شريعته في جميع أمورهم، وحتى يزول سلطان الجاهليات والأديان
الباطلة والفساد الذي صنعته وزينته للناس الأفكار المنحرفة والأهواء المضلة،
ويكون الدين كله لله، ولا يكون منه شيء للأرباب المتفرقين، وللشرائع المتفرقة،
كما قال يوسف عليه السلام وهو يبين هدف دعوته للناس: [يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ
أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إلَاّ أَسْمَاءً
سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إنِ الحُكْمُ إلَاّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلَاّ تَعْبُدُوا
إلَاّ إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ] [يوسف: 39، 40] .
(1) الاتجاهات الحديثة في الإسلام 175، وانظر مناقشة هذه الأفكار بالتفصيل في كتابي المستشرقون وموقفهم من ثبات الشريعة.