المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ملحوظات حول قضية «التأويل» - مجلة البيان - جـ ٧٢

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌ملحوظات حول قضية «التأويل»

في دائرة الضوء

‌ملحوظات حول قضية «التأويل»

د. محمد يحيى

ظهرت في الأعوام الأخيرة في كتابات عدد من المثقفين العرب ولاسيما في

مصر قضية فكرية، يمكن تسميتها بقضية التأويل أو التفسير للنصوص. وينقسم

الطرح المحيط بهذه القضية إلى شقين: أحدهما أدبي، والآخر فلسفي إلا أن

الموضوع برمته قد نشأ نتيجة للتأثر بتيار فلسفي نقدي أوروبي عام هو تيار

«الهرمنوطيقا» أو علم التفسير الذي يرجع إلى أوائل القرن التاسع عشر في صورته الحديثة، والذي يوجد حضور له في العديد من الفلسفات الأوربية الكبرى كالهيجلية والماركسية والظواهرية والوجودية، فضلاً عن مدارس النقد الأدبي الحديثة، وقبل ذلك كله في علوم نقد وتحليل ما يسمى بالكتاب المقدس في الغرب، والصورة الحديثة التي نشأ فيها علم التفسير في أوروبا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بهذه النقطة الأخيرة في نقد الكتاب المقدس عندهم وتأويله وبالذات بعد أن أظهرت الدراسات العلمية واللغوية في القرن الثامن عشر وقبله الكم الكبير من العيوب والنقائص والتناقضات المتضمنة في الشكل الموجود لدى الكنائس من الأناجيل والتوراة، وقد أدت هذه الدراسات إلى إسقاط مفاهيم صدق الكتاب المقدس وثباته وصحته، كما فتحت الباب واسعاً أمام من يريد الإبقاء على قدر من الإيمان والمصداقية لهذا الكتاب لكي يؤول ويفسر ويتكئ على المجاز في تعامله مع هذا النص، كذلك أدت الدراسات العالمية واللغوية إلى إسقاط المفهوم المتوارث بأن الكتاب المقدس هو كلمة الرب، وأن الطريق الوحيد للتعامل معه هو تفسيره بالأسلوب اللغوي المعتاد بالشرح والتبيين استخراجاً من معاني الألفاظ، وظهر من خلال هذا كله منهج يرى في النص أو في الكتاب المقدس مجرد وضع بشري، شأنه في ذلك شأن سائر التأليفات البشرية من أدب وقانون وسير وتواريخ، حتى وإن زعم له بعضهم: أصلاً أو إلهاماً أو إسقاطاً إلهي المصدر.

إزاء هذا التحول الحاسم في النظرة إلى كتابهم المقدس بإسقاط قدسيته في واقع

الأمر، وإسقاط طابعه الإلهي المعتاد، جاءت الدراسات الأولى أو المواضعات

الأولى في علم «الهرمنويطيقا» لكي تحاول وضع أسس وصفت بالعلمية

والموضوعية للتعامل مع «النصوص» كل النصوص تفسيراً وتأويلاً وفهماً وعلماً

وعملاً، وكانت هذه المحاولات في مطلع القرن التاسع عشر وقبله بقليل، ثم طيلة

ذلك القرن من جانب نفر من المفكرين والكتاب الألمان، وهو الأمر الذي ألقى بظله

في العهود اللاحقة، بحيث يكتسب هذا الفرع الدراسي الطابع الألماني، ويؤثر في

المدارس الفلسفية والفكرية الألمانية ويتأثر بها، وبقي هذا الطابع محفوظاً حتى فيما

بعد عندما انتقل هذا الباب من البحث إلى سائر البلدان الأوروبية وأمريكا، وبغض

النظر عن أشخاص المفكرين والفلاسفة المؤسسين لهذا العلم، والإسهام المميز الذي

كان لكل منهم في تحديد معالمه فإننا نلحظ خطوطاً عامة رئيسة تميز بها فرع

«الهرمنويطيقا» .

هناك أولاً القول بضرورة البعد عن وضع القواعد الحاكمة لتفسير النصوص، واللجوء بدلاً من ذلك إلى البحث في «الموقف التأويلي» وتناول هذا الموقف من

جوانبه المختلفة كما يقع، دون محاولة وضع القواعد والأحكام التي ينبغي على

المفسرين الامتثال لها، ثم هناك نزع طابع القدسية أو حتى الخصوصية المميزة

عن أنواع من النصوص، والنظر إلِى أي مكتوب على أنه نص، له في موقف

التأويل الوضع نفسه الذي للنصوص الأخرى فيما يجري عليه من عمليات الفهم

والشرح والتفسير، وهناك من المعالم المهمة مفهوم «تاريخية النصوص»

و «تاريخية التفسير» الذي يرى أن النصوص ومفسريها والمواقف التأويلية

التي تندرج فيها تخضع كلها لمقتضيات التاريخ وحتمياته وتغيراته وعملياته ويرتبط بذلك سيادة مفهوم «النسبية» في النظرة إلى النصوص ومضامينها. وهناك كذلك من ملامح هذا الباب الدراسي المهمة توسيع دلالات «التأويل» و «التفسير»

و «الفهم» التي هي مصطلحات لعمليات ذهنية وبحثية؛ بحيث تشمل ظواهر وعلوماً حياتية كثيرة، ولا تقتصر فقط على التعامل اللفظي الإدراكي مع النص المكتوب، ووفق هذه الرؤية أصبح التأويل عند بعضهم من متأخري المؤسسين للنظرية (لا بأس من ذكر أسماء ديلثي وهيدجر وكلاهما مفكر وفيلسوف ألماني) أصبح يعني العملية الحياتية الجوهرية التي لا غنى لإنسان عنها في شتى مراحل حياته: من إدراك حسي، إلى إدراك فكري ومعنوي، إلى النظر في الكون والمجتمع، إلى التعامل مع الآخرين وإلى تكوين المباحث الفكرية فيما يعرف بالعلوم الإنسانية من تاريخ وفلسفة وأدب وفن وقانون ودين.... الخ وبجانب هذه الملامح الكبرى للعلم، نجد أفكاراً ومفاهيم فرعية تصبغه هي الأخرى وتحدد شكله: كالقول بانفتاح النصوص، وتعدد معانيها بتعدد قارئيها، وتعدد السياقات التي تقع فيها والقول بجوهرية دور القارئ في عملية الفهم والتفسير وإنتاج المعنى.

وإذا كانت هذه هي ملامح البحث «الهرمنويطيقي» الرئيسة، إلا أن هذا

الباب الدراسي لم يخلُ عند انتشاره في دول كأمريكا وإنجلترا من أصوات تعارض

النزعة النسبية الطاغية التي غلبت عليه في طروحاته الألمانية، لكن هذه الأصوات

(وأبرزها الباحث الأمريكي هيرشي) لم تتمكن من مقاومة النزعات النسبية

والتاريخية لمفهوم التأويل؛ لأن هذه النزعات ارتبطت بجوهر العلم في كتابات

مؤسسيه من الفلاسفة الألمان، وهو الأمر الذي كان له أبلغ الأثر عند نقل بعض

مباحث هذا الدرس إلى السياق الثقافي العربي كما سنرى، وأيا كان الحال فإن

محاور «الهرمنويطيقا» الأساسية في العقود الثلاثة الماضية تمثلت في ثلاثة

محاور كبار:

فعلى المستوى الديني بدأت من ألمانيا، وانتشرت إلى إنجلترا وأمريكا داخل

الأوساط الكنسية البروتستانتية حركةٌ واسعة من إعادة النظر في الأناجيل وفي

المفاهيم الدينية النصرانية المستمدة منها، وارتبطت هذه الحركة بأسماء قساوسة

كبار، بل وأساقفة رؤساء في هذه الكنائس، برز منهم الألمان:«بولتمان»

و «بونهوفر» و «كون» وغيرهم، وأفرزت هذه الحركة مفاهيم وأفكاراً تتردد الآن في وسائل الإعلام الغربية بعد أن أخذت طريقها إلى ساحة الظهور الشعبي، وقد كانت قبل ذلك محصورة في نطاق البحث الأكاديمي، وهي أفكار تقول بإنكار المعجزات الكونية، والخوارق المذكورة في الأناجيل، وعلى رأسها مولد المسيح من عذراء أو ألوهيته! كما تدعو إلى التأويل المجازي للأناجيل وإسقاط الاتباع الحرفي لها، وتذهب إلى تجاوز ما احتوته التوراة أو الأناجيل من أحكام شرعية، وتنادي بتفسيرات مختلفة جذرياً لجوانب عدة من هذه الكتب.

أما المحور الثاني الذي ظهر عليه علم «الهرمنويطيقا» فكان عالَم الدرس

الأدبي والفكر النقدي، حيث ظهرت مدارس أدبية ذائعة الصيت؛ نتيجة لاستعارة

بعض مفاهيم هذا العلم وأسسه وتطبيقها على النصوص والمباحث الأدبية وهكذا

ظهرت مدارس جماليات التأثير الأدبي، ونظرية استقبال النصوص الأدبية (في

أوروبا) ، ومدرسة نقد وتمحيص استجابة القراء للنصوص (في أمريكا) ، وكلها

تعنى بنقل ثقل تركيز النقاد من النص الأدبي كوعاء جامد للمعنى إلى كيفية «إنتاج

المعنى» في عمليات القراءة والمؤثرات الشخصية والنفسية والاجتماعية والتراثية

التي تفعل فعلها في ذلك، وظهرت مدارس البحث في تعدد مستويات النصوص

الأدبية وثراء معانيها، نتيجة لعمليات التفسير المختلفة وتفاعلها مع عمليات اللغة

الطبيعية.

أما المحور الثالث الذي دار حوله «علم الهرمويطيقا» فكان المحور الفلسفي

حيث تحول هذا العلم أو مفاهيمه إلى المفاتيح الرئيسة لبعض الفلسفات والفلاسفة

المعاصرين كالظواهرية والهيدجرية، وأقرب من ذلك لدى الفلاسفة الأمريكان الجدد

وأبرزهم ريتشارد رورتي وغيره.

هذه نبذة بسيطة عن النشأة الحديثة وعن الملامح الكبرى لدرس علم التأويل

والتفسير في الغرب، وفي سياقه الحضاري الحاضر، ومشاكله المتميزة وأبرزها

إن لم يكن أوحدها المشكلة مع النص الديني المتمثل في الأناجيل الموجودة بين

أيديهم، والتي ثبت لهم أنها ليست كلمات الرب ولا المسيح، بل هي سير، كتبها

بعض المؤمنين بعيسى بعد عهده بسنوات طويلة، وكان تطرق الشك إلى هذه

«الكتب المقدسة» مما يمس مصداقيتها وصحتها شكلاً وتواتراً ومضموناً هو المحك الأول الذي ساهم في النشأة الحديثة «للهرمنوطيقا» وفي الطابع النقدي الذي اصطبغت به، وفي الملامح الرئيسة لها كما استعرضناها فيما سلف، ولهذه النقطة بالذات أهمية محورية عند التعرض لنقل بعض جوانب هذا الدرس إلى المناقشات الثقافية العربية الجارية.

إن للتفاعل العربي الثقافي مع الغرب في «العصر الحديث» كما يسمى

تاريخ طويل ومعقد ليس هنا مجال تناوله، ويشمل هذا التاريخ في جوهره

«استيراد» المدارس والأفكار الفلسفية الرئيسة في الغرب؛ لتمثل في أشكال مبسطة أو محرفة العمود الفقري لطروحات النخب المثقفة العربية المتغربة والمعلمنة على مد ى قرن أو يزيد، وعملية «الاستيراد» والتجهيز للاستهلاك والطرح في الأسواق الفكرية تحتاج هي الأخرى إلى تحليل ووصف ليس هنا مجالهما، لقد جرى استجلاب الأفكار الأساسية للفلسفات الغربية تباعاً على مدى النصف الثاني من القرن التاسع عشر والقرن العشرين وفق احتياجات واضحة: هي علمنة وتغريب الطبقات المتعلمة والقائدة ثقافياً في البلاد العربية ولذلك كان التركيز في النقل أو الاستيراد (أو الغزو الفكري) على المذاهب الفكرية صاحبة المقولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كما تركّز النقل على الجوانب الفعلية والحركية والعملية منها دون الجوانب «التقنية» ، أي الجوانب المنطقية والنظرية المجردة؛ وهكذا شهدنا نقل الليبرالية في نواحيها السياسية والاجتماعية، والماركسية في شقها التطبيقي الشيوعي والاشتراكي والبراجماتية الأمريكية، والوجودية في جوانبها السلوكية والفنية تماماً، كما شهدنا عمليات نقل الأنظمة القانونية والإدارية والسياسية والاقتصادية والأدبية والسلوكية

الخ؛ وكان من شأن هذا العامل الحاكم لنقل المذاهب الفكرية الغربية بغية استعمالها في المقام الأول كأدوات لبث ودفع العلمنة والتغريب إلى المجتمعات العربية المسلمة، وليس كأدوات تفاعل وتنشيط فكري أن يؤخر نقل واستيراد فلسفات معينة اتسمت بغلبة الطابع التقني على مظاهرها وأبرزها فلسفة التأويل، وكان منها بالمناسبة الفلسفة الوضعية المنطقية التي نقلت على يد زكي نجيب محمود، ولكن مع تطويع لجوانبها التقنية بحيث يصبح لها طابع فكري اجتماعي ديني أدبي، يستخدم هو الآخر في عمليات العلمنة والتغريب.

كان الطابع «الفلسفي» التقني الغالب على علم أو درس «الهرمنويطيقا»

هو العامل المحدد وراء تأخر نقل جوانب من هذا العلم واستخدامها في سياق عملية

العلمنة والتغريب من جانب النخب الثقافية العربية المتصلة بالغرب اتصال حياة

وبقاء، أضف إلى ذلك صعوبة هذا العلم وتركز مصادره الأساسية في الثقافة

الألمانية قبل اتصال النخبة بها، وإن كان لهذا العلم وضع قوي لاحق داخل الثقافة

الفرنسية، مما أدى مثلاً إلى ظهور بعض مؤثراته على نخب شمال أفريقيا، كذلك

تأخر النقل والاستيراد في تقديري لأن الفلسفات الأخرى الطاغية في تفكير النخب

المثقفة كالليبرالية والشيوعية وبعض أشكال القومية كانت تؤدي دورها في العلمنة

والتغريب على أكمل وجه، ولا يجب أن ننسى أن التخلف الذي يميز هذه النخب

إزاء الثقافة الغربية التي يعتبرونها القدوة مسؤول هو الآخر عن تأخر نقل

«الهرمنوطيقا» ، ذلك العلم الصعب المرتبط بالسياقات الفكرية والتاريخية والحضارية للعالم الغربي، غير أن عوامل متعددة تضافرت؛ لتعوض هذا التأخر في النقل، ولتساعد على الإقبال من جانب بعض عناصر النخبة المثقفة العربية على «الهرمنويطيقا» ومفاهيمها. إن الفلسفات الرئيسة التي جُلبت من الغرب على مدى القرن الماضي وقد فشلت في الأداء العلماني التغريبي، بعد أن تعرضت لعمليات نقد وتفنيد واسعة ليس فقط في البلدان الإسلامية ولكن في مواطنها الأصلية، وفي بيئتها الفكرية ذاتها وقد تحولت بعض هذه الفلسفات ولاسيما الليبرالية والبراجماتية إلى مجرد مذاهب سياسية اجتماعية لا تسندها حجج فلسفية عميقة؛ لكي تضفي عليها مصداقية ومكانة، أما الماركسية فقد أصابها هي الأخرى ذلك التحول فضلاً عن سقوطها المدوي المعروف في المجال العملي والنظري على حد سواء، ولم يتبقَ منها إلا شذرات من مفاهيم فلسفية متفرقة، سرعان ما أعيد اندماجها في المسار العام للفكر الغربي ذي الطابع العلماني، ولم تعد هذه الفلسفات ترضي النزعات التعمقية لدى قطاعات من النخبة المثقفة التي كانت تتطلع إلى الفكر الغربي دوماً باعتباره يمثل قمة العمق والتبحر في النظر إلى الكون والأشياء.

في هذا المناخ جاء نقل «الهرمنويطيقا» أو بالأصح بعض مفاهيمها من

جانب قطاعات من النخبة قليلة العدد صاحبة التأثر بالفكر الفلسفي الألماني

والفرنسي الحديث، وجاء هذا العلم ليقدم نفسه حلاً مثالياً للمشاكل التي ألمحنا إليها

في الفقرة السابقة لدى الفلسفات الغربية الأخرى التي تبنتها النخبة، فهو بحث

فلسفي يحتفظ بمستوى من العمق، وفي الوقت نفسه من الاتساع والانفتاح على

شتى مناحي الثقافة غاب عن الفلسفات الأخرى، وهو قبل كل شيء بحث فلسفي

يدور حول محور المحور الديني هو محط تركيز عملية العلمنة والتغريب التي

أوكلت إلى النخبة المثقفة، وبجانب ذلك فهو بحث فلسفي يخلو إلى حد كبير من

وصمة النقل والتقليد و «الاستيراد» التي شابت المدارس الفلسفية الأخرى،

وسهلت كثيراً من عمليات نقدها ودحضها ذلك لأن لفلسفة التأويل دوراً بارزاً

وأصيلاً فيما تسميه النخبة بالتراث: فهناك تفسير القرآن بمدارسه، وتأويل ألفاظه

معانيه وشرحها، وهناك مقولات تأويلية مشهورة اختلفت حولها مدارس علم الكلام، بل ونشأت أساساً بسببها وهناك تعبيرات معروفة في ذلك التراث تفيض بالمغزى

التأويلي كعبارة «القرآن حمال أوجه» ، وباختصار فهذا علم له نظير كبير في

الوضعية الإسلامية الفكرية والثقافية، ولا يتطلب الأمر التحايل لإثبات أن له أصلاً

في الإسلام على الساحة العربية، وإضفاء «العالمية» عليه.

وفي الحقيقة فإن وجود علم إسلامي عربي للتأويل والتفسير بقواعده

وممارساته، كان أمراً جذاباً لنقلة «الهرمنويطيقا» يجنبهم من ناحية التعرض

لمقولة الغزو الفكري، كما يضفي عليهم من ناحية أخرى طابع الباحثين المجددين

في الوضعية الإسلامية، الذين لا يسعون إلى إغراق هذه الوضعية بأفكار غريبة

عنها، بل يحاولون إحياء علومها الأصلية مستعينين في ذلك بالتطورات والأفكار

«العالمية» حول ذلك العلم، ولكن وراء هذا التشابه الظاهري أو السطحي كان يكمن الفارق الجوهري بل والخطير بين علم للتفسير نشأ في خطى الإيمان

والاقتناع العقلي بكتاب مقدس (القرآن) ، وبين علم آخر الهرمنويطيقا الحديثة نشأ في خضم التشكك والنقد والإلحاد العقلي بكتب أخرى يقال لها مقدسة؛ هذا الفارق الجوهري في الموقف من «الكتاب المقدس» وعقيدة كل حضارة على حدة، هو الذي يجعل من المغالطة والسفسطة القول بأن «الهرمنويطيقا» هي الامتداد المشروع والطبيعي لعلوم التفسير الإسلامية لاسيما وأن أصحاب هذا العلم الجديد ودعاته هم المبشرون المتحمسون لمقولة أن لكل علم إنساني أو حتى طبيعي أرضية أيديولوجية وعقيدة فكرية «غير علمية» تحدد محتواه بل ومنهاجه أيضاً ومنطقه.

وإذا كان نقل علم «الهرمنويطيقا» قد بدأ على استحياء وقلة في مجال

دراسات النقد الأدبي؛ لأن أحد محاوره الرئيسة في الغرب يمر كما أسلفنا عبر هذا

المجال ويدلي فيه بدلوه، وإذا كان نقل هذا العلم لم يحدث إلى درجة تذكر في مجال

المحور الفلسفي في الطرح الغربي بسبب صعوبة هذا الميدان ودقة المدارس

الفلسفية التي تبنته ومحدوديتها، فإن النقل على المحور الديني هو الذي ظهر بشدة

على مدى السنوات الأخيرة؛ ليفتح فصلاً جديداً في سجل محاولات النخبة العلمانية

المثقفة مواجهة الإسلام ومنهجه، ولعل في هذا التركيز على المحور الديني لعلم

«الهرمنويطيقا» في مقابل المحورين الأدبي والفلسفي ما يشير بوضوح إلى أن النخبة قد مارست مع هذا العلم ما مارسته من قبل مع شتى النقول الفلسفية والفكرية من أوروبا، أي التركيز على العناصر والجوانب التي يمكن أن تستخدم في تعمق عملية التغريب والعلمنة، ومواجهة الفكر الإسلامي، كل ما في الأمر أن المذاهب الفلسفية وآخرها الماركسية قد فشلت في مواصلة هذه العملية، وحان دور مذهب آخر؛ ليؤدي المهمة نفسها بكفاءة، فكان هذا المرشح الجديد هو

«الهرمنويطيقا» لجدته وأهميته وبروزه في التفكير الفلسفي الغربي المعاصر، ولوجود نظير له في التراث الإسلامي يُمَكّن من استغلال التشابه بينهما وأحياناً وحدة القضايا المطروحة كأحد أدوات التضليل والإرباك والتعمية.

هكذا إذن دخل درس التأويل والتفسير ساحة الخطاب الفكري للنخبة المثقفة

المعلمنة في عالمنا العربي في الآونة الأخيرة؛ ليؤدي مهام ثقافية محددة في

المواجهة مع الفكر الإسلامي الصاعد، وليتعامل معه بشكل يتصور أنه أفضل من

تعامل المذاهب الفلسفية الأوروبية السابقة، وتمثل مفاهيم هذا العلم الآن الخلفية

العمود الفقري الفلسفي للعديد من طروحات النخبة في مواجهة الفكر الإسلامي

وأفكار الحركات الإسلامية، فهذه المفاهيم تقف بشكل مباشر أو غير مباشر لتسند

طروحات مثل: إعادة تقويم: «التراث» ومراجعته وقراءته و «تطوير»

الشريعة الإسلامية، وتفسير القرآن بما «يتلاءم مع عصرنا» وتعددية التفاسير

والمعاني القرآنية، و «بشرية النص القرآني» ، وتاريخية القرآن ومحدودية

انطباقيته، وتجاوز «حرفية» النص القرآني إلى «اتجاهه» في التشريع بل

وفي العقيدة، ونسبية التراث ومفاهيمه (مع ملاحظة أن الإسلام بعقيدته وشريعته

ونصوصه يندرج عند النخبة تحت مفهوم التراث) .. الخ. إن الأفكار الكلية

والجزئية على كافة المستويات التي تطرحها بعض أصوات النخبة المعلمنة المتغربة

الآن في دائرة ما يسمونه التراث بدءاً من حديثهم عن «مفهوم النص القرآني»

وانتهاءاً بالحديث حول انتقاء العناصر «الإيجابية والتقدمية» من التراث ونبذ

الباقي، واتخاذ موقف نقدي من الكل، إنما تنبع كلها من أرضية مفاهيم علم

«الهرمنويطيقا» كما بدأ نقلها في الأعوام الأخيرة من بعض فلاسفة

أوروبا.

وحتى هذا الحد فإن الوضع من الناحية الثقافية يبدو وكأنه لم يتغير عما كان

يحدث من قبل من جانب النخبة العلمانية، فنحن نجد أنفسنا أمام استعارة مذهب

فلسفي غربي مع تحويره بحيث يصلح أداة لمواجهة الإسلام من ناحية وتعميق

عمليات التغريب والعلمنة من ناحية أخرى، ولكن هناك فوارق جوهرية كما ألمحنا

من قبل، فنحن لا نواجه هنا مذهباً فلسفياً أيديولوجياً تقليدياً وإنما نواجه بمنهج في

البحث والتفكير يزعم لنفسه أنه تجاوز الأنماط الأيديولوجية والطروحات السياسية

والاجتماعية ليصبح منهج العلوم كلها الإنسانية وغير الإنسانية، بل ويزعم لنفسه

أنه قد أصبح الأب المهيمن على المناهج البحثية ونحن لسنا أمام مجموعة من

النصوص الفكرية والفلسفية كما كانت الحال من قبل، بل أمام مجموعة من الأفكار

(النصوص!) تزعم لنفسها أو يُزعمُ لها أنها أصبحت تهيمن على كل النصوص

على الإطلاق من حيث إنها هي التي تحدد كيف يجري التعامل مع هذه النصوص،

وكيف يتم تفسيرها وتأويلها واستخراج معانيها والحكم عليها، وفوق ذلك فنحن أمام

تيار يزعم أن له في التيار المناظر في الوضعية الإسلامية قريناً مكافئاً، وأنه لا

يحارب هذا القرين، بل يجدده ويطوره وينميه، ويفك من جموده وسقمه المدعى.

وقد يكون من الملائم في ختام هذه الملحوظات، التي رسمنا فيها خلفية ما

يتردد الآن من أفكار حول التأويل وتوظيفه في فهم التراث والقرآن وتفسيرهما، أن

نشير في خطوط عامة إلى محاور للرد عليها.

منها: إن الذين يتحدثون الآن عن «النصوص» وتفسيرها وتأويلها يقلدون

الغربيين الذين ينقلون عنهم في الخلط بين كل أنواع النصوص وعدم التفريق بينها

لا من حيث الشكل ولا المضمون ولا الهدف ولا معاملة المجتمع ونظرته لكل منها

عندهم، فإذا كان التقديس في أوروبا قد سقط عن «الكتب المقدسة» التي ثبت أنها

حُرّفت، فإنهم هنا يحذون هذا الحذو ويسقطون القداسة أو بالأصح ينفون الأصل

الإلهي عن القرآن، وإذا كان أساتذتهم في أوروبا يعاملون كل مكتوب على أنه نص

يستوي في ذلك الديني والقانوني والأدبي، فإنهم هنا يتبعون النهج نفسه، وينتهجون

الأسلوب نفسه في التعامل مع عالم النصوص باعتبارها جميعاً متساوية متشابهة،

دون تمييز بين نوعيات وأهداف خاصة بهذه النصوص توجب لكل منها معاملة

خاصة في التأويل والتفسير والمعاملة، ولنضرب المثل على ذلك: فإذا جاز

الحديث عن النص الأدبي بالقول باستقلاليته عن مراد كاتبه، وبتعدد معانيه

وتغيرها بتغير القراء والعصور والأغراض التي تقرأ لها، ونسبية المعاني العامة

المستخلصة منه

الخ، فإن ذلك يجوز لطبيعة النص الأدبي الخاصة أو بالأصح

لتحديد المجتمع الأدبي لهذه الطبيعة الأدبية والغرض الأدبي، أما في النص الديني

(ونحن نسميه هكذا تجاوزاً لكي نتفق فقط مع مصطلحات هذا العلم) ، فإن أمثال هذه

التعاملات لا تجوز؛ لأن هذا النص يختلف عن النص الأدبي من حيث أن القدسية

التي يضفيها عليه المؤمنون به تفترض معاملة خاصة لثبات المعاني النابع من كونها

تشريعات أو منطوقات إلهية وليست بشرية، بينما النص الأدبي هو نص بشري

الوضع، ولا يقصد به الوحي ولا التشريع، بل يلقى إلى القراء مقطوعاً عن كاتبه

حسب نظرات بعض المدارس النقدية الأوربية الحديثة وليس كلها، كذلك فإن

الأنواع الأخرى من النصوص تتطلب معاملة مختلفة عند التأويل والتفسير، ولا

يكفي هنا أن نقول كما يفعل بعض دعاة هذا الدرس إن الكل نصوص مصنوعة من

اللغة، وإن اللغة لها «آليات تفسيرية» عامة شاملة ذلك لأن اللغة تستخدم في كل

حالة أو نوع من النصوص لغرض مختلف يدخل هو أيضا في حساب آليات التفسير

اللغوي هذه، كما أن نفس الآليات التأويلية اللغوية تضمن ثبات المعنى وعلوه عن

النسبيات التاريخية التي يكثر دعاة الفكرة هذه من الإلحاح عليها؛ لهدف لا يخفى

هو هز ثبات المعنى القرآني، وإحالته إلى النسخ والتغير والضياع والتجاوز

والسقوط.

والواقع أن بعض من يرددون أفكار مستقاة من «الهرمنويطيقا» في النخبة

العربية المثقفة، يذهبون في التركيز على النسبية والتاريخية وميوعة المعنى وتغيره

مذهباً متطرفاً يجاوزون به بعيداً ما وضعه أساتذة العلم الغربيون من ضوابط علمية، وحدود تقي الشطط المدمر بكل معنى وكل قيمة، وما ذلك إلا لأنهم قد قصدوا

شيئاً محدداً من وراء ترويج هذه الأفكار، هو كما قلنا مواجهة الفكرة الإسلامية،

ولعلنا مادمنا نتحدث عن التأويل والتفسير نجد في مسلكهم هذا أو في غرضهم هذا

ما يفسر ويشرح لنا سبب تبني الغرب وبعض الدوائر النافذة لأولئك النفر،

وتصعيدهم في منابر الثقافة الرسمية العلمانية، وتحويلهم زوراً من خلال بعض

القضايا المثارة إلى شهداء رأي وأبطال فكر..

ص: 91