الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقال
حقوق الناس بين الأخذ والعطاء
عادل رشاد غنيم
حقوقك لدى الآخرين قضية مهمة عُني بها الإسلام، وسن الأحكام لتقريرها
وحمايتها، وبطبيعة الحال فإن حقوق الآخرين عليك هي كذلك موضع عناية الإسلام، فحقوقك هي واجبات الآخرين تجاهك، وحقوق الآخرين هي واجباتك تجاههم.
ومن منطلق العدل طالبنا الإسلام باحترام حقوق الناس بالقوة نفسها التي طالب
فيها الناس باحترام حقوقنا، لكننا نجد أناساً مرضى بالأنانية يطالبون بحقوقهم،
وفي الوقت نفسه يرفضون أداء واجباتهم! .
ولقد وصف القرآن الكريم هذا النوع من الناس بقوله: [وإن يكن لهم الحق
يأتوا إليه مذعنين] [1] ، أي أنهم لا يذعنون للحق إلا إذا كان لهم، أما إذا كان
الحق عليهم فالإعراض هو شأنهم.
وشرٌ من هؤلاء من أخذ حق غيره دون وجه مشروع، يقول رسول الله:
(من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة، فقال
رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ فقال: وإن كان قضيباً من أراك « [2] .
والمجتمع الذي تعيشه تربطك بأفراده علاقات عدة، تنشيء بينك وبينهم
منظومة من الحقوق المتبادلة، وعليك أن تنجح في هذه المعادلة الصعبة فتعطي كل
ذي حق حقه.. وهذا ما أكده حديث سلمان رضي الله عنه: (إن لربك عليك حقاً،
وإن لنفسك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه» [3] .
فالقرابة علاقة اجتماعية يترتب عليها حقوق أسرية.. [وآتِ ذا القربى
حقه..] [4] ، والجوار ينشأ عنه حقوق، كما في حديث عائشة رضي الله عنها:«مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» [5] .
والإسلام علاقة مكينة تبني الأخوة التي توجب على المسلمين جملة من
الحقوق: ففي صحيح مسلم (حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه،
وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا
مرض فعده، وإذا مات فاتبعه) « [6] .
وهناك علاقات تنشأ نتيجة العقود، وقد أحاطها الإسلام برعاية كبرى لأنها
من أهم مصادر الالتزام، فالقرض عقد يفرض على المدين حق السداد للدائن.
عن أبي سعيد الخدري قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم
يتقاضاه ديناً كان عليه، فاشتد عليه حتى قال له: أحرج عليك إلا قضيتني،
فانتهره أصحابه وقالوا: ويحك! ترى من تكلم؟ قال: إني أطلب حقي، فقال
النبي صلى الله عليه وسلم:» هلا مع صاحب الحق كنتم؟ «ثم أرسل إلى
خولة بنت قيس فقال لها:» إن كان عندك تمر فأقرضينا حتى يأتينا تمرنا فنقضي
لك «فقالت: نعم بأبي أنت يا رسول الله، قال: فأقرضته فقضى الأعرابي
وأطعمه، فقال الأعرابي: أوفيت أوفى الله لك، فقال صلى الله عليه وسلم:
أولئك خيار الناس، إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع» [7] .
والتوظيف عقد يوجب على الموظف أداء عمله وفق شروط العقد ويجب على
صاحب العمل دفع الأجر وسائر المستحقات للموظف (المسلمون عند شروطهم)[8] .
لقد أمرنا الله تعالى أمراً صريحاً بالوفاء بالعقود والتزاماتها: [يا أيها الذين
آمنوا أوفوا بالعقود
…
] [9] .
ومن غير المقبول أن يمتنع صاحب العمل عن إعطاء عماله أجورهم مستخفاً
بها تماماً، كما هو غير مقبول من العمال التقصير في المهام المسندة إليهم.. فهل
أنت أخي القارئ ممن يعطي الحق من نفسه كما يريده من غيره؟ !
إن الإسلام لا ينتظر حتى يثور النزاع بين الخصوم ليصل إلى ساحة القضاء
لتفصل المحاكم في دعاوى الحقوق.. إنه يؤسس محكمة داخل كل نفس إنها محكمة
«تقوى الله» تصدر حكمها بالحق ولو على الذات.
ولنسمع قول رسولنا صلى الله عليه وسلم وهو يخاطب النفس المؤمنة:
(لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء)[10] . ومعنى ذلك أن يبادر الإنسان برد الحقوق إلى أهلها في حياته قبل أن يقف موقفاً
لا يملك فيه شيئاً، لهذا نصحنا رسول الله: (من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه
أو شيء فليتحلله منه اليوم، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل
صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل
عليه) [11] ، وهذا هو الإفلاس الحقيقي الذي يجب أن نحذر الوقوع فيه..
لقد أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم للإفلاس معنى أعم مما تعارف
عليه الناس ودعني أذكرك بهذا الحوار الذي دار بين النبي صلى الله عليه وسلم
وصحبه: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من
حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من
خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار) « [12] .
وعلى الرغم من وضوح هذه الحقائق إلا أن بعض الناس يبيع دينه بأبخس
ثمن، ويأكل حقوق الناس بالباطل وهو ذاهل عن المصير المظلم الذي ينتظره لذلك
أقر الإسلام مبدأ الحماية للحقوق عن طريق القضاء برفع دعوى من قبل الشخص
صاحب الحق..
وبالطبع لابد للدعوى من دليل أو بينة، فكما قال النبي: (لو يعطى الناس
بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى
عليه) [13] .
وفي عالم القضاء وصخب الخصوم في المحاكم قد ينجح بعض الخبثاء من
خلال إبراز بعض الحجج الملفقة، أو اليمين الفاجرة، أو شهادة الزور ويحصل
على حكم قضائي لصاحبه، ولا يعني هذا أن ما أخذه أصبح حقاً له بل هو سحت،
اقرأ بيان ذلك عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أنا
بشر وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، أقضي
له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه، فإنما أقطع له
قطعة من النار) [14] .
أما اليمين الفاجرة فحسب صاحبها العذاب الأكبر كما قال رسول الله: (لا
يحلف أحد عند منبري هذا على يمين آثمة، ولو على سواك أخضر إلا تبوأ مقعده
من النار) » [15] .
ونظراً لخطورة الشهادة على سير القضاء اعتبرت شهادة الزور من أكبر
الجرائم، (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ شهادة الزور «)[16] .
وينبغي أن نتنبه لمسألة الشهادة إذا دعينا إليها، فلا نشهد إلا بعلم ونلبي أداء
الشهادة حينذاك: [ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه][17] وهكذا
نساعد في حماية حقوقنا من العدوان عليها من قبل كل مغتصب غشوم.
والله المستعان.
(1) سورة النور: 49.
(2)
رواه مسلم، ك الإيمان، ج2، ص 57.
(3)
رواه البخاري، ج4، رقم 1968، ج10، الأدب، رقم 6139.
(4)
سورة الإسراء: 26.
(5)
رواه البخاري، ج10، رقم 6014، ومسلم 16، ص 176.
(6)
رواه مسلم، ك السلام، ج14، ص 143.
(7)
رواه ابن ماجة في ك الأحكام، رقم 2426، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة، ج2، 55، برقم 1969.
(8)
رواه البخاري معلقاً، انظر الفتح، 4، ك الإجادة، ص 527، ورواه أبو داود في الأقضية، والحاكم في المستدرك، ج2، 50.
(9)
سورة المائدة: 1.
(10)
رواه مسلم، ج16، ص 136.
(11)
رواه البخاري في المظالم، ج5، رقم 2449، وفي الرقاق، ج11، رقم 6534.
(12)
رواه مسلم في البر والصلة، ج16، ص 135، وأحمد في المسند، ج2، 303.
(13)
صحيح مسلم، كتاب الأقضية، ج2، ص 59، ط دار الكتب العلمية.
(14)
البخاري في المظالم، ج5، رقم 3458، والشهادات، رقم 2670، ومسلم في الأقضية، ج12، ص، 5.
(15)
رواه ابن ماجة في الأحكام، وأبو داود في الأيمان، ومالك في الموطأ، ك الأقضية.
(16)
رواه البخاري، ج10، رقم 05976، ومسلم في الإيمان، ج2، ص 82.
(17)
سورة البقرة: 283.
حوار
لقاء مع فضيلة الدكتور:
ناصر بن عبد الكريم العقل
تمهيد:
فضيلة الدكتور/ ناصر بن عبد الكريم العقل عضو هيئة التدريس بكلية أصول
الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وهو باحث له اهتماماته العلمية
والدعوية وله مساهماته الفكرية بعضها منشور وبعضها لم يرَ النور بعد.
تخرّج من كلية الشريعة بالرياض، وقد قدم بحثه (التقليد والتبعية وأثرهما في
كيان الأمة الإسلامية) وكانت رسالته في الماجستير عن منهج (المدرسة العقلية في
العقيدة) والتي لم تطبع حتى الآن مع أهميتها في بابها، أما رسالته في الدكتوراه
فهي دراسة وتحقيق لكتاب (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) وهو
مطبوع، ومن دراساته المطبوعة عدد من الرسائل في (سلسلة دراسات في منهج
أهل السنة) وله دراسة عن (الجاهلية) ودراسة عن الفرق والمذاهب بالاشتراك،
وتمتاز دراساته بالعلم والتحقيق.. هذا ما نحسبه، والله حسيبه ولا نزكي على الله
أحداً.. وقد التقت معه (البيان «وجرى معه الحوار التالي.
- البيان -
* يتقاذف الدعاة الآن تيارات مختلفة فما هو الأولى للبدء في التغيير في واقع
المسلمين اليوم، فهناك من يرى أن الأولوية في الدعوة للوعي السياسي، وآخرون
يرون البدء في إنكار المنكرات التي عمت، وطائفة ترى في تحقيق التراث أهمية
قصوى، وغيرهم يرون الجهاد، وطائفة ترى البدء بالتربية الفردية، فما هو
الترتيب الطبيعي لسلم الأولويات في الدعوة إلى الله وفق تصوركم؟
- الأولى أن يبدأ العلماء والدعاة إلى الله تعالى في أمر الدعوة والإصلاح بما
بدأ الله به وما بدأ به رسله، من تحقيق التوحيد والعبودية لله تعالى والتحذير من
الشرك والبدع والمحدثات في الدين التي تنافي التوحيد أو تخل به، ثم يثني كل
داعية بالأهم فما دونه بحسب حاجة الأمة ومقتضيات الأحوال وإمكانات الدعاة،
وهذه قاعدة شرعية عامة تقوم على النصوص ونهج السلف الصالح في الدعوة إلى
الله وعلى مقتضى الحكمة والبصيرة التي هي ركائز الدعوة وهذا هو النهج الذي
يجب أن تقوم عليه كل دعوة من حيث المبدأ وبعد ذلك لا مانع أن تتوزع جهود
الأمة بجماعاتها وأفرادها بين متطلبات الأمة مادام هذا الأصل مستصحب ومعقود
عليه العمل والغاية والولاء والبراء فتقوم طائفة بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر وأخرى بالجهاد، وثالثة بالعمل المؤسسي، ورابعة بالتربية، وخامسة
بالسعي للنهضة بالأمة علمياً واقتصادياً
…
الخ، على أن يدور الجميع حول المحور
الأساسي وهو الاجتماع على التوحيد والسنة والجماعة وهدي السلف الصالح اعتقاداً
وعلماً وعملاً والالتفاف حول العلماء أهل الحل والعقد.. أما تنازع بعض الدعاة
والجماعات حول الأولويات فأكثره من التحريش والخصومات التي لا مبرر لها؛
لأن كل منهم في مسلكه على ثغر، ومن لديه قصور أو تقصير أو غلو يجب أن
يسدد وينصح ويعان على نفسه.
* الصحوة الإسلامية أصبحت ملء السمع والبصر، ورغم ذلك يكتنفها كثير
من الأخطار والمعوقات، فما هي أبرز معوقات الدعوة الإسلامية حالياً؟
إن أخطر المعوقات للدعوة وأبرزها في نظري ما يلي:
* النزاعات والخصومات بين الدعاة والجماعات الإسلامية (التهارش والتآكل)
لاسيما وأن أكثر مواطن النزاع والخصومات في الاجتهاديات أو فيما يعذر به
المخطئ.
* ضعف الفقه في الدين، ولا أقصد فقه الأحكام إنما فقه الأصول والمناهج
والقواعد والمصالح والمواقف، لاسيما أن أكثر القائمين على الدعوة في العالم اليوم
من طائفة المثقفين والمفكرين الذين لم يتضلعوا من العلم الشرعي أو تربوا على
مفاهيم لم تؤصل شرعاً.
* المكر الكبّار من خصوم الدعوة المتمثل في الصد عن دين الله تعالى
والإعراض عن شرعه، والفساد في الأرض، وإيذاء عباد الله ومقاومة الصحوة
المباركة من قبل شراذم العلمانية المهيمنة في أكثر العالم الإسلامي.
* التحدي العالمي من قبل المشركين والكافرين والمنافقين، وما يحمله من
وسائل وإمكانات وتخطيط.
وكل ذلك من باب الأذى، ومما تستلزمه الدعوة إلى الله، ويبتلي الله به
المؤمنين، ثم تكون لهم العاقبة [لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار
ثم لا ينصرون] [1] .
* الجاهلية مصطلح قديم أطلق على الفترة ما قبل الإسلام، والدعاة
المعاصرون يتنازعون في استخدام هذا المصطلح لوصف واقع المسلمين اليوم الذي
يحكم بغير الشريعة، فما شرعية استخدام هذا المصطلح الآن؟
استخدام مصطلح الجاهلية له مفهومات كثيرة فهو بحسب ما أطلق عليه: وهو
من العبارات الواردة في القرآن الكريم والسنة الصحيحة، فهو يطلق على الجاهلية
المشركية القديمة من حيث العموم.. ويطلق على بعض خصالها وأيامها وأسواقها
وأحوالها، وعلى من وقع في شيء من ذلك: كالتبرج والنياحة والدعاوى القومية
والفخر بالأنساب، وهذه الخصال وأمثالها جاهلية تطلق متى حدثت، ويقال لمن
تلبس بها» فيك جاهلية «كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي الذي
عيّر أخاه:» إنك أمرؤ فيك جاهلية «حديث صحيح، وقال تعالى: [ولا
تّبّرَّجًن تّبّرٍَج الجاهلية الأولى] أما إطلاق الجاهلية في زماننا على العالم الإسلامي
أو مجتمعاته على وجه العموم فلا يصح، لأن الأمة لا تزال على الإسلام بمسماه
العام، ومنها الصالح والطالح، ومنها الطائفة المنصورة التي لا يحصرها مكان ولا
زمان، وإنما تطلق الجاهلية على الأحوال والأشخاص حينما نتحقق من المعارضة
الصريحة للإسلام فيها، فيقال: نظام جاهلي، ودستور جاهلي، وعيد جاهلي،
وشعار جاهلي، ودعوى جاهلية، وخلق جاهلي أو خصلة جاهلية ونحو ذلك.
* يضغط الواقع بقوة على الدعاة؛ فيدعو بعضهم إلى العزلة الكاملة عن
المجتمعات، بينما يميل آخرون إلى العزلة الشعورية (النفسية) ويرى غيرهم
ضرورة الاندماج الكامل في المجتمع جسدياً وشعورياً كي يستطيعوا التغيير، فما
هو الوضع الطبيعي للداعية حيال هذه المجتمعات الإسلامية المنحرفة عن شرع الله؟
الوضع الشرعي والطبيعي في مثل ظروفنا الراهنة: أن المسلم ينبغي أن
يخالط الناس، فيكثر سواد المؤمنين، ويرشد العصاة والمخالفين ويناصح الولاة،
ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويصلح بين المختلفين، ويقيم الحجة على
المعاندين والمنحرفين، بفعله أو بقوله أو بسلوكه، ويسد حاجة المسلمين فيما
يستطيع، وكل ذلك في حدود الاستطاعة، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها؛ لأنه ورد
في الحديث الصحيح أن المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي
لا يخالط ولا يصبر، وأن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف وفي كل خير،
وأن اليد العليا خير من اليد السفلى.. أما العزلة فغير واردة والعزلة التي جاءت في
النصوص إنما تكون عند الفتن التي يخفى فيها الأمر على المسلم، فيعتزل الفتنة
وملابساتها، لكن لا يعتزل الجماعة ولا يقطع نفعه عن الأمة.
* للبيئة أثر ملموس على الناس، والدعاة جزء من مجتمعاتهم، وذلك في
الطباع والخصال الفردية وطرائق التفكير والسلوك الشخصي.. إلى غير ذلك؛
فهل يمكن تشخيص أثر البيئة على الدعاة في مختلف بلدانهم وأثر ذلك على الدعوة
المحلية؟
إذا قل الفقه في الدين، وضعف العلم الشرعي؛ تحكمت في الناس الأهواء
والمؤثرات ومنها البيئة بعاداتها وتقاليدها وظروفها، وللبيئة أثران: أثر طبيعي قد
يعتبر شرعاً: كالعادات والتقاليد التي لا تتعارض مع الشرع ويقع في مصادمتها
مفاسد عظمى، والأثر الآخر كالأحوال الجغرافية والمناخية والاجتماعية والقومية
والقبلية التي ليس في اعتبارها مصادمة للنصوص، إنما قد تجلب مصالح للإسلام
وللأمة، فهذا الوضع البيئي يكون له اعتباره شرعاً كما فعل النبي -صلى الله عليه
وسلم- تجاه القبائل وزعمائها من تأليف قلوبهم واعتبار انتماءاتهم القبلية في العقود
والألوية ونحو ذلك وكما فعل الصحابة والتابعون وأئمة الدين في تنظيم الأقاليم وفي
السياسة الشرعية.
* مرت الدعوة الإسلامية بصيغتها الجماعية المنظمة بمراحل طويلة بدءاً من
الإخوان المسلمين في مصر والجماعة الإسلامية في القارة الهندية وغيرهما لكن
يلمس الجميع بعد أكثر من نصف قرن من بدء ذلك العمل حصيلة محدودة لا
تتناسب مع الفترة الزمنية؛ فهل من أسباب طبيعية لذلك؟
أولاً: أمور الدعوة لا تقاس بموازين الماديات ومكاسب المؤسسات والمنظمات
والأحزاب، وثانيًا: قد لا يتفق المقوّمون للدعوة على الحصيلة وحجمها؛ فلذلك
أرى أن الذين قاموا بالدعوة إلى الله على بصيرة حصّلوا خيراً كثيراً، ونرجو أن
يكون لهم في ذلك الأجر العظيم عند الله تعالى وكفى بذلك تحصيلاً.. ونحن نعلم أن
هذه الدعوات كل منها بحسب ما وفق إليه من السنة مأجورة على ما أحسنت به،
وهي بهذا تتفاوت تفاوتاً عظيما فيما بينها، وفيما بين أتباعها وأفرادها، ومع ذلك
فالنتائج المأمولة المتطورة أقل مما يتطلع إليه المسلمون، ومن أهم أسباب تأخر
النتائج المأمولة:
* البعد عن النهج الأسلم في العقيدة والعلم والعمل والدعوة، وهو نهج السلف
الصالح أهل السنة والجماعة فإنه لا يصلح هذه الأمة إلا ما صلح به أولها.
* ضعف الفقه في الدين، والعلم الشرعي الصافي، واعتماد الدعوة في
الغالب على مجرد دعاة، ومفكرين، ومثقفين ليسوا علماء بالمعنى الشرعي وابتعاد
كثير منهم عن العلماء ومناهل العلم الشرعي.
* التنازع والخصومات وإعجاب كل ذي رأي برأيه، وهذه هي الحالقة التي
تحلق الدين، وتوقع في الفشل والإحباط كما أخبر الله تعالى وأخبر رسوله -صلى
الله عليه وسلم-، وكما هي سنة الله في الحياة، قال تعالى [ولا تنازعوا فتفشلوا
وتذهب ريحكم] [2] .
* كثرة البدع والمحدثات والاتجاهات العقلانية والعصرانية وأحياناً العلمانية
داخل صفوف الدعوات نفسها، فضلاً عن فئات كثيرة من الأمة ويزيد الأمر سوءاً
أن بعض الحركات الإسلامية ترسخ البدعة وتروج لها أو تقوم على أصول بدعية،
فأنى لها النجاح؟ !
* تفتقر الأمة الإسلامية حالياً إلي العلماء الربانيين والقادة المصلحين الذين
يقودون الأمة إلى الخير والرفعة فما السبيل إلى إيجادهم؟
العلماء لا يصنعون إنما ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وهناك أسباب ترفع
من يوفقه الله إلى درجة العلماء منها:
* تحصيل العلم الشرعي على أهل العلم وبطرقه الشرعية، والاتباع وسلامة
النهج في العقيدة والتلقي والتحصيل والمواصلة والصبر في ذلك.
* التربية الإسلامية الخالصة، والعناية بالنشء، وتوفير وسائل طلب العلم
الشرعي وأجوائه، وحمايته وتحصينه من المؤثرات الشيطانية المعاصرة التي ظهر
منها الفساد في البر والبحر.
* يرتفع العالم ويعلو شأنه بعلمه وعمله وإخلاصه ونفعه.. حين يكون قدوة
وعَلَم.
* تعاني الجماعات الإسلامية على اختلاف مسمياتها أمراضاً تنخر فيها مما
يتسبب في تأخر المسيرة وتعثرها، فما أبرز هذه الأمراض وما تشخيصكم لعلاجها؟
الجماعات الإسلامية جزء من كيان الأمة، بل هي أفضلها، على ما تعانيه
من أمراض، الجماعات فيها خير كثير، ولكنها ليست على الدرجة المطلوبة شرعاً، وأهم الأمراض في نظري ما سبق ذكره والمتمثل في:
* الانحراف العقيدي، أو ضعف العقيدة، والجهل بالسنة أو التقصير في ذلك
كله.
* قلة العلماء بينهم، والجفوة بين العلماء والشباب. والعلماء لهم حق على
الجميع.
* ضعف الفقه في الدين والعلوم الشرعية وقواعد الشرع.
* الاعتماد على كتب الفكر والثقافة وحدها وإهمال الكتب الشرعية أو قلة
الاعتماد عليها.
* المبالغة في الاهتمامات السياسية إلى حد الإدمان والهوس.
* التنازع والخصومات في الدين والدعوة.
* التحزبات والشعارات والولاءات غير الشرعية.
* العاطفة وقلة الصبر، ونحو ذلك.
* التشاؤم، واليأس وضعف اليقين بنصر الله ووعده.
* الناس حيال الصحوة فريقان: أحدهما مشفق من مستقبل غائم نظراً للواقع
القاتم حالياً، وآخر مستبشر متفائل؛ فما مستقبل الصحوة بناءً على واقعها الآن في
نظركم؟
المستقبل أمره إلى الله سبحانه علاّم الغيوب، لكن القرائن والسنن الكونية
والشرعية تدل على أن المستقبل للصحوة، ومن ثم للإسلام إن شاء الله والصحوة
في حاضرها تحمل مقومات القوة والغلبة وتباشير النصر بإذن الله، وقرائن ذلك:
* الانحدار السريع لقوى الكفر والباطل، فالشيوعية سقطت والرأسمالية
تترنح، وإن لم تنهار فستخر.
* الصحوة في نمو وتكامل وقوة في جميع بقاع العالم رغم ما يعتريها من خلل
لا يسلم منه البشر.
* الشعوب الإسلامية أدركت إفلاس جميع الحلول المستوردة العلمانية، وأن
العودة لشرع الله ضرورة، ولعله من الخير أن قوى الشر لم تفقه هذه الحقيقة جيداً،
وإن كانت شعرت بخطورتها لكنها لاتزال تفسرها بتفسيرات جاهلية.
* تحزب الأحزاب في جميع الدول الإسلامية وغير الإسلامية ضد الصحوة
وعّدها التحدي الأخطر.. وهذه من علامات النصر للإسلام لو كانوا يعلمون وأظن
هذا التحزب والكيد ضد الصحوة أعظم استفزاز سيكون للمارد الخامل النائم: أعني
الشعوب الإسلامية.
لكن مع ذلك فالصحوة بحاجة إلى مزيد من الترشيد والخبرة والتصحيح فهي
بحاجة إلى العلماء والفقه الشرعي، وسلامة الاعتقاد والنهج والاعتصام بالسنة
والخروج من حالة التنازع والتهارش والتآكل والعزلة إلى العمل الجاد وتحقيق
الجماعة والتناصح والبناء العقدي والعلمي والعمل المؤسسي، والاهتمام بالمجتمعات
والشعوب بأسلوب بناء لإعداد الأمة كلها لتحمل المسؤولية، حتى يكون الإسلام همّ
الجميع.
الصحوة الإسلامية في الوقت الراهن بدأت في تخطي الأطر الحزبية والتحول
من جماعات إسلامية محدودة إلى تيار إسلامي عام يطالب بعودة الإسلام إلى مختلف
نواحي الحياة، وعودة الأمة الإسلامية لتستلم دورها في قيادة العالم، فما هو
تصوركم لهذه الظاهرة؟
أرجو أن يكون الأمر كذلك، وإن كان فإن هذا يعني النقلة من طور الطفولة
والمراهقة إلى الرشد، وأن الأمة كما أسلفت بدأت تتحسس مواطن الضعف فيها
ومكانتها بين الأمم، وأن ريح الإيمان قد هبت وغرس الله بدأ يثمر، وأرى أن هذه
الحقيقة أقوى من كل العوائق والعقبات والخير كشجرة النعناع إذا قطعت منها غصناً
أنبتت عشرة بإذن الله.
* مصطلح السلفية نسبة إلى السلف كثر استخدامه، فهل هو قصر على فئة
انتسبت إليه، أم هو منهج لا يسع أحداً الخروج عنه؟ ما هو ورأيكم.؟
السلفية تعني اتباع سبيل السلف الصالح أئمة الهدى أهل السنة والحديث الفرقة
الناجية، الطائفة المنصورة.. وهي بهذا الوصف الصراط المستقيم وسبيل المؤمنين،
…
ودين الحق والهدى الذي لا يسع أحد الخروج عنه، وإلا فارق الحق والسنة
والجماعة، كما قال تعالى [ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع
غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى] [3] .
التنازع بين المسلمين يؤدي إلى الفشل، فما سبب هذا التنازع بين الداعين
إلى الله، خصوصاً عندما يستظل الجميع بمنهج واحد (منهج أهل السنة والجماعة) ، وما علاجه عملياً؟
أعظم أسباب التنازع: الأهواء، والحزبيات، والانتماءات، وتصدر قليلي
العلم الشرعي واتخاذهم رؤوساً، وهيمنة الفرق والبدع والمحدثات على كثير من
المسلمين والجماعات.. والسبيل إلى الوحدة هو بتحقيق التوحيد واتباع السنة وعقد
الجماعة على الولاء الشرعي والأخذ بأسباب الحياة والعزة والنصر كما أمر الله
وبذل النصح لله تعالى ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولأئمة المسلمين
وعامتهم.
وأسأل الله أن يبارك في هذه الصحوة وأن يهديها سواء السبيل، ويجمع شملها، ويوحد كلمتها على الحق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
(1) سورة آل عمران: 111.
(2)
سورة الأنفال: 46.
(3)
سورة النساء: 115.