المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أهل السنة والجماعة - مجلة البيان - جـ ٧٨

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌أهل السنة والجماعة

مصطلحات

‌أهل السنة والجماعة

محمد بن عبد الله الوهيبي

السنة في الاصطلاح تأتي بعدة معان [1] ولا يعنينا في هذا المقال الموجز

تتبع تلك المعاني، وإنما يعنينا أن نُعَرّف بمصطلح «السنة» أو «أهل السنة»

باعتبارها دلالة على اتجاه معين في الاعتقاد، يقول الإمام ابن رجب رحمه الله

«

وعن سفيان الثوري قال: استوصوا بأهل السنة خيراً فإنهم غرباء» [2]

ومراد هؤلاء الأئمة بـ «السنة» طريقة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان

عليها هو وأصحابه، السالمة من الشبهات والشهوات، ولهذا كان الفضيل بن

عياض يقول: «أهل السنة من عرف ما يدخل في بطنه من حلال» [3] ، وذلك

لأن عدم أكل الحرام من أعظم خصال السنة التي كان عليها النبي -صلى الله عليه

وسلم- وأصحابه رضي الله عنهم ثم صار في عرف كثير من العلماء المتأخرين من

أهل الحديث وغيرهم: السنة عبارة عما سلم من الشبهات في الاعتقادات، وبخاصة

في مسائل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وكذلك في مسائل

القدر وفضائل الصحابة، وصنفوا في هذا العلم تصانيف وسموها كتب السنة وإنما

خصوا هذا العلم باسم السنة لأن خطره عظيم، والمخالف فيه على شفا هلكة، وأما

السنة الكاملة فهي الطريقة السالمة من الشبهات والشهوات) [4] .

وأهل السنة هم المتبعون لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنة أصحابه

رضي الله عنهم، يقول الإمام ابن الجوزي رحمه الله: «

ولا ريب في أن

أهل النقل والأثر المتبعين آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثار أصحابه، هم أهل السنة» [5] .

إذاً لفظ «أهل السنة» يقصد به معنيان: الأول متابعة السنن والآثار الواردة

عن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم والعناية بها،

وتمييز صحيحها من سقيمها، والتزام موجبها من الأقوال والأعمال في مجال العقيدة

والأحكام والثاني: أخص من المعنى الأول، وهو الذي عناه بعض المصنفين حيث

سموا كتبهم باسم السنة كابن أبي عاصم وأحمد بن حنبل وابنه والخلال وغيرهم،

ويعنون بذلك الاعتقاد الصحيح الثابت بالنص والإجماع، وفي كلا المعنيين يتبين لنا

أن مذهب أهل السنة امتداد لما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته

الكرام رضوان الله عليهم أما التسمية بأهل السنة فنشأت بعد الفتنة عند بداية ظهور

الفرق.

قال ابن سيرين رحمه الله: «لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت

الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل

البدع فلا يؤخذ حديثهم» [6]، وسئل الإمام مالك رحمه الله «من أهل السنة؟ قال: أهل السنة الذين ليس لهم لقب يعرفون به لا جهمي ولا قدري ولا رافضي» [7] ، ثم لما صارت للجهمية شوكة ودولة امتحنوا الناس ودعوهم إلى التجهم بالترغيب

والترهيب فآذوا الناس وعذبوهم، بل وقتلوا بعض من لم يقل بقولهم، فسخر الله

لأهل السنة الإمام أحمد رحمه الله حيث صبر على امتحانهم وابتلائهم، وناظرهم

وفند حججهم وأعلن السنة وأظهرها، ووقف في وجه أهل البدع والكلام، فصار

بسبب ذلك يلقب بإمام أهل السنة.

نستنتج مما سبق أن مصطلح «أهل السنة» اشتهر عند الأئمة المتقدمين

باعتباره مصطلحاً مقابلاً لمصطلح «أهل الأهواء والبدع» من الرافضة والجهمية

والخوارج والمرجئة وغيرهم، فأهل السنة هم الذين بقوا على الأصل الذي كان

عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.

أهل السنة والجماعة:

ويطلق على أتباع مذهب السلف الصالح في الاعتقاد «أهل السنة

والجماعة» ، وقد وردت أحاديث كثيرة تأمر بلزوم الجماعة، وتنهى عن الفرقة والخروج [8] ، وقد اختلف العلماء في المقصود بالجماعة على عدة أقوال [9] أحدها أنها السواد الأعظم من أهل الإسلام، والثاني أنهم الأئمة المجتهدون والثالث أنهم الصحابة رضي الله عنهم، والرابع هي جماعة المسلمين إذا أجمعوا على أمر، والخامس جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير.

وحاصل هذه الأقوال يرجع إلى معنيين: (الأول: أن الجماعة هم الذين

اجتمعوا على أمير على مقتضى الشرع، فيجب لزوم هذه الجماعة، ويحرم

الخروج عليها وعلى أميرها، والثاني: أن الجماعة ما عليه أهل السنة من الاتباع

وترك الابتداع، وهو المذهب الحق الواجب اتباعه والسير على منهاجه، وهذا

معنى تفسير الجماعة بالصحابة، أو أهل العلم والحديث، أو الإجماع، أو السواد

الأعظم

) [10] .

ويقول شيخ الإسلام: «وسموا أهل الجماعة لأن الجماعة هي الإجماع

وضدها الفرقة، وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسماً لنفس المجتمعين

و» الإجماع «هو الأصل الثالث الذي يعتمد عليه في العلم والدين، وهم يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من أقوال وأعمال باطنة أو ظاهرة، مما له تعلق بالدين

» [11] .

ومصطلح «أهل السنة والجماعة» يؤدي نفس المعنى الذي يؤديه مصطلح

«أهل السنة» ، فعامة استعمالات الأئمة له مقابل أهل البدع والأهواء، وإليك

بعض الأمثلة على ذلك:

قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى [يوم تبيض وجوه

وتسود وجوه] [آل عمران: 106] ، «فأما الذين ابيضت وجوههم فأهل السنة

والجماعة، وأما الذين اسودت وجوههم فأهل البدع والضلالة» [12] .

وقال سفيان الثوري رحمه الله: (إذا بلغك عن رجل بالمشرق صاحب سنة،

وآخر بالمغرب فابعث إليهما بالسلام وادع لهما، ما أقل أهل السنة والجماعة) [13] .

إذاً يمكن أن نعتبر مسمى أهل السنة والجماعة بين الفرق، كمسمى المسلمين

بين الملل، فالانتساب إليه والتسمى به واستعماله باعتباره دلالة على صحة الاعتقاد

والمنهج، أمر حسن وسائغ باعتباره انتساباً لاسم شرعي، وقد استعمله أئمة السلف، ومن أكثر الأئمة استعمالاً لهذا المصطلح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

الأشاعرة والماتريدية ومصطلح أهل السنة والجماعة:

يكثر استعمال هذا المصطلح بين الأشاعرة والماتريدية، ويعتبر كثير منهم أن

مذهب السلف «أهل السنة والجماعة» هو ما قاله أبو الحسن الأشعري وأبو

منصور الماتريدي، وبعضهم يعتبر أهل السنة والجماعة «الأشاعرة والماتريدية

ومذهب السلف» .

يقول الزبيدي: (إذا أطلق أهل السنة والجماعة فالمراد بهم الأشاعرة

والماتريدية) [14]، ويقول صاحب الروضة البهية: (اعلم أن مدار جميع عقائد

أهل السنة والجماعة على كلام قطبين أحدهما الإمام أبو الحسن الأشعري والثاني

الإمام أبو منصور الماتريدي

) [15]، أما الأيجي فيقول: (

وأما الفرقة

الناجية المستثناة: الذين قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم: «هم الذين

على ما أنا عليه وأصحابي» فهم الأشاعرة والسلف من المحدثين وأهل السنة

والجماعة) [16]، ويقول حسن أيوب من المعاصرين: (أهل السنة هم أبو الحسن

الأشعري وأبو منصور الماتريدي ومن سلك طريقهما، وكانوا يسيرون على طريقة

السلف الصالح في فهم العقائد) [17] ، وعامة هؤلاء يذكرون عقائد الأشاعرة

والماتريدية على أنها مذهب أهل السنة والجماعة، وليس المقصود هنا مناقشة هذا

الادعاء الباطل، وإنما أردت ذكر فائدتين في هذا المجال هما:

1-

أن استعمال الأشاعرة والماتريدية ومن تأثر بهم لهذا المصطلح لا يغير

شيئاً من حقيقة ابتداعهم وانحرافهم عن منهج السلف الصالح في أبواب كثيرة لا

مجال لتفصيلها هنا.

2-

أن استعمالهم لهذا المصطلح لا يمنعنا من استعماله والتسمي به باعتباره

اسماً شرعياً استعمله أئمة السلف، ولا يعاب من يستعمله أو يُذم، إنما يعاب إذا

خالف اعتقاد ومذهب السلف الصالح في أي أصل من الأصول.

(1) اجتهد بعض الباحثين في تتبع معاني السنة ومرادفاتها، ومن أوسع الدراسات في ذلك ما كتبه الشيخ عبد الرحمن المحمود في مواقف ابن تيمية من الأشاعرة 1/3804، وما كتبه الشيخ ناصر العقل في رسالة مستقلة بعنوان مفهوم أهل السنة والجماعة عند أهل السنة والجماعة.

(2)

رواه اللالكائي في شرح السنة رقم 49.

(3)

انظر نصاً مقارباً في اللالكائي رقم 51، وأبي نعيم في الحلية 8/104.

(4)

كشف الكرية 1920.

(5)

تلبيس إبليس لابن الجوزي 16 وانظر الفصل لابن حزم 2/107.

(6)

رواه مسلم في مقدمة صحيحه ص 15.

(7)

الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء لابن عبد البر 35.

(8)

انظر رسالة قيمة في هذا الباب فيها جمع للنصوص الواردة في ذلك وعنوانها وجوب لزوم الجماعة وذم التفرق، جمال بن أحمد بادي انظر ص 15-117.

(9)

الاعتصام 2/260-265.

(10)

موقف ابن تيمية من الأشاعرة 1/17.

(11)

مجموع الفتاوى 3/175.

(12)

رواه اللالكائي 1/72، وابن بطة في الشرح والإبانة 137، ونسبه السيوطي إلى الخطيب في تاريخه وابن أبي حاتم، الدر المنثور 2/63.

(13)

رواه اللالكائي في شرح السنة 1/64 وابن الجوزي في تلبيس البليس 9.

(14)

إتحاف السادة المتقين 2/6.

(15)

الروضة البهية لأبي عذبة 3.

(16)

المواقف 429.

(17)

تبسيط العقائد الإسلامية 299 وانظر التبصير في أصول الدين153 والتمهيد للنسفي2، والفرق بين الفرق 323، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي 150 وغيرها.

ص: 8

محاضرات إسلامية

فقه النوازل والواقعات

دليل على ارتباط الفقه بالحياة

- 2 -

د. عبد العزيز القارئ

في الحلقة الأولى من هذه المحاضرة لفضيلة الدكتور عبد العزيز القارئ عضو

هيئة التدريس بالجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، تطرق فضيلته إلى حقيقة

الفقه وكيف أبدع الصحابة فيه ونبه فضيلته على خطر ظاهرة الاشتغال بالصناعة

الحديثية على حساب الفقه بمعناه الشامل، ثم تطرق لمسألة الاجتهاد وأثره العظيم

في حياة الناس وبيان الأحكام الشرعية، وكيف كان فقه الصحابة فقه تطبيق وليس

فقه نظريات جامدة، ونواصل معكم بقية هذه المحاضرة المهمة.

- البيان -

نماذج من فقه الصحابة:

وسأضرب لمنهج الصحابة رضي الله عنهم في فقه النوازل والواقعات أربعة

أمثلة:

المثال الأول في العبادات:

الأذان يوم الجمعة: فقد كان الأذان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

أوله عندما يجلس الإمام على المنبر، وكذلك في عهد أبي بكر وعمر، وفي عهد

عثمان وعلي، كثر الناس وزاد الأذان الثالث على الزوراء [1] ، الأذان الثالث كما

ورد في النص باعتبار الأذان الذي عند جلوس الإمام على المنبر وباعتبار الإقامة

فإنها تسمى أيضاً أذان، فزاد الأذان الأول على الزوراء، وفي بعض الروايات أن

الزوراء دار كانت في السوق، وفي بعض الروايات أنه أمر بذلك ليعلم الناس

بدخول أو بحضور وقت الجمعة قبل أن يخرج الإمام إلى المسجد أو إلى المنبر.

ما كان هذا الأذان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا على عهد

الصاحبين، وإنما هو سنّه الخليفة الراشد عثمان قياساً على باقي الصلوات، هذا

أذان لإعلام الناس بدخول الوقت في أوله، فقاس الجمعة على باقي الصلوات، هذه

نازلة وهذا ما واجهها به الصحابة من فقه، والصحابة في عهد عثمان عملوا بفعله

في سائر المدن والأمصار، وقد كانوا منتشرين فيها.

المثال الثاني في الطلاق:

فقد روى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الطلاق كان على عهد

النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر، أن طلاق

الثلاث كانت توقع واحدة، فقال عمر:«إن الناس قد استعجلوا في أمر لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم» [2] ، فأمضاه عليهم بمشاورة من الصحابة، وحقيقة هذه

المسألة كما أفهم والله أعلم أن عمر أولاً كان يسأل المطلق الذي أوقع الثلاث دفعة

واحدة عن قصده ماذا يقصد هل يقصد إيقاعها ثلاثاً أو ما قصد إلا التأكيد وإيقاعها

واحدة، ثم لما تتابع الناس على ذلك، وكثر منهم واستخفوا به صار لا يسأل أحداً

عن مقصده، ولا يفرق بين من يقصد التأكيد وإيقاعها واحدة أو لا يقصد ذلك،

ويمضيه على الجميع ثلاثاً ردعاً للناس الذين كثر منهم هذا واستخفوا بحدود الله عز

وجل.

هذا مثال آخر لطريقة الصحابة في مواجهة النوازل، فإن الحال في وقت

عمر تغير عن الحال في وقت النبي صوأبي بكر.

المثال الثالث حد الخمر:

وهو يشبه هذا المثال، ولكنه في الحدود (حد الخمر) ، فشارب الخمر في عهد

النبي صلى الله عليه وسلم كان يضرب بالجريد وبالنعال ويبكت (بمعنى أن يقال

له أما تستحي أما تتقي الله.. ونحو ذلك) ، وفي عهد أبي بكر جلد أربعين، وفي

عهد عمر قال عمر رضي الله عنه: ويبدو أن شاربي الخمر قد كثروا في عهده

فاستشار الصحابة، فقال علي رضي الله عنه إنه إذا شربها سكر وإذا سكر هذى

وإذا هذى افترى، فجلده ثمانين مثل عقوبة القربة، وفي رواية أن عبد الرحمن بن

عوف قال له رضي الله عنه: إن أخف الحدود ثمانون جلده فأمضوا عقوبة شارب

الخمر ثمانين جلدة، فاختلف الفقهاء في فهم ذلك: بعضهم قالوا إن حد الخمر

ثمانون، وبعضهم قالوا حدها أربعون وما زاد فهو تعزير، وللإمام أن يزيد تعزيراً

إذا كان ذلك اجتهاد من إمام عادل.

المثال الرابع في المعاملات:

وهو تضمين الصناع، فالصانع إذا ادعى هلاك المتاع الذي بحوزته وليست

له بينة على ذلك، كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء قبل

علي يُصدّق، وفي عهد علي ألزمهم بالضمان، وقال لا يصلح الناس إلا ذلك.

لماذا؟ لأن الناس في عهد علي رضي الله عنه اختلف حالهم عن حال الناس في

عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وعثمان فإن التزامهم بالصدق

وبالحق صار أخف مما سبق فاختلف حالهم عن ذي قبل، ومن مثل هذا استنبط

العلماء قاعدة اختلاف الفتوى بسبب فساد الناس، كما تحدث للناس أقضية بقدر ما

أحدثوا من أحكام، ففساد الناس وفساد الأحوال تتغير بموجبه الفتوى.

هذه أربعة أمثلة تبين لنا منهج السلف أصحاب رسول الله -صلى الله عليه

وسلم- في مواجهة ما يستجد من واقعات ونوازل، ونستفيد من هذه الأمثلة دروساً

عظيمة لواقعنا ولحالنا أصلح الله حالنا، ومنها:

1-

أن الاجتهاد لا يسوغ من كل أحد إنما يسوغ ممن له الأهلية فقط، فإن أبا

بكر أو عمر أو غيرهما من الخلفاء الراشدين ما كانوا يستشيرون كل أحد، بل كانوا

يستشيرون فقهاء الصحابة وأهل العلم والرأي منهم.

2-

ومن هذه الدروس أن الاجتهاد ليس صلاحية مطلقة للمجتهد، بل يجب

أن يكون مقيداً بالقواعد الشرعية والمبادئ الكلية والأصول المعتبرة عند الفقهاء

وعند العلماء، والتي استنبطت من الكتاب والسنة. ولو تأمل الدارس المتفقه كل

مثال من الأمثلة الآنفة الذكر وغيرها من الأمثلة، لوجد هذه الحقيقة فيها، فإن

الصحابة رضي الله عنهم لا يخرجون في اجتهاداتهم هذه عن المبادئ الكلية التي دل

عليها الكتاب والسنة.

3-

ومن هذه الدروس أن مدار الشرع على المصلحة: على جلب المصالح

المعتبرة، وعلى درء المفاسد المحققة فحيث ما تكون المصلحة الشرعية فثم شرع

الله كما يقول ابن القيم رحمه الله فلا أقول كما يقول بعض الكتاب المعاصرين: إن

الشريعة الإسلامية مرنة! ! فكلمة مرنة في عرفهم تحتها ما تحتها، لكن أقول إن

الشريعة الإسلامية، والفقه الإسلامي صالح للتطبيق في كل زمان ومكان مهما

اختلفت أحوال الناس، ومهما استجد من متغيرات ومن تطورات فالمصلحة معتبرة

لكن أهواء الناس غير معتبرة، وشهوات الحكام ورغبات السلاطين غير معتبرة في

الشريعة الإسلامية ولا لدى الفقهاء الذين يتقون الله عز وجل في البيان، وهذه

القاعدة (دوران الشرع على المصلحة) لا يعرفها إلا الفقهاء ولا يقدر على تطبيقها

إلا الفقهاء والعلماء الربانيون.

4-

ومن هذه الدروس أيضاً أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

إضافة إلى عملهم الغزير بكتاب الله عز وجل وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبفهمهم العميق للأحكام الشرعية كانوا كما نوهت على بصيرة كاملة بالواقع

وتتعجب من اختلاف فتياهم، فتجد الصحابي في المدينة له فتوى وفي العراق له

فتوى أخرى، وفي حالة له فتوى وفي حالة أخرى له فتوى أخرى، كما ضربتُ

في هذه الأمثلة، وهذا يدل على أنهم متبصرين بالواقع الذي يعايشونه مدركين تمام

الإدراك للوقائع المستجدة التي يواجهونها، وهكذا يجب أن يكون الفقيه.

ومن أعجب الأمثلة على ذلك: ما رواه ابن أبي شيبة عن سعد بن عبيدة قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فقال له: ألمن قتل مؤمنا توبة؟ قال: إلى النار، فلما ذهب وانصرف قال له جلساؤه: ما هكذا كنت تفتينا فما

شأن اليوم؟ قال: إني أحسبه مغضباً يريد أن يقتل مؤمناً فبعثوا في أثره فوجدوه

كذلك [3] .

فاختلاف الحالة لدى المفتي كالطبيب يصف لكل مريض ما يناسب حاله فلو

أفتى هذا بأن له توبة كأنه حرّضه على أن ينفذ ما في قرارة نفسه، وفي رواية أنه

سئل يعني أن سائلين سألاه فسأله سائل هل لمن قتل توبة؟ قال: لا وسأله سائل

آخر في مرة أخرى فقال: نعم. فلما سئل عن هذا الاختلاف في الفتوى قال:

رأيت في عيني الأول أنه يقصد القتل فقمعته، وأما الثاني فكان صاحب واقعة

يطلب المخرج.

هل تريدون مثالاً أوضح من هذا على عظم أهمية أن يكون الفقيه متبصراً

بالواقع، عالماً بأحوال الناس، عالماً بملابسات الوقائع التي تطرأ عليه والنوازل

التي تستجد؟ !

5-

ومن أعظم الدروس المستفادة من هذه الأمثلة آنفة الذكرأن في منهج

السلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يمكن أن نسميه بالشورى

العلمية فقد كان أبو بكر الصديق إذا نرلت به نازلة، ولم يجد فيها فيما يعلم سنة عن

رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلى الناس فيسألهم، أخرج البغوي عن

ميمون بن مهران رحمه الله قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصوم نظر في كتاب

الله فإن وجد فيه ما يقضي به بينهم قضى به، فإن لم يكن في الكتاب، وعلم من

رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك سنة قضى بها، فإن أعياه خرج فسأل

المسلمين: أتاني كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله قضى في ذلك بقضاء، فربما

اجتمع النفر كلهم يذكر كل واحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاء، فإن

أعياه أن يجد فيه سنة جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم (لاحظ استفتاء ثم

شورى أهل الفقه والحل والعقد) ، فإن أجمع رأيهم على شيء قضى به. وكان عمر

رضي الله عنه يفعل ذلك إلا أنه إن أعياه أن يجد في القرآن والسنة نظر هل كان

فيه لأبي بكر قضاء فإن وجد أبا بكر قضى به بقضاء قضى به وإلا دعا رؤوس

الناس، فإذا اجتمعوا على أمر قضى به ومع أن هؤلاء هم من هم ومع ذلك لا

يغترون برأيهم ولا يستدلون باجتهادهم، بل يشاورون الناس وتجد الواحد اليوم مع

قلة بضاعته وغلبة الهوى عليه ينفرد بنفسه بين جدران أربعة ويخرج علينا بآراء

عجيبة لا فقه فيها ولا بصيرة ولا يتقي الله فيها، ويريد أن يحمل الناس عليها.

استبداد علمي مع أنه لا استبداد في العلم في الإسلام، كما أنه لا استبداد في السياسة، والاستبداد السياسي والاستبداد العلمي كلاهما مذموم في الإسلام.

معالم على طريق الاجتهاد:

ثم إن الاجتهاد في المسائل الاجتهادية فيما فيه مجال للاجتهاد وإذا وقع من

المجتهدين مهما كان الاجتهاد جزئياً أو كلياً على أنواعه التي يذكرها الفقهاء يجب أن

لا يؤدي إلى التنازع والتناحر والتطاحن. انظرإلى الصحابة وخذ عمراً مثلاً وهو

خليفة أمير المؤمنين كيف كان يناقشه الصحابة ويحتدون ويقولون له هذا ظلم

«أتقف ما غنمناه بأسيافنا على قوم لم يحضروا ولم يشهدوا» ، ومع ذلك لا يغضب

نماذج رائعة من أدب الاختلاف.

الاختلاف لدى السلف لا يفضي إلى التنازع والتطاحن، ولا يفسد للود قضية

كما يقول العلماء، فإن التناحر والتطاحن في الآراء وفي العلم ورمي المخالف في

الاجتهادات بالتهم من علامات أهل البدع كالخوارج الذين يكفرون مخالفيهم،

فالمبادرة الى تكفير المخالف في مسائل للاجتهاد فيها مجال، من علامات الخوارج، وسب المخالفين ولعنهم والتشنيع عليهم من علامات الروافض، فعلى كل مسلم أن

يتأدب بهذه الآداب، على كل مجتهد، على جميع أهل العلم أن يتأدبوا بهذا الأدب

السلفي إن كانوا وقعوا في مسلك أهل البدع من التشنيع على المخالفين ورميهم بالتهم

وتبديعهم وتكفيرهم وسبهم والتشنيع عليهم، فعليهم أن يستغفروا الله ويتوبوا إلى الله

ويعودوا إلى منهج السلف.

أما أهل العلم والفقه والاجتهاد من علمائنا على مختلف مستوياتهم ودرجاتهم

أكابرهم وأصاغرهم فإننا نطالبهم بأن يواجهوا النوازل التي وقعت بنا والواقعات

التي استجدت علينا، وما أكثرها وما أخطرها مثلاً، نحن نواجه الآن في مجتمعنا

هجمة علمانية، هناك من يحاولون علمنة هذا المجتمع ومحاولة صبغه بصبغة

العلمانية، فيدعون للفصل بين الدين والحياة وبين الفقه والمجتمع، وهذه نازلة

خطيرة جدت في الأمة فالمجتمع المسلم يسير بخطى حثيثة إلى العلمانية بضغوط

خارجية وجهود داخلية، أناس يتكلمون بألسنتكم وهم من جلدتكم وهم يبذلون النفس

والنفيس في سبيل تخريب هذا المجتمع المسلم، وهذا من أعظم النوازل، فعلى

علمائنا أن يواجهوا هذه النوازل بعقلية ناضجة كعقلية السلف، عقلية الصحابة

رضوان الله عليهم أجمعين، عقلية واعية عميقة تتقي الله عز وجل، فإن من أعظم

ما يواجه به هذا المقام أن يبين العلماء الحكم الشرعي لا يخافون في الله لومة لائم،

والحمد لله أنه لاتزال في مجتمعنا بقية من علماء يقولون الحق ولا يخافون لومة لائم، نسأل الله أن يثيتهم ويجزيهم عنا خير الجزاء.

العالم أو المفتي الذي لا يتقي الله في بيان الحكم، وينافق العلماء، لا يصلح

للاجتهاد، وهو والجاهل سواء لأنه أخطر من الجاهل، العالم يقتدى به فإذا لم يتق

الله في بيان حكم الشرع يورد الأمة موارد الهلاك، وهناك علماء للأسف ينافقون

الحكام أو يخافون منهم ولا يبينون الأحكام على وجهها الصحيح، ومن أعجب

الأمثلة على ذلك مفت في بلد مسلم أفتى بإباحة الربا إذا مارسته الدولة وتحريمه إذا

مارسه أفراد الشعب، انظر إلى أي حد يصل النفاق ومداهنة الحكام، هذا فقيه نعم

ولكنه من فقهاء السلطان له سلف، ذلك المنافق الذي رأى حماماً يلعب به الخليفة

فكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالحديث الصحيح لا سبق إلا في

خف أو حافرأو نصل، فزاد أو جناح هذا مثل ذاك فأمثال هؤلاء موجودون نسأل

الله عز وجل أن يكفينا شرهم.

(1) الحديث بنصه البخاري، ج1، ص219.

(2)

مسلم، ج2، ص1099، كتاب الطلاق، ح/1472.

(3)

المصنف لابن أبي شيبة، ج9، ص362، ح/7803.

ص: 14