الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الافتتاحية
..
والحديث مستمر حول حطين
قد يبدو من الغريب أن يتفق الخصوم على الاحتفال بذكرى موقعة كانت
نصراً لجانب، وهزيمة لجانب آخر، وأن يتبارى الجانبان في إعادة دراسة هذه
المعركة وتقويمها واستخلاص الدروس منها.
ولكن هذا الأمر لا ينبغي أن يثير العجب إذا كان حول معركة مثل معركة (حطين) . فإذا كانت هذه المعركة تمثل علامة بارزة في التاريخ العربي
…
والإسلامي، وتعتبر وسام فخر واعتزاز لا للقائد الذي قادها - وهو صلاح الدين - فحسب، بل للأمة التي عمل من أجلها، وللفكر الذي كان صلاح الدين يمثله، وهو الفكر الإسلامي - فإنها تعتبر نقطة مهمة في التاريخ العالمي. فعلى الرغم من أن الصليبيين قد انهزموا فيها هزيمة منكرة، ولم تقم لهم بعدها قائمة تذكر، إلا أنهم انكبوا على دراسة النتائج التي حصلت نتيجة احتكاكهم المسلح بالمسلمين، وعكفوا على الانتفاع من معرفتهم لأحوال المسلمين عن قرب، ومن تحليلهم للعوامل المؤثرة في انتصارهم وهزيمتهم، وهكذا شكلت معركة حطين منعطفاً مهماً في حياة الغربيين. وكذلك فإن حوادث التاريخ قد تتشابه، فاحتلال اليهود لفلسطين، وإقامتهم دولتهم فيها بمساعدة ومساندة من الغرب الصليبي، في فترة ضعف وتفرق من المسلمين؛ وعلى الرغم من مرور أربعين عاماً على ذلك،
…
ومع هذا، وعلى الرغم مما ينتاب العرب من مصاعب ومآسٍ، وما يعوقهم من شتات وتناحر؛ فإن إسرائيل لازالت جسماً غريباً مرفوضاً من الغالبية العظمى للشعوب المحيطة بها، ولا يبدو في الأفق أي تغير في تقبل هذه الشعوب لهذا الجسم الغريب، على الرغم مما يجري بين الحين والآخر مما يسمى بالصلح أو بإمكانية التعايش.
لهذا كله قد يبدو مفهوما أن يتنادى مؤرخو الحروب الصليبية إلى مؤتمر لهم
في القدس وحيفا بمناسبة مرور 800 سنة على معركة حطين.
ومن جهة أخرى نجد أن أكثر دولة عربية دعت إلى الاحتفال بهذه المعركة،
إن لم يكن غيرة وخجلاً من احتفال الأعداء بها؛ بينما نحن أولى منهم بذلك، فلأن
الواقع المؤلم الذين نعيشه يفرض علينا أن نجند كل طاقاتنا المعنوية إلى جانب
الطاقات المادية في وجه الذين يستهدفون عقيدتنا وأرضنا بل وجودنا كله.
وإذا كان احتفال الدول العربية بهذه المناسبة ينطوي - في جانب منه - على
إدراك محمود لأهميتها ومكانتها من مجمل تاريخنا وصراعنا مع قوى الشر، إلا أنه
مما يحز في النفس، ويؤلم الفؤاد، أن يجيء إحياء هذه المناسبة بصورة تخالف
عملياً دلالتها التوحيدية. إذ، أي شيء أكثر ألماً وأقسى أثراً من احتفال كل دولة
على انفراد، وبطريقتها الخاصة؛ بهذه المعركة الخالدة؟ .
أليس من التناقض، بل ومن السخرية والهزء بمعانيها وبالأهداف التي عمل
لها قائدها: صلاح الدين؛ أن نحتفل بها، بينما نطبق عملياً فكر من هزمهم صلاح
الدين، ونرفع بيننا حدود من أجلاهم صلاح الدين، ونعمق معاني العصبية
والإقليمية والطائفية التي حاربها صلاح الدين؟ .
ثم أليس من الفكر المشوه الذليل، والترديد الممجوج الثقيل، الذي يمثل غباء
في فهم التاريخ وإصراراً عليه؛ ما نقرأه للأمين العام للجامعة العربية في هذه
المناسبة حيث يقول:
(
…
إن الحروب التي سميت بالصليبية؛ لم تكن حقيقة صراعاً بين الإسلام
والمسيحية بقدر ما كانت صراعاً بين مشروع استعماري، وبين مقاومة وطنية،
وقد حلل المؤرخون الغربيون هذه المسألة، ودعوا إلى كثير من الحذر في تصديق
النظرية القائلة بأن هذه الحروب تمثل صراعاً دينياً
…
) .
هل يدعي حضرة الأمين العام أن العلاقات بين الإسلام والمسيحية منذ أن
ختمت الرسالات برسالة الإسلام إلى يوم الناس هذا كانت سمناً على عسل! ؟ وهل
يستطيع أن يرشد الناس إلى خط السلام المضيء الذي قابلت وعاملت به المسيحية
الإسلام في أي بلد جاورته فيه؟ ؛ وهل الراهب بطرس الذي أطلق صيحاته
المسعورة في جَنَبَات أوربا؛ يستعديها ويستنفرها (لاستنقاذ قبر المسيح من الكفار) ،
لأن الفرصة لائحة وقد لا تتكرر؛ لم يكن مسيحياً، بل علمانياً ملحداً من الهراطقة، قد حكم عليه (بابا روما) ومجلس الكرادلة بالحرمان لأجل ذلك؟ !!
…
...
بل هل كان قادة الحروب الصليبية من أمثال: فريديك بربروس الألماني،
وفيليب أوغست الفرنسي، وريتشارد قلب الأسد الإنكليزي، ولويس التاسع،
وغيرهم وغيرهم؛ نقول: هل كانوا ممن عوقبوا بالحرمان، وطردوا من رحمة
الكنيسة! ؟ ثم ما هذه المصطلحات: مشروع استعماري
…
مقاومة وطنية! .
هل كان مصطلح: (الاستعمار) قد خرج إلى حيز الوجود في ذلك الزمن
البعيد؟
وهل كانت كلمة (مقاومة) قد ترجمت وأقحمت في اللغة العربية إقحاماً متعمداً،
…
وأبعدت كلمة (الجهاد) وغيرها ذات المدلول والمفهوم الإسلامي عن طريقها، إرضاء لخواطر الغربيين وعبيدهم الذين يدين أمين جامعتنا العربية العتيدة لمرجعيتهم الموثوقة بالولاء! .
وهل كان لكلمة (وطن ووطنية) المدلول نفسه الذي ترسخ في وعي المسلمين خلال المائة سنه الأخيرة؟ !
أين المصطلحات التي لم تنهزم أمام زحوف الصليبيين السوداء، ولم تختف
وتغرق في وديان الدماء التي أراقها هؤلاء في استباحتهم كل مدينة إسلامية دخلوها
مصطلحات الجهاد في سبيل الله، والمرابطة في الثغور للدفاع عن حياض
الإسلام، تلك المصطلحات التي لم تستجلب استجلاباً من لغات اليونان واللاتين،
ولا من أدبيات الشرق والغرب، وإنما كانت نابعة من تراث هذه الأمة ومن دينها
وعقيدتها.
ليس عندنا شيء نقوله
…
وليس لنا تاريخ نرجع إليه ونستقي منه العلم
بالأحداث وفهمها وتحليلها، ولذلك فليس لنا إلا (المؤرخون الغربيون) ، وهم قد
حللوا - فيما حللوا - هذه المسألة، وحذروا من تصديق مقولة: أن الحروب
الصليبية هي صراع بين الإسلام والمسيحية! وعلينا أن نحذر، وإلا فالويل لنا إن
لم نحذر! ! .
وتكملة لتحليل المؤرخين الغربيين الأمناء فقد توصلوا إلى أن مشعلي الحروب
الصليبية كانوا متآمرين على عقيدة الصليب، خارجين على تعاليم الكنيسة، وما
هزموا إلا عقوبة لهم على ذلك! أليس من أعمدة تعاليم السيد المسيح (عليه الصلاة
والسلام) : من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر؟ ! .
إلى هذه النتيجة يجب أن ننتهي، وإلى مثل هذا التخريف ينبغي أن نصغي،
وبمثل هذا الفكر المريض نحس ذكرى حطين، أليست مناهجنا التعليمية تردد مثل
هذا الهراء وتحقنه دون بقية من خشية أو حياء؟ .
لا يصلح الناس فوضى لا سَرَاة [1] لهم ولاسراة إذا جهالهم سادوا
…
!
لقد كتب الكثير عن حطين وعن صلاح الدين، ولكن ما نود ترديده وتأكيده
في هذا المكان هو أن صلاح الدين سلك إلى النصر الطرق الصحيحة، وأعد الأمة
للمواجهة إعداداً متكاملاً فكان التفكير بالجهاد وإعداد العدة له يسير - جنباً إلى جنب - مع الإصلاح الداخلي لأحوال الأمة، فعدل كثير من الضرائب المضروبة بغير
حق، وأصلح فكر الأمة، فحارب العقائد الفاسدة التي تفتُّ في عضدها وتفرق
كلمتها، وشجع العلماء، وأشاع العدل.
وقد عكس مؤرخ معاصر للحروب الصليبية (وهو وليم الصوري) تخوف
الصليبيين واحترامهم لصلاح الدين في الوقت نفسه، وحسابهم الحسابات للمواجهة
معه فقال: (إن أي نمو في قوة صلاح الدين إنما هو مجلبة لتخوفنا، فهو رجل حكيم عند إسداء الرأي، مقدام في الميدان، وغاية في الكرم) .
ويلخص بهاء الدين بن شداد صاحب النوادر السلطانية مفتاح شخصية صلاح
الدين بقوله: (كان كل كلامه يدور حول الجهاد، وكل تفكيره منصباً على القتال،
…
ولم يكن يهتم إلا بمن حمل السلاح، ولا يعباً بأي شخص له مقاصد أخرى) .
فالفكر الجهادي هو الفكر الذي آمن به صلاح الدين، ولم يدر بخلده - بعد
الاحتلال الصليبي الطويل - أن يضع عن كاهله عبء الجهاد، ولم تحدثه نفسه أن
الأمة قد تعبت من الحرب، وأنه لابد من الاعتراف بالأمر الواقع، والتسليم بحقائق
الأمور، ولم يكن يحركه مثل هذا التفكير ليرسم الخطط ويتصالح مع العدو،
ويلتقي معه على موائد المفاوضات في منتجعات سرية، أو في ردهات قصوره! لا، فقد كان -كما وصفه أبو شامة- (
…
شديد المواظبة على الجهاد، عظيم الاهتمام
…
به، ولو حلف حالف أنه ما أنفق بعد خروجه إلى الجهاد ديناراً ولا درهماً إلا في
الجهاد، وفي الإرفاد؛ لصدق وبّر في يمينه، ولقد هجر في محبة الجهاد في سبيل
الله أهله وأولاده ووطنه وسائر ملاذه، وقنع من الدنيا بالسكون في ظل خيمة تهب
بها الرياح يمنة ويسرة) (الروضتين222) .
وكانت نظرته إلى الجهاد ليست نظرة مرهونة بالواقع الذي يحيط به، ولا
تمليها عليه المواجهة مع الصليبيين فحسب، بل هي نظرة مأخوذة من صلب العقيدة
الإسلامية في مراميها ومقاصدها ووسائلها = جهاد دائم لأعداء الله على كل أرض،
وحيث قدر الله له أن يكون. انظر إلى ما يفضي به إلى صديقه ومستشاره: (القاضي الفاضل) :
(متى يسر الله تعالى فتح بقية الساحل، قسمت البلاد وأوصيت، وودعت وركبت هذا البحر إلى جزائرهم، أتبعهم فيها حتى لا أبقي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت)[2] .
غاية واحدة، وهمة عالية، أين منها همم كثير من مدعي البطولات في هده
الأيام، الذين تقاصرت هممهم فلم تعد تتجاوز ظل كراسيهم المهزوزة، وانحصرت
اهتماماتهم في غايات ما أبعدها عن طرق العزة والمجد، ومما أقربها من الضياع
الشخصي والاجتماعي.
(1) السراة: جمع سري جاء على غير قياس: وهو الشريف الرفيع، أو هو اسم مفرد للجميع كنفر ورهط، وليس بجمع.
(2)
الروضتين، ص 222 نقلاً عن البيان /العدد السادس.
التجديد في الإسلام
(8)
الحركة التجديدية الحديثة
دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب
إذا كنا عرضنا لحال المجتمع المسلم منذ عهد عمر بن عبد العزيز، وحتى
عهد شيخ الإسلام ابن تيمية.. فيا ترى ماذا سنقول عن الحياة الإسلامية قبيل حركة
الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب؟
وإذا كان العالم الإسلامي منذ القرن التاسع قد تردى أكثر من أي وقت مضى
في الضعف والجهل والتقليد والتمزق فماذا عسى يكون حاله في القرن الثاني عشر؟
لقد وصل إلى وضعٍ أدق ما يوصف به أنه ردةٌ إلى الجاهلية الأولى في معظم
نواحي الحياة وتقديس للأضرحة والشيوخ والأولياء والأشجار، وصرف للعبادة
لغير الله.
ولعل من أبلغ ما وصف به حال العالم الإسلامي ما خطته براعة المؤرخ
الأمريكي (لوثروب ستودارد) في كتابه (حاضر العالم الإسلامي) حيث يقول:
(في القرن الثامن عشر كان العالم الإسلامي قد بلغ من التضعضع أعظم مبلغ، ومن التدني والانحطاط أعمق دركة، فاربدّ جوُّه، وطبقت الظلمة كل صقع من أصقاعه ورجا من أرجائه وانتشر فيه فساد الأخلاق والآداب، وتلاشى ما كان باقياً من آثار التهذيب
…
واستغرقت الأمم الإسلامية في اتباع الأهواء والشهوات، وماتت الفضيلة في الناس، وساد الجهل، وانطفأت قبسات العلم الضئيلة، وانقلبت الحكومات الإسلامية إلى مطايا استبداد وفوضى واغتيال، فليس يرى في العالم الإسلامي ذلك العهد سوى المستبدين الغاشمين.. يحكمون حكماً واهناً فاشي القوة متلاشي الصبغة، وقام كثير من الولاة والأمراء يخرجون على الدولة في حكمها وينشئون حكومات مستقلة؛ ولكن مستبدة كحكومة الدولة التي خرجوا عليها، فكان هؤلاء الخوارج لا يستطيعون إخضاع من في حكمهم من الزعماء هنا وهناك، فكثر السلب والنهب، وفقد الأمن..
وجاء فوق جميع ذلك، (رجال الدين) المستبدون يزيدون الرعايا إرهاقاً فوق
إرهاق، فغلت الأيدي، وقعد عن طلب الرزق، وكاد العزم يتلاشى في نفوس
المسلمين، وبارت التجارة بواراً شديداً، وأهملت الزراعة أيّما إهمال.
وأما الدين فقد غشيته غاشية سوداء، فألبست الوحدانية التي علمها صاحب
الرسالة الناس سجناً من الخرافات وقشور الصوفية، وخلت المساجد من أرباب
الصلوات، وكثر عديد الأدعياء الجهلاء، وطوائف الفقراء والمساكين يخرجون من
مكان إلى مكان يحملون في أعناقهم التمائم والتعاويذ والسبحات، ويوهمون الناس
بالباطل والشبهات، ويرغبونهم في الحج إلى قبور الأولياء، ويزينون للناس
التماس الشفاعة من دفناء القبور.
وغابت عن الناس فضائل القرآن، فصار يُشرب الخمر والأفيون في كل
مكان، وانتشرت الرذائل وهتكت سائر الحرمات على غير خشية ولا استحياء!
ونال مكة المكرمة والمدينة المنورة ما نال غيرهما من سائر مدن الإسلام، فصار
الحج المقدس.. ضرباً من المستهزآت.
وعلى الجملة فقد بُدِّلَ المسلمون غير المسلمين، وهبطوا مهبطاً بعيد القرار،
فلو عاد صاحب الرسالة إلى الأرض في ذلك العصر ورأى ما كان يدهي الإسلام
لغضب وأطلق اللعنة على من استحقها من المسلمين كما يلعن المرتدون وعبدة
الأوثان) [1] .
تجديد مدرسة الشيخ محمد بن عبد الوهاب:
في وسط هذا الجو المكفهر شاء الله أن تنطلق دعوة التوحيد من أرض
الجزيرة العربية كما انطلقت شرارتها الأولى منها، وكانت أرض الجزيرة - وبلاد
نجدٍ خاصة - أنسب البقاع لظهور الحركة التجديدية حيث بقيت هذه البقعة بعيدة
عن سيطرة الدول الكبرى آنذاك فلم يكن أحد يطمع فيها أو يلتفت إليها، وكان أهلها
من صفاء البادية وقوتها وحيويتها ما يحقق البقاء والنماء لهذه الدعوة المرتقبة.
فانطلق صوت الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب التميمي - المولود سنة
1115 هـ - منادياً بضرورة نبذ الشرك والعودة إلى نقاء التوحيد وصفائه والذي
كان عليه سلف هذه الأمة وأئمتها.
وكان الشيخ قد حصل على ثروة من العلم عظيمة وتميز بفهم ثاقب وغيرةٍ
متوقدةٍ جياشة، وقد فرغ لكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه الشيخ الإمام ابن القيم
رحمهما الله حتى استوعبهما وأتقنهما ووجد فيهما الفهم الصحيح لنصوص الكتاب
والسنة.
ومن ثم بدأ دعوته في حريملاء ثم في العيينة ثم في الدرعية مخاطباً فيها
جمهور الناس كما يخاطب رؤوسهم داعياً إلى نبذ البدع، وتحكيم الشرع، وإقامة
الكتاب والسنة، حتى حقق الله له ما أراد، وأقام كياناً سياسياً على أساس من تعاليم
الإسلام، بدأ في التوسع شيئاً فشيئاً، حتى استتم بلاد نجد كلها، ثم الحجاز، إلى
أن اصطدمت جيوش الدعوة الغضة بقوات محمد علي المجهزة بأحدث الوسائل
العصرية، فاخرت سير الدعوة ولكنها لم تستطع أن تحول بين أنوارها وبين
المسلمين.
ولقد كان لجهود الشيخ الشخصية ولمدرسته التي ربّاها على يديه أعظم الآثار
في الأمم الإسلامية منذ ذلك الوقت وإلى اليوم، ويعزو كثير من المؤرخين معظم
الحركات الإسلامية النقية في أفريقية والهند وغيرها إلى آثار تلك الدعوة المباركة.
ولقد استطاعت هذه الدعوة أن تحرر الأراضي التي وصلت إليها من ألوان
الشرك والخرافة وأن تعيد تعبيد الناس لربهم الحق، وتربيتهم على اتباع السنة
الغراء حتى نشأت من أولئك البدو الجهلاء الجفاة الذين عرفوا بالسلب والنهب وقطع
الطريق
…
جماعة مستقيمة على شرع الله، تغضب لله وتغار على حرماته،
وتتورع عن كل ما فيه أدنى شبهة، وتبذل النفس والنفيس في سبيل إعزاز هذا
الدين ونصرة دعاته.
وكان هؤلاء هم قوام الجيش الذي فتح بلاد نجد والحجاز وأغار على بعض
مناطق الخليج والعراق وفي عزمه أن يخضع العالم الإسلامي، لهذه الدعوة الربانية.
لقد استطاع الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن ينشئ دولة تحمي دعوته بالقوة،
وكان واضحاً أنه قد خطط لذلك وعرض على عددٍ من الأمراء حتى قبل الإمام محمد
ابن سعود رحمه الله، وناصر الدعوة الجديدة.
وبذلك ضمن الشيخ استمرار دعوته وقوتها وبقاءها، وأفاد من الأمن الذي
استتب، والوحدة التي قامت في نشر تعليمات الإسلام، وتربية الناس على المعتقد
الصحيح، وتحريرهم من لوثات الشرك والوثنية، وهدايتهم إلى خلق الإسلام
الصحيح في البر والتعاون والإحسان وكف الأذى وإكرام الضيف والعزوف عن
الدنيا وملذاتها، والحذر من المحرمات في الأموال والمآكل والمشارب حتى أصبح
رجالات الدعوة صوراً حية للإسلام يذكرون برجال خير القرون الأولى.
وانتشر العلم وكثر طلابه وأصبحت البلاد مثابة العلم والعلماء، واشتغل أئمة
الدعوة بشرح تعاليمها وأسسها ومبادئها والرد على مخالفيها وتفنيد شبهاتهم، حتى
نشأ عن ذلك حركة علمية إسلامية صافية.
ولقد كان من الآثار المباركة لهذه الدعوة أن فضحت البدع والخرافات
والمذاهب الضالة وحذرت المسلمين من الاغترار بها فهاجمت الرافضة والمتصوفة
والقبوريين وغيرهم من أهل التأويل والتعطيل.
وعموماً فقد جددت دعوة الشيخ ومدرسته دين الإسلام الذي بعث به محمد
صلى الله عليه وسلم والذي جدده العاملون المخلصون عبر التاريخ، فكان لها من
تجديد عمر بن عبد العزيز القوة الناتجة عن اعتماد الدولة للمنهج التجديدي، وكان
لها من تجديد الإمام أحمد بن حنبل ثم الإمام ابن تيمية محاربة ما شاع في العصر
من العقائد والبدع المخالفة، ونشر التوحيد الخالص، وتربية الناس على أخلاق
الإيمان.
ولم يكن تأثير الشيخ محصوراً في الزمان ولا في المكان، أما في المكان فإن
من المقطوع به أن ثمة خيوط واصلة بين دعوته وبين بعض المصلحين المجددين
خاصة في الهند وحسبك ما قام به الإمام الشيخ المجدد (نذير حسين الدهلوي) ، ثم
الشيخ (محمد بشير السهسواني) صاحب كتاب (صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ
دحلان) والذي ألفه للرد على (زيني دحلان) أحد علماء مكة في هجومه على الدعوة
الوهابية وإلصاق التهم بها [2] .
كما كان لها تأثير في غرب أفريقية وفي سومطرة وفي بلاد المغرب العربي، ولتعرف طرفاً من ذلك انظر المراجع المحال إليها في الهامش [3] .
أما في الزمان فإن الدعوة لم تكن طمعاً شخصياً ينتهي بنهاية حياة حامله، بل
كانت دعوة ربانية متجردة، ولذلك لم تحطمها الضربات الشرسة التي وجهت إليها،
ولا زالت تؤثر في وجدان الجماهير الإسلامية على الرغم من عداء كثير ممن
يجهلونها أو يتجاهلون حقيقتها.
ولازال المسلمون الواعون في الأرض كلّها يُعنون بدراسة آثار الشيخ
ومؤلفاته، وآثار أولاده وأحفاده وأتباعه، فيجدون فيها من تجريد التوحيد وحماية
حماه من الطرق والذرائع الموصلة إلى الشرك، وتوضيح شرك الأفعال وشرك
الألفاظ، وشرك الإرادة، وشرك العبادة مالا يجدون في غيرها.
ليس لأن الشيخ جاء بجديدٍ من عنده، ولكن لأن الدعوة التجديدية تعني بكشف
الجوانب التي تتسع فيها شقة الانحراف وتأكيدها تفاعلاً مع طبيعة الوضع الذي
تعايشه وتعالجه.
أما في بلاد نجد فلا يزال كثيرون - حتى من عامة الناس - يمتازون باليقظة
والحساسية في الألفاظ والعبارات، فلا يقولون شيئاً من الاستعمالات التي ورد النهي
عنها والتي أبرزها الشيخ في كتاب (التوحيد) ولا يرضون أن يسمعوها من أحد.
ولازال فيهم بقية من سلوك حسن أخذ مأخذ العادات المألوفة المتواضع عليها،
فهو يقاوم تيارات الانحلال التي تعصف عليهم من كل مكان بعض المقاومة.
(1) حاضر العالم الإسلامي، ترجمة: منيرا البعلبكي، تعليق: شكيب أرسلان، دار الفكر ج 1
ص259 ويلحظ في تعبيراته استعمال بعض الألفاظ التي لا نوافقه عليها.
(2)
انظر عون المعبود، الموضع المشار إليه في أول البحث، وانظر كتاب: المصلح المظلوم والمفترى عليه لمسعود الندوي، ص 56 - 86، ط اسنة1397.
(3)
كتب كثيرون عن أصداء دعوة الشيخ، وبالغ بعضهم واعتدل آخرون، وأهم المراجع هي:
* - حاضر العالم الإسلامي، ج1، ص2
* - بحوث مؤتمر الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ج2
* - مجلة (الفيصل) عدد15
* - تراجم الشيخ عامةً ومنها كتاب مسعود الندوي المشار إليه.