الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دراسات دعوية
رصيد الداعية
خالد أبو الفتوح
يعتقد بعض الشباب المتحمسين أنه يكفي لإقناع الآخرين بصحة دعوتهم أن
تكون الحجة جليّة واضحة وأن يكون البيان فصيحاً بليغاً، ولكنهم مع حرصهم على
إتقان ذلك قد يُفاجؤون بعدم استجابة مدعويهم، فيلقون التبعة من على أكتافهم ظانين
أنهم أدوا ما عليهم [وما على الرسول إلا البلاغ] و [ليس عليك هداهم، ولكن
الله يهدي من يشاء] ، ثم يحمّلون من كانوا محلاً لدعوتهم المسؤولية كاملة لعدم
استجابتهم للهدى؛ [بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم، فمن يهدي من أضل
الله؟] ، أو يسندون سبب إخفاقهم إلى محض المشيئة الإلهية [ولو شاء الله
لجمعهم على الهدى] [ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً] .
ولا شك أنه لا يخرج شيء عن المشيئة الإلهية، وأن الذين لم يستجيبوا
لوضوح الحجة وبلاغة البيان ليسوا بمنجى عن المحاسبة والسؤال، ولكن لا شك
أيضاً أن هؤلاء المتحمسين الطيبين لم يلتفتوا إلى غاية الدعوة التي لا تقتصر فقط
على إقامة الحجة لاستحقاق الجزاء، بل تهدف بالمقام الأول إلى إخراج الناس من
عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وإنقاذهم من غضب الله (تعالى) وناره إلى رضاه
وجنته؛ قال صلى الله عليه وسلم: إن مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاء ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها،
فجعل الرجل ينزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار وهم
يقتحمون فيها [1] ، وهذا المعنى هو ما وصف به الله (سبحانه) رسوله -صلى الله
عليه وسلم-؛ حيث يقول عز وجل : [لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه
ما عنتم حريص عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم] [التوبة: 128] .
وغالباً ما يكون دافع هؤلاء المتحمسين هو الإخلاص ومحبة رؤية الخير
منتشراً بين الناس، ولكن.. هل يكفي هذا الدافع للتنصل من المشاركة في مسؤولية
الإخفاق؟
إن المدقق في عناصر (عملية الدعوة) يخرج ولابد بأن قيام أمر الدعوة لا
يقتصر على إيضاح حجة وبلاغة بيان، فهما بالرغم من أهميتهما يشتركان جنباً إلى
جنب مع عناصر أخرى عديدة لإنجاح حجية البلاغ من قِبَل الداعي.
ومن هذه العناصر ما يمكن أن نطلق عليه: (رصيد الداعي) لدى المدعو،
ونعني بذلك: رصيده من الثقة في أمانته وعلمه والطمأنينة إليه، ليكون هذا
الرصيد مُوَطّئاً لاستجابة المدعو إذا أراد الله له الهداية، أو أبلغ في استحقاق النقمة
إذا انتكس وأبى إلا الغواية.
وهناك إشارات عديدة في الكتاب والسنة إلى هذا العنصر الهام في (عملية
الدعوة) ؛ فمن ذلك:
*ما جاء في قصة نبي الله يوسف:
[ودخل معه السجن فتيان، قال أحدهما: إني أراني أعصر خمرا، وقال
الآخر: إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه، نبئنا بتأويله إنا نراك
من المحسنين* قال: لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما،
ذلكما مما علمني ربي، إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم
كافرون] [يوسف: 3637]، فالملاحظ في الآية الأولى: أن الفتيين أقبلا على يوسف عليه السلام وهما في حالة تسليم بأمانته وإذعان لعلمه، ولكن هذا التسليم وذلك الإذعان لم ينشأ من العدم، بل كانا نتيجة ما رأوه من إحسان يوسف عليهم؛ [إنا نراك من المحسنين] ، وإذا تنبهنا إلى أن هذين الفتيين كانا على ملة الكفر لأدركنا أن الإحسان المقصود عندهم ليس هو الإحسان بالمصطلح الشرعي، ولكنه إحسان بالمعنى الذي تعارف عليه جميع الناس وهو فعل ما اتفقت العقول السديدة والفطر السليمة أنه حسن، ويلزم لنا أن نتخيل ما هي حياة السجون حتى نعرف قيمة الإحسان إلى الآخرين فيها، سواءً أكان إسداء جميل، أو بذل نصيحة، أو اهتمام عام بأمر الآخرين في مثل هذه المحنة [2] .
وبعبارة أخرى نستطيع القول: إنه للوصول إلى هذه الثقة وهذا التسليم
والإذعان، فقد حدثت (عملية تفاعل اجتماعي إيجابي) بين يوسف عليه السلام
والمسجونين الآخرين، وذلك من خلال شبكة اجتماعية مصغرة كونها يوسف (عليه
السلام) مستغلاً قنوات الاتصال المتاحة والرابطة الاجتماعية الواقعية رابطة إحساس
السجين بالقهر.
وفي الآية الثانية: نلاحظ أن يوسف عليه السلام استثمر الموقف استثماراً
كاملاً، وقطف الثمرة في أوانها؛ فإنه لما رأى إتيانهما إليه واثقين فيه مسلّمين
بأمانته مذعنين لعلمه، أكد عليهما ما وقر في نفوسهما بأنه أهل لهذه الثقة ومحل
لهذا العلم مما يؤكد أهمية هذا العنصر في الدعوة، ثم أسند كل هذا الفضل إلى ربه، وبدأ عرض دعوته في وضوح وجلاء ويسر وسهولة.
*وما جاء في قصة موسى عليه السلام مع القبطي والإسرائيلي:
حيث يقول الله عز وجل : [فلما أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما،
قال: يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس؟ ، إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين.] [القصص: 19] ، فاحتجاج القبطي بعدم ملاءمة هذا السلوك من موسى عليه السلام مع دعوى الإصلاح يدل على أن موسى عليه السلام كان معروفاً عنه أنه صاحب دعوة إصلاحية قبل نبوته؛ يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله : أما بقية عبارته [إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض، وما تريد أن تكون من المصلحين] .. فتلهم أن موسى كان قد اتخذ له في الحياة مسلكاً يُعرف به أنه رجل صالح مصلح، لا يحب البغي والتجبر، فهذا القبطي يذكره بهذا ويورّي به، ويتهمه بأنه يخالف عما عرف عنه، يريد أن يكون جباراً لا مصلحاً، يقتل الناس بدلاً من إصلاح ذات البين وتهدئة ثائرة الشر [3] ولعل هذا المسلك كان تمهيداً للدعوة الكبرى التي جاء بها موسى عليه السلام بعد إرساله بالنبوة.
*وفي قصة نبي الله صالح عليه الصلاة والسلام :
يقول الله (سبحانه) حاكياً عن قوم صالح: [قالوا: يا صالح قد كنت فينا
مرجواً قبل هذا
…
] (هود: 62)، جاء في محاسن التأويل:
…
أي: كانت
تلوح فيك مخايل الخير وأمارات الرشد، فكنا نرجوك لننتفع بك وتكون مشاوَراً في
الأمور، ومسترشداً في التدابير، فلما نطقت بهذا القول انقطع رجاؤنا عنك وعلمنا
أن لا خير فيك [4] . وهذا من أبلغ التناقض في منطق الكافرين، إذ إن اعترافهم
بأن صاحب الدعوة هو الذي كان يُعد للخير والرشد فيهم لما ظهر عليه من أمارات
ذلك كان يقتضي تسليم قيادهم له وإذعانهم لدعوته، ولكنهم ارتكسوا وكفروا به
وبدعوته.
*وفي سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم أوضح الدلالات
على أهمية (رصيد الداعية) :
حيث يقول الله (سبحانه) : [قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به،
فقد لبثت فيكم عمراً من قبله، أفلا تعقلون؟ !] [يونس: 16] ، ففي قوله [أفلا
تعقلون] توبيخ شديد لهم وتسفيه لعقولهم؛ لأنهم لم يلتفتوا إلى قوة الحجة الملزمة
لهم، وذلك أنهم شهدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما يوجب تصديقه
والإيمان به، ولم يكن ذلك عن موقف واحد أو أكثر، بل كان على امتداد عمره -
صلى الله عليه وسلم مما يكون أبلغ وأوكد في الإلزام بالحجة؛ يقول ابن القيم
رحمه الله :
…
الحجة الثانية [في الآية] : أني قد لبثت فيكم عمري إلى حين
أتيتكم به، وأنتم تشاهدونني، وتعرفون حالي، وتصحبونني حضراً وسفراً،
وتعرفون دقيق أمري وجليله، وتتحققون سيرتي
…
ثم جئتكم بهذا النبأ العظيم الذي
فيه علم الأولين والآخرين، وعلم ما كان وما سيكون على التفصيل، فأي برهان
أوضح من هذا؟ ! [5] .
وقد استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الرصيد لديهم، وأكد عليه، بل استنطقهم به، وذلك عندما جهر بالدعوة إليهم كافة، فقد قال لهم -صلى الله
عليه وسلم- بعد أن اجتمعت بطون قريش على جبل الصفا إثر دعوته لهم بالحضور: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقيّ؟ قالوا:
نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً، قال: فإني نذيرٌ لكم بين يدي عذاب شديد [6] ،
فقد أبى صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى الدعوة الجديدة عليهم قبل أن
يستخرج منهم رصيد الثقة فيه.
وهذا الهدي النبوي من نور الوحي القرآني؛ حيث كان إيذان التحرك العلني
بالدعوة هو قوله (تعالى) : [وأنذر عشيرتك الأقربين][الشعراء: 214] ، فإن
(العشيرة الأقربين) أدعى إلى الثقة فيمن هم يعرفون سيرته ويخبرون طويته لما
بينه وبينهم من صلة القربى والنسب، ولا شك أنه لابد لبناء هذا الرصيد من كمال
في المحاسن وسلامة من النقائص وحضور ومتابعة في الواقع، وتتراكم آثار كل
ذلك لصنع هذا الرصيد لدى المدعوين، وهذا ما تشهد به سيرة المصطفى -صلى
الله عليه وسلم-.
*وهذا ما نشاهده في قصة الصحابي نعيم ابن النحام:
حيث رُوي أنه حين أراد أن يهاجر جاءه قومه بنو عدي، فقالوا له: أقم
عندنا وأنت على دينك، ونحن نمنعك ممن يريد أذاك، واكفنا ما كنت تكفينا وكان
يقوم بأيتام بني عدي وأراملهم، فتخلف عن الهجرة مدة ثم هاجر بعد ذلك [7] ،
فنعيم رضي الله عنه كان له من أعمال الخير لدى قومه ما جعله أحد المكونات
الرئيسة لنسيج مجتمعه، بحيث يتهتك هذا النسيج إذا تخلى عن أفراد مجتمعه، فلا
يستطيع هؤلاء الاستغناء عنه، مع استطاعته هو تركهم والهجرة عنهم، أو
استغلال هذه المكانة وهذا الرصيد في الدعوة لما يؤمن به دون أن يكون عنصراً
بنّاءً لدعوى الجاهلية في المجتمع الذي يعيش فيه.
*معالم أخرى:
هذا.. وقد يستدعي الداعية ما تركه دعاة آخرون من رصيد محفور في أذهان
المدعوين الجدد مستفيداً من ظلال المواقف الناصعة والدعوة الواضحة لهؤلاء الدعاة، معتبراً نفسه امتداداً طبيعيّاً لهم وإن باعدت بينهم السنون والأيام؛ وذلك كما فعل
ونطق مؤمن آل فرعون: [ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات، فما زلتم في شك
مما جاءكم به، حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا، كذلك يضل الله من
هو مسرف مرتاب] [غافر: 34] ، فلقد اقتبس مؤمن آل فرعون الذكرى الطيبة
ليوسف عليه السلام ؛ ذكرى العفة والعلم والأمانة والكفاءة، مذكّراً إياهم بوضوح
سابق دعوته، فلقد جاءهم (بالبينات) ليربط بينه وبين صاحب الدعوة المعاصر لهم
موسى عليه السلام الذي [جاءكم بالبينات من ربكم][غافر: 28] ، كما أوضح
المؤمن لهم من قبل، فهو يربط بين الداعيين نسباً ودعوة لتكون محصلة الدفع
النهائية في أقوى صورها.
فعلى ذلك يستطيع المسلم توظيف (الرصيد الإيجابي الجمعي للدعوة) في
دعوته الآخرين، كما يحسن له أن يشارك في بناء رصيد الثقة لدى آخرين قد لا
يستطيع دعوتهم ليأتي مسلم آخر فيستثمر هذا الرصيد مباشرة حين تحين فرصة
الدعوة.
وكما أنه قد يُستدعى رصيد الدعوة لصالح داعية ما، فإنه قد يبدده أفراد
منتسبون إلى الدعوة، وذلك بسوء سلوكهم الشخصي أو الدعوي أو عدم اتباعهم
للحكمة في الدعوة، كما يحدث أحياناً في واقعنا المعاصر، فعلى المسلم الواعي أن
يحرص ألا يكون معول هدم لما شيده الآخرون إذا لم يستطع أن يكون لبنة في
صرح الدعوة المباركة.
(1) أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد.
(2)
لك أن تتأمل قوله (تعالى) : [ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم][فصلت: 34] ، لتعرف أثر الإحسان إلى الآخرين في كسب حبهم وولائهم.
(3)
في ظلال القرآن، م5، ص2684.
(4)
محاسن التأويل للشيخ محمد جمال الدين القاسمي، ج9، ص145.
(5)
بدائع التفسير، جمع يسري السيد محمد، ج2، ص395.
(6)
أخرجه البخاري ومسلم وأحمد، وانظر الرحيق المختوم، ص79، ط مكتبة السلام.
(7)
انظر المغني لابن قدامة المقدسي، ج2، ص868.
خواطر في الدعوة
أنماط التفكير
[3]
محمد العبدة
جاء الإسلام والإنسان العربي يملك صفات إيجابية فطرية تساعده على حمل
الرسالة، كما أن فيه صفات سلبية تحول دون ذلك، فكانت آيات القرآن تتنزل
لتصوغ شخصية المسلم صياغة أخرى تذهب عنه أوضار الجاهلية ومفاهيمها،
وعاداتها وتقاليدها.
جاء الإسلام والعربي يغضب لكلمة، ويثور لحادثة بسيطة، فيكون من ورائها
القتال والدمار، وكانت الآيات القرآنية تطلب من المسلمين الصبر وعدم رد العدوان
حتى يأذن الله وحتى يتمكن المسلمون في الأرض، وتحول العربي المسلم إلى
شخصية متماسكة متوازنة يغضب في محل الغضب، ويرضى في محل الرضا،
ولا يتصرف ضمن دائرة الفعل ورد الفعل، ولا يستطيع أعداؤه التلاعب به
بالضغط على مكامن الضعف فيه.
انتشر الإسلام في الآفاق، وكانت هذه التوجيهات تؤثر في شخصية المسلم من
كل جنس ولون بعد أن صاغت شخصية العربي، ولكن الناس لم يثبتوا طويلاً على
هذا المنهج الرباني، فعاد فريق منهم لطبيعته أو لبيئته الثقافية التي تربى فيها على
ردود الأفعال وعلى التعصب لما ألفه، فعندما ظهرت فرقة الخوارج بغلوها
وضلالها وتشددها كانت ردة الفعل أن ظهر الإرجاء والتساهل في أمر الدين،
وأصبحت الأوامر والنواهي التي طالب الله بها عباده وكأنها لعالم آخر، وعندما
ظهر الاعتزال والانحراف عن المنهج الوسط، وحكّموا العقل في النص الموحى به، كانت ردة الفعل أن وُجد من لا يريد للعقل أن يمارس دوره الطبيعي، ووجد من
ينفي الحكمة عن نصوص الشرع ويبتعد عن التفكر في أمر الله الكوني والشرعي،
بل ظهر من يلغي العقل تماماً ويعتبر أن مصدر المعرفة هو الرؤى والذوق
والإشراق، وعندما تفشى الترف والإسراف وحب الدنيا في المجتمع الإسلامي كان
رد الفعل: الزهد البارد والزهد السلبي الذي أضر بالمسلمين ضرراً بالغاً.
وهكذا أصبحنا نعيش علمياً وثقافياً بل وسياسياً على ردود الأفعال، ولا نفكر
فيما ينفعنا في ديننا ودنيانا تفكيراً هادئاً مستقلاً، ولقد نشأت في هذا العصر تجمعات
إسلامية تدعو إلى الله، قد تصيب وقد تخطأ، ولكن بعض المسلمين مازال
يتصرف ضمن دائرة ردود الأفعال، فإذا وجد خطأ عند إحدى هذه الفصائل فيجب
أن يخالفها في كل صغيرة وكبيرة، ويعمل بعكس ما تعمل ولو كان عملها صواباً،
وتجده دائماً في حالة تشنج وضيق صدر، فيقع منه الظلم والغبن لإخوانه، وتقوم
المعارك الكلامية التي لا فائدة منها، فإلى متى تبقى شخصية المسلم شخصية
انفعالية مزاجية سريعة التقلب، لا يعرف إلا طَرَفَي القضية، فإذا لم تكن معه فأنت
ضده، وإني لأظن أن من أسباب هذا التمزق في الشخصية عدم وضوح أو تحديد
الغاية والهدف من الأعمال التي نريدها، وبالتالي: عدم وضوح الأسباب المؤدية
إلى هذه الغاية.
إن أعداءنا يعلمون هذا منا، فيقومون ببعض الأفعال ليكون رد الفعل مناسباً
لهم، وإذا لم نتمكن من وحدة التفكير ووحدة الهدف، فسيكون الأمر كما قيل: كلٌ
يغني على ليلاه.
هموم ثقافية
التنمية بين المشروع الحضاري الغربي
والمشروع الحضاري الإسلامي
(2)
أ. د. نبيل السمالوطي
تحدث الكاتب الكريم في الحلقة السابقة عن الفرق بين منطلقات المشروع
الحضاري الغربي والمشروع الحضاري الإسلامي، وبيّن مفهوم الحضارة وفضل
المسلمين فيها، ثم بيّن أهم جوانب الاختلاف بين المشروعين، وأوضح من هذه
الجوانب: الموقف من الكون والحياة، والنظرة إلى الطبيعة الإنسانية، والموقف
من مصادر المعرفة ومصادر التوجيه.. ويواصل الكاتب في هذه الحلقة بيان
جوانب أخرى من الموضوع.
الجانب الرابع: من جوانب الصراع بين المشروع الحضاري الغربي
والمشروع الحضاري الإسلامي يتمثل في الموقف من العلم والعالم [1] ؛ فالعلم
المادي التجريبي في المشروع الغربي هو المصدر الأساس والوحيد للسيطرة على
البيئة، وهو المصدر الوحيد للرفاهية والرزق والتقدم، فالإمكانات في العالم هي
الإمكانات المادية التي يمكن حسابها ومشاهدتها وإخضاعها للبحث العلمي الواقعي
من خلال الحاسبات الآلية، والعلم هو السبيل الوحيد للتنمية والتقدم، ولا شيء
خارج العلم والعالم المحسوس، وهذا يعني: أن منطلقات العلم وآلياته وأهدافه تدور
في دائرة المادية والعلمانية والنفعية والقدرة البشرية لاغير.
وفي المقابل نجد أن المشروع الإسلامي يرفع من مكانة العلوم الشرعية
والتجريبية ويعدها جميعاً علوماً إسلامية، طالما أن المسلم مكلف بالنظر والبحث
والتجريب، وطالما أنها تصدر عن عقل بشري مخلوق لله (تعالى) ، وطالما أنها
تبتغي الوصول إلى الحقائق (العلوم الشرعية) أو إلى القوانين أو السنن التي تحكم
ظواهر وحركات الكون والإنسان والمجتمع والتاريخ، وهي في النهاية سنن الله في
خلقه. وهذا يعني: أن الاهتمام بالعلوم الشرعية والتجريبية في المشروع الإسلامي
يعد مطلباً دينياً يتصل بالعقيدة ذاتها، فطلب العلم فريضة، ويجب أن يكون
المجتمع المسلم هو الأقوى مادياً لإنفاذ رسالة الإنسان على الأرض، وهذا لن يتأتى
إلا بالتقدم العلمي والتقني، ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب، غير أن العلم
التجريبي في نظر الإسلام ليس قادراً على كشف وتفسير كل أسرارالكون والإنسان، وهذا العلم يجب أن يوضع في حجمه الحقيقي وأن يوجه لنفع الإنسان، وهذا
يعني: أن هناك ضوابط عقدية وأخلاقية تحدد منطلقات العلم التجريبي وآلياته
وأساليب الاستفادة منه وتوجيه نتائجه. والمشروع الإسلامي لا يعد العلم هو الوسيلة
الوحيدة للسيطرة على البيئة أو استثمارها، ولا يعد الإمكانات المنظورة التي يكشف
عنها العلم هي الإمكانات الوحيدة المتاحة للإنسان وللعالم، فهناك سنن الله التي لا
تتخلف، وهناك عنصر البركة الإلهية والفتوحات الربانية والرزق الإلهي والأرزاق
المخبوءة التي لا ندركها، والتي ترتبط بالإيمان والتقوى؛ قال (تعالى) : [ولو أن
أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض]
[الأعراف: 96] وإلى جانب عامل البركة هناك عامل فضل الله وتنزيله الرزق على العباد؛ [والله يرزق من يشاء بغير حساب][البقرة: 212] وهناك عامل الطمأنينة وهي نعمة لا يمكن للعلم وحده أن يحققها قال (تعالى) : [الذين آمنوا
وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب] [الرعد: 38] .
وهذا يعني أن المشروع الغربي بركونه إلى العلم المادي البشري أسقط عدة
أمور؛ أهمها أنه أسقط السنن الإلهية الماضية في المخلوقات، وأسقط قدرة الله
وقدره، وأسقط عاملي الاطمئنان والبركة الإلهية، وأسقط التوجيه الأخلاقي لنتائج
العلم ولمساراته ومضامينه وفق المنهج الإلهي، وهذه الإسقاطات أدت إلى شقاء
الإنسان في ظل مجتمع الوفرة والتقدم العلمي والتقني، وكأن وظيفة العلم هي زيادة
كمية المتعة والرفاهية المادية فقط، وهنا ينطبق على المؤمن بهذه الفلسفة قوله
(تعالى) : [والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، والنار مثوى لهم]
[محمد: 12] .
والعلم في المشروع الحضاري الإسلامي يرتبط بالمسخرات الكونية من جهة،
ويرتبط بقدرات الإنسان وفعالياته من جهة أخرى، ويرتبط بأساليب الانتفاع بهذه
المسخرات من جهة ثالثة، فإذا كانت علاقة الإنسان بالبيئة هي علاقة تسخير
وليست علاقة صراع كما صورها الغرب، فإن المسخرات الإلهية التي هيأها الله
للإنسان على قسمين:
الأول: مسخرات يحصل عليها الناس في كل زمان ومكان دون جهد كالماء
والهواء.
الثاني: مسخرات تتطلب جهداً بشرياً للانتفاع بها وفهم قوانينها وتوظيفها في
خدمة الإنسان والمجتمع، وهذه يتطلب الانتفاع بها: التعليم والبحث العلمي والعمل
والتطبيقات التقنية والصناعية، وهذه المسخرات الكونية أتاحها الله لجميع خلقه
مؤمنين وكافرين، فالكون ليس متحيزاً للمسلم وليس موجهاً ضد الكافر، فعطاء الله
في المجال المادي للجميع؛ [كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك، وما كان
عطاء ربك محظورا] [الإسراء: 20] ، فالله سبحانه وتعالى يمكّن للجميع،
وهناك فرق كبير بين تمكين الله للمؤمنين وتمكينه للكافرين، فالأول تمكين رضاً
وقبول في الدنيا والآخرة، والثاني تمكين استدراج ولا يكون إلا في الدنيا فقط،
وكل أنواع التمكين يتطلب جهداً فاعلاً ومؤثراً من جانب الإنسان [2] .
الجانب الخامس: من جوانب الخلاف بين المشروع الحضاري الغربي
والمشروع الحضاري الإسلامي يتمثل في تحديد محركات الحياة البشرية
والاجتماعية؛ فالمشروع الغربي يؤكد على المجتمع التنافسي وعلى الديموقراطية
والحرية الفردية، أو على تعددية الصراع في الاقتصاد والسياسة والاجتماع
والتربية، وهم في هذا ينطلقون من أن الموارد نادرة وقد تم إحصاؤها في العالم من
خلال العلم، وأن زيادة السكان عقبة تواجه باستمرار عمليات التنمية والتطوير،
وأن البقاء للأقوى مادياً، ويجب استمرار التنافس والصراع كآليات لتحقيق التقدم.
وهذا التنافس الصراعي ملاحظ على مستوى الأسرة والمجتمع في الغرب،
كما أنه ملاحظ على مستوى العلاقات الدولية بين دول الشمال والجنوب أو الدول
الغنية والفقيرة (محاولات السيطرة وفرض سياسات وثقافة الغرب على الدول النامية، وافتعال الأزمات لترويج تجارة الأسلحة، ومحاولة الضغط لتوجيه معدلات التبادل
التجاري العالمي لصالحهم، والحصول على المواد الخام بأبخس الأسعار،
واستخدام آليات الديون والقروض والتسليح والخبرات العلمية ونقل التقنية
والإعلام.. لخدمة أهداف الغرب المادية..) .
وفي المقابل فإن المشروع الإسلامي يؤكد على المجتمع التراحمي الذي ينطلق
من قوله (تعالى) : [إنما المؤمنون إخوة][الحجرات: 10] وقوله -صلى الله
عليه وسلم-: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه [3] ، مجتمع
الشورى والعدل والمساواة والتنافس الشريف في كل مجالات الخير والعطاء
والإنتاج، والمشروع الإسلامي يؤمن بالأسباب وبالعلم وبقدرة العقل على الفهم
والتفسير والإحصاء والتحليل والتركيب، لكنه يؤكد أن العقل والقدرة البشرية
محدودان، فهما لا يستطيعان حصر كل خيرات الأرض، فهناك مصادر أخرى
للطاقة وللغذاء سوف يتم اكتشافها، والأرض لا يمكن أن تضيق بسكانها لأن الله هو
الرزاق ولأنه هو (سبحانه) الذي بارك فيها وقدر فيها أقواتها، قال (تعالى) : [..
إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين] [الذاريات: 58]، وقال (تعالى) : [..
وبارك فيها وقدر فيها أقواتها] (فصلت: 10) وهذا يعني أن افتراض المشروع
الغربي أن الإنسان قادر على اكتشاف كل إمكانات الأرض، فرض لم يثبت صحته
على المستوى الديني، وأيضاً على المستوى العلمي التجريبي فكل يوم تكتشف
مصادر جديدة للغذاء والطاقة، وكل يوم يتم اكتشاف حقائق علمية وتطبيقات تقنية
تسهم في زيادة استفادة الإنسان من البيئة واستثمار معطياتها بشكل أفضل، الأمر
الذي يزيد مصادر الغذاء والكساء والطاقة ومختلف الموارد، وفوق هذا كله:
العطاء الإلهي والبركة وتوفيق الله، وهي عوامل لا يمكن حسابها من خلال الآليات
البشرية كالكمبيوتر، وعلى عكس المشروع الغربي: فإن المشروع الإسلامي لا
يربط التخلف بزيادة السكان، ولا يرى في هذه الزيادة معوّقاً حتمياً للتنمية،
فالقضية يتم النظر إليها من مناظير متعددة؛ فالسكان هم طاقة اقتصادية ومورد
أساسي من الموارد النادرة، وعامل رئيس من عوامل الإنتاج، بشرط حسن
استثمارها وتوجيهها وتوظيفها من خلال برامج التعليم والتربية والتدريب والإعلام،
وما تزال المناطق الصحراوية ومناطق الغابات والأراضي القابلة للزراعة تمثل
غالبية أراضي الدول التي تعاني مما يطلق عليه الانفجار السكاني، وما تزال في
هذه الدول طاقات وإمكانات وموارد يمكن استثمارها إذا أحسن استثمار وتوجيه
الطاقات البشرية، وهناك الإمكانات غير المحدودة للبحار والموارد المائية وهناك
العجز في استيعاب التقنية، والعجز الأكبر في استنباتها وتطويعها للبيئات المحلية،
وهذا يعني أن العديد من الدول تخلق مشاكل سكانية لنفسها (بطالة جرائم تضخم
زيادة نسبة الإعالة زيادة استهلاك إجهاض برامج التنمية
…
إلخ) لا بسبب كثرة
السكان ولكن بسبب سوء التخطيط في الموارد البشرية وهجرة العديد من الكفاءات
العلمية والفكرية بسبب عدم تقديرها واستثمارها بشكل علمي مخطط، وعدم كفاية
النظريات التعليمية والتدريب، يضاف إلى هذا: أن هناك دولاً تعاني من نقص
الموارد البشرية وتقبل الهجرات وتضع عليها العديد من القيود، وهنا لا تصبح
المشكلة مشكلة زيادة في السكان، وإنما مشكلة توزيع وتنظيم للهجرة سواء الداخلية
أو الخارجية أو العالمية، وهذه ترتبط باعتبارات سياسية واجتماعية واقتصادية،
وحتى على مستوى الدول الإسلامية والعربية، فأغلب الدول باستثناءات قليلة مثل
مصر والجزائر.. تعاني من قلة سكان، وحتى هذه الدول المستثناة فإن الإشكالية
فيها في نظر بعض الباحثين هي تراجع معدلات التنمية وعدم كفاءة الاستثمارات
المادية والبشرية، وهناك تجارب تثبت أن أكبر الدول سكاناً هي أعلى الدول في
معدلات التنمية، والدليل على هذا أن معدل التنمية في الصين يصل إلى 13%
وهو أعل من معدلات التنمية في الكثير من دول الغرب.
وقد عالج بعض الكتاب هذه القضايا بشكل جيد مثل فهمي هويدي في مقالاته
بالأهرام القاهرية [4] التي أورد فيها تأكيد الأكاديمية الإفريقية للعلوم في بيانها
بمناسبة الدعوة إلى المؤتمر الدولي للسكان والتنمية الثالث في القاهرة في أغسطس
الماضي، أن السكان من أهم عناصر التنمية في إفريقيا، وأن محاولة تخفيض
معدلات نموهم يؤدي إلى إهمال موارد القارة وعدم الانتفاع بها.
وإذا ما انتقلنا إلى الديموقراطية في المشروع الغربي والشورى في المشروع
الإسلامي، نجد فروقاً جوهرية في العديد من الأمور، منها: حدود الديموقراطية،
والضوابط والمعايير أو الثوابت التي يجب الالتزام بها، وآليات تحققها، ونوعية
الأشخاص الذين لهم حق إبداء الرأي، فإذا كان الاثنان يتفقان في بعض الأهداف
مثل المشاركة وتجنب الاستبداد وتحقيق المصالح العامة، فإن المجتمع الغربي في
غيبة الثوابت الأخلاقية الفطرية يضل الطريق ويقنن الانحراف والفساد والضلال
في بعض المجالات الحياتية.
*ملاحظات ختامية:
وفي نهاية هذا العرض الاجتهادي أود أن أطرح بعض الملاحظات الختامية،
وهي:
أولاً: يجب التمييز بين معطيات المشروع الحضاري، وبين معطيات الواقع
الممارس، فالمشروع الحضاري الإسلامي كما عرضت له يُستمد في جانب الثوابت
من المصادر الشرعية، وفي جانب الاجتهاد من رؤية كل مجتهد، وهناك فرق بين
هذا المشروع الذي طبق فعلاً في بعض العصور مثل العصر النبوي وعصر الخلافة
الراشدة وبعض العصور الأخرى، وبين واقع المسلمين كما نراه اليوم، وبالمثل:
فإن هناك فروقاً كبيرة بين القيم الإنسانية المهمة المعلنة للمشروع الغربي مثل
تحرير الإنسان، وتحقيق المساواة بين البشر بغض النظر عن الاختلافات العرقية
واللونية والطبقية والمجتمعية، والمناداة بحقوق الإنسان، وضرورة المشاركة في
المسؤولية والقرار، وتداول السلطة
…
إلخ، وبين واقع التطبيق سواء أكان ذلك
داخل مجتمعات الغرب أو في علاقاتها مع مجتمعات العالم الثالث، أو حتى في
علاقاتها مع بعضها البعض.
ثانياً: أن كل جوانب التقدم العلمي والتقني، والتقدم في بعض مجالات التقنية
الاجتماعية كالتخطيط والتنظيم والإدارة والتسويق
…
في الحضارة الغربية، تنطلق
من الأخذ ببعض القيم الإلهية الداعية إلى العلم والتعليم والعمل والإنتاج والاستثمار
وتعمير الأرض
…
إلخ، وهذه القيم سبق إليها الإسلام وطبقها المسلمون في بعض
العصور، فسادوا العالم وفتحوا آفاقاً واسعة في كل مجالات الفكر والعلم، وهي
ذاتها القيم التي عندما تركها المسلمون وقعوا في أسر التخلف والسيطرة الأجنبية
والتبعية للغرب.
ثالثاً: هناك أوجه إيجابية وأخرى سلبية في المشروع الغربي، وهناك أوجه
التقاء وأوجه اختلاف مع المشروع الإسلامي؛ وعلى سبيل المثال: هناك بعض
جوانب الاتفاق والاختلاف في الموقف من العلم والإنتاج والتقنية والمشاركة
والوقت
…
بين المشروعين الحضاريين المذكورين، وهناك أيضاً تفاعل إيجابي بين المشروعات الحضارية، وقد كانت الحضارة الإسلامية أكثر الحضارات انفتاحاً وتفاعلاً مع الحضارات الأخرى المختلفة، ابتداءً من قبول الرسول صلى الله عليه وسلم لتقنية حفر الخندق، وقيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه بتدوين الدواوين، ومروراً بعصر النهضة العلمية في العصور الإسلامية المتعاقبة وحتى اليوم، فتقبل كل ما يتلاءم مع مقاصد الإسلام.
رابعاً: كل الأفكار والنظريات والمداخل والمدارس المطروحة في مجال
التنمية تنبثق بشكل أو بآخر من خلفيات معينة هي التي تشكل أساسيات مشروع
حضاري معين أو آخر، ولهذا تتباين النظريات والمداخل والمدارس.
(1) يحيى هاشم حسن: الإسلام والاتجاهات العلمية المعاصرة: دار المعارف، مصر، 1984، ص164 وما بعدها.
(2)
محمد قطب: حول التفسير الإسلامي للتاريخ.
(3)
أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب: من الإيمان أن يحب لأخية ما يحب لنفسه، وأخرجه مسلم، كتاب الإيمان، ح/71، 72.
(4)
فهمي هويدي: هوامش على مؤتمر السكان والتنمية: الأهرام القاهرية، أغسطس 1994 ص9.