الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قصة قصيرة
عبد الإله وحبات الرمل
علي محمد
لم يكن للمساءات نكهة حاذقة المرارة في حلق عبد الإله مثلما كان ذلك المساء، فقد اقتحمته المرارة من أذنيه وكل حواسه طوال النهار، فانسكبت في قلبه، ومن
ثم: إلى كل جسمه، حتى إنه عندما وضع طرف إصبعه في فمه كالعادة ليشعر
بالمرارة أكثر، وجد أن لسانه أشد مرارة من إصبعه.
التفت وراءه ليرى بقايا أضواء الشارع الأخير وهو يتجه إلى الصحراء لعله
يبوح لها بآلامه، وانتابه شعور بالمرارة طالما راوده وهو يتأمل ذلك الشارع
الأصفر الذي يحيط بالمدينة من كل جانب.
إنه بالنسبة له ولأمثاله لا يعدو كونه قيداً من نار يقيد المدينة ومن بداخلها،
ويمنع في ذات الوقت خروج آهاتهم أو دخول الفرح إليهم، فكان حاجزاً من النار
يخنق أنفاس المدينة وأسرارها، وتذكر وهو يلقي عليه النظرة الأخيرة أنه قرأ ذات
مرة عن ذلك الشارع أنه الحزام الذهبي الذي يزين خصر المدينة النائمة على تلال
الرمال الناعمة، فتفجر في رأسه سؤال عاصف: لماذا يرونه كذلك وهو لا يراه؟
حاول تناسي ذلك السؤال، وأدار رأسه تجاه الصحراء، واستنشق كمية كبيرة
من هوائها الذي ظن أنه نقياً لعله يزيل ما بداخله من أتربة المدينة الممتزجة برائحة
عرق المسحوقين وبعض الدم الذي يقطر من قلبه، ولعله يقتلع في طريقه أشجار
القهر التي نمت بداخله، ليقذف بها على تلك الوجوه المتأنقة رغم بشاعتها الفاضحة.
واستنشق مرة أخرى، لكن كل ذلك لم يحقق له ما كان يحلم به، فتمتم
بكلمات لم يفهمها هو نفسه.
وتساءل مرة أخرى: لماذا اختار الصحراء بالذات لتكون مستقر أسراره
وراحة نفسه؟ ، وسرعان ما تذكر كلام جاره سعيد؛ بأنها مليئة بالأسرار، وتَمثل
أمام ناظريه في تلك اللحظة ظهر جاره المنحني انحناءته العجيبة التي حيرته، فهي
لم تكن بسبب كبر سنه، وليست لمرضه، وكثيراً ما يهرب جاره من الأسئلة حولها، لابد أن خلفها ما يخشى أن يتحدث عنه ذلك الرجل.
ابتسم عبد الإله في مرارة، وقال محدثاً نفسه: لعلها من ذلك السور الناري
الذي حبس أهل المدينة.
لكن عبد الإله لم يكن ليقتنع أن الصحراء لا تملك إلا الأسرار فقط، بل
وداخلها دُفِن الكثير من الأكاذيب التي خبّأها أصحابها واستعاروا ماضٍ يرون أنه
يناسبهم.
آهٍ أيتها الصحراء، كم أنت أمينة على أسرار الجميع، وكم أنت مصغية لكل
ثرثرات الموجوعين وأباطيل المخادعين.
واصل عبد الإله حديثه مع الصحراء وهو يتأمل وجهها الكبير الناصع
البياض في هذه الليلة المقمرة.
كم أتمنى أيتها الرمال أن تكشفي لأهل المدينة زيف البطولات التي يدعيها
المزيفون القادمون منك، أولئك الذين يتلبسون بمظاهر المدينة، ونسوا أن يزيلوا
ملامح الصعاليك التي لم تزل تفترش وجوههم، وعلى ظهورهم آثار نعل كبيرة لا
تصنع في مدينتهم، لأنها تحمل علامة غريبة عن الصحراء والمدينة التي تنام على
أطرافها.
واصل عبد الإله رحلته إلى قلب الصحراء في ضوء القمر الساطع، وأكوام
الرمال تبدو كالجمال الرابضة، وعلى قممها كانت تتراءى له تلك الرؤوس المقززة
وكأنها مغروسة عليها، ولم يدر لماذا بدأ يشعر كأنه إنما دخل إلى مقبرة، وإذا
بالهدوء الذي كان ينشده قبل قليل قد أصبح موحشاً مخيفاً، وإذا به يحس أن هناك
من يتعقبه ويقترب منه حتى كأنه يشعر بأطراف أصابع من خلفه تلامس كتفيه،
وإذا بحبات الرمل تُصَبّ على ظهره، وخالجه شعور بهلع شديد.. هل تراهم
سمعوا حديثه للصحراء؟ .. وبدأ يفتش في جسمه لعله يجد شيئاً ليس منه.
ازداد خوفه، وكذلك سيره، حتى إنه لم يعد يعرف مصدر تلك الأنفاس
اللاهثة: هل هي أنفاسه أم أنفاس الذي يتعقبه من خلفه، وكلما زادت سرعته كلما
زادت كمية الرمل على ظهره، ولم يعد يملك من الأعصاب ما يمنعه من الركض،
فأطلق ساقيه للريح وهو لا يرفع بصره عن الأرض، ولا يستطيع في الوقت ذاته
الالتفات إلى الخلف، وبينما هو منطلق بأقصى ما يملك من قوة أحس بضربة قوية
على رأسه، فسقط على وجهه، وأدرك أنه هلك لا محالة، فانقلب على ظهره في
محاولة بائسة لتفادي الضربة الثانية، لكنها لم تصبه، لأنه لم يكن هناك من يقوم
بها، وأغمض عينيه مستسلماً، لكنه لم يعد يسمع وقع تلك الأقدام.. وبعد لحظات
من الانتظار القاتل فتح عينيه بقوة حتى لا يتردد فلا يستطيع فتحها بعد ذلك، فلم
يجد أحداً، ووضع يده على رأسه ليتلمس الدم الذي بدأ يسيل، وتلفت يميناً وشمالاً
فلم تقع عيناه على أحد، فزاد خوفه، هل يملكون هذه القدرة على ضربه دون أن
يراهم؟ ! وتذكر على الفور كلام جاره صاحب الانحناء، فتفقد ظهره فوجده كما
هو، لم ينحن بعد، فاستلقى على الأرض، فإذا هو تحت شجرة كبيرة يتخلل
أغصانها ضوء القمر، وإذا بها قد أهملت أحد أغصانها اليابسة، ونظر إلى رجليه
فإذا بنعلي أخيه الأكبر صاحب الأرجل الطويلة فيهما، ولفرحته لم يتمالك نفسه
حيث انفجر ضاحكاً ودموعه تتساقط، حيث اكتشف أن ذلك الصوت خلفه لم يكن
سوى صوت النعلين الطويلتين اللتين كانتا تقذفانه بالرمل على ظهره! ، وتلمس
رأسه في ألم وهو ينظر مبتسماً إلى غصن الشجرة المتدلي، الذي كان صاحب
الضربة التي على رأسه.
ألقى نظرة على تلال الرمل، فإذا بتلك الرؤوس لا تزال عليها، إنها وجوه
أولئك الصعاليك، لابد أنهم هربوا من هذه الصحراء خوفاً من حبات الرمل،
وتركوا وجوههم الحقيقية هنا، وتذكر مرة أخرى العلامات التي على ظهورهم،
وتلمس ظهره فلم يجد عليه تلك العلامة، فحمد الله على ذلك، ونظر إلى غصن
الشجرة اليابس فدنا منه وخاطبه قائلاً: يالجهل الناس عندما يظنون أن غصن
الشجرة عندما ييبس أنه مات، وهو في الواقع إنما وصل إلى مرحلة النضج،
فيكون أكثر فائدة من الأغصان اللينة.
استنشق من هواء الصحراء، فإذا به يشعر بحيوية ونشاط ورغبة عارمة في
العودة إلى المدينة، فانطلق مسرعاً والرمل يتساقط على رأسه وكتفيه، لكنه لم يكن
خائفاً؛ فهو عرف بعض الأسرار، وعندما غاب القمر لم يكن عبد الإله قد وصل
إلى المدينة، فلم يفقده أحد من أهلها، وعندما أطل الليل مرة أخرى بوجهه الأسود
القاتم ابتسم الشارع الأصفر ابتسامة صفراء، والصحراء لم تزل تحفظ الكثير من
الأسرار.. ومنها سر عبد الإله الذي لم يصل بعد
…
مراجعات نقدية
هذه (الخطيئة) .. فمتى (التفكير) ؟ !
عبد الوهاب الزميلي
في غشاء النبال التي أحاطت بصدر الأمة تندس سهام راشها العدو الكاشح
وغرزها (عربي الوجه واللسان) ، وانفرجت لها منافذ إلى عقل الأمة ووجدانها،
تفضي إلى (مقتل) .. وكان من تلك المنافذ مدرج طاوعها ولان.. فعكفت عليه
تدقيقاً وتذويباً حتى ارتخى.. فانزلقت منه إلى الغور..! إنه منفذ الكلمة
الشاعرة.. التنغيم الآسر.. والقوافل إن لم يغرد حداتها فربما استاقها تنغيم (ناعم) أو ترديد (ناهق) ، ثم ترى تلك السهام وقد أسدل عليها سدنتها ما حسبوه ستراً لا ترى العينُ ما وراءه! ! من مسخ للعقل والقلب، وهدم للدين والفطرة، ومن تأمّله ولو قليلاً.. رآه منهتك الأستار.
وربما تترس أولئك برفع (قبعة) العلم، ودعوى إثراء العقل المسلم بجلب ما
يسوّقه الآخر من مناهج أدبية وافدة تحوط نتاج مريديها بسور شائك، ثم تفلسف ذلك
النتاج ليملأ أحداق المغفلين، وينزوي بهم ليستدبروا أمتهم.
ولعلها من (أدق) المعاول و (أشدها) :
فهي دقيقة لأنها تنسرب إلى حياة الأمة بخفية وخطو بطيء حتى تخالط فكرها
وحسها.. هابطةً بهما إلى المادة أو إلى العبث والحيرة! .. مارّة بمسلمات الأمة
لتلقيها للريح، وهي شديدة شدة البلاء العام والنوايا الكالحة والخداع المخَمّر العفن.
نعم.. لا ضير من تلقي الخير من (شيطان زكاة أبي هريرة!) ، إنما يتوقف
تمثل ذلك المتلقى على (صَدَقَك) .. ولا نبالي به وإن كان كذوباً.
والمسلم بفطرته ومنهجه لا يأبى التوقد العلمي فحينما يجيل بصره في الثقافات
من حوله: فقد يلمح بين الركام قبساً يلتهب، فيعرضه على فطرته ومنهجه فيتقي
(نقاط) الإحراق.. ويتلقط (نقاط) الضوء فيطويها تحت جناحه، وذلك الجهد
الفاحص المميز لا بد أن يكون مشتبكاً مع كل العطاء البشري لأن منهج المسلم
يتناول جوانب الحياة كلها، فلا يكون مقبولاً فيها إلا ما أمدّه ذلك المنهج بالقبول.
ولكن يأخذ العجبُ مداه..! حين نرى بعض المناهج الوافدة تلمّع وتزركش،
ثم تمرر لتكون ميزان الكلمة.. دون أن توزن هي! ! ، ثم تسعى إلى التمدد
(الناعم) في تلافيف حياتنا، وتجهد لتخط على رمال الجزيرة حرفها.. ولتجعل تلك
الرمال ملحاً تذيبه غضبة موج..! فإذا لم تفعلوا ولن تفعلوا.. والله متم نوره.
ومنها: (المنهج التشريحي) الذي يقوم على الألسنية كأساس نقدي له، [
الخطيئة والتكفير، ص29] .
وقد حرث له أهله في بعض أرضنا، فأخرج شوكه (النكد) ، فكانت وخزاً
يستنزف الدماء، ولكن.. قطرة.. قطرة..، وكان من نتاجه كتاب (الخطيئة
والتكفير) للدكتور عبد الله الغذامي، وقد أتبعه بعدة كتب صغيرة كلها تحوم حول ما
كتبه في كتابه هذا، وقد أخذ الغذامي بالمنهج التشريحي؛ حيث يراه أفضل ما قدمه
العصر من إنجاز أدبي نقدي [الخطيئة، ص83]، وعرّف التشريح بأنه: تفكيك
النص من أجل إعادة بنائه [الخطيئة، ص50] .
وسنجري الحديث موجزاً عن بعض ما طرحه في بعض كتبه وبخاصة كتابه
(الخطيئة) وذلك لنلمس ما ظهر ناتئاً.. بل وحاداً في بعض الأحيان، وسنعرضه
عبر ثلاثة عشر سؤالاً (كاشفاً) ، وكل سؤال منها فجوابه (نص) من أحد كتب
الرجل، يدل دلالة (محددة) على موضوع السؤال بالذات، وذلك لنصل إلى جواب
السؤال الأهم: ماذا يريد هؤلاء؟ آلبناء أم الهدم؟ .
وقبل الولوج من مدخل الأسئلة أمهد الطريق إليها بثمان (نقاط) :
الأولى: (موت المؤلف) : الذي يلح عليه الغذامي في مواضع متعددة من
كتبه.. وهو في هذا يتحسس مقتفياً خطى الفيلسوف الفرنسي رولان بارت حذو القذة بالقذة.. ومن كَلَف الغذامي بهذه القضية أن أفرد لها عدة مقالات.. وبذلك العنوان نفسه: (موت المؤلف)[انظر كتابه (ثقافة الأسئلة) وكتابه (الموقف من الحداثة) ] . فلم هذا اللهاث خلف هذه القضية؟ ! ، ولم هذا الحرص (الحار) على غرسها في الأذهان؟ ! .. قد (ينجلي الغبار) إذا علمنا أن بارت وهو صاحب تلك المقولة أصالة.. وهؤلاء خلفه يسيرون يعلن صراحة أن مقولة (موت المؤلف)
تعني: (موت الإله) ! ! ، والغذامي حين عرض لمقولة بارت التي أعلن فيها موت المؤلف.. يذكر أن بارت أكد فيها على أن الكتابة هي في واقعها نقض لكل صوت كما أنها نقض لكل نقطة بداية (أصل)[الخطيئة، ص71] .
ونجد الغذامي يفرح بهذا النقض والهدم ويطرب له، بل يراه فروسية متميزة
من إمامه بارت؛ حيث يقفز جواد فارسنا قفزات واسعة المدى لتحرير النص مثلما
حرر الكلمة [الخطيئة، ص71] .
بل ويرى أن بارت حسم الصراع حين قتل منافسه (؟) وبذا يحسم بارت
الصراع بين العاشقين المتنافسين على محبوب واحد، فيقتل رولان بارت منافسه
ليستأثر هو بحب معشوقه (النص)[الخطيئة، ص71] .
وفي كتابه (الموقف من الحداثة) في مقالة بعنوان (موت المؤلف) يذكر أن:
علاقة المؤلف بالنص تشبه علاقة الأم بجنينها، فحين يصبح إنساناً حياً مستقلاً لا
يجوز أن نجعلها هوية له، بل ذكرها يرد بسبب ابنها، أي: إنها صارت عالة
عليه، وهذه حالة النص مع كاتبه، فالنص بعد إنشائه يستقل بوجود خاص. أ.
هـ. [ص84، 85] .
والنص عند الغذامي: وجود لغوي يقوم على وظيفة جمالية احتكارها لغوي،
أي: ليس باجتماعي أو نفسي أو تاريخي، وهذه كلها تعزل بعيداً عن النص وإن
وجدت فيه [الموقف من الحداثة، ص84] . وذلك النص أعلى نماذجه عنده هو
القرآن الكريم؛ [الموقف من الحداثة، ص85] ، فهل يريد سحب مقولة (موت
المؤلف) على (نصوص) القرآن ليتحقق ذلك النقض الموعود؟ ! ! .
وعندما تعرّض لقراءة بارت التشريحية لقصة (ساراسين) لبلزاك، وأن
صفحات القصة في حدود عشرين صفحة، ومع ذلك كتب عنها بارت كتاباً يزيد
على مئتي صفحة، مما جعل بعض النقاد يعجبون والبعض الآخر يهزؤون، قال:
ولكن القارئ العربي لا يجد ذلك عجيباً ولا غريباً، ويكفي أن نتذكر كتاب (مدارج
السالكين) لابن القيم [الخطيئة، ص67] ، وهو في هذا يغافل القارئ ليسقط في
ذهنه أن ابن القيم حين يتحدث عن قوله (تعالى) : [إياك نعبد وإياك نستعين] في
ثلاثة مجلدات، أن ذلك مسوغ لقبول ما نفث في عقده هو! ! ، ثم في مقولته تلك
لَمْسٌ ولكن (بخفة) لإمكانية الربط بين قراءة بارت ل (ساراسين) ، وقراءة ابن القيم
لـ[إياك نعبد وإياك نستعين] .
الثانية: التحول عنده يتسع ليشمل كل حركة يصنعها الإنسان أو يقع في
وجهها (؟) فالتحول النفسي والتحول الثقافي والتحول العلمي كلها نتاج سعيد
للإنسان [الخطيئة، ص221] . فالتحول عنده شامل وفيه الحياة والسعادة.
أما الثبات: فهو تنازل عن الحياة، وبانتصار قيود الثبات تحدث الطامة
[الخطيئة، ص226، 227] .
هذا موقفه من الثبات والتحول أو إن شئت فقل: من (الثابت والمتحول) .
الثالثة: ليس هناك غاية ثابتة (في نظره) ، بل يمكن للإنسان أن يحدد أي
غاية يسوقه إليها هواه.. ثم ما عليه إلا أن يسعى إليها ليصل إلى السعادة؛ يقول:
وما على الإنسان إلا أن يقرر في خياله أي طوبى (؟ !) تهفو إليها نفسه، ثم يأخذ
بالسعي نحوها، وستتحقق له السعادة في دأبه إليها [الخطيئة، ص230] .
وبهذا انتهيت من النقطة الثالثة، وما بقي من النقاط الثمان فسأسرده سرداً،
وسيرد ما يدل عليه من كلامه في أجوبة الأسئلة:
الرابعة: لا يرى للنص معنى ثابتاً.
الخامسة: يرى أن تفسير (النص) يعتمد على الذائقة الشخصية.
السادسة: لا يرى أن هناك من يمكنه أن يحكم على معنى (نص) من
النصوص بالصحة أو عدمها.
السابعة: المنشيء في (نظره) لا يتحمل تبعة ما كتب، ولا يقال عما كتبه:
هذا حلال وهذا حرام! ! .
الثامنة: ليس للمنشيء في (نظره) أن يحدد معنى ما كتبه.
ذاك بعض ما قرره الغذامي في كتبه.. إلا إذا كان يعد كلامه كله إشارات حرة
لا تقيد بمعنى، وأنه (هو الآخر) إشارة حرة لا ينبغي الاعتداء عليها بالتقييد..
(المعنوي) ..! ، فمعناها لا يصح تحديده! .
هل يرى ذلك؟ .. ربما..! ، ويكون ذلك من تمام التأسي بإمامه بارت الذي
وصفه بأنه: جعل ذاته إشارة حرة فخلاها دالاً عائماً لا يحد بمدلول [الخطيئة،
ص 64] .
والغذامي قد شغفه ذلك البارت حباً.. ولعل هذا الحب هو الذي دفعه لينزلق
إليه في جحر الضب (والصب بالمهملة! ! تفضحه عيونه) ، وقد خصه بمبحث في
كتابه (الخطيئة) عنوانه: (فارس النص) ، ختمه بصفحة يعتذر فيها عن
(التقصير..!)، ومما قاله في مبحثه عن إمامه: وما زالت الكلمة تعاني من القيد (؟)
حتى جاء فارسها وحررها من قيدها [الخطيئة، ص71] .
عود على بدء للأسئلة الثلاثة عشر:
س1: كيف أصبحت الكلمة بعد هذا التحرير؟
يقول: حرة مطلقة من كل ما يقيدها، فهي لا تعني شيئاً (؟) ، وهي إشارة
حرة، ولذا: فهي قادرة على أن تعني كل شيء [الخطيئة، ص70] .
س2: ولكن.. ألا يمكن أن تكون دالة على معنى بيّن؟
يقول: لا مكان للظن بأن النص الأدبي يحمل معنى محدداً أو أنه ذو معنى
على الإطلاق [الخطيئة، ص142] .
س3: ألا ترى أنه قد يؤدي هذا إلى العبثية في تفسير النصوص؟
يقول: سيظل النص يقبل تفسيرات مختلفة ومتعددة بعدد مرات قراءته
[الخطيئة، ص83] .
ماذا؟ !
يقول: فالبيت الشعري يحمل لألف قارئ من قرائه ألف معنى، أي: إنه
بيت بلا معنى محدد (؟) ، والقارئ هو الذي يفسره حسب ما تمليه عليه نفسه
(! !)[الخطيئة، ص269] .
س4: دكتور عبد الله..! هل يحق لكاتب النص أن يحدد معنى النص الذي
كتبه؟
يقول: ليس للكاتب أي حق على النص، لأن الكاتب إذا فرغ من كتابة نصه
يتحول إلى قارئ لما كتب.. وبذا: يدخل الكاتب نفسه كواحد من جمهور النص
يتلقاه مثل سواه من الناس، ومعانيه عنده لابد تختلف (؟) عن معاني الآخرين
[الخطيئة، ص95] .
س5: ولكن.. إذا كان كاتب النص لا يستطيع أن يحدد معناه ولا القارئ
كذلك في (نظركم) يا دكتور عبد الله.. فهل من سبيل إلى الوصول إلى المعنى
الصحيح؟
يقول: مادام أنه لا وجود للمعنى الثابت أو الجوهري، فإنه لن يكون هناك
مجال لحكم أو لحاكم على الصحة من عدمها [الخطيئة، ص8081] .
(عجيب! !) ..
س6: ولكن لماذا تخشى تحكيم المعنى؟
يقول: لو حكمنا المعنى فعندئذ نوقع المنشيء في إشكالات عديدة، قد نقول
بأنه قال ما لا يجوز له أن يقوله [الموقف من الحداثة، ص76] .
(هو هذا..! !)
س7: نعم قد يفعل ذلك.. فلو قلت شعراً (مثلاً) فيه سخرية بالدين وبرب
العالمين، فعند ذلك تستتاب، فإن لم تتب أقيم عليك حد الردة..، فماذا ترى؟
يقول:.. إن الشاعر لا يقع عليه الحد فيما قال في شعره [ثقافة الأسئلة،
ص 62] .
(لا إله إلا الله..)
س8: قد ورد عن الشعراء قوله (تعالى) : [والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم
تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون، إلا الذين آمنوا وعملوا
الصالحات وذكروا الله..] .. فمن هم هؤلاء الغاوون، الذين في كل وادٍ
يهيمون؟ .. من هم في (نظركم) ؟
يقول: هم شعراء النص الجميل فحسب [ثقافة، الأسئلة ص40] .
س9: مثل من؟
يقول: كعب بن زهير (..)[الموقف من الحداثة، ص67] .
س10: فمن شاعر الفئة المستثناه (إلا الذين آمنوا..) ؟
يقول: الشاعر الذي يعيد للكلمة قداستها من خلال إعادة الفعل إليها [ثقافة
الأسئلة، ص40] .
س11: مثل من؟
يقول: محمود درويش (..)[ثقافة الأسئلة، ص40] .
س12: دكتور عبد الله.. ما هو منهج المسلمين..؟ عفواً! !
أعني: هل تعلم لهم منهجاً؟
يقول: نمرّ بفترة تاريخية ضائعة الهوية الفكرية، وليس لعرب اليوم (فلسفة)
تميز ثقافتهم وتطلقها (بادئة)(؟) وتوجهها (غاية)(؟) [الموقف من الحداثة،
ص 153] .
س13: أخيراً.. نعلم أنك (تشريحي) المنهج، فكيف تفعل وأنت ترتدي
(ثوب الإسلام) حين تطبق منهجك على قصيدة لحمزة شحاته مثلاً؟
يقول: حينما أقرأ قصيدة شحاته لست عبد الله الغذامي الرجل العادي،
ولكنني عبد الله آخر انسلخ من نفسه مثلما تنسلخ الحية من جلدها.. [الخطيئة،
ص 262] .
عياذاً بالله..! !
وأختم تلك الأسئلة بما بدأتكم به:
فماذا يريد هؤلاء؟
كَشيشُ أفعى أجمعتْ لعض
…
فهي تحكّ بعضها ببعض
وبعد الختام أقول لكم:
قد يكون الحديث دافئاً وعذباً لو كان عن (مجنون ليلى) ، أو (مجنون لبنى) ،
أو (مجنون عزة) .. بل ويكون واثباً حينما يكون عن (مجنون التراب) ..
فكيف يكون حينما يصبح عن (مجنون رولان بارت) ؟ !