الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسلمون والعالم
حرب البوسنة: لا مكان للضعفاء
!
بقلم `د. عبد الله عمر سلطان
ربما يجد الكاتب صعوبة بالغة في الحديث عن البوسنة وأحداثها، فالواقع أن
نهر الدم والقهر الجاري قد أصبح مثالاً واقعاً، يحمل بين ثناياه مزيداً من التعاسة
والحسرة، ولذا: فإن أي مأساة بوسنية جديدة لا تثير في النفوس إلا مشاعر أو
زفرات قصيرة العمر؛ ذلك أن المأساة نفسها قد طالت وحفلت بشتى ألوان الظلم
والعسف والوحشية، حتى أصبح الرأي العام المحلي والدولي مهيأً دوماً لاستقبال
المزيد من الكوارث والرزايا، بل ربما وصل الأمر ببلادة الحس وموت المشاعر
أن يُستغرب مرور أسبوع أو شهر دون حصول مأساة جديدة ضحاياها هم المسلمون
الضعفاء هناك..!
وابتداءً: فإن عجز الدول والشعوب الإسلامية تجاه مأساة البوسنة بأطوارها
المتلاحقة لا يحتاج إلى تدليل أو بيان، ولا أجد هنا من شاهد سوى أن أحداث
البوسنة الأخيرة قد خنقت حتى أزير الشجب المبحوح أو صور الاستنكار الفلكلوري
المعتاد، فحتى هذا أختفى ووُئِد وتلاشى الآن؛ فالجميع مشغولون بما هو أهم: من
محاربة الأصولية والتطرف
…
وربما كان الحفاظ على الهوية المسلمة في قلب
أوروبا جرحاً لمشاعر القارة المتحضرة أو استفزازاً للرجل الأبيض، كما يفتي بذلك
خبراء الإرهاب ومفكرو الحملة القمعية ضد كل نَفَس أو صوت إسلامي في قلب
أوروبا أو في بلاد الإسلام ذاته.
هذا الخور الذي يلف العالم الإسلامي تجاه متحف البربرية الصربية الراهنة،
يجعلنا نلتفت قليلاً إلى أصحاب القرار الحقيقيين الذين ثارت حميتهم، وارتفعت
أصواتهم حينما مُس الدم النصراني المتمثل في تصفية جنود الأمم المتحدة،
فسارعوا إلى الحديث عن بربرية الصرب ووحشيةٍ تذكرهم بالقرون الوسطى!
الفتيل:
بدأت موجة التوتر في البوسنة في التصاعد بعدما شهد صرب البوسنة هزيمة
منكرة على أيدي القوات الكرواتية، التي دحرتهم من أقليم سلوفينيا الغربي الذي
يشكل ثلث الأراضي الكرواتية المحتلة من قِبَل صرب البوسنة التي أطلقوا عليها
اسم (جمهورية كارايينا) بعد أن نجحوا في احتلالها عام 1991م، ومع الزمن: بدا
أن حلم صربيا الكبرى القائم على تحالف جمهورية صربيا والجبل الأسود مع
جيوب الصرب في كرواتيا والبوسنة يشهد مزيداً من التصدع؛ فالمسلمون
والكروات اليوم أقوى من ذي قبل، بينما يشهد الجانب الصربي تراجعاً في وحدته
وقوته، ففي المعركة التي جرت في شهر ذي الحجة من عام 1415هـ
(مايو 95 م) تراجعت الوحدات الصربية بسبب ظهور خيانات واسعة في الجيش الصربي الذي يقوده ميلان جيلكتش الذي وجه اللوم مباشرة إلى زعيم صربيا سلوبدان ميليفتش متهماً إياه بالتخاذل عن نصرة إخوانهم الصرب في حربهم الخاسرة أمام كرواتيا.
لقد وضح بالدليل القاطع أن الصرب استطاعوا من خلال حلفهم القوي أن
يجتاحوا مناطق واسعة من البوسنة وكرواتيا، لا سيما وأن الشعار المرفوع كان:
الوحدة فقط تنقذ الصرب.. وبعد ثلاثة أعوام من قيام دويلات الصرب الهمجية في
مناطق أعدائهم ظهر أن هذه الوحدة الظاهرية مهددة بالفعل، لا سيما وأن القادة
العسكريين والسياسيين انخرطوا في تجارة تهريب المواد الممنوعة والسجائر
والوقود، مما دفع العديد من الطواقم المهنية المدربة إلى الهجرة خارج حدود هذه
الدويلات، حيث يتندر هؤلاء الهاربون بالفساد والمحسوبية التي وصلت إلى حد أن
زعماء سلوفينيا الغربية كانوا مشغولين عن مواجهة الكروات بتجارة بيع الوقود إلى
القوات الحكومية المسلمة بعد استيراده من كرواتيا! !
ولا يخفي الصرب أن محاولة شق صفوفهم عبر إصدار تصريحات علنية
تنتقد فيها قيادةٌ صربية قيادةً صربية أخرى: تمثل محاولة استصدار وفاة للحلم
الصربي كما أن تقاعس صربيا الكبرى وقيادتها عن دعم صرب كرواتيا ربما ينتقل
بدوره إلى وقف المساعدة عن صرب البوسنة الذين يشكلون أقدر قيادة صربية حالية، وربما كان الوصف الصحيح لها أن تضاف نقطة لحرف الدال لا سيما بعد الجرائم
الأخيرة! .
لقد هاجم سلوبودان ميلوسيفيتش الصرب الكروات لقصفهم زغرب خلال
حرب سلوفينيا الغربية، وكان هذا دليلاً كافياً على خطورة حالة الوحدة الصربية،
ثم ما لبث أن ذاع نبأ المحادثات الصربية الأمريكية لرفع الحظر عن بلجراد مقابل
اعتراف شكلي بجمهورية البوسنة والهرسك (دون الاعتراف بحكومتها) ، وهذا
الاعتراف يوازي جريمة الخيانة العظمى من وجهة نظر جزاري صرب البوسنة
…
ما العمل إذن
…
؟
ما يجري بين واشنطن وبلجراد من محادثات رفيعة المستوى يمكن أن يلغى
من خلال القذائف على الأرض، صحيح أن ميلوسيفيتش قد تراجع عن إتمام
الصفقة، إلا أن صرب البوسنة رأوا فيها تخلياً عنهم، كما يقول مايكل إليوث ومع
بروز خطر الانشقاق الصربي: كان هناك حديث على مستوى عالٍ يرعاه البطرس
الحاقد لإعادة تحديد دور الأمم المتحدة في البوسنة، وما يعنيه الأمين الخائن لأمانته: هو قصر مهام الأمم المتحدة بحيث يمارس القناص الصربي هوايته المعتادة في
حصد أرواح المسلمين، وهذا الانسحاب المقرر للأمم المتحدة في هذا الوقت يعني
أن معظم الجيوب المحمية حسب قرارات الأمم المتحدة ستكون مكشوفة لمجرمي
وطغاة الصرب، وهنا أراد الصرب أن يبادروا إلى احتلال هذه المواقع التي
تحرسها الأمم المتحدة قبل انسحاب قواتها.
لقد بدأ الصرب في تحديهم الأرعن: بأن تجاوزوا حدود المنطقة المنزوعة
السلاح، واستولوا على دبابات قوات بطرس غالي، ثم أداروها إلى صدور العزل
في سراييفو فقتلوا أحد عشر بريئاً
…
وحينما أصدر مبعوث البطرس التعيس
ياسوتشي أكاشي تصريحاته: بأن هذا أمر لا يحتمل، وطلب من قوات حلف
الأطلسي أن تضرب بعض الأهداف الصربية حول عاصمتهم مدينة بالي، قامت
القوات بقصف مواقع عسكرية مهمة، مما دفع صرب البوسنة إلى الانتقام من قوات
الأمم المتحدة والإغارة على مواقعها وأخذ جنودها رهائن، ضاربين بأبسط معاني
الشرعية الدولية المزعومة عرض الحائط!
الإشارات التي يجب أن نفهمها:
ظلت القوات الصربية تمارس وحشيتها وقسوتها وفظائعها لمدة أربعة أعوام
تجاه المسلمين في البوسنة دون أن تتدخل الأمم المتحدة وأوروبا وأمريكا بهذه
السرعة والغضب، بل إن حلفاء الحرب العالمية كانوا يحتفلون بعيد النصر في
موسكو - الوجه الآخر للنازية المعاصرة - بينما يموت الشعب المسلم أمام أنظار
كلينتون في البوسنة والشيشان.
ولكن حينما يحتجز بضع مئات من البريطانيين والفرنسيين تصبح هناك
مشكلة خطيرة ومعضلة تستدعي أن ترسل فرنسا وبريطانيا من أجلها آلاف الجنود
لحفظ السلام.
هل السلام انتقائي إلى هذه الدرجة؟ ! أم إن مسألة قتل واغتصاب واحتجاز
شعب كامل تحت سمع ونظر العالم المتحضر لا تستحق العناية والشفقة
…
؟
لقد قال العالَم النصراني المنتصر بعد الحرب العالمية الثانية: إن المجازر
الجماعية العرقية والدينية، كمجازر النازية لن تحدث للأبد Never Again..
لكنها تحدث اليوم وكل يوم، ويكون ثمن الدم المسلم الرخيص أو إبادة شعب بأكمله: مقاطعة الرئيس الأمريكي لاستعراض عسكري روسي في موسكو
…
وما أرخصه
من ثمن! ..
لقد لخص أحد المعلقين الأمريكيين مأساة البوسنة بأنها حرب الإشارات..
ولابد للمسلمين أن يفهموا هذه الإشارات.. أو بعضها.
من هذه الإشارات: أن الغرب قد أعلنها بلسان المقال والحال: أن الدم المسلم
على التخوم النصرانية الأوروبية لابد أن يحرق لكي تكتمل طقوس التعميد
النصراني المبشر بعالم ونظام دولي جديد، يحدث هذا في البوسنة لأعوام وفي
الشيشان لأشهر، مع التذكير بأن دموع التماسيح لابد أن تذرف مع كل ضحية أو
مجزرة؛ لإثبات فحولة حقوق الإنسان وحرية الصحافة في المجتمعات الغربية.
ومن هذه الإشارات: أن الصرب قد عرفوا تماماً أن الغرب قد أطلق يدهم في
أدغال وتلال البوسنة، وأن التهويشات السابقة ضرورية من أجل استمرار
المسرحية، وأن حلف الأطلسي وقوات الأمم المتحدة وقوات التدخل السريع وقوات
مكافحة الجراد سوف ترفع صوتها في كل مرة مهددة متوعدة
…
ثم تنتهي قصة
التهديد والخلاف كما تنتهي أي رواية أو شريط سينمائي هزلي
…
يفوز البطل
الأجش وتنتهي القصة نهاية سعيدة! !
ومن الإشارات المهمة: أن وسائل الإعلام الغربية قد جندت كل طاقتها من
أجل مئات من جنود مختطفين، بينما حفل اليوم نفسه بأحداث مهمة وقاسية:
كسقوط سبعين شابّاً مسلماً في (توزلا) ، وإسقاط طائرة وزير خارجية البوسنة
ووفاته مع مساعديه، ومع ذلك أتت هذه الأخبار ضمن تفاصيل الاختطاف للدلالة
عن ارتفاع ثمن المخطوفين وهوان شأن القتلى والمسؤولين المسلمين.
ومن الإشارات المهمة: أن صرب البوسنة قد فهموا الدرس جيداً؛ فالعالم لا
يخاف إلا من القوي، والحضارة الغربية عموماً تقدس القوة وتعبدها حتى لو كان
هذا على حساب المبادئ والمثل المعدة للاستهلاك الإعلامي، وقد فهموا أيضاً أن
المواجهة مع المسلمين تسمح لهم أن يغفر لهم الغرب الأفعال الإجرامية المثيرة
المتمثلة في ربط جنود الأمم المتحدة إلى الأعمدة والأبواب في صورة مذلة
…
ولابد
أن القادة الصرب قد أمنوا العقوبة فأساءوا الأدب، ولكم أن تتصوروا دولة أو
عصابة عربية تقوم بخمس ما قام به الصرب، فماذا سيكون رد الفعل الغربي
والدولي..؟ !
من الإشارات كذلك: أن الناطق باسم الأمم المتحدة قد وصف الإرهاب
الصربي والجرائم المتتالية بأنه: عمل أشبه ما يكون بالعمل الإرهابي أما قتل 70
مسلماً في (توزلا) فقد وصف بأنه مأساة عميقة.. إن هذا العمل المخزي والمهين
لكل الأعراف الدولية يوصف بأنه: أشبه ما يكون بالعمل الإرهابي فما حقيقة
الإرهاب يا سدنة الشرعية الدولية؟ ! .
ومن الإشارات أيضاً: النقد الجارح لبطرس الحاقد من قبل المعلقين الغربيين
بعد طرحه مشروع قرار سحب قواته من البوسنة أو تعديل مهامها؛ حتى بعد مهزلة
الخطف وتناثر أشلاء المسلمين في جيوب الأمن الكاذب
…
لقد وصفه معلق
بريطاني بأنه: رجل غير معقول في المواقف التي لا تحتمل رأيين ووصفه آخر:
بأنه ربّى في صدور الصرب كل أنواع التعنت والغطرسة بتغاضيه عن جرائمهم
وتعامله اللين معهم بينما لا تزال الصحافة العربية المهاجرة بفكرها ومقراتها تناقش
السؤال الملح والصعب منذ سنوات: هل بطرس غالي يتحامل على المسلمين؟ ! !
لقد أشار الرئيس البوسني إلى أن العالم يحاول أن يغطي على جريمته
الأصلية؛ حينما منع الضحية من مقاومة الجلاد، وحرم المسلمين من امتلاك
السلاح الذي يخولهم أن يدافعوا عن وجودهم أمام الأمة الصربية الحاقدة
…
إن دور
الأمم المتحدة قد بدا عارياً، أما حلف الأطلسي فيقدم رجلاً ويؤخر اثنتين، وطالما
أن المسلمين عاجزون حتى عن الاستنكار: فإن المعركة هناك قد انتقلت إلى طور
الحرب الداخلية التي تجري بين أقطاب أوربيين، تجمعهم عقيدة واحدة وثقافة
مشتركة ورؤية عامة تدفعهم إلى الاستعانة بالأجساد المسلمة المستسلمة: وقوداً
للخلاف، ورصيداً للانتقام وأسلوباً لغش الخلق كلما حدث خلاف بين الأشقاء
الحلفاء!
الحرب الدائرة في البوسنة اليوم وهذه التغطية الملتهبة هي حرب أوروبية
داخلية، ووجودنا الهامشي يحتم علينا أن نتعامل معها على هذا الأساس حتى تنتقل
الأمة من خانة الهامش إلى خانة الأصل، ومن موقع المستضعف إلى موقع الفاعل
المدافع عن الإنسانية التي تعاني من الظلم والعسف والموت المجاني.
وحسبنا الله ونعم الوكيل..
المسلمون والعالم
تأملات في مسيرة الحركة الإسلامية في اليمن
الحلقة الثانية
بقلم:عبد الله أحمد ناصر
تناول الكاتب في المقال السابق إيجابيات الحركة الإسلامية في اليمن منذ قيام
الوحدة، فكان مما ذكره: انتشارها الواسع، وحماية شباب الصحوة، وإنكار بعض
المنكرات، والوقوف في وجه التغريب والعلمنة والحملات الصليبية، ثم ثنى
الكاتب بذكر السلبيات، فكان منها: عدم وضوح تبني منهج أهل السنة، وعدم
تميز صفوف القيادة، مع اعتلاء سدتها من ليسوا أهلاً لها.. ويتابع الكاتب في هذه
الحلقة ذكر ملحوظات أخرى.
- البيان -
اعتماد سياسة: إما الاحتواء وإما الإلغاء في التعامل
مع الإسلاميين الآخرين في الساحة:
الحقيقة أن تعامل كثير من قيادات وكوادر الحركة الإسلامية المنضوية تحت
لواء التجمع اليمني للإصلاح مع الإسلاميين الآخرين في الساحة محل استغراب
وتساؤل! ؛ إذ ليس أمام الآخرين إلا أن ينضووا تحت لواء التجمع، ويباركوا
المواقف التي تتخذها قيادته، ويسكتوا عن المنكرات والمخالفات الصادرة عنها
…
لينالوا رضاها، وبالتالي: التزكية والمديح من كوادرها، والمساعدة في الوصول
إلى بعض المواقع التي يمكن خدمة الدعوة من خلالها، وإلا فإن التهميش والذم
ومحاولة الإلغاء وتحذير شباب الصحوة من المنهج الذي يسير عليه أولئك،
ومحاولة التضييق عليهم في الوظائف لكي يتركوها، ومحاولة حرمانهم من إمامة
المصلين في الجمع والجماعات، والفصل لمن يقوم بالدعوة إلى الله (تعالى) من
الطلبة داخل المعاهد العلمية وبعض المدارس والكليات
…
إلخ: هو الذي ينتظرهم.
ونحن نتساءل: لماذا يحتمل الإخوة في الحركة من العلمانيين والرافضة
والصوفية في الأحزاب والنقابات المختلفة ما هو كذب وافتراء وبدوافع ونوايا سيئة، وتقوم قيادة الحركة بدعوة أولئك إلى الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن،
ولايُحتَمل من الإسلاميين الآخرين في الساحة ما هو أقل من ذلك مع إقراري بأن في
بعض ما يطرحونه تعد وظلم مع أن لهم حق المحبة والنصرة، وغالب ما يطرحونه
يكون في الجملة بدافع الغيرة على دين الله (تعالى) ، وبهدف النصرة له؟ ! ! .
لماذا تبقى الابتسامات متبادلة والصدور والأبواب مشرعة أمام بعض
العلمانيين والمبتدعة، وتعمد الحركة إلى محاولة الإلغاء والتهميش لكل ما هو
إسلامي ليس منضوياً تحت رايتها؟ ! ! لماذا لا يدعى هؤلاء إلى الله (تعالى) إن
كانوا على خطأ وهم أقرب؟ ولماذا لايصبر عليهم، ويحتمل منهم كما يحتمل من
غيرهم وهم أولى؟
لماذا لا تغير الحركة سياسة (إما الاحتواء وإما الإلغاء) إلى التنسيق ومحاولة
توظيف الجهود لخدمة الإسلام، مع القبول بالخلاف والتعايش معه مادام لايتعارض
مع ثوابت الإسلام وأسسه؟
وأخيراً: لماذا نخاف من النقد إذا صدر من الإسلاميين الآخرين في الساحة،
ونضيق به ذرعاً، ونعتبره أمراً طبيعيّاً وحقّاً من حقوق التعبير عن الرأي إذا صدر
من غيرهم؟ !
إن الحركة الإسلامية في اليمن بحاجة بحق إلى أن تعيد النظر في تعاملها مع
الإسلاميين الآخرين، وكلنا أمل بأن يتداعى الغيورون من علماء وطلبة علم وسائر
المخلصين داخلها إلى ذلك.
ولا شك بأن لبعض الإسلاميين من خارج الحركة دوراً في هذه الجفوة التي قد
تصل إلى حد القطيعة أحياناً، ولكن العتب يكون أكثر على الحركة الإسلامية،
لأنها الآن في منزلة القيادة والظهور، فهي الأخ الأكبر وعليها أن تحتمل ما لا
يحتمل غيرها، وبقدر تراجع الآخرين وجفائهم ينبغي أن تتقدم هي وتحلُم،
فخيرهما الذي يبدأ صاحبه بالسلام، وينبغي أن يدرك الجميع أن قوتهم الحقيقية في
اجتماعهم وتآزرهم، فالمسلم أخو المسلم؛ لا يسلمه ولا يخذله، والبديل الذي يعرفه
الجميع هو الاتجاه العلماني الذي أذاق الشعب اليمني ألواناً من التغريب والإفساد؛
فليست القضية أسماءً وأحزاباً
…
إصلاحاً وسلفيين و
…
و
…
ولكن: إما إسلام
وإما علمانية.
تعويل الحركة كثيراً على القبائل:
دخلت الحركة الإسلامية في اليمن في أوساط القبائل وعملت على أن يكون
شعار القبائل الذي ترفعه هو الإسلام، وحسناً فعلت، إلا أنه من المفترض أن يكون
هدف ذلك الدخول: هو تيسير دعوتهم ومحاكمتهم إلى شعارهم متى خالفوه، أما أن
نكتفي كما هو الواقع في كثير من الأحيان برفع تلك القبائل لشعار الإسلام فقط دون
أن يصاحب ذلك برامج دعوية وتعليمية مكثفة لها، فأمر أظنه خاطئاً وخطيراً.
وكل ما أخشاه أن يدعي بعض أعداء الصحوة الإسلامية بأن هدف الحركة من
الدخول في أوساط القبائل بل وفي أوساط الجماهير اليمنية عموماً هو كسب ولائها
للحركة، وضمان مناصرتها لتوجهها السياسي وكل ما يخدم ذلك الهدف لا غير.
وأحسب أن القيادات المخلصة في الحركة الإسلامية لا ترضى أن يكون
التوجه إلى تلك القبائل والجماهير لمجرد الاعتماد عليها في الدفاع عن الحركة
ومنجزاتها، عن طريق كيل المديح والتمجيد لشيوخ تلك القبائل، فإن معظم هؤلاء
في الغالب أتباع كل ذي مال ومنصب. ولا يرضي مخلص واعٍ رَبْط حماية الحركة
وشبابها بهم وإعطاءهم مكانة بارزة وثقلاً كبيراً في التأثير على توجه الحركة
وقراراتها، وأظن أن ذلك يحتاج من كل مخلص داخل الحركة من علماء وطلبة علم
وغيرهم إلى إعادة النظر فيه، والعمل على تلافيه.
ظاهرة ضعف الموارد المالية:
مع أن عمر الحركة الإسلامية في اليمن طويل نسبيّاً إلا أن الملاحظ ضعف
إمكاناتها المادية وشح مواردها، وهاتان في نظري ظاهرتان متناقضتان: حيث إن
المفترض أن تكون هناك علاقة طردية لا عكسية بين عمر الحركة ومواردها،
ولكن للأسف: إن الأمر ليس كذلك، وجل موارد الحركة تأتي في الوقت الحاضر
كما هو ملحوظ من توظيف بعض أفرادها في طلب التبرعات وجمعها، وهذا مورد
مهم ولاشك، ولكنه ليس مورداً ثابتاً ومستقرّاً، بل هو مرتبط بمدى شعبية الحركة
ودعاتها واقتناع الناس بهم، وهذا الأمر مرتبط بعوامل كثيرة ليس هذا موضع
الحديث عنها، بحيث تزيد في الموارد تارة وتنقصها أخرى، مما يعني إمكانية
تعريض الدعوة ومشاريعها للخطر وربط استمرارية تلك المشاريع برحمة المتبرعين،
…
ولو سلمنا جدلاً بثبات هذا المصدر واستمراره، فإنه ليس بمورد كاف بالتأكيد
والواقع خير شاهد مما يحتم على قيادة الحركة إعطاء هذا الجانب ما يستحقه من
تفكير واهتمام.
وهذه الإشكالية ليست خاصة باليمن، ولكنها مع الأسف الشديد عامة في أكثر
دول العالم الإسلامي، وعند مختلف فصائل العمل الدعوي، والذي نأمله من
الحركة الإسلامية في اليمن أن تعمل على الوصول إلى النضج الاقتصادي
والاستثماري بمثل سعيها إلى الوصول إلى النضج السياسي، وهما قرينان يدعم
أحدهما الآخر.
ملحوظات دعوية وتربوية متفرقة:
لكي لا يتشعب الحديث ولا أخرج عما يناسب مجلتنا الغراء [البيان] سأوجز
بعض المآخذ الدعوية والملحوظات التربوية على الحركة في النقاط التالية:
1-
ضعف العلم الشرعي:
ضعف العلم الشرعي داخل صفوف الحركة أمر تجاوز حد الظاهرة إلى
المشكلة، ويبدو أن انشغال الحركة بالعمل السياسي وغلبة خطاب علمائها ودعاتها
في هذا الموضوع وما يخدمه في أغلب الملتقيات وخطب الجمعة قد ساعد على
الوصول إلى تلك النتيجة، هذا بالإضافة إلى ضعف التوجيه لشباب الحركة إلى
طلب العلم الشرعي، والقلة النسبية في أعداد طلبة العلم، وعدم قيام الموجود منهم
بدوره، والانفصام بين قيادة الحركة وبعض الإسلاميين الآخرين غير التابعين لها،
الذين يوجد لديهم علم شرعي لابأس به، مما جعل كل تلك الأسباب وغيرها
تتضافر للوصول بالحال إلى ما وصل إليه، وليس المراد بالطبع أن يكون جميع
شباب الحركة في مستوى رفيع من العلم الشرعي، ولكن المراد: أن تتوجه قيادة
الحركة الإسلامية في اليمن إلى العمل على إيجاد الحد الأدنى من العلم الشرعي الذي
لايعذر المسلم بالجهل به لدى أولئك الشباب، بالإضافة إلى السعي إلى إيجاد طبقة
من الشباب متفقهة في أمور دينها تتولى زمام تعليم بقية شباب الحركة الحد الأدنى
من العلم الشرعي وتكون متفرغة لذلك.
صحيح أن الحركة قد أنشأت مئات المعاهد العلمية، ومدارس تحفيظ القرآن،
وكلية القرآن الكريم، وجامعة الإيمان، وهي ساعية عن طريق تلك المعاهد
والكليات لأداء نوع من الواجب في معالجة ضعف العلم الشرعي لكنها مع حداثة
إنشاء الكلية والجامعة من وجهة نظري غير كافية بسب اقتصارها على فئة محدودة
من أبناء الحركة، ولابد من توجه علماء الحركة وطلبة العلم الشرعي في كافة
أنحاء البلاد إلى المساجد بكثافة، لإقامة الدروس العلمية والمحاضرات الشرعية
لأبناء الحركة وعامة الأمة، وأن يتم التركيز على إقامة تلك الدروس والمحاضرات، وبكثافة أيضاً في جميع المحاضن التربوية وبخاصة في هذه الفترة التي لا توجد
فيها أمور تشغل كافة كوادر وأنصار الحركة كالانتخابات وغيرها.
2-
ظاهرة ضعف الالتزام بالأحكام الشرعية داخل صفوف الحركة:
من الأمور المحزنة الموجودة داخل صفوف بعض قيادة الحركة وشبابها:
ظاهرة ضعف الالتزام بالأحكام الشرعية وعدم أخذ الإسلام بقوة، وذلك بسبب عدم
الاعتناء بترك الذنوب الصغير منها والكبير، وسلوك مسلك انتقائي في التحذير من
بعضها، والبعض الآخر بسلوك مسلك التبرير معها، ومن تلك الذنوب: حلق
اللحية، ومصافحة النساء، وشرب الدخان والشيشة، ومضغ القات، ومشاهدة
التلفاز بما فيه من مخالفات شرعية، والتخلف عن صلاة الجماعة، وضعف الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر أثناء الاختلاط بالعامة
…
إلخ.
وليس المراد بالطبع الحديث عن معاصٍ بعينها، وإنما المراد الحديث عن
نفسية معينة في الاتباع لنصوص الشريعة، والتنبيه إلى أهمية تربية الشباب على
ضرورة التسليم والانقياد الخالص لكتاب الله (تعالى) وسنة نبيه -صلى الله عليه
وسلم- بحيث يصبح الحال متى سمع شاب من شباب الحركة أمراً لله (تعالى) أو
الرسول صلى الله عليه وسلم فعلاً أو تركاً هو المبادرة إلى تنفيذ الأمر سواء
أكان ذلك على سبيل الوجوب أو الندب أو الحرمة أو الكراهية، فإن لم يفعل شعر
في نفسه بحزن وتأنيب ضمير على وقوعه في ذلك، أي: أن نربي الشباب على
تحقيق محبوب الله (تعالى) وتعظيمه بدلاً من أن نجعلهم ينظرون إلى ذات الفعل،
فإن كان مندوباً فكأنه لاداعي لفعله، وإن كان مكروهاً فكأنه لاداعي لتركه،
بالإضافة إلى الضرب على وتر: هذا مختلف في حله أو حرمته أو وجوبه أو ندبه، وكأن الاختلاف فيه بين أهل العلم مسوغ للعبد أن يختار من أقوالهم ما شاء،
وسلوك مسلك التبرير لترك واجب أو فعل محرم من قبل إخوان الفاعل لذلك، بدلاً
من المبادرة إلى نصحه وتنبيهه.
إن وجود هذه الظاهرة داخل أوساط الحركة يوجب على علمائها وطلبة العلم
الشرعي فيها تدارسها والخروج بحلول عملية لتجاوزها قبل أن تنتشر وتستشري
فيتم الندم ولكن بعد فوات الأوان ولله در رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي
حذرنا من تلك الظاهرة؛ فقال فيما رواه سهل بن سعد في مسند الإمام أحمد وغيره
بسند صحيح: إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا
بطن واد فجاء ذا بعود، وجاء ذا بعود، حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن
محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه.
3-
ظاهرة تربية الفرد من أجل المجموع:
يجد المتابع ظاهرة تربية الفرد من أجل المجموع جلية في أوساط الحركة حين
يلاحظ الجوانب الإيمانية (الروحية) والعلمية لدى شباب الحركة ويقارنها بالحرص
على العمل الدعوي، ولقد سمعت محاضرة لأحد مشاهير الدعوة الإسلامية
والمنضوين تحت لواء الحركة، وطرح فيها السؤال التالي: لماذا خلقنا؟ ، وكان
جوابه: لدعوة الناس إلى الإسلام! ! ! وأنا لا أنكر أهمية الروح الجماعية
وضرورتها، لكن هذا جانب، وهناك جانب آخر أهم وهو الاعتناء بالفرد عقديّاً
وسلوكيّاً، لأن مدار النجاة يوم القيامة على ذلك كما لايخفى، ولعل اتساع قواعد
الحركة، وانشغالها في المرحلة الماضية بالخطاب السياسي لضرورات آنية أدى
إلى التقصير في بعض الجوانب التربوية، فإذا عذرت الحركة نسبيّاً في السابق
فينبغي أن تتنبه في هذه المرحلة المستقرة نسبيّاً، وتسعى إلى جعل التربية بجوانبها
المختلفة من أولى الأولويات التي يجب الاعتناء بها والتركيز عليها.
ومن البدهي أن العناصر الكريمة والمعادن الثمينة التي تربت ونضجت واتقت
الله عز وجل هي الذخر الحقيقي للعمل الإسلامي، وهي الجذور القوية التي
ترسخ من عمق الحركة وثباتها.
كما عليها أن تحرص مستقبلاً على أن تسير برامجها التربوية وفق جداول
مرسومة لا تتأثر بالأحداث الجارية وما يصنعه أعداء الصحوة من قضايا وأحداث
لإشغال الحركة بها، ولفت أنظار كوادرها وتفريع جهودهم وطاقاتهم فيها وألا يكون
الأمر جارياً على التعايش مع الأحداث الواقعة لا غير، بل ينبغي أن يبقى تنفيذ
البرامج التربوية وفق الجداول الزمنية المرسومة لها على أن يكون في البرامج
المطروحة مرونة نسبية مع ما يستجد من أحداث؛ حتى لا تضطر الحركة نتيجة
أمور طارئة إلى تعليق برامجها وعدم تطبيقها.
4-
ظاهرة وجود دعاة غير مؤهلين للدعوة:
يبدو أن الانتشار الأفقي الكبير للدعوة أجبر المسؤولين عن الحركة على
الاستفادة من كل من ينتسب إليها وإن لم يكن أهلاً لذلك وهذه ظاهرة ذات شقين:
شق إيجابي: سبق الحديث عنه، حيث يتم توظيف مختلف الطاقات والاستفادة من
كل الإمكانات، بشرط أن يكون ذلك بحدود معينة، وبدوائر محددة، وتحت متابعة
وإدارة واعية لا تعتني بالكم فقط على حساب الكيف.
وشق سلبي: حينما يقدم أولئك إلى ما لا يحسنون، ويعملون فيما لا يتقنون،
وتزداد الخطورة حينما يؤدي ذلك إلى ترقي هؤلاء في سلم القيادة حتى نفاجأ في يوم
من الأيام بقيادات هشة هزيلة لا تملك مؤهلات الدعوة والقيادة.
5-
ظاهرة ضعف التربية الرأسية لشباب الحركة:
من الظواهر الخطيرة في مسيرة الحركة ضعف التربية الرأسية لكوادرها
وعدم وجود متابعة كافية للفرد خلال تلقيه العمل التربوي، فمثلاً: نحن لا نعلم عن
هذا الفرد المستمر معنا خمس سنوات ما البرامج العلمية التي أخذها، ولا جوانب
الضعف لديه في النواحي الإيمانية وغيرها، ولا الوسائل التي عولجت بها بعض
نقاط ضعفه في مراحل سابقة، ولا البرامج العلمية والإيمانية والدعوية المفترض
أخذه لها في المستقبل، كما أننا لا نملك تقويماً لمدى استفادته من البرامج التي
شارك فيها.
والتسليم بذلك من قِبَل قيادة الحركة يعني أن دعوتها متجهة اتجاهاً جماهيريّاً
فقط، وأنه من الممكن اختراقها بسهولة من بعض من لاخلاق لهم وما أكثرهم
وبخاصة إذا أجاد أحدهم فن تبني بعض القضايا التي هي محل اهتمام كبير لدى
الحركة كالانتخابات وغيرها من القضايا التي يوالي عليها بعض الناس ويعادي.
والمفترض وجود حد أدنى من المميزات والخصائص لمن يتربى من الشباب
في المحاضن التربوية للحركة كالمعاهد العلمية والمراكز الصيفية والمخيمات
وغيرها، بحيث تصبح لدى الشاب من المسلّمات التي لابد من تحصيله لها حتى
يستمر مع إخوانه، وبالتالي: لايحتاج المربي إلى صرف جهد ووقت لغرسها في
نفوس من حوله، هذا من جهة، ومن جهة أخرى: تضمن الحركة بذلك وجود حد
أدنى من الالتزام لدى شبابها يتميزون به عن من لم يتربّ من الأشخاص في
صفوفها، ومن الممكن أن تكون تلك الخصائص والمميزات: أداء الفرائض،
واجتناب الكبائر، وعدم الإصرار على الصغائر، والحرص على إتيان المستحبات
وترك المكروهات، وحفظ شيء من القرآن الكريم، والمحافظة على صلاة الجماعة
وأداء السنن الرواتب، والمحافظة على الأذكار المأثورة، وترك مضغ القات،
وبعض الظواهر الاجتماعية المخالفة للشرع
…
ونحو ذلك.
وقبل أن أنهي الحديث حول هذه الظاهرة أشير إلى أن الضعف فيها بل وفي
الناحية التربوية عموماً ليس خاصّاً بالحركة اليمنية، بل هو عام في مختلف
الحركات والاتجاهات الدعوية في العالم الإسلامي، وينبغي للأخوة اليمنيين كما
ينبغي لغيرهم الاستفادة من أخطاء وتجارب الآخرين.
6-
ظاهرة تربية الشباب على الاكتفاء بالولاء للحركة ورموزها:
من الظواهر المحزنة والموجودة ظاهرة تربية كثير من شباب الحركة على
الولاء للجماعة ورموزها لا على القيم والمبادئ التي جاء بها الإسلام، وإذا أراد
شخص أن يعرف مصداقية هذا القول فعليه أن ينظر: كم من الأخيار ليس له
نصيب من الولاء في نفوس الكثير من شباب الحركة، وذلك بسبب عدم انضمامهم
للحركة، أوبسبب قيامهم بنقد بعض مواقفها، وكم عظمة المحبة لأشخاص لا التزام
لديهم في المظهر، وتوجد لديهم الكثير من المعاصي الظاهرة سواء في المعتقد
والفكر أو الممارسة والسلوك، وكل ما عملوه هو إظهار الانتماء للحركة والتأييد لها
في مواقفها وممارساتها.
كما عليه أن ينظر إلى روح التبرير القوية جدّاً لأخطاء وممارسات المنتمين
للحركة وبالأخص قيادتها من كثير من كوادرها، وحين تنقطع الحجة تأتيك القاعدة
المحكمة: هم أعلم وأفهم! ! .
ولكن روح التبرير تنقلب إلى روح لتجريح الأشخاص غير المنتمين للحركة،
وحينما تحاور أحدهم وتذكر له حسنة تُفْرِح عند أحد أولئك، يذكر لك سيئة تُحْزِن،
وكأن كل شغله الشاغل هو إثبات الخطأ للمتحدث عنه، ونسبة النقص إليه لا غير،
مهما علت رتبته وبلغ فضله.. نسأل الله (تعالى) للجميع السلامة والعافية.
7-
الحساسية الشديدة من النقد:
توجد لدى بعض قيادات الحركة وكثير من كوادرها حساسية كبيرة من النقد
تجعلهم يقفون موقفاً معادياً من كل من ينبه الحركة إلى أخطاء أو منكرات وقعت
فيها، وقد جر ذلك إلى تربية شباب الحركة على التبرير للأعمال المطروحة من
قِبَل قيادة الحركة وعدم نقدها، ونتج عنه: عدم تربية الحركة لوجوه قيادية شابة
مبتكرة، بل لنسخ مكررة من المربين، ولكن ليس بنفس الجودة بل بمستوى أقل،
هذا من جهة، ومن جهة أخرى: عدم نضج الأفكار المطروحة داخل الحركة بنار
النقد، وصقلها بمطرقة النصح، وكان من نتائج تلك الحساسية والغياب الملحوظ
للنقد الذاتي داخل الحركة: المبالغة والتهويل في الحديث عن الآخرين ذمّاً أو مدحاً، وتضخيم الإنجازات والاعتزاز الكبير بها، وليست الإشكالية في اعتزاز الحركة
بفعلها الصواب وحديثها عن ذلك، فذاك حق لها (وأما بنعمة ربك فحدث) ، لكن
الخطر: هو أن يتحول ذلك الاعتزاز إلى عُجْبٍ وغرور يعمي ويصم، وقد قال
بعض السلف: إنما الهلاك في اثنين: العجب والقنوط..، ولست أدري لماذا
نخاف من النقد إذا كان لدينا نكران للذات وحرص على الوصول للأفضل؟ .
وأخيراً: فنصيحة من محب؛ فإني أرى أن الواجب على الحركة الإسلامية
في اليمن أن تسعى إلى امتلاك نظرة مستقرة لتغيير المنكرات المتواجدة في الساحة
اليمنية بحيث تسير كافة جوانب العمل الإسلامي على وفقها ومن أجل خدمتها، بل
وعليها أن تُضَمّن في خدمة تلك النظرة جهود الإخوة الدعاة العاملين في الساحة من
خارجها، وأن تعمل على توظيف ما يقومون به لخدمتها، كما عليها أن تحذر من
القيادة العلمانية في الساحة اليمنية وتدرك ألاعيبهم بشكل أعمق، وتحذر من الدخول
في الشراك السياسية التي يقيمونها للحركة، وأن تعلم بأنهم ما وافقوا على دخولها
للحكومة في هذه المرحلة إلا لحاجتهم الماسة إليها، وإلى قادتها وجماهيرها، وأن
الظروف متى تحسنت بالنسبة لهم فإنهم قد يقلبون ظهر المجن للحركة في أي لحظة
كما قلبوه في السابق والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين وبخاصة في ظل الحملة
الدولية المنظمة عالميّاً وعربيّاً على ما يسمى بالحركات الأصولية لمنعها من تجاوز
ما يضعونه من دوائر حمراء، سواء أكان عن طريق العمل السياسي أو غيره.
أعزائي القراء: كانت تلك بعض الإيجابيات التي لدى الحركة الإسلامية في
اليمن، والتي أدعو العاملين في الساحة الإسلامية إلى الاستفادة منها، وهذه بعض
السلبيات التي أدعو الحركة الإسلامية في اليمن والمنضوية تحت راية التجمع
اليمني للإصلاح إلى النظر والتأمل فيها بروية وإحسان ظن، خاصة أنها كتبت
بمداد الحب وبدافع النصح وإرادة الخير، على أن ما فيها من صواب هو من الله
(تعالى) وحده، وما فيها من خطأ فهو من نفسي الأمارة بالسوء ومن الشيطان،
وأستغفر الله، والله ولي التوفيق والسداد؛ قال الله (تعالى) : [إنْ أُرِيدُ إلَاّ الإصْلاحَ
مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إلَاّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإلَيْهِ أُنِيبُ] .
المسلمون والعالم
الأصولية الغربية.. المنشأ والواقع والمستقبل
(1)
بقلم:ياسر قارئ
تمهيد:
كثرت في الآونة الأخيرة الكتابات والتصريحات حول الأصولية الإسلامية
والتنديد بخطرها حتى أصبحت قرباناً يَقْدُمُ الحجاج إلى عواصم الدول الغربية
المتسلطة، وعربوناً للمزيد من الصفقات المالية والعسكرية. وخشية من ضياع
الحقيقة وسط ضجيج الباطل أقدمت على كتابة هذا الموضوع، لنستكشف سويّاً
حقيقة الأصولية المتسترة تحت أخلاق الديمقراطية العلمانية، وفي الوقت نفسه نعي
حجم الدور الذي تلعبه تلك القوة الشريرة في تسيير دفة الأمور في عواصم القرارات، ولعل في هذه المحاولة عبرة وعظة للمنخدعين بسعة صدر الديمقراطية وجاذبيتها
الخلابة ممن صُنعوا على أعين أجنبية في المناطق الثلجية، أيضاً لعله يستفيد منها
إخوة لنا في الدين غفلوا أو جهلوا حقيقة المسرحية الدرامية التي يتم من خلالها
احتكار القرارات الخارجية المتعلقة بالشعوب الإسلامية في ردهات البرلمانات
الغربية، إذ ليست العبرة بتكوين مجموعة عمل مؤثرة تلقي بثقلها الانتخابي على
أصوات النواب؛ ليحصل المسلمون على بعض حقوقهم، وإنما بمعرفة طبيعة
العلاقة الدينية العقدية التي تربط صُنّاع القرار بتلك المنظمات؛ إذ التقوا على موجة
واحدة أصبحت لا تفرق فيها بين الرئيس والقسيس ولا بين النائب والراهب،
يعملون جميعاً لتهيأة الظروف التي نص عليها الكتاب المقدس لاستقبال أمير السلام
المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام .
وليسهل تناول الموضوع قسمته إلى ثلاث حلقات: أعرض في الأولى منها
الأسس التي قام عليها المذهب البروتستانتي النصراني وصلة ذلك بالمهاجرين
الأوائل إلى العالم الجديد، أما الحلقة الثانية فسيكون الحديث فيها عن المنظمات
الإنجيلية الأصولية التي استمدت منهجها من ذلك المذهب ودورها على المسرح
السياسي، ثم أتطرق في الختام إلى نتائج ذلك الدور من خلال صناديق الاقتراع،
مع تسليط الضوء على مواقف لبعض قادة اليمين الديني في بلاد (العم سام) !
إن الصراع الأزلي بين الحق والباطل هو الذي أدى إلى قيام ما يعرف
بالولايات المتحدة الأمريكية، فالمعروف عندنا ب (الكشوف الجغرافية) كان بمثابة
محاولة للالتفاف حول العالم الإسلامي، ومن ثم سهولة القضاء عليه؛ وذلك لفشل
أوروبا في الغزو المباشر نظراً لوجود الدولة العثمانية التي وقفت ولقرون عديدة سدّاً
حائلاً بين الصليبيين والعالم الإسلامي، فكانت رحلة كريستوفر كولمبوس التي
ادّعى فيها اكتشافه للعالم الجديد، ثم ساهم الصراع الديني بين الكاثوليك
والبروتستانت في الهجرة والاستيطان في الأرض الجديدة التي اغتصبوها من
سكانها الأصليين، وأدى تشاغل بريطانيا العظمى (سابقاً) بالمشاكل القريبة منها (أو
لعله إيثارها التركيز على المناطق الإسلامية) إلى غض الطرف عن الدولة الناشئة
على الضفة الغربية للمحيط الأطلسي؛ هذه العوامل مجتمعة أوجدت القوة العظمى
اليوم، إلا أن الدين ينفرد بدور خاص في إحداث هذا المخاض؛ حيث عبّر إليكس
دي تاكفيل عن ذلك بقوله: إننا يجب ألا ننسى: أن الدين هو الذي أوجد المجتمع
الأمريكي؛ فهو يتدخل في كل عادات المجتمع ومشاعره الوطنية، مما يشكل قوة
فريدة ومتميزة، ولا تزال النصرانية تتمتع بالهيمنة على الرأي العام الأمريكي،
وهذا مسلم به [1] ، لقد وصف دي تاكفيل أمريكا في القرن التاسع عشر تقريباً أثناء
زيارته لها، فيا ترى ما هو هذا الدين الذي أوجد هذه الإمبراطورية؟ وهل لهذا
الدين انعكاسات على صناعة القرار السياسي أم إن أمريكا دولة علمانية؟ .
لكي تتضح الصورة، سوف أستعرض واقع
المهاجرين الأوائل ومعتقداتهم:
منذ القرن السادس عشر الميلادي: أصبح الكتاب المقدس للنصارى يشتمل
على العهد القديم (التوراة) والعهد الجديد (الإنجيل) ، وكان للقس مارتن لوثر الدور
الأكبر في هذا التحول الخطير والمهم، لما له من آثار مستقبلية، ولقد سميت
حركته هذه ومن سار على نهجها فيما بعد ب (البروتستانت) أي: المعترضين الذين
خرجوا على سلطان الكنيسة الكاثوليكية في روما، ويطلق عليه النصارى لقب
المصلح ظناً منهم بأنه قد حسّن أوضاع الكنيسة وصلاتها بالمجتمع، وبغض النظر
عن الأسباب التي دفعت لوثر إلى ذلك فإن المهم في الأمر هو دمج الكتابين وتقبل
النصارى لذلك، وماذاك إلا لأن العهد القديم قد أصبح في ذلك الوقت كتاباً سياسيّاً
يقوم على قاعدة الحق الإلهي في الأرض المقدسة للشعب اليهودي [2] ، ونتيجة
لذلك الاندماج تسربت إلى العقيدة النصرانية ثلاثة أمور رئيسة هي: أولاً: زعم
اختيار الله لليهود وتفضيلهم على سائر الأمم، ثانياً: ما يدعى بالحق الإلهي لليهود
في الأرض المقدسة في فلسطين، ثالثاً: ربط الإيمان عند النصارى بعودة المسيح
عليه الصلاة والسلام ثانية بقيام دولة صهيون [3] .. وعلى هذه الأسس قامت
المنظمات الأصولية أو الإنجيلية النصرانية التي أخذت على عاتقها عبء تطويع
القرارات السياسية الخارجية للولايات المتحدة وتجييرها لصالح إسرائيل -كما
سنرى فيما بعد-.
انبثقت عن هذا الفكر في أوروبا طائفة تسمى البيورتانتس أو المتطهرين،
وقد غالت هذه الفرقة في تعظيم الكتاب المقدس مع إعطاء الأولوية للعهد القديم،
وبالتالي: ساهمت في نشر الثقافة العبرية على المستوى الشعبي، فرضع الإنجليز
النصارى مفهوم الأرض المقدسة التي حارب أجدادهم الصليبيون خلال حملاتهم
المعروفة من أجل السيطرة عليها؛ ليجتمع فيها اليهود فيكون ذلك حسبما يرون
مقدمة لعودة المسيح عليه السلام ، فوصلت النهضة العبرية بأفكارها المتداخلة
المؤيدة للصهيونية ذروتها في عهد الثورة البيورتانية في بريطانيا في القرن السابع
عشر [4] ، وتعدى التطرف النصراني إلى مطالبة مجموعة تطهيرية تدعى لفلرز
الحكومة الإنجليزية بإعلان التوراة (العهد القديم) دستوراً للبلاد [5] ، وربما لا
يستغرب أمر كهذا خاصة إذا سبقه تمهيد على مستوى المجتمع؛ إذ كانت تقام
الصلاة في الكنائس باللغة العبرية، وكذلك كانت تلاوة الكتاب المقدس بالعبرية بدلاً
من اللغة اللاتينية، وأصبح الأطفال يعمّدون بأسماء عبرية بدلاً من أسماء القديسين
النصارى، وتوجت هذه الهيمنة اليهودية على الدين النصراني بشقه البروتستانتي
بنقل يوم الاحتفال الديني ببعث المسيح (عليه الصلاة السلام) إلى يوم السبت
اليهودي [6] . وفي سنة 1807م تم تأسيس جمعية لندن لتعزيز النصرانية بين
اليهود، ولقد تبنى وزير الخارجية اللورد بالمرستون تسهيل عودة اليهود الغرباء
إلى فلسطين رغم أنه لم يكن من أتباع الحركة الصهيونية، وتابعه في ذلك اللورد
جلادستون ودوق كنت [7] .. نخلص مما سبق إلى أن حركة الإصلاح الديني في
أوروبا التي نشأت عنها طائفة البروتستانت قد غيرت كثيراً من المواقف السياسية
فضلاً عن الاجتماعية والدينية، على الرغم من أن أوروبا كانت ولا تزال ترفع
شعار العلمانية وتُسَوّقُه لدول العالم وبالذات مستعمراتها السابقة.
من تلك الطائفة البروتستانية التي تُدعى (التطهيرية) جاء جُلّ المهاجرين
الأوائل إلى الولايات المتحدة، فحملوا معهم التقاليد والقناعات التوارتية وتفسيرات
العهد القديم التي انتشرت في أوروبا وإنجلترا بالذات في القرنين السادس عشر
والسابع عشر، فسّموا أنفسهم (أبناء إسرائيل) واحتفلوا بيوم السبت راحة لهم،
وأدخلوا اللغة العبرية إلى جامعة (هارفرد) الشهيرة، وألزموا الطلاب بها، وجعلوا
ترجمة التوراة من العبرية إلى اللاتينية أساساً لاجتياز الدراسة [8] .
ويقول الرحالة الفرنسي دي تاكفيل في وصفهم: إنهم أحبوا أن يطلق عليهم
وصف الحجاج (أسوة بمن يزور موطن ولادة المسيح عليه الصلاة والسلام وطبقوا
القوانين وكأن ولاءهم للرب فقط، فلم يعد هناك ذنب إلا وأقيم عليه الحد (بمفهومهم)
من زنى أو اغتصاب أو علاقة محرمة، بل وصل الأمر بهم إلى القيام بجولات
على المنازل لمعاقبة المتخلفين عن حضور القداس الذي جعلوه فرضاً على الناس
وأنزلوا أشد العقوبة بهم [9] .
وظنوا أن العالم الجديد هو الأرض الموعودة فسمّوا مدناً كثيرة بأسماء عبرية
قديمة، كما ظنوا أن الهنود الحمر هم القبائل اليهودية العشر المفقودة فحاولوا ردّهم
إلى اليهودية؛ ليعجلوا بالعودة الثانية للمسيح عليه الصلاة والسلام ، وقد سمحوا
لليهود ببناء محافلهم الدينية في وقت مبكر جدّاً بعد هجرتهم وقبل السماح للطائفة
الكاثوليكية بذلك [10] ، الأمر الذي حدا بأحد الوزراء (رئيس المحكمة العليا فيما
بعد) واسمه روجر تاني إلى القول: إنه لو وصل إلى أمريكا أي شخص يخالف
المستوطنين البيض النصارى لما اعترف بأنه مساوٍ لهم أو مستحق لمشاركتهم في
المزايا التي يمتعون بها، فالأمم الوحيدة المتمدنة على الأرض هي الشعوب
النصرانية البيضاء التي تقطن أوروبا، وأولئك المهاجرين يمكن قبولهم [11] ،
ومن هذه التركيبة الاجتماعية والعقدية انحدر المؤسسون الأوائل لنظام الحكم
والدستور الأمريكي، فتومس جيفرسون على سبيل المثال (وهو متهم من قبل
بعضهم بعدائه للدين) قد حاول من خلال وضعه للائحة الحرية الدينية سنة 1779م
الحفاظ على انتشار النصرانية بفصلها عن الدولة، وعذره في ذلك (أي الفصل) :
هو أن النصرانية ازدهرت خلال السنين الثلاثمئة الأولى دون الحاجة إلى مؤسسة
تدعمها، وعندما تبناها الإمبراطور قسطنطين بدأ صفاؤها في الزوال [12] ، ولعل
هذا الموقف لا يبدو غريباً منه وهو الذي صنّف كتاباً عنوانه: (حياة وأخلاق يسوع
الناصري) وذلك في عصور التنوير! وبالرغم من إيمانه ب (إله الطبيعة) (وهو
عكس إله الوحي) إلا أنه أوجب على الحكومة الحث على الدين ورفض (اللادين) ،
بل وأيد رفض المحكمة لشهادة الملحد، وقال: لتكن وصمة عار عليه [13] ، وقد
أبدى اهتماماً بالغاً بالدين، وأشعر بأهميته للناس: فجعله بمثابة الدستور لهم
لحاجتهم إلى مصدر فوق البشر يدفعهم لمنح الحقوق الطبيعية للآخرين؛ مثل
الحكومة التي تحتاج إلى دستور لكبح جماحها [14]، أما أغرب ما صدر عنه: هو
اقتراحه بأن يكون شعار الولايات المتحدة على شكل أبناء إسرائيل تقودهم في النهار
غيمة وفي الليل عمود من النار، بدلاً من النسر أسوة بحال اليهود في فترة
التيه [15] ، فلا عجب إذاً في أن ينتخب للرئاسة في سنة 1800م، كيف لا وهو يعبر عن آراء وعقائد القطاع الأكبر من الشعب.
أما صنوه في التوجس من الدين جيمس ماديسون: فإنه يؤكد رأي جيفرسون
ويرى أن المؤسسة النظامية سوف تحد من التبشير بالنصرانية، وبالتالي: سوف
تؤذيها ولا تنفعها، وهذا يتطلب فصل الكنيسة عن الدولة [16] ، فالدين حسب
وجهة نظره ينتشر في أطهر صوره بدون مساندة الحكومة لا في ظلها، ولهذا: فلم
يعارض ماديسون وجود القساوسة وأماكن الصلاة في الجيش الأمريكي على الرغم
من كونه مؤسسة حكومية، إلا أنه طالب باستقلالهم عن الإدارة العسكرية [17] .
وفي دراسة قام بها أحد الباحثين ويدعى جون داسمو بعنوان (النصرانية
والدستور) دحض فكرة إلحاد الآباء المؤسسين للدستور الأمريكي، وبالنظر إلى أهم
ثلاث عشرة شخصية ممن شاركوا في مؤتمر (فيلادلفيا) : فإن ثمانية منهم يمكن
وصفهم بأنهم إنجيليون (أي أصوليون حسب التعبير المعاصر) ، وثلاثة من عامة
النصارى، واثنان موحدان هما جيفرسون، وماديسون إلا أنهما قد تحولا إلى
التعاطف مع النصرانية كما يتضح ذلك في كتاباتهم ومحاضراتهم، ولنا أن نتصور
بعد هذا حال البقية من المشاركين في المؤتمر وتأثرهم بالفكر التطهيري وانعكاس
ذلك على: سياسة الحكومة الداخلية المتعلقة بأتباع هذا الفكر، والخارجية التي
تطالب بتطبيق تعاليم الكتاب المقدس في أرض الواقع خاصة إذا ما تذكرنا ضعف
الخلافة العثمانية البيّن واحتلال الصليبيين لمواقع متقدمة في البلاد الإسلامية،
فأصبحت قضية فلسطين مسألة وقت لا أقل ولا أكثر؛ لأن القرار الشعبي والسياسي
قد اتخذ منذ زمن مبكر جدّاً؛ منذ أن قامت حركة الإصلاح اللوثرية في أوروبا،
وكانت الهجرة إلى أمريكا وقيام ذلك الكيان إرهاصات للتوجه نحو احتلال فلسطين.
لقد قام القس النصراني الأمريكي وليام بلاكستون بتكوين البعثة العبرية من
أجل إسرائيل (لاحظ الصراحة في الأسماء فهي ليست نصرانية أو كنسية) والهدف
منها هو: تسريع عودة اليهود إلى فلسطين، وقد ألّف كتاباً اسمه (المسيح آت)
يربط فيه بين العودتين، ولا تزال هذه البعثة تعمل حتى يومنا هذا ولكن تحت اسم
(الزمالة اليسوعية الأمريكية) ، وظني أن التغيير قد تم بسبب قيام الكيان الصهيوني
من جهة، وكذلك عدم إثارة الشكوك، خاصة وأن بعض المسلمين القلائل قد أخذوا
ينتبهون إلى هذه المنظمات وأدوارها المشبوهة، وتعتبر المنظمة اليوم قلب جهاز
التأثير (اللوبي) الصهيوني في أمريكا.
وشارك المنصّرون الرحالة والحجاج وعلماء الآثار في هذه المهمة، فأيقظوا
مشاعر الأمريكيين العاديين نحو العهد القديم والتاريخ اليهودي ليشجعوا الهجرة إلى
فلسطين وإقامة المستوطنات، وقامت زوجة أحد كبار التجار في (فيلادلفيا) في
سنة 1850م بشراء أراضٍ كثيرة في فلسطين، ووهبتها لإقامة مستوطنات يهودية هناك [18]، ولا يملك المرء أمام هذا إلا ترديد قول الشاعر:
ولو كان النساء كمثل هَذِهْ
…
لفضلت النساء على الرجال
مع فارق المناسبة والأشخاص بالطبع! إننا لا نستغرب أن تقوم امرأة ثرية
بالتبرع من أجل عقيدتها خاصة إذا كانت تلك هي رغبة الرئيس الأمريكي في ذلك
الوقت؛ فقد صرح جون آدامز لأحد الصحفيين اليهود بأنه يتمنى رؤية أمة يهودية
مرة ثانية في يهودا [19] .
كذلك كان للسفراء دور في هذه المهمة الدينية، إذ رفع القنصل الأمريكي في
استانبول يوم كانت حاضرة الخلافة العثمانية مقترحاته إلى وزارة الخارجية التي
تقضي بأن تكون فلسطين وليست أمريكا وطناً لليهود، فما معنى تصريح كهذا
لدبلوماسي يقيم في بلد أو دولة تتبع لها تلك المنطقة؟ .. في عرف السياسة يعتبر
هذا تدخلاً صارخاً في الشؤون الداخلية للدولة، بل والدعوة إلى النيل من سيادتها
الوطنية، وظني كما أشرت سابقاً أن القضية قد حسمت في أذهان الساسة
الأمريكيين منذ زمن بعيد، وأصبح التصريح بالدعوة إليها عن طريق الدبلوماسيين: كالدعوة التي رأيناها إلى استقلال جمهوريات البلطيق عن الاتحاد السوفييتي البائد
أيام حكم جورباتشوف، أما القنصل الأمريكي في القدس: فيبدو أنه حاول تلطيف
الأجواء، فقال في مذكراته: متوقعاً أن موضوع استعادة إسرائيل على الرغم من
عدم شعبيته الآن سيكون مقبولاً في العالم غداً، وهذا الغد هو الذي عبر عنه
الرئيس وورد ولسن قائلاً: إن على ابن راعي الكنيسة (يقصد نفسه) وقد أُعْطِيَ
الفرصة التاريخية لخدمة رغبة الرب بتحقيق البرنامج الصهيوني المساعدة على
إعادة الأرض المقدسة إلى شعبها اليهودي [20] ، فبعد تيقنه من هزيمة العثمانيين
في الحرب العالمية الأولى أكد تأييد بلاده لقرار الدول الحليفة بوضع حجر الأساس
للدولة اليهودية في فلسطين، وأيده مجلس النواب الأمريكي، وبالتالي: صادقت
أمريكا على وعد بلفور، وقد لوحظ من خلال سجلات الكونجرس تشابه مواقف
أعضاء الحزبين الجمهوري والديمقراطي واستشهاد كثير منهم بالعهد القديم
والنبوءات التوراتية أثناء المداولات [21] .
إن تربية الرئيس ولسن الدينية قد أثرت فيه وفي سياسته؛ فقد بعث بمذكرة
إلى الحاخام اليهودي استيفن وايز يشعره فيها باهتمامه البالغ والعميق بالعمل البناء
الذي قامت به (لجنة وايزمان) في فلسطين، وعبر فيها عن ارتياحه للتقدم الذي
تسير عليه الحركة الصهيونية في أمريكا وأوروبا [22] ، كما أن الرئيس إبراهام
ترومان وبسبب دراسته التوراة، مثل سلفه الرئيس إبراهام لنكولن كان يؤمن
بالتبرير التاريخي للوطن القومي لليهود، وأنه كمعمداني (إنجيلي أصولي) يحس
بشيء عميق له مغزاه في فكرة البعث اليهودي، وأن موسى (عليه الصلاة السلام)
هو الذي أتى بالمبدأ الأساس لقانون هذه الأمة من على جبل سيناء [23] ، فالشيء
العميق الذي لم يذكره هو: العودة الثانية للمسيح التي يؤمن بها المعمدانيون
النصارى، التي من شروطها كما بينا: إقامة دولة صهيون كمقدمة للعودة! أما
الغريب في الأمر هو: ما يقصده بالأمة، فهل هي أمريكا؟ أم النصارى عموماً؟
أم اليهود والنصارى؟ إن واقع الحال يدل على أنهم اليهود الذين قدمهم النصارى
على أنفسهم بسبب العقائد المتسربة إليهم من العهد القديم الذي لُقّنوه منذ قرون خلت، ولم يتوقف دعم الساسة الأمريكيين على البوح بالمشاعر الفياضة والدافئة تجاه
إسرائيل وشعبها، بل تعدى ذلك إلى الانخراط في الجماعات التي تؤيد النشاط
الصهيوني في فلسطين والغرب على حد سواء، ومن ذلك: انضمام ثمانية وستين
عضواً من مجلس الشيوخ (مجموع أعضائه: مئة، يمثل كل ولاية فيه نائبان) الذي
من صلاحياته التصديق، بل واقتراح القرارات السياسية الخارجية للدول، ومئتي
عضو من مجلس النواب (مجموع أعضائه قرابة أربعمئة) : إلى اللجنة الفلسطينية
الأمريكية (لاحظ تضليل الاسم) ، التي أسست في الثلاثينيات لتوعية الرأي العام
الأمريكي حول أهداف وإنجازات الصهيونية، وقد ردّ أحد أعضاء هذه اللجنة من
النواب على رسالة الرئيس روزفلت عندما كان متوجهاً إلى (يالطا) لحضور المؤتمر
الشهير هناك قائلاً: إن ناخبيّ ينظرون إليك كأنك موسى [معاذ الله] المعاصر،
وينتظرون منك نتائج تتعلق بدولة اليهود في فلسطين [24] .
وبمرور الأيام وتسارع الأحداث: ازداد نفوذ الأصوليين النصارى في أروقة
الكونجرس والمكتب البيضاوي، وكما سيأتي معنا بإذن الله كيف أن سقوط القدس
في سنة 1387هـ 1967م واقتراب الألف الثانية من نهايتها قد ضاعفا من جهود
الإنجيليين لدرجة أنهم أصبحوا يتحكمون في الانتخابات الرئاسية والنيابية وبالذات
العقد الأخير - كما سيأتي معنا لاحقاً-، لأن هؤلاء المتطرفين ينطلقون من عقائد
ورثوها عن التطهيريين الأوائل الذين نزلوا الأرض الجديدة، وتشبعوا بمحتويات
التوراة التي أصبحت مصدراً للقرارات السياسية العالمية؛ فانطلقوا بكل إمكاناتهم
ليقيموا الكيان الصهيوني، وقد شاركهم بل سابقهم في ذلك الرؤساء والنواب
الأمريكيون، ليس بدافع الحاجة إلى المال اليهودي لتمويل الانتخابات كما يظن،
فهذه ظاهرة متأخرة في النصف الثاني من القرن العشرين، وإنما إنطلاقاً من عقيدة
راسخة درسوها صغاراً وحاولوا فرضها على الواقع من مراكز نفوذهم كباراً، ولا
يستثنى من ذلك أحد حتى واضعو الدستور الأمريكي الذي يفترض فيه وجود الأثر
العلماني، إلا أنه كما بينا أن الدستور نفسه قد وضع بطريقة تضمن انتشار
النصرانية أو البروتستانية بالذات التي صاغت توجهات الساسة، ولا تزال حتى
عصرنا هذا، لدرجة وجود مراكز أبحاث في أمريكا مهمتها دراسة أثر (اليمين
الديني) ومنظماته على السياسة الأمريكية [*] .
(1) Alix de Tocqueville، Democracy in America، P 114.
(2)
محمد السمّاك: الصهيونية المسيحية، ص37.
(3)
المرجع السابق، ص34.
(4)
أسعد السحمراني: من اليهودية إلى الصهيونية، ص196.
(5)
الصهيونية المسيحية، ص38.
(6)
المرجع نفسه.
(7)
المرجع السابق، ص42.
(8)
يوسف الحسن: البعد الديني في السياسة الأمريكية، ص38.
(9)
Domocracy in America، P 45.
(10)
البعد الديني في السياسة الأمريكية، ص37.
(11)
نورتن فريش وريتشارد ستفينز: الفكر السياسي الأمريكي، ص160.
(12)
Garry Wills، Under God، P 368.
(13)
الفكر السياسي الأمريكي، ص28.
(14)
المرجع السابق، ص36.
(15)
البعد الديني في السياسة الأمريكية، ص41.
(16)
Under God، P 375.
(17)
المرجع السابق، ص379.
(18)
Robert Dugan، Gr ، Winning The New Civil War، P 155.
(19)
الصهيونية المسيحية، ص58.
(20)
البعد الديني في السياسة الأمريكية، ص40.
(21)
من اليهودية إلى الصهيونية، ص214.
(22)
البعد الديني في السياسة الأمريكية، ص45.
(23)
المرجع السابق، ص47.
(24)
الصهيونية المسيحية، ص60.
(25)
المرجع السابق، ص65. الهامش رقم 25 لم يشار إليه في المقالة (ماس) .
(26)
البعد الديني في السياسة الأمريكية، ص48. الهامش رقم 26 لم يشار إليه في المقالة
(ماس) .
(*) من هذه المراكز: جامعة (ويسكانسن) في مدينة (ماديسون) ، وجامعة (ميتشجن) ، بالإضافة إلى العديد من الجامعات الأصولية! .