الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
افتتاحية العدد
مُسَعّرُ حرب لو كان معه أحد
تمر الأمة الإسلامية في هذه الفترة بمرحلة دقيقة قد تحدد وضعها لسنوات
طويلة قادمة، فهناك مظاهر انبعاث إسلامي في كل أنحاء المعمورة، وهناك
محاولات وأد لهذا الانبعاث، ولهذا فإنه مما لا يدعو للاستغراب كون المسلمين
طرفاً مستهدفاً في معظم بؤر التوتر في العالم في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، لأن
أعداء الله في سباق مع الزمن؛ ولهذا نجد معظم أعمالهم ضد المسلمين تبدو وكأنها
تستبق شيئاً، وعند استعراض كثير من الأعمال نجد فيها الاستعجال والتوتر،
وإليك بعض الأمثلة:
1-
ما يسمى بالعملية السلمية في الشرق الأوسط: لقد حاول اليهود في فترة
احتلالهم تذويب الفلسطينيين وجعلهم جزءاً من مجتمع الكيان الصهيوني يمثلون
مصدر العمالة الرخيصة، عماله تعمل وتكدح لتعيش عيشة الكفاف، ليس لها هدف
ولا يحدوها أمل، تبني المجمعات السكنية ليقيم فيها يهود الشتات، تزرع الأرض
ليُصَدّرَ الإنتاج ويلصق عليه (أنتج في إسرائيل) ، جموع تذهب وتجيء هدفها فقط
هو الحياة، نعم
…
مجرد الحياة! ، ولهذا: فقد حاول اليهود حرمانها حتى من
الزعامة المصنوعة المتمثلة في منظمة التحرير. ولكن حصل ما لم يكن بالحسبان،
لقد أصبح للجماهير هدف وأصبح لها زعامة نابعة من ذاتها، لها مبادئ غير
مستوردة أو مفصلة في بلاد الأعداء، وكانت الانتفاضة ميدان التنافس بين
الزعامتين والتوجهين؛ وهنا حصل الانقلاب وأصبح الرخيص غالياً، وبدا أن
ياسر عرفات هو السلعة الوحيدة التي أنتجتها الدول العربية واستوردتها إسرائيل،
وهذه أولى خطوات التطبيع.
2-
لقد كان الغرب أثناء تهاوي المنظومة الاشتراكية يبشر العالم بعصر جديد
شعاره: حرية الاقتصاد، وتعددية الأحزاب، ونهاية عهد حكومات الحزب الواحد
الذي كان شاملاً في دول ما يسمى بالعالم الثالث، وكانوا يضغطون على الدول
للسماح بالتعددية، ولكن اكتشفوا أن هذا التوجه سيؤدي حتماً إلى قيام دول إسلامية
التوجه، فسرعان ما تغيرت المواقف وتم استثناء العالم الإسلامي، وأصبح الموقف
الجديد هو دعم الأنظمة القائمة بشرط واحد وهو: المشاركة في التصدي للعدو رقم
واحد للغرب حسب نظرية (صدام الحضارات) ألا وهو الإسلام، وقد اتخذ هذا
أشكالاً متعددة: فهناك دعم لنظام علماني صريح حساس تجاه أي شعار أو مظهر
إسلامي كما في تركيا. وأيضاً احتواء أحزاب شيوعية كانت تحكم المسلمين في
الجمهوريات باسم الحزب الشيوعي الروسي والسماح لها بممارسة السلطة بشروط
منها: التصدي للصحوة، وفتح البلاد للنفوذ الغربي، حتى إن أمريكا تحدد
لأذربيجان الخط الذي يمكن أن يمر معه خط أنابيب البترول الخاص بها. أما في
كثير من البلاد العربية فإن المواجهة أشد قسوة بسبب: أن تنامي المد الإسلامي
يمثل خطورة مباشرة على كيان اليهود في فلسطين، وأصبحت مواجهة التطرف
والأصولية بزعمهم هي عربون الولاء للغرب والحرص على مصالحه، ويكفي أي
نظام أن يعلن أنه قتل عدداً ممن يشتبه أنهم من المتطرفين (لاحظ من المشتبه) حتى
ينكس الغرب رايات حقوق الإنسان، بل وتنهال عليه الهبات والقروض ويحصل
على إطراء البنك الدولي أيضاً، بل إنه عندما تشكو دولة اليهود أن الإسلاميين
يحصلون على أموال من تبرعات المسلمين في أمريكا وأوروبا وغيرها: يتصدى
كلينتون للقضية ويصدر قراراته السريعة ويمارس ضغوطه على الذين لديهم القابلية
للانضغاط.
3-
مطاردة العناصر الإسلامية البارزة المشردة في كل مكان تأوي إليه،
وتكثيف المتابعة لأي مشروع إسلامي ثقافي محض حتى لو كان مسجداً أو مدرسة،
ومحاولة إلصاق التهم الجاهزة التي لا يُقبل أن يعتذر عنها رغم ثبوت بطلانها، بل
وتنازلت أمريكا عن حقوق مواطنيها إذا كانت أصولهم إسلامية؛ فبينما يصل
اليهودي الذي لم يحصل على الجنسية إلا منذ سنتين على أعلى المناصب في البيت
الأبيض تبادر مخابرات بلد غربي إلى التقرب من أمريكا عن طريق اعتقال مسلم
يحمل الجنسية الأمريكية بدون أدلة تدينه إلا سحنته العربية و (سَمْتَه الإسلامي) .
4-
مقاومة بروز أي كيان إسلامي جديد، وهذا واضح بيّن في حالة البوسنة
وكشمير والشيشان، ولن نسهب في مواقف الغرب ولكن لابد للمراقب أن يلاحظ
التناقض في المواقف؛ فمثلاً في حالة البوسنة كانت الأمم المتحدة والغرب يعلمون
بوجود معسكرات الاعتقال والتعذيب الصربية، وحرصوا على التكتم عليها حتى تم
كشفها عن طريق الصحافة، أما في الفترة الأخيرة: وبينما كان المسلمون يعدون
إمكاناتهم المتواضعة من أجل محاولة فك الحصار عن سراييفو، فقد بادر الغرب
بالإعلان عن الحشود المسلمة، بل وتبرعت أمريكا بإعلان عدد القوات المحتشدة،
أما الرئيس الفرنسي الجديد فإنه حذر المسلمين من الهجوم، هذا في الوقت الذي لم
نسمع فيه أي تحذير غربي من أي هجوم صربي، بل ولم تتفضل أمريكا بإعلان
حجم التعزيزات الضخمة القادمة من صربيا نجدة لصرب البوسنة في خرق صريح
للحظر الدولي الذي يبدو أنه مطبق بحزم فقط على جانب واحد: هو المسلمين.
كلمة أخيرة لابد منها، وهي: إن كل هذه الأعمال لن توقف المد الإسلامي
الذي هو قدر الله لهذا العالم، فكل أعمالهم وبذلهم سيكون عليهم حسرة في الدنيا
وندامة في الآخرة؛ قال (تعالى) : [إنَّ الَذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن
سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ
يُحْشَرُونَ] [الأنفال: 36] .
لقد حاول الصرب القضاء على الإسلام في البوسنة، فتقدمت الصحوة
الإسلامية في البوسنة تقدماً هائلاً، وكانت أفعال الصرب عاملاً مهمّاً فيها. وأيضاً
لقد حاولت فرنسا وأذنابها وقف تقدم الإسلام في الجزائر؛ فحدث أن قامت الطغمة
الحاكمة بقتل آلاف الأشخاص وضاقت السجون على سعتها؛ فأقاموا المعسكرات في
الصحراء وملؤوها بالشباب المسلم، فماذا حصل؟ لقد دفع الشعب
الجزائري 000 ر40 قتيل حتى تقتنع الحكومة بالحوار مع جبهة الإنقاذ وتعود إلى نقطة الصفر! ! .
إلى كل المجاهدين إلى كل الدعاة المطاردين: اثبتوا فإن الله ناصر عباده
الصالحين، لا يفت في عضدكم قلة المعين وضعف الناصر، ولا يرهبنكم محاولات
التضييق والمحاصرة، فإن بعد كل عسر يسراً، وبعد كل ضيق فرجاً، ومن كان
الله معه كفاه، وسيرتد بإذن الله كيد الكائدين إلى نحورهم، وما أحرى بكل مسلم
وكل كيان إسلامي تكالبت عليه الأعداء وضاقت به السبل أن يستلهم العبرة من خبر
صحابي جليل لم يكن من قبله مشهوراً:
إنه خبر أبي بصير رضي الله عنه الذي عمل ما عمل من جهود لمضايقة
قريش، وأفلح في أن يؤدي دوره بكل جدارة كانت محل إعجاب الرسول -صلى
الله عليه وسلم-، ما أحوجنا إلى تأمل قصص الأنبياء والصالحين كما وردت في
القرآن والسنة؛ ففيها عبر ودروس تهون معها ما يلاقيه الدعاة والعاملون للإسلام
من مضايقات وعوائق في الطريق، وصدق الله العظيم:
[كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ][المجادلة: 21] .
دراسات شرعية
اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في ضوء الوحيين
حقيقته، منزلته، مظاهره، عوائقه
(1)
بقلم: فيصل بن علي البعداني
اتباع النبي أحد أساسيات دين الإسلام ومسلماته، وقد تواترت النصوص الشرعية الصحيحة في بيانه، إلا أن ذلك لم يمنع انحراف طوائف من المسلمين عن سلوك الجادة فيه، حيث اضطربت فيه أفهام وزلت أقدام؛ مما جعل الحاجة لإيضاحه تعظم، والبيان يتوجب، ولذا: فسأحاول في هذه الدراسة التعريج عليه لبيان بعض جوانبه، راجياً الله (تعالى) أن يوفق للخير ويصلح القصد.
الاتباع في اللغة:
مصدر اتبع الشيء إذا سار في أثره وتلاه، والكلمة تدور حول معاني اللحاق
والتطلب والاقتفاء والاقتداء والتأسي.
يقال: اتبع القرآن: ائتم به وعمل بما فيه، واتبع الرسول -صلى الله عليه
وسلم-: اقتدى به واقتفى أثره وتأسى به [1] .
الاتباع في الشرع:
هو الاقتداء والتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في الاعتقادات والأقوال
والأفعال والتروك، بعمل مثل عمله على الوجه الذي عمله صلى الله عليه وسلم
من إيجاب أو ندب أو إباحة أو كراهة، مع توفر القصد والإرادة في ذلك.
ويكون الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم في الاعتقادات: بأن يعتقد العبد
ما اعتقده النبي صلى الله عليه وسلم على الوجه الذي اعتقده من ناحية الوجوب
أو البدعية، أو لكونه من أسس الدين أو ناقضاً لأصله أو قادحاً لكماله
…
إلخ من
أجل أنه اعتقده صلى الله عليه وسلم، ويشمل الاعتقاد هنا: قول القلب وهو
التصديق، وعمل القلب وهو الإخلاص والمحبة والتوكل والخوف والرجاء.. إلخ.
ويكون الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم في الأقوال: بامتثال مدلولها،
وما جاءت به من معانٍ، لا أن تكرر ألفاظها وتردد نصوصها فحسب، فمثلاً:
الاتباع لقوله صلى الله عليه وسلم: صلوا كما رأيتموني أصلي [2] يكون
بالصلاة كصلاته.
كما يكون الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم في الأفعال: بأن نفعل مثل
فعله على الوجه الذي فعله من أجل أنه فعله.
فقولنا (مثل فعله) : لأنه لا تأسي مع اختلاف صورة الفعل وكيفيته.
وقولنا (على الوجه الذي فعله) : معناه المشاركة في غرض ذلك الفعل ونيته
(إخلاصاً، وتحديداً للفعل من حيث كونه واجباً أو مندوباً) لأنه لا تأسي مع اختلاف
الغرض والنية وإن اتحدت صورة الفعل.
وقولنا (من أجل أنه فعله) : لأنه لو اتحدت الصورة والقصد ولم يكن المراد
التأسي والاقتداء فإنه لا يكون اتباعاً.
ويكون الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم في التروك: بأن نترك ما ترك
على الصفة والوجه الذي ترك من أجل أنه ترك، وهي القيود نفسها في الاتباع في
الأفعال.
والمراد باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم اتباعه في كل ما جاء به من
أوامر ونواهٍ في القرآن والسنة لقوله صلى الله عليه وسلم: ألا إني أوتيت الكتاب
ومثله معه، ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه [3]، قال عطاء: طاعة الرسول-
صلى الله عليه وسلم: اتباع الكتاب والسنة [4] .
المخالفة ضد الاتباع:
وتكون المخالفة في الاعتقاد والقول والفعل والترك، فأما المخالفة في الاعتقاد
تكون بأن يعتقد العبد خلاف ما اعتقده النبي صلى الله عليه وسلم كأن يُحِلّ إنسان
ما عُلم بالضرورة تحريمه من دين الإسلام، أو يحرم ما علم بالضرورة حله من
دين الإسلام، ومثل أن يبتدع في دين الله (تعالى) ما ليس منه كالاحتفالات البدعية
التي لم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته رضي الله عنهم ، ومثل
أن يعتقد أحد بأن المخالفين لشرع الله (تعالى) وما جاء به النبي -صلى الله عليه
وسلم- هم أولياء الله وأحباؤه. والمخالفة في القول تكون بترك امتثال ما اقتضاه
القول ودل عليه من وجوب أو حظر، والمخالفة في الفعل تكون بالعدول عن فعل
مثله مع كونه واجباً، والمخالفة في الترك تكون بفعل ما ترك مع كونه محرماً.
ولا تكون المخالفة في ترك المندوب وفعل المكروه، بل لا تكون إلا في ترك
الواجب وفعل المحرم.
علاقة الاتباع بالزمان والمكان:
لا علاقة للزمان المخصص أو المكان المخصص بالفعل لمجرد وقوعه فيه إلا
بدليل خارجي عن ذلك الفعل، فإن خصص المصطفى صلى الله عليه وسلم لنا
بذلك الدليل الخارجي لذلك الفعل زماناً أو مكاناً خصصناه به كتخصيص الطواف
حول الكعبة والاستلام بالحجر الأسود والركن اليماني (مع اختلاف في الصفة)
والصيام الواجب بشهر رمضان، والوقوف بعرفات في اليوم التاسع من ذي الحجة، وعيدي الفطر والأضحى بوقتهما المعروف، وأما ما فعله بحكم الاتفاق والمصادفة
ولم يقصده لذاته -ولو تكرر ذلك- مثل: أن ينزل بمكان ويصلي فيه، لكونه نزل
لا قصداً لتخصيصه بالصلاة والنزول فيه، فإذا قصدنا تخصيص ذلك المكان
بالصلاة فيه أو النزول لم نكن متبعين على الأصوب بل مبتدعين، وقد ورد نهي
الفاروق عمر رضي الله عنه في قوله الثابت: إنما هلك أهل الكتاب أنهم اتبعوا
آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبيعاً، فمن عرضت له الصلاة [أي: في موضع
صلاته صلى الله عليه وسلم] فليصل أو فليمض [5] ، وتؤكد هذا المعنى أم
المؤمنين عائشة رضي الله عنها فتقول: نزول الأبطح ليس بسنة، إنما نزله
رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان أسمح لخروجه إذا خرج [6] ، ولقد
قرر كثير من أهل العلم هذا المعنى: كابن تيمية في الفتاوى [7] ، والآمدي في
أحكامه حيث قال:
…
فلو وقع فعله في مكان أو زمان مخصوص فلا مدخل له في
المتابعة والتأسي وسواء تكرر أو لم يتكرر، إلا أن يدل الدليل على اختصاص
العبادة به كاختصاص الحج بعرفات، واختصاص الصلوات بأوقاتها، وصوم
رمضان [8] .
الأفعال النبوية من حيث الاتباع والتأسي:
تنقسم أفعال النبي صلى الله عليه وسلم من حيث الاتباع والتأسي إلى ثلاثة
أقسام هي:
1-
الأفعال الجبلية:
كالقيام والقعود والشرب والنوم وغير ذلك، وهي نوعان من جهة التأسي
والاتباع:
* نوع جاء النص الخارج عن الفعل بإيجابه أو ندبه، كالأكل باليمين،
والشرب ثلاثاً وقاعداً، والنوم على الشق الأيمن فهذا يشرع التأسي والاقتداء به في
ذلك.
* نوع لم يأت نص دال على مشروعيته، وهو باق على الأصل من حيث
الإباحة للجميع؛ وذلك لأن الأوصاف التي يطبع عليها الإنسان كالشهوة إلى الطعام
والشراب لا يطلب برفعها ولا بإزالة ما غرز في الجبلة منها [9] . وهذا النوع محل
خلاف بين أهل العلم في مشروعية التأسي والاقتداء به صلى الله عليه وسلم فيه
على جهة الندب على قولين:
أ- أن التأسي والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا النوع مندوب،
وقد كان ابن عمر رضي الله عنه يفعل مثل ذلك وإن كان قد فعله -صلى الله عليه
وسلم- اتفاقاً ولم يقصده.
ب- أنه لا يشرع التأسي والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وهذا قول
وفعل جمهور الصحابة رضي الله عنهم ، ومنهم الفاروق وعائشة (رضي الله
عنهما) كما في كلامهما المتقدم [10] .
ويلحق بالأفعال الجبلية: الأفعال التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم
بمقتضى العرف والعادة كلبس الجبة والعمامة وإطالة الشعر ونحو ذلك، إذ لا تدل
على غير الإباحة إلا إذا ورد دليل على مشروعيتها [11] .
2-
الأفعال التي علم أنها من خصائصه صلى الله عليه وسلم:
ذكر أهل العلم في باب خصائصه صلى الله عليه وسلم أموراً من المباحات
والواجبات والمحرمات بعضها متفق على حكمه بالنسبة له صلى الله عليه وسلم
وبعضها الآخر فيه خلاف، فمن المباح له: الزيادة على أربع نسوة في النكاح،
والنكاح بلا مهر، ونكاح الموهوبة، ومن الواجب عليه: وجوب التهجد وقيام الليل، ومن المحرم عليه: الأكل من الصدقة، وأكل ذي الرائحة الخبيثة كالثوم والبصل.
فهذه خصائص لا يشاركه فيها أحد ولا يقتدى ويتأسى به فيها [12] ؛ قال
الشوكاني: والحق أنه لا يقتدى به صلى الله عليه وسلم فيما صرح لنا بأنه
خاص به كائناً ما كان إلا بشرع يخصنا [13] .
ويلحق بهذا ويرجع إليه: ما خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم
بعض أصحابه دون بعض؛ كشهادة خزيمة وأضحية أبي بردة [14] ، كما يلحق به
ما خص به صلى الله عليه وسلم أهل بيته رضي الله عنهم كالمنع من أكل
الصدقة.
3-
الأفعال التعبدية:
وهي الأفعال غير الجبلية وغير الخاصة التي يقصد بها التشريع، فهذه
مطلوب الاقتداء والتأسي به صلى الله عليه وسلم فيها، وهي الأصل في أفعال
النبي صلى الله عليه وسلم لقوله (تعالى) : [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ
…
] [الأحزاب: 21] إلا أن صفتها الشرعية تختلف من حيث الإيجاب أو
الندب بحسب القرائن.
قواعد مهمة في الاتباع:
لتقرير ما سبق حول حقيقة الاتباع أذكر القواعد التالية:
أ- مبنى دين الإسلام على الوحي والنقل الصحيح لا العقل والاستنباط، فما
جاءنا من أمر ونهي في كتاب الله (تعالى) أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم
وجب علينا قبوله والمبادرة إلى امتثاله فعلاً أو تركاً.
ب- يتعين على المسلم البحث عن الحكم الشرعي والتثبت فيه قبل إتيان
العمل في جميع شؤون حياته، وتطبيق ذلك هو حقيقة الاتباع والتأسي برسول
الله صلى الله عليه وسلم؛ يقول الشاطبي حول ذلك: كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له فقد ناقض الشريعة، وكل من ناقضها فعمله في المناقضة باطل، فمن ابتغى في التكاليف ما لم تشرع له فعمله
باطل [15] .
ج- ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم من جنس العبادات ولم يفعله مع
وجود المقتضي لفعله على عهده صلى الله عليه وسلم ففعله بدعة وتركه سنة،
كالاحتفال بالمولد النبوي والإسراء والمعراج والهجرة ورأس السنة ونحوها، قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد [16] . يقول الإمام مالك رحمه الله : فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً [17] .
د- كل ما يحتاجه الناس في أصول الدين وفروعه، في أمور الدنيا والآخرة
من العبادات والمعاملات في السلم أو الحرب، في السياسة أو الاقتصاد
…
إلخ
جاءت الشريعة ببيانه وإيضاحه؛ قال الله (تعالى) : [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً
لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ] [النحل: 89]، وقال (سبحانه) :
[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً]
[المائدة: 3] .
هـ - أن الاتباع لا يتحقق إلا إذا كان العمل موافقاً للشرع في ستة أمور،
هي:
1-
السبب: فإذا تعبد الإنسان لله (تعالى) بعبادة مقرونة بسبب غير شرعي
فهي بدعة مردودة على صاحبها، مثل إحياء ليلة السابع والعشرين من رجب
بالتهجد بحجة أنها ليلة الإسراء والمعراج، فالتهجد عبادة، لكن لما قرن بهذا السبب
كان بدعة لكونه بني على سبب لم يثبت شرعاً.
2-
الجنس: فإذا تعبد الإنسان لله (تعالى) بعبادة لم يشرع جنسها فهي غير
مقبولة؛ كالتضحية بفرس لأن الأضاحي لا تكون إلا من جنس بهيمة الأنعام (الإبل
البقر الغنم) .
3-
القدر أو العدد: فلو أراد إنسان أن يزيد صلاة على أنها فريضة أو ركعة
في فريضة، فعمله ذلك بدعة مردودة لأنها مخالفة للشرع في القدر أو العدد.
4-
الكيفية: فلو نكس إنسان الوضوء أو الصلاة لما صح وضوؤه أو صلاته؛ لأن عمله مخالف للشرع في الكيفية.
5-
الزمان: فلو ضحى إنسان في رجب أو وقف بعرفات في التاسع من ذي
القعدة لما صح ذلك منه لمخالفته للشرع في الزمان.
6-
المكان: فلو اعتكف إنسان في منزله لا في المسجد، أو وقف بمزدلفة لا
عرفات لما صح ذلك منه لمخالفته للشرع في المكان [18] .
والأصل في العبادات بالنسبة للمكلف التعبد والامتثال دون الالتفات إلى الحِكَم
والمعاني وإن كانت ظاهرة في كثير منها، ولا يفهم من ذلك أن البحث عن الحِكَم
والمعاني في العبادات التي دلت عليها القرائن ليس بمطلوب، كيف لا وقد ذكر الله
(تعالى) شيئاً من ذلك مثل قوله: [لعلكم تعقلون][لعلكم تفلحون] [لعلكم
تتقون] ، ولكن المراد: التحذير من التنطع في استخراجها أو ربط القيام بالتنفيذ
والعمل بمعرفتها والأصل في العادات والمعاملات الالتفات إلى المعاني والبحث عن
الحكم وإن كانت قد لا تظهر في أشياء منها [19] .
ز- المشقة ليست مقصودة في الشريعة، ولذا: قال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- للشيخ الذي نذر أن يمشي وكان يهادى بين ابنيه: إن الله عن تعذيب
هذا نفسه لغني، وأمره أن يركب [20]، قال العز ابن عبد السلام مقرراً ذلك: لا
يصح التقرب بالمشاق، لأن القرب كلها تعظيم للرب سبحانه وتعالى ، وليس عين
المشاق تعظيماً ولا توقيراً [21] .
منزلة الاتباع في الشريعة:
للاتباع منزلة عظيمة في الشريعة الإسلامية، ويتضح ذلك من خلال النقاط
التالية:
1-
الاتباع شرط لقبول العبادات:
لا قبول لعمل من الأعمال العبادية إلا بالاتباع والموافقة لما جاء به محمد -
صلى الله عليه وسلم، بل إن الأعمال التي تعمل بلا اتباع وتأسّ لا تزيد عاملها
من الله إلا بعداً؛ وذلك لأن الله (تعالى) إنما يعبد بأمره الذي بعث به رسوله -صلى
الله عليه وسلم- لا بالآراء والأهواء؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من
عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد [22]، قال الحسن البصري: لا يصح القول
إلا بعمل، ولا يصح قول وعمل إلا بنية، ولا يصح قول وعمل ونية إلا
بالسنة [23] .
2-
هو أحد أصلي الإسلام الأساسين:
الإخلاص وإفراد الله بالعبادة هو حقيقة إيمان العبد وشهادته بأن لا إله إلا الله،
والاتباع والتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم هو حقيقة إيمان العبد وشهادته
بأن محمداً رسول الله، فلا يتحقق إسلام عبد ولا يقبل منه قول ولا عمل ولا اعتقاد
إلا إذا حقق هذين الأصلين (الإخلاص الاتباع) وأتى بمقتضاهما؛ قال الله (تعالى) :
[فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً]
[الكهف: 110]، يقول ابن تيمية: وبالجملة فمعنا أصلان عظيمان، أحدهما: ألا
نعبد إلا الله، والثاني: ألا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بعبادة مبتدعة، وهذان
الأصلان هما تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله [24] ، ويقول ابن
القيم: فلا يكون العبد متحققاً ب (إياك نعبد) إلا بأصلين عظيمين: أحدهما: متابعة
الرسول صلى الله عليه وسلم، والثاني: الإخلاص للمعبود [25] .
3-
هو سبب لدخول الجنة:
ويدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد
أبى [26]، وقال الزهري (رحمه الله تعالى) : الاعتصام بالسنة نجاة [27] .
4-
هو دليل محبة الله (تعالى) :
ويدل لذلك قول الله (تعالى) : [قُلْ إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] [ال عمران: 31] ؛ يقول ابن كثير: هذه
الآية حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه
كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين المحمدي في
جميع أقواله وأفعاله [28] .
5-
طريق تحصيل محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحقيقة:
أوجب الله (تعالى) على عباده محبة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتقديم
ذلك على محبة النفس والمال والولد والوالد والناس أجمعين؛ كما في الحديث: لا
يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين؛ [29] وقوله -
صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب، حين قال: يا رسول الله لأنت أحب إليّ
من كل شيء إلا من نفسي، فقال صلى الله عليه وسلم: لا والذي نفسي بيده
حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إليّ من
نفسي، فقال صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر [30] .
ولا سبيل لتحصيل تلك المحبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتحقيقها إلا عن
طريق الاتباع والحرص على الكمال فيه؛ يقول الخطابي حول هذا المعنى: لم يرد
به حب الطبع بل أراد به حب الاختيار، لأن حب الإنسان لنفسه طبع ولا سبيل
إلى قلبه، قال: فمعناه: لا تصدق في حبي حتى تفني في طاعتي نفسك وتؤثر
رضاي على هواك وإن كان فيه هلاكك [31] .
6-
الاتباع سبيل امتثال الأوامر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وتجنب
الوعيد المترتب على ذلك:
أمر الله عباده بطاعة نبيه في آيات كثيرة منها قوله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ
آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
…
] [النساء: 59] ورتب الوعيد الشديد على
مخالفته، كما في قوله (تعالى) : [قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإن تَوَلَّوْا فَإنَّ اللَّهَ لا
يُحِبُّ الكَافِرِينَ] [آل عمران: 32] .
ولا سبيل للعبد إلى امتثال تلك الأوامر بطاعة الرسول -صلى الله عليه
وسلم- والاستجابة له وتجنب الوعيد الشديد على ذلك دنياً وآخرة إلا بالاتباع
والتأسي.
7-
الاتباع من صفات المؤمنين اللازمة لهم:
ويدل لذلك قوله (تعالى) : [وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ
هُمُ الفَائِزُونَ] [النور: 52] ، وقد نفى الله سبحانه وتعالى الإيمان عن من
أعرض عن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يرض بحكمه؛ قال الله
(تعالى) : [فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي
أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] [النساء: 65] .
8-
الاتباع علامة من علامات التقوى:
اتباع النبي صلى الله عليه وسلم من علامات ودلائل تقوى القلب وصحة
إيمانه؛ قال الله (تعالى) : [ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ]
[الحج: 32] وشعائر الله: أوامره وأعلام دينه الظاهرة، ومن أبرزها وأعلاها
طاعة النبي صلى الله عليه وسلم واتباع شرعه [32] .
من مظاهر الاتباع:
للاتباع مظاهر كثيرة من أهمها وأبرزها:
1-
تعظيم النصوص الشرعية:
ويكون تعظيم النصوص الشرعية بتقديرها وإجلالها، وتقديمها وعدم هجرها، واعتقاد أن الهدى فيها لا في غيرها، وتعلمها وفهمها وتدبرها والعمل بها والتحاكم
إليها وعدم معارضتها، وقد كان هذا هو هدي أئمة الاتباع وسادته من الصحابة
والتابعين ومن جاء بعدهم، وحدث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم قال: إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها فقال
أحد بنيه: إذن والله أمنعها، فأقبل عليه ابن عمر فشتمه شتمة لم يشتمها أحداً قبله
قط، ثم قال: أحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: إذن والله
أمنعها [33] .
وحدث ابن سيرين رجلاً بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل: قال فلان وفلان كذا، فقال ابن سيرين أحدثك عن النبي صلى الله عليه وسلم
وتقول قال: فلان وفلان كذا وكذا؟ والله لا أكلمك أبداً [34] .
2-
الخوف من الزيغ والانحراف عن الحق:
وقد كان ذلك واضحاً جليّاً لدى الصحابة (رضوان الله عليهم) بل إن أفضل
هذه الأمة بعد نبيها (أبا بكر الصديق) كان يقول: لست تاركاً شيئاً كان رسول الله -
صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، وإني لأخشى إن تركت شيئاً من أمره
أن أزيغ، وقد عقب ابن بطة على كلمة الصديق تلك فقال: هذا يا إخواني الصديق
الأكبر يتخوف على نفسه من الزيغ إن هو خالف شيئاً من أمر نبيه -صلى الله عليه
وسلم-، فماذا عسى أن يكون من زمان أضحى أهله يستهزئون بنبيهم وأوامره
ويتباهون بمخالفته ويسخرون بسنته؟ ! نسأل الله عصمةً من الزلل ونجاةً من سوء
العمل [35] .
3-
الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم والتأسي به ظاهراً وباطناً:
بحيث يجرد العبد متابعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويكتفي بالتلقي
عنه؛ فلا اعتقاد ولا عبادة ولا معاملة ولا خلق ولا أدب ولا نظام اجتماعي ولا
اقتصادي أو سياسي
…
إلخ، إلا عن طريقه وعلى وفق ما جاء به من أحكام
وتعاليم في الكتاب الكريم والسنة الصحيحة، بحيث تكون شريعته هي المهيمنة
والرائدة.
4-
تحكيم العبد للشرع وتحاكمه إليه:
بحيث يُحَكّم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة
ويتحاكم إليهما، ويجعل ذلك هو الميزان الذي يزن بواسطته الأقوال والأفعال
والأحكام، فما وافقها قبله وعمل بما فيه، وما خالفه رده وإن قاله من قاله؛ قال الله
(تعالى) : [فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّي يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ][النساء: 65] ،
وتحكيم العبد وتحاكمه إلى الشريعة وحرصه على أن تكون جميع شؤونه خاضعة لها
هو السمة البارزة والعلامة الفارقة بين المسلم الحريص على الاتباع للحق ومن اتبع
هواه بغير هدى من الله فضل وأضل، سواء أسمّي ذلك الهوى عقلاً أو ذوقاً أو
مصلحة أو إماماً أو حزباً أو نظاماً.. إلخ.
4-
الرضا بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعه:
عن العباس رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً [36] .
فإذا رضي المسلم بمحمد صلى الله عليه وسلم نبيّاً ورسولاً: لم يلتفت إلى
غير هديه ولم يعول في سلوكه على غير سنته، وحَكّمَه وحاكم إليه، وقبل حكمه
وانقاد له وتابعه واتّبَعَه ورضي بكل ما جاء به من عند ربه، فيسكن قلبه لذلك،
وتطمئن نفسه، وينشرح صدره، ويرى نعمة الله عليه وعلى الخلق بهذا النبي -
صلى الله عليه وسلم وبدينه أيما نعمة، فيفرح بفضل ربه عليه ورحمته له بذلك؛
حيث جعله من أتباع خير المرسلين وحزبه المفلحين؛ قال الله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا
النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ *
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ]
[يونس: 57، 58] والرضا كلمة تجمع القبول والانقياد؛ فلا يكون الرضا إلا حيث يكون التسليم المطلق والانقياد الكامل ظاهراً وباطناً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من ربه [37] .
(1) انظر: لسان العرب ج1، ص416، 417، المعجم الوسيط ج1، ص81.
(2)
البخاري مع الفتح ج2، ص131، 132، ح631.
(3)
أخرجه أحمد: ج4، ص134، وصححه الألباني.
(4)
الدارمي: ج1، ص516.
(5)
قال ابن تيمية في الفتاوى (ج10، ص410) : ثبت بالإسناد الصحيح.
(6)
أخرجه مسلم: م2 ص951، ح1311.
(7)
انظر الفتاوى: ج10، ص409.
(8)
الأحكام للآمدي: ج1 ص226.
(9)
الموافقات للشاطبي: ج2، ص108.
(10)
انظر في تقرير ذلك: كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لابن تيمية ص105، 106.
(11)
انظر: أفعال النبي صلى الله عليه وسلم للأشقر، ج1، ص 235، 236.
(12)
انظر: الأحكام للآمدي، ج1، ص228.
(13)
إرشاد الفحول: ص35، 36.
(14)
انظر: الموافقات للشاطبي: ج2، ص245، 246.
(15)
الموافقات: ج2، ص333.
(16)
مسلم: م3، ص1344، ح 1718.
(17)
الاعتصام للشاطبي: ج1، ص49.
(18)
انظر: الإبداع في بيان كمال الشرع وخطر الابتداع لابن عثيمين ص 21، 22.
(19)
راجع مبحث الشاطبي النفيس في ذلك، في الموافقات: ج2، ص 300-310.
(20)
مسلم: م3، ص1263، ح 1642.
(21)
قواعد الأحكام في مصالح الأنام: ج1، 30.
(22)
مسلم: م2، ص1344، ح1718.
(23)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي: ج1، ص57 رقم:18.
(24)
الفتاوى: ج1، ص333، 334.
(25)
مدارج السالكين: ج1، ص104.
(26)
البخاري مع الفتح: ج13، ص263 ح7280.
(27)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي: ج1، ص56 رقم:15.
(28)
تفسير القرآن العظيم: ج1، ص358.
(29)
البخاري مع الفتح: ج1، ص75ح 15.
(30)
البخاري مع الفتح: ج11، ص532 ح6632.
(31)
انظر: شرح النووي لمسلم ج2، ص15.
(32)
انظر: تفسير القرآن العظيم ج3، ص219 وتفسير السعدي ج5، ص293.
(33)
الدارمي: ج1، ص124 رقم 448.
(34)
الدارمي: ج1، ص124 رقم:447.
(35)
انظر كلمة الصديق وتعقيب ابن بطة في: الإبانة الكبرى ج1، ص 245، 246.
(36)
مسلم: م1، ص62، ح 34.
(37)
انظر: الضوء المنير على التفسير للصالحي ج2، ص253، 254.
دراسات تربوية قرآنية
لا تحسبوه شراً لكم
بقلم:عبد العزيز بن ناصر الجليل
مدخل:
يواصل الكاتب (وفقه الله) وقفاته التربوية القرآنية مع بعض الآيات القرآنية،
فقد سبق أن تطرق لوقفات مع قوله (تعالى) : [وَلا تَلْبِسُوا الحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا
الحَقَّ وَأََنتُمْ تَعْلَمُونَ] [البقرة: 42] ويواصل مجدداً وقفات إيمانية أخرى مع قوله
(تعالى) : [لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم][النور: 11] .
- البيان -
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
إن الله عز وجل ، بما له من الأسماء الحسنى والصفات العلا، كتب النصر
والغلبة لأهل الحق من أوليائه الصالحين والمصلحين، وكتب المهانة والذلة على
أعدائه من الكافرين والمنافقين، وهذه سنة لا تتخلف إلا إذا تخلفت أسبابها، حيث
يديل الله (سبحانه) أعداءه الكفرة على عباده المؤمنين، ويسلطهم عليهم ويظهرهم،
فتظهر من ذلك الشرور والمصائب كما هو الحاصل في واقعنا المعاصر حيث
الاستضعاف والذلة لجل المسلمين، والغلبة والقهر للكافرين، وما كان لسنة الله
(سبحانه) أن تتبدل ولا أن تتحول، [فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ
تَحْوِيلاً] [فاطر: 43] ولكن أسباب تحقيق سنة الله (سبحانه) في نصر عباده
المؤمنين قد تخلفت؛ فحقت علينا سنة الله (سبحانه) في التغيير [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا
بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: 11] وسنة الله (سبحانه) لا تحابي أحداً.
ومع وضوح هذه السنة وجلائها من القرآن، وبمقتضى العقل والحس، إلا أننا نجد
من هو في غفلة عنها وعن مقتضى أسمائه (سبحانه) وصفاته العلا؛ حيث أدت هذه
الغفلة عند بعضنا إلى شيء من اليأس والإحباط، أو إلى شيء من العجلة والتسرع
أمام ضغط الواقع، وتسلط الأعداء، وعند انتشار الظلم والفساد.
ولن يكون الكلام هنا عن تلك السنة، وإنما سينصب الاهتمام على سنة
عظيمة تنبثق عنها السنة السابقة، والله (سبحانه) يبينها لنا من خلال أسمائه الحسنى
وصفاته العلا، حيث إن الجهل بها أو الغفلة عنها بعد معرفتها يسهم أيضاً في مزيد
من اليأس والقنوط، أو الجزع والتسخط، أو الاندفاع والعجلة والتهور، وهذه
وقفات مع قوله (تعالى) : [لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم][النور: 11] .
هذه الآية توجيه رباني في إحسان الظن بالله عز وجل ، والثقة بحكمته
ورحمته، وأنه (سبحانه) لا يريد بعباده المؤمنين إلا الخير [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ
وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ] [البقرة: 185] وهذا بدوره يبث الأمل في النفوس إزاء
المصائب، ويبث الأمل في الأمة بأن المستقبل لهذا الدين مهما تسلط أعداؤه عليه،
وكادوا له كيداً [إنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ
رُوَيْداً] [الطارق: 15 17] ، وهو ضروري كذلك لإدراك أن رحمة الله (عز
وجل) سبقت غضبه في كل ما يقدره على عباده المؤمنين [كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ
الرَّحْمَةَ] [الأنعام: 54] وما أجمل ما قاله الإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى) حول
هذا المعنى، ومما ذكره: قد شهدت الفطر والعقول بأن للعالم ربّاً قادراً، حليماً،
عليماً، رحيماً، كاملاً في ذاته وصفاته، لا يكون إلا مريداً للخير لعباده، مجرياً
لهم على الشريعة والسنة الفاضلة العائدة باستصلاحهم، الموافقة لما ركب في
عقولهم من استحسان الحسن، واستقباح القبيح [1] .
وسيأتي إن شاء الله في ثنايا البحث من خلال الآيات القرآنية والأحاديث
النبوية والمواقف العملية التي تظهر لنا منها ثمار هذه السنة الكريمة، وبخاصة في
واقعنا المعاصر المليء بالشبهات، والشهوات، والمتناقضات، والمكائد،
والمؤامرات.. ما يزيد الموضوع بياناً.
أهمية الموضوع:
تتضح أهمية الموضوع في الأمور التالية:
أولاً: علاقة هذه السنة بالعقيدة قوة وضعفاً؛ فكلما قوي الإيمان بالله (سبحانه)
في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته: كلما قوي الفهم لهذه السنة، وأثمرت في
القلب ثمارها الطيبة. والإيمان بهذه السنة والاصطباغ بها هو مقتضى الرضا بالله
ربّاً ومعبوداً، ومقتضى أسمائه الحسنى وصفاته العلا؛ حيث إن هذه السنة من
ثمرات أسمائه (سبحانه) الحسنى، التي منها: الحكيم، والعليم، والكريم،
واللطيف، والبر الرحيم.. وغيرها من الأسماء والصفات التي يجب التعبد لله
(سبحانه) بها. كما يظهر الارتباط بين هذه السنة وبين التوحيد في: أثرها على
صدق التوكل على الله عز وجل ، وتفويض الأمور إليه، واليقين والثقة بوعده،
وإحسان الظن به (جل وعلا) ، وأنه (سبحانه) لا يريد بعباده المؤمنين إلا الخير
والإصلاح، فمهما ظهر من الشرور والمصائب، فله (سبحانه) الحكمة البالغة
[وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ][آل عمران: 66] وأما ارتباطها بالأصل الخامس من
أصول الإيمان ألا وهو الإيمان باليوم الآخر فهذا واضح؛ لأن اليقين باليوم الآخر
ورجاء الأجر من الله عز وجل يقويان الارتباط بهذه السنة في أن الآخرة خير
وأبقى، مهما فات من هذه الدنيا. وأما علاقتها بالأصل السادس من أصول الإيمان
وهو الإيمان بالقدر خيره وشره فهذا ظاهر لا يحتاج إلى تعليق.
ثانياً: ما نراه اليوم في واقعنا المعاصر من الضغوط الشديدة والحرب الشرسة
من أعداء هذا الدين من اليهود والنصارى والمنافقين والمفسدين، وما يكيدون به
لهذا الدين وأهله من المكر والتشويه والابتلاء؛ مما أدى ويؤدي إلى ظهور حالات
اليأس والإحباط من تغير الحال، أو الشعور بالهزيمة النفسية والهوان والاستكانة،
فكان لابد من التذكير بهذه السنة العظيمة التي تقوي اليقين بوعد الله (سبحانه) ،
والثقة بنصره، والاطمئنان إلى قضائه وتدبيره، وأنه (سبحانه) الحكيم العليم فيما
يقضي ويقدر، ولابد أن يأتي الخير بعد الشر عندما يأذن الله (سبحانه) في ذلك وفق
علمه الشامل، وحكمته البالغة، وسننه التي لا تتبدل ولا تتحول.
ثالثاً: الجهل الحاصل عند بعض المسلمين بسنن الله (سبحانه) في التغيير،
أو التغافل عنها بعد معرفتها، لا سيما وأن في فهم قوله (تعالى) : [لا تَحْسَبُوهُ شَراً
لَّكُم] [النور: 11] خير معين لتفهم سنن الله عز وجل الأخرى: كما في قوله
(تعالى) : [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ][الرعد: 11] وفي
هذه المعرفة فتح باب للمنهج الصحيح في الدعوة إلى الله (سبحانه) ، كما أن فيها
وقاية من التخبط والاضطراب في المنهاج والاجتهادات، كما أن في دراسة هذه
السنة وربط الأحداث والوقائع بها أكبر ضمانة للعقل المسلم من أن يتأثر
بالتصورات الجاهلية، والتفسيرات المادية للتاريخ والأحداث التي سيطرت اليوم
على كثير من عقول المسلمين المتأثرين بوسائل الإعلام المادية وبالثقافات التي لا
تؤمن بالله، ولا باليوم الآخر، ولا بالقدر خيره وشره.
رابعاً: التنبيه إلى طلب الخِيَرة من الله (سبحانه) في كل الأمور، وتفويض
الأمور إلى حسن تدبيره عز وجل واختياره؛ لأنه (سبحانه) يعلم ولا نعلم، ويقدر
ولا نقدر، وهو علام الغيوب الذي يعلم ما كان وما سيكون، ويعلم أين يكون الخير، وأين يكمن الشر؛ ولذلك جاء التوجيه إلى دعاء الاستخارة في الأمور كلها.
خامساً: كثرة المشاكل والمصائب في زماننا هذا، سواء على مستوى الأفراد
أو الجماعات، التي أدت إلى ظهور كثير من الأمراض النفسية المعقدة: كالقلق،
والاكتئاب، والفصام.. وغيرها، حتى أصبحت سمة لواقعنا المعاصر، ومعرفة
الله (سبحانه) بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته التي تزرع في القلب الاطمئنان
والرضا، وتفويض الأمور إليه (سبحانه) ، وحسن الظن به عز وجل ، وأن
اختيار الله لعبده أحسن من اختيار العبد لنفسه، ولو ظهر ما يكرهه العبد ويؤذيه:
إن في تفهم قوله (تعالى) : [لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم][النور: 11] أحسن علاج لهذه
الأمراض وغيرها.
سادساً: إن في هذه السنة وفهمها طريقاً موصلاً إلى الفقه بقاعدة الشرع
العظيمة، التي بنيت عليها أحكام الشرع؛ ألا وهي: اليسر ورفع الحرج والمشقة،
وأن الله عز وجل لا يريد بعباده إلا اليسر والرحمة، سواء أكان في أحكامه
الكونية القدرية، أو الدينية الشرعية.
(1) مفتاح دار السعادة: ص326.