الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
افتتاحية العدد
من الأندلس.. إلى البوسنة
سقطت البوسنة الشرقية، وسقطت معها مسلّمات كثيرة، وارتفعت على دماء
…
وأشلاء الضحايا وبقايا (سربنتسا) و (جيبا) لافتات ضخمة، يهون أمامها ذعر عيون
الأطفال وأنهار الدموع المتساقطة من العفيفات المغتصبات وأرواح الشهداء الذين
سقطوا وهم يدافعون عن دينهم وعرضهم ومالهم، وظهورهم مكشوفة، وأجسادهم
عارية، يكفي أن هذه الظهور المكشوفة والسواعد المقاتلة حتى آخر طلقة قد كشفت
للجميع حقائق مهمة:
الأولى: أن المهانة والعجز الذي يلف العالم الإسلامي حيال قضاياه قد أصبح
القاعدة التي لا شذوذ عنها، وصدق الشاعر:
كم حرة صرخت من تحت غاصبها
…
فجاءها المنقذان العي والصمم
لقد قبلت الأمة الإسلامية من أدناها إلى أقصاها عيشة الذلّ والهوان،
ورضيت بالدّنيّة، واستسلمت لجلادها وغاصبها، وركعت تحت قدميه، وكأنّها
تستحثه لمزيد من الاستبداد والتسلط.
قطيع يساق إلى حتفه
…
ويمضي ويهتف للسائقين
والثانية: أن ترسانة الغرب الوحشية وجيوشه العابرة للقارات تختار ضحاياها
بعناية فائقة، فهي تصل إلى أقصى البراري، وتتغاضى عن الجار البوسني
(المسلم) القاطن بين ظهرانيها.
والثالثة: أن ثورة الاتصالات الإعلامية والفضائية في قمتها اليوم نجحت في
امتصاص المأساة، وتقديمها لجمهور المشاهدين والقراء كمسلسل شيق يثير الانتباه، ينتصر فيه الشر على الخير دوماً.
وأخيراً: أن حرب التخوم والأطراف التي يشنها الغرب على نقاط التماس مع
العالم الإسلامي مرشحة للتصاعد في ظل تآمر الغرب والشرق، وبمباركة من الأمم
المتحدة التي يأبى البابا «بطرس» إلا أن تكون (فاتيكان!) القرن المقبل حين
يخوض قداسته حرب الصليب القادمة! !
«بطرس غالي» لم يسمع حتماً بـ «بشير إيماموفيش» .. فبشير كهل
بوسني، غادر (جيبا) بعد سقوطها في يد الصرب، ونقل للعالم ما قاله الجنرال
الأرثوذكسي «راتكو ملاديتش» لجموع المسلمين فيها
…
لقد قال لهم: «لن
يستطيع الله
…
ولا الأمم المتحدة أن ينقذوكم
…
إنني أنا ربكم! !» [*] تعالى الله
وتقدست أسماؤه.
أيها الـ «بطرس»
…
جدك أرادها مذبحة للأحرار من أبناء الكنانة،
وركب خيل المستعمر الإنجليزي
…
وأنت تركب خيل الملاحدة الصرب، الذين
رسمت لهم منظمتك ومبعوثوك خط السير نحو (جيبا) التي أحرقوها، كما هو دأب
البرابرة من أبناء الصليب
…
جدك نال جزاءه
…
وأنت، وإن هربت من واجهة الأحداث وخفتت عنك
الأضواء التي تعشقها، فإن دعاء المسلمين في كل مكان سيظل يلاحقك حتى تلاقي
ركاب جدك الخائن، فدعوات المظلومين هي الجند الذي لا يغلب، وليس بينها
وبين الله حجاب!
«بشير إيماموفيش» لن يجد من المسلمين سوى الهمهمات والحوقلة الباردة، فإخوانه غارقون في لهوهم وعبثهم وخلافاتهم الصغيرة ومعاركهم المفتعلة يعيدون
كتابة تاريخ الأندلس، ويساهمون في احتلال الفرنجة ل (سربنتسا) بعد (طليطلة)
و (الحمراء) و (قرطبة) و (غرناطة)
…
عالم من بليون مسلم، وخمسين دولة، وجيوش جرارة، وموارد هائلة..
يعتذر بالعجز، ويتدثر بقلة الحيلة وضعف الهمة، حتى تدق الحملة القادمة أبوابه
في ناحية أخرى ونقطة تماس جديدة
…
أي خزي وأي مهانة هذه..؟ !
المعلقون الألمان يربطون بين حرب (البوسنة) ومجزرة (الشيشان) وما يتم
طبخه للمسلمين في (تتارستان)
…
ويطلقون عليها حرب التخوم؛ حيث عالم غربي
متفوق ومنتشٍ بانتصاره، أمام مسلمين ضعفاء متخاذلين، يصورهم عدوهم على
أنهم الخطر العالمي الأول
…
نعم.. المناطق الآمنة كانت من صنع الدول الغربية وبرعاية الأمم المتحدة،
والدور القادم على «ملاذات آمنة» أخرى في حالة نجاح الخطة الحالية وهي
ناجحة بكل المقاييس وهنا: لن تكون حرب تخوم وأطراف؛ فالتجربة الصليبية
القديمة والصهيونية الحالية تجعلنا نوقن أنها ستكون موجهة إلى العمق
…
!
أيها المجاهدون البوسنيون.. أيها الشيوخ والأطفال.. أيتها النساء
المسلمات.. لا تعلقوا قلوبكم بألف مليون غثاء، ولكن توجهوا إلى من بيده ملكوت السموات والأرض، تقربوا إلى الله شبراً يتقرب إليكم ذراعاً، انصروه ينصركم
[وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ][الحج: 40] .
أيها البليون عاجز
…
ومتعاجز
…
لقد ظللتم أعواماً عديدة تنتظرون الفرج
من عدوكم والنصر المستجلب من البيت الأبيض، فهلا أفقتم على تصريحات قيادته
التي قالت بالصوت العالي: إنها ستصوت «بالفيتو» ضد مشروع حق الضحية
في قتال الجلاد؛ لأن دماء ومدن وحضارات ومساجد البوسنة الشهيدة لا تساوي
شيئاً أمام احتمال تعكير أجواء التحالف الدولي (الصليبي) !
أيها البليون عاجز.. ومتعاجز.. لقد بحّت أصواتكم، وجفّت أقلامكم، من
الشجب والاستنكار في المحافل الدولية.. أفلم تدركوا بعد أنّ القبعات الزرقاء
(الأممية!) التي تستظلون بظلها، وتحتمون بحماها، هي أحد أسباب المأساة، بعد
أن ثبت للجميع خيانتها وتواطؤها مع إخوانهم الصرب..؟ !
لقد عبر رئيس وزراء البوسنة عن خيبة أمله في الدور الذي لعبته الأمم
المتحدة خلال الأزمة، قائلاً: «إنّ منظمة الأمم المتحدة عار على مجتمعنا
العصري.. لقد سلبت منّا الحق الأساسي في الحياة، وحق الدفاع عن أنفسنا..!» .
وصدق الشاعر بقوله:
أبلغ شهاباً وخير القول أصدقه
…
إن الكتائب لا يهزمن بالكتب
عندما يصل العجز إلى هذه الدرجة.. لابد للإيمان الصادق من هبّة تمحو
وصمة العار وبصمات الخذلان التي يصنعها بعض المرجفين بأيديهم.. وصدق
الملك الحق حينما قال: [أَمَّنْ هَذَا الَذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إنِ
الكَافِرُونَ إلَاّ فِي غُرُورٍ] [الملك: 20] .
(*) حسب رواية مجلة (نيوزويك) الأمريكية.
دراسات شرعية
اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في ضوء الوحيين
حقيقته، منزلته، مظاهره، عوائقه
(2)
بقلم: فيصل بن علي البعداني
بدأ الكاتب في الحلقة الأولى مقاله بتعريف الاتباع، ثم تحدث عن علاقة
الاتباع بالزمان والمكان، وثنّى بالحديث عن أفعال النبي من حيث التأسي، ثم بين
قواعد مهمة في الاتباع، وأنهى كلامه ببيان مظاهر الاتباع، ويواصل الكاتب في
هذه الحلقة إيضاح جوانب أخرى من الموضوع.
- البيان -
من الوسائل المعينة على الاتباع:
الوسائل المعينة على الاتباع كثيرة، أهمها:
1-
تقوى الله عز وجل والخوف منه: وذلك لأن من اتقى الله عز وجل
وخافه: جعل له فرقاناً يميز به بين الحق والباطل وبين النور والظلمة؛ فكان ذلك
سبب نجاته وسعادته في الدنيا والآخرة؛ قال الله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إن
تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً
…
] [الأنفال: 29] .
2-
الإخلاص لله، والتجرد في طلب الحق: لا يتوقف البحث عن الحق
وتطلبه على الحرص على معرفته وإدراكه فقط، بل لابد مع ذلك من أمر قلبي هو
التجرد، والحرص على سلامة القصد، والسلامة من الجهل والهوى والظلم، ولا
يكون ذلك إلا بالإخلاص لله (تعالى) .
وهذا الأمر له تعلق بتنقية النفوس من الأهواء والشوائب وتزكيتها؛ لأن العبد
كلما سعى في تنقية نفسه وتزكيتها وإلزامها بطاعة الله (تعالى) وترك معصيته
ظاهراً وباطناً، كلما ازداد قبوله للحق وإقباله عليه؛ يقول ابن تيمية: (وكذلك من
أعرض عن اتباع الحق الذي يعلمه تبعاً لهواه، فإن ذلك يورثه الجهل والضلال
حتى يعمي قلبه عن الحق الواضح، كما قال (تعالى) : [فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ
قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ] [الصف: 5] ..) [1] ، والتجرد والإخلاص
معينان للعبد على الرجوع عن البدع والأخطاء متى وقع فيها، وقد حصل ذلك من
أعيان كبار في علم الكلام والفلسفة وغير ذلك، كأبي الحسن الأشعري، والجويني،
والغزالي، والفخر الرازي
…
وغيرهم كثير.
3-
اللجوء والتضرع إلى الله عز وجل وإظهار الافتقار له: كان رسول الله
كثيراً ما يدعو عند الصلاة من الليل: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر
السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه
يختلفون، اهدني لما اختُلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط
مستقيم) [2] .
وكان من دعائه أيضاً: (اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني،
وزدني علماً) [3] . وأيضاً: (اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أُضَل، أو أزل أو
أُزل
…
) [4] .
وقد أمر الله (تعالى) عباده بدعائه والتضرع بين يديه، فقال عز وجل :
[وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ
دَاخِرِينَ] (غافر: 60) وأخبر النبي أن من لم يسأل الله (تعالى) ويظهر الافتقار
والحاجة إليه فإنه يغضب عليه، ففي الحديث الذي يرويه أبو هريرة (رضي الله
عنه) قال: (قال رسول الله: من لم يسأل الله يغضب عليه)[5] .
4-
تعلم الأحكام الشرعية: وذلك لأن الإسلام دين مبني على الوحي،
والوحي لا يدرك إلا بالتعلم، وبالتالي: فلا وسيلة للعمل بأحكام الإسلام واتباع النبي
إلا عن طريق التعلم، ولذا: قال الإمام البخاري في صحيحه: (باب العلم قبل
القول والعمل، لقول الله (تعالى) :[فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إلَهَ إلَاّ اللَّهُ] ، فبدأ بالعلم) [6] .
وكان أول ما أُنْزِل من القرآن الكريم [اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]
[العلق: 1] والقراءة أداة للتعلم.
5-
اتباع طريقة السلف في العلم والعمل: بيّن النبي أن خير قرون هذه الأمة
وأفضلها: أقربها إليه، فقال: (خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين
يلونهم..) [7] وأوضح في حديث الافتراق أن هذه الأمة تفترق على ثلاث وسبعين ملة، كلها في النار إلا ملة واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: (ما أنا عليه وأصحابي)[8] .
وما أحسن قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حيث قال: (من كان
مستنّاً فليستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة) [9] .
6-
الصحبة الصالحة: صحبة أهل السنة والجماعة الملتزمين بما كان عليه
رسول الله وصحابته من أعظم الأسباب التي تعين على الاتباع والاستمساك بالحق؛
قال رسول الله: (الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل)[10] . وسبب
ذلك: أن الخليل يحمل صاحبه على ما هو عليه، فإن كان صاحب سنة واتباع
حمله على ذلك، وإن كان صاحب بدعة وفسوق حمله على ذلك، ولذا: قال رسول
الله: (مثل الجليس الصالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك: إما
أن يُحذِيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير: إما أن
يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة) [11] .
ويقول أبو قلابة: (لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم؛ فإني لا آمن أن
يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم ما تعرفون) [12] .
7-
تدبّر النصوص الصحيحة: القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة هما
مصدر تلقي الحق والهدى؛ قال الله (تعالى) : [إنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ][الإسراء: 9] وقال: (إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله
وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض) [13] ، ولقد تكفل الله (تعالى) بحفظ
نصوص كتابه من أن يدخلها تحريف أو تبديل؛ قال الله (تعالى) : [إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا
الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] [الحجر: 9] ، ويتضمن ذلك حفظ سنة النبي التي على
الرغم مما دخلها من أحاديث ضعيفة وموضوعة، إلا أن الله (تعالى) هيأ لها أئمة
نذروا أنفسهم وأعمارهم في خدمتها وتمييز صحيحها من ضعيفها وموضوعها، ولذا: فإنه لابد للحريص على الاتباع الحق للنبي من الحرص على صحة النصوص
التي يعمل بها، والقيام بفهمها وتدبرها، ومن ثم: العمل بموجبها فعلاً وتركاً.
والعائد من تدبر النصوص النبوية الصحيحة كالعائد من تدبر النصوص
القرآنية؛ لأن كلاً منهما مصدر للأحكام وطريق للاعتصام والأمن من الزيغ
والضلال عن الحق.
من عوائق الاتباع:
هناك عوائق كثيرة تمنع العبد من الاتباع الصحيح للنبي، من أبرزها:
1-
الجهل: الجهل هو أعظم عوائق الاتباع، بل هو أعظم أسباب الوقوع
في المحرمات جميعها من كفر وبدع ومعاصٍ [14] سواء أكان الجهل جهلاً
بالنصوص بعدم الاطلاع عليها، أو كان جهلاً بمنزلتها في الدين وكون التقدمة لها
وبقية المصادر تبعاً لها، أو كان جهلاً بمقاصد الشريعة وقواعد العلوم وأصولها:
كالمطلق والمقيد، والعام والخاص، والناسخ والمنسوخ، والمجمل والمبين [15] ،
ونظراً لخطورة الجهل الكبيرة: نجد القرآن الكريم والسنة الصحيحة حافلين
بالنصوص التي تحذر من الجهل وتبين خطورته، وتحث على العلم وتبين فضله،
ومنها:
قال الله (تعالى) : [قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ
وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا
تَعْلَمُونَ] [الأعراف: 33] .
وقال عز وجل : [وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ
كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً] [الإسراء: 36] يقول سيد قطب: (والعقيدة
الإسلامية عقيدة الوضوح والاستقامة والنصاعة، فلا يقوم شيء فيها على الظن أو
الوهم أو الشبهة
…
[وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ][الإسراء: 36] ولا تتبع ما
لم تعلمه علم اليقين وما لم تتثبت من صحته: من قول يقال، أو رواية تروى، من
ظاهرة تفسر، أو واقعة تعلل، ومن حكم شرعي، أو قضية اعتقادية) [16] .
عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (اُغْدُ عالماً أو متعلماً أو مستمعاً،
ولا تكن الرابع فتهلك) [17] وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: (لا يزال
الناس بخير ما بقي الأول، حتى يتعلم الآخِر، فإذا هلك الأول قبل أن يتعلم الآخر
هلك الناس) [18] .
2-
اتباع الهوى: اتباع الهوى وما تشتهيه الأنفس من أعظم عوائق الاتباع
وأسباب الانحراف عن الحق، بل إن جميع البدع والمعاصي إنما تنشأ من تقديم
الهوى على النص الصحيح، وذلك لأن من طبيعة النفس البشرية أنها تميل وترغب
إلى ما تهوى وتحب، ويصعب على صاحبها صرفها عن ذلك وبخاصة إذا كانت قد
تعودت عليه ما لم يقوَ إيمانه ويصلب يقينه، بل إن كل من لم يتابع الرسول
ويستجب له فيما جاء به: فإنه لم يذهب إلى هدى، وإنما ذهب واتبع الهوى [19] ؛ ولذا: نجد النصوص قد توافرت في ذم اتباع الهوى والتحذير منه، ومن ذلك:
قال الله (تعالى) : [فَإن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ
أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ]
[القصص: 50] .
وعن معاوية رضي الله عنه قال: (قال رسول الله:
…
وإنه سيخرج من
أمتي أقوام تَجَارَى بهم تلك الأهواء كما يَتَجَارَى الكَلَبُ لصاحبه، لا يبقى منه عرق
ولا مفصل إلا دخله) [20] .
وليس الأمر في وجود هوى في نفس العبد يدعوه إلى مخالفة الرسول، فإن
ذلك ميدان للاختبار والامتحان، وقد لا يملكه العبد، وإنما الخطورة في اتباع العبد
للهوى وأخذه لما يحب وتركه لما يبغض، وجعل ذلك هو الباعث والدافع إلى القول
والفعل، سواء أوافق ذلك محبوب الله (تعالى) أو خالفه [21] .
وقد يدخل الهوى على من له تعلق بالنصوص وارتباط بها، بحيث لا يدعوه
هواه إلى ترك النصوص بالكلية والإعراض عنها، وإنما يجعله يقرر ما يريده أولاً
ثم يذهب إلى النصوص ليأخذ ما وافق هواه منها.
3-
تقديم آراء الآباء والشيوخ والأكابر على النصوص الثابتة: من عوائق
الاتباع الكبرى: تقديم آراء الآباء والشيوخ والأكابر على النصوص الصحيحة؛
يقول الله (تعالى) : [وَإذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أََنزَلَ اللَّهُ وَإلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا
مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ]
[المائدة: 104]، قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية:(أي: إذا دعوا إلى دين الله وشرعه وما أوجبه وترك ما حرمه: قالوا يكفينا ما وجدنا عليه الآباء والأجداد من الطرائق والمسالك؛ قال الله (تعالى) : [أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً]
[المائدة: 104] أي: لا يفهمون حقّاً، ولا يعرفونه، ولا يهتدون إليه، فكيف يتبعونهم والحالة هذه؟ ! لا يتبعهم إلا من هو أجهل منهم وأضل سبيلاً) [22] .
وقد وردت آثار كثيرة عن السلف تحذر من ذلك، ومنها:
قول ابن مسعود رضي الله عنه : (ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً، إن آمن
آمن وإن كفر كفر، فإن كنتم لابد مقتدين فبالميت؛ فإن الحي لا يُؤمَن عليه
الفتنة) [23]، وفي رواية عنه:(لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً، إن آمن آمن وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة في الشر)[24] .
وقال عمر بن عبد العزيز: (لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله)[25] .
وقال الشافعي: (أجمع الناس على أن من استبانت له سنة عن رسول الله لم
يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس) ، وصح عنه أنه قال: (لا قول لأحد مع سنة
رسول الله) [26] .
ولابن تيمية كلام نفيس حول ذلك، إذ يقول: (فدين الله مبني على اتباع
كتاب الله، وسنة نبيه، وما اتفقت عليه الأمة، فهذه الثلاثة هي المعصومة، وما
تنازعت فيه الأمة ردوه إلى الله والرسول، وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصاً
يدعو إلى طريقته، يوالي عليها ويعادي، غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه
الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصاً أو كلاماً يفرقون به
بين الأمة، يوالون به على ذلك الكلام أو تلك السنة ويعادون) [27] .
ويدل على مبلغ الجناية التي يوصل إليها تقديم آراء الرجال أيّاً كانوا على
النص الصحيح قولُ الكرخي (عفا الله عنه) : (كل آية تخالف ما عليه أصحابنا فهي
مؤوّلة أو منسوخة، وكل حديث كذلك فمؤول أو منسوخ) [28] .
قلت: وهذا هو ما عليه كثير من أبناء زماننا الذين قدموا رأي شيوخهم أو
جماعاتهم أو أحزابهم على النصوص الصحيحة الثابتة، ولا حول ولا قوة إلا بالله
العلي العظيم.
4-
تقديم العقل على النقل الصحيح: كرم الله الإنسان وفضله بالعقل،
وامتدح في كتابه ذوي الألباب والعقول المستنيرة، قال (تعالى) : [إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا
الأَلْبَابِ] [الرعد: 19] وقال (سبحانه) : [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ
وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] [ص: 29] ولكن كثيراً من الناس لم يبقوا العقل في المكانة
التي وضعه الله (تعالى) فيها، بل زلوا فيه على صنفين:
* صنف عطله ولم يقم له وزناً.
* وصنف بالغ فيه وجعله مصدراً للتشريع وقدمه على النقل الصحيح، حيث
بنوا لأنفسهم ضلالات يسمونها تارة بالحقائق واليقينيات، وتارة بالمصالح والغايات
التي تهدف النصوص إلى تحقيقها وإن لم تنص عليها، ثم يأخذون النصوص الثابتة
والتي يسمونها بالظنيات، فيعرضونها على تلك الضلالات، فما وافقها قبلوه وما
عارضها ردوه، اعتماداً منهم على قاعدة: اليقين لا يزول بالشك! ! !
ولم يعلم هؤلاء أن للعقول حدوداً تنتهي في الإدراك إليها، وأن الله (تعالى) لم
يجعل لها سبيلاً إلى إدراك كل شيء [29] ، كما لم يعلم أولئك أن الله حافظ دينه،
وعاصم نبيه من الزلل والانحراف في تبليغ دينه، وبالتالي: فما جاء به حق لا
مرية فيه، كما أن ما يسمونه حقائق ويقينيات هي عين الباطل؛ بدليل اختلاف
العقول والأفهام في تعيين الحقائق والمصالح من إنسان لآخر، وبدليل أن الله
(تعالى) أمرنا بالتسليم لحكمه وحكم رسوله، تسليماً مطلقاً، لا بمحاكمة النصوص
إلى العقول قبل التسليم بها، كما في قوله عز وجل : [فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى
يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً]
[النساء: 65]، وما أحسن كلام ابن أبي العز الحنفي حين شرح قول الطحاوي:
(ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام)، فقال: (أي: لا يثبت
إسلام من لم يسلّم لنصوص الوحيين، وينقاد إليها، ولا يعترض عليها، ولا
يعارضها برأيه ومعقوله وقياسه) [30] .
5-
التعلق بالشبهات: دين الإسلام قائم على تسليم العبد المطلق بالوحي،
ولكن كثيراً ممن قلّت معرفته بالوحي تعلق بالشبهات وبضروب الخيالات وتوهم
المصالح، ظنّاً منهم أنها طريق معرفة الحق وسبيل الوصول إليه، ولذا: تجد مَن
هذا حاله إذا جاءه من أخبره بالحق الثابت بالنص: تعلق قلبه بما سبق إلى قلبه من
شبهات وضلالات، فلم يؤمن بالحق في ذات نفسه، وأخذ يلبس على الناس الحق
بما في قلبه وذهنه من باطل، فضلّ وأضل، ونتيجة لهذا الأمر الخطير: فقد حذر
النبي أمته من هذا الصنف، فقال فيما ترويه عائشة رضي الله عنها : (.. فإذا
رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمّى الله فاحذروهم) [31]، وقال:
(سيكون في آخر أمتي ناس يحدثوكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم
وإياهم) [32] ، وتواترت أقاويل أئمة السلف في التحذير من الشبهات وأصحابها، ومن ذلك قول عمر:(إنه سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن، فخذوهم بالسنن؛ فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله)[33]، وقول أبي قلابة:(لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تحادثوهم، فإني لا آمن أن يغمروكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون)[34]، ويقول ابن سيرين محذراً:(إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم)[35] .
6-
سكوت العلماء: بسكوت العلماء عن نشر الحق والتحذير من الباطل
يرتفع صوت الباطل، ويضعف صوت الحق، ويظن كثير من الناس أن أصحاب
الباطل نتيجة كثرتهم وفشوهم هم أصحاب الحق؛ بدليل ظهورهم وبروزهم.
حدّث أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: (من سُئل عن علم
علِمَه ثم كتمه أُلجم يوم القيامة بلجام من نار) [36] .
7-
مجالسة أهل البدع والمعاصي: من أعظم عوائق الاتباع مجالسة العبد
لأهل البدع والمعاصي، حيث يزين أصحاب السوء لجليسهم ما هم عليه من باطل،
فإن لم يستطع أن يقلبوا الحق في ذهنه ويغيروا مفاهيمه: حاولوا إجباره على فعل
باطلهم إما مجاملة لهم، أو خوفاً من استهزائهم ونقدهم فإن لم يستطيعوا ذلك فلا أقل
من أن يداهنهم بترك الإنكار عليهم، أو بعدم القيام بعمل الحق الذي لا يتفق مع
أهوائهم.
ولذا: اشتد نكير السلف وعظم تحذيرهم لأهل السنة من مخالطة جلساء السوء، ففي قصة عمر مع صبيغ: قال أبو عثمان الراوي: (إن عمر كتب إلينا أن لا
تجالسوه، قال: فلو جلس إلينا ونحن مئة لتفرقنا عنه) [37] ، وقال ابن عباس
رضي الله عنهما : (لا تجالس أهل الأهواء؛ فإن مجالستهم ممرضة للقلب) .
8-
الاعتماد على النصوص الضعيفة والموضوعة: من أعظم عوائق الاتباع: الاعتماد على النصوص الضعيفة والموضوعة، وإثبات الأحكام بها، والقيام
بمنافحة الحق الثابت بالنصوص الصحيحة من قبل كثير من الناس، سواء أكان ذلك
بسبب جهلهم وعدم قدرتهم على التمييز بين الصحيح والضعيف والموضوع منها،
أو بسبب الاغترار بمقولة بعض أهل العلم بجواز العمل بالحديث الضعيف في
فضائل الأعمال، متناسين أن لذلك شروطاً، أهمها: ألا يعتقد عند العمل ثبوت
الحديث؛ لئلا ينسب إلى النبي ما لم يقله، وألا يكون الضعف شديداً، وأن يكون
الحكم الذي يثبته الحديث الضعيف مندرج تحت أصل عام، ليخرج بذلك ما لا
أصل له والذي يمتنع تأسيس الأحكام وإثباتها عن طريق ما كان كذلك [38] .
وختاماً: هذه نظرات في حقيقة الاتباع، أهديها لأحبتي في الله (تعالى) ،
لتجريد المتابعة الحقة للحبيب المصطفى، ولتظهر حقيقة أدعياء المحبة من المبتدعة
والطرقيين وغيرهم ومدى انحرافهم عن الجادة [إنْ أُرِيدُ إلَاّ الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ
وَمَا تَوْفِيقِي إلَاّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإلَيْهِ أُنِيبُ] [هود: 88] .
(1) الفتاوى لابن تيمية، ج10، ص10.
(2)
مسلم، م2، ص534، ح 770.
(3)
ابن ماجة، ج1، ص92، ح 251 وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ج1، ص47، ح 203.
(4)
أبو داود، ج5، ص327، ح 5094 وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود م3، ص959، ح4248.
(5)
الترمذي، ج5، ص456، ح 3373 وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي ج3، ص138، ح2686.
(6)
البخاري مع الفتح، ج1، ص192.
(7)
البخاري مع الفتح، ج5، ص306، ح2651.
(8)
الترمذي، ج5، ص26، ح2641، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي ج2، ص334، ح 2129.
(9)
شرح الطحاوية، ج2، ص546.
(10)
أبو داود، ج2، ص168، ح 4833، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود م3، ص917، ح 4046.
(11)
البخاري مع الفتح، ج9، ص577، ح5534.
(12)
السابق، ج2، ص437، ح369.
(13)
المستدرك للحاكم، ج1، ص93، وصححه الألباني في صحيح الجامع ج1، ص566، ح2937.
(14)
انظر: الفتاوى لابن تيمية، ج14، ص22.
(15)
انظر: حقيقة البدعة وأحكامها للغامدي، ج1، ص177، 178.
(16)
في ظلال القرآن، م4، ص2227.
(17)
الدارمي، ج1، ص84، ح252.
(18)
السابق، ج1، ص84، ح253.
(19)
انظر: تفسير السعدي، ج6، ص33.
(20)
أبو داود، ج5، ص56، ح 4597، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، م3، ص869، ح383.
(21)
انظر: الفتاوى لابن تيمية، ج28، ص131-133.
(22)
تفسير القرآن العظيم، ج2، ص108، 109.
(23)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي، ج1، ص93، ح130.
(24)
إعلام الموقعين، ج2، ص135.
(25)
السابق، ج2، ص201.
(26)
السابق، ج2، ص201.
(27)
الفتاوى لابن تيمية، ج20، ص164.
(28)
الرسالة في أصول الحنفية للكرخي، ص169، 170 (مطبوع مع تأسيس النظر للدبوسي) .
(29)
انظر: الاعتصام للشاطبي، ج1، ص294_-301.
(30)
شرح الطحاوية، ج1، ص231، وانظر: البخاري مع الفتح، ج 13، ص512.
(31)
البخاري مع الفتح، ج8، ص57، ح 4547.
(32)
مسلم، م1، ص12، ح 6.
(33)
الدارمي، ج1، ص53، ح119.
(34)
سير أعلام النبلاء، ج4، ص472.
(35)
مسلم، م1، ص14.
(36)
ابن ماجة، ج1، ص96، ح261، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة، ج1، ص49، ح210.
(37)
الإبانة الكبرى لابن بطة، ج1، ص414، ح329.
(38)
انظر: الاعتصام للشاطبي، ج1، ص287-291.