المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌في تحليل الانتخابات التركية - مجلة البيان - جـ ٩٨

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌في تحليل الانتخابات التركية

المسلمون والعالم

النفائس والعلمانية! !

‌في تحليل الانتخابات التركية

بقلم: د. عبد الله عمر سلطان

هناك مثل ألماني شهير يفرض نفسه فرضاً كلما تابعنا أحداث عالمنا الإسلامي

اليوم، هذا المثل يقول:(إننا لا نكتشف طباعنا إلا عندما نتكلم عن طباع الغير..) وحقّاً قد كشفت ردود الأفعال العالمية والعربية عن طبائع المتحدثين عشية إعلان

نتائج الانتخابات النيابية في تركيا.. لقد كانت انتخابات تركيا تجرى لعقود من

الزمن دون أن تثير في وسائل الإعلام المحلية والإقليمية والدولية ذلك الاهتمام

المثير أو تلك الإثارة المهمة! ! ، أما وقد طرح الإسلام بديلاً لنظام علماني متهرئ، فإن مراسلي وكالات الأنباء و (ناسخيها) العرب، والحكومات العدوة والصديقة

أصبحت تترقب نتائج الانتخابات على أحر من الجمر؛ حيث (البهارات

الأصولية..) التي أصبحت تثير شهية الجميع، وتجعلهم مهتمين بمتابعة تفاصيل التفاصيل، وكسور النتائج وإخفاقات المعسكر العلماني

أعلنت النتائج، فإذا بحفيد الأمراء السلاجقة المهندس (نجم الدين أربكان) يجر

الجميع إلى عبق التاريخ

ويجبر المنسلخين من تاريخهم وهويتهم ومجدهم على

الجلوس من جديد في رواق الباب العالي، ويدعوهم إلى تناول وجبة (روحية) عبر

تلال (إسلامبول (التي كانت تعطس فتصاب عوالم أوروبا بالقشعريرة

! ! سقى

او تلك الأزمنة التي كانت الأرزاق فيها تحت ظلال الرماح، فها هو الزمان يدور

دورته فتجري أنقرة إلى أوروبا طالبة منها تذكرة دخول نادي أوروبا العلمانية،

فتصاب أوروبا بحالة من الصراحة والوضوح -هي غريبة عنها حتماً- لتقول: إن

العلمنة طبقة قطيفة فاخرة؛ لا بد أن تركيا تدرك أن وراءها روحاً صليبية تحتفل

الآن بمرور تسعه قرون على بدء حملتها المضادة تجاه الشرق المسلم

!

إذن: هذه الانتخابات الأخيرة استطاعت أن تمزج العوامل العقدية بالعُقد

التاريخية، وأن تعري المعطيات الجمالية الدولية تجاه المنطقة الإسلامية، وأن

تشابك بين الردود والتصريحات (الأصيلة) القادمة من عوالم الغرب بتلك المتمثلة

(برجع الصدى) الغربي العلماني الهوى

كانت الانتخابات التي أظهرت -كما يقول المثل الألماني (طباع القوم) - وإن

اختلفت ألسنتهم حينما يمسون تلك الكلمة/العقدة

) الإسلام) .

العامل الدولي.. (وإسرائيل) :

لأول مرة تتدخل أوروبا وأمريكا مباشرة في انتخابات أناضولية

لم تعد

تدري كما قال (كمال نوظلو) لمراسل التلفزيون الفرنسي: (هل الحملة هي لانتخاب

(شيراك) أم (تشيلر)

؟ وكان يسخر من تلك اللوحة الهائلة التي استخدمتها رئيسة

الوزراء التركية في حملتها، ولترسيخ (أوربة) الملف التركي.. كان رئيس فرنسا

(جاك شيراك) يقبل رئيسة الوزراء التركية للتأكيد على أهمية المرشحه العلمانية

أوروبياً

، لقد عمل (شيراك) بالفعل على دعم المعسكر العلماني بصورة قوية،

فقد قاد الاتصالات والضغوط التي أدت إلى قبول تركيا ضمن أعضائه المتمتعين

بمزايا اتفاقية الإعفاء الجمركي، التي ثبت أنها لم تكن لتمر لولا أن فرص (حزب

الرفاه) في الفوز كان يتوقع أن تكون كبيرة.

دعونا نتأمل هذا الاتفاق وظروفه في هذا التقرير:

(يعتبر قرار البرلمان الأوروبي الخاص بالتصديق على دخول تركيا الوحدة

الجمركية مع الاتحاد الأوروبي -الذي اتخذ يوم 13 ديسمبر (الماضي) قبل

الانتخابات البرلمانية التركية بـ 11 يوماً- نصراً سياسيّاً كبيراً (لتشيلر) رئيسة

الوزراء التركية، إذ إنها بذلك تكون قد حققت حلماً تاريخياً تُركياً بعد نضال دام 30

عاماً، على أمل أن تحصل تركيا على العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي عام

2000م وفقاً لتصريحات (تشيلر) .

إلا أنه بقراءة ذلك النص في ظل المعطيات السياسية الداخلية والخارجية،

وفي إطار الشروط المفروضة لقبول عضوية تركيا، مع الأخذ في الاعتبار الثوابت

السياسية التركية، فإن النتيجة النهائية تشير إلى أنه نصر فارغ المحتوى، استهدف

دعم (تشيلر) في حملتها الانتخابية أولاً وإركاع تركيا ثانياً.

فالرفض الأوروبي السابق لدخول تركيا استند إلى مبررات لم تزل قائمة رغم

محاولات التجميل بمكياج رخيص؛ فسجِلّ تركيا الخاص بحقوق الإنسان لم يزل

سيئاً -وفقاً لرؤية منظمات حقوق الإنسان- وإن كان أفضل بكثير من دول أخرى

في المنطقة، والمادة الثامنة في قانون مكافحة الإرهاب هي نفسها، رغم تغيير

بعض كلماتها تلبية لرغبة الغرب، والنواب السابقون لحزب العمل الديمقراطي

(أكراد) ما زالوا يقضون عقوبات بالحبس، ولا يعني الإفراج عن قلة منهم سراً

محاولة لترطيب بشرة تركيا في مواجهة حرارة القضية الكردية، بل إن

الإصلاحات الديمقراطية لم تلب الطلبات الأوروبية.

والسؤال المهم الذي يحتاج إلى إجابة، هو: لماذا تم قبولها إذن؟ .. بقراءة

متأنية لشريط الأحداث نجد أن (تشيلر) أعلنت -سواء في لقاءاتها مع القادة

الأوروبيين أو في تصريحاتها الصحفية- أنها إذا لم تنجح وتستمر في حكم تركيا،

فإن الإسلاميين سيحكمون تركيا ويهددون المصالح الغربية ويُخلّون بالتوازن

الإقليمي والدولي.. ولذلك: فإنه يجب الإسراع (بأوربة تركيا (لقطع الطريق على

حزب (الرفاه الإسلامي (، خاصة وأن الرأي العام التركي أصبح في حالة غضب

من الرفض الأوروبي.

وبالطبع أكدت تقارير الاستخبارات واستطلاعات الرأي العام أقوال (تشيلر) ،

لذلك: ضغط الرئيس الأمريكي (بيل كلينتون) من ناحيته لقبول تركيا، كما بذل

(شيمون بيريز) رئيس الوزراء الإسرائيلي جهوداً أيضاً في هذا الإطار، من خلال

الرسائل التي بعث بها إلى كل من رئيس الوزراء الأسباني -بصفته الرئيس الحالي

للاتحاد الأوروبي وزعيم الحزب الاشتراكي-، وإلى رئيس حزب العمال البريطاني

يطالبهما بدعم الطلب التركي مشيراً إلى أن ذلك حماية للمصالح الغربية، وضمان

للاستقرار في المنطقة، وتقوية للنظام العلماني الذي يقوم بدور مهم في مواجهة

الأصولية الإسلامية.

ولما كانت الانتخابات البرلمانية على الأبواب وسط إخفاقات داخلية كبرى

تتحمل مسؤوليتها (تشيلر) مقابل نجاحات لم ينكرها أحد من الخاصة أو العامة حققها

(حزب الرفاه) من خلال البلديات الكبرى التي يتولاها منذ مارس 1994م

كان

لا مفر من دعم (تشيلر) ، التي أشارت الاستطلاعات إلى تراجع حزبها للمركز

الرابع، بينما يحتل (الرفاه) المركز الأول، وذلك بتقديم نصر سياسي تاريخي لم

يحققه أحد من رؤساء وزراء تركيا، بهدف توظيفه في الحملة الانتخابية، وهو ما

حدث بالفعل.

إلا أن ذلك الأمر لا يعني عدم استفادة أوروبا، إذ يرى كل من (مسعود يلماظ)

زعيم (الوطن الأم) و (بولنت أجاويد) زعيم (اليسار الديمقراطي) وهما من مؤيدي

الوحدة الجمركية: أن شروط الوحدة مجحفة على الصعيدين السياسي والاقتصادي،

إذ تم تقديم تنازلات في ملف القضية القبرصية، كما أن مبلغ المليارات الثلاثة

المخصصة لتركيا يعتبر قليلاً جدّاً بعد إزالة الحواجز الجمركية.. ويريان أن تركيا

تنازلت كثيراً لأوروبا التي ستضغط أكثر، وهو ما اتضح من طلب البرلمان

الأوروبي أن تجلس تركيا مع حزب العمال الكردي الانفصالي، الذي تصفه

الحكومة والحكومات الأوروبية بالإرهاب، ومع ممثلي الشعب الكردي لحل المشكلة

الكردية بالطرق السياسية.

وبالتالي: يكون الغرب قد حقق أهدافه كاملة دون أن يقدم شيئاً يذكر لتركيا

الدولة؛ إذ إنها بذلك دخلت القفص الحديدي لفرض ما يريده الغرب عليها، ويكفي

أن يكون حل القضية الكردية قد جاء من الغرب، رغم أن هناك الكثير من

الأصوات التركية المخلصة طالما نادت بإيجاد حل سياسي للمشكلة، مما يعني أن

الحل الخارجي لن يساهم مطلقاً في ترطيب العلاقات بين الأتراك والأكراد؛ لأنه

ليس نابعاً من القلب

) .

إذن: كان هناك دعم خارجي واضح وقوي للأحزاب العلمانية -لا سيما حزب

(تشيلر) - قبل الانتخابات وبعدها، وقد اتضح ذلك أكثر بعد دخول حكومة

الصهاينة على الخط، حيث عبرت (تل أبيب) على لسان سفيرها عن قلقها من فوز

(أربكان) وحزبه، كما نشرت تقارير متعددة عن مشاورات ونصائح تقدمت بها

حكومة (بيريز) لحل الإشكال بين الأخوة والأخوات في العلمنة، ويتمثل في إنشاء

حكومة ترأسها (تشيلر) لنصف الوقت و (يلماز) لنصف الوقت الآخر، كما فعل

(رابين) و (شامير) من قبل.

ويمكن من خلال استعراض الصحافة ووسائل الإعلام الغربية استنباط خطوط

عريضة تحكم النظرة الغربية للوضع في تركيا، وأهمها:

* أن تركيا لا تزال بعيدة عن أن تحكم بالإسلام؛ فهناك سياسة متفق عليها

تسمى سياسة الصمامات المتعددة التي تكفل إبقاء تركيا في الطابور الغربي، ويمثل

دعم السياسيين العلمانيين والقوانين اللادينية والثقافة المعادية للإسلام الصمام

(الديموقراطي) الأول، بينما يشكل الجيش التركي المعروف بِهَوَسِهِ العلماني خط

الدفاع الثاني ثم يأتي بعد ذلك خط الدفاع الثالث المتمثل في التفتيت الداخلي لتركيا

في حالة اقترابها من تكوين دولة إسلامية موحدة.. وذلك عبر الأقليات والقوميات

المتعددة التي طالما أتقن الغرب عبر التاريخ توجيهها في سبيل تمرير مشروعه

التغريبي.

* أن العلمانية لا تزال قوية ومؤثرة وغنية، فعلى الرغم من تصويت 21%

من السكان لصالح (الرفاه) ، فإن أكثرية السكان لا تزال تمنح أصواتها للأحزاب

العلمانية، وهذا يعني أن (بني علمان يسيطرون على الميدان) ! ! .

* أن على الأحزاب العلمانية كما تقول صحيفة (وول ستريت جرنال) أن

تتحد، أو بعبارتها: إن غياب الخطر الإسلامي المباشر (لا يشكل مبرراً لعدم

الاكتراث بتنامي قوة حزب (الرفاه) ، فقد أعلنت كافة الأحزاب العلمانية ردّاً على

حصوله على أكبر عدد من الأصوات: أنها سترفض الدخول في ائتلاف معه

لتشكيل الحكومة الجديدة، وفي هذه الحالة: فإن كلاّ من حزب (الطريق القويم)

وحزب (الوطن الأم) اللذين حصلا مجتمعين على مئتين وسبعة وستين مقعداً في

البرلمان، سيكونان بحاجة لتأييد: إما الحزب الديمقراطي اليساري (67 مقعداً) ، أو

حزب الشعب الجمهوري (49 مقعداً) من أجل تشكيل الحكومة، وليس من شأن ذلك

سوى إبعاد حزب (الرفاه) عن الحكم لعدة سنوات أخرى، إذا فشل أي ائتلاف

علماني آخر في تحقيق الإصلاحات الاقتصادية التي تحتاجها تركيا بإلحاح.

فالمطلوب هو دمج سريع لحزبي (الوطن الأم) و (الطريق القويم) في حزب

علماني واحد ذي اتجاه يميني وسط، ويجب أن تكون في تركيا حكومة قوية

ومستقرة من أجل تحويل المؤسسات العامة إلى القطاع الخاص، وإعادة هيكلة نظام

الأمن الاجتماعي الذي يعاني من (الإفلاس)، وكذلك: إصلاح سياسات الدعم

الزراعي، وإذا لم تقم مثل هذه الحكومة في تركيا، فإن الطريق سيكون مفتوحاً أمام

حزب الرفاه لتولي السلطة بمفرده، ودون الحاجة إلى الائتلاف مع أحزاب أخرى،

قبل نهاية العقد الحالي) .

* أن الأحزاب العلمانية تترهل، وهي فاسدة عموماً، وقد سجلت الحكومة

السابقة مؤشرات انحدار خطيرة، حيث زاد العجز في الميزانية، وانخفضت قيمة

الليرة التركية بنسبة 130% في الربع الأول فقط من عام 1994م، (ولسبع سنوات

مضت يعاني الاقتصاد التركي تضخماً شديداً حتى بلغ حالياً 70%، وقد بلغ قبل

ذلك 150%، لكن إجراءات التقشف التي اتبعتها (تشيلر) قد أنزلته إلى النسبة

الأولى، ويكفي أن نعرف أن الدولار الأمريكي كان -لسبع سنوات مضت- يعادل

44 ليرة تركية، أما حالياً فقد قفز عن الـ 57 ليرة.

ارتفعت ديون تركيا الخارجية منذ عام 1991م وحتى الآن من 5075 مليار

دولار، كما ارتفعت ديونها الداخلية من 8 - 26 مليار دولار. والمشكلة ليست في

الديون فقط، فكما هو معروف فإن الأطراف الدائنة تعيش على فوائد الديون، وهي

نسبة عالية. وهكذا: فإن الميزانية الحكومية والمؤسسات غير الحكومية تُستنزف

سنويّاً بدفع فوائد الديون بالإضافة إلى أقساط الديون المستحقة، الأمر الذي أثقل

كاهل الاقتصاد التركي خلال السنوات الأربع التي مضت، وهي سنوات الانقلاب

في تصويت الجماهير التركية، أي: إنها سنوات البحث عن حزب وأيديولوجية

تختلف عن أيديولوجية العلمانيين) .

* في المقابل تجُمِع التقارير الدبلوماسية والصحفية والإعلامية على كفاءة

(حزب الرفاه (التي تصفه صحيفة (وول ستريت جرنال) بأنه القوى المؤهلة لملء

فراغ الفساد القائم، وتقول:(لقد تسارع بروز (حزب الرفاه) الإسلامي كقوة سياسية

لها ثقلها في السنوات الأخيرة، مع تراجع الأوضاع الاقتصادية في ظل الحكومة

التي هيمن عليها كل من حزب (الوطن الأم) وحزب (الطريق القويم) .

لقد فاجأ (حزب الرفاه) المؤسسة التركية بتحقيق الانتصار في الانتخابات

المحلية في شهر مارس 1994م عندما تولى (حزب الرفاه) رئاسة بلديتي (أنقرة

واستانبول) وعدد آخر من المدن الرئيسة، بالإضافة إلى حصوله على 19 بالمئة

من إجمالي الأصوات، لقد أثبت (حزب الرفاه) قدرته وأمانته في ممارسة الحكم

المحلي عن طريق العمل الجاد (دون دعم كبير من حكومة حزب الطريق القويم) ؛

لحل مشكلات المناطق الريفية التي تتجاهلها الحكومات المتعاقبة منذ زمن طويل.

لقد نجح (حزب الرفاه) من خلال الحملة الانتخابية المنظمة على النمط الأميركي في

انتخابات ديسمبر الماضي، لا سيما في المناطق الريفية الفقيرة؛ حيث وجدت هذه

الحملة صداها في ظل السياسات الاقتصادية غير الموفقة لحكومة (تشيلر) . وأصبح

الحزب الأقوى المرشح لتشكيل الحكومة الجديدة. لقد استطاع (حزب الرفاه)

استغلال مشاعر الاستياء في أوساط الشعب التركي من ارتفاع نسبة التضخم،

والبطالة، وانخفاض قيمة العملة الوطنية بسرعة، والفساد، واتساع الفجوة بين

الأغنياء والفقراء، والثورة الكردية المستمرة منذ أحد عشر عاماً في جنوب شرقي

البلاد.

ونتيجة لذلك: لم يعر الأتراك اهتماماً عندما خرجت (تشيلر) في حملاتها

الانتخابية لتعرض نفسها بأنها: (قاهرة الاتحاد الأوروبي) وباعتبارها أناتورك (أم

الأتراك) تشبهاً بكمال أتاتورك (أبو الأتراك) .

إذن: ليس هناك (هلع غربي) إلى الآن، ولكن هناك (تهيئة) لخطوات لاحقة

من صعود المد الإسلامي في تركيا.

ص: 80

المسلمون والعالم

في الفلبين.. هل تحقق خطة (غزة / أريحا) أهدافها؟

محمد عبد الله

لقد باتت خطة (غزة /أريحا (التي توصل إليها اليهود في فلسطين المحتلة

و (م. ت. ف) بما تحمل في طياتها من تآمر على القضية الفلسطينية وإهدار للحقوق

التاريخية والجغرافية للمسلمين الفلسطينيين أصبحت تلك الخطة رمزاً لكل قضية

إسلامية يراد لها التصفية، ولكل شعب مسلم أُريد هضم حقوقه الثابتة، فبعد أن

اعتمدت الخطة المذكورة على شبري (غزة / أريحا (من أرض فلسطين الممتدة من

البحر إلى النهر، واعتقد يهود بذلك أنهم قد نجحوا في طمس معالم قضية الشعب

الفلسطيني، وأثبتوا حقهم المزعوم في الوجود الأبدي على أرض الإسراء، واعتقد

عرفات وجماعته أنهم قد ربحوا البيع، واستخلصوا من فم الأسد ما لا يمكن لغيرهم

استخلاصه.

ها هي الخطة نفسها بحذافيرها وبأهدافها ذاتها، يسعى أعداء الإسلام

الصليبيين لفرضها على المسلمين في الفلبين، عبر الطرف العلماني نفسه الذي

يمثل تنظيماً شبيهاً ب (م. ت. ف) .

أوجه الشبه بين ظروف القضيتين:

كثيرة هي أوجه الشبه بين القضيتين الفلسطينية والفلبينية، فالقضيتان تتعلقان

باغتصاب واحتلال أراضٍ إسلامية، وقمع شعب مسلم بالقوة العسكرية، بل تكاد

تتشابه (تكتيكات) طريقتي الاحتلال إلى حد كبير؛ ومن ذلك: اعتماد المحتلين على

سياسة الاستيطان باستجلاب المستوطنين غير المسلمين وزرعهم في أراضي

المسلمين المغتصبة لتغيير تركيبتها السكانية ومعالمها الأصلية، وهو ما يحدث في

جزر الفلبين الإسلامية الجنوبية، كما هو الحال في فلسطين.

أما على صعيد أصحاب البلاد الأصليين؛ فنجد في كلتا الحالتين طرفين

يختلفان في الأيديولوجية والمنهج والتصورات والطموح، فالطرف الأول هم

(الإسلاميون) الذين وعوا قضيتهم وتناولوها من خلال المنظور الشرعي، وتبنوا

خيار الجهاد للدفاع عن دينهم وكرامتهم السليبة، واتخذوا ذلك طريقاً لتخليص

بلادهم من الكافر المحتل، أما الطرف الآخر فهم (العلمانيون (الذين لا يهمهم إلا

إثبات وجودهم وتحقيق ذواتهم وتحصيل المغانم، ولا يبالون في سبيل ذلك بالثمن

الذي يقدمونه من مذلة ومهانة وتفريط في الواجبات والأوامر الشرعية، ولايعيرون

اهتماماً للدماء التي سالت والتضحيات الجسام التي قدمت، ولا همّ لهم إلا ما

يتهافتون على تحصيله اليوم! ! .

واليوم: أراد أعداء الإسلام من يهود وصليبيين وأعوانهم طي ملفي القضيتين

بالطريقة نفسها والأسلوب والإخراج ذاته، فبعد أن حقق اليهود خطوات على

الصعيد الفلسطيني جاء الدور على قضية مسلمي الفلبين لوأدها بالأسلوب نفسه.

(غزة / أريحا) الفلبينية:

لما استعصى أمر المسلمين في الفلبين على الحكومة الصليبية المغتصبة،

وفشلت جميع خططها لاحتوائهم، وعجزت عن قهرهم وإخضاعهم بالطرق

العسكرية القمعية على مدار السنوات الطوال الماضية، وأصر مسلمو الفلبين

بدورهم على مواصلة جهادهم؛ حتى يحققوا النصر ويتحرروا من طغيان هذه

الحكومة التي أيقنت أنها لن تصل لأهدافها بالطرق القمعية التي اعتمدت عليها في

السابق، وبعد أن ازدادت حدة العمليات الجهادية وتصاعدت كمّاً وكيفاً في مواجهتها، وسيطر الإسلاميون بشكل كبير على دفة التوجيه في المجتمع، حيث لاقوا تأييداً

واسعاً بين صفوفه، الأمر الذي جعل هذه الحكومة تستشعر الخطر المحدق بها لو

تركت الأمور تمضي على هذا النحو، فلم يعد لها بد من الاعتماد على مثل هذه

المؤامرة الجديدة لتدارك أمرها قبل فوات الأوان، فأعلنت بدورها عن عزمها على

عقد مفاوضات (سلام!) مع المسلمين، ولم تجد الحكومة الصليبية أفضل من

الجبهة القومية (العلمانية (لتمرير مؤامراتها عن طريقها، لما يتسم به القائمون عليها

من مؤهلات للقيام بهذا الدور من: تعطش للسلطة، وحب للظهور، ورغبة في

الزعامة، أما من جهة العلمانيين أنفسهم فقد لاحت لهم الفرصة التي لا تفوّت

لتنصيبهم على رؤوس المسلمين، الذين نبذوهم وانفضّوا من حولهم بعدما تبين لهم

حقيقة منهجهم، والأطماع الشخصية التي يضمرونها في أنفسهم، والمصالح الذاتية

التي يسعون لتحقيقها.

وكل هذه العوامل هيأت الظروف للطرفين ليجتمعا على هذه الخطة ليحقق كل

طرف مأربه من خلالها.

الأهداف الحقيقية وراء هذه الخطة:

حين لجأت الحكومة الفلبينية لهذه المؤامرة لم تكن تقصد بذلك التخلص من

معاناتها مع المسلمين وتركهم لحال سبيلهم، بل سعت لتحقيق عدة أهداف على

أصعدة شتى فشلت في تحقيق أي منها بسياستها الأولى.

ويمكن تلخيص هذه الأهداف فيما يلي:

1-

قطع الطريق على التيار الإسلامي المتنامي، والحد من نشاط الحركة

الجهادية الصاعدة، وعدم تمكين القيادات الإسلامية من احتلال مواقع الصدارة في

قيادة المجتمع المسلم في الفلبين.

2-

إحكام سيطرتها بشكل نافذ ودائم على مناطق المسلمين الجنوبية، وهو

الأمر الذي لم تتمكن من تحقيقه على مدى السنوات الماضية منذ استقلال دولة

الفلبين عام 1946 م وحتى اليوم؛ وذلك من خلال سيطرتها على الميلشيات

المسلحة التابعة للجبهة العلمانية، الذين سيصبحون جزءاً من الحكومة وقواتها،

وبالتالي: تتمكن قواتها العسكرية والأمنية من الانتشار في هذا المناطق بحرية تامة

وأمان نسبي كلما دعت الضرورة لذلك (حسب ما نصت عليه مسوّدة الاتفاق

المبدئية) .

3-

توفير الأموال والدماء التي تتكبدها في كل مواجهة مع المجاهدين، حيث

ستوكل مهمة (التطهير الأمني) وحفظ النظام وفرض قانون الدولة لتقوم الميلشيات

المسلحة المحسوبة على المسلمين بها.

4-

خطب ود الدول الإسلامية التي تربطها بها علاقات اقتصادية حيوية،

وتحسين صورتها أمام هذه الدول وشعوبها المسلمة؛ بتظاهرها بأنها قد منحت

المسلمين حريتهم وأحسنت إليهم، ومن جهة أخرى: استقطاب رؤوس الأموال

الإسلامية لتنفيذ مشروعات استثمارية في جنوب الفلبين بالإضافة إلى الاستفادة من

المنح المالية التي ستقدمها بعض الدول الإسلامية لدعم السلطة الجديدة (الحكم

الإداري) مما سيوفر للحكومة المركزية ما كانت ستنفقه من ميزانيتها الاقتصادية في

المنطقة.

5-

التفرغ نسبيّاً لحل بعض مشكلاتها الاقتصادية المزمنة، وتوفير جانب من

نفقات الدفاع التي ترهق ميزانيتها المالية وتستنزف منها ما قيمته مليون (بيسوز)

يوميّاً (63 ألف دولار) حسب ما صرح به رئيس الفلبين نفسه.

6-

استغلال الثروات الطبيعية من (أخشاب ومعادن (التي تذخر بها بلاد

المسلمين الجنوبية، ولا تستطيع الحكومة الوصول إليها في ظل الظروف الحالية،

حيث لا يمكنها المسلمون من ذلك.

ومما يؤكد سعي الحكومة في تحقيق هذه الأهداف: الموافقة الفورية التي

أبدتها فيما يتعلق بإدراج المناطق التي تشهد نشاطاً كبيراً وسيطرة للمجاهدين، ولا

تجد لها فيها مستقراً ضمن الاتفاقية.

هل تحقق الخطة أهدافها المرسومة؟ ! :

مما لاشك فيه أن الحكومة الفلبينية تعلق آمالاً كبيرة على تحقيق أهدافها من

وراء هذه الخطة أو أكثرها على الأقل في هذه المرحلة، ولكن ليس معنى هذا أنها

قد فرطت في أهدافها الكبرى بعيدة المدى، أو أنها ستترك السلطة التي ستعينها

تفعل ما تشاء وتتصرف بحرية في المهام التي أوكلت إليها دون إشراف ومتابعة

منها، فمن جهتها: ستحاول هذه السلطة إثبات نجاحها فيما أوكل إليها ولو بالقوة.

عقبات في طريق الخطة:

إن حرص الطرفين على إنجاح الخطة وتحقيق أهداف كل طرف منها لا يعني

بالضرورة نجاحها الفعلي؛ ذلك أن هناك عقبات كبيرة في طريقها خارجة عن إرادة

الطرفين، وأهمها:

أولاً: الرفض الشعبي العام لهذه الخطة وحالة السخط والاستياء التي تتعرض

لها الجبهة لإقدامها على هذه الخطوة وعدم الالتفات لرغبة الشعب الحقيقية في

التخلص من السيطرة الصليبية عليهم.

ثانياً: الرفض الجماعي من قبل الجماعات الجهادية والجمعيات الإسلامية

الفاعلة للخطة ومقاطعتها بشكل تام.

ثالثا: إصرار القادة الميدانيين والمجاهدين (في الخنادق) على مواصلة

جهادهم ضد الحكومة، حتى لو منحت الجبهة ذلك الحكم الإداري.

وهذه الأسباب بل بعضها كفيل بإفشال هذه الخطة طالما أنها لم ترد للمسلمين

حقوقهم وتحقق آمالهم، وافتقادها لعنصر التأييد والرضا الشعبي وحده كفيل بالقضاء

عليها في مهدها، ولن تتمكن الجبهة العلمانية إن شاء الله من مواجهة الشعب المسلم

المعارض بأكمله، وفي هذه الحالة لن تترك الحكومة الأوضاع بدون معالجة جديدة،

وستعود للتدخل كما كان الحال من قبل، هذا إذا لم تغير الحكومة رأيها وتتراجع

عن التنفيذ بعد إتمام الاتفاق لمصلحة أخرى تراها كما حدث عقب (اتفاقية طرابلس)

عام 1976م التي لم تُنَفّذْ من بنودها بنداً واحداً حتى اليوم على الرغم من مصادقة

الحكومة الليبية التي استضافت المفاوضات ومنظمة المؤتمر الإسلامي عليها! ! .

وبعد.. فهذه عينة من عينات المكر الصليبي والدولي ضد المسلمين في كثير

من ديار الإسلام، إن (خطة غزة /أريحا) في فلسطين جعلت السلطة في فلسطين

أسيرة الحكم الصهيوني، بل جعلتها عيناً وعصاً بيد (يهود) ضد شعبها، فهل يفطن

شعب مورو المسلم لهذه الخطة والمؤامرة؟ ! أم تكون سبباً لتقاتل المسلمين مع

بعضهم البعض، والصليبيون يتفرجون، ثم لا يحصل للمسلمين نصر سوى

الحرب الأهلية التي لا تبقي ولا تذر، وهذا هو المتوقع إن لم يتدارك هذا الشعب

وقادته ومجاهدوه الموقف برفض الخطة، حتى يعطى المسلمون حقوقهم كاملة. ثم

إن على قادة الجبهة الذين وقعوا الخطة الجديدة أن يفيئوا إلى الله ويحرصوا على

مصالح الشعب المسلم في الفلبين، وألا يكونوا مع الحكومة ضدهم طمعاً في عرض

زائل، وعليهم تصحيح مسارهم والتعاون مع إخوانهم على البر والتقوى، وتلافي

أساليب البغي والعدوان. فحتى متى يخسر المسملون جل قضاياهم بحلول هزيلة

وتصرفات حمقاء، هلاّ اجتمعوا وكانوا يداً واحدة، فإنهم حينئذ سيأخذون حقهم

كاملاً.

هذا ما ندعو إليه ونحذر من خلافه، والله المستعان.

ص: 90