المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 31 فهرس المحتويات 1- الدعوة إلى الله وما ينبغي أن يتحلى به - مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - جـ ١١

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌ ‌العدد 31 فهرس المحتويات 1- الدعوة إلى الله وما ينبغي أن يتحلى به

‌العدد 31

فهرس المحتويات

1-

الدعوة إلى الله وما ينبغي أن يتحلى به الدعاة: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد

2-

أضواء من التفسير: لفضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد

3-

رسائل لم يحملها البريد: لفضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي

4-

القرآن أساس الحكم الصالح: لفضيلة الشيخ محمود عبد الوهاب فايد

5-

رسالة إلى بيروت: لفضيلة الشيخ محمد مصطفى المجذوب

6-

توحيد الله (2) : لفضيلة الشيخ عبد الله أحمد قادري

7-

العيد في الإسلام معناه وحقيقته: لفضيلة الشيخ محمد أمان علي

8-

نداء من الجامعة الإسلامية - عدوان جديد من اليهود على المسجد الإبراهيمي بمدينة الخليل

9-

تنزيه الأصحاب عن تنقص أبي تراب (2) : لفضيلة الشيخ حمود عبد الله التويجري

10-

من الأدب الإسلامي إليك يا أعز البنين: لفضيلة الشيخ إبراهيم محمد سرسيق

11-

الإعلام والدعوة الإسلامية: للدكتور طه عبد الفتاح مقلد

12-

إلقاء الضوء القرآني (على كتابة الدكتور علوي حول النبهاني) : لفضيلة الشيخ عبد القادر حبيب السندي

13-

اهتمام القرآن بالعلم: لفضيلة الشيخ أحمد عبد الرحيم السايح

14-

القدرة المطلقة تستوجب العجز المطلق: لفضيلة الشيخ السعيد الشربيني الشرباصي

15-

مسجد الملك فيصل في البرازيل: للشيخ أحمد واكد

16-

العبادة حق لله وحده: إبراهيم بن علي الدغيري

17-

من الصحف والمجلات - ((نظرة محمد إقبال إلى العلوم والآداب)) : إعداد العلاقات العامة

18-

ماذا تعرف عن

الكبد

؟ : للدكتور سيد أحمد عبد البر

19-

ندوة الطلبة - إلى الشباب: قصيدة للطالب عبد الرحمن شميله

20-

العظات والعبر من هدي هجرة سيد البشر: للطالب عزيزو محمد

21-

صرخة الحق: قصيدة للطالب حسين أحمد

22-

أخبار الجامعة: إعداد العلاقات العامة

23-

الفتاوى: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز

عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م

ص: 170

الدعوة إلى الله وما ينبغي أن يتحلى به الدعاة

لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز

رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وقيوم السموات والأرضين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وخليله، وأمينه على وحيه، أرسله إلى الناس كافة، بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين ساروا على طريقته في الدعوة إلى سبيله وصبروا على ذلك وجاهدوا فيه حتى أظهر الله بهم دينه، وأعلى كلمته ولو كره المشركون، وسلم تسليما كثيرا. أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى إنما خلق الجن والإنس ليُعْبَد وحده لا شريك له، وليعظم أمره ونهيه، وليعرف بأسمائه وصفاته، كما قال عز وجل:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} .

وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .

وقال عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} .

فبين سبحانه أنه خلق الخلق ليعبد، ويعظم ويطاع أمره ونهيه، لأن العبادة هي توحيده وطاعته مع تعظيم أوامره ونواهيه، وبين عز وجل أيضا أنه خلق السموات والأرض وما بينهما ليعلم أنه على كل شيء قدير، وأنه قد أحاط بكل شيء علما.

ص: 171

فعلم بذلك أن من الحكمة في إيجاد الخليقة أن يعرف الله سبحانه بأسمائه وصفاته وأنه على كل شيء قدير، وأنه العالم بكل شيء جل وعلا، كما أن من الحكمة في خلقهم وإيجادهم أن يعبدوه ويعظموه ويقدسوه ويخضعوا لعظمته إذ العبادة هي الخضوع لله جل وعلا والتذلل له، وسميت الوظائف التي أمر الله بها المكلفين من أوامر وترك نواهي عبادة لأنها تُؤَدّي بالخضوع والتذلل لله عز وجل.

ثم لما كانت العبادة لا يمكن أن تستقل بتفاصيلها العقول، كما أنه لا يمكن أن تعرف بها الأحكام من الأوامر والنواهي على التفصيل، أرسل سبحانه وتعالى الرسل، وأنزل الكتب لبيان الأمر الذي خَلق من أجله الخلق، ولإيضاحه وتفصيله للناس حتى يعبدوا الله على بصيرة، وحتى ينتهوا عما نهاهم عنه على بصيرة.

ص: 172

فالرسل عليهم الصلاة والسلام هم هداة الخلق، وهم أئمة الهدى، وهم دعاة الثقلين جميعا إلى طاعة الله وعبادته، فالله سبحانه أكرم العباد بهم ورحمهم بإرسالهم إليهم، وأوضح على أيديهم الطريق السوي والصراط المستقيم، حتى يكون الناس على بينة من أمرهم، وحتى لا يقولوا: ما ندري ما أراده الله منا، ما جاءنا من بشير ولا نذير، ما نعرف مراد الله، فقطع الله المعذرة وأقام الحجة بإرسال الرسل، وأنزل الكتب كما قال جل وعلا:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} . وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} . وقال عز وجل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} الآية وقال سبحانه: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} .

ص: 173

فبين سبحانه أنه أرسل الرسل وأنزل معهم الكتب ليحكم بين الناس بالحق والقسط، وليوضح للناس ما اختلفوا فيه من الشرائع والعقائد، من توحيد الله وشريعته عز وجل فإن قوله سبحانه وتعالى:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} يعني على الحق لم يختلفوا من عهد آدم عليه الصلاة والسلام إلى نوح كان الناس على الهدى كما قال ابن عباس رضي الله عنهما وجماعة من السلف والخلف، ثم وقع الشرك في قوم نوح فاختلفوا فيما بينهم، اختلفوا فيما يجب عليهم من حق الله، فلما وقع الشر والاختلاف أرسل الله نوحا عليه الصلاة والسلام وبعده الرسل كما قال عز وجل:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} وقال تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .

فالله أنزل الكتاب يبين حكم الله فيما اختلف فيه الناس، ويبين شرعه فيما جهله الناس، وليؤمر الناس بالتزام شرع الله، والوقوف عند حدود الله، وينهى الناس عما يضرهم في العاجل والآجل، وقد ختم الرسل جل وعلا بأفضلهم وبإمامهم وبسيدهم نبينا وسيدنا محمد بن عبد الله عليه من ربهم أفضل الصلاة والتسليم.

ص: 174

فبلَّغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، ودعا إلى الله سرا وجهرا، وأوذي في الله أشد الأذى ولكنه صبر على ذلك كما صبر مَنْ قبله مِنَ الرسل عليهم الصلاة والسلام. صبر كما صبروا، وبلغ كما بلغوا، ولكنه أُوذي أكثر، وصبر أكثر وقام بأعباء الرسالة أكمل قيام عليه وعليهم الصلاة والسلام. مكث ثلاثا وعشرين سنة يبلغ رسالات الله، ويدعو إليه، وينشر أحكامه، منها ثلاث عشرة سنة في أم القرى _ مكة المكرمة _ أولا بالسر ثم بالجهر، صدع بالحق وأُوذي وصبر على الدعوة وعلى أذى النَّاس مع أنهم يعرفون صدقه وأمانته ويعرفون فضله ونسبه ومكانته، ولكنه الهوى والحسد والعناد من الأكابر، والجهل والتقليد من العامة، فالأكابر جحدوا واستكبروا وحسدوا، والعامة قلدوا واتبعوا وأساؤوا، فأُذي بسبب ذلك أشد الأذى عليه الصلاة والسلام.

ويدلنا على أن الأكابر قد عرفوا الحق وعاندوا قوله سبحانه: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} .

ص: 175

بين سبحانه أنهم لا يكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم بل يعلمون صدقه وأمانته وكانوا يسمونه الأمين قبل أن يوحى إليه عليه الصلاة والسلام، ولكنهم جحدوا الحق حسدا وبغيا ونفاسة عليه عليه الصلاة والسلام لكنه عليه الصلاة والسلام لم يبال بذلك ولم يكترث به بل صبر واحتسب وسار في الطريق ولم يزل داعيا إلى الله جل وعلا، صابرا على الأذى مجاهدا بالدعوة كافا عن الأذى متحملا له صافحا عما يصدر منهم حسب الإمكان، حتى اشتد الأمر وعزموا على قتله عليه الصلاة والسلام فعند ذلك أذن الله له بالخروج والهجرة إلى المدينة.. فهاجر إليها عليه الصلاة والسلام، وصارت عاصمة الإسلام الأولى وظهر فيها دين الله وصار للمسلمين دولة وقوة واستمر عليه الصلاة والسلام في الدعوة وإيضاح الحق وشرع في الجهاد بالسيف وأرسل الرسل يدعون الناس إلى الخير والهدى ويشرحون لهم دعوة نبيهم محمد عليه الصلاة والسلام، وبث السرايا، وغزا الغزوات المعروفة حتى أظهر الله دينه على يديه وحتى أكمل الله به الدين وأتم عليه وعلى أمته النعمة ثم توفي عليه الصلاة والسلام بعدما أكمل الله به الدين وبلغ البلاغ المبين عليه الصلاة والسلام فتحمل أصحابه من بعده الأمانة وساروا على الطريق فدعوا إلى الله عز وجل، وانتشروا في أرجاء المعمورة دعاة للحق ومجاهدين في سبيل الله عز وجل لا يخشون في الله لومة لائم يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله جل وعلا فانتشروا في الأرض غزاة مجاهدين ودعاة مهتدين وصالحين مصلحين ينشرون دين الله، ويعلمون الناس شريعته ويوضحون لهم العقيدة التي بعث الله بها الرسل، وهي إخلاص العبادة لله وحدة وترك عبادة ما سواه من الأشجار والأحجار والأصنام وغير ذلك، فلا يدعى إلا الله وحده، ولا يستغاث إلا به ولا يحكَّم إلا شرعه ولا يصلى إلا له ولا ينذر إلا به إلى غير ذلك من العبادات وأوضحوا للناس أن العبادة حق الله وتلوا عليهم ما ورد في

ص: 176

ذلك من الآيات مثل قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} ، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ} ، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} ، {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} . إلى غير ذلك من الآيات.

وصبروا على ذلك صبرا عظيما وجاهدوا في الله جهادا كبيرا رضي الله عنهم وأرضاهم وتبعهم على ذلك أئمة الهدى من التابعين وأتباع التابعين من العرب وغير العرب ساروا في هذا السبيل - سبيل الدعوة إلى الله عز وجل وتحملوا أعبائها وأدوا الأمانة مع الصدق والصبر والإخلاص في الجهاد في سبيل الله وقتال من خرج عن دينه وصد عن سبيله ولم يؤدوا الجزية التي فرضها الله إذا كان من أهلها. فهم حملة الدعوة وأئمة الهدى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا أتباع الصحابة من التابعين وأتباع التابعين وأئمة الهدى ساروا على الطريق كما تقدم وصبروا في ذلك، وانتشر دين الله وعلت كلمته على أيدي الصحابة ومن تبعهم من أهل العلم والإيمان من العرب والعجم من هذه الجزيرة جنوبها وشمالها ومن غير الجزيرة من سائر أرجاء الدنيا، ممن كتب الله له السعادة ودخل في دين الله وشارك في الدعوة والجهاد وصبر على ذلك وصارت لهم السيادة والقيادة والإمامة في الدين بسبب صبرهم وإيمانهم وجهادهم في سبيل الله عز وجل وصدق فيهم قوله سبحانه فيما ذكر في بني إسرائيل {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} صدق هذا في أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وفي من سار على سبيلهم صاروا أئمة وهداة ودعاة للحق وأعلاما يقتدى بهم بسبب صبرهم وإيقانهم.

ص: 177

فإن بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين فأصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام وأتباعه بإحسان إلى يومنا هذا هم الأئمة وهم الهداة وهم القادة في سبيل الحق، وبذلك يتضح لنا جميعا، ويتضح لكل طالب علم أن الدعوة إلى الله من أهم المهمات وأن الأمة في كل زمان ومكان في أشد الحاجة إليها بل في أشد الضرورة إلى ذلك ولذا رأيت أن تكون هذه المحاضرة في شأن الدعوة ويتخلص الكلام في الدعوة إلى الله عز وجل في أمور:

الأمر الأول: حكمها وفضلها.

الأمر الثاني: كيفية أدائها وأساليبها.

الأمر الثالث: بيان الأمر الذي يدعى إليه.

الأمر الرابع: بيان الأخلاق والصفات التي ينبغي للدعاة أن يتخلقوا بهما وأن يسروا عليهما فنقول - وبالله المستعان وعليه التكلان جل وعلا وهو المعين والموفق لعباده سبحانه وتعالى:

الأمر الأول: بيان حكم الدعوة إلى الله عز وجل وبيان فضلها:

ص: 178

أما حكمها: فقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب الدعوة إلى الله عز وجل وأنها من الفرائض والأدلة في ذلك كثيرة منها قوله سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . ومنها قوله جل وعلا: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّك الْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} . ومنها قوله عز وجل: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . ومنها قوله سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} . فبين سبحانه أن أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم هم الدعاة إلى الله وهم أهل البصائر والواجب كما هو معلوم هو اتباعه والسير على منهاجه عليه الصلاة والسلام كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} .

ص: 179

وصرح العلماء أن الدعوة إلى الله عز وجل فرض كفاية بالنسبة إلى الأقطار التي يقوم فيها الدعاة فإن كل قطر وكل إقليم يحتاج إلى الدعوة وإلى النشاط فيها فهي فرض كفاية إذا قام بها من يكفي سقط عن الباقين.. ذلك الواجب وصارت الدعوة في حق الباقين سنة مؤكدة وعملا صالحا جليلا وإذا لم يقم أهل الإقليم أو أهل القطر المعين بالدعوة على التمام صار الإثم عاما وصار الواجب على الجميع وعلى كل إنسان أن يقوم بالدعوة حسب طاقته وإمكانه. أما بالنظر إلى عموم البلاد فالواجب أن يوجد طائفة منتصبة تقوم بالدعوة إلى الله جل وعلا في أرجاء المعمورة تبلغ رسالات الله وتبين أمر الله عز وجل بالطرق الممكنة فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بعث الدعاة وأرسل الكتب إلى الناس وإلى الملوك والرؤساء ودعاهم إلى الله عز وجل وفي وقتنا اليوم قد يسر الله عز وجل أمر الدعوة أكثر بطرق لم يدركها من قبلنا ولم تحصل لمن قبلنا فأمور الدعوة اليوم متيسرة أكثر من طرق كثيرة وإقامة الحجة على الناس اليوم ممكنة بطرق كثيرة: عن طريق الإذاعة عن طر يق التلفزة - عن طريق الصحافة - من طرق شتى.. فالواجب على أهل العلم والإيمان وعلى خلفاء الرسول أن يقوموا بهذا الواجب وأن يتكاتفوا فيه وأن يبلغوا رسالات الله إلى عباد الله ولا يخشون في الله لومة لائم ولا يحابون في ذلك كبيرا ولا صغيرا ولا غنيا ولا فقيرا بل يبلغون أمر الله إلى عباد الله كما أنزل الله وكما شرع الله وقد يكون ذلك فرض عين إذا كنت في مكان ليس فيه من يؤدي ذلك سواك كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه يكون فرض عين ويكون فرض كفاية. فإن كنت في مكان ليس فيه من يقوى على هذا الأمر ويبلغ أمر الله سواك فالواجب عليك أنت أن تقوم بذلك فأما إذا وجد من يقوم بالدعوة والتبليغ والأمر والنهي غيرك فإنه يكون حينئذ في حقك سنة وإذا بادرت إليه وحرصت عليه كنت بذلك منافسا في الخيرات ومسابقا إلى الطاعات. ومما احتج به

ص: 180

على أنها فرض كفاية قوله جل وعلا: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْر} الآية.

قال الحافظ ابن كثير عند هذه الآية وجماعة ما معناه: ولتكن منكم أمة منتصبة لهذا الأمر العظيم تدعوا إلى الله وتنشر دينه وتبلغ أمره سبحانه وتعالى ومعلوم أيضا أن الرسول عليه الصلاة والسلام دعا إلى الله وقام بأمر الله في مكة حسب طاقته وقام الصحابة كذلك رضي الله عنهم وأرضاهم بذلك حسب طاقتهم ثم لما هاجروا قاموا بالدعوة أكثر وأبلغ ولما انتشروا في البلاد بعد وفاته عليه الصلاة والسلام قاموا بذلك أيضا رضي الله عنهم وأرضاهم كل على قدر طاقته وعلى قدر علمه.

فعند قلة الدعاة وعند كثرة المنكرات وعند غلبة الجهل كحالنا اليوم تكون الدعوة فرض عين على كل واحد بحسب طاقته وإذا كان في محل محدود كقرية ومدينة ونحو ذلك ووجد فيها تولى هذا الأمر وقام به وبلغ أمر الله كفى وصار التبليغ في حق غيره سنة لأنه قد أُقيمت الحجة على يد غيره ونفذ أمر الله على يد سواه. ولكن بالنسبة إلى بقية أرض الله وإلى بقية الناس يجب على العلماء حسب طاقتهم وعلى ولاة الأمر حسب طاقتهم أن يبلغوا أمر الله بكل ما يستطيعون وهذا فرض عين عليهم بالتعيين على حسب الطاقة والقدرة وبهذا يعلم أن كونها فرض عين وكونها فرض كفاية أمر نسبي يختلف.

ص: 181

فقد تكون الدعوة فرض عين بالنسبة إلى أقوام وإلى أشخاص وسنة بالنسبة إلى أشخاص وإلى أقوام لأنه وجد في محلهم وفي مكانهم من قام بالأمر وكفى عنهم أما بالنسبة إلى ولاة الأمور ومن لهم القدرة الواسعة فعليهم من الواجب أكثر وعليهم أن يبلغوا الدعوة إلى ما استطاعوا من الأقطار حسب الإمكان بالطرق الممكنة وباللغات الحية التي ينطق بها الناس. يجب أن يبلغوا أمر الله بتلك اللغات حتى يصل دين الله إلى كل أحد باللغة التي يعرفها: باللغة العربية وبغيرها فإن الأمر الآن ممكن وميسور بالطرق التي تقدم بيانها.. طرق الإذاعة والتلفزة والصحافة وغير ذلك من الطرق التي تيسرت اليوم ولم تتيسر في السابق كما أنه يجب على الخطباء في الاحتفالات وفي الجمع وفي غير ذلك أن يبلغوا ما استطاعوا من أمر الله عز وجل وأن ينشروا دين الله حسب طاقتهم وحسب علمهم. ونظرا إلى انتشار الدعوة إلى المبادئ الهدامة وإلى الإلحاد وإنكار رب العباد وإنكار الرسالات وإنكار الآخرة وانتشار الدعوة النصرانية في الكثير من البلدان وغير ذلك من الدعوات المضلِّلة نظرا إلى هذا فإن الدعوة إلى الله عز وجل اليوم أصبحت فرضا عاما وواجبا عاما على جميع العلماء وعلى جميع الحكام الذين يدينون بالإسلام فرض عليهم أن يبلغوا دين الله حسب الطاقة والإمكان بالكتابة وبالخطابة وبالإذاعة وبكل وسيلة استطاعوها وألا يتقاعسوا عن ذلك أو يتكلوا على زيد أو عمرو فإن الحاجة بل الضرورة ماسة اليوم إلى التعاون والاشتراك والتكاتف في هذا الأمر العظيم أكثر مما كان قبل ذلك لأن أعداء الله قد تكاتفوا وتعاونوا بكل وسيلة للصد عن سبيل الله والتشكيك في دينه ودعوة الناس إلى ما يخرجهم من دين الله عز وجل فوجب على أهل الإسلام أن يقابلوا هذا النشاط المضل وهذا النشاط الملحد بنشاط إسلامي وبدعوة إسلامية على شتى المستويات وبجميع الوسائل وبجميع الطرق الممكنة وهذا من باب أداء ما أوجب الله على عباده من

ص: 182

الدعوة إلى سبيله.

فضل الدعوة:

وقد ورد في فضل الدعوة والدعاة آيات وأحاديث كثير كما أنه ورد في إرسال النبي صلى الله عليه وسلم الدعاة أحاديث لا تخفى على أهل العلم ومن ذلك قوله جل وعلا: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} . فهذه الآية الكريمة فيها التنويه بالدعاة والثناء عليهم وأنه لا أحد أحسن قولا منهم وعلى رأسهم الرسول عليه الصلاة والسلام ثم أتباعه على حسب مراتبهم في الدعوة والعلم والفضل فأنت يا عبد الله يكفيك شرفا أن تكون من أتباع الرسل ومن المنتظمين في هذه الآية الكريمة {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} المعنى لا أحد أحسن قولا منه لكونه دعا إلى الله وأرشد إليه وعمل بما يدعو إليه يعني دعا إلى الحق وعمل به وأنكر الباطل وحذر منه وتركه ومع ذلك صرح بما هو عليه ولم يخجل بل قال: إنني من المسلمين.. مغتبطا وفرحا بما مَنَّ الله به عليه ليس كمن يستنكف عن ذلك ويكره أن ينطق بأنه مسلم أو بأنه يدعو إلى الإسلام لمراعاة فلان أو مجاملة فلان ولا حول ولا قوة إلى بالله. بل المؤمن الداعي إلى الله القوي الإيمان البصير بأمر الله يصرح بحق الله وينشط في الدعوة إلى الله ويعمل بما يدعو إليه ويحذر ما ينهى عنه فيكون من أسرع الناس إلى ما يدعو إليه ومن أبعد الناس عن كل ما ينهى عنه ومع ذلك يصرح بأنه مسلم وبأنه يدعو إلى الإسلام ويغتبط بذلك ويفرح به كما قال عز وجل: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} .

ص: 183

فالفرح برحمة الله فرح الاغتباط.. فرح السرور.. أمر مشروع، أما الفرح المنهي عنه فهو فرح الكبر والمرح هذا هو المنهي عنه كما قال عز وجل في قصة قارون:{لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} . هذا فرح الكبر والتعالي على الناس والتعاظم وهذا هو الذي ينهى عنه أما فرح الاغتباط والسرور بدين الله والفرح بهداية الله والاستبشار بذلك والتصريح بذلك ليعلم فأمر مشروع وممدوح ومحمود فهذه الآية الكريمة من أوضح الآيات في الدلالة على فضل الدعوة وأنها من أهم القربات ومن أفضل الطاعات وأن أهلها في غاية من الشرف وفي أرفع مكانة وعلى رأسهم الرسل عليهم الصلاة والسلام ومن ذلك قوله جل وعلا: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} . فبين سبحانه أن الرسول يدعو على بصيرة وأن أتباعه كذلك فهذا فيه فضل الدعوة وأن أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم هم الدعاة إلى سبيله على بصيرة والبصيرة هي العلم يما يدعو إليه وما ينهى عنه وفي هذا شرف لهم وتفضيل وقال النبي الكريم عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: "من دل عل خير فله مثل أجر فاعله". رواه مسلم في الصحيح.. وقال عليه الصلاة والسلام: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا". أخرجه مسلم أيضا. وهذا يدل على فضل الدعوة إلى الله عز وجل وصح عنه عليه السلام أنه قال لعلي رضي الله عنه وأرضاه: "فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم". متفق على صحته، وهذا أيضا يدلنا على فضل الدعوة إلى الله وما فيها من الخير العظيم وأن الداعي إلى الله جل وعلا يعطي مثل أجور من هداه الله على يديه ولو كآلاف الملايين تعطى أيها الداعية مثل أجورهم فهنيئا لك أيها الداعية إلى الله بهذا الخير العظيم وبهذا يتضح أيضا

ص: 184

أن الرسول عليه الصلاة والسلام يعطى مثل أجور أتباعه فيالها من نعمة عظيمة يعطى نبينا عليه الصلاة والسلام مثل أجور أتباعه إلى يوم القيامة لأنه بلغهم رسالة الله ودلهم على الخير عليه الصلاة والسلام وهكذا الرسل يعطون مثل أُجور أتباعهم عليهم الصلاة والسلام وأنت كذلك أيها الداعية في كل زمان تعطى مثل أجور أتباعك والقابلين لدعوتك فاغتنم هذا الخير العظيم وسارع إليه.

كيفية الدعوة:

أما كيفية الدعوة أسلوبها فقد بين الله عز وجل في كتابه الكريم وفيما جاء في سنة نبيه عليه الصلاة والسلام ومن أوضح ذلك قوله تعالى جل وعلا: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} . فأوضح سبحانه الكيفية التي ينبغي أن يقوم بها الداعية ويسلكها. يبدأ أولا بالحكمة والمراد بها الأدلة المقنعة الواضحة الكاشفة للحق والداحضة للباطل ولهذا قال بعض المفسرين المعنى: "بالقرآن"لأنه الحكمة العظيمة لأن فيه البيان والإيضاح للحق بأكمل وجه وقال بعضهم معناه: "بالأدلة من الكتاب والسنة"وبكل حال فالحكمة كلمة عظيمة معناها الدعوة إلى الله بالعلم وبالبصيرة والأدلة الواضحة المقنعة الكاشفة للحق والمبينة له وهي كلمة مشتركة تطلق على معان كثيرة تطلق على النبوة وعلى العلم والفقه في الدين وعلى العقل وعلى الورع وعلى أشياء أخرى وهي في الأصل كما قال الشوكاني رحمه الله: "الأمر الذي يمنع عن السفه هذه هي الحكمة"والمعنى أن كل كلمة وكل مقالة تردعك عن السفه وتزجرك عن الباطل فهي حكمة وهكذا كل مقال واضح صريح صحيح في نفسه فهو حكمة فالآيات القرآنية أولى بأن تسمى حكمة وهكذا السنة الصحيحة أولى بأن تسمى حكمة بعد كتاب الله وقد سماها الله حكمة في كتابه العظيم كما في قوله جل وعلا: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} يعني السنة فالأدلة الواضحة تسمى حكمة والكلام الواضح المصيب

ص: 185

للحق يسمى حكمة كما تقدم ومن ذلك الحكمة التي تكون في فم الفرس سميت بذلك لأنها تمنع الفرس من المضي في السير إذا جذبها صاحبها بهذه الحكمة.

فالحكمة كلمة تمنع من سمعها من المضي في الباطل وتدعوه إلى الأخذ بالحق والتأثر به والوقوف عند الحد الذي حده الله عز وجل. فعلى الداعية إلى الله عز وجل أن يدعو بالحكمة ويبدأ بها ويعنى بها. فإذا كان المدعو عنده بعض الجفاء والاعتراض دعوته بالموعظة الحسنة بالآيات والأحاديث التي فيها الوعظ والترغيب والترهيب فإن كان عنده شبهة جادلته بالتي هي أحسن ولا تغلظ عليه بل تصبر عليه ولا تعجل ولا تٌعنّف بل تجتهد في كشف الشبهة وإيضاح الأدلة هكذا ينبغي لك أيها الداعية أن تتحمل وتصبر ولا تشدد لأن هذا أقرب إلى الانتفاع بالحق وقبوله وتأثر المدعو وصبره على المجادلة والمناقشة وقد أمر الله جل وعلا موسى وهارون لما بعثهما إلى فرعون أن يقولا له قولا لينا وهو أطغى الطغاة قال الله جل وعلا في أمره لموسى وهارون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} وقال الله سبحانه في نبيه محمد عليه الصلاة والسلام: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} . الآية.. فعلم بذلك أن الأسلوب الحكيم والطريق المستقيم في الدعوة أن يكون في ذلك حكيما في الدعوة بصيرا بأسلوبها لا يعجل ولا يُعنّف بل يدعو بالحكمة وهي المقال الواضح المصيب للحق من الآيات والأحاديث وبالموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن هذا هو الأسلوب الذي ينبغي لك في الدعوة إلى الله عز وجل.

ص: 186

أما الدعوة بالجهل فهذا يضر ولا ينفع كما يأتي بيان ذلك إن شاء الله عند ذكر أخلاق الدعاة لأن الدعوة مع الجهل بالأدلة قول على الله بغير علم وهكذا الدعوة بالعنف والشدة ضررها أكبر وإنما الواجب والمشروع ما بيَّنه الله عز وجل في آية النحل وهي قوله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} الآية أما الشيء الذي يدعى إليه ويجب على الدعاة أن يوضحوه للناس كما أوضحه الرسل عليهم الصلاة والسلام فهو الدعوة إلى صراط الله المستقيم وهو الإسلام وهو دين الله الحق، هذا هو محل الدعوة كما قال سبحانه:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّك} فسبيل الله جل وعلا هو الإسلام وهو الصراط المستقيم وهو دين الله الذي بعث به نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام هذا هو الذي يدعى إليه وتجب الدعوة إليه لا إلى مذهب فلان ولا إلى رأي فلان ولكن إلى دين الله إلى صراط الله المستقيم الذي بعث الله به نبيه وخليله محمدا عليه الصلاة والسلام وهو ما دل عليه القرآن العظيم والسنة المطهرة الثابتة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام وعلى رأس ذلك الدعوة إلى العقيدة الصحيحة إلى الإخلاص لله وتوحيده بالعبادة والإيمان به وبرسله والإيمان باليوم الآخر وبكل ما أخبر الله به ورسوله هذا هو أساس الصراط المستقيم وهو الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ومعنى ذلك الدعوة إلى توحيد الله والإخلاص له والإيمان به وبرسله عليهم الصلاة والسلام ويدخل في ذلك الدعوة إلى الإيمان بكل ما أخبر الله به ورسله مما كان وما يكون من أمر الآخرة وأمر آخر الزمان وغير ذلك. ويدخل في ذلك أيضا الدعوة إلى ما أوجب الله من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت إلى غير ذلك ويدخل أيضا الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخذ بما شرع الله في الطهارة والصلاة والمعاملات والنكاح والطلاق والجنايات والنفقات والحرب والسلم وفي كل

ص: 187

شيء لأن دين الله عز وجل دين شامل يشمل مصالح العباد في المعاش والمعاد ويشمل كل ما يحتاج إليه الناس في أمر دينهم ودنياهم ويدعو إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال وينهى عن سفساف الأخلاق وعن سيئ الأعمال فهو عبادة وقيادة يكون عابدا ويكون قائدا للجيش عبادة وحكم يكون عابدا مصليا صائما ويكون حاكما بشرع الله منفذا لأحكامه عز وجل. عبادة وجهادا يدعو إلى الله ويجاهد في سبيل الله من خرج عن دين الله. مصحف وسيف: يتأمل القرآن ويتدبره وينفذ أحكامه بالقوة ولو بالسيف إذا دعت الحاجة إليه. سياسة واجتماع فهو يدعو إلى الأخلاق الفاضلة والأخوة الإيمانية والجمع بين المسلمين والتأليف بينهم كما قال جل وعلا: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} . فدين الله يدعو إلى الاجتماع وإلى السياسة الصالحة الحكيمة التي تجمع ولا تفرق.. تؤلف ولا تباعد.. تدعو إلى صفاء القلوب واحترام الأخوة الإسلامية والتعاون على البر والتقوى والنصح لله ولعباده وهو أيضا يدعو إلى أداء الأمانة والحكم بالشريعة وترك الحكم بغير ما أنزل الله عز وجل كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} وهو أيضا سياسة واقتصاد كما أنه سياسة وعبادة وسياسة وجهاد فهو يدعو إلى الاقتصاد الشرعي المتوسط ليس رأسماليا غاشما ظالما لا يبالي بالحرمات وبجمع المال بكل وسيلة وبكل طريق وليس اقتصادا شيوعيا إلحاديا لا يحترم أموال الناس ولا يبالي بالضغط عليهم ولا بظلمهم والعدوان عليهم فليس هذا ولا هذا بل هو وسط بين الاقتصادين وسط بين الطرفين وحق بين الباطلين فالغرب عظموا المال وغلوا في حبه وفي جمعه حتى جمعوه بكل وسيلة واستحلوا فيه ما حرم الله عز وجل والشرق من الملحدين من السوفيت ومن سلك سبيلهم لم يحترموا أموال العباد بل أخذوها واستحلوها ولم

ص: 188

يبالوا بما فعلوا في ذلك بل استعبدوا العباد اضطهدوا الشعوب وكفروا بالله وأنكروا الأديان وقالوا لا إله والحياة مادة فلم يبالوا بهذا المال ولم يكترثوا من أخذه بغير حله ولم يكترثوا بوسائل الإبادة والاستعباد واستيلاء الأموال والحيلولة بين الناس وبين ما فطرهم الله عليه منم الكسب والانتفاع والاستفادة من قدراتهم ومن عقولهم وما أعطاهم الله من الأدوات فلا هذا ولا هذا فالإسلام جاء يحفظ المال واكتسابه بالطرق الشرعية البعيدة عن الظلم والغشم والرباء وظلم الناس والتعدي عليهم كما جاء باحترام الملك الفردي والجماعي فهو وسط بين النظامين وبين الاقتصادين وبين الطريقين الغاشمين فأباح المال ودعا إليه ودعا إلى اكتسابه بالطرق الحكيمة من غير أن يشغل كاسبه عن طاعة الله ورسوله وعن أداء ما أوجب الله عليه ولهذا قال عز وجل سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} . وقال النبي عليه الصلاة والسلام: "كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه" وقال: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا". وقال عليه الصلاة والسلام: "لأن يأخذ أحدكم حبلة فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من سؤال الناس أعطوه أو منعوه". وسئل صلى الله عليه وسلم: "أي الكسب أطيب"فقال: "عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور". وقال عليه الصلاة والسلام: "ما أكل أحدٌ طعاما أفضل من أن يأكل من عمل يده وكان نبي الله داود يأكل من عمل يده". فهذا يبين لنا أن نظام الإسلام في المال نظام متوسط لا مع رأس المال الغاشم من الغرب وأتباعه ولا مع الشيوعيين الملحدين الذين استباحوا الأموال وأهدروا حرمات أهلها لم يبالوا بها واستعبدوا الشعوب وقضوا عليها واستحلوا ما حرم الله منها. فلك أن تكسب المال وتطلبه بالطرق الشرعية وأنت أولى بمالك وبكسبك بالطريقة

ص: 189

التي شرعها الله وأباحها جل وعلا.

والإسلام أيضا يدعو إلى الأخوة الإيمانية وإلى النصح لله ولعباده وإلى احترام المسلم لأخيه لا غل ولا حسد ولا غش ولا خيانة ولا غير ذلك من الأخلاق الذميمة كما قال جل وعلا: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} . وقال جل وعلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحتقره ولا يخذله" الحديث. فالمسلم أخو المسلم يجب عليه احترامه وعدم احتقاره ويجب عليه إنصافه وإعطاؤه حقه من كل الوجوه التي شرعها الله عز وجل قال صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" وقال صلى الله عليه وسلم: "المؤمن مرآة أخيه المؤمن". فأنت يا أخي مرآة أخيك وأنت لبنة من البناء الذي قام عليه بنيان الأخوة الإيمانية فاتق الله في حق أخيك واعرف حقه وعامله بالحق والنصح والصدق وعليك أن تأخذ الإسلام كله ولا تأخذ جانبا دون جانب. لا تأخذ العقيدة وتدع الأحكام والأعمال ولا تأخذ الأعمال والأحكام وتدع العقيدة بل خذ الإسلام كله خذه عقيدة وعملا وقولا وعبادة وجهادا واجتماعا وسياسة واقتصادا وغير ذلك خذه من كل الوجوه كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} . قال جماعة من السلف معنى ذلك ادخلوا في السلم جميعه يعني في الإسلام يقال للإسلام سلم لأنه طريق السلامة وطريق النجاة في الدنيا والآخرة فهو سلم وإسلام. فالإسلام يدعو إلى السلم. يدعو إلى حقن الدماء بما شرع من الحدود والقصاص والجهاد الشرعي الصادق فهو سلم وإسلام وأمن وإيمان ولهذا قال جل وعلا: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ} . أي ادخلوا في جميع شعب الإيمان في جميع خصال الإيمان لا تأخذوا بعضا وتدعوا بعضا عليكم أن تأخذوا بالإسلام كله {وَلا

ص: 190

تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} يعني المعاصي التي حرمها الله عز وجل فإن الشيطان يدعو إلى المعاصي وإلى ترك دين الله كله فهو أعدا عدو ولهذا يجب على المسلم أن يتمسك بالإسلام كله وأن يدين بالإسلام كله وأن يعتصم بحبل الله جل وعلا وأن يحذر أسباب الفرقة والاختلاف في جميع الأحوال فعليك أن تحكم شرع الله في العبادات وفي المعاملات وفي النكاح والطلاق وفي النفقات وفي الرضاع وفي السلم والحرب ومع العدو والصديق وفي الجنايات وفي كل شيء. دين الله يجب أن يحكم في كل شيء وإياك أن توالي أخاك لأنه وافقك في كذا وتعادي الآخر لأنه خالفك في رأي أو في مسألة فليس هذا من الإنصاف فالصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في مسائل ومع ذلك لم يؤثر ذلك في الصفاء بينهم والموالاة والمحبة رضي الله عنهم وأرضاهم فالمؤمن يعمل بشرع الله ويدين بالحق ويقدمه على كل أحد بالدليل ولكن لا يحمله ذلك على ظلم أخيه وعدم إنصافه إذا خالفه في الرأي في مسائل الاجتهاد التي قد يخفى دليلها وهكذا في المسائل التي قد يختلف في تأويل النص فيها فإنه قد يعذر فعليك أن تنصح له وأن تحب له الخير ولا يحملك ذلك على العداء والانشقاق وتمكين العدو منك ومن أخيك ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ص: 191

الإسلام دين العدالة.. دين الحكم بالحق وبالإحسان.. دين المساواة إلا فيما استثنى الله عز وجل ففيه الدعوة إلى كل خير وفيه الدعوة إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال والإنصاف والعدالة والبعد عن كل خلق ذميم قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} والخلاصة أن الواجب على الداعية الإسلامي أن يدعو إلى الإسلام كله ولا يفرق بين الناس وألا يكون متعصبا لمذهب دون مذهب أو لقبيلة دون قبيلة أو لشيخه أو رئيسه أو غير ذلك بل الواجب أن يكون هدفه إثبات الحق وإيضاحه واستقامة الناس عليه وإن خالف رأي فلان أو فلان أو فلان. ولما نشأ في الناس من يتعصب للمذاهب ويقول: إن مذهب فلان أولى من مذهب فلان جاءت الفرقة والاختلاف حتى آل ببعض الناس هذا الأمر إلى أن لا يصلي مع من هو على غير مذهبه فلا يصلي الشافعي خلف الحنفي ولا الحنفي خلف المالكي ولا خلف الحنبلي هكذا وقع من بعض المتطرفين المتعصبين.. وهذا من البلاء ومن اتباع خطوات الشيطان فالأئمة أئمة هدى الشافعي ومالك وأحمد وأبو حنيفة والأوزاعي وإسحاق بن راهويه وأشباههم كلهم أئمة هدى ودعاة حق دعوا الناس إلى دين الله وأرشدوهم إلى الحق ووقع هناك مسائل بينهم اختلفوا فيها لخفاء الدليل فهم بين مجتهد مصيب له أجران وبين مجتهد أخطأ الحق فله أجر واحد فعليك أن تعرف لهم قدرهم وفضلهم وأن تترحم عليهم وأن تعرف أنهم أئمة الإسلام ودعاة الهدى ولكن لا يحملك ذلك على التعصب والتقليد الأعمى فتقول: مذهب فلان أولى بالحق بكل حال أو مذهب فلان أولى بالحق

ص: 192

بكل حال لا يخطئ. لا هذا غلط، عليك أن تأخذ بالحق وأن تتبع الحق إذا ظهر دليله ولو خالف فلانا أو فلانا وعليك ألا تتعصب وأن لا تقلد تقليدا أعمى بل تعرف لهم فضلهم وقدرهم ولكن مع ذلك تحتاط لنفسك.. تحتاط لدينك.. تأخذ بالحق وترشد إليه وترضى به إذا طلب منك وتخاف الله وتراقبه جل وعلا تنصف من نفسك مع إيمانك بأن الحق واحد وأن المجتهدين إن أصابوا فلهم أجران وإن أخطؤوا فلهم أجر أعني مجتهدي أهل السنة.. أهل العلم والإيمان والهدى..

أما المقصود من الدعوة والهدف منها:

فالمقصود والهدف إخراج الناس من الظلمات إلى النور وإرشادهم إلى الحق حتى يأخذوا به وينجوا من النار وينجوا من غضب الله وإخراج الكافر من ظلمة الكفر إلى النور والهدى وإخراج العاصي من ظلمة الجهل إلى العلم والعاصي من ظلمة المعصية إلى نور الطاعة هذا هو المقصود من الدعوة.

كما قال جل وعلا: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} فالرسل بعثوا لإخراج الناس من الظلمات إلى النور ودعاة الحق كذلك يقومون بالدعوة وينشطون لها لإخراج الناس من الظلمات إلى النور ولإنقاذهم من النار ومن طاعة الشيطان ولإنقاذهم من طاعة الهوى إلى طاعة الله ورسوله.

أما أخلاق الدعاة وصفاتهم التي ينبغي أن يكونوا عليها فقد أوضحها الله جل وعلا في آيات كثيرة منها: الإخلاص.

فيجب على الداعية أن يكون مخلصا لله عز وجل لا يريد رياء ولا سمعة ولا ثناء الناس ولا حمدهم.. إنما يدعو لله يريد وجهه عز وجل كما قال الله سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} ، {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} . فعليك أن تخلص لله عز وجل هذا أهم الأخلاق.. هذا أعظم الصفات أن تكون في دعوتك تريد وجه الله والدار الآخرة..

ص: 193

الأمر الثاني: أن تكون على بينة في دعوتك أي على علم لا تكن جاهلا بما تعدو إليه {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَة} فلا بد من العلم فالعلم فريضة فإياك أن تدعو على جهالة وإياك أن تتكلم فيما لا تعلم فالجاهل قد يهدم ولا يبْني وقد يُفسد ولا يُصلح فاتق الله يا عبد الله.. إياك أن تقول على الله بغير علم لا تدعو إلى شيء إلا بعد العلم به والبصيرة بما قاله الله ورسوله فلابد من بصيرة وهي العلم فعلى طالب العلم وعلى الداعية أن يتبصروا فيما يدعو إليه وأن ينظر فيما يدعو إليه ودليله فإن ظهر له الحق وعرف الحق ودعا إلى ذلك سواء كان فعلا أو تركا فيدعو إلى الفعل إذا كان طاعة لله ورسوله يدعو إلى ترك ما نهى الله عنه ورسوله على بينة وبصيرة.

الأمر الثالث: من الأخلاق التي ينبغي لك أن تكون عليها أيها الداعية أن تكون حليما في دعوتك رفيقا فيها متحملا صبورا كما فعل الرسل عليهم الصلاة والسلام إياك والعجلة.. إياك والعنف والشدة عليك بالصبر.. عليك بالحلم.. عليك بالرفق في دعوتك فقد سبق لك بعض الدليل على ذلك كقوله جل وعلا: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وقوله سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} الآية وقوله جل وعلا في قصة موسى وهارون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} وفي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم مَن وَليََ من أمر المسلمين شيئا فَرَفق بهم فارفق به ومن ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه".

ص: 194

فعليك يا عبد الله أن ترفق في دعوتك ولا تشق على الناس ولا تنفرهم من الدين ولا تنفرهم بغلظتك ولا بجهلك ولا بأسلوبك العنيف المؤذي الضار عليك أن تكون حليما صبورا سلس القياد لين الكلام طيب الكلام حتى تؤثر في قلب أخيك وحتى تؤثر في قلب المدعو وحتى يأنس لدعوتك ويلين لها ويتأثر بها. ويثني عليك بها ويشكرك عليها أما العنف والشدة فهو منفر لا مقرب..

ومن الأخلاق والأوصاف التي ينبغي بل يجب أن يكون عليها الداعية العمل بدعوته وأن يكون قدوة صالحة فيما يدعو إليه ليس ممن يدعو إلى شيء ثم يتركه أو ينهى عنه ثم يرتكبه هذه حال الخاسرين نعوذ بالله من ذلك أما المؤمنون الرابحون فهم دعاة الحق يعملون به وينشطون فيه ويسارعون إليه ويبتعدون عما ينهون عنه قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور فيها كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع عليه أهل النار فيقولون له يا فلان مالك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.. فيقول بلى كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه".

ص: 195

نعوذ بالله من ذلك هذه حال من دعا إلى الله وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر ثم خالف قوله فعله وفعله قوله نعوذ بالله من ذلك. فمن أهم الأخلاق ومن أعظمها في حق الداعية أن يعمل بما يدعو إليه وأن ينتهي عما نهى عنه أن يكون ذا خلق فاضل وسيرة حميدة وصبر ومصابة وإخلاص في دعوته واجتهاد فيما يوصل الخير إلى الناس وفيما يبعدهم من الباطل ومع ذلك يدعو لهم مع دعوته يدعو لهم بالهداية هذا من الأخلاق الفاضلة أن تدعو لهم بالهداية وتقول للمدعو هداك الله وفقك الله لقبول الحق أعانك الله على قبول الحق.. تدعوه وترشده وتصبر على الأذى ومع ذلك تدعو له بالهداية.. قال النبي عليه الصلاة والسلام لما قيل عن دوس أنهم عصوا قال: "اللهم أهد دوسا وآت بهم". تدعو له بالهداية والتوفيق بقبول الحق وتصبر وتصابر في ذلك ولا تقنط ولا تيأس ولا تقل إلا خيرا لا تعنف ولا تقل كلاما شينا ينفر من الحق لكن من ظلم وتعدى له شأن آخر كما قال الله جل وعلا: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَاّ الَّذِينَ ظَلَمُوا} . فالظالم الذي يقابل الدعوة بالشر والعناد والأذى له حكم آخر في الإمكان تأديبه على ذلك بالسجن أو غيره ويكون تأديبه على ذلك على حسب مراتب الظلم لكن ما دام كافا عن الأذى فعليك أن تصبر عليه وتحتسب وتجادله بالتي هي أحسن وتصفح عما يتعلق بشخصك من بعض الأذى كما صبر الرسل وأتباعهم بإحسان..

وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا جميع لحسن الدعوة إليه وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا وأن يمنحنا جميعا الفقه في دينه والثبات عليه ويجعلنا من الهداة المهتدين والصالحين المصلحين إنه جل وعلا جواد كريم وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.

ص: 196

من الأدب الإسلامي إليك يا أعز البنين

لفضيلة الشيخ إبراهيم محمد سرسيق

المدرس في الجامعة الإسلامية

عندما من الله على الكاتب بمولود، استقبله بمناجاة حارة يبتهل فيها إلى الله، ويشكره على ما وهبه إياه، ويشرح فيها منهجه في إعداد ولده للحياة:

وهي مناجاة تمتزج فيها مشاعر الأبوة الحانية بتعاليم الإسلام الباقية، وتفصح عن اتجاه الكاتب إلى استخدام أسلوب الترسل في عرض الأفكار وترجمة الأحاسيس.

أي بني!

منذ لحظة وصول نبأ مولدك إليّ، وأنا أودّ لو سابقت الريح إليك، لتكتحل عيناي بإلقاء نظرة عليك، وطبع قبلة حانية على خديك، والتمتع بمصافحة يديك ومداعبة شفتيك ومطالعة نور البهجة في عينيك..

سبحانك ربي.. هأنت ذا قد منحتني ولدا يجفف في الحياة دمعي، ويكون لي بمثابة بصري وسمعي، أصِل به وجودي، وأحقق به موعودي، وأستثمر فيه ذاتي، وأمنحه معارفي وخبراتي، أتناوله بين أحضاني، وأضعه في قلبي ووجداني، وأكون له ناصحا معلما، وأجعل منه صديقا متفهما..

يا ولدي..

ص: 197

إنك أجمل نعم الله عليّ وأجلّها، انتظرتك طويلا بالأمس، وخشيت ألا أراك وقد كادت تغرب الشمس، فبالله ما أبدع خلقك، وأوسع رزقك، وما أرق جوارحك، وما أحلى ملامحك.. تبارك مولاك الذي خلقك فسوّاك فعدلك، في أي صورة ما شاء ركبك! سبحان من بيده مقاليد السموات والأرض سبحان من خلق فسوى، وقدر فهدى {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} .!.. سبحان {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} سورة السجدة. {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 78_ النحل.

سبحان من خلق كل شيء فقدره تقديرا.

سبحان من فتح عينيك، وخطّ حاجبيك، وحرّك شفتيك، ومدّ ذراعيك، ووضع الدنيا كلها تحت قدميك..

لقد عانقتْكَ الحياة يا ولدي وقد أخذت الأرض زخرفها وازينت، وظن أهلها أنهم قادرون عليها.. عانقتك الحياة يا ولدي وقد تبدل الزمان غير الزمان.

أتى الزمانَ بنوه في شبيبته

فسرّهم، وأتيناه على الهرم!

أتيت يا بني وقد سرى ظلام المادة في النفوس، وتسلل حب الدنيا إلى القلوب، وغاب عن البصائر والأبصار نور الأمن والإيمان، وفقد الإنسان مشاعر الأخوة والرحمة لأخيه الإنسان، وخطف الأبصار بريق الدرهم والدينار فبالله ماذا أنت صانع في خضم هذا التيار؟ وكيف تذود عن نفسك وحسّك كل هذه الأخطار؟ أكنت تحدس كل ذلك حين استهللت صارخا بالبكاء، كأنما تشكو هذا البلاء لرب الأرض والسماء؟ لقد أذكرتني هذه الأبيات الحكيمة لابن الرومي حين صاح قائلا:

ص: 198

لما تؤذنْ الدنيا به من صروفها

يكون بكاء الطفل ساعة يولد

وإلا فما يبكيه منها وإنها

لأوسع مما كان عيشا وأرغد

إذا أبصر الدنيا استهلّ كأنه

بما سوف يلقى من أذاها يهدد.

أرسل معاوية إلى الأحنف بن قيس فلما أتاه قال: "يا أبا بحر. ما تقول في الولد؟ "قال: "يا أمير المؤمنين ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا ونحن لهم أرض ذليلة، وسماء ظليلة، فإن طلبوا فأعطهم، وإن غضبوا فأرضهم يمنحوك ودهم، ويحبوك جهدهم، ولا تكن عليهم ثقيلا فيملوا حياتك ويودوا وفاتك، وكرهوا قربك.."

في قرارة الموجة:

أي بني الحبيب.. ربما تناوشتك في مهيع حياتك عقبات عديدة، إلا أنها لن تكون بعون الله شديدة.. ستجد الملل والنحل، والمذاهب والعقائد، والأفكار والآراء، ينادَى عليها في أسواق الإعلام ومنابر الدعاية وبطون الكتب وأنهار الصحف.. كما ينادى على السلع الرديئة والجيدة، والبضائع الغثة والسمينة.. وسترى هذا كله وتضرب أخماسا لأسداس، متعجبا لما أصاب نفوس الناس! ماذا ستأخذ بحظك منه يا بني..؟ إن الاختيار كله بيديك، وأمر العقيدة لن يكون إلا إليك، لكن نتائج اختيارك حتما ستكون لك أو عليك.. وليت الأمر أشبه باختيار ثوب يلبس، أو طعام يؤكل، أو شراب يحتسى.. بل إنه لأخطر وأكبر

إنه أمر عقيدة تمتزج بدمك، وتسري في مخ عظامك، وتتغلغل في حنايا روحك، وتقتضيك بذل النفس والنفيس، والغالي والرخيص، من أجل أن تكون بها أو لا تكون أبدا.

ص: 199

وما قيمة المرء بدون عقيدة تحييه وتبعث الأمل فيه؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} . ما قيمة حياتك إن عشت والعياذ بالله دون هدف؟ كالعجماوات التي ترتع وتلعب انتظارا ليوم الذبح! لا! لن تكون أبدا ذلك الذبيح على معبد الشهوات، وإن الله تعالى لأرحم بي وبك من أن يجعلني في موضع الرثاء لك والإزراء عليك، أو يجعلك في موقف الذل الذي تجلبه المعصية، أو الشماتة التي يعقبها الشيطان.

والمسألة يا بني ليست مسألة رأى وهوى، فإن رسولنا صلى الله عليه وسلم قال:"لن يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به".

مولود على الفطرة:

دعنا أيها المولود السعيد نقف موقفا حاسما من أمر معاشك ومعادك..

إنك الآن يا قرة العين مولود على الفطرة بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه". وقد اختار الله لنا ولك الإسلام دينا. وتالله إنه لأكمل الأديان وأجملها، وكتابه المجيد أحكم الكتب المقدسة وأشملها ونبيه الكريم أفضل الأنبياء وخاتمها. وهو دين الفطرة الحكيمة يا بني. دين البشرية التي تعرف مقاصدها وتتلمس طريقها من أجل خلاصها. دين لا يأمر بفرض إلا ذكر علته في تقدم الإنسانية ورقيها وعزها، ولا ينهى عن أمر إلا ذكر أثره السيئ في إيلام النفس وإذلالها. دين يقف موقف الاعتدال من الطبيعة البشرية، فلا يكتم أنفاسها مرة واحدة، ولا يُرخي لها العنان في مجال العصيان. دين يستقيم مع فطرة البشر وسلوك الإنسان ولا يكلفنا من أمرنا شططا:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 30 - الروم.

ص: 200

ولسوف تنمو يا بنيي عظامك، ويشتد عودك، ويصلب ساعدك، وينضج تفكيرك، وعندها يتحتم عليك أن تهجر سنة التقليد، وتعود إلى الإيمان بفكر جديد، ورأي سديد واختيار رشيد، فما أريدك يا بني مقلدا في إيمانك، أو تابعا جاهلا لإمامك، أو ملفقا للأحكام في عبادتك ومعاملاتك.. لا، بل أريدك مؤمنا بالله تعالى عن يقين نابع من العلم، وتبصر قائم على الاجتهاد، لتكون من بعد ذلك كله أسدا من أسود الدعوة، وكوكبا في سماء الإرشاد والهداية، ولكي تنضم إلى ركب المجاهدين الأعلام، والمناضلين من أجل الإسلام، الذين يرفعون اللواء ويكابدون اللأواء، ويواجهون الصعاب ويستعذبون العذاب، لكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى والله عزيز حكيم!

طيفك في الرؤيا:

كم يسعدني الآن يا صغيري أن أرى في المنام طيفك، وقد ضاعفت لله تعالى خوفك، وشهرت لإعلاء كلمته سيفك، وملأت بعبادته خريفك وشتاءك وربيعك وصيفك، وطهرت له من السحت والحرام جوفك، وأقريت في الشدة والرخاء ضيفك، وكففت في الغضب والرضا ظلمك وحيفك..

إذن لفاخرت بك الأقربين والأبعدين وشرفت بصحبتك في أعلى عليين، ودعوت ربي أن يحقق فينا قوله المبين:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} 21- الطور.

نعم.. يا ولدي! أولست تدري أن الولد الصالح امتداد لعمل أبيه في الآخرة؟ أو لست تدري كيف تكون أرواح المؤمنين بالشوق إلى أبنائهم طائرة؟ وكيف أعينهم بالرجاء إليهم يوم القيامة ناظرة؟

ص: 201

ثم.. أو لست تدري يا بني، أنك امتداد لي في الصالحات بعد وفاتي؟ وأنك زيادة لي في كفة الحسنات بعد مماتي؟ اقرأ إن شئت قول الصادق المصدوق محمد صلى الله عليه وسلم:"إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له".

ولسوف تكون إن شاء الله ولدي الصالح. نعم يا ولدي.. ستكون إن شاء الله ولدي الصالح، النقي السيرة والسريرة الطاهر الذيل من غبار العار، المستقيم على الطريقة وإن كثر فيها السراب، الرافض للخطيئة وإن امتزجت بأحلى شراب. وإذا لم تكنه يا بني، وأعوذ بالله من ذلك، فمن ذا تكون؟؟

إنه ليس من أهلك:

هكذا خاطب رب العباد القاهر نبيه نوحا من فوق سبع سموات، مبينا قانون السماء في العلاقة الأبوية الصادقة والصلة البنويّة الموافقة. ذلك أنه عندما ظن ولد نوح أنه ناج بالصخرة العالية من الموجة العاتية:{قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَاّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} سورة هود.

ص: 202

هذا منطق السماء في تحديد العلاقة بين الأبناء والآباء، فالطاعة للخالق هي أساس الصلة الطبيعية بين الناس، فإذا ما شذ إنسان عن طاعة الرحمن فقد انفصمت عرى المودة بيننا وبينه، كما أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وحتى لو عصى والدك الله تعالى - والعياذ بالله - فلا طاعة له عليك، تهتكت أستاره، وشاعت في ماخور المعصية أخباره، وأوشك في جحيم الغضب الإلهي عليه أن تحرقه ناره، اللهم إلا أن تصاحبه بمعروف وتغيثه كملهوف:{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 15- لقمان.

مالك وما عليك:

أيها الولد.. لله ولي عليك أن تكون جادا في حياتك، مخلصا لربك ثم لوالديك إلى حين مماتك، قائما بصلاتك مؤديا لزكاتك، مخبتا لله في غدواتك وروحاتك، متبعا سنة نبيك ورسولك، محسنا علاقاتك بأهلك وجيرانك، وإخوانك، متحريا حسن الاختيار لرفقائك وأصدقائك، كريما في الإحسان لمن أساء إليك، حليما في البطش بمن غدر بك، مسلما الأمر فيه لربك.

ولك عليّ، أيها العزيز، أن أرعى حق الله فيك بقدر ما وهبني الله من مقدرة على إكرامك وإعزازك ورعاية قدومك في هذا العالم! لك عليّ أن أحسّن اسمك، وأرعى نفسك وجسمك وأذود الشرور بكل سرور عنك، وأوجهك إلى الخير ولا أهجره، وأجنبك الخطأ ولا آتيه، وأكون معك في السراء رائدا وقائدا، وفي الضراء عائدا وذائدا، ألاحقك بدعواتي وصلواتي، وأبتغي لك من العلم والهدى ما يفوق ثرواتي وثمراتي..

قال الشاعر العربي:

وإنما أولادنا بيننا

أكبادنا تمشي على الأرض

لو هبت الريح على بعضهم

لامتنعت عيني من الغمض

ويا ولدي الحبيب..

ص: 203

يحوطك قلبي بين القوم إن طافت بعيني سنة من النوم..

وتحميك الروح إذا هبت الريح لكيلا تحيا بقلب جريح..

ويفديك الجنان إذا خرس اللسان. فلا تخف عني شكاوى الزمان!

وتالله ما عدوت في حبك أمر الله فيك، فلقد أوصاك بحسن رعايتي، وإكرامي في شيخوختي، والدعاء لي بعد موتي - ولكنه لم يوصني بحسن رعايتك لأنه تعالى يعلم كم أنتم معشر الأبناء ملوك على عرش القلوب، متسلطون منا على الرقاب، آخذون منا باليمين، مدللون في أعيننا مهما مرّ بكم من سنين!

فيالك من مضغة صارت جسدا..

ويالك من رشفة صارت عسلا..

ويالك من بسمة صارت للجمال أصلا!

ويالك من فرحة صارت في كتاب السعادة فصلا!

ويالك من مخلوق أصبح على قدرة الخالق دليلا!

ويالك من مولود غرس في قلبي هناء طويلا..!

{رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} .

ص: 204

الإعلام والدعوة الإسلامية

للدكتور طه عبد الفتاح مقلد

المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة

((إن العالم اليوم يموج من حولنا بتيارات وعقائد متباينة كل يبغي السيطرة والسيادة عبر الكلمة المكتوبة والمسموعة. وأدركت الأمم الكافرة أهمية وسائل الإعلام فسخرتها لنشر سمومها وأباطيلها، إيمانا منها بالدور الفعال الذي تلعبه وسائل الإعلام في نشر الأفكار وتغيير العقائد. ويزداد ذلك يوما بعد يوم - في الداخل والخارج - أمام تيار الدعوة الإسلامية)) .

شهد النصف الثاني من هذا القرن الأثر الملحوظ في تطور وسائل الاتصال عبر الأثير عن طريق الكلمة التي تبثها الإذاعة المسموعة، والتي تخطت بها الحواجز المادية، عبر البحار والأنهار والصحاري والقفار وإلى كل الأماكن المجهولة والنائية

وانتقلت مع الإنسان أينما حلّ وأينما رحلّ.

وأصبح الفرد في مجتمعه لا يحيا منعزلا عن العالم الذي يعيش فيه

وأضحى يتأثر بالقوى والمؤثرات الجديدة التي تؤثر عليه في الحاضر والمستقبل سواء بسواء.

وبما أن الإعلام وسيلة فعالة من وسائل الاتصال بالجماهير فإنه من البداهة أن يعتبر قيامها بدور فعال في الدعوة الإسلامية وفاء لواجب من واجبات الإسلام الأساسية عليها. بل إن هذا الواجب يتأكد نتيجة لمرور المجتمعات الإسلامية بعصور متطاولة من الجهل والتخلف الفكري.. كان من نتيجتها. أن تأثر وضوح الرؤية لدى هذه المجتمعات بالنسبة لأفكار الإسلام وقيمه. كما كان من نتيجته ظهور انحرافات بالغة ومدمرة، سواء من حيث السلوك أم من حيث التعلق بالخرافات والأوهام.

ص: 205

واستخدام الإذاعة من أجل الدعوة إلى الله وفاء بواجب أساسي عليها تجاه المجتمع الإسلامي خاصة والمجتمع الإنساني كله عامة. يتأكد ذلك إذا عرفنا أن ما اصطلح على تسميته بالثقافة ينزع إلى الاختلاف والتفرقة عن الطريق وسائل الاتصال بالجماهير عبر الإذاعة كما أكد ذلك ((أبراهام مولز)) وبين أن الناس يستمعون إلى الأخبار والبرامج التي تخرج من مصادر واحدة (وكالات الأنباء) فالإنسانية تتجه لأن تعيش بنفس الأفكار وقد يكون لها نفس الاستجابات وهذا يفسر طغيان عقائد بعض الأمم على بعضها الآخر.

وهذا يدفعنا إلى أن ندعو إلى أن تهدف إذاعاتنا إلى الدعوة لدين الله الحق بالحكمة والموعظة الحسنة أمام تلك التيارات المتباينة تحقيقا لقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} النحل - 125.

وقوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} يوسف -108.

ولعل واقع الإعلام الإذاعي اليوم باختلاف فنونه وأساليبه للتأثير على الجماهير يدعونا إلى أن ندعو إلى سبيل الله بحكمة وبصيرة لأننا نعرف أن الغالبية العظمى من المستمعين تميل إلى عدم الاهتمام بمعرفة الطريقة التي يتم بها خلق الثقافة بل تتقبلها على أنها إنتاج يعرض من محطات الإذاعة التي تبث برامجها. فالفرد في الغالب الأعم لا يفكر ولا يحلل بقدر ما يستمع وينصت ولعل هذا يجعلنا أكثر حذرا وأكثر بصيرة.

ولقد لاحظ لازارزفلد Lazarsfeld وشرام Schramm وبرلسن. أن هذا يبدو جليا بين من يخلق المواد المذاعة وبين من يسمعها.

إننا نجد أن الدول الكبرى تمتلك اليوم أقوى محطات للبث عن طريق الأقمار الصناعية. التي ملأت كوكبنا الأرضي بالعديد من العقائد والثقافات المرغوب فيها وغير المرغوب فيها.

ص: 206

لقد فطنت كثير من الدول الكبرى إلى الإذاعة لما لها من القدرة على التأثير الوجداني والعقائدي من خلال الكلمة المسموعة والموسيقى والأغاني والبرامج الترفيهية. وفي ثنايا ذلك تبث سمومها لتحطيم إرادة الجماهير أو تعمل على نشر الشائعات لتضل الناس عن صراط الله المستقيم.

تأثيرات كامنة:

وهناك تأثيرات ظاهرة وأخرى كامنة تسعى إليها الإذاعات للتأثير على الجماهير (كما أوضح ذلك جوزف كليبر) حيث يكون هناك تركيز معين لتدعيم اتجاه ما، بل إن الإذاعة تكون في كثير من الأحيان قادرة على خلق اتجاه جديد أكثر من قدرتها على تحويل الاتجاهات المسبقة الراسخة. ولقد عمل أعداء الإسلام ردحا من الزمن على خلق تيارات فكرية وعقائدية جديدة. بل أخذوا يعلمون المسلمين لغتهم ويلقنونهم فكرهم. وتدخلوا في ثقافة المواطن المسلم كما حدث في جنوب إفريقيا وبلدان من آسيا. ألبسوا ذلك رداء الإسلام حينا وسموا الأشياء بغير مسمياتها حينا آخر.. لقد أكد ((اللورد ماكولي)) مرة أن سياسة الإعلام في الهند كانت تهدف إلى خلق طبقة من المثقفين في جلود هندية، ولكنهم يفكرون ويدركون بعقول إنجليزية، ويقومون كذلك بدور الوسطاء بين بريطانيا وبين الملايين من الناس.

تجاهل مقصود:

ونحن نجد اليوم كثيرا من الإذاعات تروج للعقائد والمذاهب الضالة عملا وفكرا، بل تسعى جاهدة على أن تصور الإسلام على أن الدين فيه غير الدنيا. ومما يؤسف له أن هذا التفكير الذي ينطوي على تجاهل مقصود لحقيقة الإسلام قد سرت عدواه إلى كثير من المثقفين في البلاد الإسلامية نتيجة لروافد الفكر المادي أو ((العلماني)) فأصبحت كلمة الإسلام في نظر الكثير منهم يمكن أن تعني أي شيء إلا الأمور المتعلقة بشؤون الحياة التي نحيا فيها فكانت تلك هي الهوة التي تفصل بين الدين وبين اللحاق بركب الحضارة.

ص: 207

وطغى هذا المفهوم ((العلماني)) على ميدان الإرسال الإذاعي فتلك برامج دينية وهذه برامج غير دينية وهذا رجل دين وهذا ليس برجل دين. ولا يغيب عنا جميعا أن الإسلام ليس وقفا على رجل يعرف بأنه رجل دين وليس كذلك وقفا على برنامج دون آخر إعلامي أم ثقافي أم ترفيهي. فروح الإسلام يجب أن ترفرف على برامج الإذاعة كلها مهما اختلفت أشكالها وتعددت أغراضها.

لقد وقعت كثير من البلدان الإسلامية ردحا من الزمن تحت سيطرة الاحتلال الأجنبي الذي سمى نفسه استعمارا. لكي يوهم أممنا الإسلامية أنه ما جاء إلا لدفع عجلة العمران وهو في الحقيقة جاء ليستنزف خيراتها ويبدل عقائدها.

الإعلام المقنع:

ورحل المحتل عن بلادنا الإسلامية بجيشه وعتاده وأبقى لنا العديد من ضلاله وأوهامه وعقائده الفاسدة التي تضعف من روح الإسلام وأهله والتي ظل يمدها عن طريق إذاعاته الموجهة. إن الإذاعات الموجهة سلاح ماض استغلته اليوم جميع الدول التي تسعى إلى تحقيق مناطق نفوذ، ((فهتلر)) مثلا منذ توليه السلطة عام 1933 أنشأ شبكة ضخمة للإرسال الإذاعي الموجه إلى أوربا وإمريكا وإفريقيا وأستراليا بهدف التأثير على هذه البلاد ثم اهتمت إيطاليا كذلك بالإذاعات الموجهة، ونافستها في ذلك بريطانيا التي أخذت تعنى عناية فائقة بهذا الضرب من الإذاعات ثم أسهمت الولايات المتحدة الإمريكية والإتحاد السوفيتي بنصيب وافر في هذا المضمار.

والتزمت هذه الإذاعات بالواقع الإعلامي المقنع إذ تختار الأخبار والأفكار شبه الموضوعية مع حذف ما يريدون حذفه في دهاء وصياغة إعلامية لا يدركها المستمع بيسر وربما خلع عليها صفة الحياة.

فكانت جميع البرامج والأخبار تحررها مراكز التوجيه مع مراعاة الطابع الموجه لكل بلد من البلدان، والمهم عندها هو اجتناب الكذب الذي يسهل اكتشافه.

صراع وصراع:

ص: 208

إن كثيرا من الإذاعات الموجهة تستهدف عزل الإسلام كقوة اجتماعية وكقوة سياسية لها أثرها في محيط السياسة العالمية وكقوة فكرية لها أثرها البالغ في صلة الإنسان بأخيه الإنسان.

وحصر الإسلام في نطاق ضيق يتقوقع على نفسه فيه حتى يبقى نصوصا تتلى وحديثا يقرأ. لا روح في ذلك ولا عمل يدفع إلى التقدم والعلم.

ومن الأمر الذي يجب أن يوضح بين أعين الإذاعات الإسلامية أن صليبية الغرب الثقافية وشيوعية الكتلة الشرقية على اختلاف المفاهيم بينهما يلتقيان ويتعاونان معا من أجل إضعاف العقائد الإسلامية وعزلها عن الحياة.. تلك الحرب التي تستهدف أول ما تستهدف حجب الرؤية عن المثقفين من أبناء المسلمين وجعلهم في موضع الحيرة والضياع فلا يرون ما بين أيديهم من نور وهداية وإنما يتلفتون شرقا وغربا بحثا عما يتخيلون أنه طريق التقدم والتطور.

أُصيب المجتمع الإسلامي بالتخلف ولجأت بعض الإذاعات الموجهة إلى بث برامجها إلى المستمع في بلادنا يزينون له الباطل والمبادئ الهدامة على أنه هو الحق.

وهذه الإذاعات الموجهة بعقليتها وتفكيرها تقلل من أهمية ما تملكه من عناصر وقوى حضارية يمكن إن أحسنت إذاعتنا استغلالها أن يقوم عليها بناؤها الفكري وأن يشكل منها قاعدة ومنطلقا لحضارة الإنسان وتقدم البشرية.

فالإذاعات الموجهة تهدف إلى أن تذوب حضارة الإسلام وعراقته.

ولذا ينبغي أن نكون على حذر من ذلك وأن نكون أمام هذه التيارات المختلفة في عالمنا الآن على مستوى المسئولية نهدي أمتنا ونحترم أهدافنا.

فإن الضباب الغريب عبر الأثير حجب رؤيتنا وشغلنا عن مصادر الثقافة الإسلامية الصحيحة وبعد بنا عن رؤية ما في الإسلام من نور وهداية ولا شك أن ما يمتلكه غيرنا من ضوضاء تزدحم بها أجواؤنا هو الذي ساعد على انتشار هذا الضباب الذي حجب رؤيانا وجعلنا لا نرى ما في الإسلام من ميادين الريادة والقيادة.

ص: 209

وليس معنى ذلك أن تغلق الإذاعات الإسلامية أبوابها وتعيش في عزلة عن هذا العالم.

ولكن كل ما نأمله ألا تلجأ إلى تقليد الغير دون وعي أو أن تنقل عنه دون تبصر. وينبغي أن يكون اتصالها بغيرها مبعثه إيمانها بذاتها وإصرارها على الاحتفاظ بشخصيتها. كما لا يعني هذا أننا نقف في طريق التقدم من أي مكان يأتي. ولكننا نحذر أن نستورد الأفكار والقيم بنفس الطريقة التي تستورد بها السلع الغذائية والأدوات المنزلية.

ومن الواضح أن الشعوب الإسلامية في العصر الحاضر قد أغرقت بطوفان من الأيدلوجيات المختلفة بهدف تغيير عقائدها أو التأثير على قيمها وظهر التنافس حول ذلك واضحا. ولكن واحدة من هذه الأيدلوجيات لم تنجح في استقطاب الشعب المسلم أو الاستيثار بميوله.

ولقد كان يخيل في بعض الأحيان أنه تحت ظل السلطان السياسي أو العسكري نجحت أيدلوجية معينة في السيطرة على الشعب وميوله. ولكن حكم الأيام ومجريات الأحداث أكدت أن أيا من هذه الأيدلوجيات لم تلامس أفئدة الشعب المسلم ولا مشاعره الحقيقية. ولكن ليس معنى هذا أن تترك المجال لسلاح الكلمة المذاعة فللكلمة المذاعة خطورتها وما تحويه من عناصر الإفضاء كما عبر عن ذلك - إرك برنيو (Erik Barnow) فالكبير يفضي إلى الصغير والصغير يفضي بما سمع لأترابه.

وتسعى كثير من الدول عن طريق إذاعاتها إلى إعادة النظر ومعتقدات الإنسان ومدى تأثير البث الإذاعي فيه وتجري الإذاعات العديد من البحوث على عينات مختلفة من المستمعين إليها، باسم الإصلاح الفكري أو الإصلاح الأيديولوجي أو الاغتصاب العقلي أو التغيير الذهني أو ما يعرف باسم (غسيل المخ) .

ص: 210

أمن الملائم أن تجري إذاعاتنا الإسلامية بعض البحوث التجريبية في مجال المستمعين إليها لقياس الأثر الناتج من سماع البرامج المذاعة وأن تقوم بدراسة دقيقة للسكان من حيث تجمعهم في مناطق دون أخرى وكذلك معرفة المستوى العلمي والعقائدي وعادات كل جماعة وظروفها وإمكانياتها وآمالها وتصوراتها في الحياة. فكما يرى (دوب) أن ردود الفعل للبرنامج الواحد يختلف في الجماعة الواحدة فقد يجد استحسانا عند البعض دون الآخرين. وقد يفهمه نفر منهم جيدا دون آخرين.

ولا شك أن لهذا أثره الواضح في مجال تحسين البرامج أو المادة المذاعة وفق دراسة واعية تستهدف النهوض بالمستمع المسلم وتتعرف عن وعي إلى أي حد استجاب المستمع إلى ما ندعو إليه من دين الله الذي ارتضاه لعباده حياة ومنهجا ومن الضروري أن يقترن ذلك بشجاعة رجل الإذاعة في مواجهة النتائج أيا كان نوعها والعمل على مزيد من التقدم والنجاح.

تصحيح المفاهيم:

يجب أن تقوم إذاعتنا الإسلامية على أُسس قوية من العلم والفكر والإيمان حتى تمد المسلم بالقيم الإسلامية الصحيحة وحتى يستطيع أن يعيش بها حاضره وتمده كذلك بالحقائق حتى يستطيع أن يقضي على المذاهب الباطلة المعادية للإسلام.

وتقوم كذلك بتصحيح المفاهيم العلمانية الخاطئة بالنسبة لعدد كبير من المسلمين الذين بهرتهم ثقافة الغرب وقضاياه، وأن تقدم البديل - البرامج الإسلامية المخططة والمدروسة -.

إن كثيرا من البلدان الإسلامية لا تحظى الإذاعة فيها بنسبة تتلاءم مع مسئولياتها تجاه القضية الإسلامية، فالبرامج الإسلامية فيها لا تزيد عن 14% من نسبة برامجها المذاعة. بل هناك إذاعات إسلامية لا تصل هذه النسبة فيها إلى 10% ولعل هذا يدعونا إلى إعادة النظر في خريطة البرامج من أجل مزيد من البرامج الإسلامية الهادفة التي تنبع عن فهم سليم واع لطبيعة هذا الدين الحنيف.

ص: 211

فإذا نظرنا إلى الإذاعات من حولنا نجد أنفسنا أمام فلسفات مختلفة (وأيديولوجيات) مختلفة متباينة تجدد كل منها أهداف الإذاعة وطبيعتها من وجهة نظرها فليكن هدفنا الإسلام والدعوة إليه. ولتسع كل إذاعة للعمل في ميدانها ولكل وجهة هو موليها، فاستبقوا الخيرات إلى كلمة تهدي أُمة وتشيد حضارة لا إلى كلمة تضل الناس وتلهيهم عن صراط الله المستقيم.

والحق أن أمام إذاعاتنا مسئوليات كبرى تجاه الدعوة الإسلامية حتى يتعرف المسلم في بقاع الأرض على الإيمان الحق بالله رب العالمين الذي سخر له ما في الكون يفلح الأرض في مناكبها. نعمل حتى يدرك العالم كله أن الإسلام كرَّم الإنسان بالعلم والتقوى مما جعله يعيش مطمئنا على حياته وماله وعرضه فلا مجال لصراع بين الطبقات يمزق بعضها بعضا أو يسيطر بعضها على بعض. كما أنه لم يهدر كرامته كما فعلت بعض النظم الأرضية المنحرفة التي أخذ أهلها يتخبطون حتى اليوم في ظلام يبحثون فيه عن سبيل.

ميدان الدعوة:

إذن فميدان الدعوة فسيح في أرض الإسلام وفي بلدان تريد أن ترى نور الهداية والحق.

ونأمر أن تترابط الإذاعات الإسلامية بعضها من بعض برباط الأخوة في سبيل تحقيق الدعوة إلى الله سبحانه وأن نتبادل معا الخبرات الإعلامية والبرامج الإسلامية ذلك حتى تتحقق قوة الروابط الأخوية ويصبح المؤمن فردا يعيش في إطار الجماعة الإسلامية تجمع بينه وبين إخوانه على اختلاف الأوطان واللغات مبادئ الأخوة في الإسلام، عقيدتهم واحدة وقبلتهم واحدة ودينهم واحد وربهم واحد.

لتكن الدعوة الإسلامية هدفا أساسيا للإذاعة الإسلامية حتى تحقق قول الله سبحانه وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} آل عمران -110.

وبالله التوفيق.

ص: 212

إلقاء الضوء القرآني (على كتابة الدكتور علوي حول النبهاني)

لفضيلة الشيخ عبد القادر حبيب الس ندي

المدرس بمعهد الحرم المكي

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:

فلقد كنت قد حررت بعض الملاحظات الخفيفة على كتابة فضيلة الدكتور السيد محمد حسن بن السيد علوي بن عباس المدرس بالمسجد الحرام، وبكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة، تلك الكتابة التي كتبها أخونا الدكتور مدحا، وثناء على الشيخين.. محمد زاهد الكوثري، وأحمد زيني دحلان، وكنت قد بينت بعض حال المذكورين في مقال متواضع نشرته مجلة الجامعة الإسلامية الغراء في عددها الثالث من السنة السابعة، وهو بعنوان ((عرض ونقد لما كتبه الدكتور محمد علوي مالكي حول الكوثري والدحلان)) .

ص: 213

وكنت قد نفيت في المقال المذكور معرفتي لبقية الرجال الذين ترجم لهم الأخ الدكتور وهم الذين تتلمذ عليهم والده السيد الشيخ علوي بن عباس رحمه الله تعالى أو كانت له بهم صلة علمية، إلا أنني قد أمعنت النظر مرة ثانية فيما كتبه أخونا العزيز الدكتور السيد محمد علوي في رسالته ((إتحاف ذوي الهمم العلية برفع أسانيد والدي السنية)) المطبوعة بدمشق الشام في عام 1387هـ 1967م فوجدت رجلا آخر قد ترجم له الأخ الدكتور في رسالته المذكورة وهو الشيخ ((يوسف بن إسماعيل بن حسن النبهاني الشامي)) صاحب الكتاب ((شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق)) ذلك الكتاب الذي رد عليه العلامة الإمام محمود شكري الألوسي في كتابه البارع العظيم (غاية الأماني في الرد على النبهاني) هذا الكتاب المبارك الذي يقول عنه شيخنا العلامة الشيخ محمد بن عبد الله بن سبيل النائب للشئون الدينية بالمسجد الحرام، وإمام الحرم المكي متعنا الله بحياته ناقلا عن العلامة الشيخ رشيد رضا ((المنار 785-12)) (غاية الأماني في الرد على النبهاني) كتاب مؤلف من سفرين كبيرين لأحد علماء العراق الأعلام، المكنى بابي المعالي الحسيني السلامي الشافعي، رد فيها ما جاء به النبهاني في كتابه ((شواهد الحق)) من الجهالات. والنقول الكاذبة والآراء السخيفة، والدلائل المقلوبة في جواز الاستغاثة بغير الله تعالى، وما تعدى به طوره في سب أئمة العلم، وأنصار السنة، كشيخ الإسلام بن تيمية، إلى أن قال: "وفي هذا الكتاب ما لا أحصيه من الفوائد العلمية، في التوحيد، والحديث والتفسير، والفقه والتاريخ، والأدب، وما انفرد به بعض المشاهير، فأنكره العلماء عليه كالإنكار على الغزالي وابن عربي الحاتمي وغيرهما، فعلى هذا الكتاب نُحِيلُ الذين يكتبون إلينا في المشرق والغرب يسألوننا أن نرد على النبهاني، وكذا من اغتروا بقوله، ونُقُولِه وظنوا أن قولنا في الاعتذار عن عدم قراءة كتبه، والرد عليها أنه لا يوثق

ص: 214

بعمله، ولا نقله، هو من قبيل السب حاشا لله ما هو إلا ما نعتقده فيه أو في كتبه بعد النظر في بعضها، ورؤية ما فيها من الأحاديث الموضوعة، والنقول المكذوبة، والاستنباطات الباطلة فمن جعل نفسه بالاستنباط مجتهدا وهو ينكر الاجتهاد، ويعترف بأنه ليس أهلا له" اه [1] .

قلت: ولقد وجدت الأخ الدكتور محمد علوي مع وجود كلام أهل العلم في النبهاني قد أثنى عليه في رسالته المذكورة ثناء عطرا ووصفه بأوصاف كبيرة، ولقبه بألقاب ضخمة، وهو بعيد عنها بعد المشرق من المغرب، فلما كان هذا الثناء العظيم، والوصف مخالفا للواقع، وتأييدا له في طعنه في أئمة الدعوة المحمدية من السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تعبهم بإحسان إلى يوم الدين في النهج القويم، والصراط المستقيم، والعقيدة الصافية النقية كالإمام شيخ الإسلام ابن قيم الجوزية ومن معهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

كالإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى أحببت أن أُبين بعض حال النبهاني وما كان عليه من سوء الحال، وشنيع المقال مع بيان منزلته العلمية، وما قام به من الطعن في دعوة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ونشره الكفر الصريح، والضلال المبين والبدع المذمومة بجميع أنواعها ناقلا ذلك عن كتابه شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق، ليس ذلك تشنيعا على أحد أو شماتة فيه ولكن بيانا للحق إن شاء الله تعالى، ورفعا لشأن الدعوة المحمدية، ونشرها. ودفاعا عن الإسلام وعن دعوته الكريمة السامية.

ص: 215

ولقد وجد في رسالة الأخ الدكتور محمد علوي ملاحظات أخرى ضرورية وهي خطيرة جدا سوف أتعرض لها إن شاء الله تعالى فيما بعد في حلقات مسلسلة بيانا للحق وتوضيحا له، وأداء للأمانة العلمية، وتبرئة للذمة أمام الله تعالى الله الذي أخذ الميثاق والعهد على أهل العلم بتبليغ الحق وتفسيره أمام الخلائق مع دعائي وتضرعي إلى الله جل وعلا أن يجعلنا والأخ الدكتور وسائر أهل العلم من دعاة الحق وأنصاره، وأعوانه حتى نلقى الله تعالى بلقاء كريم مرض فإن وفقت في هذه الكتابة بإصابة الحق والصواب فهو محض كرم وفضل وتوفيق من الله تعالى، وإن كان غير ذلك فهو من نفسي، ومن الشيطان فلا حول ولا قوة إلا بالله تعالى وهو حسبي ونعم الوكيل.

قال فضيلة الدكتور السيد محمد حسن في رسالته المذكورة مترجما الشيخ النبهاني (العلامة أبو المحاسن يوسف بن إسماعيل بن حسن النبيهاني، الشامي، الشافعي مذهبا، المولود سنة 1266هـ والمتوفى 1350هـ حسان آل البيت، وبوصيري عصره، الشاعر، المفلق، الذائع الصيت، محب آل البيت، متمكن في اللغة العربية، والفنون الأدبية، مداوم المطالعة، ولم يشتغل بالتأليف في العلوم الأدبية مع تبحره فيها، بل اقتصر على المدائح النبوية، والموضوعات الدينية، وأول ما ظهر من مؤلفاته: ((الشرف المؤبد لآل سيدنا محمد)) [2] .

ص: 216

قلت: يا أخي العزيز لا يوافقكم أهل العلم العالمون بالكتاب والسنة وإجماع الأمة ممن عرفوا هذا الرجل معرفة جيدة بتشبيهكم له بحسان بن ثابت الأنصاري شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن رسالته السامية المخرجة عن ظلمات الشرك والبدعات إلى نور العلم الصحيح، والتوحيد الخالص والعقيدة الصافية النقية قال الحافظ:"وفي الصحيحين من طريق سعيد بن المسيب قال: مر عمر رضي الله تعالى عنه على حسان في المسجد وهو ينشد الشعر فلحظ إليه، فقال: "كنت أنشد وفيه من هو خير منك"، ثم التفت إلى أبي هريرة فقال: "أنشدك الله أسمعت النبي صلى الله عليه وسل يقول: "أجب عني. اللهم أيده بالروح القدس" وقد أخرج الشيخان أيضا من حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحسان: "أهجهم أو هاجهم وجبريل معك"، وقال الإمام أبو داود في سننه: حدثنا لوين، عن أبي الزناد عن أبيه، عن هشام بن عروة، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضع لحسان المنبر في المسجد يقوم عليه قائما يهجو الذين كانوا يهجون النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن روح القدس مع حسان ما دام ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"[3]، قلت: فهذه الأحاديث نص صريح على أنه صلى الله عليه وسلم رضي بشعر حسان ووافقه على ما دعا إليه من تقوية العقيدة الإسلامية وهجاء الكفار المعاندين لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعره فدعا له صلى الله عليه وسلم بالتأييد، والتوفيق، والسداد، فأين منزلة هذا الصحابي الجليل المؤيد بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم له من منزلة الشيخ النبهاني الذي قضى حياته كلها تقريبا في معارضة الدعوة المحمدية، وهي دعوة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام كما سوف يأتي ذلك مفصلا إن شاء الله تعالى كفى الشيخ النبهاني كفرا بواحا، ومعصية

ص: 217

كبيرة، ومخالفة صريحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولدينه المتين ونظامه الرفيع أن يرأس في آخر حياته محكمة الحقوق المدنية ببيروت وهي محكمة مدنية، لا دينية لا يخفى حالها السيئ، ونظامها اللعين المخالف لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. قال الأستاذ عمر رضا كحالة:"تولى القضاء في قعبة جينين من أعمال نابلس، ورحل إلى القسطنطينية، وعين قاضيا بكوى سنجق من أعمال ولاية الموصل، فرئيسا لمحكمة الجزاء باللاذقية، ثم بالقدس، فرئيسا لمحكمة الحقوق ببيروت"[4] وقال الأستاذ الكبير خير الدين الزركلي: "قال صاحب معجم الشيوخ: للنبهاني كتب كثيرة خلط فيها الصالح بالطالح، وحمل على أعلام الإسلام كابن تيمية وابن القيم حملات شعواء، وتناول مثل الإمام الألوسي المفسر، والشيخ محمد عبده، والسيد جمال الدين الأفغاني، وآخرين ورد عليه محمود شكري الألوسي في غاية الأماني في الرد على النبهاني، والثاني الآية الكبرى على الرائية الصغرى"[5] .

ص: 218

قلت: كيف هو محب آل البيت النبوي ويرأس في آخر حياته محكمة الحقوق المدنية ببيروت يقول العلامة الألوسي بعدما نقل عنه العقائد الفاسدة الكفرية كعقيدة وحدة الوجود والاتحاد والحلول قال رحمه الله تعالى: "هذا حال النبهاني في عقائده، وجهله في العلوم العقلية والنقلية أشهر من أن ينبه عليه كما ستعلمه إن شاء الله تعالى. لكن بقي علينا بيان حاله وما هو عليه إلى اليوم من أفعاله، وأعماله، وحيث أني لم أقف على حقيقة أمره وإن كان ما نشره من الكتب تطلعنا على حلوه ومره - سألت عنه بعض الأفاضل من الأصحاب ممن رآه واجتمع به وعرف ما عنده من الفصول والأبواب، فكتب كلاما طويلا فيه، وعرفني بظاهره، وخافيه فمن ذلك قوله: إن النبهاني قد قضى شطرا من عمره في المحاكم النظامية، وتسمى أيضا بالمحاكم القانونية" - ثم ذكر كلاما طويلا في بيان حال تلك القوانين وما فيها من المخالفة لقواعد الدين - ثم قال: "إن النبهاني تولى رياسة الجزاء في بيت الله المقدس عددا كثيرا من الأعوام، وبين حقيقة هذا المنصب وما يتعاطاه الرئيس من الأحكام، قال: ثم تحول إلى رياسة محكمة البداية في بيروت، وبين ما يرى في هذا المحل من الوظائف والمواد، ثم قال: وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت، قلت: إن كان صادقا عليه ذلك المقال يكون تائها في أودية الجهل والضلال، فكيف يدعى الإيمان فضلا عن دعواه المحبة لسيد ولد عد نان، وهو معرض عن هديه، وسنته، ناء عن العمل بشريعته فهلا قرأ قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} "[6] قلت: فليقارن بين ما ادعى من المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولآله وبين ما تولى من المناصب الهامة في تلك المحاكم القانونية المدنية المخالفة

ص: 219

لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النظام العادل الموافق للطبيعة البشرية جميعا، فعجبا لهذه المحبة المزعومة ودعوى صاحبها الطويلة العريضة وهو بعيد عنها بعد المشرقين عن المغربين فإنا لله وإنا إليه راجعون، وأما البوصيرى فهو محمد بن سعيد البوصيري الشاعر فلم يكن من أهل العلم ولا البصيرة، وكان يعاني من الكتابة كما حكى ذلك العلامة ابن العماد في شذرات الذهب، والصفدي في الوافي بالوفيات، وابن شاكر الكتبي في فوات الوفيات وغيرهم من أهل العلم رحمهم الله تعالى فماله معروف عندهم وهو صاحب قصيدة البردة وأكثر شعره مخالف لدعوة الكتاب والسنة، وإجماع الأمة، وكانت وفاته في مصر في القرن السابع في بوصير قرية (من قرى مصر) وليست له منزلة علمية كبيرة، فلا بأس أن تشبهوا النبهاني به لأنهما وقفا موقفا واحدا يحاربان دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الدعوة الكريمة التي لأجلها أوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الأذى من قريش وانجرحت قدماه بالطائف، فهاجر لأجلها من مسقط رأسه صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة إلى المدينة المنورة فلقي في سبيل نشرها ما لقي من ألوان المتاعب والمصاعب التي لا نظير لها في تاريخ الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام ولأجلها سقطت ثنيتاه في غزوة أحد. وقد يكون حال البوصيري المذكور أحسن بكثير من حال النبهاني الذي ذهب مذهبا بعيدا جدا وقد نقله عنه الشيخ محمود شكري الألوسي في كتابه ((غاية الأماني في الرد على النبهاني)) إذ قال رحمه الله تعالى: "الأمر السابع من تلك الأمور: أن من علم حال النبهاني وما هو عليه من المعرفة، وما يعتقده من العقائد، ويراه من الآراء لم يلتفت إلى ما ذكره في كتابه الذي سماه (شواهد الحق) ولا غيره من هذيانه الصريح، فإن الرجل جاهل كما ستعلمه من رد كتابه هذا سقيم الفهم بأخبار العدول الثقاة، ورواية الصادقين من الرواة، وما نشره من هذيانه، أعدل شاهد على ذلك، وأصح

ص: 220

دليل على ما هناك فضلا عما ذكره فيه جهابذة العصر الذين رأوه، وخالطوه، وعرفوا حاله، وشاهدوا أعماله، ومع ذلك نذكر كلام بعضهم فيه ليحمد الله من عوفي من شقائه، وعضال دائه،

قال العلامة الفاضل السيد بدر الدين الحلبي في كتابه (الإرشاد والتعليم) عند ذكره مقالات الأمم ما نصه:"ومن شنيع مقالاتهم في الإسلام قولهم إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يخلو منه زمان، ولا مكان يريدون بذلك أنه ما من زمان إلا وهو فيه موجود ولا من مكان إلا وهو فيه موجود، قال حفظه الله تعالى - وهذه المقالة الشنيعة لم نرها لأحد من المتكلمين المتقدمين منهم والمتأخرين، ولا رأيناها في كتب العقائد، ولا كنا نظن أحدا يقول هذه المقالة الشنيعة وإنما ذكرها الشيخ يوسف بن إسماعيل النبهاني البيروتي صاحب الكتب الكثيرة في الأدعية والصلوات في منظومة له سماها ((طيبة الغراء)) ناقلا لها عن البرهان، الحلبي، قال: ذكر يوسف النبهاني أنه اطلع على رسالة ألفها البرهان الحلبي في هذا الموضوع فطالعها، وانتفع بها [7] ثم أجابه الشيخ محمود الألوسي بقوله: ويا ليت شعري أي دليل قام عند هذا الذي قال هذه المقالة الشنيعة حتى قال بها.. هل تلا في ذلك آية منزلة من كتاب الله تعالى، أو حديثا صحيحا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

إن قال ذلك: فقد كذب وشهد على نفسه بالكذب أو ساق الدليل الذي أورده المتكلمون على أن الباري جل شأنه لا يحويه زمان ولا مكان في النبي صلى الله عليه وسلم فحكم له بما حكم به للباري جل وعلا فهو عين الشرك الصريح، ومثل هذه العقائد الفاسدة الباطلة الكاذبة يلقيها أهل الغفلة من المنتمين للعلم في آذان العامة فتصادف منهم قبولا، وتجتمع عليها قلوبهم حتى يصير من المتعذر نزعها من أذهانهم، وربما كفروا من أنكرها عليهم، ورأوا أن إنكار ذلك نوع من الإلحاد في الدين واستخفاف بصاحب الشريعة المطهرة صلى الله عليه وسلم"اه.

ص: 221

قلت: هذه عقيدة أهل الحلول والاتحاد وهم القائلون بوحدة الوجود وإمامهم في ذلك محي الدين ابن عربي الحاتمي المكي صاحب ((فصوص الحكم)) و ((الفتوحات المكية)) وغيرها من الكتب الكفرية وهو القائل: "سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها"وقال عبد الكريم الجيلي: "إن النصارى لم يكفروا بأصل الحلول وإنما كفروا بالحصر الذي تضمنه كلامهم أن الله هو المسيح لا غيره من الأشياء ولو عمموا لم يكفروا"وهذا الكلام مما تقشعر منه جلود المؤمنين، نقول فقول النبهاني: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يخلو منه زمان ولا مكان ناقلا ذلك عن البرهان الحلبي هو من شعب ذلك الوادي.

وهناك بوصيري آخر. وهو إمام أهل الحديث في عصره وهو الإمام العلامة أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن قايمماز عثمان بن عمر الكناني المحدث شهاب الدين ولد في محرم سنة 762 سمع الكثير من البرهان التنوخي، والبلقيني، والعراقي، والهيثمي والطبقة وحدث، وخرج، وألف تصانيف حسنة، منها زوائد سنن ابن ماجه على الكتب الخمسة، وزوائد سنن البيهقي الكبرى على الكتب الستة، وزوائد المسانيد العشرة على الكتب الستة، وهي مسند الطيالسي ومسند مسدد بن مسرهد، والحميدي، والعدني، وابن راهويه، وابن جميع، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن أبي أُسامة، وأبي يعلى ولم يزل مكبا على كتب الحديث وتخريجه إلى أن مات رحمه الله تعالى في محرم سنة أربعين وثمانمائة قاله الحافظ تقي الدين بن فهد المكي، فإن أردتم تشبيه النبهاني بهذا الحافظ فلا يرضى أحد من أهل العلم بالحديث فأرجو أن يكون قصدكم بالبوصيري محمد بن سعيد الشاعر المعروف.

وأما قولكم في حق النبهاني: "متمكن في اللغة العربية، والفنون الأدبية، مداوم المطالعة، ولم يشتغل بالتأليف في العلوم الأدبية مع تبحره فيها".

ص: 222

قلت: ليس الواقع كما ذكرتم بل الشواهد والحقائق التي سوف أنقلها لكم من كلامه في كتابه الذي سماه شواهد في الاستغاثة بسد الخلق ترد عليه ردا قاطعا فتجعله إنسانا لم يشم رائحة العلم أو عنده علم إلا أنه خالف طريق العلم الصحيحة عنادا، وتكبرا وزورا، وبهتانا على أئمة الدعوة المحمدية، وإن كان الأول فهو أهون وإن كان الثاني فالخطب جلل كبير خطير.

إن كنت لا تدري فتلك مصيبة

وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

ص: 223

قال الشيخ يوسف بن إسماعيل النبهاني في كتابه ((شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق)) المطبوع بمصر سنة 1323هـ (: "الباب الثالث في نقل كلام الإمام العلامة ناصر السنة في هذا الزمان سيدي أحمد دحلان مفتي الشافعية في مكة المشرفة في كتابه خلاصة الكلام في بيان أمراء البلد الحرام، وذكر الشبه التي تمسك بها الوهابية، ينبغي أولا أن نذكر الشبهات التي تمسك بها ابن عبد الوهاب في إضلال العباد، ثم نذكر الرد عليه ببيان أن كل ما تمسك به زور، وافتراء، وتلبيس على عوام الموحدين، فمن شبهاته التي تمسك بها زعمه أن الناس مشركون في توسلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وبغيره من الأنبياء والأولياء، والصالحين، وفي زيارتهم قبره صلى الله عليه وسلم، وندائهم له بقولهم: يا رسول الله نسألك الشفاعة، وزعم أن ذلك كله شرك، وحمل الآيات القرآنية التي نزلت في المشركين على الخواص والعوام من المؤمنين، كقوله تعالى:{فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} وقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} وقوله تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} وقوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} وقوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَاّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَاّ فِي ضَلالٍ} وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا

ص: 224

يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} وقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} .

وأمثال هذه الآيات كثير في القرآن كلها حملها على الموحدين، قال محمد بن عبد الوهاب: إن من استغاث أو توسل بالنبي صلى عليه وسلم أو بغيره من الأنبياء والأولياء والصالحين أو ناداه أو سأله الشفاعة فإنه يكون مثل هؤلاء المشركين، ويكون داخلا في عموم هذه الآيات، وجعل زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أيضا مثل ذلك [8] .

قلت: هذا كلام شيخ والدكم نقلته لكم حرفيا، والذي وصفتموه بقولكم:"متمكن في اللغة العربية، والفنون الأدبية"يشهد عليه كلامه هذا بالجهل المركب، والسفاهة المتناهية لم يسبق لها مثال سابق في تاريخ العلم وأنا سوف أتصدى لكلامه هذا بالرد عليه فقرة فقرة مستعينا بالله جل وعلا ومستمدا العون منه سبحانه وتعالى لكي يتضح حاله وحال أتباعه الذين يضللون الأمة الإسلامية وما أكثرهم اليوم لا كثرهم الله تعالى.

فأقول: إن عنوان كتابه هذا (شواهد الحق بالاستغاثة بسيد الخلق) غير صحيح فضلا عما في داخل الكتاب من الضلال المبين، والكفر الصريح، والكتاب أجدر به أن يسمى شواهد الضلال والكفر والعياذ بالله.

ص: 225

أخرج الإمام البخاري ومسلم وأحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: "قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الغلول فعظمه، وعظم أمره"، قال: "لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة يقول: يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك، وعلى رقبته بعير له رغاء، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك، وعلى رقبته صامت، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك أو رقبته رقاع تخفق فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا وقد أبلغتك

" ثم ذكر الحديث [9] ، قال الحافظ: "قوله: "لا أملك لك شيئا" أي من المغفرة لأن الشفاعة أمرها إلى الله تعالى، وقوله:"أبلغتك" أي فليس لك عذر بعد الإبلاغ [10]". قلت فالشاهد في هذا الحديث الشريف على بطلان عنوان الكتاب - أي كتاب النبهاني - وعدم صحته واضح بين، وهو أنه صلى الله عليه وسلم وإن كان هو صاحب الشفاعة العظمى - كما جاءت بذلك الأحاديث الكثيرة - لا يغيث يوم القيامة أحدا قبل أن يأذن الله تعالى له بالشفاعة العظمى ليشفع لمذنبي أمته صلى الله عليه وسلم دون الكفار والمشركين، فكيف يستغاث به بعد انتقاله صلى الله عليه وسلم من هذه الدنيا الفانية إلى رفيقه الأعلى مع أن يوم القيامة هو أقرب الأوقات وأنسبها للاستغاثة به صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم يقول يوم القيامة لصاحب الفرس والبعير ويكرر: "لا أملك لك شيئا وقد أبلغتك" فالشيخ النبهاني في عنوان كتابه هذا يكذب النبي صلى الله عليه وسلم في مقالته تلك المباركة يوم القيامة، والتي أجمعت الدنيا كلها من السلف والخلف من علماء السنة المطهرة وعلى رأسهم أئمة الهدى الأئمة الأربعة الإمام الجليل أبو حنيفة والإمام الشافعي، والإمام مالك والإمام أحمد بن حنبل والبخاري، ومسلم وغيرهم رحمهم الله تعالى على أن تلك المقالة صدق، وحق

ص: 226

ودين وأن صاحب الفرس الذي يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم مستغيثا به أن ذنبه ذلك ليس من الشرك بل من الكبائر، والذي يتبرأ منه صلى الله عليه وسلم قبل أن يأذن له ربه جل وعلا بالشفاعة، فكيف حال من يدعوه من دون الله تعالى ويستغيث به في أمور لا يستطيعها أحد إلا المولى جل وعلا.

ومن هذا القبيل خطابه صلى الله عليه وسلم لابنته البتول فاطمة الزهراء أم الحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين وعمته صفية بنت عبد المطلب الهاشمية القرشية رضي الله عنها، أخرج الإمام البخاري في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:"قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله تعالى عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} قال: "يا معشر قريش أو كلمة نحوها اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا.. يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا، ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئا" [11] . ومن هذا القبيل ما أخرجه الإمام أحمد في المسند من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه بإسناد صحيح، خطابه صلى الله عليه وسلم لعمه العباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه قال العباس رضي الله عنه: "يا رسول الله أنا عمك كبرت سني، واقترب أجلي فعلمني شيئا ينفعني الله به"، قال: "يا عباس أنت عمي ولا أغني عنك من الله شيئا ولكن سل ربك العفو والعافية في الدنيا والآخرة" قالها ثلاثا". الحديث [12] . فكان النبي صلى الله عليه وسلم معاذ الله - عند الشيخ النبهاني - ومن سار على نهجه - الذي هو متمكن في اللغة العربية ومحب آل البيت في نظركم في عنوان كتابه ((شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق)) غير صادق في خطابه هذا لجملة من أقاربه صلى الله عليه وسلم وهم عمه العباس وعمته صفية وابنته فاطمة رضي الله تعالى عنهم.

ص: 227

وهؤلاء الثلاثة الذين تخلفوا من أكابر الصحابة رضي الله تعالى عنهم في غزوة تبوك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم كعب بن مالك وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع رضي الله عنهم الذين اعترفوا بتخلفهم من غير عذر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم صلى الله عليه وسلم تلك المقالة المعروفة التي تناقلها ثقاة المحدثين بأسانيدهم الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قوموا حتى يقضي الله فيكم وليس لكم عندي شيء يخرجكم من موقفكم هذا"، ونهى جميع الصحابة رضي الله عنهم عن كلامهم إياهم، فكان أمرهم، وشأنهم معروفا معلوما لدى جميع الصحابة رضي الله عنهم، وقد صور القرآن الكريم حالتهم التي توصلوا إليها في النهاية إذ يقول جل وعلا في محكم كتابه {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَاّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} 18 التوبة.

لماذا لم يستغيثوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرهم صلى الله عليه وسلم ولماذا لم يغثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الحال وهو رؤوف رحيم كما وصفه ربه جل وعلا في كتابه إذ يقول جل وعلا: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} .

ص: 228

أهذه الآيات نزلت أيضا في قريش في نظر الشيخ النبهاني الذي هو متمكن في اللغة العربية عندكم فانظر حال من اعتذر بتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذبة المنافقين وغيرهم الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عذرهم وبايعهم ودعا لهم بالمغفرة صلى الله عليه وسلم ومبايعته فكان دعاؤه لهم حسب ما ظهر له صلى الله عليه وسلم من أمرهم وشأنهم دون ما كان في قلوبهم وضمائرهم من الكذب والغش ولم يفدهم ذلك شيئا بل زادهم نقمة وعذابا، وقد صور القرآن الكريم حالتهم إذ يقول جل وعلا:{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} 196 التوبة.

ص: 229

فكفى الشيخ النبهاني معصية كبيرة على أقل تقدير أن يكذب الله تعالى في كلامه هذا المبارك ورسوله صلى الله عليه وسلم في صحيح سنته المطهرة في عنوان كتابه هذا شواهد الحق بالاستغاثة بسيد الخلق. وقد استغاث به صلى الله عليه وسلم في آخر حياته عبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق المعروف عندما بعث ابنه عبد الله الصحابي الجليل رضي الله تعالى عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بعد مرجعه صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك لكي يدعو له ويصلي عليه بعد موته، وفعلا توجه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا له وصلى عليه صلاة الجنازة وهو على قبره وقد ذكر عمر رضي الله تعالى عنه النبي صلى الله عليه وسلم بجميع مواقف هذا المنافق التي وقفها ضد الدعوة المحمدية.

ألم تكن هذه استغاثة تمكن منها النبي صلى الله عليه وسلم في حياته الدنيوية في حق ابن أبيّ بن سلول؟ ولكن ماذا كان من أمرها، وشأنها فيما بعد، هل نفعت صاحبه مع اعترافه بمقام النبي صلى الله عليه وسلم الرفيع عند مولاه جل وعلا؟

ص: 230

نعم: ينزل القرآن بعد وقفات قليلة مبينا حال هذه الاستغاثة، وقيمتها إذ يقول جل وعلا مخاطبا نبيه الشافع العظيم في يوم الجزاء صلى الله عليه وسلم {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} نقف هنا قليلا لكي نطلع على موقف المصطفى صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية الكريمة هل توقف عليه الصلاة والسلام عن الاستغفار والدعاء له من ربه جل وعلا في حق ابن أبيّ بن سلول فثارت فيه عاطفته العظيمة ورحمته المثالية، ورأفته الشامخة كما وصف الله جل وعلا فاستمر في الدعاء والاستغفار للمنافق المذكور وقال صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى لم ينهني في هذه الآية صراحة عن الاستغفار والدعاء وسوف أزيد عليه فوق السبعين ما لم أنه عنه، ولا يزال الفاروق يذكره مواقف هذا الظالم المنافق ويقول له صلى الله عليه وسلم فداك أبي وأمي إن الله قد نهاك في هذه الآية وقد وردت الأحاديث الصحيحة الكثيرة في هذا المعنى، ولم يقتنع المصطفى عليه الصلاة والسلام بكلام عمر رضي الله تعالى عنه ثم ينزل القرآن الكريم لفصل الخطاب إذ يقول جل وعلا:{وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} . ولقد عرفنا إن شاء الله تعالى أثناء سرد هذه الأدلة من الكتاب والسنة أن تسمية الشيخ النبهاني لكتابه ذلك باطل شرعا، وعقلا، وأما الشرع فقد مضت بعض الأدلة على ذلك فارجع إليها أيها الأخ الكريم بالنظر الصحيح، والعقل السليم، وأما العقل فهو يمنع الإنسان الفطري عن هذه الغواية، والضلالة التي تمسك بها النبهاني ومقلدوه لأنها تخالف دعوة جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام الذين

ص: 231

بعثهم الله تعالى ببعثة مباركة عظيمة بتوحيد الإنسانية كلها إلى خالقها، وبارئها جل وعلا في جميع أنواع العبادة، دون أن تصرف منها شيئا لغير الله تعالى. سواء كان هذا الغير ملكا مقربا أو نبيا مرسلا، أو وليا صالحا، فإن عبدوا واستغيث بهم بعد موتهم في أمر لا مجال لهم في التصرف فيه، ولا قدرة لهم في العطاء والمنع، فعبادتهم راجعة إلى الشيطان اللعين، لأنه هو الذي تسبب في تحويل هذه الفطرة السليمة إلى الفطرة الخبيثة وهذا واضح بيِّن جلي لا يخفى على أحد ممن فطره الله تعالى على فطرة سليمة، فكان هذا الكتاب معولا هداما، ووسيلة خبيثة، وسعيا شيطانيا في الموقوف أمام دعوة جميع الأنبياء والرسل الذين يقول الله تعالى في حقهم:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} .

ص: 232

وأما قول الشيخ النبهاني في استشهاده من كلام إمامه الشيخ أحمد زينني دحلان وتلقيبه له بأنواع من الألقاب الضخمة ومنها قوله فيه: "الإمام العلامة ناصر السنة الخ"فقد قلدتموه أنتم أيضا في رسالتكم ((إتحاف ذوي الهمم العلية برفع أسانيد والدي السنية)) بتلقيبكم له أعظم، وأكبر مما لقبه به شيخ النبهاني إذ قلتم: إنه شيخ الإسلام، ومفتي الأنام، والحجة، والمشارك، الزاهد، الناسك، وغير ذلك من الأوصاف الكبيرة، وقد بينت بعض حاله، وكشفت عن بعض أمره وهو لا يستحق هذه الأوصاف بحال من الأحوال، وكنت قد نقلت عن الأستاذ الكبير العلامة الشيخ محمد رشيد رضا من مقدمته العلمية التي وضعها على كتاب صيانة الإنسان من وسوسة الشيخ دحلان للعلامة الأثري الشيخ بشير السهسواني الهندي رحمه الله تعالى. ولقد عرفنا ببعض المعرفة عن حقيقة هذا الرجل أعني أحمد زيني دحلان، وما تمسك به من العقائد الفاسدة الخرافية مع أدلتها التي هي أضعف من بيت العنكبوت، فارجع أيها الأخ الكريم إلى كتاب صيانة الإنسان فإن فيه زيادة، وكفاية إن شاء الله تعالى.

وأما الشبهات التي نقلها محبكم، ومحب آل البيت في نظركم عن شيخه أحمد زيني دحلان وهو بدوره يزعم فيقول: ناقلا عن شيخ الإسلام، ومجدد الملة المحمدية الحنيفية السمحة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى بنقل غير معزو إلى أحد من كتبه الجليلة ورسائله النافعة، إذ قال عامله الله بما يستحق:"فمن شبهاته التي تمسك بها زعمه أن الناس مشركون في توسلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم"قف!

ص: 233

أين قال ذلك شيخ الإسلام، وفي أي كتاب صرح فيه بأن مجرد التوسل بالنبي صلى الله وعليه وسلم وبغيره من إخوانه الأنبياء والصالحين شرك يخرج عن الملة؟ فإن ثبت عنه رحمه الله تعالى ذلك بنقل صحيح في كتاب ما من كتبه العظيمة أو رسائله النافعة فيحمل على تلك الوسيلة الشركية التي يطلب فيها أصحابها من النبي صلى الله عليه وسلم ما نفاه عن نفسه الزكية الطاهرة في أحاديثه الصحيحة المخرجة في الكتب الصحاح المعتبرة عند أهل الحديث، وما نفاه عنه مولاه جل وعلا في محكم كتابه إذ قال جل وعلا مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم عندما كان يحاول بحرصه الشديد هداية عمه أبي طالب عند موته قال الله تعالى:{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} القصص - وقال جل وعلا في سورة النحل: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} وأما توسل الصحابة رضي الله تعالى عنهم بدعائه صلى الله عليه وسلم في حياته فهذا مشروع ثابت بأسانيد صحيحة كثيرة لا غبار على صحتها، ومن ينكر ذلك فهو ضال مضل، ولم ينكر شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى هذه الوسيلة أبدا بل إنها جائزة ومستحبة في نظره وأنظار أهل الحديث رحمهم الله تعالى وهي أيضا مشروعة في حق كل من كان من أهل الخير والصلاح والعبادة، والزهد، والورع وهو على قيد الحياة يطلب منه الدعاء، ويقال له: ادع الله لي يا أخي بصلاح الدين والدنيا والآخرة، ونحو ذلك، وأما توسل الصحابة رضي الله تعالى عنهم بذاته الشريفة أو ذوات أخرى من الأنبياء والرسل والصالحين الميتين فلم يثبت في ذلك حديث صحيح خال من الشذوذ، أو عمل من أحد الصحابة بعد انتقال المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى رفيقه الأعلى إلا حديث الأعمى الذي تشبث به الشيخ النبهاني ودندن حوله، ومعه مقلدوه، وأتباعه فهم كثيرون - لا كثرهم الله تعالى - فأني سوف أتكلم عليه بالإسهاب متنا،

ص: 234

وإسنادا إن شاء الله تعالى عند الرد على الشيخ النبهاني باستدلاله به، وبأحاديث أخرى على دعواه الباطلة، كل ذلك بالتفصيل، فكان هذا التوسل بذاته الشريفة، وبذوات أخرى عملا محدثا في الإسلام، نشأ عن الجهل، وقلة العلم بقواعد الشريعة الغراء، ومناف لكمال عدل الله تعالى، ورحمته، وشفقته على عباده، ومخالفا للقواعد الإسلامية التي بنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوته وجهاده لإعلاء كلمة الله تعالى، ولم يقل أحد من أهل العلم إن هذه الوسيلة شرك، بل إنه عمل محدث في الإسلام، وإن صاحبها والمتمسك بها على خطر عظيم، جسيم من أمر دينه، فليحذر منها، لأنه على قنطرة إبليسية خطيرة، تسقطه في أحضان الشرك في يوم من الأيام.

وأما مقالة النبهاني الشنيعة في شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى وهي قوله: "إن كل ما تمسك به الوهابية،، وابن عبد الوهاب في إضلال العباد فهو زور، وافتراء وتلبيس على عوام الموحدين".

قلت: الأمر بالعكس كما سيأتي ذلك مفصلا إن شاء الله تعالى عند كلامي على الآيات القرآنية التي ساقها النبهاني في كتابه الباطل، وجعلها خاصة في كفار مكة الذين حاربوا دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يتناول منطوقها ولا مفهومها في نظره بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أحدا من المسلمين الحاليين، فلا يوجد في زعمه كفر ولا شرك أصلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في ذرية الذين آمنوا به صلى الله عليه وسلم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، هكذا زعم هو وأتباعه الذين قلدوه في نظريته هذه.

((ما هو مفهوم كلمة الوهابية عند النبهاني وأتباعه؟)) .

ص: 235

لقد كنت في بلادي السند وأنا صغير لم أبلغ الحلم وأسمع هذه الكلمة من أفواه مشائخ الطرق الذين كانوا دائما، وأبدا يحذرون عوام الناس وخواصهم منها، ووضعوا لها مفهوما خطيرا، تقليدا لغيرهم ممن سمعوا منهم لدعاية خبيثة ماكرة مع علمهم أنها جاءت من أسيادهم المستعمرين الذين كانوا يحكمون البلاد الهندية وغيرها بالحديد والنار لكي يسدوا بها الناس لئلا يقبلوا على هذه الدعوة الكريمة التي جدد الله بها دينه، وأعلى بها كلمته، وكان العدو يخشى من ظهور هذه الدعوة الكريمة، وانتشارها في العالم كله خصوصا في القارات التي كانت تحت سيطرته وبطشه لأن هذه الدعوة الكريمة كانت تقف أمام العدو بالمرصاد وتحول بينه وبين تنفيذ مخططاته الاستعمارية الخبيثة، ولم يكن هذا النوع من الدعوة الكريمة منحصرا وجوده في (نَجْد) وحدها فقط بل كان في كل مكان وزمان، وهناك رجال مخلصون يدعون إلى هذه الدعوة الكريمة إلا أن الدعوة لم تلق دعما قويا، ومساندة فعالة مثالية إلا في ديار نجد على يد الأمراء السعوديين وعلى رأسهم الإمام محمد بن سعود تغمده الله تعالى برحمته ورضوانه وجعل الجنة مثواه وسائر أبناءه وأحفاده رحمهم الله تعالى فتقوى أمر هذه الدعوة السامية فصار لها صدى عظيم في أنحاء العالم وأعدل دليل على ذلك أن من سمع الإذاعة البريطانية في تلك الأيام المباركة التي رجعت هذه البلاد مرة ثانية إلى أهلها كانت تقول الإذاعة البريطانية: إن الجيش الوهابي فعل كذا، وترك كذا ومن هنا كان انتشار هذه الكلمة بمفهومها الخاص في أطراف العالم نعم وصل صوت الدعوة الحلو الرنين من أقصى الدنيا إلى أعلاها، ومن أعلاها إلى أقصاها، في وقت لم تكن وسائل المواصلات موجودة البتة بمثل ما توجد في الوقت الحاضر، إلا أن العدو اللعين الماكر اتخذ بسياسته الماكرة الخبيثة، وحيله الإبليسية دفاعا لنفسه، ومخططاته الاستعمارية سماسرة مأجورين من كل نوع وصنف في كل مكان ممن عرفوا ببيع

ص: 236

الضمائر رخيصة للاستعمار وهم ينتسبون إلى العلم زورا، وبهتانا أمثال الشيخ أحمد زيني دحلان بمكة، والنبهاني بالشام، وأحمد رضا خان بالهند وغيرهم عاملهم الله تعالى بما يستحقون.

نعم فاتخذهم العدو واشترى ضمائرهم بمبلغ كبير من المال لكي يشوهوا حقائق هذه الدعوة السامية فأساؤا إليها بتلصيقهم إياها بأنواع من الدعايات المغرضة الفاسدة فحرفوا مبادئها العليا، وقواعدها الرفيعة وفي ضوء تلك الدعاية حرفوا القرآن الكريم ونصوص السنة الصحيحة حسب هواهم الفاسد، فجعلوا لهذه الكلمة (الوهابية) مفهوما خاصا، ومعنى بشعا خبيثا لكي يدندنوا حوله فلما كان نجد قد ورد ذكره في الأحاديث الصحيحة وعدم دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لأهله دون أن يحققوا ما هو النجد المعني في الحديث الشريف، ولم يلتفتوا إلى تلك القرائن الواضحة الظاهرة التي تنطبق على ذلك النجد، وما هو كلام أهل الحديث من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في نجد الذي عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حديثه.. وقد ذكر العلامة ياقوت الحموي في معجم البلدان عشرات من النجود وكذا غيره وليس المراد الذي عينوه هم فتركوا كل هذا مع علمهم ويقينهم أن نجدا الوارد في الحديث ليس هو الذي عينوه، وأشاروا إليه في هذه الدعاية الماكرة الخبيثة الفظيعة التي أقامها الاستعمار وعملاؤه في أطراف العالم على أنقاض هؤلاء السماسرة الدخلاء المأجورين، ومن هنا كان هذا المفهوم الجديد الخبيث شائعا في أطراف العالم وهو أن الوهابية تعادي الرسول صلى الله عليه وسلم وتحرم الصلاة عليه، وهدمت القباب والأبنية التي كانت مبنية على قبور الصحابة وغيرهم رضي الله تعالى عنهم، وكان للاستعمار في كل بلد، وقرية ممثل يقوم بنشر هذه السخافات والترهات، ومن هنا انتشرت ((كلمة الوهابية)) في العالم كله في شرقه، وغربه، وجنوبه، وشماله، بمفهومها الخاص، فانظر فلسفة المستعمر أن الداعي في نجد إلى هذه الدعوة المحمدية كان

ص: 237

اسمه بلا خلاف بين جميع المسلمين (محمد بن عبد الوهاب) فكان من الواجب أن تنسب الدعوة بمفهومها الخاص عند هؤلاء بالقياس الصحيح عند جميع أهل اللغة (بالمحمدية) لأن اسم صاحبها والداعي لها ((محمد)) وليس الوهاب إلا أنهم لم يرضوا بهذه النسبة الصحيحة الموافقة للواقع واللغة العربية خوفا على كشف مؤامرتهم الخبيثة أمام عوام الناس من المسلمين وخواصهم لأن الدعوة إذا حملت اسما صحيحا، ونسبة صحيحة فلا بد لها من قبول، وإقبال عليها لأنها تحمل اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت ممن اغتر بهذه الدعاية الماكرة الخبيثة وأنا في بلدي - السند - فلما أكرمني الله تعالى بالهجرة إلى هذه البلاد المقدسة وذلك في عام 1368هـ من بلدي ومسقط رأسي حظيت بلقاء إنسان كريم فاضل جاء من الهند إلى المدينة مهاجرا إلى الله تعالى، وكان حاله سابقا كحالي إلا أنه رحمه الله التجأ بعد الله تعالى إلى مطالعة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن طريق الشيخ العلامة الطيب الأنصاري رحمه الله تعالى فتلذذ بمطالعتها جدا حتى اعتنق العقيدة السلفية عن طريق هذه الكتب النافعة ولا بد من ذكر هذا الرجل رحمه الله تعالى وهو العلامة الأثري الشيخ رشيد أحمد بن إبراهيم الهندي رحمه الله تعالى المتوفى في ذي القعدة عام 1381هـ بالمدينة المنورة وكان رحمه الله تعالى قد أسس بعد اعتناقه العقيدة السلفية مدرسة بناء على موافقة سامية كريمة سماها دار العلوم السلفية، ومن هنا بدأت لي حياة جديدة بلقاء هذا الرجل الكريم فكان يلقي إليّ دروسه في المسجد النبوي الشريف مساء وكان يبكي كثيرا عند إلقائه الدروس في التوحيد فرحا، واستبشارا وكان يقول دائما رحمه الله تعالى لو مت يا بنيّ قبل اعتناق هذه العقيدة الصافية النقية لمت على غير ملة الإسلام، ولما كان يأتي اسم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى وكذا اسم الإمام ابن القيم والإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد

ص: 238

الوهاب رحمه الله تعالى أثناء إلقائه الدروس كان يترحم عليهم كثيرا ويمجد ذكرهم وشأنهم ودائما يوصي الطلبة بمطالعة كتبهم رحمه الله تعالى وفي تلك الأيام بالذات قد كشف الله تعالى عن قلبي الغطاء ثم عرفت بعد ذلك أن الدنيا والله في غيبوبتها وضلالها إلا ما شاء الله تعالى، ولقد تأكدت حينئذ تماما أن هذه الوهابية المزعومة في أنظار هؤلاء لا تعادي الرسول صلى الله عليه وسلم أبدا وإنما هي التي تحبه وحدها، لما درست عنها دراسة وافية شافية وعما تعتقده في رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي التي توجب الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجعلها ركنا من أركان الصلاة، فإن تركها أحد عامدا، أو ناسيا بطلت صلاته عندها وهذا هو مذهب أهل الحديث، وبينما تنص كتب أخرى فقهية والتي تمسك بها هؤلاء الذين أقاموا هذه الدعاية الكبرى فإن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست ركنا من أركان الصلاة عندهم فإن تركها أحد ناسيا سجد سجدتي سهو، فلا تبطل صلاته عندهم، ومن هنا كتب العلامة المحدث الشيخ مسعود علم الندوي كتابا بارعا عظيما في ترجمة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في اللغة الأردية دفاعا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن دعوته الكريمة وفند جميع شبه أهل الباطل من عباد القبور والأضرحة التي تمسكوا بها فجزاه الله تعالى أحسن الجزاء، وجعل الجنة مثواه هذا هو مفهوم الوهابية عند النبهاني والدحلان وأتباعهما فقد أكثرا من استعمال كلمة الوهابية في كتبهم ورسائلهم التي سبق الوصف الدقيق عنها. وللمقال بقية في العدد القادم وصلى الله عليه وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

--------------------------------------------------------------------------------

ص: 239

[1]

من ترجمة المؤلف لشيخنا العلامة محمد بن عبد الله بن سبيل من غاية الأماني في الرد على النبهاني ص10/1.

[2]

إتحاف ذوي الهمم العلية ص 26_27.

[3]

الإصابة 326/1.

[4]

معجم المؤلفين 275-276/13.

[5]

الإعلام 229/9.

[6]

المائدة: 44– 45– 47 انظر غاية الأماني 53/1.

[7]

غاية الأماني في الرد على النبهاني ص59/1.

[8]

شواهد الحق للنبهاني ص75_76 من طبعة سنة 1313 بمصر.

[9]

أخرجه البخاري: الجهاد 189، مسلم: الإمارة 24ن والإمام أحمد في: السنة 426/2.

[10]

فتح الباري 185_186/6.

[11]

أخرجه البخاري في الجامع الصحيح.

[12]

الإمام أحمد في المسند 206/1.

ص: 240

اهتمام القرآن بالعلم

لفضيلة الشيخ أحمد عبد الرحيم السايح

إن من يمعن النظر.. في أعماق الحضارة الإسلامية، وما حققته للإنسانية من أسباب النمو، وعوامل الازدهار.. ويلم بما جاء به الفكر الإسلامي، من مفاهيم تناولت أهم معضلات الحياة..

إن من يتعمق في ذلك.. يدهشه مدى عمق التفكير الواعي، الذي بلغ ذروته علماء الإسلام.. ويتضاعف إعجاب الباحث، بهذا الفيض الزاخر من الجهود العلمية العظيمة التي ملأت الدنيا..

وتزداد دهشة المفكر، ويتعاظم تمجيده، لحركة التحول الخطيرة التي أصابت المجتمع العربي، في تلك الفترة القصيرة..

تُرَى.. أي سر هذا الذي استطاع أن يحول عرب الصحراء، إلى أساطين في العلم، ومشاعل في الحضارة، وأفذاذ في المعرفة، ومنارات في الثقافة؟ وأي قوة رفعت العرب من حال البداوة التي كانوا عليها، إلى أبطال وقادة، غير هيابين ولا وجلين؟.

وترى. . كيف نفسر سرعة تطور العرب من الجاهلية الجهلاء.. إلى الحضارة العلياء، في أقل مدة عرفتها الإنسانية؟.

تقول الكاتبة الألمانية الدكتورة (سيجريدهونكه) : "إن هذه الطفرة العلمية الجبارة، التي نهض بها أبناء الصحراء، من العدم، من أعجب النهضات العلمية الحقيقية، في تاريخ العقل البشري".

وليس من المعقول في نظر المفكر، والباحث، والدارس.. أن يطفر الفكر العربي الذي قيدته ظروف الحياة القبلية الآسنة اليبوس، إلى مثل هذه المرتبة العالية، دون أن تكون هناك الأسباب القوية التي دفعت به إلى الحياة المتحركة دفعا..

ص: 241

ومن المُسَلَّم به، أنه لم تظهر قبل الإسلام.. أية دلائل على التطور الفكري من العرب المنتشرين في الجزيرة العربية [1] .. وكان الشعر، والخطابة والتنجيم، أحب شيء إلى عرب الجاهلية إذن.. ما هي تلك الأسباب التي استقى منها الفكر العربي، مادة حيويته، وتطوره؟ وما هي الموارد التي نهل منها أسباب تكامله، وقوته؟؟..

إن المنبع الأول والأصيل في كل ذلك.. هو: القرآن الكريم.. وذلك أن القرآن، لم يكن كتاب دين يحث على العبادة فحسب.. وإنما كان إلى جانب تأكيد وحدانية الله، وما يتبعها من عقائد، وعبادات، وأوامر، ونواهي، كان أعظم الدساتير التي عرفتها الإنسانية، في تاريخها الطويل الممتد عبر الزمن.. وذلك بما تضمنه من القواعد الرصينة الكفيلة بقيام المجتمع الإنساني الصالح.

ولقد كان أول أثر من آثار القرآن في الفكر الإنساني.. اهتمامه الواسع بالعلم.. وذلك أن العلم أساس التقدم والتعاون، وتبادل الخبرات والمنفعة، وقد كانت عناية القرآن بالعلم.. تفوق حد الوصف..

تأمل القرآن وتدبر آياته، تجده يدعو إلى تحكيم العقل والمنطق، في مظاهر الكون، وأحداث الماضي..

ولقد اشتمل القرآن على ستة آلاف ومائتين وستة وثلاثين آية.. منها سبعمائة وخمسون آية كونية وعليمة.. احتوت أصولا وحقائق تتصل بعلوم الفلك والطبيعة، وما وراء الطبيعة، والأحياء، والنبات، والحيوان، وطبقات الأرض، والأجنة، والوراثة، والصحة، والصحة الوقائية، والتعدين والصناعة، والتجارة، والمال، والاقتصاد، إلى غير ذلك من أمور الحياة.. واحتوت باقي الآيات على الأصول والأحكام في المعاملات، وعلاقات الأمم والشعوب، في السلم والحرب، وفي سياسة الحكم، وإقامة العدل، والعدالة الاجتماعية.. وكل ما يتصل ببناء المجتمع..

ص: 242

وهذا كله بخلاف العبادات، والعقائد، والتكاليف، والقصص، والمواعظ، والأمثال، وغير ذلك من شتى أمور الدين والدنيا.. مما كان محلا للدراسة والاستنتاج، والتخريج، والتأصيل، والبحث، والتنقيب.. وكان أساسا لعلوم الفقه، والتفسير، والحديث والأصول، والأخلاق، والبلاغة، والنحو، والأدب.. ذلك أن القرآن من العمق، والاتساع، والعموم، والشمول.. بما يقبل تفهم البشر له.. أياً كان مبلغهم من العلم، وبما يفي بحاجاتهم في كل عصر، ويتجاوب مع أهل البداوة في يسر، ويبهر في عمقه أهل الحضارة الذين صعدوا في سلم الرقي، وبرعوا في فنون العلم والمعرفة.

واسم القرآن نفسه مشتق من القراءة، والقراءة أدنى مفاتيح العلم للإنسان.. وللقراءة أهميتها الكبرى، في التقدم العلمي والفكري.. وما دام الإنسان يقرأ فإنه إلى نمو ثقافي رائع..

وأول ما تنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، خمس آيات.. هي قوله تعالى..:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} ..

فالقراءة مفتاح العلم، والطريق الدائم للمعرفة.. لذلك كما ترى كان الأمر القرآني الأول لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، أمرا متكررا للقراءة، وأوضحها مؤكدا ما رمى إليه من معنى وهو: العلم، والتعلم، والتعليم.. بكل ما تحمله الكلمات الثلاث في أصلها الصرفي من أبعاد خيرة، ومجالات نافعة.. [2]

ص: 243

وزاد القرآن التأكيد بذكر القلم.. والقلم من أعظم نعم الله على عباده.. إذ به تخلد العلوم، وتثبت الحقوق، وتعلم الوصايا، وتحفظ الشهادات، ويضبط حساب المعاملات الواقعة بين الناس.. وبهذا تقيد أخبار الماضين للباقين اللاحقين.. ولولا الكتابة لانقطعت أخبار بعض الأزمنة عن بعض ودرست السنن، وتخبطت الأحكام، ولم يعرف الخلف مذهب السلف. وكان معظم الخلل الداخل على الناس، في دينهم، ودنياهم، إنما يعتريهم من النسيان الذي يمحو صور العلم من قلوبهم، فجعل لهم الكتاب وعاء حافظا، من الضياع.. كالأوعية التي تحفظ الأمتعة من الذهاب والبطلان [3] .

وأول قسم في القرآن أقسم به رب العزة.. صدر بحرف من حروف الهجاء، وكان بالقلم وبما يسطر العالمون..قال تعالى:{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} .

فأول سورة نزلت من القرآن.. سورة العلق.. ومن العلق يخلق الإنسان، وكانت السورة التالية لسورة العلق، هي سورة القلم، وبالقلم يكتب ويتعلم الإنسان..

فإنسانية الإنسان لا تكون إلا بالخلق، ولا تتم إلا بالعلم..

وما ألطف قول الشاعر:

إذا افتخر الأبطال يوما بسيفهم

وعدوه مما يكسب المجد والكرم

كفى قلم الكتاب مجدا ورفعة

مدى الدهر أن الله أقسم بالقلم

وأقسم الله سبحانه وتعالى في سورة القلم.. بالقلم والكتب، فتحاً لباب التعليم بهما، ولا يقسم ربنا إلا بالأمور العظام. فإذا أقسم بالشمس والقمر، والليل والفجر، فإنما ذلك لعظمة الخلق، وجمال الصنع، وإذا أقسم بالقلم والكتب، فإنما ذلك ليعم العلم والعرفان وبه تتهذب النفوس، وترقى شئوننا الاجتماعية والعمرانية [4] .

وما أروع لفظ {وَمَا يَسْطُرُونَ} حيث يشمل كل فنون الكتابة والتعبير عما في الضمير، بالرسم، والرمز، ويشمل كل آلة أو نظام استحدث للتوصل إلى ذلك، من آلات، ومعدات حدثت أو ستحدث [5] ..

ص: 244

والقرآن.. يهتف بالإنسانية: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً} ..

وبجانب هذا يرفض أن يقف بالعلم عند حد.. بل يفتح للإنسانية باحة ليس لها نهاية..

ولقد وضع القواعد السليمة، لوزن المعلومات، وتمييز صحيحها من زائفها. فقرر أن المسائل لا تأخذ الطابع العلمي، ولا ترقى إلى درجة المعلومات.. إلا إذا قامت عليها بينة، واستندت إلى دليل، ومن ثم كان القرآن ولا يزال ينادي دائما:{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .. {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} ..

{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} .

وهذه الآية الأخيرة.. تنهى عن اتباع ما لم يقم به علم يستند إلى حجة سمعية، أو رؤية بصرية، أو براهين عقلية.. وهي طرق الاستدلال التي تنحصر في العقليات، والسمعيات، والمحسوسات..

وهذا الميزان الذي وضعه القرآن دفع بالناس دفعا، إلى تلمس الأدلة، ومعرفة ما يفيد المجتمع.. قال تعالى في سورة البقرة:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ..

فأمعن الناس فكرهم في هذا الكون الفسيح، وأنعموا النظر فيما حوى من عجائب، ليستغلوا ما حواه من موارد.

وتتكرر كلمة العلم بجميع اشتقاقاتها وتصريفاتها في سور وآيات القرآن تكرارا، يكفي لتقدير منزلة العلم والعلماء..

ص: 245

وكلمة العلم في القرآن عامة.. تشمل مختلف أغراضه ومراميه.. ويرشدنا هذا العموم، إلى أن العلم في القرآن، ليس خاصا بعلم الشرائع والأحكام.. إنما المراد هو كل علم يفيد الإنسان، توفيقا في القيام بمهمته، التي على كاهله، منذ قدر الله خلقه، وجعله خليفة في الأرض..

فإدراك ما يصلح النبات والأشجار علم.. وإدراك ما يصلح الحيوان والطير علم.. وإدراك موارد الصناعية وكيفياتها علم.. وإدراك الأمراض وعللها والوقاية منها علم.. وإدراك الأمم لكل ما يفيد المجتمعات الإنسانية علم..

فالعلم في القرآن يشمل كل أنواع المعرفة، التي تتصل بكل ما يفيد الناس، في دينهم، ودنياهم، وفي معاشهم ومعادهم، وفي أجسادهم وأرواحهم. ولهاذ كله.. فسح القرآن مجال العلم للعقل الإنساني، وتعدى به أسوار الطبيعة وتغلغل به في أسرار الكون والحياة.. ولم يقف به عند حدود الماديات الطبيعية، بل تعداها إلى كل شيء في الحياة يفيد المجتمع، ويعود عليه بالتقدم والرقي.. ومن هذا المنطلق.. عرف المسلمون منزلة العلم وفضله.. وأدركوا مبلغ الحاجة إليه.. وأنه هو الذي يوضح لهم معالم الطريق، ويفتح أمامهم آفاق الحياة.. فوجهوا عزائمهم إلى طلب العلوم.. ولم يشغلهم عنها ترف الحضارة، ولا ثنت عزائمهم بأساء الحياة وضراؤها.

بحثوا عن العلوم حتى أقاموا لها في كل قطر منارا عاليا، وحملوا مشاعلها مشارق الأرض ومغاربها.. ولم يقفوا بجهودهم عند نتاج عقولهم وأفهامهم بل اتجهوا بها أيضا إلى علوم السابقين.. يدرسونها، ويمحصونها، ويأخذون عنها، ويزيدون عليها، ما هداهم إليه البحث، والنظر، والاستدلال.. فاستخرجوا العلوم من زوايا الإهمال والنسيان، وزادوها نقاء وصفاء، وكانوا يطلبون العلوم طلب الناقد البصير.

وبهذه النهضة العلمية.. استطاعوا أن يعملوا عمل الأقوياء، لأن العمل لبناء المجتمعات لا يصدر إلا عن إرادة قوية، والإرادة القوية لا تأتي إلا من العلم..

ص: 246

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

بل قد ظهرت بوادر التطور الفكري قبيل البعثة النبوية ويبدو جليا في شعر الحكماء وخطبهم، وكان ذلك ضروريا لإقدار العقل العربي على فهم المعاني العليا التي جاء بها الإسلام. - المجلة

[2]

انظر استراتيجية العالم الإسلامي. مجموعة محاضرات وزارة الحج والأوقاف ص17.

[3]

تفسير القاسمي ج17 ص6209.

[4]

تفسير المراغي ج19 ص27.

[5]

التفسير الواضح ج29 ص13.

ص: 247

القدرة المطلقة تستوجب العجز المطلق

لفضيلة الشيخ السعيد الشربيني الشرباصي

المدرس بدار الحديث المكية

إن ما تراه العيون والأبصار من صنعة البديع الخلاق في الفضاء والآفاق تسوقها إلى الإيمان المطلق بالله القدير الصانع لهذا الوجود.

وإذا ما استقر هذا الإيمان في القلب واستخدم الإنسان العقل والفهم وجد أن الاعتراف بالقدرة المطلقة يستلزم الإقرار بالعجز المطلق، الشامل لكل ما في الكون من خلائق وحقائق، ومن مقدمات ونتائج وغايات ووسائل

والعجز الشامل المطلق يلغي الواسطة والحيلة، ويجعل المؤمن المفكر يقر بعدم ارتباط التأثير في المسبب للسبب، أو خضوع النتيجة للمقدمة، أو استتباع الغاية للوسيلة. لأن ارتباط هذه الأشياء ببعضها ليس ارتباطا ذاتيا، وإنما هو ارتباط عارض جاء تنظيما من الله سبحانه وتعالى لهذا الوجود. فالمصدر الأصلي لهذا الارتباط إنما هو إرادة الله تعالى. حتى أننا لنجد هذا الارتباط ينفك تماما عندما يريد الله ذلك مثل ما حدث لإبراهيم عليه السلام حينما أراد العلي العظيم ذلك فقال:{قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} وفي المسند عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم".

وقدرة الله تعالى واضحة وظاهرة، وثابتة وشاخصة، ومشهودة ومحسوسة وعجز المخلوق يشهد له الواقع، وتبديه التجربة. وكل من القدرة والعجز شاهد على صحة الآخر. فعجز المخلوق دليل على قدرة الخالق، وقدرة الخالق المطلقة دليل على عجز المخلوق البالغ والشامل {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} .

ص: 248

وإنا لنرى عجز الإنسان واضحا حتى فيما يظن أنه يملكه ويختص به ومن شأنه هو، كفضائله الذاتية وخصائصه البدنية. إذ أنه لا يستطيع نقل هذه الفضائل وتلك الخصائص إلى أحب الناس إليه وهم أولاده، إلا إذا أراد الله ذلك. فالقوي لا يملك بالحتمية أن يجعل ابنه قويا إلا إذا أراد الله ذلك. والذكي لا يمنح ابنه ذكاءه إلا بمشيئة من الله تعالى. والجميلة لا تأتي ابنتها جميلة، والقبيحة قد تأتي ابنتها جميلة، ورغم ما يقال عن قانون الوراثة فإن تناقضه وتخلفه كثيرا من جيل إلى جيل يرد الأمر إلى القوة الخفية التي تدير القانون وتنفذه أو لا تنفذه، وتمضيه أو تثنيه. {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .

فإذا تركنا ما هو مرتبط بذات المخلوق إلى ما يعرض له من عوارض نجد أن الحال واحد لا يختلف الأمر فيهما. فالإنسان لا يملك أن يجعل ولده سعيدا أو شقيا، غنيا أو فقيرا، عظيما أو حقيرا.

وإنما هي عيوننا الشاخصة صوب السماء بأحر الدعاء تسأل الله أن يجعلهم سعداء أغنياء، وأن يجنبهم الفقر والشقاء.

وإننا لنجد أحرص الناس على المال قد يرزقون بأفسد الأولاد للمال. وقد نجد أنشط الناس للجد والعمل يرزقون بأولاد لا يفهمون للحياة معنى سوى النوم والكسل، والتواكل والفرار من المسؤولية.

ص: 249

ويستمر العجز البشري واضحا ومنطلقا في مداه، فالذين يحلمون بالأطفال قد يعيشون عقما، والذين لا يريدون أطفالا قد يولد لهم توائم. ومن أراد الذكور تأتيهم الإناث.. ومن يريدون الإناث تأتيهم الذكور. والمريض الذي تجمعوا حوله يعدون ساعاته قد ينشط ويعمر، والقوي الوثاب قد يسقط فلا ينهض، والمتخلف الذي سبق، والسابق الذي تخلف، والتلميذ الذي تحول أستاذا لأستاذه، والأستاذ الذي تتلمذ على تلميذه، والصفقة التي توقع صاحبها أن تكون مصدر الغني والثراء، فكانت باب الفقر والخراب، والتجارة البائرة التي تحولت إلى صفقة رابحة فأعزت وأغنت صاحبها. والصديق الذي أمنته فخان، والعدو الذي خفته فكان أمنا وسلاما..

والجبابرة الذي صرعوا بأتفه الأسباب والمستضعفين الذين اضطهدوا فورثوا الأرض وعمروها. والجميلة التي شقيت بجمالها، والقبيحة التي فتحت لها الآفاق صور لا حصر لها ولا عد كلها تثبت العجز المطلق للمخلوق حتى فيما يظن أنه مصدر لقوته واعتداده. وفي الوقت ذاته تثبت القدرة المطلقة للواحد الخلاق سواء فيما يدخل في كسبنا أو لا يدخل في قدرتنا.

ومن هنا ندرك أن أمر الهداية وهي شيء أعلى وأجل من الصفات البدنية والخصائص الجسدية ومن العوارض الدنيوية والمظاهر المعيشية متروكة لله وحده لا شريك له ولا معين. وحينما نؤمر بالدعوة إنما ننفذ الأمر فقط والنتيجة لله سبحانه وتعالى، وهو الذي يهدي من يشاء. وهذا هو الخطاب الذي وجهه الله إلى خير الدعاة وأفضل الرسل قائلا له:{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} .

ولقد كان عليه الصلاة والسلام في بداية الدعوة حريصا كل الحرص على إيمان قريش واستجابتها له، ودخول نفر من آله إلى الدعوة ولكن ذلك لم يتم إلا عندما أراد ذلك ولمن أراد الله له ذلك!..

ص: 250

وقديما عجز نوح عليه السلام عن أن يفعل شيئا لأعز الناس عليه: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَاّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} .

فلا عاصم اليوم والغد والأمس لأحد إلا لمن رحم ربك ولمن شاء له الهداية والتوفيق. وسواء كانوا من أصلابنا أو كانوا أحبابا ورفقاء لنا فالأمر دائما لله، وقد جاء هذا الأمر إلى لوط:{فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَاّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} .

وهكذا كتب الله على امرأة لوط عليه السلام ما كتبه على العصاة والمخالفين {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} .

وفي قصة يوسف عليه السلام لا يختلف الحال، وإن فيها لآيات للسائلين والمفكرين حينما تجمع إخوته عصبة وقرروا أن يقتلوه أو يطرحوه أرضا، ولكن يعقوب عليه السلام يقول لهم:{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} ويرد الأمر لله وحده ويستعين به ويعود يوسف مكرما معززا بفضل الله لا يضره ما كان وما دبر.

كل هذه العبر تدعو المسلم إلى التطلع للسماء والنظر إلى خالق الكائنات وحصر الرجاء في الله، وقصر الطلب عليه. وندائه وحده وترك الاعتماد على من عداه. لأن غيره مسكين من المساكين، ومخلوق من المخلوقات. وعبد من عباد القوي الجبار.

ص: 251

ألا ما أضل الإنسان حينما يغلق عيونه عن نور السماء، وما أهونه حينما يتعلق بأوهى الأسباب من المخلوقات، وما أضعفه حينما يعتمد على ضعيف مثله..

وما أقواه حينما يمضي في طريقه معتمدا على الله، مرتكزا على الثقة فيه، مستلهما العون منه، معتصما بحوله وقوته مستنصرا بنصره {وَمَا النَّصْرُ إِلَاّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} .

ص: 252

مسجد الملك فيصل في البرازيل

للشيخ أحمد واكد

جاءنا من السيد أحمد واكد نائب رئيس الجمعية الخيرية الإسلامية في لوندرينا البرازيل ما يأتي:

تلقت الجمعية الخيرية الإسلامية في مدينة كويابا بالبرازيل مساعدة سخية من المملكة السعودية لإنشاء جامع في كويابا عاصمة ماتوكروسو. وقد حمل المساعدة إلى الجمعية الشيخ أحمد صالح المحايري مبعوث رئاسة البحوث العلمية السعودية بتكليف من سعادة السفير السعودي الدكتور مأمون القباني.

وفي شهر شعبان الماضي (أغسطس) أقامتْ الجمعية احتفالا رسميا بمناسبة وضع الحجر الأساسي لهذا الجامع حضره سفراء الدول الإسلامية والعربية الذين وصلوا إلى كويابا في العاصمة البرازيلية بطائرة تابعة لسلاح الجو البرازيلي وهم السادة: السفير السعودي والتركي والإيراني، والعراقي والباكستاني والسوري واللبناني والجزائري والمصري، مع الملحق الثقافي السعودي والوزير المفوض الإيراني، وهؤلاء يمثلون المركز الإسلامي الذي تم إنشاؤه مؤخرا في برازيليا وتديره الدول الإسلامية الأعضاء بواسطة سفرائها.

وكان في استقبالهم حاكم الولاية كارسيا نيتون وكبار الرسميين المدنيين والعسكريين وجموع غفيرة من أبناء الطائفة الإسلامية والعربية. وبعد أن أُلقيتْ عدة كلمات في الحفل ألقى سعادة السفير السعودي الدكتور مأمون القباني كلمة المركز فقال: "إنه ليشرفنا أن نضع باسم المركز الإسلامي الأحجار الأولى لجامع كويابا". وقد نقل في كلمته استعداد المملكة السعودية لتقديم كافة المساعدات الثقافية الإسلامية لمستحقيها في كل مكان..

وقد نظم الحفل وأعد له وأجري من أجله كافة الاتصالات الرسمية الشيخ أحمد المحايري مبعوث رئاسة إدارات البحوث العلمية السعودية في البرازيل.

ص: 253

وبعد عشرين يوما من احتفال الطائفة الإسلامية في كويابا.. احتفل المسلمون في مدينة لوندرينا البرازيلية، بتدشين جامع الملك فيصل الذي تم بناؤه مؤخرا بمساعي الجمعية الإسلامية فيها. وبدعم مالي من المملكة السعودية.

وقد كان الاحتفال أكبر تجمع إسلامي شهدته البرازيل إذ توافد إلى لوندرينا ممثلوا المؤسسات الإسلامية والعربية في البرازيل وبعض الديبلوماسيين العرب والمسلمين كما حضر وجهاء المنطقة من رسميين وصحفيين. وقد دعي للحفل سماحة الرئيس العام الشيخ إبراهيم بن محمد آل الشيخ حفظه الله الذي أيد المشروع وهنأ المسلمين واعتذر ببرقية عن الحضور لظروف طارئة وأوكل الشيخ أحمد صالح المحايري لينوب عنه في الحفل.

كما دعي معالي الأمين لرابطة العالم الإسلامي الذي أرسل برقية ينيب فيها ممثل الرابطة الشيخ عبد العزيز العناني. كما دعيت الجامعة الإسلامية بسماحة رئيسها العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله وقد وردت برقية من سماحة الشيخ عبد المحسن العباد يهنئ المسلمين لنجاح مشروعهم.. كما وردت برقية السكرتير العام للرئاسة سماحة الشيخ محمد ناصر العبودي الذي اعتذر فيها أيضا عن تلبية الدعوة. وقد قرأت البرقيات في الحفل وترجمت إلى اللغة البرتغالية.

افتتح الحفل إمام الجامع الشيخ المحايري الذي رحب بالحضور جميعا وقال: "إن كان البعض يتساءل عن أهمية هذا الجامع الجميل في هذا البلد النائي عن مهبط الوحي، ومدى فعاليته في هذا المحيط، فإني بكل فخر أقرر أنه سيلعب إن شاء الله نفس الدور الذي لعبه المسلمون في فجر الإسلام لما انطلقوا من بلادهم، وسيكون مركزا يشع نورا وهداية للعالم التائه الضال بحضارة المادية التي لا تمت إلى الأخلاق الروحية والقيم بصلة. وفي مقامي هذا أطلب الرحمة للذي دعم هذا المشروع واعتنى به بتقديم العون له؛ ألا وهو جلالة الملك فيصل رحمه الله تعالى وطيب ثراه".

ص: 254

وبعد أن ألقى الشيخ العناني كلمة الرابطة وألقت بقية الوفود كلماتها التي تعبر جميعها عن فرحة المسلمين بنعم الله. وقف سماحة الشيخ محمد أبو السمح الملحق الثقافي وممثل المركز الإسلامي وألقى كلمة طيبة تعرض فيها لوجوب تكاتف المسلمين، وخاصة في المهجر عندما يكونون هم الأقلية ثم أبدى فضيلة أبو السمح إعجابه بالإنجازات التي حققتها بعثة رئاسة البحوث العلمية والممثلة في الشيخ المحايري إلى جانب البعثات الأخرى في الميدان الإسلامي وحقل الدعوة في المهجر وقال سعادته:"إني أكبر رجال هذه الجمعية الأشبال الذين استطاعوا بالتعاون مع شيخهم إنجاز مشروع بيت الله في أقرب وأخصر وقت إذ أن مسجدا واسعا كهذا يحتاج إلى المزيد من الوقت ولكن بركة الله يسرت كل عسير".

واختتم الحفل حاكم الولاية الذي قال: "إن كنت أفخر بشعبي فإني أفخر بالمسلمين منهم الذين نظموا أنفسهم في جمعية قامت بخدمات ثقافية كبيرة قدمتها للبرازيل".

ص: 255

العبادة حق لله وحده

إبراهيم بن علي الدغيري

نشرت مجلة (العقيدة) التي تصدر عن دار العقيدة في (مسقط) عمان ورئيس تحريرها سعيد السمحان الكثيري في عددها 58 السنة الرابعة تاريخ 3 صفر عام 1395 الموافق فبراير 1975 كلمة بعنوان: (انطفأ كوكب الشرق) وقد جاء فيها ما نصه:

أعلن الحداد في كل بيت مصري وعربي على أم كلثوم التي كانت معبودتهم التي لا نظير لها على مر العصور

وهذه الكلمة تتنافى مع العقيدة الإسلامية التي سميت المجلة باسمها ونأسف كل الأسف أن من يدعي الإسلام يفتري هذه الفرية على أهل مصر وغيرهم من العرب، لأن كل مسلم يعبد الله جل وعلا.. ولا يجوز له عبادة غير الله لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، فكيف تكون أم كلثوم معبودتهم!؟ فهذا الناشر قد ارتكب فرية كبيرة بنسبته إلى المصريين وغيرهم من العرب عبادة أم كلثوم، لأن من عبد مع الله غيره فهو مشرك كافر بالله، ومن يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار.. فنحن العرب أهل عقيدة إسلامية نرد هذا المقال على قائله وناشره.. فالعقيدة الإسلامية هي عقيدتنا نبرأ إلى الله من كل ما يخالفها والسلام.

ص: 256

من الصحف والمجلات

((نظرة محمد إقبال إلى العلوم والآداب))

إعداد العلاقات العامة

إن الأدب موهبة كبيرة من مواهب الله وقوة عظيمة يحدث به صاحبه انقلابا في المجتمع، وثورة فكرية، يضرب به الأوضاع الفاسدة الضربة القاضية. ويملأ القلوب حماسة وغضبا. ويشعل البلاد نارا، ويملأ النفوس قلقا واضطرابا، وتذمرا من الشر، وتطلعا إلى الخير، فلابد أن يكون في قلم الأديب والشاعر التأثير الذي هو أشبه بعصا موسى وأن يؤدي رسالته في العالم. وكل أدب استغل لجمع المادة أو إرضاء الأغنياء والأثرياء أو إثارة الشهوات. أو على الأقل كان أداة للهو والتسلية، والتذوق بالجمال والتغني به.. فهو أدب ضائع مظلوم استعمل لغير ما خلق له، ولغير ما وهب له.

ويعتقد محمد إقبال أن الأدب لا يصل إلى الذروة العليا حتى يستمد حياته وقوته من أعماق القلب الحي، ويسقى بدمه.

ص: 257

عرف الشاعر صديقا له من الهاشميين قد أثرت فيه الفلسفة تأثيرا كبيرا. وتزلزلت عقيدته الإسلامية.. فكتب إليه محمد إقبال قصيدة. يقول: "أنا رجل كما تعرف أنتهي في الأصل إلى سومناه (المعبد الوثني المعروف في الهند) وكان - أي المعبد - من عباد اللات ومناة، وإن أسرتي عريقة في البرهمية ولكن يجري في عروقك دم الهاشميين وتنتمي إلى سيد الأولين والآخرين وقد امتزجت الفلسفة بلحمي ودمي. وجرت مني مجرى الروح. أنا وإن كنت لا أحسن شيئا فلا شك أني نزلت في أعماق هذه الفلسفة. وتغلغلت في أحشائها، وبعد ذلك أقول: إن الحكمة الفلسفية ليست إلا حجابا للحقيقة وإنها لا تزيد صاحبها إلا بعدا عن صميم الحياة. وأن بحوثها وتدقيقاتها تقضي على روح العمل. هذا (هيجل) الذي تبالغ في تقديره إن صدفته خالية من اللؤلؤة وأن نظامه ليس إلا وهما من الأوهام. لقد انطفأت شعلة القلب في حياتك أيها السيد؟ وفقدت شخصيتك. فأصبحت أسيرا، لبرجسان إن البشرية تريد أن تعلم كيف تتقن حياتها وكيف تخلد شخصيتها. إن بني آدم يطلبون الثبات ويطلبون دستورا للحياة. ولكن الفلسفة لا تساعدهم في ذلك بالعكس من ذلك. إن المؤمن إذا نادى الآفاق بأذانه أشرق العالم واستيقظ الكون.

إن الدين هو الذي ينظم الحياة. وإنه لا يكتسب إلا من إبراهيم ومحمد فعليك أيها السيد بتعاليم جدك صلى الله عليه وسلم إلى متى يا ابن علي رضي الله عنه تقلد أبا علي (ابن سينا) إذا لم تكن بصيرا بالطريق فالقائد القرشي (يعني رسول الله صلى الله عليه سلم) خير لك من القائد البخاري (يعني ابن سينا) .

عن مجلة البعث الإسلامي المجلد 19.

ص: 258

ماذا تعرف عن

الكبد. ..؟

للدكتور سيد أحمد عبد البر

أخصائي الأمراض الباطنية بالجامعة

- إذا كنت واحدا ممن يغرمون بالمعلومات الطبية.

- إذا كنت واحدا ممن يغرمون بمعرفة حقائق طبية عن جسم الإنسان.

- فإني أدعوك لقراءة هذه الصفحات ففيها بعض اللقطات السريعة عن الكبد.

من أجل صحتك.....

أكبر عضو في جسم الإنسان هو الكبد ويزن حوالي 2% من وزن الجسم أي حوالي واحد ونصف كيلوجرام. ومهما قام العلماء ببحوثهم فإن الأيام تؤكد أن الكبد مليء بالأسرار.

ويقع الكبد في الجزء الأيمن العلوي من التجويف البطني تحت الضلوع ويصل سطحه العلوي إلى حلمة الثدي الأيمن ويمتد هذا السطح إلى حلمة الثدي الأيسر وهو يقع تحت الحجاب الحاجز مباشرة وهو الذي يفصله عن القلب والرئتين.

والكبد ينقسم إلى عدة أجزاء تسمى الفصوص وله أربطة كثيرة تربطه بالحجاب الحاجز والمعدة والإثنى عشر وله بوابة يدخل منها الدم من القلب إلى الكبد وتبلغ كمية الدم الداخلة عن هذا الطريق حوالي 300 سنتيمتر مكعب في الدقيقة. وكذلك الوريد البابي وهو يحمل الدم من المعدة والأمعاء والبنكرياس والطحال إلى الكبد وتبلغ كمية الدم الداخلة عن هذا الطريق حوالي 200 سنتمتر مكعب في الدقيقة.

وبعملية حسابية بسيطة تجد أن كمية الدم الواردة للكبد في الدقيقة تساوي وزنه تقريبا.

ويجدر الذكر هنا أن كمية الدم في الدورة الدموية لجسم الإنسان تبلغ حوالي 6 لتر فإن هذه الكمية تقريبا تصل الكبد كل دقيقة.

ويخرج الدم من الكبد بواسطة الأوردة الكبدية ليعود إلى القلب وتتم الدورة الدموية.

ويوصل الكبد بالإثنى عشر قناة هي قناة الصفراوية وهي تحمل العصارة الصفراوية من المرارة إلى الأمعاء لتؤدي دورها في عملية الهضم.

ص: 259

ويفرز الكبد حوالي لترين من السائل المراري في اليوم، ومن المعلوم أن الجسم لا يحتاج إلى هذا السائل إلا أثناء عملية الهضم فقط..وعلى هذا الأساس لابد أن يكون هناك مخزن لتخزين العصارة الصفراوية وهي كيس المرارة وبها تتم عملية تركيز هذا السائل بين كل وجبة وأخرى، وحجم السائل المراري هنا 600سنتمتر مكعب يتم تركيزها 20 مرة فيصبح 30 سنتمتر مكعب وهو حجم الحويصلة المرارية فإذا فقدت المرارة قدرتها على التركيز فإنها بذلك تكون قد فقدت وظيفتها الأساسية وفي هذه الحالة من المستحسن بل من الضروري إزالتها واستئصالها حتى لا تكون سببا في متاعب يتعرض لها صاحبها حيث أن وجود المرارة الغير قادرة على التركيز له أضراره حيث أنها قد تلتهب وتبدأ في تكوين الحصوات.

وكبد الإنسان معمل متقدم جدا يقوم بوظائف وأعمال لا يقدر عليها أكبر وأحدث المعامل في العالم، إنه معجزة من معجزات الخالق جلّت قدرته فإنه يقوم بوظائف عديدة منها:

- تكوين السائل المراري الذي يساعد على الهضم وعلى امتصاص فيتامين "أ "وفيتامين "د " ويترتب على نقص في فيتامين "د "نقص الكلسيوم في الدم ونقص فيتامين "ك "اللازم لتجلط الدم، كما يترتب على ذلك نقص فيتامين "أ "الذي يسبب العش الليلي.

- تحضير مواد هامة ولازمة لتجلط الدم.

- الكبد له دور هام في تمثيل البروتينات وتموين الجسم ببروتينات الدم اللازمة لأكثر العمليات الحيوية في الجسم.

- تكوين بعض الإنزيمات في الجسم والتحكم فيها.

- تعطيل عمل الهرمونات الزائدة عن احتياج الجسم.

- المساعدة على تكوين الدم.

- تخليص الدم من المواد العالقة به والجراثيم.

- يقوم الكبد بامتصاص السكر من الدم ويقوم بتحويله إلى مركب آخر يسمى (جليكوجين) ويخزن في الكبد على هذه الصورة ويقوم الجسم بحسب ما يحتاجه من السكر من هذه المادة المخزنة حسب حاجة الجسم.

سكر

ص: 260

جليكوجين (يخزن في الكبد)

يتحول في الكبد

عند الاحتياج

سكر

- يقوم الكبد بعمل اليولينا حتى يمكن إفرازها بعد ذلك بواسطة الكلية.

- يقوم الكبد بتخليص الجسم من مواد ضارة وسامة مثل الكينين والأقراص المنومة والفوسفور.

- يقوم الكبد باختزان السكريات والدهنيات والبروتينات والفيتامينات لاستبدالها عند الحاجة.

وحينما يمرض الكبد فإنه يفقد السيطرة على وظائفه هذه أو بعضها وهنا تبدأ المتاعب.

ولنتكلم هنا في هذا الحديث عن بعض أمراض الكبد الشائعة وطرق الوقاية منها:

أولا: الالتهاب الكبدي:

تحدث العدوى للإنسان من أحد طريقين:

1-

عن طريق الطعام الملوث تماما كما يحدث في التيفود فإن براز المريض يحمل الفيروس المسبب للمرض ومن هنا تنتقل العدوى بالوسائل المألوفة التي ندخل تحت بند عدم مراعاة الاهتمام بالنظافة وتحدث الحالة عادة في الصغار والشباب وبعد التعرض للميكروب بمدة تتراوح بين أسبوعين وستة أسابيع وتسمى دور الحضانة.

فإذا كنت مخاطا لمريض يجب عليك اتباع الشؤون الصحية العامة ويستحسن تعاطي حقن جاما جلوبيولين. فإذا أعطيت هذه الحقنة في فترة مبكرة أو في أي وقت من دور الحضانة المذكور فإن هذه الحقن تمنع ظهور المرض وتعطي مناعة منه لمدة حوالي ستة شهور وعلى هذا يجب إعطاء هذا العلاج للسيدات الحوامل المخالطات للمريض حيث أن لهذا المريض خطورة خاصة على الحوامل.

ص: 261

2-

عن طريق الدم ويكون ذلك عن طريق حقنة ملوثة بفيروس هذا المريض سواء كانت من الوريد أو في عضل أو تحت الجلد. والوقاية هنا تكون بتعقيم الحقنة وليكن مفهوم هنا بأن مجرد غلي الحقنة لا يقوم بعملية التعقيم وهكذا قد يحقن الممرض مريضا بالتهاب كبدي وبائي فينقل العدوى إلى الحقنة التي يستعملها في حقن مريض آخر فينقل إلى المريض. وهنا أقول بأن مجرد غليان الحقنة في الماء لا يقتل الفيروس ولا يعقم الحقنة. والنصيحة هنا هو تخصيص حقنة للبيت بحيث يكون مضمونا بأن الحقنة لم تتلوث من مريض آخر في بيت آخر.

والمرض هنا لا يظهر إلا في مدة حوالي شهرين. وقد يتحول المريض إلى حامل للميكروب بعد شفائه..ويظل مصدرا للعدوى لمدة خمس سنوات. وهذا المريض عندما يتبرع بدمه يسبب المرض للأشخاص الذين سينقل إليهم الدم والملاحظ أن هذا النوع يحدث في أي سن.

الشفاء الكامل من هذا المرض مضمون ولكن الراحة التامة ضرورية - ممنوع ترك الفراش – ويجب أن يطبق المريض نظام العلاج بدقة شديدة وإلا فشل العلاج وأصبح الالتهاب مزمنا وأصبح علاجه مشكلة كبيرة. وعندما يحدث المرض لابد أن يلزم المريض فراشه ولا يتركه فالراحة التامة في الفراش مفيدة فهي تزيد الدورة الدموية بالكبد وتساعد على زوال الالتهاب..ولذلك تعتبر الراحة في هذا المرض العلاج الأساسي، ومغادرة الفراش قبل المدة المقدرة قد تسبب نكسة أو مضاعفات.

أما عن غذاء المريض فإنه في أولى مراحل المرض ينصح بأكل الخضار المسلوق الكثير النشويات أما في دور النقاهة فيجب تعاطي الغذاء العالي البروتين الكثير النشويات والسكريات والابتعاد عن الدهنيات.

ويجب على المريض زيارة طبيبه بعد مغادرة الفراش مرة كل شهر لمدة ثلاثة أشهر متوالية على الأقل.

وإنني أكرر بأنه باتباع التعليمات والمحافظة على العلاج ونظام الأكل فإن الشفاء كامل ومضمون إن شاء الله.

ثانيا: خراج الكبد الأميبي:

ص: 262

من وظائف الكبد أن يقوم بتقطير الدم الواصل من الأمعاء وهكذا قد تصل إليه بعض الجراثيم أو الطفيليات وبذلك قد تحدث هذه الجراثيم بعض الالتهابات بالكبد ومنها خراج الكبد الأميبي عندما تصل الأميبا التي تسبب (الدوسنتاريا) إلى الكبد عن طريق الأوردة القادمة من الأمعاء الغليظة فتسبب التهابا كبديا ويتضخم الكبد وتضعف قدرته على القيام بأعماله ووظائفه.

ويكثر حدوث ذلك بين مرضى الدوسنتاريا.. ولكن العلاج يعيد الكبد إلى سابق نشاطه ووظائفه.

وإذا أهمل التهاب الكبد الأميبي فإنه يؤدي إلى حدوث خراج في الكبد. وقد يكبر حجم خراج الكبد وفي الغالب لا يكون ذلك مصحوبا بارتفاع في الحرارة - ويحتوي على سائل لونه مثل لون الشكولاتة. ويحتاج إلى علاج حاسم بالسحب في غالبية الأحوال وفي حالات قليلة يحتاج إلى جراحة – وهذا الخراج قد يتحول من خراج أميبي إلى خراج عادي يحتوي على صديد وفي هذه الحالة ترتفع درجة الحرارة – وفي هذه الحالة تكون الجراحة هي العلاج في أغلب الأحيان.

ثالثا: تليُّف الكبد:

إنه أخطر أمراض الكبد وفي حالة التليُّف يتحول نسيج الكبد الرخو إلى نسيج صلب وينكمش في الحجم وتضمر خلاياه.

وأسباب التليُّف كثيرة منها: البلهارسيا التي تصيب الكبد وسوء التغذية.. إدمان الخمور.. أو مضاعفات للالتهاب الكبدي الوبائي.. أو انسداد في القنوات الصفراوية أو تعاطي بعض الأدوية بجرعات كبيرة مخالفا لتعليمات الأطباء.

والواقع فإن تليُّف الكبد يؤدي إلى:

1-

عدم قدرة الكبد على القيام بواجبه على الوجه الأكمل.. وهكذا قد يحدث خمول أو ارتباك في بعض وظائف الجسم

أو تورم بالجسم.. أو الاستسقاء وهو وجود سائل شفاف بالبطن بكميات كبيرة قد تصل إلى عدة لترات وقد تحدث أمراض عصبية أو حالة غيبوبة متقطعة وفي الحالات المتأخرة قد يحدث ما يسمى غيبوبة كبدية.

ص: 263

2-

صعوبة يلقاها الدم الوارد إلى الكبد من المرور به وعلى ذلك تحتقن هذه الأوردة ويزيد الضغط على جدرانها ويحاول الدم أن يجد له المخرج الآخر ويسير في طرق متشعبة محاولا الوصول إلى القلب بطريق أو بآخر وبذلك تتكون أوردة جانبية وأوردة مساعدة.. وقد نرى بعضها على جدران البطن حول السرة.

وقد يجد هذا الدم الراكد مخرجا فيسير في طرق ملتوية متجها نحو أوردة أخرى في محاولة أن يكمل دورته ويصل إلى القلب.

وبعض هذه الطرقات الملتوية التي توصف بالدوالي توجد في جدار المريء وأعلى المعدة – وهي قابلة للانفجار وهذا يؤدي على النزف عن طريق الفم ويكون مصحوبا بقيء ولونه أحمر قان أو فاتح حسب الكمية – وقد يتراكم في الأمعاء ويحدث إسهالا ويكون البراز أسود اللون مع حدوث التعفن

وقد تصل بعض مركباته إلى الدم وهي النوشادر ومنها إلى المخ وتسبب غيبوبة ويساعد النزف على هبوط الكبد وهكذا نجد مريض تليُّف الكبد مهدد بخطرين

الأول هبوط الكبد والثاني هو النزف من دوالي المريء.

وفي بعض حالات التليف - وهذا نادر جدا بالنسبة للنوع الناتج عن البلهارسيا – قد يساعد التليف الكبدي على حدوث أورام خبيثة بالكبد.

وتليف الكبد يكون مصحوبا بتضخم الطحال أو استسقاء أو كليهما. وقد يكون مصحوبا أيضا بوجود دوالي بالمريء.. وهذه الدوالي تراها بمنظار خاص يصل إلى أسفل المريء أو بالتصوير بالأشعة بعد ابتلاع مادة الباريوم.

ويمكن معرفة قدرة الكبد على أداء وظائفه عن طريق مجموعة كبيرة متن الاختبارات.. وهناك طريقة أخرى هي أخذ عينة من الكبد بواسطة إبرة خاصة تدخل من فوق سطح الجلد..

وعلاج حالات تليف الكبد ينقسم إلى قسمين كل واحد منهما يهدف إلى علاج أحد آثار التليف.

القسم الأول: وهو محاولة تنشيط الكبد وإعادته إلى حالته التي تعطيه قدرة القيام بعمله العادي وذلك عن طريق العلاج الدوائي.

ص: 264

القسم الثاني: وهو محاولة وقف النزف من دوالي المريء وكذلك الاحتياط حتى لا يحدث النزف مرة أخرى.

وإنني أنصح مريض الكبد بالابتعاد عن بعض الأدوية مثل الأدوية المكونة من المثيونين والكولين مثل اللتريزون التي يتعاطاها المرضى باستمرار ولمدد طويلة دون إلى الطبيب فإنه في حالات تليف الكبد وبداية حدوث هبوط في الكبد فإن هذه الحبوب تكون من الخطورة بحيث تزيد الهبوط وفشل الكبد.

وكذلك توجد عديد من الأدوية ضارة بالكبد إذا استعملت بكميات كبيرة وعليه فإنني انصح بعدم تعاطي أي دواء دون الرجوع للطبيب المعالج وذلك من أجل صحتك.

وأخيرا أيها القاريء العزيز لقد حاولت إلقاء بعض الضوء على عضو من أهم أعضاء الجسم وهو الكبد إلي لقاء آخر مع دراسة طبية عن عضو آخر من أعضاء الجسم والسلام عليكم ورحمة الله.

ص: 265

ندوة الطلبة

إلى الشباب

قصيدة للطالب عبد الرحمن شميلة

كلية الشريعة

أيا شباب العلى والمجد والفخر

ويا دعاةً سَمَوا بالدِّين والنّصر

على بساط الرِّضا سيروا بمكرمة

فالكون من طربٍ قد فاح بالنّشر

وطائر السّعد غنّى بالهناَ فرحاً

وجاء مبتساما رضوان بالبشر

والحقّ شع سنا في الكون أجمعه

وصيّر الباطل المسودّ في قبر

فحبّذا النّور يهدي السّالكين إلى

طريقة المصطفى والفوز بالأجر

ونعم دارا بحور العين أهلة

جزاء ما صبروا والخير في الصبر

فاهنأ بمقعد صدقٍ قد دعيت له

واقرأ إذا شئت سطر آخر الفجر

ويا شباب الخنا والفسق والكفر

ويا دعاةً إلى التّضليل والخسر

إلى شواظ لظى سيروا بخزيكم

فالكون من ضجرٍ أضحى على الجمر

وطائر النّحس غنّى بالشقاء لكم

والرّب أوعدكم بالويل في الحشر

لقد ضللتم فكان اللهو صنعتكم

والظلم شيمتكم يا سوءة الدّهر

فبئس جهلا تعدّى الحدَّ في خطل

ثمت جاوزه في اللؤم والسّخر

وبئس دارا بابدان توقدها

جزاء عمر مضى في الغيّ والسّكر

فاخسأ بمقعد نارٍ قد وعدت به

واقرأ بغاشيةٍ من أول السَّطر

ص: 266

أضواء من التفسير

لفضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد

المدرس بكلية الشريعة بالجامعة

قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى. مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى. وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى. وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى. ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى. فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى. مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} .

المناسبة:

لما حكى عن الكفار في السورة السابقة أنهم يقولون تقوله، ونسبوه إلى الشعر والكهانة والجنون. وختم السورة بذكر النجوم افتتح هذه السورة بالنجم إذا هوى، وأقسم أن محمدا ما ضل وما غوى.

سبب النزول:

كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلن القرآن بمكة في أول أمره، وكان يشاع ما يتلى منه، وكان المشركون يقولون: إن محمدا يختلق القرآن الذي يذكره لأصحابه، فنزلت هذه السورة وأعلنها رسول الله بمكة وقرأها على الناس فلما انتهى منها سجد وسجد من معه من الكفار غير شيخ أخذ كفا من حصى وسجد عليه.. قال عبد الله بن مسعود فلقد رأيته قبل كافرا يعني ببدر. وقد أُشيع عقيب تلاوتها وسجود الكفار أن النبي صلى الله عليه وسلم يمدح الأصنام والواقع وصريح الآيات يكذب هذه الإشاعة.

القراءة:

قرأ الجمهور: ما كذب بتخفيف الذال. وقرئ ما كذّب بتشديد الذال.

المفردات:

{النَّجْمِ} قيل المراد به الجنس أي النجوم قال الشاعر:

فباتت تعد النجم في مستجره

سريع بأيدي الآكلين جُمُودها

وقيل هو الثريا وهو علم عليها بالغلبة ولا تقول العرب النجم مطلقا إلا للثريا.

ومنه قول الشاعر:

طلع النجم عشاء

فابتغى الراعي كساء

طلع النجم غديه

فابتغى الراعي كسيه

ص: 267

وقيل الزهرَة وكانت تعبد. وقيل الشعرى كما قال في أواخر السورة وأنه هو رب الشعرى. وقيل غير ذلك. وأصل النجم الطلوع، وكل طالع نجم، يقال نجم السن والنبت والقرن إذا طلع {هَوَى} أي سقط للغروب. والهوى بالفتح وبالضم والهويان السقوط من علو إلى سفل.

وقيل الهَوِي بالفتح للإصعاد والهُوي بالضم للانحدار. {ضَل} حاد عن طريق الحق. {غَوَى} جهل ولابس الباطل، {يَنْطِقُ} يتكلم. {الْهَوَى} ميل النفس إلى ما تشتهي. {إِنْ} بمعنى ما. {هُوَ} الذي ينطق به أو القرآن. {وَحْيٌ} أصل الوحي الإشارة الشريعة يقال أمر وحي أي سريع ثم اختص في عرف اللغة بالأمر الإلهي الملقى إلى الأنبياء. {يُوحَى} أي يلقى من الله عز وجل. {شَدِيدُ الْقُوَى} يعنى جبريل وقال الحسن هو الله تعالى:{ذُو مِرَّةٍ} المرة: القوة من أمررت الحبل إذا أحكمت فتله، ومنه قوله عليه السلام:"لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوى". وتطلق على العقل والآصالة والإحكام، وقوة الخلق، وشدته:{فَاسْتَوَى} فتعلم واستقام أو فارتفع أو فاستقر.

{الأُفُقِ} ناحية السماء. وجمعه آفاق. وقال قتادة: هو الموضع الذي تأتي منه الشمس. ويقال أفق يأفق كفرح يفرح إذا بلغ النهاية في العلم أو في الكرم. و {الأَعْلَى} الرفيع {دَنَا} قرب {فَتَدَلَّى} زاد في القرب {قَابَ} قدر. {قَوْسَيْنِ} تثنية قوس وقيل هو الذراع على لغة لأهل الحجاز وقد روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "القوس هنا ذراع تقاس به الأطوال"وقيل غير ذلك. {أَدْنَى} أقرب {فَأَوْحَى} ألقى من الأمر الإلهي. {مَا كَذَبَ} بالتخفيف أي ما اختلق. وبالتشديد ما أنكر ولا جحد ولا رد.

التراكيب:

ص: 268

قوله {إِذَا هَوَى} العامل في إذا فعل القسم، فإنه بمعنى مطلق الوقت منسلخ من معنى الاستقبال. كما في قولك: آتيك إذا احمر البسر. فلا يعترض بأن فعل القسم حال، وإذا لما يستقبل من الزمان، فلا يتلاقيان. وقوله {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى. وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} هذا جواب القسم، وفي الإقسام بالنجوم على ما ذكر فن من البلاغة بديع، فإن من شأن النجم أن يهتدي به الساري، وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم من رغب عن سبيله ضل، كما أن القرآن علم في الهداية إلى مناهج الدين، ومسالك الحق، وإنما عبر بالصحبة لأنها - مع كونها أدل على القصد - مرغبة لهم فيه ومقبلة بهم إليه، ومشنعة عليهم تكذيبهم به، وهم يعرفون طهارة شمائله. والضمير المنصوب في {عَلَّمَهُ} قيل عائد على الرسول صلى الله عليه وسلم فالمفعول الثاني محذوف أي علمه الوحي. وقيل عائد على القرآن فالمفعول الأول محذوف أي علمه الرسول. وقوله {فَاسْتَوَى} يجوز أن يرجع الضمير فيه إلى محمد صلى الله عليه وسلم كأنه قيل علمه جبريل فتعلم واستقام، ذكره الماوردي. وقيل الضمير فيه راجع إلى جبريل والفاء للعطف على علمه والتقدير علمه جبريل فارتفع إلى مكانه في السماء أي بعد أن علمه، وإلى هذا ذهب سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير، أو فقام وظهر في صورته التي خلق عليها. وقيل الضمير فيه راجع إلى الله عز وجل أي فاستقر على العرش، وهذا قول الحسن. وقوله {وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى} الضمير فيه راجع إلى جبريل والواو للحال، أي علمه صاحب هذه الصفات حال كونه بالأفق الأعلى. وهذا بيان لحال من أحوال التعليم. وقوله:{ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى} بيان لحال أخرى من أحوال التعليم. وقوله {أَوْ أَدْنَى} {أَوْ} فيه بمعنى بل التي للإضراب الانتقالي. وقوله {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} الظاهر أن فاعل أوحى هو جبريل والضمير في

ص: 269

{عَبْدِهِ} لله أي فأوحى جبريل إلى عبد الله. وهذا قول الحسن، وإضماره قبل الذكر لغاية ظهوره.

وقيل: فأوحى الله إلى عبده جبريل ما أوحاه إلى محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل فأوحى الله إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى.

و {مَا} في قوله: {مَا أَوْحَى} موصولة في محل نصب مفعول به لقوله فأوحى، والعائد محذوف والتقدير ما أوحاه. وإنما عبّر بـ {مَا} لقصد الإبهام على جهة التعظيم والتفخيم. و {مَا} في قوله {مَا رَأَى} مفعول به وهي موصولة والعائد محذوف ومفاعل رأى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا على قراءة التشديد في {مَا كَذَب} . وأما على قراءة التخفيف فقيل هي كذلك مفعول به، وكَذَب يتعدى بنفسه. وقيل هو منصوب على نزع الخافض، أي ما كذب فيما رآه. والمرئي قيل جبريل وإلى هذا ذهبت عائشة وابن مسعود وقتادة. وقيل المرئي الله عز وجل وهو قول ابن عباس. وممن أثبت هذه الرؤية لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم الإمام أحمد فروى الخلال في كتاب السنة عن المروزي؛ قلت لأحمد:"إنهم يقولون: إن عائشة قالت من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله! فبأي شيء يدفع قولها؟ "قال: "بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "رأيت ربي"- قول النبي صلى الله عليه وسلم أكبر من قولها". وقد أنكر صاحب الهدى على من زعم أن أحمد قال: رأى ربه بعيني رأسه. قال: وإنما قال مرة: رأى محمد ربه، وقال مرة: بفؤاده.

المعنى الإجمالي:

ص: 270

أقسم بالنجوم وقت سقوطها للغروب. ما حاد محمد الذي صحبتموه وخبرتم حاله عن طريق الحق، وما لابس الباطل، وما يتكلم بما تهواه نفسه وتشتهيه دون وحي من ربه، ما الذي يأتيكم به إلا أمر إلهي، ملقى إليه، فهمه إياه جبريل الموصوف بشدة قوته، وأصالة عقله، فتعلم واستحكم علمه، وقد علمه جبريل حال كونه بناحية السماء، ثم قرب منه فازداد في القرب، فصار في قربه قدر ذراعين بل أقرب. فألقى إلى محمد صلى الله عليه وسلم ما ألقاه. ما افترى قلب محمد الرؤية ولا اختلقها، وما ردها ولا جحدها.

ما ترشد إليه الآيات:

1-

التفكر في النجوم وقت سقوطها.

2-

تصديق محمد صلى الله عليه وسلم.

3-

لا يأتي محمد بشيء من عند نفسه.

4-

شدة قوة جبريل.

5-

تنوع حالة وحيه للنبي صلى الله على وسلم.

6-

تعظيم الموحى.

قال تعالى: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى. لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} .

المناسبة:

لما ذكر أحواله الداعية إلى عدم المماراة، أنكر عليهم ما يحدث منهم من المماراة.

القراءة:

قرأ الجمهور {أَفَتُمَارُونَهُ} وقرئ {أَفَتَمْرُونُه} بفتح التاء وسكون الميم.

المفردات:

ص: 271

{أَفَتُمَارُونَهُ} أفتجادلونه وتغلبونه. من المراء وهو الملاحاة والمجادلة، وأصل اشتقاقه من مَرَى الناقة يَمْريها إذا مسح ضرعها للدر. كأن كلاً من المتجادلين يمرى ما عند صاحبه. {أفتمرونه} أي {أفتجحدونه} ممن مراه حقه إذا جحده. {نَزْلَةً} مرة من النزول. {سِدْرَةِ} شجرة نَبِق في السماء السابعة ثمرها كقلال هجر وأوراقها كآذان الفيلة. {الْمُنْتَهَى} موضع الانتهاء أو الانتهاء كأنها في منتهى الجنة وآخرها. أو إليها ينتهي علم من دونها أو تنتهي إليها أرواح الشهداء.. وقيل غير ذلك {الْمَأْوَى} التي يأوي إليها المؤمنون وينزلونها ويسكنونها فلا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين. {يَغْشَى} من الغشيان بمعنى التغطية والستر ومنه الغواشي، أو بمعنى الإتيان، من قوله فلان يغشاني كل حين أي يأتيني وينتابني {زَاغَ} ما وعدل، يعني عما رآه {مَا طَغَى} ما تجاوز ما رآه فما يخبر به هو الحق. {رَأَى} أبصر وعاين. {آيَات} دلائل وبراهين وعجائب. {الْكُبْرَى} العظمى.

التراكيب:

قوله {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} الهمزة للاستفهام الإنكاري المقصود منه التوبيخ. الفاء للعطف على محذوف تقديره: أتكذبونه فتجادلونه. كان من حق الفعل أن يتعدى بـ (في) كما يقال: جادلته في كذا وماريته فيه. لكنه لما ضمِّن معنى الغلبة عُدِّي تعديتها. وأما الفعل على قراءة {أفتمرونه} فكان من حقه أن يتعدى بنفسه ولكنه لتضمنه معنى الغلبة أيضا عُدي بـ (على) كذلك. و {مَا} في {مَا يَرَى} موصولة والعائد محذوف أو مصدرية. وإنما جاء {يَرَى} بصيغة المضارع - وإن كانت الرؤية قد مضت - إشارة إلى ما يمكن حدوثه بعد، ولحكاية الحالة الماضية استحضارا لصورتها البديعة في ذهن المخاطبين.

ص: 272

وقوله {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} اللام فيه موطئة للقسم، و {نَزْلَةً} قيل منصوب على الظرفية نصب الظرف الذي هو مرة لأن الفعلة اسم للمرة من الفعل فكانت في حكمها والتقدير ولقد رآه مرةً أخرى. وهذا مذهب الفراء. وقيل منصوب على المصدر والتقدير: ولقد رآه نازلا نزلة أخرى. والضمير المنصوب في {رَآهُ} عائد على جبريل أي رآه محمد مرة أخرى أو نازلا نزلة أخرى في صورة نفسه. وقيل راجع إلى الله عز وجل كما هو مذهب ابن عباس ويقول: "إن محمدا رأى ربه مرتين". و {عِنْدَ} في قوله {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} ظرف لرآه أو حال من الفاعل أو المفعول أو منهما. وإضافة {سِدْرَةِ} إلى {الْمُنْتَهَى} إما من إضافة الشيء إلى مكانه، كأشجار البستان. أو من إضافة المحل إلى الحالِّ مثل كتاب الفقه. وقوله {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} جملة حالية والضمير راجع إلى السدرة. وقيل ويحتمل عند النزلة. وقوله {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} {إِذْ} ظرف زمان لرآه و {مَا} موصولة في محل رفع فاعل. وإنما عبر بالموصول لما في الإبهام من التفخيم والتعظيم. كما أخر الفاعل للتشويق. وقوله:{مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} مستأنف لتحقيق الأمر ونفي الريب عنه صلى الله عليه وسلم وقوله: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} اللام واقعة في جواب قسم محذوف. و {الْكُبْرَى} إما مفعول به لرأى، ومن آيات ربه حال مقدمة. والتقدير: لقد رأى الآيات الكبرى حال كونها من جملة آيات ربه. وإما صفة لآيات ربه وعليه فقوله: {مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ} هو المفعول به و {مِنْ} تبعيضية: أي رأى بعض آيات ربه الكبرى. ومثل هذا الجمع يوصف بوصف المؤنثة الواحدة. وقد حسنه هنا كونها فاصلة، كما في قوله:{لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} .

المعنى الإجمالي:

ص: 273

أتكذبونه فتجادلونه وتغلبونه على الذي أبصره وعاينه، ووالله لقد أبصر وعاين من أوحى إليه مرة أخرى لدى شجرة النبق التي ينتهي إليها علم من دونها أو التي تنتهي إليها أرواح الشهداء.

لدى هذه الشجرة أو هذه النزلة دار النعيم التي يأوي إليها المتقون فيأمنون فيها، ويسعدون بها، ولا يخرجون منها، لقد رآه وقت أن غطى الشجرة ما غطاها أو انتابها ما أنتابها من أمر الله عز وجل. ما مال ولا عدل بصر محمد عما رآه، ولا تجاوزه إلى غيره، فما يخبر به هو الحق الذي أبصره وعاينه.

لقد أبصر وعاين بعض عجائب ربه العظمى.

ما ترشد إليه الآيات:

1-

توبيخ المشركين على المراء الباطل.

2-

ما يخبر به محمد صلى الله عليه وسلم هو العلم.

3-

رأى محمد صلى الله عليه وسلم جنة المأوى.

4-

شأن هذه السدرة عظيم.

5-

رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بعض العجائب الكبرى.

قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَاّتَ وَالْعُزَّى. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى. أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى. تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى. إِنْ هِيَ إِلَاّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى. أَمْ لِلإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى. فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى} .

المناسبة:

لما قرر الرسالة، وذكر عظمة الله وقدرته الباهرة التي تقضي بالتوحيد، وتمنع عن الشرك بالله تعالى، وقفهم على حقارة معبوداتهم.

القراءة:

ص: 274

قرأ الجمهور {اللَاّت} بتخفيف التاء. وقرئ بتشديدها. وقرأ الجمهور {مَنَاةَ} وقرئ مناءة.. بالمد والهمزة. وقرأ الجمهور {ضِيزَى} بكسر الضاد من غير همز، وقرئ ضئزى بالهمز. كما قرئ ضيزى بفتح الضاد وسكون الياء. وقرأ الجمهور {إِنْ يَتَّبِعُونَ} بالياء. وقرئ {إن تتبعون} بالتاء.

المفردات:

{اللَاّتَ} صنم بالطائف أو بنخلة عند سوق عكاظ. قال ابن عباس: "كان رجلا يلت السويق للحاج فمات فعكفوا على قبره. وقد كان لثقيف". وفيه يقول الشاعر:

وفرَّت ثقيف إلى لاتها

بمنقلب الخائب الخاسر

قيل أصلها من لتَّ السويق. وهذا ظاهر على قراءة التشديد، ولا مانع منه على قراءة التخفيف أيضا. وقيل هي مشتقة من لوى يلوي لأنهم كانوا يلوون أعناقهم إليها، أو يلتوون أي يعتكفون عليها. وأصلها لوية فألفها منقلبة عن واو. والتاء فيها زائدة، وقد حذفت لامها.

{َالْعُزَّى} تأنيث لأعز يعني الأغلب. وهي صنم لغطفان كانوا يعبدونها وهي سمرة بوادي نخلة فوق ذات عرق، وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد عام الفتح فهدمها وهو يقول:

يا عز كفرانك لا سبحانك

إني رأيت الله قد أهانك

{مَنَاةَ} صنم كانت بالمشلل وهو موضع جهة البحر من قديد المعروف بين مكة والمدينة، وكانت تعبدها غسان، والأوس والخزرج، وكان من أهل لم يطف بين الصفا والمروة. وهي على قراءة الجمهور مشتقة من منى يمني إذا أراق وصب. لأن دماء النسائك كانت تراق عندها. ووزنها فعلة. وأما على قراءة المد والهمزة {مناءة} فقيل مشتقة من النوء لأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركا بها. ووزنها مفعلة فألفها منقلبة عن واو، وهمزتها أصلية وميمها زائدة. {ضِيزَى} جائرة من ضازه يضيزه إذا ضامه قال الشاعر:

ضازت بنو أسد بحكمهم

إذ يجعلون الرأس كالذنب

وقيل عوجاء وقيل ناقصة قال أبو عبيدة: تقول: ضأزنه حقه أي نقصته.

وأنشد الأخفش:

ص: 275

فإن تنأ عنها تقتضيك وإن تغب

فسهمك مضئوز وأنفك راغم

قيل أصلها على وزن حبلى وأنثى فكسرت فاء الكلمة لتصح الياء وهذا مبني على ادعاء سيبويه أنه لا يوجد فعلى بكسر الفاء في الصفات. وأثبت ثعلب وغيره وجودها فحكى: مشية حيكى بكسر الحال أي فيها تبختر واختيال. وبعضهم يحكيها مشية حَيَكى كَجَمَزَى. ومن قرأ بالهمز أو بالفتح فهي لغات في ضيزى كما في القاموس. {سُلْطَانٍ} برهان، {الظَّنّ} الخاطر الشيطاني. {تَهْوَى} تحب. {الْهُدَى} البيان الشافي بالكتاب المنزل والنبي المرسل {تَمَنَّى} اشتهى. {الأُولَى} الدنيا.

التراكيب:

ص: 276

قوله {أَفَرَأَيْتُمُ اللَاّتَ} الهمزة للإنكار والفاء للعطف على محذوف يقتضيه السياق، ورأى بصرية، واللات مفعولها. وقيل علمية ومفعولها الثاني محذوف لدلالة الحال عليه. تقديره: بنات الله أو شركاء لله تعالى. وقال أبو حيان هو قوله {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى} . ولم يعد ضمير من جملة الاستفهام على اللات والعزى ومناة لأن قوله وله الأنثى في معنى وله هذه الإناث فإنهم كانوا يقولون في هذه الأصنام هي بنات الله. وأل في اللات والعزى زائدة فإن كانا علمين بالوضع فهي لازمة، وإن كانا علمين بالغلبة وأصلهما وصفان فأل غير لازمة وهي للمح الصفة. ووصف مناة بالأخرى تهكم بها لأنها بمعنى المتأخرة الوضيعة المقدار. والإشارة في قوله {تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} إلى القسمة المفهومة من الجملة الاستفهامية. وقوله {إِذاً} أي إذ جعلتم البنات له والبنين لكم، وقوله {إِنْ هِيَ إِلَاّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} {إِنْ} بمعنى ما. و {هِيَ} عائد على الأصنام المذكورة التي اتخذوها آلهة، وقوله {سَمَّيْتُمُوهَا} صفة لأسماء والضمير المنصوب فيها للأسماء لا للأصنام يعني هي مجرد أسماء جعلتموها لا حقيقة لها في استحقاق العبادة كما في قوله {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَاّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا} والهاء هي المفعول الثاني، والأول محذوف تقديره: أصناما تعبدونها. وقوله {أَنْتُمْ} تأكيد للواو لأجل التوصل لعطف {وَآبَاؤُكُمْ} عليها على حد قوله:

وإن على ضمير رفع متصل

عطفت فافصل بالضمير المنفصل

ص: 277

وقوله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ} على قراءة الجمهور فيه التفات إلى الغيبة للإيذان بأن تعدد قبائحهم اقتضى الإعراض عنهم، وقوله:{وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} يجوز أن تكون الجملة حالية من فاعل يتبعون. ويجوز أن يكون اعتراضا بين قوله {وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} وقوله {أَمْ لِلإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى} {أَمْ} منقطعة بمعنى بل وهمزة الإنكار. والإضراب فيه للانتقال عن اتباعهم التوهم الباطل إلى إنكار ما هو أفحش منه وهو أن يكون لهم ما يتمنونه من شفاعة آلهتهم. وقوله: {فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى} تعليل لانتفاء أن يكون للإنسان ما يتمناه حتما.

المعنى الإجمالي:

ألكم أعين فأبصرتم هذه الأصنام الحقيرة، وإنه لشيء منكر أن تجعلوا لله الإناث ولكم الذكور مع أنه إذا بشر أحدكم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم. هذه قسمة جائرة، ما هذه المذكورات من الأصنام إلا مجرد أسماء جعلتموها أنتم وهي لا حقيقة لها في استحقاق العبادة.

ما تنقادون إلا للخاطر الشيطاني وما تشتهيه أنفسكم. ولقد أتاكم من سيدكم ومالككم ومدبر أموركم البيان الشافي بالكتاب المنزل والنبي المرسل، فكيف تتركون داعي الحق، وتنقادون لخاطر الشيطان! بل ننكر أن يكون للإنسان ما يشتهيه، لأن أمر الدنيا والآخرة لله عز وجل فهو مالك الملك يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء، وبيده الخير.

ما ترشد إليه الآيات:

1-

تحقير الأصنام وعابديها.

2-

بيان جور الكفار وسخافة عقولهم.

3-

هذه المعبودات أسماء لا حقيقة لها.

4-

انقياد الكفار للخاطر الشيطاني دون الحق الرباني.

5-

أمر الدنيا والآخرة بيد الله.

ص: 278

العظات والعبر من هدي هجرة سيد البشر

للطالب عزيزو محمد

للهجرة من مسقط رأس سيد الدعاة صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أسبابٌ دعت إليها - وأهمُّها: مضايقةُ واشتدادُ أذى المشركين على الرسول صلى الله عليه وسلم ومَن آمن معه - ولقد سبق للرسول صلى الله عليه وسلم أن أَذِنَ لثلَّة من المؤمنين بالهجرة إلى أرض الحبشة بحثا لهم عن بيئة صالحة يطمئن فيها إيمانهم الفتي وتخلصا من أذى المشركين. ثم تكررت هجرتهم إلى الحبشة في السنة السادسة من البعثة.. وأكتفي بهذه الإشارة..

وأما الهجرة من مكة إلى المدينة فكانت بإذن الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم عقب اجتماع المتآمرين، غلاظ الأكباد وقساة القلوب، من مشركي قريش في دار الندوة حيث لم يتخلف أحد من ذوي الرأي والحجى للشورى في أمره صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله قرآنا يكشف ويُزيح الأستار وفضح لهم الأسرار ليزداد الرسول ومن آمن معه إيمانا بأن الله مع أوليائه بالنصر والتأييد وصبرا على تحمل أذى قريش في سبيل الدعوة إليه سبحانه:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} الأنفال.

ولم يهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم حفاظا على ذاته بل صيانة لدعوة الله عز وجل حتى تنتشر في ربوع هذا الكون. وصاحبه في هذه الرحلة المباركة والمحفوفة بالأخطار أبو بكر الصديق رضي الله عنه الذي أعدَّ لها كل ما يلزم، فتوجَّها إلى غار ثور جنوب مكة حيث اختفيا فيه ثلاث ليالٍ حتى هدأ عنهما الطلب.

وأما قريش فقد جدَّت في البحث وجعلت الجوائز لمن يأتي بمحمد صلى الله عليه وسلم إليها حيًّا أو ميتا..

ص: 279

ويحسن أن نذكر هنا حادثة تشهد أن محمدا رسول الله بلا شك ولا ريب، وهي واحدة من معجزاته الكثيرة الدالة على صدق نبوته وصحة رسالته. ذلك أن جماعة من كفار قريش وقفوا أمام الغار يبحثون عنه صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر رضي الله عنه خوفا على حبيبه:"يا رسول الله لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا.."فأجابه إمام الموحدين صلى الله عليه وسلم مُطمئنا: "يا أبا بكر ما بالك باثنين اللهُ ثالثُهما؟ " وهذه هي المعيّة الخاصة لأولياء الله بالنصر والتأييد فالله جل جلاله مستوٍ على عرشه استواء يليق بجلاله وعظمته وعلمه في كل مكان سبحانه وتعالى عما يصفه المشبِّهون. ثم خرج الرسول صلى الله عليه وسلم ورفيقه الصديق رضي الله عنه واتخذا طريقا غير مطروق للإمعان في التخفي والحذر، وكان الدليل لهما عبد الله بن أُريقط، رجلا من الكفار حتى وصلا إلى يثرب آنذاك سالمين في الثاني عشر من ربيع الأول.. لقد دامت الرحلة الميمونة سبعة أيام وثلاثة في غار ثور ولا يفوتني أن أذكر وأنبه إلى أنه خلال الأيام الثلاثة كانت أخبار قريش وتحركاتها تبلغه عن طريق عبد الله بن أبي بكر، وأخته أسماء، وعامر بن فُهيرة مولى أبي بكر رضي الله عنهم فكانت أسماء تحمل الطعام في المساء طول الثلاثة الأيام إلى النبي والصديق، وكان عبد الله يتتبَّع أخبار وخطوات قريش كما هو شأن العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة حيث كان يُمثل محطة الأخبار أو بالتعبير العصري مركزا للمخابرات. وأما عامر بن فُهيرة فكان يرعى الغنم في النهار ويعرج بالغار مساء ليُخفي أثر أقدام عبد الله وأخته أسماء. إذن لقد كانت طرقُ الحيطة وأسباب الحذر مستعملة من أجل أن تنجح الرحلة ويقضي الله أمرا كان مفعولا.

ص: 280

أما الذين يتغنَّون بأمداح - يزعمون أنها تُرضي عنهم رسول الهدى صلى الله عليه وسلم وفيها من الشرك ما تكاد تتفطر منه السموات، ومن الضلالات والمفتريات ما تكاد تخِرُّ منه الجبال الشامخات، فأولئك ما فقهوا دينهم ويخالفون النقل والعقل - فتراهم يقررون أن العنكبوت نسجت على باب الغار نسيجها الرقيق فستر أعين المشركين عن رؤية الرسول الكريم وصاحبه، وأن حمامتين باضتا في فم الغار فظن المشركون أن هذا الغار من عهد قديم لا يستطيع إنسيّ أن يلجه فيجعلون نجاة الرسول وصاحبه منحصرة في هذه الأشياء التافهة وينفون بهذا وذاك أسباب الحيطة التي اتُخذت وأن الله مع نبيه بالحفظ والتأييد.

فيا ليت قومي يستفيقون من غفلتهم وينتبهون لهفواتهم وزلاتهم.

ومرة أخيرة لنعش لحظات ممتعة مع هذه الحادثة العجيبة ألا وهي قصة سراقة بن مالك الذي كبا فرسه مرتين فعلم أن هناك قوة خفية قاهرة تحمي محمدا عليه الصلاة وأفضل التسليم، فتراجع عن إبلاغ قريش عثوره على صاحب الهجرة بل وَعَدَ وأقسم للرسول صلى الله عليه وسلم أن يضلِّل كل من يبحث عن نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم فوعده الرسول صلى الله عليه وسلم بسوار كسرى، ملك الفرس ورجع سراقة بن مالك بفكرٍ غير الفكر الذي خرج به من مكة باحثا عن محمد، وبعقيدةٍ غير العقيدة التي حملها أول مرة ونستطيع أن نقرر أنه عاد داعيا إلى اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وكفِّ الأذى عنه. ذلك ما نستنبطه من أبياته التالية يخاطب بها أبا جهل زعيم الكفر والطغيان:

أبا حكم والله لو كنتَ شاهداً.

لأمر دوادي إذ تسوخُ قوائمه.

علمت ولم تشكك بأن محمدا.

رسولٌ ببرهانٍ فمن ذا يُقاومُه.

عليك بكف القوم عنه فإنني

أرى أمره يوماً ستبدو معالمُه.

بأمر يوَدُّ الناس فيه بأسرهم.

بأن جميع الناس طرّاً يُسالمُه.

ص: 281

ثم أسلم سراقة بعد ذلك وحَسُن إسلامه. وحقق الله وعد نبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم فحصل سراقةُ على سوار كسرى لما هُزم الهرمُزان ملك الفرس على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

ويهمني الآن أن أركز على نتائج الهجرة ومدى استفادة الداعي إلى الله منها. فهي مصنع الرجال والمنطلق إلى الفتوحات وإشعاع النور السماوي في ربوع المعمورة.

نتائج الهجرة:

بالجملة فإن الهجرة تُعَدُّ تحولا من الجمود إلى الحيوية وانتفاضة من نطاق الدعوة الضيق إلى نطاق أوسع انفسحت له رقعة الإسلام بالفتوحات المتوالية في العراق والشام وغيرهما.

فمن نتائجها:

1-

الإخاء الصادق بين الأنصار والمهاجرين حتى إن الأنصاري ليُقاسم أخاه المهاجري في المطعم والملبس والمسكن.

ومدح الله صنيع الأنصار في كتابه العزيز.

2-

القضاءُ التام على الحزازات الباطنية والعقد النفسية التي كانت عند القبائل ونمت في الجاهلية.

3-

بناء المسجد النبوي ليكون مقرّاً للعبادة ومدرسة بل جامعة للتفقه في الدين ولتخريج علماء ربانيين صالحين مصلحين يبلغون دعوة الله إلى الناس بكل نزاهة وعفة عن أطماع الدنيا الفانية لأن حياتهم كانت وقْفا على الله عز وجل عملا بقول الله عز وجل لنبيه محمد وأمته بالتبع: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} آخر سورة الأنعام.

4-

انتصار المسلمين في غزوة بدر الكبرى، وهي أول غزوة خاضها المسلمون مع المشركين أكسبتهم هيبة وقوة وعزّاً، فكانت الفارقَ بين الحق والباطل. ولقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"نُصرت بالرعب مسيرة شهر". وبتوالي الغزوات والانتصارات فيها عبد الهجرة، قويت شوكة الإسلام وكُسرت شوكة الشرك والضلال..

ص: 282

فأنجز الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، وتمَّت النعمة الكبرى بفتح مكة في السنة العاشرة للهجرة حيث دخل الناس في دين الله أفواجا وطهر بيت الله الحرام من الأصنام - فجاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا.

هذه بعض النتائج بإيجاز وهناك أخرى لا يسع المقام ذكرها.

ماذا يستفيد الداعي من ذكرى الهجرة النبوية؟؟

1-

لقد سبق أن علمنا أن السبب الرئيسي للهجرة هو اشتداد أذى المشركين على الرسول صلى الله عليه وسلم ومَن آمن معه. فمن هنا يجب على الداعي إلى الله أن يكون متهيئ للهجرة عند كل مضايقة تُضعف إسلامه أو تحاول إخفات إيمانه أو إطفاء شعلته.

2-

اختيار الزمان والمكان المناسبين للهجرة وإلا لم تبق فائدة لهذا التحول.

3-

الإطلاع عن طريق الإذاعة والصحف على أخبار العالم على وجه العموم وعلى أخبار المسلمين على وجه الخصوص. وهذا ضربٌ من الاهتمام بأمور المسلمين.

- فالداعية الحق لا يكون غرّاً ساذج الفكر، لا يخالط المجتمع ويحتك به بل يجب أن يتعرف الأحوال ويسعى في إيجاد الحلول للمشاكل التي تنزل بالمسلمين.

4-

تأسيس الجماعة المؤمنة في المكان المتخذ موطنا جديدا للانطلاق منه بعد التربية الإسلامية والتدريب الكافي على الخطابة والدعوة وغيرهما لفتح القلوب المغلقة، وما التوفيق والنصر إلا من عند الله. وأختم كلمتي هذه بالنصح الصادق لأولئك الذين هاجروا إلى هذا البلد الحبيب واكتفوا بالجوار ثم لا يدعون إلى الله عز وجل على قدر استطاعتهم ولا يغيرون منكرا رأوه - ولو كان التخلف عن الصلاة - فأقول لهم ولكم من أحبّ الإقامة هنا على شاكلتهم إن المقصد من الهجرة ليس الأمن من الفتن فقط وإنما التعلم والتفقه من أجل الانطلاق إلى الدعوة في كل مكان بإخلاص وصدق والله هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل، والله لا يضيع أجر المحسنين.

وأسأله سبحانه أن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.

ص: 283

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

الإمضاء: عزيزو محمد عبد السلام مغربي. أولى من كلية الدعوة وأصول الدين.

ص: 284

صرخة الحق

قصيدة للطالب حسين أحمد

كلية الدعوة

أيها الثائرون يا من أجبتم

صرخة الحق من سماء المعالي

واستقمتم على الجهاد بعزم

وبذلتم في دربكم كل غالي

ورفضتم مبادئا ليس فيها

غير هدم الإسلام والأجيال

ونهضتم إلى الذرى وحملتم

مشعل النور والهدى المتوالي

أبشروا واهنئوا بجنات عدن

ونعيم مؤبد وظلال

عصبة البشر والفساد أتتكم

صيحة الحق فابشروا بالزوال

أرضنا لا تسيع غُمْداً خؤونا

يتبنى مبادئ الإضلال

قد مشيتم على مناهج ماوٍ

واتبعتم سبيله في الفعال

أمن العقل أن نحكم فينا

طغمة لا تريد غير انحلال

ونبذتم كتاب ربي جهارا

وسلكتم طرائق الأنذال

كبروا إخوتي وهبوا وصولوا

وانصروا الدين تسعدوا في المآل

ص: 285

أخبار الجامعة

إعداد العلاقات العامة

صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز رئيسا أعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.

يولي جلالة الملك المعظم خالد بن عبد العزيز - حفظه الله ورعاه - وحكومته الرشيدة الجامعة الإسلامية بالمدينة مزيدا من الرعاية والعناية تقديرا لرسالتها السامية رسالة الإسلام الخالدة في العالم بأسره.

فقد صدر الأمر السامي الكريم بتعيين حضرة صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد والنائب الأول لرئيس مجلس الوزراء حفظه الله وسدد خطاه رئيسا أعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة وكان لهذا التعيين صداه الطيب وأثره العميق في محيط الجامعة وخارجها غمر النفوس بالغبطة تيمنا واستبشارا.

والله تبارك وتعالى المسئول أن يوفق هذه الجامعة للنهوض بأعباء رسالتها الكبرى وتحقيق أهدافها السامية بفضل رعاية جلالة الملك المعظم رئيسها الفخري وسمو ولي العهد المكرم رئيسها الأعلى إنه سميع مجيب.

افتتاح قسم الدراسات العليا

ص: 286

تم بحمد الله وتوفيقه افتتاح قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية يوم الأربعاء الموافق الثالث والعشرين من شهر ذي القعدة وقد ألقى نائب رئيس الجامعة فضيلة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد كلمة بهذه المناسبة الطيبة بين فيها أهمية افتتاح هذا القسم بالجامعة وإنه كان أمنية حققها الله هذا العام وإنه حصل به اكتمال بناء الجامعة وأن الفرصة متاحة لكثيرين من خريجي الجامعة بإكمال دراستهم دون حاجة إلى البحث عن إكمال التعليم في جهات أخرى ثم ألقى كل من فضيلة الدكتور محمد أمين المصري المشرف على قسم الدراسات العليا بالجامعة وفضيلة الشيخ محمد المرشد عميد كلية الشريعة كلمة بهذه المناسبة وقد بدأت الدراسة هذا العام بشعبة السنة حيث يتوافر في الجامعة لها أساتذة متخصصون في هذا المجال وهم فضيلة الدكتور محمد أمين المصري المشرف على قسم الدراسات العليا بكلية الشريعة بمكة سابقا والمعار من جامعة الملك عبد العزيز للإشراف على قسم الدراسات العليا بالجامعة وفضيلة الدكتور الشيخ سيد محمد الحكيم وفضيلة الدكتور عبد الرحمن عثمان وهما أستاذان في قسم الدراسات العليا بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر وقد أعيرت خدماتهما للتدريس بالجامعة الإسلامية وسيتم افتتاح شعب أخرى بهذا القسم في العام الدراسي القادم بمشيئة الله.

كلية اللغة العربية

ص: 287

تم بحمد الله وتوفيقه افتتاح كلية اللغة العربية بالجامعة الإسلامية يوم السبت السبت الموافق27/10/1395هــ وقد ألقى نائب رئيس الجامعة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد كلمة بهذه المناسبة بين فيها أهمية هذه الكلية ودورها المرتقب في خدمة اللغة العربية. . لغة القرآن الكريم، وحث الطلبة الذين التحقوا بها على الجد والمثابرة باعتبارهم الطليعة في هذه الكلية ثم ألقى كل من فضيلة الدكتور محمد نائل الأستاذ بهذه الكلية وعميد كلية اللغة العربية بالأزهر سابقا وفضيلة الشيخ صالح المحيسن عميد كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة كلمة بهذه المناسبة الطيبة، وتجدر الإشارة إلى أن هذه الكلية هي الكلية الرابعة في الجامعة والكليات الثلاث الأخرى هي كلية الشريعة وكان إنشاؤها في عام 1381هـ. وكلية الدعوة وأصول الدين قد أنشئت في عام 1386هـ وكلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية وقد تم افتتاحها في شهر شوال من العام الفائت 1394هـ، وقد اعتمدت المبالغ اللازمة في ميزانية العام المالي الحالي لافتتاح كلية خامسة في كلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية وسيتم افتتاحها إن شاء الله بعد صدور الموافقة السامية على افتتاحها.

تلقت الجامعة برقية سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله الآتي نصها:

فضيلة نائب رئيس الجامعة الشيخ عبد المحسن العباد وفقه الله.

وصلنا مكة بحال الصحة شاكرين لفضيلتكم ما لقيناه من حفاوة وتكريم كما نشكر لفضيلتكم ولجميع المدرسين والموظفين والطلبة مشاعر الجميع النبيلة ودعواتكم الطيبة سائلين المولى عز وجل أن يجزيكم عنا خيرا وأن يمنحكم التوفيق والسداد إنه خير مسئول.

الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.

عبد العزيز بن عبد الله بن باز.

وقد أجيب عليها بالبرقية الآتي نصها:

ص: 288

سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد. - حفظه الله.

تلقيت برقية سماحتكم رقم 3016 -1 وتاريخ 19/11/1395هـ التي أعربتم فيها عن شكر جميع منسوبي الجامعة من مدرسين وموظفين وطلبة على مشاعرهم التي أبدوها لسماحتكم وفي الحقيقة إن ما أبداه الجميع بعض ما يجب عليهم تجاه عالم جليل ومرب كبير شمل الجميع بعطفه ونصحه وتوجيهه فجزاكم الله عن ما بذلتموه من جهود عظيمة في مصالح الجامعة خاصة ومصالح المسلمين عامة خير الجزاء وإني أصالة عن نفسي ونيابة عن جميع منسوبي الجامعة أتقدم بالشكر لسماحتكم سائلا المولى عز وجل أن يديم توفيقكم لكل خير وأن يمد في حياتكم لتواصلوا جهادكم في سبيله والدعوة إليه وبذل النصح للخاص والعام إنه سميع مجيب والسلام عليكم.

نائب رئيس الجامعة الإسلامية.

عبد المحسن بن حمد العباد.

((مؤتمر لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة))

صدرت الموافقة الملكية السامية على قيام الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة بتنظيم مؤتمر عام لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة والدعوة إلى عقده.

ومما يستهدف عقد هذا المؤتمر..

أولا: التعريف بالدعوة الإسلامية ومنهاجها الأقوم في توجيه الحياة الإنسانية في كل جوانبها إلى غايتها الفاضلة، التي يسعد بها الإنسان في دنياه وأخراه وفي توجيه بناء حضارتها بناء متكاملا يلبي دائما مطالب الروح والجسم معا.

ثانيا: الأخذ بأفضل المناهج العلمية والأساليب العملية في إعداد الدعاة وتمكينهم من أداء رسالتهم.

ثالثا: التطوير العلمي لأساليب الدعوة على ضوء النتائج العلمية في حقل الدعوة.

رابعا: دراسة المشاكل والصعوبات العامة التي تعترض مسار الدعوة والعمل على حلها بالوسائل الممكنة.

ص: 289

خامسا: تعزيز سبل الإيصال والتعاون بين الهيئات والمؤسسات المعنية بالدعوة الإسلامية والتنسيق العام للجهود المبذولة في هذا الميدان على الصعيد العالمي وتنظيم سبل التعاون الإيجابي بين الدعاة.

سادسا: المتابعة العلمية المستمرة لحركة الدعوة الإسلامية وملاحظة اتجاهاتها وتقويم نتائجها وآثارها والعمل المشترك على تعزيزها وتحقيق مسارها وتحقيق أهدافها. وسيدعى لحضور هذا المؤتمر ممثلون للهيئات والمؤسسات المعنية بالدعوة الإسلامية داخل المملكة وخارجها وبعض قادة الفكر الإسلامي المشتغلين بالدعوة..

موضوعات المؤتمر:

وسيتناول هذا المؤتمر بالبحث والمناقشة الموضوعات الرئيسية التالية:

1_

مناهج الدعوة الإسلامية وأساليبها.

2_

إعداد الدعاة ومسئولية الجامعة في هذا المجال.

3_

أساليب الدعوات المضادة وأهدافها وآثارها.

4_

المذاهب والاتجاهات الإلحادية والمعادية للإسلام والفرق المرتدة والزائفة في هذا العصر وتحديد موقف الإسلام والمسلمين فيها.

5_

أجهزة الإعلام والنشر ودورها في توجيه المجتمعات وتأثيراتها الضارة للدعوة الإسلامية في المجتمعات الإسلامية خاصة وفي غيرها عامة وما يجب أن يتخذ إزائها.

6_

مشاكل الدعوة والدعاة إلى الإسلام في العصر الحديث وكيف يمكن التغلب عليها. وتقوم الجامعة باتخاذ الترتيبات اللازمة لعقد هذا المؤتمر بتوفيق الله تبارك وتعالى في عام 1396 هـ إن شاء الله.

وفد الجامعة إلى المهرجان التعليمي.

تلبية للدعوة التي تلقتها الجامعة من (ندوة العلماء) في الهند لحضور المهرجان التعليمي الأول، الذي تعقده الندوة بمناسبة مرور 85 عاما على تأسيسها- لبحث القضايا التربوية الإسلامية والحلول العديدة التي اقترحها ونفذها قادة الفكر والتربية المسلمون لهذه القضايا-

ص: 290

توجه وفد من الجامعة برئاسة الشيخ أبي بكر جابر الجزائري المدرس في كلية الشريعة، وعضوية فضيلة الشيخ حماد الأنصاري المدرس بكلية الشريعة، و. ف عبد الرحيم المدرس بالمعهد الثانوي التابع للجامعة يوم الجمعة 19 - 10 – 1395هـ لحضور هذا المهرجان بمدينة لكهنو في الهند.

وقد اشترك الوفد في أعمال المهرجان ولجانه وقدم بحثا في موضوع ((التربية الإسلامية في عصرنا الحاضر)) كان موضع تقدير المؤتمرين من رجال التربية والتعليم، كما قدم تبرعا من الجامعة الإسلامية لندوة العلماء (50 ألف ريال سعودي) وزار الوفد بعض المدن الهندية إجابة لرغبات الإخوة المسلمين في هذه المدن - كما زار الجامعة السلفية ببنارس التي تزودها الجامعة الإسلامية ببعض المدرسين، واشترك في وضع الحجر الأساسي لمسجد هذه الجامعة. وزار مكتبة (خدابخش) الشهيرة.

والتقى خلال زياراته ببعض خريجي الجامعة الإسلامية في الهند وتابع نشاطهم في مجال الدعوة وألقى خلال هذه الزيارات واللقاءات بعض الدروس والمحاضرات.

وقد قوبل وفد الجامعة بالحفاوة والتكريم من جميع الإخوة المسلمين الذين التقى بهم ومن المسئولين عن المهرجان وعلى رأسهم سماحة الشيخ أبي الحسن الندوي الأمين العام لندوة العلماء.. وعاد الوفد إلى المدينة المنورة يوم الاثنين 7-11-95هـ.

المجلس الأعلى للجامعة.

صدر الأمر الملكي الكريم رقم 1- 233 في 29- 9- 1395هـ بتعيين الأعضاء المختارين بالمجلس الأعلى للجامعة بناء على اقتراح رئيس الجامعة لمدة ثلاث سنوات.

وطبقا لنظام الجامعة الجديد الصادر بالمرسوم الملكي رقم م - 70 في 7- 8- 1395هـ يتألف المجلس الأعلى للجامعة من:

- الرئيس الأعلى للجامعة صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء حفظه الله.

- رئيس الجامعة.

- نائب رئيس الجامعة.

- وكيل وزارة المعارف.

ص: 291

- رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.

- الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي.

- رئيس قسم الدراسات العليا بالجامعة.

- عميد واحد يختاره مجلس الجامعة لمدة ثلاث سنوات.

ثلاثة عشر عضوا من كبار العلماء وقادة الفكر الإسلامي ومديري الجامعات وأساتذتها أو من سبق لهم شغل هذه المناصب، ويراعى في اختيارهم تنوع الاختصاص على أن يكون من بينهم عشرة أعضاء من خارج المملكة يمثلون مختلف المناطق الإسلامية ويصدر أمر ملكي بتعيينهم.

وقد صدر الأمر السامي المشار إليه بتعيين هؤلاء الأعضاء. وهم:

1_

فضيلة الشيخ أبي الحسن الندوي أمين عام ندوة العلماء. بلكهنو في الهند.

2_

فضيلة الدكتور كامل محمد الباقر مدير جامعة أم درمان الإسلامية.

3_

فضيلة الشيخ مصطفى أحمد العلوي مدير دار الحديث الحسنية في الرباط.

4_

فضيلة الدكتور محمد الحبيب بن الخوجة عميد كلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين بتونس.

5_

مدير جامعة الأزهر.

6_

الدكتور أحمد عبيد الكبيسي مدرس الشريعة الإسلامية بجامعة بغداد.

7_

فضيلة الشيخ عبد الله غوشه رئيس قضاة الأردن.

8_

فضيلة الشيخ محمد الغزالي من العلماء المشهورين في مصر.

9_

فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني من العلماء المشهورين في سوريا.

10_

فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي أحد العلماء المشهورين في مصر.

11_

معالي مدير جامعة الرياض.

12_

معالي مدير جامعة الملك عبد العزيز بجدة.

13_

معالي الشيخ صالح الحصين.

ص: 292

الفتاوى

لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز

من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم م. غ. وفقه الله لكل خير آمين _ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

بعده كتابكم الكريم المتضمن للأسئلة الخمسة وصل وصلكم الله بهداه وهذا نصها وجوابها والله ولي التوفيق.

السؤال الأول: خطب رجل امرأة ووافق أقربها على ذلك واتفقوا معه على المهر ولكنه لم يدفعه ثم مات الخاطب فما حم ذلك وهل ترثه المرأة المذكورة وتحاد عليه.

والجواب: إذا كان الواقع هو ما ذكرتم في السؤال ولم يجر عقد النكاح بينهما بالإيجاب والولي والقبول من الزوج مع توفر الشروط المعتبرة وخلو الزوجين من الموانع فإن المرأة المذكورة لا ترث وليس عليها عدة ولا حداد لأنها ليست زوجة لخاطبها بل هي أجنبية منه لكونه لم يتم له عقد النكاح الشرعي وإما حصلت منه الخطبة والاتفاق مع أقاربها على المهر فقط وهذا وحده لا يعتبر نكاحا وليس في هذا خلاف بين أهل العلم رحمهم الله وإن كان أهل المخطوبة قد قبضوا منه مالا فعليهم رده إلى ورثته.

السؤال الثاني: تزوج رجل بامرأة مسلمة ثم ظهر أن الرجل كافر فما الحكم.

والجواب: إذا ثبت أن الرجل المذكور حين عقد النكاح كان كافرا والمرأة مسلمة فإن العقد يكون باطلا لأنه لا يجوز بإجماع المسلمين نكاح الكافر للمسلمة لقول الله تعالى سبحانه _ {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} وقوله عز وجل: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} الآية.

السؤال الثالث: زوج رجل ابنته على آخر ثم تبين أن الزوج ولد زنا فما الحكم.

ص: 293

والجواب: إذا كان مسلما فالنكاح صحيح لأنه ليس عليه ذنب أمه ومن زنا بها شيء لقول الله سبحانه: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ولأنه لا عار عليه من عملهما إذا استقام على دين الله وتخلق بالأخلاق المرضية لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} .

وقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أكرم الناس قال: "أتقاكم. ."وقال عليه الصلاة والسلام: "من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه" _ وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إن لا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير" خرجه الترمذي.

السؤال الرابع: خطب رجل من آخر موليته وزعم أنه شريف فزوجه ثم اتضح أنه ليس بشريف فما الحكم.

والجواب: إذا كانت الشروط متوفرة في العقد المذكور فالنكاح صحيح وإذا كان ولي المرأة قد اشترط على الخاطب أنه شريف ثم اتضح خلاف ذلك فله الخيار إن شاء أبقى موليته عنده وإن شاء طالبه بالطلاق وإذا كان قد دخل بها فلها المهر كله بما استحل من فرجها وإن امتنع من طلاقها ترافعا إلى الحاكم الشرعي لينظر في أمرها على ضوء الشريعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج" وإن كان لم يشترط ذلك وإنما صدقه في قوله ول يعتبره شرطا في الموافقة على النكاح فليس له الخيار فيما أعلم من الشرع لأنه لم يقع بينهما مشارطة والعرب بعضهم لبعض أكفاء سواء كانوا أشرافا أم غير أشراف، وقال جماعة من العلماء المسلمون كلهم بعضهم لبعض أكفاء إذا استقام الدين ولو كان الزوج عربيا وهي عجمية أو مولاة وهكذا العكس وهو قول قوي جدا لما تقدم من الأدلة الشرعية.

ص: 294

السؤال الخامس: تزوج رجل امرأة حرة على أنه حر ثم اتضح أنه عبد مملوك فما الحكم؟.

والجواب: إذا كان الواقع هو ما ذكر في السؤال فللمرأة الخيار إن شاءت البقاء معه فلها ذلك وإن شاءت الفسخ فلها ذلك لأن عليها ضررا كبيرا في كونه مملوكا وقد غشها لعدم إظهار الحقيقة فوجب لها اختيار لما ثبت في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن بريرة لما عتقت تحت زوجها مغيث وكان عبدا مملوكا خيرها النبي صلى الله عليه وسلم فاختارت نفسها، متفق على صحته. والمرأة المسؤول عنها أولى بالخيار لأنها مخدوعة لم تعلم أنه مملوك وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"المسلم أخ المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يكذبه ولا يخذله" وقال عليه الصلاة والسلام: "من غشنا فليس منا"وهذا قد غشنا وكتم عليها أمره وكذب عليها بإظهاره ما يدل على أنه حر.

وإذا كان قد دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها فإن تنازعا ترافعا إلى الحاكم الشرعي لينظر في أمرهما على مقتضى الشريعة المحمدية.

من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم ع-ح. وفقه الله لما فيه رضاه آمين.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

بعده: كتابكم الكريم وصل وصلكم الله بهداه وما تضمنه من الأسئلة كان معلوما وإليكم جوابا:

الأول: حكم تعليق الصور.

والجواب: لا يجوز تعليق الصور في الجدران ولا في المكاتب ولا غيرها مطلقا بل الواجب طمسها لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: "لا تدع صورة إلا طمستها" ولأن تعليقها يفضي لتعظيمها وعبادتها من دون الله إذا كانت من صور المعظمين كالملوك والزعماء وإن كانت من صور النساء والمردان فتعليقها من أسباب الفتنة بها.

الثاني: حكم الصور الباقية منصور استمارة المدرسة ماذا يجب نحوها.

ص: 295

والجواب: الواجب إتلافها إذا لم يكن هناك حاجة إليها أما حديث _ إلا رقما _ فهو وارد في الحديث الذي يدل على أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة وهو محمول على الثوب الذي يفترش كالمخدة والبساط أما الذي يعلق فهو غير داخل في ذلك بدليل أنه عليه الصلاة والسلام أنكر على عائشة تعليق الثوب الذي فيه تصاوير.

الثالث: ونصه: حكم من قال: اللهم احشرني مع صاحب النقب

والجواب: هذا الدعاء لا أعلم له أصلا في الشرع وإنما يذكر أنه من كلام بعض الأمراء لما رأى بعض الجنود نقب في بعض أسوار العدو نقبا صار سببا للفتح على المسلمين ومثل هذا لا يكون كلامه شرعا للناس وإنما المشروع أن يقال اللهم احشرني في زمرة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم أو في زمرة عبادك الصالحين ونحو ذلك وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم في دينه والثبات عليه أنه خير مسؤول.

من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم الشيخ س ن ذ وفقه الله لكل خير آمين _ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته: أما بعد فقد وصلني كتابكم الكريم المتضمن الأسئلة الأربعة وصلكم الله بهداه ومنحنى وإياكم وسائر المسلمين الفقه في دينه والثبات عليه وهذا نصها وجوابها:

الأول ذكرتم أنكم أحجمتم عن أكل اللحوم بأنواعها لاعتقادكم بأنها لا تذبح على الطريقة الإسلامية ولا على طريقة أهل الكتاب والنصارى أي لا يذكر اسم الله عليها وتسألني هل أكلها حلال أم حرام؟

ص: 296

والجواب: قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} الآية، من سورة المائدة، هذه الآية أوضحت لنا أن طعام أهل الكتاب مباح لنا وهم اليهود والنصارى إلا إذا علمنا أنهم ذبحوا الحيوان المباح على غير الوجه الشرعي كأن يذبحوه بالخنق أو الكهرباء أو ضرب الرأس ونحو ذلك فإنه بذلك يكون منخنقا أو موقوذا فيحرم علينا كما تحرم علينا المنخنقة والموقوذة التي ذبحها مسلم على هذا الوجه، أما إذا لم نعلم الواقع فذبيحتهم حل لنا عملا بالآية الكريمة وإليكم جوابا قد صدر منا بالموضوع للاستفادة منه.

أما كونهم لا يذكرون اسم الله على الذبيحة فهذا من جملة جهلهم فلا يمنع حل ذبيحتهم كالمسلم إذا نسي التسمية أو جهل حكمها عند الذبح لقول الله سبحانه: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} الآية من سورة البقرة وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما تلا هذه الآية قال: "قال الله: قد فعلت". وقال تعالى في سورة الأحزاب: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله وضع عن أُمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"خرجه ابن ماجه والحاكم وفي إسناده ضعف ولكن شواهده كثيرة.

الثاني: ما رأي فضيلتك في الجلود التي تستعمل لأغراض عديدة من المحافظ والأحزمة والشنط اليدوية المصنوعة من تلك الجلود؟.

ص: 297

والجواب: مثل هذه الجلود التي يحكم شرعا بحل ذبيحتها يجوز استعمالها في الأغراض التي ذكرتم وغيرها لأنها في حكم ذبائح المسلمين وهكذا جلود الحيوانات التي يؤكل لحمها كالإبل والبقر والغنم وغيرها مما يؤكل لحمه إذا ماتت حتف أنفها فإنه يجوز دبغ جلودها واستعمالها في جميع الأغراض المباحة كجلود المذكاة لأن الدباغ يطهرها لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "دباغ جلود الميتة طهورها" وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر"خرجه مسلم في صحيحه واللفظ الأول أخرجه أصحاب السنن والأحاديث في هذا الباب كثيرة. واختلف العلماء في جلود الحيوانات المحرمة كالأسد والذئب والحمار الأهلي هل تطهر جلودها بالدباغ على أقوال وهذه الحيوانات المحرمة لا تؤثر فيها الذكاة فلا يطهر جلدها بالدبغ والقول بتطهير جميع الجلود بالدبغ قول قوي لعموم الأحاديث في إطلاق تطهير الجلود بالدبغ وهو محل اجتهاد ونظر أما جلد الميتة من الحيوانات المباحة الأكل كالإبل والغنم فلا إشكال في طهارته بالدبغ وهكذا جلود ذبائح أهل الكتاب لا إشكال في طهارتها بالدبغ لأنها خير من الميتة وهي في حكم ذبائح المسلمين في الحل، إذا كان الحيوان مأكول اللحم كما سبق.

الثالث: نتيجة لدراستنا في أمريكا تطرح علينا مواضيع عن الدين المسيحي والدين اليهودي فهل يجوز لنا الحديث عنهما.

ص: 298

الجواب: نعم يجوز لكم الكلام في ذلك بحسب علمكم ولا يجوز الكلام فيها ولا في غيرها بغير علم ومعلوم أن شريعة التوراة والإنجيل من جملة الشرائع التي أنزلها الله على رسله على حسب ما يليق بأهلها في زمانهم وظروفهم والله سبحانه هو الحكيم العليم في كل ما يشرعه ويقدره كما قال سبحانه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} وذلك بعدما ذكر إنزاله التوراة والإنجيل والقرآن في سورة المائدة وقال سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} ثم إن اليهود والنصارى حرفوا وبدلوا وأدخلوا في شرائعهم ما ليس منها ثم بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم برسالة عامة لجميع أهل الأرض من جن وإنس وشرع له شريعة عامة وبذلك نسخ بها شريعة التوراة والإنجيل وأوجب على جميع أهل الأرض أن يتحاكموا إلى الشريعة التي بعث الله بها محمدا صلى الله عليه وسلم وأن يأخذوا بها دون كل ما سواه كما قال عز وجل يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم في سورة المائدة: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} الآية. وقال سبحانه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} وقال سبحانه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} .

والآيات في هذا كثير ومن تدبر القرآن الكريم وأكثر من تلاوته لقصد الاستفادة والعمل هداه إلى سبيل الحق كما قال الله سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} الآية من سورة سبحان.

ص: 299

الرابع: ما رأي فضيلة الشيخ في المرأة المسلمة المحتشمة لباسا وعملا ولكنها لا ترتدي العباءة؟.

الجواب: ليس من شروط الحجاب لبس العباءة. بل الواجب الاحتجاب بما يتيسر للمرأة من الثياب والملابس المعتادة في عرف أهل بلادها لأن الله سبحانه لم يحدد الحجاب بنوع دون نوع بل قال سبحانه في كتابه المبين في سورة الأحزاب: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنّ} الآية، وقال سبحانه في السورة المذكورة:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} . والجلابيب جمع جلباب وهو ما تلبسه المرأة فوق ثيابها لتغطي به جميع بدنها أما الوجه والكفان فقد اختلف العلماء في وجوب سترها عند الأجانب على قولين مبنيين على الخلاف في معنى قوله سبحانه في سورة النور: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أحدهما أن المراد بذلك ما ظهر من الملابس وهو قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وجماعة من أهل العلم وهو ظاهر ما ثبت عن عائشة وأختها أسماء رضي الله عنهما والثاني أن المراد بذلك الوجه والكفان وهو المعروف عن ابن عباس رضي الله عنهما وجماعة من المفسرين وقد أجمع العلماء على أن سترهما أولى وأفضل وإنما الخلاف في جواز الكشف كما أجمعوا على أن المرأة إذا كانت ذات جمال يخشى من سفورها الفتنة فإنه يجب عليها أن تحتجب وأجمعوا أيضا على أنه لا يجوز لها عند من قال بجواز السفور أن تحسن وجهها وكفيها بشيء مما يسبب الفتنة كالكحل وجعل شيء من أنواع التجميل في الخدين والشفة والكفين وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن جواز كشف الوجه والكفين كان في أول الإسلام ثم نسخ بآية الحجاب التي

ص: 300

قدمنا ذكرها وهذا هو ظاهر ما ثبت عن عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك لأنها قالت عن صفوان بن معطل: "فلما رآني استرجع وكان يعرفني قبل الحجاب فلما سمعت استرجاعه انتبهت وخمرت وجهي"وهذا القول الذي ذكره شيخ الإسلام يرفع الخلاف ويجمع القولين على قول واحد وهو وجوب ستر الوجه والكفين فيما استقرت عيه الشريعة الإسلامية ولا يخفى على كل من له أدنى بصيرة بأحوال العالم ما يترتب على السفور من الفتن الكثيرة والعواقب الوخيمة التي منها تمتع الرجال بالنساء وجرأة النساء على الاختلاط بالرجال وما يخشى وراء ذلك من أنواع الفتن والله المستعان وهو سبحانه ولي التوفيق.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

ص: 301

رسائل لم يحملها البريد

لفضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي

المدرس بكلية الشريعة بالجامعة

زوجي الذي كان

منذ أسبوعين أو ثلاثة، أو أقل من ذلك أو أكثر، لا أدري، فأنا الآن لا أعرف حساب الأيام ولا تعداد الليالي _ جاءني موظف من المحكمة الشرعية في هذا البلد الذي فيه أقيم، جاء يبلغني أنك قد طلقتني، فذهلت لهذا النبأ الفاجع الفاجئ المروع، وهرولت مسرعة غير مصدقة إلى المحكمة الشرعية أسأل عن هذا الأمر وأتوثق، ولكن القاضي أكد الطلاق الذي طلقتنيه في بلدك، وصدّق البلاغ الذي بلّغنيه موظف المحكمة.

وخرجت من لدن القاضي أتعثر في أثوابي وأنا أبكي، وأصادم الناس والأشياء لا أدري أين الطريق. وبعد لأي وجهد وعذاب وصلت إلى بيت شقيقتي هذه التي أُقيم عندها ضيفة منذ ثلاثة أشهر، وانتبذت إلى زاوية مظلمة لا أدري ماذا أصنع غير أن أنفث الزفرات، وأرسل الآهات، وأريق الدموع.

وأشارت عليّ أُختي أن أرسل إليك ابنها يتعرف أسباب هذا الطلاق، ودوافع هذا الفراق، ولقد كنت حريصة على أن أجيء أنا نفسي، ولكن هذا الخطب الجلل الذي رميتني به، لم يترك لي قدرة على الحراك والسفر، ولا أن أرى دارا سلخت فيها من عمري خمسا وأربعين سنة، فإذا هي محرمة عليّ، وإذا أنا غريبة عنها.

ورجع ابن أختي من عندك يحمل أسبابا غريبة، وينقل إليّ أحداثا عجيبة:

ص: 302

تقول إن ضرتي وأبناءها هم الذين حملوك على هذا الطلاق، وزينوا لك هذا الفراق، وأنهم كانوا يحاولون ذلك منذ أزمان طويلة وآماد بعيدة، فكنت تجيبهم بجفاء وغلظة، وتردهم بالخيبة والخسران، ولم تك تخبرني شيئا من ذلك حرصا على هدوء الأحوال واطمئنان البال، وتوفير أسباب الحياة الآمنة الوادعة، حتى إذا شبوا عن الطوق، وأصبحوا يسهمون في كسب الرزق، ويحسنون تدبير شؤون الزراعة، ويقدرون على جمع الحصاد وتخزين الغلال، حتى إذا بلغوا هذا المبلغ، وبلغت أنت من الكبر ما أوهن عظامك وألان قناتك ولوى كفك على العصا اقترحوا عليك أن أزور شقيقتي هذه النائية عنك مائتي ميل، حرصا على راحة أعصابك وهدوء بالك وجمام جسمك، وحسما للمشكلات التي كانت تثور بين ضرتين تسكنان بيتا واحدا.

وجئت أزور أختي هذه سعيا وراء راحتك وابتغاء رضاك، وما كنت أعلم ما تدبره أنت ولا أبناؤك، وما كنت أدري أنها زيارة ليس بعدها رجوع.

تقول إن غيابي البعيد عن البيت، واحتجابي الطويل عن الأعين، أطمعا فيك الضرة وأبناء تلك الضرة، وانتزعا منك زعامة العرين وزمجرة الآساد، فلم تستطع أن تفلت حين قادك أكبرهم إلى المحكمة الشرعية، ومن حولكما إخوة له ثلاثة يشدون عضده، ويضعون أيديهم في يده، ويدخلون قاعة المحكمة على قلب رجل واحد.

وكم حاول القاضي حين عرف أنك مغلوب على أمرك، وأن غاية أولادك حرماني إرثك، كم حاول أن يثنيك عن هذا الطلاق، وكم بيَّن لك ما فيه من إثم وظلم وجنف.

ولكنك كنت لا تعي شيئا مما تسمع، كانت عيناك تنظران إلى الأرض، لا تكاد ترفعهما إلى أعلى خشية أن تلتقيا بأعين أبنائك من حولك، وقد صوبوها نحوك كما تصوب الذئاب الضارية عيونها إلى شاة آمنة جاثية في الحظيرة.

ونطقت بالطلاق بيسر وسهولة، لم يتلجلج لسان، ولا ارتجفت شفتان، ولا تهدّج صوت، ولا غصّت حنجرة.

ص: 303

وخرجت من المحكمة كالشرعية مسرعا تغذ الخطا كأنما أنشطت من عقال، وعدت إلى بيتك هادئ النفس رخيّ البال خفيف الظهر، كأنما كنت أنا شوالا ثقيلا من القمح تحمله على عاتقك فألقيته على الأرض واسترحت.

نعم، عدت إلى بيتك وقد أصبحت السيادة فيه لأم بنيك، أما أنا فواحسرتاه! لقد تقطعت الأسباب ما بيني وبينه، ولم يبق لي منه إلا ذكريات!!

أذكر أنه كان لي في ذلك البيت غرفة، غرفة ذات نمارق مصفوفة وزرابيّ مبثوثة، وقطع من القماش مرقشة جميلة تزين الجدران، وستائر من الحرير مطرّزة تسدل على النوافذ، ومرآة كبيرة تقوم في إحدى الزوايا، كم وقفت أمامها تسرح شعرك السبط الوحف، وتبصر فيها وجهك الأزهر الناضر، وترتدي على هديها ملابسك الأنيقة الفاخرة، ثم تمس شعرك بشيء من العطر وتلتفت إليّ وتقول: إن أهنأ ساعات حياتي هي هذه التي أقضيها في هذه الغرفة، ففي هذه الغرفة أنسى متاعب التجارة وهموم الزراعة ومطل المدينين.

وحين أسمع ذلك منك أكاد أطير من النشوة والفرحة، فليس هناك شيء ألذ في سمع المرأة من أن تملأ آذانها كلمات الحب والثناء والإعجاب من زوج مخلص.

ومضى على تلك الحياة السعيدة الودود بضعة عشر عاما، ظلت الغرفة طوالها قادرة على أن تنسيك متاعب الزراعة والمزارعين، وهموم التجارة ومطل المدينين، على الرغم من أنها لم تسمعك هدهدة رضيع في الليل، ولا مناغاة وليد في النهار.

ص: 304

ثم بدأت الغرفة السعيدة بعد تلك السنوات المديدة تسمع كلمات جديدة، لم تعد الغرفة قادرة على أن تنسيك هموم العيش ولا متاعب الحياة، لم تعد كما كانت من قبل تتنفس عطرا وحبا وسعادة، بدأت الغرفة تسمع الشكاة من كثرة الأعمال وقلة الأعوان والأنصار، وبدأت الغرفة تردد صدى حسراتك من أن يتخطف الأباعد أموالك الواسعة وثمرات تجارتك اليانعة، وبدأت المرآة القائمة في إحدى زوايا الغرفة ترسم على وجهك القلق والخوف من أن يتلقف الأدنون جنى سعيك ونصبك وهم قائلون في الظل حرّ الصيف، وسامرون حول المدافئ زمهرير الشتاء وفهمت الغرفة المسكينة ماذا تعني، وأي شيء كنت تريد، فهمت أنك تريد الزواج والبنين بعد صمت تلك السنين.

وذات صباح غائم ماطر، وبينا أنا أعد طعام الإفطار، ونار الشتاء الدفيئة الجميلة في كانونها تتوهج، وإبريق الشاي على طرف منها يصفر وينذر، وقطع الخبز على طرف آخر تحمّر وتقمّر، وصحاف العسل والزبد والبيض والجبن والزيت والزيتون والسعتر تنتظر، وعيناي تنظران في جمرات النار كيف يعلوها الرماد بعد اتقاد، بينا أنا هذه الحال إذ طرق سمعي خفق نعالك وأنت تعبر الدهليز الممتد ما بين الدكان والغرفة، ورأى معك فتاة صبيحة الوجه، فارعة الطول، تمشي على استحياء، لم تجاوز ربيعها السادس عشر، وتقف على مقربة مني تقول:"انظري، كيف ترين؟! "وفهمت ما تعنين فقلت: "لا بأس، إذا أعجبتك".

ص: 305

ثم عدت بها من حيث أتيت، ورجعت بعد قليل إلى طعام إفطارك، وأنشأت تقول:"جاء أخوها يمتار لأهله، وجاءت معه لتشترى بعض الملابس، هي من أسرة فقيرة، وسوف ترى في هذه الحياة التي نحيا نعمة كبرى لم تكن لتخطر لها على بال، وهي _ كما يبدو _ خرقاء غير صناع، لا تحسن شيئا من أمور المنزل، وغريرة لم تجرب شيئا من أمور الحياة، فلن تلقي منها كيدا ولا غيرة ولا سخيمة قلب، وسوف تعيش معك خادما ليس لها إلا أن تسمع وتطيع، ولا يهمنا من أمرها سوى أن تنجب بأولاد يعينون على تصريف تجارتنا الواسعة، وتدبير زراعة أراضينا الشاسعة ويحفظون هذا المال من الهلاك والضياع".

وظننت هذا الكلام يخفف المصيبة التي أصابت، ويجعل الحياة تمضي سهلة راضية رخاء كما كانت عليه في السنين الخالية.

وتجلدت، وأظهرت لك الرضا، ونار الغيظ والغيرة في حشاي موقدة. ولم تمض غير أيام معدودة حتى وفدت علينا تلك الفتاة لتكون لك زوجا وأم بنين، ولتكون لي شجا في الحلق إذا ما أكلت، وحسك السعدان على فراشي إذا ما نمت.

وعلى ما كنت ألاقي من كيد وكمد وكبد، فقد غبرت على ما كنت عليه من قبل من إعداد طعامك الهنيء وشرابك المريء، والحفاظ على نظافة ثوبك وبيتك، ورعاية أموالك في غيبتك، مع تربية أولادك حين كانوا صغارا يدرجون في البيت، وتلاميذ يغدون على المدارس.

وما أنا بقائلة في تلك الضرة شيئا، وأنى يقبل لي فيها قول؟! ولكنك تعلم أن أخاها كان مدينا فأصبح دائنا، وكان يسكن بيتا من الطين، فأصبح ذا دور وأراض وبساتين في بضع سنين.

يا سبحان الله! خمسة وأربعون عاما وأنا أرعى بيتك وأربّ مالك، وأهذب زوجك وأربي عيالك، وأكابد ما أكابد ابتغاء رضاك، ثم يكون جزائي أن أنزع من بيتي كما تنزع قشور البرتقال، وأن ألفظ من داري كما يلفظ نوى التمر.

ص: 306

ما أعجب شأنكم أيها الرجال!! يجيء أحدكم إلى أهل الفتاة خاطبا وهو يموء كما تموء القطط من حول الموائد، حتى إذا نال ما تمنى ووجد الضالة التي ينشد، وأصبحت الفتاة له زوجة، نظر إليها كما ينظر إلى قطعة أثاث جديدة يزين بها بيته، أو إلى سلعة ذات نفع ومتاع فينتفع بها ويستمع، فإذا ما طال عليها العهد، ونسأل الله لها في الأجل، فوخط الشيب فوديها، وخدّد الكبر جبينها وعارضيها، نظر إليها كما ينظر إلى سيارة ذات طراز قديم، أو إلى متاع له في البيت أصابه العوار ومسته يد البلى، فما أسرع ما يطلق، وما أسهل أن يفارق.

وإذا ما سألت: فأين الدين وأين المروءة؟! وأين حقوق سنوات طويلة من التواد والتعاطف؟! كنت كمن يخاطب صخرة منصوبة أو جدارا قائما.

زوجي الذي كان

هذه رسالة أكتبها إليك، وأغلب الظن أنها لن تصل إلى يديك، سوف تمزقها الأيدي من حولك شرّ ممزق، وسوف تدوسها الأقدام من فوق التراب بغيظ وحنق، ولكنها على كل حال آهات امرأة مظلومة، ونزيف قلوب مكلومة، وأنفاس مطلقة عجوز تحتضر.

اللهم إني مظلومة.. اللهم إني مظلومة.. اللهم انتصف لي وانتصر، فليس لي في هذا العالم من ألوذ به سواك!!

انتهت الرسالة.

ص: 307

القرآن أساس الحكم الصالح

لفضيلة الشيخ محمود عبد الوهاب فايد

المدرس بكلية الدعوة بالجامعة

القرآن هو كتاب الله الخالد أنزله على رسوله الكريم ليوثق العلاقة بين الإنسان وربه وبينه وبين سائر المخلوقات حتى تنتظم عمارة الكون ويتم صلاح العالم.

أشاد القرآن بفضل الإنسان ونوه بمكانته فبين أن الله أعده لمنصب الخلافة قال تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [1] وقال: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ} [2] ومن يوم امتحن الله آدم وزوجه وهبط بهما إلى الأرض أعلنهما المولى بالقرار الإلهي الذي أصدره {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [3] .

ومن ذلك الحين توالت الرسالات وتتابعت الرسل ونزلت الكتب حتى انتهى الأمر إلى محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وإلى ما أنزل عليه من الكتاب المبين قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَاّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [4] .

وهكذا نفذ الله القرار الذي أعلن به آدم وزوجه ونسله فبعث الرسل وأنزل الكتب وأعان أهل الحق وخذل أهل الباطل.

ص: 308

وقد اتفقت دعوة الرسل في هدفها وطريقها فكلهم دعا وسعى بالحكمة والموعظة الحسنة لتوحيد القلوب ودفعها إلى الخير وتنفيرها من الشر والتوجه بها إلى إله واحد.

وفي دعوتهم هذه لم ينكروا بل لم ينكر الله عليهم أن ينالوا من الدنيا وطيباتها ما تقتضيه ظروف الحياة في حدود الاعتدال وفق ما رسمه الله قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [5] .

ولحكمة ما قدم الله ما أباحه للرسل من الطيبات على ما أوجبه عليهم من عمل وما كلفهم به من واجبات ليكون هذا باعثا لهم ولسائر الناس على إجابته والإسراع إلى طاعته شكرا لله سبحانه على ما أسبغ من نعمته بهذا جاءت الرسل واتفقت الرسالات فكلهم دعا إلى الله ورغب في العمل الصالح ولذلك أوجب القرآن أن نؤمن برسله جميعا دون تفريق فقال: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [6] .

وبهذا جمع القرآن الناس على مائدة واحدة، وربط قلوب بعضهم ببعض وأزال أسباب النفرة بين أهل الأديان الحقة، واتجه بهم إلى الله الواحد الأحد في وحدة متناسقة.

ومن فضل الله علينا أن القرآن وهو خاتم الكتب جمع بطريق العبارة أو الإشارة كل ما يحتاج إليه الناس وينهض بهم ويعالج شئونهم في كل نواحي الحياة، فهو آية كبرى، وحجة خالدة، وعقيدة صافية، وعبادة هادية وقانون تام وسياسة ناجحة، وإصلاح اجتماعي، ونظام دولي ودائرة معارف يعتمد عليها المسلمون في دينهم ودنياهم.

ص: 309

وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [7]{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} [8] .

نعم: لقد تمت النعمة وكملت المنة فنحن في غنى عن كل المبادئ والمذاهب والقوانين والدساتير الأجنبية شرقية كانت أم غربية.

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [9] .

إن الله الذي خلق الناس لم يدعهم هملا، ولم يتركهم سدى، بل شرع لهم شرائع، وسن لهم قوانين أوجب عليهم أن يلتزموها وألا يحيدوا عنها تطبيقا لقراره القديم:{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [10] .

ولا ريب أن ما شرعه الله أحكم وأنفع مما وضعه الإنسان فالمولى هو الذي خلق الإنسان، ويعلم ظاهره وباطنه وما ينفعه وما يؤذيه وما يلائمه وما يجافيه قال تعالى:{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [11] .

وقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [12] .

وقال: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [13] بل إنه سبحانه يعلم كل شيء في العالم الذي يعيش فيه الإنسان ويتأثر به قال تعالى: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [14] .

ص: 310

وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [15] .

وقال: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [16] .

فما قرره المولى في القرآن ينبني على حكم إلهية، وأسرار ربانية قال تعالى:{قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} [17] .

وأحكام الله سبحانه يسر لاعنت فيها ولا مشقة ولا كلفة فيها ولا حرج قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [18] .

وقال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} [19] .

وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [20] .

ولا عجب فالرحمة صفة من صفات الله الذي أوحى بهذه الأحكام قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [21] .

وقال: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [22] .

وهي صفة من صفات رسوله الذي نزلت عليه.. قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [23] .

وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [24] .

ص: 311

وصفة من صفات دستوره الذي نزل بها واشتمل عليها قال تعالى: {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ} [25] .

فالرحمة كما ترى _ أيها القارئ_ صفة من صفات الله.. وصفات رسوله وصفات كتابه، فلا بدع إذا رأينا آثار هذه الرحمة تتجلى فيما جاءنا من أحكام، وما ألزمنا به من تكاليف وحسب الباحث المفكر أن يقرأ فاتحة الكتاب ويتأمل هذا البدء العجيب الرائع ليرى كيف يفتتح الله القرآن بما يلقى عليه الهيبة، وما يبعد اليأس عن النفوس وبما يقيم الرابطة بين الإنسان وربه على أساس من الحب العميق والرحمة الشاملة التي وسعت كل مخلوقات الله فأول ما يقرع السمع {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فباسم الله صدر هذا الدستور، ولم يصدر باسم ملك متجبر ولا باسم أناس لهم هوى يتحكم فيهم، وشيطان يوسوس لهم، ونفس أمارة بالسوء.

نعم.. صدر باسم الله الذي تنزه عن الهوى وعن العبث وعن السفه.. صدر باسم الله ليكون له وقع في النفوس وهيبة في القلوب تحمل على اتباعه وتقديسه والابتعاد عن التلاعب به، لأنه صادر ممن بيده الملك وهو على كل شيء قدير، ممن يعلم السر وأخفى صدر هذا الدستور باسم الله الرحمن الرحيم. وهكذا يستقبلنا دستور الله باسميه الرحمن الرحيم ليذكرنا برحمته الواسعة، وليطمئننا على أن هذه الأحكام لاعنت فيها ولا مشقة لأنها صادرة من الرحمن الرحيم.

ويثني بعد ذلك المولى بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فمنزل القرآن هو صاحب النعم جليلها ودقيقها.. أُصولها وفروعها.. المستحق للحمد من جميع الخلائق فهو رب العالمين وليس رب المسلمين وحدهم بل هو رب المسلمين واليهود والمسيحيين وغيرهم من الخلائق يتعدهم بتربيته، ويتولاهم برحمته.

ص: 312

وبهذا المطلع يلقى في قلوب الناس جميعا الرضا والاطمئنان إلى أحكامه ومبادئه ففيها ما ينفعهم ويحميهم لا ما يضرهم ويؤذيهم، ومن لطف الله سبحانه أنه يعود بعد ذلك مباشرة فيقول {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فيضع العالمين بين رحمتين رحمة سابقة ورحمة لاحقة.. هذا هو مطلع القرآن وما يوحي به.

أما ختامه فهو إرشاد من الله لنا لنستعيذ به من كل ما يعكر النفوس ويهدد السلام ويثير الخصام ويفسد العلاقات.

في هذا الختام يعلمنا المولى كيف نستعيذ به من كل ما يوحي بالشر إنسيا كان أم جنيا قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} .

هذا هو بدء القرآن وهذا هو ختامه رحمة من الله تبعد عنا الشر وتجلب لنا الخير وتهدينا إلى الصراط المستقيم فما ظنك أيها القارئ الكريم بما يتخلله من أحكام ومبادئ.. هل يمكن أن تشذ عن هذا المطلع وهذا المقطع.؟

كلا.. إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم.

فإلى الذين يتهيبون الإسلام، ويتخوفون أحكامه نوجه إليهم هذه الكلمة فإن كانوا مخالفين لنا في الدين من اليهود والنصارى قلنا لهم: لا ترتاعوا واطمئنوا فالإسلام يطعمكم من جوع ويؤمنكم من خوف.

وطالعوا التاريخ يخبركم أن عمر بن الخطاب خرج ذات يوم فوجد يهوديا على باب مسجد يتكفف الناس.. فسأله من أنت؟ وما حالك؟ فقال: "يهودي من أهل الكتاب أسأل الحاجة والجزية والسن" فقال: "ما أنصفناك أخذنا الجزية وقت شبابك، وتركناك وقت هرمك"ثم أخذ به إلى أمين بيت مال المسلمين، إي والله إلى بيت مال المسلمين لا بيت مال اليهود. فقال عمر له:"انظر هذا وضرباءه فأعطهم ما يكفيهم وأهليهم بالمعروف".

ص: 313

كذلك يحدثنا التاريخ أن عمر بن الخطاب استدعى فاتح مصر ليحاسبه على جريرة ابنه، وليمكن للقبطي من ضرب ولده الذي أساء له وليقول له بعد أن اقتص منه القبطي هذه الكلمة التي دوت في الآذان، ووعتها الأذهان على مر الزمان "يا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا".

هكذا أطعمهم الإسلام من جوع وآمنهم من خوف وحماهم من ظلم، وحافظ على حرياتهم.

(وبعد) فواجب على المسلمين في أنحاء العالم أن يعودوا إلى كتاب الله ويحلوا حلاله ويحرموا حرامه، ويقيموا أحكامه، عليهم أن يحتكموا إلى الشريعة الإسلامية ففيها ما يغنيهم عن القوانين الأجنبية، عليهم أن يأخذوا بالكتاب كله حتى لا يكونوا ممن قال الله فيهم:

{وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} .

إلى أمثال هؤلاء الذين يتجاهلون أحكام الله أو بعض أحكامه، ويرتابون في حدوده نوجه إليهم هذا السؤال:

هل ترون أن كتاب الله انتهت مهمته، وانقضت مدته وأحيل إلى المعاش والتقاعد فلا وظيفة له اليوم بين الناس لأن ما جاء فيه من أحكام الربا والحدود لا يمكن على زعمكم تطبيقه، ولا يتيسر تنفيذه؟

إذن فلماذا ضمن الله له الخلود والبقاء فقال:

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [26] .

هل حفظه الله ليستجدى به الناس على قارعة الطريق، أو ليودع في دار الآثار على أنه أثر عتيق؟؟!.

كلا: بل حفظه الله ليهدى الناس إلى صراط مستقيم، وليحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون قال تعالى:

{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [27] .

وقال سبحانه:

ص: 314

{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [28] .

وقال عز وجل:

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [29] .

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

سورة البقرة آية 30.

[2]

سورة الأنعام آخر آية فيها.

[3]

سورة طه 123 _ 126.

[4]

سورة فاطر 24_26.

[5]

سورة (المؤمنون) 51، 52.

[6]

سورة البقرة 136.

[7]

سورة النحل 89.

[8]

سورة المائدة 3.

[9]

سورة يونس 57، 58.

[10]

سورة طه 123، 124.

[11]

سورة الملك 14.

[12]

سورة ق 16.

[13]

سورة النجم 32.

[14]

سورة الإسراء 55.

[15]

سورة المجادلة 7.

[16]

سورة الحديد 4.

[17]

سورة الفرقان 6.

[18]

سورة البقرة 185.

[19]

سورة البقرة 286.

[20]

سورة النساء 28.

[21]

سورة الحج 65.

[22]

سورة الأعراف 156.

[23]

سورة التوبة 128.

[24]

سورة الأنبياء 107.

[25]

سورة الأنعام 157.

[26]

سورة الحجر 9.

[27]

سورة الأنعام 19.

[28]

سورة المائدة 49، 50.

[29]

سورة الأحزاب36.

ص: 315

رسالة إلى بيروت

لفضيلة الشيخ محمد مصطفى المجذوب

المدرس في كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة

ماذا أسمع؟ .. ماذا يقول هذا المذيع المشئوم!

النار تلتهم أحياء بيروت.. لقد عجزت فرق الإطفاء عن تحديد مواطن النيران، فوقفتْ جامدة حائرة

مستشفيات بيروت، التي كانت حتى أمس القريب، مقصد المرضى والزمنى، يزحفون إليها من كل صوب طلبا للبرء.. تعلن اليوم في هلع رهيب أن لا دواء لديَّ ولا غذاء.. ولا موضع لجريح جديد..

إنه - المذيع - يستنفر الناس الذين ينتظرون مناياهم بالرصاص الطائش.. والصواريخ العمياء

والقذائف الشيطانية.. يستصرخهم ليخرجوا من جحورهم إلى ما بقي من الشوارع، كي يرفعوا عقائرهم بالاحتجاج على العابثين بأرواح الناس.. المفجّرين سدود الموت لتجرف الآلاف بعد الآلاف من الضعفاء والمساكين والجائعين

أحقا حدث كل هذا؟

أم أنه كابوس ثقيل يسد علىّ المسالك، فلا أجد سبيلا للتخلص من إيحائه الفاجع.. وهوله الرهيب!

من يصدق هذه الأنباء التي أسمع؟

من يصدق يا بيروت، يا من يحلو للكثيرين أن يسموك عروس التوسط، أن شوامخك الغارقة في سكرة الخيلاء

ومقاصفك الغائصة في بحار الأهواء، وملاهيك التي حشدت كلَّ مصايد الإغواء، ومتاجرك التي استحالت معارض لأفانين الأزياء، ومصانعك التي تقرع بأزيزها الفضاء صباح مساء.

من يصدق يا بيروت أن هذا كله قد صار ركاما أو يكاد

وأن المتخمين الذين طالما استطالوا بهذه المتارف على المحرومين، قد ساووا في جحيم هذه الكوارث بني غبراء، فعادوا كما خُلقوا لا يملكون نقيرا ولا قطميرا

يزعم مذيعو السوء أنها الأحقاد الدينية تترجم عن نفسها بهذه المجازر الطائفية بين النصرانية والإسلام

ص: 316

أحقا قد استحال الدين في واقعك يا بيروت أحقادا تدمر كل شيء، وقذائف تمزق أجساد المجرمين والأبرياء على السواء. سواء كانوا شيوخا أو أطفالا أو نساء!

لقد طالما أشاع رهبان المسيحية وأحبارها أن دينهم محبة ورحمة وتسامح حتى لو ضُرب أحدهم على خده الأيسر لأدار لضاربه الخد الأيمن

وشهد قرآن المسلمين لأهل هذا الدين الحق أنهم أقرب الناس مودة للذين آمنوا.. {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} .

فكيف انقلبت هذه المثالية المسيحية رأسا على عقب، حتى لتستحيل بيوت المنسوبين إليها ثكنات شيطانية، تدرب الشباب البريء على أحدث وسائل القتل والفتك، ليقطعوا الطريق على الغافلين، فيحصدوا منهم العشرات على حين غرة ودون أي ذنب اقترفوه!..

والإسلام الذي من أبرز شعائره: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} . {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} .

هذا الدين الرباني، الضامن لسعادة الجنس الإنساني.. كيف استحال معولا لتخريب الحياة، وسكّينا لتقطيع الأرحام وأداة لاجتثاث العلائق البشرية.. حتى ليستبيح بعض الزاعمين النسبة إليه إيثار الموت على الحياة، والفساد على الصلاح، ونشر الخراب والرعب على السلم والأمن والبر!

لا أكاد أصدق هذا يا بيروت.. بل إني لأقطع جازما أن الذين يقدمون على هذا الضرب من الجرائم ليسوا في الحقيقة سوى أعداء ألداء للمسيحية والإسلام.

ص: 317

إنها الغرائز الخسيسة، والعصبية الضريرة، هما اللتان تعهدتا إنشاء ذلك الجيل منذ أربعين سنة على القواعد الصليبية، التي دمرت أمن هذه الديار هبل ثمانية قرون، وتريد أن تعيد اليوم دور أسلافها من جديد

ومن أجل تحقيق هذه الغاية الرهيبة تأبى الاعتراف للآخرين من المواطنين بأي حق في المساواة الإنسانية، والعدالة التي لإبقاء لدولة أو أمة تخلت عنها..

وإنها كذلك للغرائز نفسها التي تجردت من سماحة الإسلام، وفتحت وجودها لسموم المذاهب الهدامة التي لا يسرها شيء مثل القضاء على المسيحية والإسلام.. هذه الغرائز هي نفسها التي تنطلق اليوم بكل طاقاتها المدمرة لنسف كل شيء، حتى بقية الوشائج الخيّرة التي تربط بين الإنسان والإنسان.. ثم لا تخجل من الادعاء أنها بذلك إنما تدافع عن حقوق المظلومين، وهي التي تكتسح الظالمين والمظلومين أجمعين

إن حزني عليك يا بيروت لكبير كبير، يعجز القلم عن تحديد مداه..

وإن ألمي من هؤلاء الغدارين الذين يغتالون أمنك، ويعرضون سكانك لأقسى ألوان الشقاء والتعاسة، لأضخم وأثقل من أن يحتمل أو يتسع لتعزية

ولكن حزني على كبره، وألمي على ثقله، لن يشغلاني عن هذا التساؤل: ألم يعد بين رجالك وزعمائك من رشيد يدلك على المخرج من هذا البلاء الطام؟

أطاشت عقول ناسك، فلا تهتدي إلى النور، ولا تتفق على الحل السليم!

طالما زعم الفارغون من أدعياء البيان في لبنان أنه بلد الإشعاع، وطالما أعلنوا باللافتات الكبيرة ((أن لبنان دائما على حق)) في كل ما يأتي وما يذر

فأي نور ذلك الذي يعجز عن التخفيف من هذه الظلمات؟

وأي حق في هذا التصرف الذي ينكره صغار الأطفال فضلا عن كبار الرجال!

يا بيروتنا الغالية

لا أريد أن أجاملك فأكتفي بالبكاء والنحيب عليك..

إن الكارثة لهائلة.. وإن ما يتوقع من كوارث وراءها لأهول وأعم

ص: 318

ولكن في ذلك كله لَنُذُراً، من حقها أن تهب للمفكرين المتألمين عبراً

لقد حاول بعض العابثين من نزلائك يا بيروت أن يرد أسباب محنتك إلى التفاوت بين طبقاتك، كدأب المضلّلين ممن لا ينظرون إلى الحياء وأحداث التاريخ إلا من خلال الخبز.. لأن أدمغتهم قد غسلت من أثر القيم، فلم تعد تفهم القول الحكيم "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.. بل بكل كلمة تخرج من فم الله [1] ".

إني لأتأمل حاضرك وماضيك، فتقفز إلى ذاكرتي صور سدوم وبومبي وأغادير [2] . . وعشرات المدن والأمم التي {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} .

هل تستطيعين أن تزعمي أنك كنت خيرا من هذا المدن التي ندّت عن سنن الله، وتجاوزت كل حد في حربها لشرائع الله؟

ألم تجربي كل ألوان المعاصي التي خاضتها هذه الفواسق وأخواتها

بل لقد أسرفت في إبداع ضروب من الانحراف عن مهيع الفضيلة لم تخطر في أخيلة أي منها

فكيف تستغربين إذا جنيت بعض ما كنت تزرعين؟.

هل تذكرين يوم جورجينا رزق يا بيروت؟

جورجينا تلك المستخدمة التي انتدبها لبنان لتمثيلها في أكبر مهزلة للدعارة العالمية، وقد راقت معالمها الجسدية قادة المهزلة فتوجوها ملكة لجمال العالم

ثم أقبل عليها دعاة الفجور يلتقطون صورها ويستفتونها في قضية المرأة، فكان من مفاخر الحكم التي سجلت لها آنذاك: إن على الفتاة ألا تتزوج حتى تجرب الرجال.. ومع ذلك ملأت سيارات مستقبلي عودتها الشارع الموصل لمطارك حتى كادت تحول دون مرور المسافرين الجادّين.

ولم تكتفي يا بيروت بذلك التحدي للأخلاق يومئذ حتى قام رئيسك الأعلى بدعوتها إلى مأدبته، تكريما للمخلوقة التي عززت قيمة لبنان في أسواق النخاسة الدولية!.

ص: 319

وقبل أيام قليلة، والدماء لم تجف من أحيائك، والنار لم تخمد في صروحك، والدمار لم يجرف من شوارعك.. انطلق مذيع (كبير) يبشر السائحين باستتباب الأمن، ويحاول اجتذابهم إلى مصايفك، فلم يجد أروع من الفواحش يزيّنها لهم ففي مكان كذا حفلة راقصة حتى الفجر وفي قرية كذا سيجري انتخاب ملكة للجمال. وو..وما إلى ذلك من دعوات شيطانية، لم يخجل من ترديدها وهو يعلم من أعماق قلبه أنك ولبنان كله تعيشين في ظلال الرعب والموت.

فانظري وفكري وتأملي يا بيروت.. هل ترين أي تبدل بين موقفك اليوم وموقفك أمس!.. ألست مستمرة في طريق الضلال حتى وأنت تقاسين أنواع النكال..!!

لقد نسي حكامك، ومتزعموك ومترفوك أنهم مخلوقون لله، وأنهم مسئولون أمام الله، وأن السبيل الوحيدة لاستبقاء النعم ولسلام الحياة لا يكون إلا بالتزام القيم الفاضلة التي يحبها الله.. وسكت السواد الأعظم من بنيك عن هذا الانحدار الذي يتدافع فيه الكبار، بل سلكوا وراءهم مزالقهم.. فكان عين العدالة أن تستقبلي عقاب الله، الذي تصطلين اليوم لظاه..

يا أخت سدوم وبومبي

لقد رضيت أن تكوني معبر التخريب الخلقي، الذي تصدره مخابر الفكر اليهودي إلى هذا الشرق.. فكل دعوة للإلحاد فعن طريقك، وكل ثورة بالفضيلة فمن صحفك.. وكل هجوم على تراث النبوة فمصدره الأقلام الملوثة، التي اتخذت منك منطلقا ومقرا.

ولقد استشرى فيك وفي ما حولك هذا الوباء، فلم تتورعي أن ترفعي إلى مجالس السلطة العليا مُصَدّري الحشيش الذين استطاعوا أن يرفعوا لك أكبر اللافتات العالمية في أسواق هذه التجارة الشيطانية.. ولم تستثني من هذه المناصب صعاليك الوجودية، الذين يؤثرون التشرد الجنسي على اللقاء الشرعي، ثم لا يتهيبون أن يجهروا بذلك على صفحات الصحف، فيعلن بعضهم بكل فخر، أنه لم يتزوج بعد، ولكنه يتخذ صديقة على طريقة سارتر وبوفوار..

ص: 320

وبينما يستعلن فيك كل هذا الفجور والثبور، بوقاحة لا تعرف السدود ولا الحدود، يقف الحق يتيما بإزاء ذلك، فيوشك ألَاّ يجد وسيلة للتعبير عن نفسه إلا في أضيق نطاق وأخفض صوت.. ولولا قلة _ لا تكاد ترى _ من الثابتين منك على سبيل المؤمنين، لم يجد مسمعا يصغي إليه، ولا ضمير ايحرص عليه.. ومع ذلك لا تسلم هذه القلة الراشدة من مفتريات الكثرة الزائفة، فتقذفها بكل منكر من التّهم، لِتُحكم الحصار على عقول العامة فلا تعرف إلى نور الحقيقة سبيلا

أبكل هذا الإصرار على الكبائر يا بيروت تبارزين مولاك، الذي أحاطك بأصناف النعم، وساق إليك من اليسر ما تغبطك عليه الأمم؟ .. ولو قد نفعك علمك الذي تدَّعين، لأيقنت أن العذاب المهين أقل ما تستحقين، ولولا تلك البقية من الركّع السجود، لما تأخر يومك الموعود، ولكنت من زمان خارج نطاق الوجود

{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} .

إيه يا بيروت الغالية..

إن مأساتك لَمُروّعة مفتتة للقلوب.. ولكني أخشى أن تكون الحلقة الأولى في سلسة طويلة من أشباهها أو أكبر منها..

لكأني استشف من خلل الغيب مصاير دامية كمصيرك الرهيب، تلف بأعاصيرها ربوعا من وطني الكبير الحائر، تسللت إليها أفانين من سموم حياتك الصاخبة بالخلاعة والترف والتكالب على الشهوات فهي اليوم تمضي مسرعة في الطريق نفسه الذي تسلكين، لتنتهي إلى الهاوية نفسها التي فيها تتخبطين

لن ينفعك يا بيروت في محنتك المرعبة أسطول يهبط عليك من الغرب، ولا صواريخ يمطرك بها الشرق، ولا مؤتمرون يتباكون عليك، وسكاكينهم تعمل في أحشائك، يعلنون التهادن فيما بينهم، ليعودوا إلى الفتنة أوفر استعدادا، وأشد عنادا

ص: 321

إنما ينفعك فقط أن تحاسبي نفسك على ما فرطت في جنب الله، فتتذكري أن العدالة والمساواة في الحقوق الإنسانية هما الحصانة الروحية من نِقماتِه، والوسيلة الوحيدة للتفاهم والتعاون بين عباده، ثم تُقلعي عن حربك لربك بالتوبة إليه، والجثوّ بين يديه..

لقد جربت المعصية يا بيروت زمنا طويلا..

فهلا جربت الطاعة ولو قليلا!..

وأخيرا.. أيتها العزيزة المغلوبة..

اسمعي إلى هذا القانون الأزلي يخاطب به الله كل ذي لب من خلقه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً..} ، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِب..} .

لقد وضح الطريقان، فاختاري لنفسك المعيشة الضنك التي تصارعين، أم المخرج الآمن الذي إليه تتلهفين!..

ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

عاقبة الظلم

ما تصنعون بمال وردة فيكم؟ .

صَغُر البنون وآلُ وردة غيَّبُ

قد يبعث الأمر الكبير صغيرُه

حتى تظل له الدماء تصبَّب

والظلم فرَّق بين حيي وائل.

بكر تساقيها المنايا تغلب

طرفة بن عبد

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

العبارة من صحف أهل الكتاب، وإنما أوردها الكاتب لما فيها من دلائل الإجماع على أن الحياة الحقة لا تكون إلا بكلام لله الحق.

وأما تعبيرهم بفم الله عن كلامه سبحانه فهو مما لا يقره الكاتب لأنه غير وارد في المصادر الإسلامية. ولهذا اقتضى التنبيه. المجلة "

[2]

سدوم من مدائن لوط، وبومبي: مدينة رومانية في إيطاليا دمرها الله بحمم البركان عام 79م وكشفت آثارها في القرن الثامن عشر م وأغادير مدينة سياحية في المغرب قضى الزلزال عليها قبل سنين، وكل هذه المدن كانت غارقة في الفسوق.

ص: 322

توحيد الله (2)

لفضيلة الشيخ عبد الله أحمد قادري

المشرف الاجتماعي بالجامعة

توحيد الألوهية

تعريفه: هو إفراد الله تعالى بالعبادة، ولذلك يسمى بتوحيد العبادة أيضا، كما يسمى بتوحيد القصد والطلب.

والسبب في تسميته بتوحيد الألوهية تعلقه بألوهية الله ووحدانيته، كما قال تعالى:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، وقال:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ} .

والسبب في تسميته بتوحيد العبادة، أو توحيد القصد والطلب هو وجوب إفراد العبد ربه بعبادته وقصده إياه وحده، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} .

فالله تعالى متفرد بالألوهية - فلا إله سواه - ويجب على الخلق أن يفردوه بعبادتهم.

قال الأستاذ سيد قطب رحمه الله في كتابه (خصائص التصور الإسلامي) : "يقوم التصور الإسلامي على أساس أن هناك ألوهية وعبودية: ألوهية يتفرد بها الله سبحانه، وعبودية يشترك فيها كل من عداه وكل ما عداه، وكما يتفرد الله سبحانه بألوهية، كذلك يتفرد - تبعا لهذا - بكل خصائص الألوهية وكما يشترك كل حي - وكل شيء بعد ذلك في العبودية، كذلك يتجرد كل حي وكل شيء من خصائص الألوهية. فهناك إذن وجودان متميزان: وجود الله ووجود ما عداه من عبيد الله والعلاقة بين الوجودين هي علاقة الخالق بالمخلوق والإله بالعبيد"اهـ (ص213) .

وهذا القسم من أقسام التوحيد هو الذي أنزل الله من أجله الكتب وأرسل الرسل، وفيه وقع الخصام بينهم وبين المشركين من قومهم في كل زمان.

فما أرسل الله من رسول إلا دعا قومه إليه، بل هو أول نداء لكل رسول إلى كل أُمة، وقد أوضح القرآن الكريم ذلك إجمالا وتفصيلا.

ص: 323

فقال على سبيل الإجمال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} . (الأنبياء 25) وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: 36) .

وقال على سبيل التفصيل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} إلى قوله {فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِينَ} . (الأعراف: 59-64) .

وقال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} . إلى قوله: {وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} . (الأعراف: 85-91) .

وقال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} الآيات إلى قوله: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ} إلى قوله: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} الأعراف: (65-72) .

ص: 324

وقال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} إلى قوله: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} . إلى قوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} (الأعراف: 73-78) .

وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} (الأنعام: 80) .

وقال تعالى عن يوسف عليه السلام: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَاّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (يوسف: 39_40) .

وقال عن موسى عليه السلام: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً وأنا أخترتك وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} . (طه: 9-14) .

ص: 325

وقال عن عيسى عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَاّمُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَاّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} (المائدة:116- ومن آية 117) .

وقال عن نبينا عليه الصلاة والسلام: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ} . (الأعراف: 158) .

وبهذا يتضح أن تحقيق هذا النوع من أنواع التوحيد كان هدف جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه بالبداءة به في الدعوة، كما قال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه:"إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله"، وفي رواية:"إلى أن يوحدوا الله".

وسبب ذلك أن توحيد الألوهية هو الأساس الذي تقوم عليه جميع شرائع الإسلام وكل عمل صالح ما هو إلا ثمرة له.

قال الأستاذ المودودي وفقه الله في كتابه: (مبادئ الإسلام) :

"وهذا الإيمان بألا إله إلا الله هو الركن المهم الأساسي من تعليم النبي صلى الله عليه وسلم وهو مركز الإسلام وأصله ومصدر قوته، وكل ما عداه من معتقدات الإسلام وأحكامه وقوانينه إنما تقوم على هذا الأساس نفسه، ولا تستمد قوتها إلا منه. والإسلام لا يبقى منه شيء لو زال هذا الأساس من مكانه"اه .

ص: 326

قلت ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى في أعمال الكفار: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} (الفرقان: 23){مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} (إبراهيم:18) .

وهكذا يجب أن يكون تحقيق توحيد الألوهية والدعوة إليه وموالاة أهله، ومعاداة خصومه هدف كل داع إلى الله اقتداء بالرسل عليهم الصلاة والسلام ولا سيما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

وقد سبق أن توحيد الربوبية كان دليل الرسل على توحيد الألوهية ولم يكونوا يدعون الناس إلى الأول - الذي هو الدليل - لأن الناس كانوا مقربين به إذ ذاك، ولكن طائفة الملحدين في هذا العصر أنكرت هذا النوع من أنواع التوحيد (توحيد الربوبية) ، ولهذا يجب التركيز عليه وإبراز الحجج العقلية والنقلية عليه لشباب المسلمين وغيرهم لأنه لا يمكن إقناع الملحد بتوحيد الألوهية ما لم يقتنع بتوحيد الربوبية، لأن الثاني دليل الأول، قال تعالى:{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} .

وهذا هو معنى: {لا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ} التي لا يصح إسلام أحد بدونها. كما قال صلى الله عليه وسلم: "أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها"، وقال:"بني الإسلام على خمس: شهادة ألا إله إلا الله"الحديث وقال لمعاذ: "فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله الله".

معنى لا إله إلا الله.

الإله معناه المعبود الذي يخضع له ويذلك ويحب.

ومعنى: لا إله إلا الله: لا معبود بحق إلا الله.

وهذا القيد: (بحق) يخرج كل ما عبد من دون الله لأن عبادة غير الله ليست بحق كما هو واضح.

ص: 327

فمن عبد الله فقد عبده بحق، ومن عبد غيره فقد عبده بالباطل والضلال، كما قال تعالى:{فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَاّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} .

ولهذه الكلمة ركنان:

الأول: نفي الألوهية عما سوى الله.

والثاني: إثبات الألوهية لله وحده.

شروط هذه الكلمة:

وقد ذكر العلماء لهذه الكلمة - أي لصحة إسلام من نطق بها - شروطا كثيرة ومنها:

الشرط الأول: العلم بمعناها، فلو قالها الكافر دون أن يعلم ما دلت عليه لا يكون بذلك مسلما، قال تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ} . وقال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وفي الحديث: "من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة".

ومقتضى العلم بـ (لا إله إلا الله) الالتزام بما دلت عليه من نفي وإثبات ولقد جهل كثير من المسلمين معنى هذه الكلمة التي يرددها المؤذنون من على رءوس المآذن في جميع المساجد كل يوم مرات ومرات وتنقلها الإذاعات فيسمعها القاصي والداني، ويكررها المصلون في تشهدهم في كل صلاة، ويواظب عليها الذاكرون في أورادهم صباح مساء، أقول: لقد جهل المسلمون معنى هذه الكلمة جهلا فاضحا حتى أصبحوا يرددونها بدون وعي لما دلت عليه، ولذلك تراهم يخالفون مقتضاها مخالفة قد تخرج الكثير منهم عن الإسلام وقد تبعد كثيرين عن فرائضه.

فمنهم من خالف ما دلت عليه في الاعتقاد كمن يدعو غير الله ويذبح له أو يجعل لغيره حق التشريع فيما يخالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ومنهم من يخالف ما دلت عليه - عملا - كمرتكبي الزنا وشرب الخمر والتعامل بالربا وغير ذلك مما يدخل في الأول والثاني.

ص: 328

ولقد كان المشركون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمون معنى هذه الكلمة فلا ينطق بها إلا من تجرد عن كل ما سوى الله وأخلص له الدين فنبذ لك اعتقاد أو عمل أو قول من أمور الجاهلية، وإلا بقى على شركه مستنكرا مضمونها كما قال تعالى:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} عكس ما عليه كثير من المسلمين في الأزمان المتأخرة حيث تجدهم يخالفهم ذلك المضمون وهم يدعون أنهم مسلمون.

الثاني: اليقين الذي ينفي الشك، بأن يكون قائلها على يقين بما دلت عليه دون تردد ولا ارتياب، كما قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} . (الحجرات: 15) .

ومن قال: لا إله إلا الله وهو مرتاب فهم منافق كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} (التوبة:45) .

وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشهد ألا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة". وعنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه بنعليه فقال: "من لقيت من وراء هذا الحائط يشهد ألا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة".

ص: 329

الشرط الثالث: قبول ما دلت عليه وعدم رده، فمن رد ذلك لا يكون مسلما كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} . (الزخرف: 23-24) .

الشرط الرابع: الانقياد لها، أي الاستسلام لله تعالى وترك العناد والاستكبار قال تعالى:{وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} وقال: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} والعروة الوثقى: لا إله إلا الله.

وقال تعالى في تاركي مدلولها والمستكبرين: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} .

ص: 330

الشرط الخامس: الصدق، أي أن يكون قائلها صادقا في قولها بأن يواطئ قلبه لسانه، كما قال تعالى:{أَلم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} . فإذا قالها الشخص وهو غير صادق في قولها فهو منافق، كما قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَاّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} وقال: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} .

وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"ما من أحد يشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله صدقا من قلبه إلا حرمه الله النار"، وقال لضمام بن ثعلبة:"أفلح إن صدق" بعد أن قال ضمام والله لا أزيد عليها ولا أُنقص يعني أركان الإسلام.

ص: 331

الشرط السادس: الإخلاص، وهو تصفية العمل بالنية الصالحة عن جميع شوائب الشرك كما قال تعالى:{أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وقال: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} وقال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا إِلَاّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه".

وعن عتبان بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله عز وجل".

الشرط السابع: المحبة: أي محبة هذه الكلمة وما تقتضيه من نفي الشرك وفروعه ومحبة أهلها العاملين بها (وكذلك بغض أعدائها)، كما قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّه} ، وقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} .

وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان.. أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار".

ص: 332

وعلامة محبة المرء لهذه الكلمة وما تقتضيه متابعته للرسول صلى الله عليه وسلم في امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} وتسمى هذه الآية آية المحنة، لأن الله امتحن بها من ادعى المحبة كما هو واضح.

وما أكثر من ادعى هذه المحبة وهو عنها بعيد.

وكل يدعي وصلا لليلى.

وليلى لا تقر لهم بذاكا.

فإن توفرت هذه الشروط في قائل: لا إله إلا الله أثمرت فعل الواجب - والمندوب - وترك المحرم - والمكروه - وقد يقع قائلها في ترك واجب أو فعل محرم فإن تاب تاب الله عليه وغفر له، ومن لم يتب فهو تحت المشيئة الإلهية، إن شاء الله غفر الله له وأدخله الجنة وإن شاء عذبه بقدر ذنبه ثم أدخله الجنة، فدخول الجنة للموحد مقطوع به.

ويتضح مما سبق من النصوص الرد على ثلاث طوائف:

الطائفة الأولى: زعمت أن مجرد معرفة القلب كاف في ضمان دخول الجنة استدلالا بمثل قوله صلى الله عليه وسلم: "من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة".

وهو زعم مردود، لأن (لا إله إلا الله) كما قيدت بالعلم قيدت بغيره كالنطق بها والإخلاص لله.

الطائفة الثانية: زعمت أن مجرد إظهار الشهادتين كاف في دخول الجنة، وإن لم يحصل اعتقاد، وهم غلاة المرجئة استدلالا بمثل قوله صلى الله عليه وسلم:"من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة".

ص: 333

الطائفة الثالثة: زعمت أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار وإن قال لا إله إلا الله بقيودها المذكورة، وهم الخوارج والمعتزلة، وهو مردود كذلك بدليل حديث أبي ذر رضي الله عنه قال:"أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم عليه ثوب أبيض ثم أتيته فإذا هو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ فجلست إليه فقال: "ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، قلت: وإن زنا وإن سرق؟ قال:"وإن زنا وإن سرق"قلت وإن زنا وإن سرق؟ قال: "وإن زنا وإن سرق"، ثلاثا ثم قال في الرابعة:"على رغم أنف أبي ذر". والله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} .

ص: 334

العيد في الإسلام معناه وحقيقته

لفضيلة الشيخ محمد أمان علي

المدرس بكلية الشريعة بالجامعة

شرع الله للمسلمين عيدين اثنين في الإسلام لا ثالث لهما فشرع كل عيد بعد عبادة عظيمة وركن من أركان الإسلام.

أحدهما عيد الفطر، والآخر عيد الأضحى.

أما عيد الفطر فقد شرع في أول يوم من شهر شوال بعد الفراغ من عبادة الصيام والقيام وغيرهما من أنواع القربات التي يتقرب بها العباد إلى الله في شهر رمضان المبارك.

أوجب الله تعالى صيام هذا الشهر المبارك وجعله ركنا من أركان دين الإسلام ورتب عليه أجرا لم يرتبه على عبادة سواها- إذ يقول الرسول عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربّه: "قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" وفي رواية البخاري: "يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي".

يا لها من إضافة ما ألطفها وما أعظم شأنها "إلا الصوم فإنه لي" إضافة تدل على إكرام الله لعبده الصائم وتشريفه إياه إذ يضيف الرب تعالى عمل عبده إلى نفسه عز وجل ويخبر أن الصوم له وأنه سوف يجزي عليه عبده جزاء لا يقدر قدره إلا الله سبحانه تفضلا وإحسانا إنه جواد كريم، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:"من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه"، كما صح عنه قوله عليه الصلاة والسلام:"من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه".

هكذا شرع الله لنا الصيام ورتب عليه ذلك الجزاء - جزاء الصابرين {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} كما شرع فيه قيام لياليه سنة مؤكدة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم..

ص: 335

وفي ختام هذه النعمة العظيمة التي امتن الله على عباده شرع لهم عيد الفطر.. يفطرون فيه بعد أن كانوا صائمين ويتمتعون فيه بطيبات أحلها الله لهم ويخرجون إلى المصلى بأجمل ما لديهم من اللباس مكبرين الله تعالى ومهللين وحامدين شاكرين هكذا حتى يصلوا ركعتي العيد.

فعيد الفطر إذا شكر لله تعالى على تلك النعمة الجسيمة التي سبق أن وصفناها آنفا هكذا يتم العيد ثم ينصرفون من المصلى بعد أن استمعوا إلى الخطبة التي تلقى بهذه المناسبة العظيمة.. ينصرفون وقد غمرهم الفرح بنعمة الله تعالى - وفقهم إلى الصيام فصاموا فيسر لهم القيام فقاموا ثم أدوا صلاة العيد شكرا لله على هذا التوفيق والتيسير.

نعم ينصرفون من مصلى العيد يهنئ بعضهم بعضا بالعيد السعيد هكذا ينتهي العيد ليتبعوا صوم رمضان بست من شوال تطوعا لعل الله يجبر بصوم الست من شوال ما قد يحصل من النقص والخلل في صيام رمضان بل ليكون الصائم بذلك كصائم الدهر. إذ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان واتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر". ولئلا تتمادى به فرحة العيد إلى حد الإسراف والترف.

هذا هو عيد الفطر - وهذا معناه وحقيقته والله وأعلم.

ص: 336

وأما عيد الأضحى فقد شرعه الله لنا بعد عبادة - هي بحق جهاد لا قتال فيه. وهي عبادة حج بيت الله الحرام وقد صح هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها عند البخاري حين سألت رسول الله عليه وسلم: "هل على النساء من جهاد؟ "فقال عليه الصلاة والسلام: "عليهن جهاد لا قتال فيه.. الحج والعمرة". وقبيل الانتهاء من أعمال هذه العبادة العظيمة، حج بيت الله الحرام شرع الله لعباده عيد الأضحى في العاشر من ذي الحجة بعد أن منَّ الله على حجاج بيته بوقوف يوم عرفة متضرعين تائبين خاشعين. وبعد أن أدى غير الحجاج في ذلك اليوم عبادة الصيام. الصيام الذي يكفر الله به السنة الماضية والسنة الباقية. فهو عيد عظيم بعد يوم عظيم يوم شكر لله المنعم المتفضل على ما أنعم به من حج وصيام، وفي هذا اليوم يتقرب عباد الله إلى الله حجاجا كانوا أو غير حجاج بذبح الهدى والأضاحي ليطعموا البائس الفقير بعد أن يأكلوا منها ما تيسر لهم اتباعا لنبيهم محمد عليه الصلاة والسلام وشكرا لربهم، ويقضون هذا اليوم وثلاثة أيام بعده في ذكر الله تعالى مع التنعم والتمتع بطيبات أحلها الله لهم من الطعام والشراب والطيب وغير ذلك من نعم الله التي لا تعد ولا تحصى، هكذا تتجلى المعاني السامية والحكمة البالغة في العيدين الإسلاميين عيد الفطر، وعيد الأضحى.

ص: 337

وأما تلك الاحتفالات المبتدعة في مناسبات مختلفة التي ابتدعها بعض الناس بعد انقراض القرون المفضلة المشهود لها بالخير. ابتدعوها ثم أطلقوا عليها اسم (أعياد إسلامية) فليست من الإسلام في شيء بل هي محدثة وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. وهي بعد ذلك كله مجالات لاختلاط الجنسين وميدان للفساد الخلقي ولهو ولعب.. دفوف وطبول ورقص وتصفيق.. وهكذا إلى آخر الأعمال الجاهلية التي يعرفها كل مطلع. وإطلاق اسم (أعياد إسلامية) بعد هذا كله على هذه الاحتفالات المبتدعة يعتبر في نظري جناية على الإسلام. وهو أمر لا يخفى على كل ذي بصيرة في دينه ودارس للفقه الإسلامي، ومن أمثلة تلك الاحتفالات المبتدعة الاحتفال باسم (المولد النبوي) والاحتفال: بليلة الإسراء - وبليلة النصف من شعبان - وأخيرا أُضيفت أعياد جاهلية أُخرى كعيد الحسين - وزينب وعيد البدوي، وغيرها من الاحتفالات الجاهلية التي زينها الشيطان لأهلها وللأسف الشديد أن عوام المسلمين وأشباه العوام أنشط في إقامة هذه الاحتفالات منهم في أداء الفرائض والعبادات المشروعة والله المستعان.

ص: 338

نداء من الجامعة الإسلامية

عدوان جديد من اليهود على المسجد الإبراهيمي بمدينة الخليل

إن عداء اليهود للإسلام والمسلمين قديم ومستمر بينه القرآن الكريم في قوله تبارك الله وتعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} وسجل التاريخ أحداثا وصورا لا تحصى لهذا العداء، وما عودتهم إلى فلسطين - الأرض المقدسة - في هذا القرن بعد طردهم منها منذ مئات السنين إلا تنفيذ لمخطط صهيوني خطير، يظاهره أعداء الإسلام في كل مكان، ويستهدف تهويد المنطقة وإزالة المقدسات الإسلامية بالهدم أو التحويل إلى معابد أو مؤسسات أُخرى يهودية، ومحاربة الإسلام بكل الوسائل، وتفتيت قوة المسلمين وتمزيق تضامنهم وتشتيت وحدتهم وتحقيق المطامع الصهيونية والاستعمارية في أوطانهم وثرواتهم.

ومنذ وقت قريب أحرق الإسرائيليون المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث المسجدين ولم يكتفوا بذلك بل هم يحفرون من حوله، ومن تحته بحثا عما يزعمونه - هيكل سليمان - والآن يتجهون إلى المسجد الإبراهيمي في مدينة الخليل يقتسمونه مع المسلمين ويحتلون الجزء الأكبر منه، يشربون فيه الخمر وينفخون الأبواق، ويقيمون الولائم، والحفلات الصاخبة لأعراسهم وختانهم، ويشوشون على المصلين المسلمين في الجزء الذي أبقوه لهم من المسجد بشتى الوسائل، ويمنعونهم من إعلان الأذان وإقامة الصلاة إلا في الأوقات التي يحددونها ويحرمون عليهم دخول المسجد إلا من باب واحد، ويعتدون على أئمة المسجد وسدنته.

ص: 339

وإن الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة إذ تستنكر ذلك كل الاستنكار وتعده عدوانا صارخا وآثما على الإسلام والمسلمين، ليس في فلسطين فحسب بل في سائر أنحاء الأرض حيثما وجد مسلم لتهيب بالمسلمين في كل مكان أن يهبوا في وجه هذا العدوان البربري على دينهم ومقدساتهم وأن يواجهوه بكل قوتهم، ولا ترى الاكتفاء باجتماع - لجنة القدس - لصد هذا الخطر.

بل تدعو المؤتمر الإسلامي لعقد دورة خاصة لدراسة الخطوات الإيجابية التي تتبع في مواجهة العدوان الصهيوني، المستمر على المقدسات الإسلامية في فلسطين ووضع خطة عملية لرده، تلتزم جميع الدول الإسلامية حكومات وهيئات بدورها في التنفيذ وعدم الاكتفاء بإصدار التوصيات أو الاستنكارات التي لا يعبأ بها الإسرائيليون، ويسخرون منها، ويمضون في تنفيذ خططهم العدوانية الإجرامية الواحدة تلو الأخرى طالما أنهم لا يجدون أمامهم قوة رادعة تصدهم عن غيهم وتردهم عن بغيهم.

وإن القيام بذلك، والوقوف في وجه الصهيونية بكل قوة لواجب على المسلمين جميعا يأثمون بتركه أو التهاون به أو تأخيره عن وقته، وقد فرض الله على المسلمين الجهاد في سبيله كما قال سبحانه:{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِه} وضمن لهم النصر على عدوهم وعدوه كما قال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} .

وقد عودنا الصهاينة في أساليب اعتداءاتهم المتكررة على المسلمين ومقدساتهم أن يخطو خطوتهم الآثمة ويضربوا ضربتهم العدوانية، ثم يتابعوا صداها بين المسلمين فإذا لم يجدوا عملا يردعهم أقدموا على خطوة أُخرى.

ص: 340

فليتنبه المسلمون إلى ذلك وليحذروا الأخطار التي تتهددهم في دينهم ومقدساتهم وحياتهم من جانب الصهاينة المعتدين وليتحدوا جميعا في مواجهتها ودرئها والله معهم إذا اتقوه وصبروا كما قال سبحانه: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} .

ص: 341

تنزيه الأصحاب عن تنقص أبي تراب (2)

لفضيلة الشيخ حمود عبد الله التويجري

الموضع الثالث: زعم أبو تراب أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ماتا ولم يحفظا القرآن كله وقد حفظ أبو بكر من الأحاديث مائة واثنين وأربعين.. وعمر خمسمائة حديث وسبعة وثلاثين.. ولكن ابنه كان أعلم منه فقد حفظ ألفي حديث وستمائة وثلاثين. وغلب الجميع أبو هريرة فله خمسة آلاف حديث وثلاثمائة وأربعة أحاديث فهل نقول أن أبا هريرة كان أفضل من أبي بكر. كلا.. فالفضل غير العلم والفقه والاجتهاد والحفظ.

والجواب أن يقال: لا يخفى ما في هذا الكلام من الجرأة والتهجم على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وما يدري أبا تراب أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ماتا ولم يحفظا القرآن كله. إنا نطالبه بإقامة الدليل على ذلك.

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة" رواه مسلم وغيره من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه..

وثبت عنه صلى الله عليه وسلم من عدة أوجه في الصحيحين وغيرهما أنه أمر أبا بكر رضي الله عنه أن يصلي بالناس في مرضه الذي مات فيه. وقد ترجم البخاري على ذلك بقوله: ((باب أهل العلم والفضل أحق بالإمامة)) . وفي الصحيحين وغيرهما من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم فحانت الصلاة فتقدم أبو بكر رضي الله عنه يصلي بالناس. الحديث. وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر على فعله ورضي بما صنع. وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره"رواه الترمذي فعلم من هذا أن أبا بكر رضي الله عنه كان أعلم الصحابة بالسنة وأقرأهم لكتاب الله تعالى.

ص: 342

وقد ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب عن عبد خير قال سمعت عليا رضي الله عنه يقول: "رحم الله أبا بكر كان أول من جمع ما بين اللوحين".

وقال ابن كثير في البداية والنهاية: "والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم أبا بكر الصديق رضي الله عنه إماما للصحابة كلهم في الصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام العملية. قال الشيخ أبو الحسن الأشعري: "وتقديمه أمر معلوم بالضرورة من دين الإسلام".

قال: "وتقديمه له دليل على أنه أعلم الصحابة وأقرؤهم لما ثبت في الخبر المتفق على صحته بين العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يؤم الناس أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأكبرهم سنا فإن كانوا في السن سواء فأقدمهم إسلاما" قال ابن كثير: "وهذا من كلام الأشعري رحمه الله مما ينبغي أن يكتب بماء الذهب ثم قد اجتمعت هذه الصفات كلها في الصديق رضي الله عنه وأرضاه"انتهى.

وقد تقدم قول ابن مسعود رضي الله عنه: "إن عمر كان أعلمنا بالله وأقرأنا لكتاب الله وأفقهنا في دين الله"وفي هذا أبلغ رد على أبي تراب في قوله إن أبا بكر وعمر ماتا ولم يحفظا القرآن كله.. وأما قوله وقد حفظ أبو بكر من الأحاديث مائة واثنين وأربعين وعمر خمسمائة حديث وسبعة وثلاثين.

فجوابه أن يقال: وما يُدري أبا تراب أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لم يحفظا من الأحاديث سوى ما ذكره. لقد أخطأ أبو تراب وأبعد عن الصواب في هذا القول الذي لم يتثبت فيه. ولو كان الأمر على ما زعمه لكان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما من أقل الصحابة علما وهذا معلوم البطلان بالضرورة.

ص: 343

ويقال أيضا: من المعلوم أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان ملازما للنبي صلى الله عليه وسلم منذ بعثه الله تعالى إلى أن توفاه وكان لا يفارقه في حضر ولا سفر. وكذلك عمر رضي عنه قد كان ملازما للنبي صلى الله عليه وسلم منذ أسلم إلى أن توفي الله نبيه صلى الله عليه وسلم وكان لهما من الاختصاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ما ليس لغيرهما فيبعد كل البعد أن تكون روايتهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أقل من رواية من لم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم إلا مدة يسيرة ولم يكن لهم من الاختصاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ما كان لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما. فالذي لا يشك فيه أن أبا وعمر رضي الله عنهما قد حفظا عن النبي صلى الله عليه وسلم علما كثيرا.. ولا يبعد أن يكون ما حفظاه من الحديث أكثر مما حفظه بعض المكثرين من الرواية. ومما يدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر رضي الله عنه أن يصلي بالناس في مرضه الذي مات فيه وأنه صلى الله عليه وسلم أقره على الصلاة بالناس لما ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم.

ص: 344

وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة" فدل على أن أبا بكر رضي الله عنه أعلم بالسنة من جميع الصحابة رضي الله عنهم. وعلمه بالسنة إنما تكون بكثرة الرواية والحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والفهم لأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم والعلم بأفعاله وسيرته وهديه. وكان رضي الله عنه يفتي ويأمر وينهى في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن يفعل من ذلك شيئا إلا بما علمه من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وكان الصحابة رضي الله عنهم في زمن ولاية أبي بكر رضي الله عنه يرجعون إليه في المسائل التي يتنازعون فيها فيفصل بينهم ويرتفع النزاع بينهم بسببه ولم يكن يرجع إليهم إلا في القليل النادر. وهذا يدل على غزارة علمه وكثرة روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان أكثر الصحابة أو من أكثرهم حفظا لأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله. وقد تقدم ما رواه ابن سعد في الطبقات عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل من كان يفتي الناس في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر وعمر ما أعلم غيرهما.

وأما قلة الرواية عن أبي بكر رضي الله عنه فلها أسباب كثيرة. منها قصر مدته بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بحيث لم يتمكن الناس من إكثار الرواية عنه.

ومنها أن كبار الصحابة رضي الله عنهم كانوا متوافرين في زمن الصديق رضي الله عنه فكان الناس يكتفون بسؤالهم وأخذ الحديث عنهم عن الرجوع إلى الصديق رضي الله عنه لأنه كان مشغولا بالنظر في أمور الرعية عن الجلوس للتحديث.

ص: 345

ومنها أن المسلمين نفروا في زمانه إلى قتال المرتدين ثم إلى قتال الفرس والروم ولم يبق من المسلمين في المدينة إلا القليل فكان المسلمون في تلك الأقطار النائية عن المدينة يكتفون بسؤال من عندهم من الصحابة ويأخذون عنهم الحديث ولا يذهبون إلى الصديق ومن كان معه من الصحابة في المدينة.

ومنها أن المكثرين من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم من صغار الصحابة إنما كان جل روايتهم بواسطة كبار الصحابة كالصديق وعمر وغيرهما من كبار الصحابة وكانوا يكتفون بنسبة الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا يذكرون الواسطة بينهم وبينه إلا قليلا لثقتهم بصحة ما نقل إليهم عنه صلى الله عليه وسلم ولهذا تجدهم يقولون في أكثر رواياتهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يذكرون السماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الرؤية لأفعاله إلا قليلا.

وقد ذكر الحافظ بن حجر في كتاب الإصابة في ترجمة أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه روى عنه عمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وابن عمرو وابن عباس وحذيفة وزيد بن ثابت وعقبة بن عامر ومعقل بن يسار وأنس وأبو هريرة وأبو أمامة وأبو برزة وأبو موسى وابنتاه عائشة وأسماء وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم.

وروى عنه من كبار التابعين الصنابحي ومرة بن شراحبيل الطبيب وواسط البجلي وقيس بن أبي حازم وسويد بن غفلة وآخرون انتهى.

ويستفاد مما ذكره الحافظ ابن حجر من رواية هؤلاء عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قد حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة جدا رواها عنه كثير من علماء الصحابة وكبار التابعين ولكن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يكتفون بذكر النبي صلى الله عليه وسلم ولا يذكرون الواسطة بينهم وبينه لأنهم كلهم أهل صدق وعدالة.

ص: 346

قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب ((الوابل الصيب)) : "وهذا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة وترجمان القرآن مقدار ما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغ نحو العشرين حديثا الذي يقول فيه سمعت ورأيت. وسمع الكثير من الصحابة وبورك له في فهمه والاستنباط منه حتى ملأ الدنيا علما وفقها"انتهى..

وقد روى البزار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما فتحت المدائن أقبل الناس على الدنيا وأقبلت على عمر"فكان عامة حديثه عن عمر قال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح". وروى الطبراني في الكبير عن حميد قال: "كنا مع أنس بن مالك رضي الله عنه فقال: "والله ما كل ما نحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعناه منه ولكن لم يكن يكذب بعضنا بعضا". قال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح". وروى الإمام أحمد عن البراء رضي الله عنه قال: "ما كل الحديث سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحدثنا أصحابه عنه كانت تشغلنا عنه رعية الإبل".

قال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح"..

وأما عمر رضي الله عنه فإنه كان أعلم الأمة بعد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقد تقدم ذكر ما وصفه به ابن مسعود وحذيفة وسعيد بن المسيب وعمرو بن وإبراهيم النخعي من غزارة العلم. وهذا العلم الغزير الذي امتاز به عمر رضي الله عنه على سائر الصحابة إنما كان بالفهم في كتاب الله تعالى وكثرة الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والفهم لأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم والعلم بأفعاله.

ص: 347

والأسباب في قلة الرواية عن عمر رضي الله عنه هي نفس الأسباب المذكورة في قلة الرواية عن أبي بكر رضي الله عنه. وتزيد عليها بسبب آخر وهو أن عمر رضي الله عنه كان يحث الناس على قراءة القرآن وحفظه والتفهم لما فيه وينهاهم عن الإكثار من الرواية خوفا من التزيد في الأحاديث والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد كان الناس يهابونه أشد الهيبة فلا يخالفون أمره ولا يرتكبون نهيه ولا يتجاسرون على سؤاله عما عنده من الأحاديث كما يتجاسرون على سؤال غيره من الصحابة فلهذا كان المروي عنه من الأحاديث قليلا بالنسبة لما يروى عن المكثرين من الحديث.

ص: 348

وقد قال محمد بن سعد في الطبقات: "قال محمد بن عمر الأسلمي - يعني الواقدي - إنما قلَّت الرواية عن الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم هلكوا قبل أن يحتاج إليهم وإنما كثرت عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب لأنهما وليا فسئلا وقضيا بين الناس. وكل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أئمة يقتدى بهم ويحفظ عليهم ما كانوا يفعلون ويستفتون فيفتون وسمعوا أحاديث فأدوها فكان الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل حديثا عنه من غيرهم مثل أبي بكر وعثمان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وأبي عبيدة بن الجراح وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وأبيّ بن كعب وسعد بن عبادة وعبادة بن الصامت وأسيد بن الحضير ومعاذ بن جبل ونظرائهم فلم يأت عنهم من كثرة الحديث مثل ما جاء من الأحاديث عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن العباس ورافع بن خديج وأنس بن مالك والبراء بن عازب ونظرائهم. وكل هؤلاء كان يعد من فقهاء الأصحاب رسول الله صلى اله عليه وسلم وكانوا يلازمون النبي صلى الله عليه وسلم مع غيرهم من نظرائهم وأحدث منهم مثل عقبة بن عامر الجهني وزيد بن خالد الجهني وعمران بن الحصين والنعمان بن بشير ومعاوية بن أبي سفيان وسهل بن سعد الساعدي وعبد الله بن يزيد الخطمي ومسلمة بن مخلد الزرقي وربيعة بن كعب الأسلمي وهند وأسماء ابني جارية الأسلميين وكانا يخدمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلازمانه فكان أكثر الرواية والعلم في هؤلاء ونظرائهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم بقوا وطالت أعمارهم واحتاج الناس إليهم ومضى كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبله وبعده بعلمه لم يؤثر عنه بشيء ولم يحتج إليه لكثرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.."انتهى..

ص: 349

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في ((إعلام الموقعين)) : "إن ما انفردوا به من العلم عنا أكثر من أن يحاط به فلم يرو كل منهم كل ما سمع. وأين ما سمعه الصديق والفاروق وغيرهما من كبار الصحابة رضي الله عنهم إلى ما رووه فلم يرو عن صديق الأمة مائة حديث وهو لم يغب عن النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من مشاهده بل صحبه من حين بعث إلى أن توفيَ وكان أعلم الأمة به صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله وهديه وسيرته.. وكذلك أجلة الصحابة روايتهم قليلة جدا بالنسبة إلى ما سمعوه من نبيهم وشاهدوه. ولو رووا كل ما سمعوه وشاهدوه لزاد على رواية أبي هريرة أضعافا مضاعفة فإنه إنما صحبه نحو أربع سنين وقد روى عنه الكثير - إلى أن قال - إنهم كانوا يهابون الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعظمونها ويقللونها خوف الزيادة والنقص ويحدثون بالشيء الذي سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم مرارا ولا يصرحون بالسماع ولا يقولون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم". انتهى.

وأما زعم أبي تراب أن ابن عمر رضي الله عنهما كان أعلم من أبيه لأنه حفظ ألفي حديث وستمائة وثلاثين وأن أبا هريرة غلب الجميع فله خمسة آلاف حديث وثلاثمائة وأربعة أحاديث فجوابه أن يقال: لا شك أن ابن عمر رضي الله عنهما كان من علماء الصحابة وحفاظهم ولكنه مع ذلك لا يماثل أباه في العلم فضلا عن أن يكون أعلم منه. وكذلك أبو هريرة رضي الله عنه فإنه وإن كان من علماء الصحابة وحفاظهم فليس أعلم من ابن عمر رضي الله عنهما فضلا عن أن يكون أعلم من عمر رضي الله عنه.

وقد تقدم من الأحاديث الدالة على غزارة علم عمر رضي الله عنه ما يكفي في الرد على أبي تراب. وكذلك ما تقدم عن ابن مسعود وحذيفة وسعيد بن المسيب وعمرو بن ميمون وإبراهيم النخعي أنهم وصفوا عمر رضي الله عنه بغزارة العلم ففيه أبلغ رد على أبي تراب.

ص: 350

وقد روى الدارمي في سننه عن عبد الله بن أبي يزيد قال: "كان ابن عباس رضي الله عنهما إذا سئل عن الأمر فكان في القرآن أخبر به وإن لم يكن في القرآن وكان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر به فإن لم يكن فعن أبي بكر وعمر فإن لم يكن قال فيه برأيه".

قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى في ((منهاج السنة)) : "وسعيد بن المسيب كان من أعلم التابعين باتفاق المسلمين وكان عمدة فقهه قضايا عمر وكان ابن عمر يسأله عنها"انتهى.

فهذا حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كان يفتي بقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فيما لم يجده في الكتاب ولا في السنة. وفي هذا أوضح دليل على أنه لم يكن في الصحابة رضي الله عنهم من يماثل أبا بكر وعمر رضي الله عنهما في العلم فضلا عن أن يكون فيهم من هو أعلم منهما. ولو كان الأمر على ما زعمه أبو تراب من أن أبا هريرة رضي الله عنه غلب الصحابة كلهم بعلمه وأن عليا ومعاذا وابن مسعود كانوا أفقه من عمر وأن ابن عمر كان أعلم من أبيه لكان ابن عباس رضي الله عنهما يأخذ بأقوال هؤلاء ويدع قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.

وفيما ذكره شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى عن سعيد بن المسيب الذي اتفق المسلمون على أنه من أعلم التابعين أن عمدة فقهه قضايا عمر وأن ابن عمر رضي الله عنهما كان يسأله عنها أبلغ رد على أبي تراب فيما زعمه من تفضيل ابن عمر رضي الله عنهما على أبيه في العلم.

ص: 351

وظاهر كلام أبي تراب أن العلم ملازم للرواية والحفظ فمن كثرت روايته وحفظه للأحاديث مثل أبي هريرة رضي الله عنه فهو أعلم ممن قلت روايته وحفظه. وهذا خطأ ظاهر فليس العلم ملازما للرواية والحفظ وإنما العلم بالفهم لنصوص الكتاب والسنة واستخراج الأحكام منها وإن كان الموصوف بذلك قليل الرواية. قال ابن وهب عن مالك: "إن العلم ليس بكثرة الرواية وإنما العلم نور يجعله الله في القلب" انتهى..

وقد كانت مرتبة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في فهم النصوص واستخراج الأحكام منها فوق مراتب سائر الأمة فهما أعلم الأمة على الإطلاق وقد تقدم بيان ذلك بالأدلة. وأبو هريرة رضي الله عنه وإن كان من علماء الصحابة وأكثرهم رواية وحفظا للأحاديث فلا يقاس بعثمان وعلي ومعاذ وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم في العلم فضلا عن أن يقاس بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما..

وقد قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه ((الوابل الصيب)) : "وأين تقع فتاوى ابن عباس وتفسيره واستنباطه من فتاوى أبي هريرة وتفسيره. وأبو هريرة أحفظ منه بل هو حافظ الأمة على الإطلاق يؤدي الحديث كما سمعه ويدرسه بالليل درسا فكانت همته مصروفة إلى الحفظ وتبليغ ما حفظه كما سمعه. وهمة ابن عباس مصروفة إلى التفقه والاستنباط وتفجير النصوص وشق الأنهار منها واستخراج كنوزها"انتهى..

وأما قول أبي تراب إن أبا هريرة رضي الله عنه غلب الجميع أي غلب أبا بكر وعمر وابن عمر رضي الله عنهم بالعلم مع قوله فيما تقدم إن أبا هريرة رضي الله عنه غلب الصحابة كلهم بعلمه..

فجوابه أن يقال: هذا خطأ ظاهر وخصوصا تفضيل أبي هريرة رضي الله عنه بالعلم على الخلفاء الراشدين فإن هذا ليس بالأمر الهين. وكذلك تفضيل علي ومعاذ وابن مسعود وابن عمر على عمر بالعلم والفقه فكل هذا خطأ ظاهر وليس بالأمر الهين.

ص: 352

وقد قال عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة: "حدثني أبي حدثنا هشيم حدثنا حصين عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "ألا إن خير هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر فمن قال سوى هذا بعد مقامي هذا فهو مفتر، عليه ما على المفتري" إسناده صحيح على شرط الشيخين. ثم قال عبد الله: "حدثني أبي حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن حصين عن ابن أبي ليلى قال: "تدارؤوا في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما"فقال رجل من عطارد: "عمر أفضل من أبي بكر"فقال الجارود: "بل أبو بكر أفضل منه"فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فقال: "فجعل ضربا بالدرة حتى شغر ثم أقبل إلى الجارود فقال: "إليك عني"ثم قال عمر رضي الله عنه: "أبو بكر كان خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في كذا وكذا"ثم قال عمر: "من قال غير هذا أقمنا عليه ما نقيم على المفتري"إسناده صحيح على شرط الشيخين.

قوله حتى شغر معناه اتسع في الضرب وأكثر منه.

وقد اختلف في سماع عبد الرحمن بن أبي ليلى من عمر رضي الله عنه فقال يحي بن معين وأبو حاتم والنسائي: "إنه لم يسمع منه". وقال مسلم في مقدمة صحيحه: "إنه قد حفظ عن عمر" قال ابن كثير: "وهو الصواب إن شاء الله"..

ص: 353

قلت وفي مسند الإمام أحمد ما يدل على سماعه من عمر رضي الله عنه ففيه بإسناد حسن عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "كنت مع عمر رضي الله عنه فأتاه رجل فقال: "إني رأيت الهلال.."الحديث.. وفيه أيضا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عمر رضي الله عنه قال: "صلاة المسافر ركعتان"الحديث وفي آخره وقال يزيد - يعني ابن هارون - ابن أبي ليلى قال سمعت عمر. وقد روى البخاري في التاريخ الصغير عن ابن أبي ليلى قال: "ولدت لست سنين بقين من خلافة عمر.."وكذا ذكر الخطيب البغدادي في تاريخه أنه ولد لست بقين من خلافة عمر رضي الله عنه. ومثل هذا السن يعقل فيه الذكي كثيرا مما يراه ويسمعه. بل بعض الأذكياء يحفظ كثيرا من الأشياء لأقل من هذا السن. وعلى هذا فظاهر حديثي ابن أبي ليلى عن عمر رضي الله عنه الاتصال. ولم يصنع شيئا من نفي سماعه منه من أجل صغره والله أعلم.

وروى عبد الله بن الإمام أحمد أيضا في كتاب السنة عن علي رضي الله عنه أنه قال: "لا يفضلني أحد على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري".

وروى عبد الله أيضا في كتاب السنة عن علي رضي الله عنه أنه قال على المنبر: "ألا إنه بلغني أن قوما يفضلوني على أبي بكر وعمر ولو كنت تقدمت في ذلك لعاقبت فيه ولكن أكره العقوبة قبل التقدم من قال شيئا من ذلك فهو مفتر، عليه ما على المفتري".

قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: "روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: "لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري" فمن فضله على أبي بكر وعمر جلد بمقتضى قوله رضي الله عنه ثمانين سوطا.." انتهى.

وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أيضا: "ورأس الفضائل العلم وكل من كان أفضل من غيره من الأنبياء والصحابة وغيرهم فإنه أعلم منه قال تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} والدلائل على ذلك كثيرة وكلام العلماء في ذلك كثير.."انتهى.

ص: 354

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في إعلام الموقعين: "ومعلوم أن فضيلة العلم ومعرفة الصواب أكمل الفضائل أشرفها". انتهى.

وإذا علم هذا فلا يخفى ما في هذا المقال السيئ من الفرى التي يستحق قائلها أن يجلد على كل واحدة منها حد الفرية ثمانين سوطا.

الأولى: تفضيل أُمهات المؤمنين على عمر رضي الله عنه.

الثانية: تفضيل أبي هريرة رضي الله عنه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بالعلم.

الثالثة: زعمه أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ماتا ولم يحفظا القرآن كله. وهذا يقتضي تفضيل عدد كثير من الصحابة عليهما.

الرابعة: تفضيل علي ومعاذ وابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم على عمر رضي الله عنه بالعلم والفقه.

الخامسة: تفضيل مرتبة البخاري في العلم على مرتبة أبي بكر وعمر وسائر الصحابة رضي الله عنهم..

وأما قول أبي تراب فهل نقول أن أبا هريرة كان أفضل من أبي بكر كلا.

فجوابه أن يقال: من زعم أن أبا هريرة رضي الله عنه غلب الصحابة كلهم بعلمه لزمه أن يقول إنه أفضل منهم كلهم لأن العلم رأس الفضائل وأكملها وأشرفها كما قرره شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى في كلامهما الذي تقدم ذكره قريبا. قال شيخ الإسلام أبو العباس: "وكل من كان أفضل من غيره من الأنبياء والصحابة فإنه أعلم منه قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} والدلائل على ذلك كثيرة وكلام العلماء في ذلك كثير". انتهى.

وإذا علم هذا فمن قال إن أبا هريرة أعلم من الصحابة كلهم وبعضهم أفضل منه فقوله متناقض كما لا يخفى.

ص: 355

وقد ذكرت من الأدلة الكثيرة على غزارة علم أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وتفوقهما على جميع الصحابة بالفضائل ما فيه كفاية في الرد على أبي تراب فليراجع. وليراجع أبيضا ما تقدم عن شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى أنه قال: "إن ابن عباس رضي الله عنهما كان أكثر فتيا من علي رضي الله عنه وأن أبا هريرة رضي الله عنه كان أكثر رواية منه. وعلي رضي الله عنه أعلم منهما كما أن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أعلم منهما أيضا". انتهى.

وأما قول أبي تراب إن الفضل غير العلم والفقه.. فجوابه أن يقال: إن العلم راس الفضائل وأكملها وأشرفها كما قرره شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى.. قال شيخ الإسلام أبو العباس: "وكل من كان أفضل من غيره من الأنبياء والصحابة وغيرهم فإنه أعلم منه". انتهى..

وقد قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الناس معادن فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا" وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر" والآيات والأحاديث في فضل العلم كثيرة جدا وليس هذا موضع ذكرها وإنما المقصود ههنا التنبيه على خطأ أبي تراب حيث فرق بين الفضل وبين العلم الذي هو رأس الفضائل وأكلها وأشرفها.

ص: 356

وقد ذكر الحافظ أبو الحجاج المزي في تهذيب الكمال عن الوليد الموقري عن الزهري قال: "قدمت على عبد الملك بن مروان فقال: "من أين قدمت يا زهري"قال: "قلت من مكة"قال: "ومن خلفت يسودها وأهلها"قلت: "عطاء بن أبي رباح" قال: "فمن العرب أم من الموالي؟ "قلت: "من الموالي".. قال: "فبم سادهم؟ "قال: "قلت بالديانة والرواية".. قال: "إن أهل الديانة والرواية لينبغي أن يسودوا". قال: "فمن يسود أهل اليمن؟ "قلت: "طاووس بن كيسان".. قال: "فمن العرب أم من الموالي؟ "قال: "قلت: من الموالي".. قال: "فبم سادهم؟ "قلت: "بما ساد به عطاء".. قال: "إنه لينبغي ذلك".. قال: "فمن يسود أهل مصر؟ "قلت: "يزيد بن أبي حبيب"قال: "فمن العرب أن من الموالي؟ "قال: "قلت: من الموالي".. قال: "فمن يسود أهل الشام؟ "قلت: "مكحول".. قال: "فمن العرب أم من الموالي؟ " قال: "قلت: من الموالي عبد نوبي أعتقته امرأة من هذيل".. قال: "فمن يسود أهل الجزيرة؟ "قلت: "ميمون بن مهران".. قال: "فمن العرب أم من الموالي؟ "قال: "قلت: من الموالي".. قال: "فمن يسود أهل خراسان"قال: "قلت: الضحاك بن مزاحم"قال: "فمن العرب أم من الموالي؟ "قال: "قلت: من الموالي.."قال: "فمن يسود أهل البصرة؟ "قال: "قلت: الحسن البصري"قال: "من العرب أم من الموالي؟ "قال::قلت من الموالي".. قال: "ويلك ومن يسود أهل الكوفة؟! "قال: "قلت: إبراهيم النخعي" قال: "فمن العرب أم من الموالي".. قال: "قلت من العرب".. قال: "ويلك يا زهري فرجت عني والله لتسودن الموالي على العرب حتى يخطب لها على المنابر والعرب تحتها"قال: "قلت يا أمير المؤمنين إنما هو دين من حفظه ساد ومن ضيعه سقط".

ص: 357

ويستفاد من هذه القصة أن العلم رأس الفضائل وأكملها وأشرفها وإن من جمع بين العلم والديانة نال الفضل والشرف والمنزلة العالية والسيادة وإن كان لا نسب له ولا حسب كما حصل لألئك الموالي الذين ذكر الزهري أنهم سادوا أهل الأمصار بالعلم والديانة وكما حصل لغيرهم قديما وحديثا.

الموضع الرابع: زعم أبو تراب أن مرتبة البخاري في العلم تفوق مراتب الصحابة فيه لأنه اجتمع له حديثهم وفقههم أجمع ولكنه لا يفوقهم ولا يدانيهم البتة في الفضل والشرف والمنزلة والكرامة.

والجواب أن يقال: هذا من عجر أبي تراب وبجره ولم أر أحدا سبقه إلى هذا القول الباطل. ولا يخفى ما فيه من الجرأة على الصحابة والغض من قدرهم. وقد تقدم حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "شرار أمتي أجرؤهم على صحابتي" رواه أبو نعيم في الحلية.

ويكفي في رد هذا القول السيئ ما تقدم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "من كان مستنا فليستن بمن قد مات أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا خير هذه الأمة.. أبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا.. قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونقل دينه فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على الهدى المستقيم والله رب الكعبة"رواه أبو نعيم في الحلية. وروى رزين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه نحوه.

وروى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن مسعود أيضا رضي الله عنه أنه قال: "إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه فما رأى المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رأوا سيئا فهو عند الله سيئ "ورواه البزار والطبراني في الكبير قال الهيثمي ورجاله موثقون.

ص: 358

قال ابن القيم رحمه الله تعالى في ((إعلام الموقعين)) في الثناء على الصحابة رضي الله عنهم: "إنهم سادات الأمة وقدوة الأئمة وأعلم الناس بكتاب ربهم تعالى وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وقد شاهدوا التنزيل وعرفوا التأويل ونسبة من بعدهم في العلم إليهم كنسبتهم إليهم في الفضل والدين - إلى أن قال - إن ما انفردوا به من العلم عنا أكثر من أن يحاط به - إلى أن قال - فلا ريب أنهم كانوا أبر قلوبا وأعمق علما وأقل تكلفا وأقرب إلى أن يوفقوا لما لم نوفق له نحن لما خصهم الله به من توقد الأذهان وفصاحة اللسان وسعة العلم وسهولة الأخذ وحسن الإدراك وسرعته وقلة المعارض أو عدمه وحسن القصد وتقوى الرب تعالى. فالعربية طبيعتهم وسليقتهم والمعاني الصحيحة مركوزة في فطرهم وعقولهم ولا حاجة بهم إلى النظر في الإسناد وأحوال الرواة وعلل الحديث والجرح والتعديل ولا إلى النظر في قواعد الأصول وأوضاع الأصوليين بل قد استغنوا عن ذلك كله فليس في حقهم إلا أمران. قال الله كذا وكذا. وهم أسعد الناس بهاتين المقدمتين وأحظى الأمة بهما فقواهم متوفرة مجتمعة عليهما - إلى أن قال-: والمقصود أن الصحابة رضي الله عنهم اجتمعت قواهم على تينك المقدمتين فقط. هذا إلى ما خصوا به من قوى إدراكها وكماله وكثرة المعاون وقلة الصارف وقرب العهد بنور النبوة والتلقي من تلك المشكاة النبوية. فإذا كان هذا حالهم فيما تميزوا به علينا فكيف نكون أو شيوخنا أو شيوخهم أو من قلدناه أسعد بالصواب منهم في مسألة من المسائل. ومن حدث نفسه بهذا فليعزلها من الدين والعلم - إلى أن قال - وكيف يطيب قلب عالم يقدم على أقوال من وافق ربه تعالى في غير حكم فقال وأفتى بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن بموافقة ما قال لفظا ومعنى قول متأخر بعده ليس له هذه الرتبة ولا يدانيها. وكيف يظن أحد أن الظن المستفاد من فتاوى السابقين الأولين الذين شاهدوا الوحي والتنزيل وعرفوا التأويل

ص: 359

وكان الوحي ينزل خلال بيوتهم وينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرهم فمستندهم في معرفة مراد الرب تعالى من كلامه ما يشاهدونه من فعل رسوله صلى الله عليه وسلم وهديه الذي هو يفصل القرآن ويفسره فكيف يكون أحد من الأمة بعدهم أولى بالصواب منهم في شيء من الأشياء.. هذا عين المحال".

وقال ابن القيم أيضا في ((إعلام الموقعين)) : "والمقصود أن أحدا ممن بعدهم - أي بعد الصحابة - لا يساويهم وقد كان أحدهم يرى الرأي فينزل القرآن بموافقته - ثم ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أمثلة من ذلك إلى أن قال - وحقيق بمن كانت آراؤهم بهذه المنزلة أن يكون رأيهم لنا خيرا من رأينا لأنفسنا. وكيف لا وهو الرأي الصادر من قلوب ممتلئة نورا وإيمانا وحمة وعلما ومعرفة وفهما عن الله ورسوله ونصيحة للأمة وقلوبهم على قلب نبيهم ولا وساطة بينهم وبينه وهم ينقلون العلم والإيمان من مشكاة النبوة غضا طريا لم يشبه إشكال ولم يشبه خلاف ولم تدنسه معارضة فقياس رأي غيرهم بآرائهم من أفسد القياس".

وقال ابن القيم أيضا في ((إعلام الموقعين)) : "فتاوى الصحابة أولى أن يؤخذ بها من فتاوى التابعين وفتاوى التابعين أولى من فتاوى تابعي التابعين وهلم جرا. وكلما كان العهد بالرسول أقرب كان الصواب أغلب - إلى أن قال - فإن التفاوت بين علوم المتقدمين والمتأخرين كالتفاوت الذي بينهم في الفضل والدين".

ص: 360

وقال ابن القيم أيضا في ((إعلام الموقعين)) : "وأي وصمة أعظم من أن يكون الصديق أو الفاروق أو عثمان أو علي أو ابن مسعود أو سلمان الفارسي أو عبادة بن الصامت وأحزابهم رضي الله عنهم قد أخبر عن حكم الله أنه كيت وكيت في مسائل كثيرة وأخطأ في ذلك ولم يشتمل قرنهم على ناطق بالصواب في تلك المسائل حتى نبغ من بعدهم فعرفوا حكم الله الذي جهله أولئك السادة وأصابوا الحق الذي أخطأه أولئك الأئمة.. سبحانك هذا بهتان عظيم.."انتهى.. المقصود من كلامه رحمه الله تعالى.

وإذا علم هذا فنقول أي إزراء بالصحابة وأي وصمة عليهم أعظم من أن يقال إن مرتبة البخاري في العلم تفوق مراتب الصحابة فيه. سبحانك هذا بهتان عظيم.

وقد تقدم عن عمر رضي الله عنه أنه أنكر على من فضله على أبي بكر رضي الله عنه وضربه ضربا شديدا وقال: "خير هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر فمن قال سوى هذا فهو مفتر عليه ما على المفتري". وتقدم عن علي رضي الله عنه أنه قال: "لا يفضلني أحد على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري".

وإذا كان الذي يفضل عمر على أبي بكر أو يفضل عليا على أبي بكر وعمر رضي الله عنهم يعد مفتريا ويجلد حد المفتري ثمانين سوطا فكيف بمن فضل البخاري على أبي بكر وعمر عثمان وعلي وسائر الصحابة في العلم الذي هو رأس الفضائل وأكملها وأشرفها فهذا أولى أن يوصف بالافتراء وإن يعامل معاملة المفتري.

ويقال أيضا: إن الصحابة رضي الله عنهم هم الذين حفظوا القرآن والسنة وبلغوهما إلى الناس فكل الناس بعدهم أتباعهم لهم وعيال عليهم في علم الكتاب والسنة. وقد كان للصحابة رضي الله عنهم من البصيرة النافذة في علم الكتاب والسنة ما ليس لمن بعدهم.

ص: 361

قال ابن القيم رحمه الله تعالى في ((مدارج السالكين)) في الكلام على قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} قال: "يريد أن تصل باستدلالك إلى أعلى درجات العلم وهي البصيرة التي تكون نسبة المعلوم فيها إلى القلب كنسبة المرئي إلى البصر وهذه الخصيصة التي اختص بها الصحابة على سائر الأمة وهي أعلى درجات العلماء". انتهى.

وإذا علم هذا فمن زعم أن مراتب غير الصحابة في العلم تفوق مراتب الصحابة فقد تنقصهم وغض من قدرهم وقابلهم بغير ما يستحقونه من الإجلال والاحترام ولا شك أن هذا من الأذية لهم وأذيتهم ليست بالأمر الهين. وقد تقدم حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله. . الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله يوشك أن يأخذه" رواه الترمذي. وتقدم أيضا قول محمد بن سيرين: "ما أظن رجلا ينتقص أبا بكر وعمر يحب النبي صلى الله عليه وسلم"رواه الترمذي وقال هذا حديث غريب حسن [1] .

وأما قول أبي تراب: "إن البخاري اجتمع له حديث الصحابة وفقههم أجمع"

فجوابه أن يقال: هذه مجازفة يكذبها الواقع وبيان ذلك من وجوه. أحدها: أن يقال من المستحيل أن تجتمع أحاديث الصحابة وفقههم لرجل واحد ولو بلغ في العلم والفقه ما بلغ، وهذه كتب الحديث والآثار موجودة وليس فيها شيء قد جمع الأحاديث والآثار كلها. ومن أكبر كتب الحديث وأوسعها مسند الإمام أحمد ومع هذا لم تجتمع فيه أحاديث الصحابة كلها ولا الآثار المروية عنهم بل في غيره من كتب الصحاح والسنن والمسانيد ما ليس فيه. وفي كل منها ما ليس في الآخر. وفي هذا أكبر شاهد على بطلان ما زعمه أبو تراب.

ص: 362

الوجه الثاني: أن كثيرا من كبار الصحابة الذين طالت صحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا يلزمونه حضرا وسفرا قد مات كثير منهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بمدة يسيرة فلم يؤخذ عنهم الكثير مما عندهم من الفقه ولم يرو عنهم الكثير مما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم وما شاهدوه من أفعاله وهديه وسيرته. وقد تقدم ما ذكره ابن سعد عن محمد بن عمر الأسلمي أنه قال: "إنما قلَّت الرواية عن الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم هلكوا قبل أن يحتاج إليهم - إلى أن قال -ومضى كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبله وبعده بعلمه لم يؤثر عنه بشيء ولم يحتج إليه لكثرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم". وتقدم أيضا قول ابن القيم رحمه الله تعالى: "إن ما انفرد به الصحابة من العلم عنا أكثر من أن يحاط به فلم يرو كل منهم كل ما سمع - إلى أن قال - وكذلك أجلة الصحابة روايتهم قليلة جدا بالنسبة إلى ما سمعوه من نبيهم وشاهدوه. ولو رووا كل ما سمعوه وشاهدوه لزاد على رواية أبي هريرة أضعافا مضاعفة". انتهى.

وفي هذا أبلغ رد على مجازفة أبي تراب حيث زعم أن البخاري قد اجتمع له حديث الصحابة وفقههم أجمع.

الوجه الثالث: أن في صحيح البخاري وغيره من كتبه أعظم رد على أبي تراب وأكبر شاهد على بطلان ما زعمه عن البخاري أنه اجتمع له حديث الصحابة وفقههم أجمع. فالذي في كتب البخاري من أحاديث الصحابة وفقههم لا يبلغ عشر ما روي عنهم من الأحاديث والآثار ولا نصف العشر. وقد جاء في كتب الصحاح والسنن والمسانيد والمستخرجات والمعاجم من الأحاديث الصحيحة والحسنة التي لم يخرجها البخاري أكثر مما في صحيح البخاري. وجاء فيها من الآثار عن الصحابة أكثر مما جاء في كتب البخاري فكيف يقال والحالة هذه: إن البخاري اجتمع له حديث الصحابة وفقههم أجمع. هذا كلام لا يقوله من له أدنى مسكة من عقل.

ص: 363

الوجه الرابع: أن يقال: إن في شيوخ البخاري ومن قبلهم من أكابر العلماء من هم أكثر جمعا لأحاديث الصحابة وفقههم من البخاري ولا سيما الإمام أحمد فقد جمع من الأحاديث وآثار الصحابة أكثر مما جمع البخاري بكثير ومع هذا لا يجوز أن يقال فيه ولا في غيره من علماء التابعين ومن بعدهم من أكابر العلماء: إن مراتبهم في العلم تفوق مراتب الصحابة. بل الصحابة أعلى مراتب في العلم وفي سائر الفضائل من جميع الذين جاءوا من بعدهم.

الوجه الخامس: إن البخاري رحمه الله تعالى قال: "ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني". وإذا كان البخاري قد استصغر نفسه عند علي بن المديني الذي لا تقاس مرتبته في العلم بأدنى مراتب علماء الصحابة فكيف يقال إن مرتبة البخاري في العلم تفوق مراتب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة.. هذا كلام لا يقوله عاقل ولا يرضى به مؤمن. ولو قيل هذا القول السيئ في حياة البخاري لكان حريا أن يجاهد قائله بكل ما يقدر عليه.

وأما قوله: ولكنه لا يفوقهم ولا يدانيهم البتة في الفضل والشرف والمنزلة والكرامة.

فجوابه أن يقال: إذا كان البخاري رحمه الله تعالى لا يداني الصحابة رضي الله عنهم في هذه الأمور فبطريق الأولى أن يقال: إن مراتبهم في العلم تفوق مرتبته ومراتب غيره من التابعين وتابعيهم ومن جاء بعد ذلك من كبار العلماء. وقد تقدم قول شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى أن العلم رأس الفضائل.. وكل من كان أفضل من غيره من الأنبياء والصحابة وغيرهم فإنه أعلم منه. وتقدم أيضا قول ابن القيم رحمه الله تعالى أن فضيلة العلم ومعرفة الصواب أكمل الفضائل وأشرفها.

ص: 364

ويقال أيضا لأبي تراب: هل تقول إن العلم شرف وفضيلة ومنزلة عالية وكرامة في حق من يعمل بعلمه أم لا؟ فإن قال إنه شرف وفضيلة ومنزلة عالية وكرامة لزمه أحد أمرين إما أن يقول: إن البخاري قد فاق جميع الصحابة في الفضل والشرف والمنزلة والكرامة.

وإما أن يرجع عما زعمه من رفع مرتبة البخاري في العلم على مراتب الصحابة ويعترف أن مراتب الصحابة في العلم تفوق مراتب العلماء بعدهم وأنهم لا يقاس بهم أحد ممن كان بعدهم كائنا من كان..

وإن قال: إن العلم ليس بشرف ولا فضيلة ولا منزلة عالية ولا كرامة كما هو ظاهر كلامه ههنا وفي قوله أيضا: وليس لإنسان أن يقرن الفضل بالعلم وقوله أيضا إن الفضيلة شيء والعلم شيء آخر.

قيل هذا كلام لا يقوله إلا من رفع عنه التكليف فلا يعول عليه

الموضع الخامس: زعم أبو تراب أن الفقهاء يخالفون مذاهب الصحابة في مئات المسائل. وزعم أيضا أن الفقهاء خالفوا الصحابة في المسائل الاجتهادية التي يخالف فيها الصحابة بعضهم بعضا زعم أيضا أن أبا حنيفة قال: "هم رجال ونحن رجال".

والجواب أن يقال: ظاهر كلام أبي تراب في عبارته الأولى أن الفقهاء يخالفون مذاهب الصحابة حتى في المسائل التي أجمع عليها الصحابة رضي الله عنهم وهذا خطأ ظاهر فإن الفقهاء لم يخالفوا ما أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم. ولو قدر أن أحدا من الفقهاء خالف إجماع الصحابة فخلافه مردود عليه لأن إجماع الصحابة حجة قاطعة.

وكذلك قول الصحابي إذا لم يخالفه غيره من الصحابة فإنه حجة يجب المصير إليه قاله الشافعي وغيره من أكابر العلماء..

ص: 365

ولا أعلم أحدا خالف إجماع الصحابة سوى أبي تراب فإن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على تفضيل أبي بكر ثم عمر رضي الله عنهما على سائر الأمة ولم يستثنوا في التفضيل أحدا من الصحابة لا أُمهات المؤمنين ولا غيرهم ولو يستثنوا في التفضيل شيئا من خصال الفضل لا العلم ولا غيره ولم يخالف هذا الإجماع أحد من التابعين ولا من بعدهم من العلماء حتى جاء أبو تراب في آخر القرن الرابع عشر من الهجرة فشذ عن أهل العلم وخالف إجماع الصحابة حيث فضل أمهات المؤمنين على عمر رضي الله عنه وفضل كثيرا من الصحابة على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في حفظ القرآن وفي العلم والفقه. ولم يكتف بذلك بل فضل البخاري في العلم على سائر الصحابة وقد قال الشاعر:

خلافا لقولي من فيالة رأيه.

كما قيل قبل اليوم خالف لتذكرا.

وهذا البيت مطابق لحال أبي تراب غاية المطابقة.

وأما المسائل الاجتهادية التي اختلفت فيها أقوال الصحابة رضي الله عنهم واختلفت فيها الفقهاء بعدهم بحسب اختلافهم فهذه لا يقال فيها إن الفقهاء قد خالفوا الصحابة كما عبر به أبو تراب لأن ظاهر عبارته يقتضي أن الفقهاء قد خالفوا الصحابة كلهم في المسائل الاجتهادية. وهذا خطأ فإن الفقهاء لم يخالفوا جميع أقوال الصحابة في المسائل الاجتهادية وإنما كانوا يأخذون بأقوال الصحابة أو ببعضها ويختلفون بحسب اختلاف الصحابة وإذا ظهر لهم الدليل من الكتاب أو السنة أخذوا به وتركوا ما سواه من الأقوال. هذا هو المعروف عن المحققين من العلماء وليس في فعلهم نقص على الصحابة ولا غض من قدرهم.

ص: 366

قال الشافعي رحمه الله تعالى في رسالته البغدادية التي رواها عنه الحسن بن محمد الزعفراني - وهذا لفظه -: "وقد أثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن والتوراة والإنجيل وسبق لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضل ما ليس لأحد بعدهم فرحمهم الله وهنأهم بما آتاهم من ذلك ببلوغ أعلى منازل الصديقين والشهداء والصالحين. أدوا إلينا سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاهدوه والوحي ينزل عليه فعلموا ما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم عاما وخاصا وعزما ورشادا. وعرفوا من سننه ما عرفنا وجهلنا. وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك به علم واستنبط به وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا عند أنفسنا. ومن أدركنا ممن يرضى أو حكى لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يعلموا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه سنة إلى قولهم إن اجتمعوا أو قول بعضهم إن تفرقوا. وهكذا نقول ولم نخرج عن أقاويلهم. وإن قال أحدهم ولم يخالفه غيره أخذنا بقوله". انتهى.

وقد نقله عنه ابن القيم رحمه الله تعالى في ((إعلام الموقعين)) قال: "وقد صرح الشافعي في الجديد من رواية الربيع عنه بأن قول الصحابي حجة يجب المصير إليه فقال المحدثات من الأمور ضربان أحدهما ما أحدث يخالف كتابا أو سنة أو إجماعا أو أثرا فهذه البدعة الضلالة". قال ابن القيم: "والربيع إنما أخذ عنه بمصر وقد جعل مخالفة الأثر الذي ليس بكتاب ولا سنة ولا إجماع ضلالة وهذا فوق كونه حجة".

وقال ابن القيم أيضا في ((إعلام الموقعين)) : "وقال الشافعي في رواية الربيع عنه والبدعة ما خالف كتابا أو سنة أو أثرا عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم". قال ابن القيم: "فجعل ما خالف قول الصحابي بدعة". انتهى.

ص: 367

وأما قوله: "إن أبا حنيفة قال هم رجال ونحن رجال.." فجوابه أن يقال: لم يقل أبو حنيفة هذا القول في حق الصحابة كما توهمه أبو تراب وإنما قاله في حق التابعين. قال الحافظ الذهبي في مناقب أبي حنيفة: "قال نعيم بن حماد: "سمعت أبا عصمة وهو نوح الجامع قال: "سمعت أبا حنيفة يقول: "ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين وما جاء عن الصحابة اخترنا وما كان من غير ذلك فهم رجال ونحن رجال".

وذكر ابن عبد البر في الانتقاء عن إبراهيم بن هانئ النيسابوري قال: "قيل لنعيم بن حماد ما أشد إزراءهم على أبي حنيفة فقال: إن ينقم على أبي حنيفة ما حدثنا عنه أبو عصمة قال: سمعت أبا حنيفة يقول: "ما جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلناه على الرأس والعينين وما جاءنا عن أصحابه اخترنا منه ولم نخرج عن قولهم وما جاءنا عن التابعين فهم رجال ونحن رجال".

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في ((إعلام الموقعين)) : "وقال نعيم بن حماد حدثنا ابن المبارك قال سمعت أبا حنيفة يقول: "إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين وإذا جاء عن الصحابة نختار من قولهم وإذا جاء عن التابعين زاحمناهم". انتهى.

ومراد أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا يقلد أحدا من التابعين وإنما يأخذ بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ويختار من أقوال الصحابة ولا يخرج عنها وإذا لم يجد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه اجتهد رأيه ولم يأخذ بآراء التابعين.

وهذا آخر ما تيسر إيراده والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

حرر في 26-3-1395هـ.

--------------------------------------------------------------------------------

ص: 368

[1]

قول ابن سيرين هذا من الكلام المأثور وليس بحديث. ولعل عبارة (رواه الترمذي..) أقحمت بعده سهوا. (المجلة)

ص: 369