المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 32 فهرس المحتويات 1- تأييد وشكر لسماحة الشيخ عبد العزيز بن - مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - جـ ١١

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌ ‌العدد 32 فهرس المحتويات 1- تأييد وشكر لسماحة الشيخ عبد العزيز بن

‌العدد 32

فهرس المحتويات

1-

تأييد وشكر لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز: رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد

2-

أضواء من التفسير: لفضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد

3-

تتعين كتابة المصحف على الرسم العثماني: لفضيلة الشيخ عبد الفتاح القاضي

4-

حقوق الحيوان والرفق به في الشريعة الإسلامية: لفضيلة الشيخ أحمد عبيد الكبيسي

5-

مهمة المسجد في بناء المجتمع الإسلامي: لفضيلة الشيخ محمد المجذوب

6-

رسائل لم يحملها البريد: لفضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي

7-

البيان البلاغي عند العرب معناه وأطواره: الدكتور عبد الحميد العبيسي

8-

حديث عن التفرقة والتمييز في الماضي والحاضر: الشيخ عبد الفتاح العشماوي

9-

توحيد الله - الحكمة في خلق الجن والإنس: لفضيلة الشيخ عبد الله أحمد قادري

10-

تفاعل المسلمين مع دينهم يرجع إلى الجانب الروحي فيهم: بقلم الدكتور محفوظ إبراهيم فرج

11-

الإسلام دين الأخوة والوحدة: فضيلة الشيخ محمد عبد المقصود

12-

صراع مع الملاحدة حتى العظم: لفضيلة الشيخ محمد شريف الزيبق

13-

القاعدة الصلبة من المهاجرين والأنصار: لفضيلة الشيخ زهير الخالد

14-

نقض القانون المدني: لفضيلة الشيخ إبراهيم جعفر السقا

15-

من الصحف والمجلات: إعداد العلاقات العامة

16-

جراح الإسلام: شعر: محمد المجذوب

17-

من الأدب الإسلامي إليك أيها الداعية: بقلم فضيلة الشيخ إبراهيم محمد سرسيق

18-

ندوة الطلبة - الجِّد: للطالب أحمد حسن المعلم

19-

أخبار الجامعة

عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م

ص: 370

تأييد وشكر لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز

رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد: فقد اطلعت على ما كتبه أخونا العلامة الشيخ أحمد محمد جمال في مقالاته الأسبوعية المنشورة في صحيفة المدينة الصادرة بتاريخ 11/ 11/ 95هـ و 18/ 11/ 1395هـ و 25/ 11/ 95 المتضمنة استنكار ما اقترحه بعض الكتاب من إيجاد دور سينمائية في البلاد تحت المراقبة، وما وقع من بعض الشركات وغيرها من توظيف النساء في المجالات الرجالية من سكرتيرات وغيرهن والإعلان في بعض الصحف لطلب ذلك. وإني لأشكر لأخينا العلامة أحمد محمد جمال هذه الغيرة الإسلامية والحرص على سلامة هذه البلاد مما يشينها ويفسد مجتمعها ويعرضها لما أصاب غيرها من التحلل والفساد وانحراف الأخلاق واختلال الأمن وظهور الرذيلة واختفاء الفضيلة، فجزاه الله خيرا وضاعف مثوبته، وإني أؤيده كل التأييد فيما دعا إليه من سد الذرائع المفضية إلى الفساد والقضاء على جميع وسائل الشر في مهدها حماية لديننا وصوناً لمجتمعاتنا وتنفيذاً لأحكام شرعنا الذي جاء بتحصيل المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها، ودعا إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال وبالغ في التحذير من سفاسف الأخلاق وسيئ الأعمال، وإن هذه البلاد كما قال أخونا الأستاذ أحمد هي قبلة المسلمين وأستاذهم وقدوتهم، فيجب على حكامها وجميع المسئولين فيها أن يتكاتفوا على جميع ما يصونها ويصون مجتمعاتها من عوامل الفساد وأسباب الانحطاط، وأن يشجعوا فيها الفضيلة ويقضوا على أسباب الرذيلة وأن يحافظوا على جميع أحكام الله في كل الشئون وأن يمنعوا توظيف المرأة في غير محيطها النسوي، وأن يدعوا مجتمعات الرجال للرجال وأن يمنعوا منعاً باتاً كلما يفضي إلى الاختلاط بين الجنسين في التعليم والعمل وغيرهما، ولا

ص: 371

فرق في هذا كله بين المرأة السعودية وغيرها وحسبنا في هذا الباب قوله عز وجل {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} الآية وقوله سبحانه {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} الآية، وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} الآية، وقوله عز وجل {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَاّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ففي هذه الآيات الكريمات وما جاء في معناها الأمر بالحجاب وغض النظر وإخفاء الزينة سدا لباب الفتنة وتحذيراً مما لا تحمد عقباه، فكيف يمكن تنفيذ هذه الأوامر مع وجود المرأة بين الرجال في المكاتب والمعارض وميادين الأعمال، وحسبنا

ص: 372

أيضاً في هذا المعنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح "إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ".. وقوله صلى الله عليه وسلم أيضاً في الحديث الصحيح: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء". فكيف تتقى هذه الفتنة مع توظيف النساء في ميدان الرجال، ويكفينا عظة وعبرة ما وقع في غيرنا من الفساد الكبير والشر العظيم بسبب السماح بعمل الفتيات في ميدان الرجال. (والسعيد من وعظ بغيره) والعاقل الحكيم هو الذي ينظر في العواقب ويحسم وسائل الفساد ويسد الذرائع المفضية إليه، ومما ذكرناه من الأدلة يتضح لذوي البصائر ورواد الفضيلة والغيورين على الإسلام أن الواجب على حكام هذه البلاد والمسئولين فيها وفقهم الله جميعاً أن يمنعوا منعاً باتاً فتح دور السينماء مطلقاً لما يترتب على السماح بذلك من الفساد العظيم والعواقب الوخيمة، والرقابة في مثل هذه الأمور لا يحصل بها المقصود، ومعلوم أن الوقاية مقدمة على العلاج وأن الواجب سد الذرائع وحسم مواد الفساد وفي واقع غيرنا عبرة لنا كما سلف، كما يجب تطهير الإذاعة والتلفاز من جميع ما يخالف الشرع المطهر ويفضي إلى فساد الأخلاق والأسر.. ويتضح أيضاً أن الواجب على المسئولين منع توظيف النساء في غير محيطهن سواء كن سعوديات أو غيرهن، وفي ذوي الكفاية من الرجال ما يغني عن توظيف النساء في ميادين الرجال، وليس هناك ما يدعو إلى توظيفهن في ميدان أعمال الرجال إلا التأسي بما نهينا عن التأسي بهم من أعداء الله عز وجل، أو قصد إفساد هذا المجتمع الذي يجب أن يحافظ عليه وأن يحمى من أسباب الفساد، ويجب على حملة الأقلام من ذوي الغيرة الإسلامية وعلى أعيان الشعب أن يتكاتفوا مع الحكومة والمسئولين في كل ما يحمي بلادهم ومجتمعهم من وسائل الشر والفساد لقول الله عز وجل {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ

ص: 373

اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} وقوله سبحانه {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وقوله عز وجل {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} والله المسئول أن يوفق حكومتنا وسائر المسئولين فيها لكل ما فيه رضاه وصلاح عباده وأن يصلح أحوال المسلمين جميعاً وأن يمنحهم الفقه في دينه وأن يوفق علماءهم وكتابهم للتمسك بدينه والغيرة له والحفاظ عليه والدعوة إليه على بصيرة وأن يعيذ الجميع من مضلات الفتن ونزغات الشيطان إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

ص: 374

تفاعل المسلمين مع دينهم يرجع إلى الجانب الروحي فيهم

بقلم الدكتور: محفوظ إبراهيم فرج

المدرس بكلية الشريعة بالجامعة

إن شريعة الإسلام الخالدة خصها الله تعالى لأفضل نبي وأكرم رسول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، حمل تلك الشريعة الخالدة المسلمون السابقون قوية نقية في إطار جميل من المعاملة الطيبة والاحترام الصادق للحقوق والأموال والأعراض، وساعد على ذلك ما أدركوه وفقهوه في الإسلام من أن الدين المعاملة لأنها وجه الدين وظاهره الذي يتجلى أمام الناس.

ولقد أشبعت الشريعة الإسلامية حاجة الناس الشديدة إلى القواعد العادلة المعتدلة للعلاقات الاجتماعية ولجميع المعاملات، فأيقظت بذلك الضمائر وخوفتها من رقابة الله تعالى، وعلقت الامتياز والخيرية بأمر هو في إمكان الناس جميعاً وهو التقوى قال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} .

تمتع المسلمون السابقون بتعاليم الإسلام عقيدة وسلوكا فبددت العقيدة ما في القلب من ظلمات ومتاهات، وأشعرته بعظمة الله جل جلاله، وبأن الله معه في سره وعلانيته {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} .

وكان سلوك الواحد منهم في حياته الخاصة والعامة انعكاساً لما يقوم به من طاعة وما يؤديه من عبادة مرتفعاً عن الأغراض والأهواء لا تتحكم فيه الغرائز والميول، وإذا ما قدر له أنه استجاب لداعي شهوة أو غريزة ذكر الله فاستغفره كي تظل حياته عامرة بنور الإيمان، ولا يجد حرجاً أن يعلن عن مخالفته ليرجع إلى الله بالتطهير مما اقترف.

ص: 375

فنجد ماعزا رضي الله عنه يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: يا رسول الله زنيت فأقم علي الحد فيراجعه الرسول صلى الله عليه وسلم مرة ومرة ويظل على رأيه لا يحيد عنه فيأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإقامة الحد عليه.

وتجيء العامرية إلى رسول صلى الله عليه وسلم وتقول له: زنيت، هذا الحمل من سفاح، وتصر على الاعتراف لأنها تريد أن تتطهر مما حلّ بها فيؤخر الرسول صلى الله عليه وسلم إقامة الحدّ عليها حتى تضع حملها وتلد ويستغني الولد عن اللبن بالفطام، وتأتي بعد ذلك ليقام عليها الحد وهي راضية كي تزيل الدنس الذي علق بها فتلقى الله وهي طاهرة.

ويروي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت، فقال:"ما لك"، قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هل تجد رقبة فتعتقها"؟ قال: لا، قال:"فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين"؟ قال: لا، قال:"فهل تجد إطعام ستين مسكينا"؟ قال: لا، فمكث عند النبي صلى الله عليه وسلم فبينما نحن على ذلك أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر _ العرق المكتل _ قال:"أين السائل"؟ فقال: أنا، قال:"خذ هذا فتصدق به"، فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله، فو الله ما بين لابتها _ يريد الحرثين _ أهل بيت أفقر مني، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال:"أطعمه أهلك".

فهذا الصحابي تحت تأثير الشهوة يجامع امرأته في نهار رمضان، ولما أفاق من غمرته تحرك فيه الوازع الديني فجاء إلى رسول صلى الله عليه وسلم معترفاً بذنبه نادماً على أهله قائلا يا رسول الله هلكت، ليجد عند الرسول صلى الله عليه وسلم منقذا لنجاته.

ص: 376

هذه أمثلة _ وغيرها كثير _ توضح كيف أن المسلمين حققوا المعاني الإسلامية في تفكيرهم، وأحسنوا تنفيذها في معاملاتهم ورجعوا إليها إذا انحرفوا عنها تحت تأثير شهوة أو غفلة أو ميل لإيمانهم بتلك التعاليم التي اعتنقوها مبدأ وسلوكا، فلا عجب أن يعترف الواحد منهم بجرمه كي يطهر نفسه ولو كان في ذلك قضاء على حياته، لأن مراقبة الله سبحانه وتعالى تمكنت في قلبه ويعلم أن دنياه فانية وأن الدار الآخرة هي الباقية، ويؤمن بقوله تعالى {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} .

تمتع المسلمون وهم على هذا النهج القويم بالقوة والمنعة، ودانت لهم الدنيا وملكوا العالم وسادوا الشعوب، ومكن الله لهم في الأرض وتحقق وعد الله القائل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} .

ودار الفلك دورته وعاد الإسلام غريبا كما بدا.

وهذه الفرية نعيشها اليوم في عصر العلم وغزو الفضاء!!!

فمع التفوق العلمي في جميع ميادين الحياة نشاهد طغيان المادة على القيم والمبادئ، كما أننا نلمس أن الغرائز كانت سببا في إضلال عقول الناس لبعدهم عن غذاء النفس وتقويتها، فكان التصدع بين الأفراد والجماعات وبين الدول والشعوب نتيجة ظلم الإنسان للإنسان، وتعدي الجماعة على الجماعة.

في هذا الجو المكفهر المشحون بالمخالفات يتحقق فينا ذلك الحديث الصحيح الذي يرويه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بدأ الإسلام غريباً ثم يعود غريبا كما بدا فطوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس ".

ص: 377

فنجد تعاليم الإسلام غير مألوفة لما عليه الناس في حياتهم الخاصة والعامة، ولم يدركوا تشريعها، ولم يتذوقوا حلاوتها، ولم يتجاوبوا معها، حيث ظهرت الأنانية ووهنت روابط المجتمع وكادت تنعدم الإنسانية في الإنسان وأوشكت الصلات أن تنهار في محيط الأسرة وفي دائرة المجتمع وعاش الناس في أزمة ضمير وقال قائلهم: الدين تخلف وجمود {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} .

من هذه المقارنة بين الماضي والحاضر نجد أن تفاعل المسلمين مع دينهم يرجع إلى الجانب الروحي في الإنسان قوة وضعفا.

ولم يشهد التاريخ قوة للإسلام ولا عزة للمسلمين إلا حينما كانوا يتخلقون بما في مبادئ الإسلام من أخلاق ويتعاملون بما فيها من مبادئ.

والقوة في هذه المبادئ أنها تنظم جميع الأفراد وأنها عامة يتساوى فيها الكبير والصغير والغني والفقير، فليس هناك تفاضل بالأموال والأنساب أو الجاه وإنما التفاضل بالعمل الصالح والتنافس فيه.

ولما بدأ التفاعل بين المسلمين وتعاليم الإسلام يضعف أخذ الإسلام مع الأسف المحض يتحول في نفوس أهله من حياة قوية متوثبة إلى تقاليد وشكليات فكان أن دب الضعف في الصف الإسلامي، ولعب الاستعمار دوره معهم فصرفهم عن دينهم، وقتل فيهم حيويته فتشتتوا بعد تكتل وتمزقوا بعد تجمع، وقلّ الوازع الديني الذي يجمع الصف ويوحد الكلمة، وليس من علاج لعودة المسلمين إلى وضعهم الأول من القوة والثقة إلا كما قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه:"لا صلاح لهذه الأمة إلا بما صلح به أولها".

رجوع إلى الله سبحانه وتعالى في كل الأمور وتمسك بكتاب الله جل جلاله واعتصام بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم _ وما ذلك على الله بعزيز _.

والسعد لا شك تارات وهبات

الناس بالناس ما دام الحياة بهم

تقضى على يده للناس حاجات

وأفضل الناس ما بين الورى رجل

ص: 378

ما دمت مقتدرا فالسعد تارات

لا تمنعن يد المعروف عن أحد

إليك لا لك عند الناس حاجات

واشكر فضائل صنع الله إذ جعلت

وعاش قوم وهم في الناس أموات

قد مات قوم وما ماتت مكارمهم

الإمام الشافعي

ص: 379

الإسلام دين الأخوة والوحدة

فضيلة الشيخ محمد عبد المقصود

المدرس بكلية الدعوة بالجامعة

الحمد لله الذي هدانا للإيمان وشرفنا بالإسلام، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.

فقد قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} .

الأمة الإسلامية أمة إلهها واحد، ورسولها واحد، ودينها واحد، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، وكتابها هو القرآن الذي أنزله الله على رسوله العظيم، دواء للإنسانية من أمراضها وأسقامها، وعللها وآفتها، أفرغ بآياته وشرائعه البينة الواضحة على أتباعه المؤمنين به، المستظلين بظله، صبغة الوحدة والجماعة والأخوة الإنسانية، منحيا عنها عصبيات الجنسية والإقليمية، فلم يؤثر فردا على فرد ولا فئة على فئة، ولا جماعة على جماعة، فأزال العصبية القبلية بقوله تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وأزال العصبية الوطنية بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} .

وأزال العصبية الجنسية بقول الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام "ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل".

ص: 380

سما بالإنسانية عن هذه الاعتبارات التي كثيرا ما تدفع بأصحابها إلى التفرق والخصام، وتغرى بينهم بالعداوة والبغضاء، فتفصم عرى الإنسانية الفاضلة، وتقضي على روح التعاون والتراحم، وتطمس معالم السعادة والهناءة، ووجه الناس إلى الأخذ بيد الإنسانية الفاضلة، وشهادة الموحد لأبنائه، الوحدة في التوجه إلى الله والإخلاص له وتلقي دعوته.

وأفرغ الإسلام علينا وحدة العقيدة ووحدة العبادة، ووحدة السلوك، ووحدة الأهداف، ووحدة الرحم، ونادانا في ذلك بنداءات إلهية كريمة، تركت في نفوسنا كل معاني الوحدة، وبواعثها مترابطة متعانقة قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} ، {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} ، {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} .

ص: 381

فكشف الله لنا بهذه النداءات الغطاء عن المعتصم الذي يحب أن نتمسك به ولا نحيد عنه، وهو تقوى الله، والاتجاه إليه، والاستعانة به في تنفيذ أوامره، والعمل بما وضعه من سنن في سبيل الله إسعاد البشرية ورقيها.. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} وبهذا التعارف والارتباط تتقارب المصالح وتتحد المنافع، ويصبح المسلمون في أنحاء الأرض قوة واحدة، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويرعى قويهم حق ضعيفهم، وغنيهم حق فقيرهم، وصحيحهم حق مريضهم، وبذلك ينتظم شملهم وتقوى وحدتهم وتعز بلادهم، وتسود أوطانهم، ويصبح جانبهم مرهوبا، وحقهم محفوظا فتأتلف قلوبهم وتتحد مشاعرهم، وائتلاف القلوب والمشاعر واتحاد الغايات والمناهج من أوضح تعاليم الإسلام، وألزم خلال المسلمين.

ولا ريب ولا عجب في أن توحيد الصفوف واجتماع الكلمة هما الدعامة الوطيدة لبقاء الأمة، ودوام دولتها، ونجاح رسالتها والإسلام يكره للمسلم أن ينأى بمصلحته عن مصلحة الجماعة، وأن ينحصر في نطاق نفسه، وأن يستوحش في تفكيره، وإحساسه.

عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" متفق عليه.

وفي الحديث: "ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مؤمن، إخلاص العمل لله، والمناصحة لأئمة المسلمين ولزوم جماعتهم، فإن دعاءهم يحيط من ورائهم" رواه البزار.

ص: 382

وإذا كانت كلمة التوحيد باب الإسلام، فإن توحيد الصفوف سر المحافظة عليه والإبقاء على مقوماته، والضمان للقاء الله بوجه متهلل، وصفحة مشرقة، والإسلام قد جعل العمل الواحد في حقيقته وصورته مختلفا في الأجر حين يؤديه الإنسان منفردا وحين يؤديه مع آخرين، إن صلاة الفجر وصلاة العشاء هي هي لم تزد شيئا حينما يؤثر المرء أداءها في جماعة عن أدائها في عزلة، ومع ذلك فقد ضعّف الإسلام أجرها وزاد في ثوابها بضعا وعشرين درجة، أو يزيد عندما يقف المسلم مع غيره لأدائها بين يدي الله.

وتأمل معي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ (الفرد) بسبع وعشرين درجة" متفق عليه.

وفي هذا حرص من النبي صلى الله عليه وسلم على الأخوة الإسلامية والوقوف مع الجماعة والانضواء تحت لوائها ونبذ العزلة، ودفع للمسلم إلى الانسلاخ من وحدته والاندماج في أمته.

وانظر معي وتأمل فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة (أي لا يحضرون الجماعة) فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقا سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء" متفق عليه. والعرق: العظم إذا كان عليه لحم.. والمرماة: ما بين ضلع الشاة من اللحم.

وفي هذا التهديد من رسول الإنسانية ومعلم البشرية سيد المرسلين وخير الخلق أجمعين محمد صلى الله عليه وسلم ما يدعو المسلم إلى الامتزاج بالمجتمع الذي يحيا ويعيش فيه، فشرع الله الجماعة للصلوات الخمس اليومية ورغب في حضورها وتكثير الخطا إليها.

ص: 383

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا ينزعه إلا الصلاة، لم تزل رجله اليسرى تمحو عنه سيئة، وتكتب له اليمنى حسنة حتى يدخل المسجد، ولو يعلم الناس ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا" رواه البيهقي في شعب الإيمان والحاكم في مستدركه والطبراني في الكبير.

وشرع الله لأهل القرية أو الحمى الآهل أو المصر أن يلتقوا كل أسبوع مرة لصلاة الجمعة وفي كل عيد دعاهم إلى اجتماع أعظم يؤمهم إمام واحد يقوم فيقومون ويركع فيركعون ويسجد فيسجدون يتجهون إلى إله واحد.، وإلى قبلة واحدة.

والزكاة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم لكي يشعروا جميعا أنهم جسم واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" رواه مسلم وأحمد.

والصيام يوحد بين المسلمين في أوقات الفراغ والعمل، وأوقات الطعام والشراب، ويفرغ عليهم جميعا صفة الإنابة والرجوع إلى الله "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به".

ويرطب ألسنتهم بالتسبيح والتقديس، ويعفها عن الإيذاء والتجريح، ويسد عليهم منافذ الشر والتفكير فيه، ويملأ قلوبهم بمحبة الخير والبر بعباد الله، ويغرس في نفوسهم خلق الصبر الذي هو عدة الحياة

"الصوم نصف الصبر، والصبر نصف الإيمان".

والحج الذي يضم أشتات المسلمين في المشرق والمغرب، في مكان معلوم هو مكة المكرمة، وزمان معلوم هو أشهر الحج، يطوفون حول بناء واحد وهو بيت الله الحرام، فيكون اللقاء بين أجناس المسلمين أمرا محتوما {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} .

ص: 384

فديننا والحمد لله يدعو المسلمين في جميع تشريعاته التي شرعها الله سبحانه وتعالى لعباده، وتعبدهم بها يدعوهم إلى التعاون والتآزر، والتعاضد والمؤاخاة ليربط المسلمين جميعا برباط واحد وثيق، لتكون أمتهم أمة واحدة قوية، تخشى صولتها الأمم، وتحسب حسابها الشعوب، تغضب الدنيا لها إذا غضبت، وتضحك الدنيا لها إذا رضيت، يرهب الأعداء بأسها، ويخطب الأصدقاء ودها.

وهكذا كانت أمة الإسلام من قبل قوة جبارة وصولة باطشة، وسلطانا قاهرا، وقوة غالبة، وحصنا منيعا. وذلك طبيعي في أمة تجمعت أفرادها واتحدت قواها {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} .

وقد حدثنا التاريخ أن المسلمين بوحدتهم وتجمع صفوفهم استطاعوا أن يدكوا عروش القياصرة والأكاسرة، وأن يطوِّحوا بتيجان الجبابرة.

وإن الأوربيين ما سادوا وخضعت لهم الدنيا، ودان لهم العالم، وأسلمت الحياة قيادها لهم وأصبحوا يهددون أمن المسلمين وسلامتهم، مع خسة في العنصر، ولؤم في الطبع، وإفلاس في الدين، وزيغ في العقيدة، ما وصلوا إلى ذلك إلا بفضل تجمعهم واتحادهم.

ولكن في صفوفهم انضمام

فما سادوا بمعجزة علينا

والإسلام حريص على سلامة أمته، وحفظ كيانها، وهو لذلك يطفئ بقوة الخلاف، ويهيب بالأفراد كافة أن يتكاتفوا على إخراج الأمة من ورطات الشقاق ومصايرة السوء "يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار} .

هذا هو السياج الذي يحفظ على الأمة الإسلامية وحدتها، ويقيها شر العواصف والانهيار، ويمكنها من المحافظة على سلامتها وأمنها، فتتم النعمة ويعود الشعار إلى أصله، أمة واحدة، ورب واحد {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} .

والتاريخ الحديث خير شاهد على أن المسلمين والعرب إذا تمسكوا بدينهم، وعادوا إلى وحدتهم، وجمعوا صفوفهم كان الله معهم، وتحقق النصر لهم.

ص: 385

وما وقفة الأمة العربية بقيادة شهيد الإسلام والعروبة المغفور له جلالة الملك فيصل بجانب مصر وسوريا، يشد أزرهما ويقوي عضدهما بوضع جميع إمكانياته تحت تصرفهما حتى تحقق النصر في العاشر من رمضان سنة 1393 على العدو الصهيوني، وأصبح العرب القوة الثالثة في العالم يخشون بأسهم، ويحسبون حسابهم ويخطبون ودهم، ويعترفون لهم بحقوقهم.

ومن رعاية الله العلي القدير للأمة الإسلامية وتوفيقه لها أن خليفة جلالته على العرش الملك المعظم خالد بن عبد العزيز يسير على نهج سلفه العظيم، ويضع يده في يد إخوانه من القواد العرب في سبيل مصلحة الأمة العربية والإسلامية، لا يضن بمال ولا يبخل بجهد ما دام في ذلك رفعة الإسلام ونصر العروبة، والمحافظة على الحقوق، واستعادة الأمجاد وحفظ التراث.

وفق الله العاملين للخير، وجمعهم على الخير إنه نعم المولى ونعم النصير.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 386

صراع مع الملاحدة حتى العظم

لفضيلة الشيخ محمد شريف الزيبق

المدرس بكلية الدعوة بالجامعة

ظهر حديثاً هذا الكتاب ومؤلفه الأستاذ عبد الرحمن حسن حنبكة الميداني، وهو في خمس مائة صحيفة، وهو الحلقة الثانية للمؤلف من "سلسلة أعداء الإسلام "وكانت الحلقة الأولى "مكايد يهودية عبر التاريخ ".

والإلحاد من أبرز سفاهات الإنسان ومن أشنع حماقاته، وقد دفعه إليه قديماً وحديثاً تكبره وفجوره، وظلمه وإجرامه، وغفلته وجهله، وهو قديم في البشر قدم هذه الآفات فيهم، ولكنه فشا في العصر الحديث بصورة تلفت النظر، وتدعو إلى التفكر، وقد بات من الجلي أمام الباحثين أن أبرز من ينشر الإلحاد في هذا الزمان أعداء الله والبشرية (اليهود) ، وأن الشيوعية الملحدة وسيلة من وسائلهم في نشره، وأن مقصدهم من وراء ذلك هدم إنسانية الإنسان ليصير حيواناً بشرياً يمكنهم امتطاؤه وتسخيره لمصالحهم، كما يصرحون بذلك في (تلمودهم) وفي (بروتوكولاتهم) ، كما اتضح أن عداء البابوية للعلم والعلماء في فجر النهضة الأوربية كان من أسباب انتشار الإلحاد أيضاً.

ص: 387

والعجيب في إلحاد هذا الزمان أنه يضرب بسيف العلم، ويدفع عقيدة الإيمان بالله سبحانه بحجة أن العلم يأباها، وأن الدين والعلم متناقضان {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَاّ كَذِباً} ، ولهذا شن الملحدون معركة ضد الدين عامة وضد الإسلام خاصة، وإن الإنسان ليعجب لهذه الفرية الكبرى فأنى للإسلام أن يتناقض مع العلم؟ أليس العلم قوانين أوجدها الله في كونه، والدين كلمة الله أنزلها على أنبيائه؟ فكيف يتناقض شيئآن مصدرهما الحكيم العليم، وكيف يمكن لإنسان عنده شيء من عقل ووعي أن يزعم أن الإسلام يتناقض مع العلم، وهو الذي يدعو إليه ويشجعه؟ ويقول فيما يقول للبشر:{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ويدعوهم للانتفاع بكل شيء في الكون بقوله {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} .

والحق أن الدين الصحيح صديق حميم للعلم، وأن العلم الصحيح عدو مبين للإلحاد، ولكن الملحدين يحلو لهم دائما الكذب والبهتان، واللجاج في الباطل والطغيان.

وقد غزا الإلحاد فيما غزا بلاد الإسلام وقام في ربوعها ناعقون يرددون سفاهاته وينشرون ضلالاته، ثم برز في مؤخرة ركب الملحدين حمال أثقال اسمه ((صادق جلال العظم)) الحائز على لقب ((دكتور)) من الذين دسّوا الكفر في فكره، فجمع ترهات الملحدين في كتاب أسماه (نقد الفكر الديني) وحشاه بالأغاليط والأكاذيب والجهل، ومنته نفسه ورفاقه الملحدون الأماني من وراء مفترياتهم، وطغا عليهم غرورهم، فكان لابد من الرد عليه، ومع اعتقاد المؤلف المفضال أن الإلحاد لا سند له، وأنه أو هي من بيت العنكبوت، إلا أن خوفه من تأثر الناشئة المسلمين بتضليلات العظم وسواه دعاه للرد على العظم رداً أتى فيه على قواعد الملحدين فنسفها بالعلم الصحيح والحجة القوية والاطلاع الواسع.

ص: 388

وقد وجد المؤلف في كتاب (نقد الفكر الديني) لصادق العظم أمثلة كثيرة للمغالطات وأنواع السقطات المقصود بها تضليل من يطالع كتابه من مراهقي الفتيان والفتيات من أجيال الأمة الإسلامية، خدمة للماركسية والداروينية والفرويدية وسائر النظريات بل الفرضيات اليهودية دون أن يطرح مناقشات علمية نقدية تتحرى الحقيقة، وقد جمع كل الأديان وكل ما فيها من حق وباطل، وكل ما نسب إليها من ضعيف وقوي وفاسد وصحيح، وقال: هذه هي الأديان، ثم وجه النقد اللاذع للباطل الظاهر وللضعيف البين وللفاسد المعروف فساده، ثم صنع من ذلك مقدمة فاسدة استنتج منها إبطال الدين كله..

وقد أحصى المؤلف جدليات الملاحدة المعتمدة على المغالطات الفاحشة الوقحة، والمقنعة بالحيلة والخداع في هذه العناصر:

1_

تعميم أمر خاص.

2_

تخصيص أمر عام.

3_

ضم زيادات وإضافات ليست في الأصل.

4_

حذف قيود وشروط لازمة، يؤدي حذفها إلى تغيير الحقيقة.

5_

التلاعب في معاني النصوص.

6_

طرح فكرة مختلفة من أساسها للتضليل بها.

7_

تصيد بعض الاجتهادات الضعيفة لبعض العلماء وجعلها هي الإسلام مع أنها اجتهادات مردودة.

8_

التقاط مفاهيم شاذة موجودة عند بعض الفرق التي تنتسب إلى الإسلام، وإطلاق أنها مفاهيم إسلامية مسلم بها عند المسلمين، والإسلام منها بريء براءة الحق من الباطل.

9_

نسبة أقوال أو نصوص إلى غير قائليها.

10_

كتمان أقوال صحيحة وعدم التعرض إليها مطلقاً مع العلم بها وشهرتها.

11_

الإيهام بأن العلوم المادية ملحدة على خلاف ما هي عليه في الواقع.

ص: 389

وقد أفرد المؤلف فصلاً من فصول الكتاب الأحد عشر للنقد الذاتي حول مفاهيم المسلمين للإسلام، بيّن فيه المفاهيم الدخيلة الغريبة عن الإسلام التي حاول أعداؤه إلصاقها بتعاليمه الناصعة، وكيف تحولت هذه المفاهيم الدخيلة إلى مواريث ثقيلة، وبدع شنيعة أحسنت ظهور الأجيال، وعرقلت سبيل تقدمها، وهيأت المناخ المناسب لفساد الأجيال التي حملت شعار التخلص منها على غير هدى ولا بصيرة، فتخلصت منها ومن الجوهر النافع الذي هو الأصل السليم، وقد وجدت طائفة من هذه الأجيال بسبب تلك الشوائب الدخيلة مبررات كثيرة تلبي عن طريقها الرغبة في الانطلاق والتحرر والانسياق وراء الأهواء، ومن وراء هذه الطائفة شياطين يمدون خراطيهم في الظلمات من ديار الحرب إلى دار الإسلام، فيوسوسون لها ويمنونها ويكيدون في ذلك لها وللأمة الإسلامية ما يكيدون من شر عظيم، ووسائلهم في ذلك الإغراء بالمال، أو الإطماع بالحكم والسلطان، أو الفتنة بالنساء أو الخمر والميسر والمخدرات وأصناف اللهو، وإضعاف القوى الفردية والاجتماعية عن طريقها والخداع بمظاهر الحضارة المادية الخلابة.

ويرجع انحراف المفاهيم الإسلامية في رأي المؤلف إلى عدة صور مصابة بالخلل أو الفساد أو التزوير، ويذكر لها عشرة أسباب مع طرق علاجها وهي:

1_

الجهل وفتور الهمة عن تفهم تعاليم الإسلام الصحيحة.

2_

اتباع الهوى.

3_

الغلو في الدين غير الحق.

4_

النظر الضيق المحدود الذي يلازمه النظر إلى جوانب خاصة معينة من الإسلام واعتبارها الإسلام كله.

5_

الجمود.

6_

التحلل.

7_

الفتنة بكل جديد قبل اختباره.

8_

التعصب لكل قديم مهما كان شأنه، ولو كان مخالفاً للحقيقة البينة ولأسس الإسلام الصحيحة الصافية.

9_

الأثرة التي تولد الإعجاب الشديد بالرأي، وتولد التعصب والفردية في الأعمال، وتشتت الشمل وتفرق الكلمة.

ص: 390

10_

ما يكيده أعداء الإسلام من مكايد، ويدخل تحت هذا السبب صور كثيرة.

وفي فصل آخر من فصول الكتاب يبرز المؤلف الحقائق البينة التي تؤكد موافقة العلم للدين الحق الإسلام، وأن الإسلام يدعو إلى الطرق العلمية في البحث، ويفند مغالطات الملاحدة الذين كثيراً ما يدعون أن فرضية أو نظرية من النظريات قد أصبحت حقيقة علمية غير قابلة للنقض أو التعديل، مع أن هذه النظرية لا تملك أدلة إثبات يقينية تجعلها حقيقة نهائية، أو حقيقة مقطوعا بها، وذلك بشهادة العلماء الذين وضعوا هذه النظرية أو ساهموا في تدعيمها.

ومن أمثلة ذلك الدارونية بالنسبة إلى نشأة الكون وخلق الإنسان فهي لا تملك أدلة إثبات قاطعة أو شديدة الترجيح، ولكن كثيراً من العلماء الماديين يقبلونها تسليماً اعتقادياً لا تسليماً علمياً، إذ ليس لديهم اختيار بعدها إلا الإيمان بالخلق الرباني، وهذا أمر لا يجدون أنفسهم الآن مستعدين له ما دام منطق الإلحاد هو المسيطر على اعتقادهم في بيئتهم.

ويأتي أنصاف المتعلمين، كالعظم فيدعون وجود التناقض بين الدين والحقائق العلمية، استناداً إلى وجود اختلاف بين بعض المعارف الدينية وبعض الفرضيات أو النظريات التي لم تثبت ولم ترق إلى درجة الحقائق العلمية وهم يزعمون كذباً أو يتصورون خطأ أن هذه الفرضيات أو النظريات قد أصبحت حقائق علمية ثابتة بشكل قطعي غير قابل للنقض، وهنا يقعون في غلط علمي فاحش جداً، ويتبع ذلك سقوطهم في ضلال اعتقادي كبير تجاه الدين وأصوله ومعارفه، علماً بأن طائفة من النظريات التي نسبت إلى العلم قد وضعت خصيصاً لدعم قضية الإلحاد والكفر بالله على أيدي يهود أو أجراء لليهود، وصيغت لها المقدمات والمبررات التي ليس لها قواعد منطقية علمية صحيحة.

ص: 391

يقول المؤلف: "فالواجب إذن يحتم علينا _ أخذاً بطريق البحث العلمي السليم المحرر الذين أمرنا به الإسلام _ أن نمعن النظر فيما قدمته شهادة العقل ووسائل البحث العلمي الإنسانية، وفيما قدمته شهادة النصوص الدينية، وأن نخضع هذه الشهادات للضوابط العلمية الصحيحة المتفق عليها في أصول العقل وأصول الدين.. وإني لأجزم بكل يقين أننا لن نجد مسألة واحدة يستحكم فيها الخلاف بين شهادة النصوص الدينية اليقينية قطعية الثبوت قطعية الدلالة، وبين الشهادة القاطعة التي يقدمها العقل، أو الشهادة القاطعة التي يقدمها البحث العلمي الإنساني البحت، بل اليقيني من كل ذلك لابد أم يتطابق في شهادته متى استطاع أن يصل إلى الحقيقة التي هي موضوع البحث، فإن وصل بعضها وبعضها الآخر لم يصل أعلن كلّ عن مبلغه من العلم، قصر في المعرفة أو زاد وفي هذا لا يوجد تناقض أو خلاف، ولكن يوجد بيان جزئي، وبيان أشمل وأكمل، أو بيان جزئي من جهة وبيان جزئي من جهة أخرى".

وفي فصل (صراع من أجل قضية الإيمان بالله والفكر الديني الصحيح حولها) يقول: "إن الملحدين جميعاً لم يستطيعوا مجتمعين أو متفرقين أن يقدموا أية حجة منطقية أو واقعية مقبولة عند العقلاء تثبت عدم وجود خالق لهذا الكون، وقد قرأنا ما كتبه هذا الملحد وما كتبه غيره من أساطين الإلحاد فلم نجد لديهم دليلاً واحداً صحيحاً ينفي وجود الخالق جل وعلا، بل لم نجد في كل ما كتبوه دليلاً واحداً يقدم ظناً بعدم وجود الخالق، فضلاً عن تقديم حقيقة علمية.. جلّ ما لديهم محاولات للتشكيك بعالم الغيب، والتزام بأن لا يثبتوا إلا ما شاهدوه من مادة بالوسائل العلمية المادية.

ص: 392

وهذا الارتباط بحدود المادة التي لم يشهد العلم حتى العصر الحاضر إلا القليل منها إن هو إلا موقف يشبه موقف الأعمى الذي ينكر وجود الألوان لأنه لا يراها، أو الأصم الذي ينكر وجود الأصوات لأنه لا يسمعها، أو موقف الحمقاء حبيسة القصر التي ترى أن الوجود كله هو هذا القصر الذي تعيش فيه، لأنها لم تشاهد في حياتها غيره.. فما حظ هؤلاء من العلم والأمانة العلمية ومطابقة الحقيقة والواقع؟ كذلك الملحدون لا حظ لهم من العلم والأمانة العلمية ومطابقة الحقيقة والواقع، إذ ينكرون الخالق جل وعلا ويصرون على إنكاره ولا يملكون دليلاً واحداً على نفي وجوده، قد يستخدمون عبارات ضخمة يستغلون فيها أسماء التقدم العلمي والصناعي وتطور مفاهيم العصر، والبحوث العلمية في المختبرات والمعامل للتمويه بها.. مع أن التقدم العلمي والصناعي لم يتوصل إلى قياس شيء من عالم الغيب، بل ما يزال عاجزاً عن قياس أمور كثيرة داخلة في العالم المادي الذي هو مجال كل أنواع التقدم العلمي الذي انتهت إليه النهضة العلمية الحديثة.

والعلماء الماديون الذين يستخدمون المعامل والمختبرات والأجهزة العلمية المتقدمة جداً.. يحاولون تفسير كل ما شاهدوه من ظواهر بنظريات استنتاجية يغررون فيها حقائق غير مرئية وغير مشاهدة، وهي بالنسبة إليهم وبالنسبة إلى أدواتهم ما زالت أموراً غيبية، ومع ذلك فإنهم يضطرون إلى إقرارها والتسليم بها، ويجعلونها قوانين ثابتة يقولون عنها إنها قوانين طبيعية.

وفي هذا الفصل يتناول ما يردده العظم من الحجة الشيطانية القديمة التي تقول في آخر سلسلة التساؤل: ومن خلق الله؟ ويناقش حججه المادية سارداً أقوال بعض علماء المادة مثل إدوارد كيسل الذي يقول: "أثبتت البحوث العلمية دون قصد أن لهذا الكون بداية، فأثبتت تلقائياً وجود الأدلة، لأن كل شيء ذي بداية لا يمكن أن يبتدئ بذاته، ولا بد أن يحتاج إلى المحرك الأول، الخالق الإله".

ص: 393

ويعقد المؤلف فصلاً لمناقشة (برتر أندرسل) و (فرويد) وإمامي العظم، مبينا أن الأول صدر في إلحاده عن الهوى التعصب للدين لأنه يجعل ما يقبله من تفسيرات علمية مقبولاً بصفة ترجيحية لضرورة العجز عن الوصول إلى اليقين

وأما الثاني فهو يهودي متعصب للصهيونية وقد وصفت إحدى مساعداته في التحليل النفسي إلحاده بأنه كان زائفاً لأنه تركه بعد ذلك متشبثاً باليهودية الصهيونية، وفيا لها، سائراً في طريقها، منفذاً لخططها.

ويطول الكلام لو وقفنا عند فصل من فصول الكتاب واقتباس بعض عباراته، والإشارة إلى القضايا الفكرية التي يعالجها ببيان مشرق وأسلوب يمتاز بالقوة والرصانة وعمق الفكرة، وأدع للقارئ أن يستمتع بقراءة هذا الكتاب النفيس سائلا الله عز وجل أن يهدي به الضالين، ويثبت المؤمنين ويزيدهم إيماناً وأن يجزي المؤلف فضيلة الشيخ عبد الرحمن حنبكة أحسن الجزاء.

ص: 394

القاعدة الصلبة من المهاجرين والأنصار

أمام المحن القاسية وجها لوجه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم

لفضيلة الشيخ زهير الخالد

1_

صدى وفاة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.

أ_ عند الصحابة رضوان الله تعالى عليهم..

فوجئ الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن رأوه في صلاة الفجر، وأمّلوا شفاءه ومعافاته، فنزل بهم النبأ نزول الصاعقة، فأظلمت الدنيا في عيونهم وغرقوا في بحر من الهم والحزن عميق..

قال أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: "لما كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان في اليوم الذي توفي فيه أظلم منها كل شيء"رواه الإمام أحمد.

لقد كان مصاب المسلمين بفقد رسول الله صلى الله عليه وسلم عظيماً وأليماً.. بل لا يوصف!

لقد فقدوا نبيهم ومربيهم وقائدهم وأسوتهم الحسنة، فقدوا الرجل الذي لا يساويه رجل في الدنيا بأي جانب من جوانب الخير والكمال البشري، وفقدوا للترجمة العملية الحية للقرآن الكريم "كان خلقه القرآن".. ثم إنهم فقدوا نزول الوحي بفقده عليه صلوات الله وسلامه، قيل لأم أيمن رضي الله تعالى عنها حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مواساةً لها ما يبكيك؟ على النبي صلى الله عليه وسلم؟ ما عند الله خير لرسوله، قد أكرم الله نبيه، فأدخله جنته، وأراحه من نصب الدنيا.. فقالت: إني علمت أن رسول الله سيموت، والله ما أبكي أن لا أكون لا أعلم أن ما عند الله خير لرسوله، ولكني إنما أبكي على الوحي الذي رفع عنا، إنما أبكي على خبر السماء كان يأتينا غضاً جديداً كل يوم، فقد انقطع ورفع فعليه أبكي، فهيجت من عندها على البكاء فجعلوا يبكون..

ص: 395

وليس هذا فحسب، بل إن الصحابة رضي الله عنهم فقدوا نبيهم عليه الصلاة والسلام في ظرف عصيب، حيث تحيط بهم الأخطار من كل حدب وصوب، وتتهدد كيانهم ووجودهم فهناك المنافقون في المدينة وحولها، وهناك حديثو العهد بالإسلام ممن قال الله تعالى فيهم {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} ، وهناك الطلقاء من زعماء قريش في مكة المكرمة الذين قهرتهم قوة الإسلام، ثم هناك اليهود الموتورون الحاقدون، وكذلك النصارى على التخوم الشمالية للجزيرة العربية، وجيش أسامة بن زيد بن حارثة - رضي الله تعالى عنهما - على الانطلاق إليهم، وأيضاً الفرس، ثم إن هناك المتنبئين الكذابين ومنهم من ما زالت فتنته قائمة كمسيلمة، ومنهم من لم يمض غير وقت قصير بل أيام على القضاء على فتنته كالأسود العنسي.

قال محمد بن إسحاق: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب، واشرأبت اليهودية والنصرانية، ونجم النفاق، وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية لفقد نبيهم حتى جمعهم الله على أبي بكر رضي الله تعالى عنه [1] .

ب_ صدى وفاته عليه الصلاة والسلام في الجزيرة العربية:

ص: 396

ما إن انتشر خبر وفاته صلى الله عليه وسلم في الجزيرة العربية حتى اضطربت فيها الأمور وظهر المنافقون وذوو الأطماع في الزعامة والملك والرئاسة والمال، وقوي أمر من تكذب وتنبأ كمسيلمة الحنفي وطليحة الأسدي وسجاح بنت الحارث التغلبية، وارتدت القبائل العربية، ولم يبق مكان في الجزيرة العربية إلا وحدثت فيه فتنة وردة أو محاولة ردة، حتى إن اكثر أهل مكة هموا بالردة لولا أن الله سبحانه كفهم وخوّفهم بسهيل بن عمرو رضي الله تعالى عنه [2] وقد اختلفت المظاهر التي اتخذتها ردة كل قبيلة، فمنهم من ادعى النبوة، ومنهم من تزندق، ومنهم من امتنع عن دفع الزكاة

وبقيت المدينة المنورة وحدها في وجه هذه الأمواج المتلاطمة من الفتن العاتية الطاغية.. فهي كسفينة في وسط بحر هائج متلاطم الأمواج يريد أن يبتلعها..

ج_ صدى وفاته صلى الله عليه وسلم لدى العلم الخارجي:

كان يسيطر على العالم خارج الجزيرة العربية إذ ذاك قوتان أو دولتان كبيرتان هما الدولة الرومية في الغرب والدولة الفارسية في الشرق، وتشكلان معسكرين متنافسين غربياً وشرقيا، تسيطر على الغربي منهما الدولة الرومية، وعلى الشرقي الدولة الفارسية.

وكان التنافس بينهما مستمراً ومنذ قرون وأجيال، إلا أنه توقف فجأة منذ أن أصبح للمسلمين كيان ودولة في المدينة المنورة تحت قيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصبح كل منهما يحسب لهذه القوة الناشئة ويستعد للانقضاض عليها، إنما ينتظر الفرصة السانحة، بل إن المعسكر الغربي الرومي بدأ يتحرش بالمسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت غزوة تبوك ومؤتة، فلما توفي الرسول عليه الصلاة والسلام أراد أن ينتهز هذه الفرصة لكن جيش أسامة بن زيد رضي الله عنهما كان له بالمرصاد.

ص: 397

أما المعسكر الشرقي الفارسي فقد تحرك هو الآخر حين سمع بنبأ وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كسرى: من يكفيني أمر العرب؟ فقد مات صاحبهم، وهم الآن يختلفون بينهم، إلا أن يريد الله بقاء ملكهم فيجتمعون على أفضلهم [3] .

لقد وجد الصحابة أنفسهم - رضي الله تعالى عنهم - يقفون وجهاً لوجه أمام محن قاسية شديدة وخطيرة، ومهمات كبرى ومسؤوليات ضخمة تمتحن صلابتهم ووعيهم، وتعجم عودهم وجدارتهم للقيام بالأمانة العظمى بعد نبيهم عليه الصلاة والسلام..

هذه المحن والمهمات يمكن حصرها في نقاط ثلاث وهي:

1_

اجتماعهم قبل كل شيء وبأسرع وقت على رجل منهم خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

2_

الوقوف في وجه الردة الشاملة للجزيرة العربية والمرتدين..

3_

حمل الأمانة العظمى، وتبليغ رسالة الله تعالى إلى العالم كله وتحرير البشر بها، وإيصال الإسلام إلى كل إنسان على ظهر الأرض وإزالة كل العراقيل والعقبات "سواء كانت هذه العقبات والعوائق شبهات تحاك، وضلالات تزيّن، أو كانت قوى طاغية تصد الناس عن الدعوة وتفتنهم في الدين.."{حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [4] .

وسنتناول - بإذن الله تعالى - هذه النقاط في الأعداد القادمة.

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

البداية والنهاية جزء (5) فصل احتضاره ووفاته عليه الصلاة والسلام..

[2]

المرجع السابق.

[3]

مختصر السيرة للشيخ محمد بن عبد الوهاب ص 319 ط: 1.

[4]

في ظلال القرآن للسيد قطب رحمه الله تعالى ج6 ص29 ط: 4.

ص: 398

نقض القانون المدني

لفضيلة الشيخ إبراهيم جعفر السقا

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.

لم يتخلف المسلمون عن ركب العالم نتيجة لتمسكهم بدينهم أو تعصبهم لإسلامهم، وإنما بدأ هذا التخلف يوم تركوا هذا التمسك بدينهم وتساهلوا فيه، وسمحوا للحضارة الأجنبية أن تدخل ديارهم، وللمفاهيم الغربية أن تحتل أذهانهم وللقوانين غير الإسلامية أن تحكم بلادهم..

ص: 399

بل من يوم أن حاولوا عقد صلات ومشابهات وموافقات بين نظامهم الإلهي الإسلامي والنظم البشرية الأخرى التي صاغها الناس لأنفسهم في معزل عن الله تعالى ذلك أن الإسلام لا يعتز أن يكون بينه وبين النظم العالمية الأخرى مشابهة أو موافقة لأنه لن يزيد فضلاً ولا كمالاً بهذه النسبة أو المشابهة أو الموافقة لأن كماله المطلق في نسبته إلى صاحب الكمال المطلق وحده وهو الله تعالى جل شأنه، فالإسلام قدّم للبشرية نموذجا من النظام الإلهي ولم يحاول أن يقلد نظاماً من النظم بل اختار طريقه متفرداً فذاً، وقدم للإنسانية علاجاً إلهياً كاملاً لمشكلاتها جميعاً ولقد يحدث في تطور النظم البشرية - لا الإسلامية - أن تلتقي بالإسلام تارة وأن تفترق عنه تارة، ومع ذلك فهو نظام مستقل متكامل لا علاقة له بتلك النظم لا حين تلتقي معه، ولا حين تفترق عنه، فهذا الافتراق، وذلك الالتقاء عرضيان ووليدة مصادفات، وفي أجزاء متفرقة، ولا عبرة بالاتفاق والاختلاف في الجزئيات والعرضيات، إنما المعول عليه هي النظرة الأساسية وتصوره الخاص، وعنه تتفرع الجزئيات فتلتقي أو تفترق معه جزئيات من النظم الأخرى ثم يمضي الإسلام في طريقه المتفرد بعد كل اتفاق أو اختلاف، لأن قاعدته الأساسية التي يقوم عليها تختلف كلياً عن القواعد التي تقوم عليها الأنظمة البشرية جميعاً، فالإسلام يجعل السيادة لله وحده، فالأمر والحكم كله لله، وهو المرجع الأعلى في كل شيء والمصدر الوحيد لكل قانون أو دستور.

فالله تعالى وحده هو الذي يشرّع الأحكام في كل شيء، وسائر الأنظمة والقوانين تقوم على أساس أن المشرّع هو الإنسان فهو الذي يشرّع لنفسه، وهما قاعدتان متناقضتان لا تلتقيان.

ص: 400

فالقانون الإسلامي يتجلى فيه قدرة الخالق وعظمته، وإحاطته بما كان وبما هو كائن، خلافاً للقانون الوضعي ومنه القانون المدني الذي نحن بصدد نقضه والذي يتمثل فيه نقص البشر وعجزهم وضعفهم، وقلّة حيلتهم وعرضة قانونهم للتغيير والتبديل والتحريف كما سنرى ذلك جلياً في وقوفنا ساعة مع القانون المدني لنكشف عن وجه الحق، ونعرض فيها صواب الرأي بعمق واستنارة حتى تنجلي الحقائق، ويبرز زيف الباطل فلعل مطبقي هذا القانون يبصرون النور، فيثوبوا إلى الحق ويسيروا في طريق الهدى، ويدركوا مدى ما كانوا فيه من ضلال ما بعده من ضلال، ومن أحكام للطاغوت ولغير ما أنزل الله، ويرون أن واجبهم حرب هذا القانون واستعاضته بقانون الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

تعريف القانون:

كلمة القانون اصطلاح أجنبي معناه عندهم: الأمر الذي يصدره الحاكم ليسير عليه الناس، وقد عرّف بأنه:((مجموع القواعد التي يجبر السلطان الناس على اتباعها في علاقاتهم)) وقد أطلق على القانون الأساسي لكل حكومة كلمة الدستور، وأطلق على القانون الناتج من النظام الذي نص عليه الدستور كلمة القانون، وقد عرّف الدستور بأنه "القانون الذي يحدد شكل الدولة ونظام الحكم فيها، ويبيّن حدود واختصاص كل سلطة فيها"أو "القانون الذي ينظم السلطة العامة أي الحكومة ويحدد علاقتها مع الأفراد، ويبين حقوقها وواجباتهم قِبَلَهم، وحقوقهم وواجباتهم قِبَلَها.

ص: 401

هذه خلاصة الاصطلاحات الذي تعنيه كلمتا دستور وقانون، وهو في خلاصته يعني أن الدولة تأخذ من مصادر متعددة سواء أكانت مصدراً تشريعياً أو مصدراً تاريخياً أحكاماً معينة تتبناها وتأمر بالعمل بها فتصبح هذه الأحكام بعد تبنيها من قِبَل الدولة دستوراً إن كانت من الأحكام العامة، وقانوناً إن كانت من الأحكام الخاصة، ومن الجدير بالذكر أن هناك فرقاً بين الدستور الإسلامي والقوانين الإسلامية، وبين غيرها من الدساتير والقوانين، فإن باقي الدساتير والقوانين مصدرها العادات وأحكام المحاكم الخ، ومنشؤها جمعية تأسيسية تسن الدستور ومجالس منتخبة من الشعب تسن القوانين، لأن الشعب عندهم مصدر السلطات كما أن السيادة للشعب لديهم.

أما الدستور الإسلامي والقوانين الإسلامية فإن مصدرها الكتاب والسنة ومنشؤها اجتهاد المجتهدين حيث الحاكم يتبنى منهما أحكاماً معينة يأمر بها فيلزم الناس العمل بها، لأن السيادة للشرع، والاجتهاد واستنباط الأحكام الشرعية حق لجميع المسلمين، وفرض كفاية عليهم.

1_

نقض كلمة القانون المدني:

إن إطلاق اسم القانون المدني على هذا القانون إطلاق خاطئ لأنه قانون ينظم علاقات الناس، وهو قانون معاملات وليس هناك أي صلة بين لفظ المدني والمعاملات، فوصف القانون بأنه مدني وصف غير منطبق على حقيقته لأن حقيقته أنه ينظم علاقات الناس، وهذه معاملات ولا صلة للقانون بالمدنية مهما أريد بها من معان، فإن أريد بالمدنية الرقي ضدّ التأخر فالقانون يوصف بأنه ينظم العلاقات وبأنه قانون معاملات، وقد يكون راقياً وقد يكون غير راق.

ص: 402

فالقانون الفرنسي الذي وضع في أيام نابليون قد ظهر للفرنسيين فساده وتأخره، ووضع بدله قانون مدني جديد، ومع ذلك لا يزال يسمى القانون المدني، والقانون الروماني ظهر فساد نظرياته ومع ذلك لا يزال يقال عنه القانون المدني، وليس المراد من وصف القانون بالمدني بيان كونه راقياً أو غير راق بل المراد بيان حقيقته بأنه وضع لينظم المعاملات ولذلك لا علاقة مطلقا بين المدنية وبين المعاملات.

وإن أريد بالمدنية النسبة إلى المدينة فالقانون لم يوضع للمدينة فقط، وإنما وضع للمدينة والقرية ومضارب البدو فتخصيصه بالمدنية لا وجه له مطلقاً، وإن أريد بالمدنية الأشكال المادية المحسوسة فهي عاجلية وهي ليست المنظمة للعلاقات، فلا علاقة للقانون بالأشكال والصناعات، وعليه فلا وجه لتسمية القانون بالقانون المدني ولا لوصفه بأنه مدني، بل هو قانون معاملات.

1_

نقض الأصل الفقهي للقوانين المدنية:

"إن القانون المدني من حيث هو لدى جميع التقنينات اللاتينية [1] والجرمانية [2] والمتخيرة [3] يقوم على نظرية الالتزام، ويبنى كله في إجماله وتفصيله عليها، وبما أن هذه النظريات فاسدة من أساسها، لذلك كان القانون المدني كله فاسداً وهاكم البيان:

لقد عرّف القانون المدني بأنه: ((القانون الذي ينظم علاقات الأفراد بعضها ببعض)) وقسم إلى قسمين رئيسيين: قسم الأحوال الشخصية وقسم المعاملات.

فقواعد الأحوال الشخصية هي التي تنظم علاقة الفرد بأسرته، وقواعد المعاملات هي التي تنظم علاقة الفرد بغيره من الأفراد من حيث المال، وعرّف الحق في المعاملات "بأنه مصلحة ذات قيمة مالية يقررها القانون للفرد".

وقسم الحق إلى قسمين رئيسيين حق يتعلق بعلاقة الشخص ويسمى "الحق الشخصي"وحق يتعلق بعلاقة الشخص والمال ويسمى "الحق العيني"، والحق الشخصي في نظرهم رابطة ما بين شخصين دائن ومدين.

ص: 403

والحق الشخصي هو الالتزام، وعلى أساسه عولجت المعاملات الشخصية مثل الحوالة والبيع والمقايضة والشركة والهبة، والصلح، والإجارة، والعارية، والوكالة، والوديعة، والرهان والكفالة.

والحق العيني هو ليس علاقة في نظرهم وإنما هو سلطة أعطاها القانون لشخص معين على شيء معين، وعلى أساسه عولجت المعاملات العينية مثل حق الملكية، وأسباب كسب الملكية، ورهن المنقول، والرهن العقاري، والتأمين على الحياة، وحقوق الامتياز.

هذا هو الأساس الذي يقوم عليه القانون المدني،.. وهذا الأساس فاسد من عدّة وجوه!

أ_ إن الحق في المعاملات ليس مصلحة ذات قيمة مالية بل هو مصلحة مطلقة، فقد تكون ذات قيمة مالية وقد لا تكون ذات قيمة مالية، فتخصيص الحق بالمصلحة ذات القيمة المالية يؤدي إلى شيئين:

أحدهما: أنه لا يشمل المصالح ذات القيمة المعنوية مثل الكرامة والشرف لأنه لا قيمة مالية لها، ولا يمكن تقديرها بقيمة مالية على الإطلاق، ولذلك كانت نظرية التعويض على القذف خاطئة.

وثانيهما: أن تقدير الأشياء بالقيمة المالية يحتاج إلى وحدة تكون أساساً للتقدير، والحق هو ذاته أساس، ولا يمكن إيجاد وحدة لتقدير قيمته، ولذلك كان تعريف الحق على هذا الوجه فاسداً.

ب_ إن تقسيم الحق إلى قسمين: حق عيني، وحق شخصي لا وجه له، ولا يوجد فرق بين ما أطلقوا عليه اسم الحق الشخصي، وما أطلقوا عليه اسم الحق العيني، ولا يوجد فرق بين المعاملات التي فرّعوها عليها، فلا يوجد فرق بين الإجارة ورهن العقار، فكيف جعلت الإجارة من الحق الشخصي، وجعل الرهن من الحق العيني على أن التعريف نفسه فرضي وليس حقيقياً.

ص: 404

فحين عرّفوا الحق بأنه سلطة معينة يعطيها القانون لشخص معين على شيء معين لم يفهم من هذا التعريف مطلقاً أن العلاقة ناشئة بين الشخص والشيء، بل هي علاقة ناشئة بين الشخص والشخص وموضوعها الشيء، فالعلاقة ما بين شخصين موجودة في الحق العيني، وحين عرّفوا الحق الشخصي بأنه رابطة بين شخصين دائن ومدين يخول الدائن بمقتضاها مطالبة المدين بإعطاء شيء أو بالقيام بعمل أو بالامتناع عن عمل.

حين عرّفوا الحق الشخصي بذلك لم يفهم من هذا التعريف نفي وجود علاقة بين الشخص والشيء، لأن موضوع العلاقة هو الشيء الذي نشأت من أجله الرابطة بين الشخصين، فتكون هناك رابطة بين الشخص والشيء في الحق الشخصي، وهو كالحق العيني عنصر من عناصر الذمة المالية يتصرف فيه صاحبه بالبيع والرهن سواء، ولذلك كان هذا التقسيم غير وارد ومخالفاً للواقع والحقيقة.

الالتزام: إن الحق الشخصي أي الالتزام يقوم على رابطة قانونية ما بين الدائن والمدين، وقد كانت هذه الرابطة التي يقوم عليها الالتزام تعطي للدائن على جسم المدين لا على ماله، وكان هذا هو الذي يميز بين الحق العيني والحق الشخصي.

ص: 405

فالأول سلطة تعطى للشخص على شيء، والثاني سلطة تعطى للشخص على شخص آخر، وبناء على ذلك كانت سلطة الدائن على المدين سلطة واسعة يدخل فيها حق الإعدام، وحق الاسترقاق، وحق التصرف، ثم ظهر فساد هذه النظرية فلجأوا إلى تخفيف السلطة حتى صارت مقصورة على التنفيذ الذي يقول به القانون المدني وهو حبس المدين مثلا، ثم صار التنفيذ على مال المدين لا على شخصه، بالحجز مثلاً وأصبح للالتزام منذ عهد الرومان مظهران: مظهر باعتباره رابطة شخصية فيما بين الدائن والمدين، ومظهر باعتباره عنصراً مالياً يقوم حقاً لذمة الدائن ويترتب في ذمة المدين، وعلى ذلك ظهر فساد نظرية الالتزام ففسرت هذا التفسير حتى تكون لها ناحية شخصية وناحية مالية، فأدى ذلك إلى أن ينشأ اختلاف في الالتزام فنشأ مذهبان: أحدهما يغلب الناحية الشخصية للاحتفاظ بالنظرة الأصلية للقانون الروماني، وهذا ما سارت عليه التقنينات اللاتينية والآخر يغلب الناحية المالية ويجردها من الناحية الشخصية ويتحرر من القانون الروماني، وهذا هو ما سارت عليه التقنينات الجرمانية، وبذلك صارت نظرية الالتزام تفهم فهماً شخصياً عند اللاتينيين، ويترتب على هذا الفهم عدم لحاق المال والاقتصار على الشخص، ولذلك لم يجيزوا حوالة الدين وأخذ بذلك القانون الفرنسي القديم.

وصارت نظرية الالتزام تفهم فهماً مادياً عند الجرمانيين ويترتب على هذا الفهم لحاق المال وليس الشخص، ولذلك أجازوا حوالة الدين فكان في الالتزام مذهبان:

ص: 406

المذهب الشخصي، والمذهب المادي ولكل وجهة نظر تخالف الآخر، فالمذهب الشخصي يرى أن الأمر الجوهري في الالتزام هو أنه رابطة شخصية فيما بين الدائن والمدين، ويترتب على هذا أن لا يدخل فيه معاملات كثيرة منها أن لا تدخل فيه الكفالة، ولا يدخل فيه الوعد بجائزة وما شاكل ذلك من المعاملات فيكون مذهباً قاصراً لأنه لا يشتمل المعاملة التي تنشأ من جانب واحد، والمذهب المادي يرى أن العبرة في الالتزام بمحله دون أشخاصه، وأن الرابطة الشخصية ليست هي الأمر الجوهري، ويترتب على هذا أنه يجوز وجود معاملة إذا وجد المال وحده دون شخص، وجعل العلاقة الشخصية غير ضرورية، وهذا لا يجوز إذ لا تتصور أي معاملة تحصل دون وجود شخص آخر حتى الكفالة، والوعد بجائزة، وعقود التأمين لمصلحة الغير والسند لحامله، وكان المذهب الثاني غير واقع هذا بالنسبة لنشوء فكرة الالتزام.

أما بالنسبة لتعريف الالتزام فقد وجدت له عدّة تعاريف وكلّها تدور حول جعل محل الالتزام إعطاء شيء أو القيام بعمل أو الامتناع عن عمل، فقد عرّف الالتزام بأنه اتفاق يلتزم بمقتضاه شخص أو أكثر نحو شخص آخر أو أكثر بإعطاء شيء أو بالقيام بعمل أو بالامتناع عن عمل، وهذا يعني جعل الالتزام اتفاقاً، وهذا التعريف لا يشمل المعاملات التي لا يوجد فيها اتفاق، وعرّف الالتزام بأنه ((حالة قانونية بمقتضاها يجب على الشخص أن ينقل حقاً عينياً أو أن يقوم بعمل أو أن يمتنع عن عمل)) وهذا التعريف جعل الالتزام حالة قانونية مع أن حقيقته هو علاقة يقرّها القانون، فتعريفه بحالة قانونية يجعله فضفاضاً غير مانع من دخول حالات قانونية لا صلة لها بالالتزام.

ص: 407

هذه خلاصة الالتزام بوجه عام، وهذا كله خطأ محض؛ إذ لا يوجد في الموضوع التزام لا بالمعنى الشخصي ولا بالمعنى المادي، لأن المسألة ليست رابطة بين دائن ومدين ولا يوجد هذه الرابطة مطلقاً، ولا هي رابطة بين شخص ومال أو سلطة لشخص على مال مطلقاً، وإنما الموضوع يتلخص في أن هناك علاقة بين شخصين موضوعها المصلحة، وقد تكون مالاً وقد تكون غير مال، وقد تكون العلاقة عند الإنشاء وقد تكون عند التنفيذ، وهذه العلاقة يوجدها جلب مصلحة أو رفع مفسدة للإنسان، وينظمها القانون فالبيع علاقة بين شخصين عند الإنشاء موضوعها المال، والوعد بإعطاء جائزة لمن عثر على ضائع علاقة بين شخصين عند التنفيذ موضوعها المال، والزواج علاقة بين شخصين موضوعها المصلحة وهي هنا ليست المال، وعلى ذلك فالالتزام بالمفهوم الذي ذكره القانون المدني غير موجود لا بالمذهب الشخصي ولا بالمذهب المادي، والالتزام من حيث هو بالمعنى الذي أرادوه وهو الحقوق الشخصية غير موجودة، وعلى ذلك ليست المعاملات سلطة من شخص على مال، ولا هي رابطة شخصين، وإنما هي علاقة بين شخصين موضوعها المصلحة التي يقرّها القانون، وينطبق ذلك على المعاملات التي تحصل بين شخصين عند الإنشاء كالإجازة أو بين شخصين عند التنفيذ كالوعد بجائزة لمن يقوم بعمل، وإذا كان الأمر كذلك كان الالتزام بأكمله غير موجود فضلاً عن كونه بالمعنى الذي أوردوه غير صحيح لا فيما ورد بالمذهب الشخصي ولا فيما ورد بالمذهب المادي، ولذلك كان القانون المدني ترتب على الالتزام وبني عليه قانونا غير صحيح.

نظرية الالتزام:

ص: 408

تعتبر نظرية الالتزام أهم النظريات الفقهية في التقنينات الغربية جميعها، والناظر في الفقه الغربي وفي التقنينات جميعها يستدل من العناية الكلية بها على ما لها من شأن وخطر، فهي من القانون المدني بل من القانون عامة بمثابة العمود الفقري من الجسم، وهي في نظرهم أصلح النظريات القانونية ميداناً للتفكير وأفسحها مجالا للتعميم وأخصبها تربة لا نبات القواعد العامة، ويرونها بأنها أولى النظريات قابلية للتوحيد في شرائع الأمم المختلفة ولذلك يجعلونها الأصل الذي يتفرع عنه القانون المدني، فإذا ظهر فسادها وعدم صلاحها تبين بوضوح فساد جميع التقنينات التي بنيت عليها، وظهر فساد جميع القوانين المتفرعة عنها ولا سيّما القانون عنها ولا سيّما القانون المدني الذي هو في حقيقته نظرية الالتزام وفروعها، والناظر في هذه النظرية يجد أنها كانت منذ عهد الرومان وأن جميع التقنينات نقلتها عن الرومان واستعملتها في أول الأمر دون تغيير يذكر، لكن لما بدأت مشاكل الحياة تتجدد ظهر فساد هذه النظرية للذين نقلوها وبرز لهم عدم صلاحيتها فاعتبروا هذا الفساد قصوراً عن الإحاطة بالمشكلات، وأخذوا يغيرونها زاعمين أنها تتطور.

والحقيقة أن هناك عوامل متعددة أبرزت فساد النظرية وأثرت عليها حتى تغيرت كثيراً، وتبدلت على مختلف العصور، فالنظريات الاشتراكية التي ظهرت في أوربا قبل ظهور المبدأ الشيوعي أظهرت عدم صلاحية نظرية الالتزام، فاضطر الفقهاء لأن يغيروا نظرتهم للالتزام، فعقد العمل قد أدخلت عليه قواعد وأحكام تهدف إلى حماية العمال وإلى إعطائهم من الحقوق ما لم يكن لهم من قبل كحرية الاجتماع وحق تكوين النقابات وحق الإضراب، ونص نظرية الالتزام الرومانية لا يبيح إحداث مثل هذه القواعد، ولا يبيح مثل هذه الحقوق.

ونظرية العقد ذاتها كانت قوة الالتزام فيها تبنى على إرادة الشخص فصارت تبنى على التضامن في الجماعة أكثر مما تقوم على إرادة الفرد.

ص: 409

وهذه نظرية الغبن لم تكن موجودة بل لم تكن نظرية الالتزام تجيزها فقد كانت النظريات الفردية تقضي بوجوب ترك الفرد حراً في تعاقده يلتزم بما أراد مهما أصابه من غبن في ذلك، ولما تبين فساد هذه النظريات أدخلت نظرية الغبن على بعض العقود ثم أخذت تتسع حتى أصبحت في القوانين الحديثة نظرية عامة تنطبق على جميع العقود، وهكذا كان لنشوء أفكار عن الحياة تخالف الأفكار القديمة أثر في بيان نظرية الالتزام ولم يقتصر الأمر على ذلك بل كان استعمالها مختلف الآلات الميكانيكية وتقدم الصناعة ووجود حروب عالمية قد أوجد مسائل عملية تبرز فساد نظرية الالتزام إذ إن استعمال الآلات اقترن بمخاطر جمة يستهدف لها الناس ولم تكن نظرية الالتزام تجعل المسؤولية إلا على الشخص، فظهر عدم صلاحيتها ووضعت المسؤولية على الخطأ المفروض، وصار إلحاق أي أذى في العامل يلزم صاحب العمل بالتعويض وهذا لا تقتضي به نظرية الالتزام، وصار عقد التأمين لا يقتصر على الشخص بل يشمل الغير فوجدت نظرية الاشتراط لمصلحة الغير، كما إذا أمّن شخص على حياته لمصلحة أولاده سواء أكان له أولاد وقت التأمين أم لم يكن له أولاد حين التأمين، وهذا يخالف نظرية الالتزام بأنها رابطة بين شخصين، والأولاد الذين لم يوجدوا لا يدخلون في هذه الرابطة مع أن العقد أصبح يدخلهم، وعلاوة على ذلك فإن نظرية الوفاء بعملة نقص سعرها، وفي التسعير الجبري للسلع والتقدير الجبري للأجر، وفي عقود التزام المرافق العامة ما يناقض نظرية الالتزام ومع ذلك أدخلت في القوانين الحديثة وهي تدل على فساد نظرية الالتزام وعدم صلاحها، وزيادة على ذلك فإن النظرية التي تقضي بأن الغش يفسد العقد، والقاعدة القائلة بأنه لا يجوز الاتفاق على ما يخالف الآداب، والنظام العام والالتزام بوجوب الامتناع عن الإضرار بالغير دون حق والإثراء بلا سبب الذي يمنع الشخص أن ينتفع على حساب غيره، كل ذلك يخالف نظرية الالتزام ويدل على

ص: 410

فسادها لأنها تقييد وليس حرية، وهي تناقض الحق الشخصي وتهدمه على اعتبار أنه حق مطلق غير مقيد على أن الالتزام من حيث هو باعتباره الحق الشخصي، وباعتباره الحق العيني يقوم على رابطة قانونية بين الدائن والمدين توجب على الشخص أن ينقل حقا، وهذا يعني عدم اشتراط الرضا بالحوالة دون رضا المحال عليه بحوالة الحق، وعدم اشتراط رضا الدائن بحوالة الدين، لأن الحالة القانونية في الالتزام تلزم الشخص بنقل الحق عيناً أو ديناً، وهذا لا يضمن تحقيق العدل ولذلك ظهر فساده، فمجرد تبليغ المحال عليه لا يكفي بل لابد من قبوله لأن العقد في الحوالة _ كما في غيرها _ يجب أن تكون برضا أطراف العقد.

هذا إجمال في نظرية الالتزام، ومنه يتبين أنها لا تصلح ميداناً للتفكير لأن كثيراً من أنواع العلاقات بين بني الإنسان لا يمكن استنباطها منها بل على العكس هي تمنع استنباطها مثل كون الغش يفسد العقد وهي لا تصلح لأن تكون مجالاً للتعميم لأن المسؤولية على الخطأ المفروض وحوالة الدين، والاشتراط لمصلحة الغير والإرادة المنفردة وما شابه ذلك لا يمكن أن تشملها لا بمنطوق ولا بمفهوم، ولذلك فهي قاصرة وهي لا تصلح لا نبات قواعد عامة بدليل وجود نظريات وقواعد عامة تناقضها مثل قاعدة عدم جواز الاتفاق على ما يخالف الآداب والنظام العام، ومثل نظرية الغبن في العقود وليس فيها قابلية للتوحيد في شرائع الأمم بدليل ظهور قصورها وعجزها حين ظهرت النظريات الاشتراكية، رغم كونها فاسدة، وحين تقدمت الصناعة وهي من أساسها خاطئة لأنها تقوم على حرية الملكية والحرية الشخصية، وهذه الحرية للشخص وفي الملك هي التي تسبب الفساد بين الناس وهي التي تمكن من الاستقلال والاستعمار لأن إعطاء الحرية في التملك وإعطاء الحرية الشخصية يحميه القانون حين بني على نظرية الالتزام وفي ذلك الفساد والشقاء.

ص: 411

والذي يبرز فساد نظرية الالتزام أيضاً تعريف مصدر الالتزام وترتيب مصادر الالتزام التي ذكرتها التقنينات القديمة والحديثة كما سنرى في الحلقة المقبلة من هذا الموضوع بمشيئة الله تعالى ذلك جليا.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

التقنين اللاتيني مأخوذ عن التقنين الروماني وأول ما وضع من القوانين اللاتينية القانون الفرنسي ثم قلدته قوانين متعددة، ومن التقنينات اللاتينية القانون الإسباني، والقانون الإيطالي، وقوانين أمريكا الجنوبية.

[2]

التقنين الجرماني: وقد تحرر من النظريات الرومانية، وغلب النظريات الجرمانية الأصل، وهو يخالف في نظرته الأساسية التقنين اللاتيني، ومن التقنين الجرماني القانون الألماني والنمساوي والسويسري.

[3]

التقنينات المتخيرة: وهي التقنينات التي استقت من كلتا المدرستين اللاتينية والجرمانية، وحاولت أخذ محاسنهما، ومن هذه التقنينات القانون البولوني والقانون البرازيلي.

ص: 412

من الصحف والمجلات

إعداد العلاقات العامة

إن سن الدراسة الجامعية من الثامنة عشرة إلى الرابعة والعشرين هي فترة الغرس والرعاية وتكوين الإنسان لمبادئه وفيها يتعرض أيضاً لمختلف التيارات الفكرية، ولكننا نبعث شبابنا إلى العدو ليعيدوهم خنجرا مسموما في صدورنا بعد أن يميتوا أواصر المحبة بينهم وبين أهلهم، تلك الفترة التي يجب فيها إعداد الشاب المسلم على منهاج واضح متين.

إنها نظرة الإعجاب التي نحملها للغرب جعلت من الآباء عندنا يعتقدون بأن العلم الصحيح والتدريس الجيد ما هو إلا في جامعات الغرب، أضف إلى ذلك المركز الاجتماعي المرموق الذي هيأه المستعمر لحاملي الشهادة الأوربية والأمريكية (حديثاً) واستمر هذا حتى بعد رحيل الاستعمار حسب تخطيطه.

فقرات من مشاهدات عائد من أمريكا (الحلقة الثالثة) مجلة المجتمع

وهناك انسجام وتفاهم تامين بين فريق من رجال العصابات والشيوعيين في حقل ترويج المخدرات، والتعاون على انتزاع الأسرار العسكرية ومعرفة مواقع الانشاءات التي تنوي حكومة واشنطن إقامتها في ألاسكا والحصول على تصاميمها، وعلى الرغم من طول المسافات الشاسعة التي تفصل ألاسكا عن الولايات المتحدة فإن الأعمال الإجرامية والموبقات قد سبقت المدنية إلى تلك البلاد واستشرى شرها في السنين الأخيرة بشكل فاضح.

ومن الأمور الطبيعية أن تسمع بحوادث تشليح على قارعة الطريق، وسرقات علنية، واقتحام المنازل بقوة السلاح، وهذه الأعمال يقوم بها الجنود وفريق من المدنيين المغامرين.

فقرات من موضوع (فضائح)((الإمبراطورية الأميركية)) المنشور في كتاب أميركا دولة تحكمها العصابات.

ص: 413

ولقد أحدث الشيخ علي عبد الرزاق "ثلمه "في الإسلام سيظل يحمل وزرها أمداً طويلا، فلأول مرة يجرؤ عالم أزهري مسلم إلى القول بأن الإسلام دين روحي، وأنه لا صلة له بنظام الحكم مهما كان سياق الدعوة أو ظروفها السياسية أراد أن يخدم بها حزب الأحرار الدستوريين أو الانجليز أو المعارضين الملك فؤاد، فإنه في سبيل غاية هينة قد استخدم نصوصاً أراد بها أن يحجب حقيقة أساسية هي أن الإسلام نظام مجتمع ومنهج حياة متكامل، فمنذ ذلك اليوم يكتب المستشرقون فيقولون: إن في الإسلام نظريتين: إحداهما تقول بإن الإسلام دين ودولة، والأخرى تقول أن الإسلام دين روحي، وصاحب هذه النظرية هو علي عبد الرزاق ومن سار على طريقه من بعده ومن خريجي الأزهر أيضاً مع الأسف.

من مقال نظريات واحدة كشف الفكر الإسلامي زيفها للأستاذ أنور الجندي

فالتخوف من الاكتساح الماركسي لم يعد مناسبا للمرحلة الراهنة من الصراع الإسلامي الماركسي، لأن الإسلام لم يعد الآن في قفص الاتهام، أو في طور الدفاع لظهور حركة بعث إسلامي تستهدف استئناف الحياة الإسلامية، ولهذا السبب لم يعد يسوغ للإسلاميين أن يكتفوا ببيان محاسن الإسلام، وببيان تناقضه مع الماركسية، وإنما أصبح من اللازم عليهم أن يقوموا بهجومات مضادة تدعم مسيرة الحركة الإسلامية المعاصرة على أساس تقييم جدي لإمكانيات نجاح الماركسية وعوامل إخفاقها.

فقرة من مقال الإسلام الواحد والماركسيات المتعددة للأستاذ عبد الواحد الناصر - مجلة العدد الأول السنة السابعة عشر.

حركات نسائية مريبة

جاء في جريدة الأهرام في 15_4_75م تحقيق صحفي عن جريدة نيويورك تايمز الأمريكية تحت عنوان "الجريمة النسائية زادت مع نمو حركة تحرير المرأة في أمريكا ".

ص: 414

تقول الجريدة: خرج أخيرا تقرير عن مكتب التحقيقات الفيدرالية بالولايات المتحدة يشير إلى أن معدل الجريمة بين السيدات أو الجريمة النسائية ارتفع ارتفاعا مذهلا مع نمو حركات التحرر النسائية، وأن الاعتقالات بين السيدات زادت بنسبة 95 في المائة منذ سنة 1969م، بينما زادت الجرائم الخطيرة بينهم بنسبة 52 في المائة، هذا علاوة على أن خطر عشرة مجرمين مطلوب القبض عليهم كلهم من السيدات، ومن بينهن شخصيات ثورية اشتركن في حركات التحرر النسائية مثل جين البرت، وبرنادربن دورن.

ووراء ربط ارتفاع نسبة الجريمة بين السيدات بحركات التحرر النسائية وجهة نظر تقول: إن منح المرأة حقوقاً ومساواتها بالرجل يشجعها على ارتكاب نفس الجرائم التي يرتكبها الرجل، بل إن المرأة التي تحرر تصبح أكثر ميلاً لارتكاب الجريمة.

هذا ما جاء بالنص بالجريدة المذكورة يتبعها وجهات نظر متعددة تتضمن سؤالا في نفس التقرير، والسؤال الآن إذا لم تكن حركات التحرير النسائية هي المسئولة عن ارتفاع نسبة الجريمة بين الأمريكيات فأين تقع المسئولية؟

ونحن نضيف إلى هذا البحث الذي كتبه الدكتور يوسف مراد عن سيكاولوجية الجنس

يؤكد الباحث في كتابه أن النساء اللاتي يتزعمن الحركات النسائية غالباً ما يكون بهن شذوذ بصورة ما دفعتهن إلى الخروج عن طبيعتهن النسوية أو انحدرن من أسر شاذة.

ص: 415

وقد استمعنا إلى واحدة من زعيمات الحركة النسائية في مصر، وترأس تحرير مجلة نسائية بصوتها الشبيه بصوت الرجل، قالت هذه السيدة: أنها كانت تعجب بالرجال في فترة مراهقتها ولا بأس أن تحب واحدا بعد الآخر، وفي شهادتها المدرسية رسبت في الأخلاق، ولو امتد الحديث عن زعيمات أخريات وآفاق أوسع لرأينا الهول الشديد عن حياتهن الخاصة، هذه حجارة نلقمها أفواه الرجال والنساء الذين ينادون بحرية المرأة في جميع المجالات ويحتفلون بالسنة الدولية للمرأة، وهم في الواقع أعداؤها، وقد أخرجوها من مملكتها في المنزل عارية الساقين والذراعين.. حشروها في زحمة المواصلات تنهشها العيون الزائغة، وغرائز الشباب الملتهبة في الشوارع والمكاتب ومحال العمل فكان ما كان، وسيأتي ما هو أسوأ خيانات زوجية بالجملة، جيل ممزق ينشأ بدون رعاية أسرية أو جو أسري صحي مشاكل طلاق، وخراب بيوت، إلا من عصم الله، ومع هذا نجد صحفيا يطالب بأن تحتل المرأة مناصب أكبر في الوزارة؟

نحو مجتمع أفضل

قبل بضعة أيام أذاع راديو لندن ترجمة للخطاب الذي وجهه رئيس أساقفة كنيسة كانتربرى للشعب الإنجليزي، وعند سماعي لهذه الترجمة لم أكن أصدق ما أسمع.

فللمرة الأولى في حياتي بالرغم من قضائي عدة سنوات خلت في الغرب أثناء دراستي الجامعية لم أسمع إنسانا غربيا في هذا المستوى يحاول إيقاظ ضمائر شعبه للتنبه لهذا المستوى من الانحطاط والفوضى الخلقية التي تعيشها المجتمعات الغربية.

لقد أعلن رئيس أساقفة كانتربرى في خطابه إلى الشعب الإنجليزي أن أهم أسباب انهيار المجتمع الإنجليزي وضعفه وتفككه يعود لعاملين مهمين هما:

اندثار الأخلاق.

اضمحلال الجانب الروحي لدى الإنسان الإنجليزي.

ص: 416

ونبه شعبه إلى أن الاهتمام والتركيز على النواحي المادية فحسب سوف يؤدي إلى النهاية المحتومة لبريطانيا واندثار حضارتها وضياعها إلى الأبد، وأكد رئيس أساقفة كنيسة كانتربرى أن الاهتمام بالأمور المادية يجب أن يصاحبه باستمرار اهتمام مكافئ بالنواحي الخلقية والروحية، وربط بين انحلال الشباب وتفشي الجريمة والعنف وانهيار الأسرة بالاهتمام الطاغي الوحيد بالنواحي المادية للحضارة وتجاهل أهمية الأخلاق والروح في المحافظة على توازن النفس والسلوك والتصرفات البشرية.

وفي الختام دعا رئيس الأساقفة شعبه إلى الوقوف مليا لتأمل الواقع المرير الذي يعيشونه، والمستقبل المظلم الذي ينتظرهم إذا سارت الأمور على ما هي عليه من الانحلال والضياع، واتخاذ خطوات سريعة لرأب الصدع وإجراءات جذرية لتصحيح المسيرة وذلك بإعادة الاهتمام بالنواحي الخلقية والروحية في تربية النشء.

عن مجلة المجتمع الكويتية

ص: 417

جراح الإسلام

شعر: محمد المجذوب

(فانقصا من ملامتي أو فزيدا)

قد أبت مقلتاي إلا جمودا

ث عزيزا ولم أؤبن شهيدا

واعذراني إذا وجمت فلم أر

فقد الموت وقعه المعهودا

كثر الموت في الأحبة حتى

في خطوب سدّت عليه الوجودا

ليت شعري ماذا يقول بليغ

ن، وبعض الأنباء يفري الكبودا

أفلا تسمعان أنباء لبنا

فباتت، وهي الجنان، حصيدا

غرقت بالدماء أكنافه الخضر

م فغطت سفوحه والنجودا

وبأرجائه تناثرت الها

على الناطحات حتى تبيدا

وسرت في ربوعه النار تنقضّ

وأحالت عطر الحياة صديدا

والصواريخ زلزلت كل رأس

ء أوحى طغاتها أن تعودا

إنها غدرة الصليبية الرعنا

ن)) ليغدو التوحيد فيها وقيدا

قد تولى إيقادها أمس ((اربا

((وشمعون)) تستجدّ الحقودا

وهي اليوم في قيادة ((إبيير))

وقد جاز في السَّفاه الحدودا

ألبت كل مجرم كره الحق

ن)) _على رغمه_ كتائب سودا

ثم ساقت أوسابهم باسم ((مارو

م والمسلمين دينا سديدا

لا ترى في سوى القضاء على الإسلا

وفي لحظة تخون العقودا

ولكم عاقدت وسيطاً على السلم

أن ترى الكل هالكا أو شريدا

فهي لا ترتوي مدى الدهر إلا

ويرتد دونها مهدودا

فتن يستطار من هولها اللبُّ

ن تزجي على حمانا الجنودا

تتداعى في غمرها ذكرُ الصلبا

كل ضرب من الخطوب فريدا

تتوالى أشباحها حاملات

كوس)) يأبى لها البغاة خمودا

منذ ((فرناند)) لا تزال إلى ((مر

فأذكى أوارها تجديدا

كلما قيل قد خبت هبّ ذو ضغن

العوادي كالدهر غضاً جديدا

غير أن الإسلام ظل على رغم

برار، كيد الفجار إلا صمودا

لم يزده، ولم يزد جنده إلا

نو لنصر في أمتي أو يسودا

ولعمري ما كان للغدر أن ير

ص: 418

شد واستلهموا الكتاب المجيدا

لو توخّى الحكام فيها سبيل الر

عليه _ بعد الأسود قرودا

بيد أن الإسلام بدِّل _ والهفا

وشدوا على بنيه القيودا

فتحوا للبغاة أسواره الشُّم

في بلاء يجاوز التحديدا

وتباروا في حربه، فهو منهم

أم تراهم قد استطابوا الرقودا!

يا لقومي.. أليس فيهم رشيد

ن لتمزيقهم يُعدّ الحشودا

شُغلوا بالخلاف، والخصم يقظا

رجموه، أو أوسعوه صدودا

وإذا حثهم على الوعي هاد

ن، ويأبى عن وحيه أن يحيدا

جلهم أسلم الزمام لشيطا

ن يوماً إلا الهلاك الأكيدا

ومحال أن يضمر الكفر للإيما

م منهم قد استمد الوقودا!

هل دَرَوا أن كل غزو على الإسلا

ت تهاوى ليس العقوق الوحيدا

تركنا القدس تستغيث وبيرو

ف المآسي لمن أراد شهودا

فبتايلندا والفلبين إلا

جرح الإسلام ثراً جديدا

وبتركية الشقيقة ما ينفك

إلى الآن لم تجد تضميدا

طعنة ((الدونميّ)) في قلبه البَر

فانبتّ إخاء كان الرباط السعيدا

حطمت دوحة الخلافة

ليس يألو في عقدنا تبديدا

فغدونا مذ يومها في صراع

زت بأحداثها الجسام الوجودا

وضحايا الإلحاد في ((مقدشو)) هز

ولم تلف بيننا مردودا

ردّدت هولها العواصم إنكاراً

يين ليزداد غيهم تصعيدا

بل بذلنا للقائلين الملا

م أعاجيب قد تشيب الوليدا

وبصحراء مغرب العرب اليو

بها للأباة فتحاً مجيدا

أدركتها انتفاضة حقّق الله

ة عادوا فاعلنوا التهديدا

فإذا الإخوة الأولى أعلنوا الحيد

رب ما لا يسرّ إلا الكنودا

ثم لم يكتفوا فصبّوا على المغ

م بتحريضهم تدكّ الحدودا

عُصَب من ذئاب كوبا وفتنا

باركوها وصفقوا تأييدا

كلما أهرقت دماً عربيا

بأبعادها الحليم الرشيدا

محن تضحك الغويّ، وتستبكي

ص: 419

ولم يستطع لها تحديدا

لو مضينا في سردها عجز العقل

كلّ زيغ ونرفض التسديدا

سلبتنا السّداد حتى لنرضى

ولم نرع في الإخاء العهودا

فأبحنا أرحامنا لمدى البغي

نا على أهلنا العدو اللدودا

وأضعنا حق الإباء، وآثر

لأذانا وراح يبغي المزيدا

ولذلك اشرأب كلّ غشوم

ع لَوَنَّا سقنا إليه الوعيدا

وهو أهوى من أن يسوق لنا الرَّو

منعناه نفطنا المنشودا!

أيّ حول يبقى لعاد إذا نحن

عنهم رفدنا لخرّوا سجودا

ومطايا ((مارون)) لو قد حجبنا

حين صرنا للترهات عبيدا

غير أنا هِنّا على كل عبد

ني أناجي أطيافهن وحيدا

يا خليليّ.. خلياني وأشجا

في جحيم الأسى يذوب وليدا

قد عصتني الدموع لكنّ قلبي

قاتلاتي وإن بدوت جليدا

وجراح الإسلام من كل صوب

ص: 420

من الأدب الإسلامي

إليك أيها الداعية

بقلم: فضيلة الشيخ إبراهيم محمد سرسيق

المدرس بكلية الشريعة بالجامعة

بعد سنوات عديدة قضاها الكاتب يدعو إلى الله تعالى في شرق القارة الإفريقية عاد يقدم خلاصة تجاربه الميدانية في هذا المقال.

وقد اهتم فيه بإبراز الخصائص الهامة في شخصية الداعية الإسلامي وكيف ينبغي عليه أن يضبط تحركاته على نبض الأحداث في بيئته طبقا لمقتضيات الرسالة التي هيأه الله لتبليغها إلى الناس..

أيها الداعية.. من أنت؟ هل أنت مجرد آدمي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ هل أنت مجرد موظف يرتزق من دعوته الناس إلى دين الله؟ أو هل أنت عميل تابع لمذهب سياسي معين، ترتفع بارتفاعه وتنخفض بانخفاضه؟ أو أنك راهب متصوف تنتظر أن يأتيك الناس التماساً للبركة وأملا في "المدد"!!

من أنت على وجه الحقيقة، بين كل هؤلاء؟؟ أم أنك نموذج فريد يختلف عن كل هؤلاء؟

لتكن على بينة أيها الأخ الصالح، أن ظروف الحياة اليوم تختلف كثيرا كثيراً عنها بالأمس، وتلك سنة الله في خلقه، ووسيلة من وسائله سبحانه في تجديد ملكه، ومن ثم فإن طرق الدعوة يجب أن تتكيف مع المتغيرات في هذا الكون، كما أن شخصية الداعي يجب أن تتعدل مع طبيعة الكائنات في هذا العصر، ويحكم على نفسه بالذبول وبالموت، من يظل من الدعاة سالكاً دروبه القديمة، عاكفاً على طرقه العقيمة تاركاً التزود بالمناهج الإرشادية القويمة.

ص: 421

ومن أعجب العجب، أن ينتهك ستار الأخلاق والأدب، بأن يلجأ الداعية إلى ترديد القديم البالي من الخطب، فكأنما يصيح بلسان غير لسان عصره، ويقدم العظة لغير أهله ومصره، وكأني بأحد الجالسين يناشده ويعارضه: يا أخانا.. قد حفظنا ما تقول منذ سنين ونسيته! فكيف بالله تنسى اليوم ما قلته بالأمس، ولو شئت لرددناه على مسامعك حتى تغرب الشمس! فغير يا هذا من أسلوبك، واشتغل عن عيبنا بإصلاح عيوبك! وقوّم لسانك وبيانك، فإن اللسان هو ترجمان القلب، وبقدر ما يكون فؤادك تقياً نقيا يكون أسلوبك في الدعوة مؤثرا وقوياً!

واعلم يا أخي رعاك الله وهداك وجعل الجنة مثواك، أن البلاغة في الإلقاء الديني ليست في الأصل تدريباً للسان أو تطويعاً للبيان بقدر ما هي تنقية للقلب وتهذيب لجوارح الإنسان، نعم وإلا فخبرني: كيف ينطق الداعية بما ليس فيه؟ وكيف ينهاك عن المنكر ثم يأتيه؟ إنه والله إذن لمأفون مفتون، وتأمل ما في قول الإله القاهر من سرّ باهر {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} أولست تعلم أن الإيمان دائماً يقترن بالعمل الصالح في كتاب الله الأقدس؟ فكيف بمن نصب نفسه للدعوة إلى الله عز وجل؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} .

ص: 422

كيف يتوقع من الداعية أن يكون قدوة لغيره وهو لم يستطع أن يصلح ذات نفسه، إنه والله للإفك المبين! إن على الداعية أن يخجل من نفسه، وأن يرهب عقاب ربه، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} عليه أن يبلغ من تأديب نفسه وزجرها وكبح جماحها ما بلغه الأسلاف الراشدون من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم! فإنه بغير ذلك لن يكون نافذ التأثير، قوي العظة، محركاً لمشاعر الجماهير الساعية إلى الحق وطلب الهداية، فالجماهير تتأثر بالفعل قبل القول، وبالقدوة قبل الخطبة، وبالسيرة الوضيئة النبيلة قبل المحاضرة الجريئة الطويلة.

واكبر منه جاهل يتنسك

فساد كبير: عالم متهتك

لمن بهما في دينه يتمسك

هما فتنة للعالمين عظيمة

روى الطبراني في معجمه الصغير عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لا أتخوف على أمتي مؤمناً ولا مشركاً، أما المؤمن فيحجزه إيمانه، وأما المشرك فيقمعه كفره، ولكن أتخوف عليكم منافقاً عالم اللسان، يقول ما تعرفون، ويعمل ما تنكرون! " فليتأمل هذا كل من يجري الشهد في بيانه، بينما يختبئ ثعبان أرقط تحت لسانه! يتكلم بالحكمة شعراً ونثراً، بينما يحمل قلبه شرا وجمرا..

ونستعيذ بالله تعالى من كل شيطان عنيد.

ثم تعال يا صاحب البيان الطلي، والأسلوب الشهي..

ماذا يحمل بيانك الصائب من علم وافٍ وفقه كافٍ وحديث شافٍ..

ص: 423

أين التفسير الصريح والحديث الصحيح؟ أين السند القوي، والدليل الذكي؟ من أي المناهل ارتشفت واشتفيت، وعلى أي المصادر اطلعت واكتفيت؟ أقضيت وقتاً طويلاً في البحث والتقصي قبل أن تخرج على الناس بفتواك، وتقدم إليهم من العلم الصحيح نصائحك وهداياك؟ تلك هي وربك قاصمة الظهر التي لا يمحى عارها أبد الدهر، اللهم إلا إذا كنت من عظاتك متثبتاً متيقناً، حتى لا تقع في الهوة التي وقع فيها من قبلك من جعلوا هواهم حكماً في أمور الدين وبئسما صنعوا {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} .

روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ضُيعت الأمانة فانتظر الساعة. قال: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة ".

وصدق الله العظيم {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .

ومن العلم الصحيح يا داعي الحق أن تهجر البدع وتنبّه الناس إلى ضررها، وأن تجانب الفساد وتحذر الناس من استشرائه وانتشاره، فإنها المهمة الكبرى المنوطة بك أن تحذر الناس من النار: نار الدنيا ونار الآخرة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} سورة التحريم: 6.

وقد روى ابن بطة بإسناد جيد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تركبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل ".

وسبحان من خلق النفوس وهو أدرى بأهوائها ومشاربها وهو قادر على إصلاحها.

ص: 424

((الحكمة)) .. جوهرة الداعية.. ويتفرع عن الإيمان بهذه الحقيقة أن يتفهم الداعية نفوس مريديه، فلا يلصق نفسه بهم وقد وهنوا أو سئموا، ولا يتخلى عنهم وقد رغبوا وطلبوا.. ولا ينبغي أن ننسى كيف عاتب الله نبيه من فوق سبع سموات في شأن عبد الله بن أم مكتوم، ذلك الأعمى الذي جاءه يسعى وهو يخشى {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَلَاّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} .

ومن أخطاء الدعاة أن يشنوها حرباً شعواء على مخالفيهم في الرأي أو المذهب أو العقيدة، وينسون أو يتناسون ضرورة التطبيق العملي لتوجيهات القرآن المجيد {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} ، {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} وكم من دعاة أخفقوا في مسعاهم بغلظ طباعهم، وخشونة مسلكهم، وكان يمكنهم أن يؤلفوا حولهم القلوب، ويفوزوا دائماً بالمطلوب وينالوا الثواب المرغوب، ولهذا كانت وصية الله تعالى لموسى وهارون حين وجههما إلى فرعون {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} ، ولم يمدح الله نبيه محمداً بمال أو جمال بل بحسن الخلق {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ، {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِك} .

وما لي لا أجذب ناظريك إلى الكفاح المضني الذي ناء به محمد صلى الله عليه وسلم، وكيف كان يسوس الناس أفضل سياسة، ويعامل الحضري والبدوي منهم بلطف وكياسة، أفلا يكون لنا قدوة في رسول ربنا وهو الذي جمّله الله بحميد الفعال وكريم الخصال؟

ص: 425

يا خلفاء الداعية الأعظم: محمد صلى الله عليه وسلم كم تغنمون من الثواب إذا نشطتم في التبليغ، ولم تكتفوا بالقعود في حرز منيع! يا دعاة الإسلام، لا تنتظروا أن يهب الناس إليكم، ويتزاحموا بالمناكب عليكم! قوموا من نومكم وابحثوا عن الضال لترشدوه كما أرشدكم الله، وعن المنحرف لتقوموه بما علمكم الله {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَاّ قَلِيلٌ} ! يا قومنا! لقد كان أمر الله لرسوله بالقيام وتحرير العقول من الأوهام أمرا صريحاً لا تلميح فيه {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} ، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} ، فكيف بكم أيها الدعاة في هذا العصر.. وقد تضخم العبء، ونشطت الدعوات الإلحادية، وصار الدعاة أغراضا ترمى بالسهام!

كيف وقد زادت الثروة، وانكمش عدد المؤمنين، وتفاقم الخطر والضرر على الدعاة الموحدين! تظلون مع هذا كله خدماً لبطونكم، عبيداً لشهواتكم أسارى لنسائكم؟ إذن فاسمعوا ما رواه الديلمي عن علي رضي الله عنه مرفوعاً:"يأتي على الناس زمان همتهم بطونهم، وشرفهم متاعهم، وقبلتهم نساؤهم ودينهم دراهمهم ودنانيرهم، أولئك شر الخلق لا خلاق لهم عند الله".

ص: 426

إن الدعوة إلى الله ليست سلعة تقبل أو ترفض! وليست عرضاً يبرم أو ينقض! وإنما هي روح الحياة وحياة الروح، وبدونها يكون المرء مصباحاً بلا شعاع، ومسافراً بلا متاع، وكائنا ممسوخاً ضائعاً شر ضياع {يا أيها الذين ءامنوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} وكلما كان الداعي مخلصاً مناضلا في سبيل رسالته، دائب التبليغ لدعوته نصره الله وأعزه، وأذهب كيد الكائدين له، وهيأ النجاح له أينما حل وحيثما ذهب! {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} فيا أخي هداك الله، لا تهزل وأعداؤك في جد، ولا تصخب وشانئوك في عمل، ولا تنم والمبشرون في يقظة {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} .

أفضل الجهاد: كلمة حق.. عند سلطان جائر..

آه ثم آه يا إخوتي: الحق أقول لكم: كم من المصائب التي طمّت وعمّت في عالمنا الإسلامي، ما كان لها أن تحدث والأمر لله، لو أن كلمة الحق قيلت في وجه طاغية غشوم!

ترك الدعاة الجهر بالحق فجهر فيهم أعداؤهم بالباطل، تخلوا عن تنفيذ أمر الله فسلط الله عليهم بأعمالهم من لا يخافوه ولا يرحمهم، فنعموا بجبنهم، وسمنوا في ظل خورهم وكسلهم وتسبيحهم بحمد ظالميهم.. فاللهم إنا نبرأ إليك مما فعلوا، ونعوذ بجبروتك أن نصنع مثل ما صنعوا.

ونسألك يا ذا النعم أن تلهمنا اللجوء إليك حين يحاصرنا الشيطان وأعوانه من بني الإنسان، فلا نكتم حقاً، ولا نخشى لك رقا، ولا تأخذنا فيك لومة لائم، نجاهر في وجه الظالمين بما قلته وقاله رسولك، نذكرهم بما نسوا من الحق، نخوفهم بجلالك وعظمتك أن يحلوا حراماً أو يحرموا حلالا، نذود الناس أن ينحنوا لغير الله، أو يذلوا رقابهم لما سوى الله.

فما يملك الإنسان نفعا ولا ضرا

من الله فاسأل كل أمر تريده

من الكبر في حال تموج بهم سكرا

ص: 427

ولا تتواضع للكبار فإنهم

فقد قيل عنها إنها السجدة الصغرى

وإياك أن ترضى بتقبيل راحة

يا داعية الإسلام.. ارجع البصر فيما حولك من أحوال دنياك: هل ترى إلا دولا تقوم وتنفض، وحكومات تبني وتنقضّ! ورؤساء يجيئون ويذهبون، وملايين يولدون ويموتون؟ هكذا أنت يا صاحبي {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} ، فضع مصحفك بين يديك، واجعل رسالتك نصب عينيك، واعلم أن الدعوة هي حياتك ومماتك، هي ماضيك وحاضرك، هي أعظم ما يبقى من خير لك {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ويقول النبي صلى الله عليه وسلم "فو الله لأن يهدي الله بك رجلا واحداً خير لك من حمر النعم".

فلتكن أعظم أعمالك بركة عليك بعد موتك، أن يتذكر بعض من هديتهم إلى الله، فيدعو لك دعوة صالحة، واجعل مسعاك لله، وإخلاصك كله لله، والتجاؤك دائماً إلى الله، وثقتك كلها في فضل الله، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.

ص: 428

ندوة الطلبة

الجِّد

للطالب أحمد حسن المعلم

فاترك معاتبتي بالله يا سامي

بالجد يمكنني تحقيق أحلامي

فيما يؤهلني للموقف السامي

إني لأصرف أوقاتي وأنفقها

حتى أود لو أن اليوم كالعام

يجتاز بي الدهر لا أبغي تصرمه

لذا حرصت على تقييم أيامي

إني أرى العمر مهر المجد أطلبه

فقد نهاني عن التبذير إسلامي

لا أصرف الوقت في لهو وفي لعب

بل راحت النفس في جدي وإقدامي

ولا أرى في لزوم الجد من تعب

فما تسبب تسهيدي بإيلامي

فكم سهرت على أوراك مكرمة

جاء النجاح يداوي جرحها الدامي

بل لو تفطرت الأعضاء من تعب

ينسيك ما كان من جهد وآلام

ما أعذب القصد بعد الجهد تدركه

يسري الطموح إلى أبناء أعمامي؟

هذا شعوري شعور الطامحين فهل

ص: 429

أخبار الجامعة

صاحب السمو الملكي ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى للجامعة الإسلامية يرأس المجلس الأعلى للجامعة في السابع عشر من شهر ربيع الأول القادم

سيعقد بمشيئة الله المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية في السابع عشر من شهر ربيع الأول دورته الأولى للعام الدراسي 95- 1396هـ في مقر الجامعة برئاسة صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى للجامعة الإسلامية، ويبحث المجلس في هذه الدورة العديد من الموضوعات ومن بينها مشروع ميزانية الجامعة للعام المالي 96-1397هـ وإنشاء فرع لكلية الشريعة بالجامعة في مقاطعة القصيم لتكون نواة لجامعة في تلك المنطقة في المستقبل القريب بمشيئة الله.

كما سيقوم بدراسة بعض لوائح الجامعة مثل لائحة قسم الدراسات العليا، ولائحة المجلس العلمي، ولائحة مجلس شؤون الدعوة، واللائحة المالية للجامعة، ولائحة المكتبات، كما سيتم في هذه الدورة تعيين عمداء للكليات من هيئة التدريس وأعضاء في مجلس الجامعة، وإنشاء أقسام في الكليات.

وسيتفضل سمو الرئيس الأعلى للجامعة بمناسبة قدومه الميمون إلى المدينة المنورة لرئاسة المجلس الأعلى للجامعة بمناسبة قدومه الميمون إلى المدينة المنورة لرئاسة المجلس الأعلى للجامعة بتفقد أقسام الجامعة وسماع بعض المحاضرات في بعض كليات الجامعة.

وهذه اللفتة الكريمة من سموه نموذج مما تتلقاه الجامعة من سموه باستمرار من رعايته إعلاءً لشأنها وتقديراًً لرسالتها وتشجيعها لها على السير قدماً نحو تحقيق أهدافها السامية.

الدكتور حافظ غانم نائب رئيس الوزراء ووزير التعليم العالي المصري يزور الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة

ص: 430

زار الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة صباح الخميس 5 صفر معالي الدكتور محمد حافظ غانم نائب رئيس الوزراء ووزير التعليم العالي بجمهور مصر العربية يرافقه الدكتور صوفي أبو طالب مدير جامعة القاهرة وبعض المسئولين عن التعليم العالي في مصر، وكان في استقبالهم فضيلة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد نائب رئيس الجامعة وفضيلة الأمين العام الشيخ عمر محمد فلاتة وعمداء الكليات وعدد من أساتذة الجامعة وقد رحب بهم فضيلة نائب رئيس الجامعة وتحدث إليهم عن الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ورسالتها العالمية وعنايتها بتثقيف الطلاب المسلمين من سائر أنحاء العالم الثقافة الإسلامية الصافية.

وبالدعوة إلى الإسلام وتبليغ رسالته الخالدة إلى العالم أجمع، وأشار فضيلته إلى أهمية الدراسات الإسلامية للطلاب المسلمين في سائر الجامعات.

ثم تحدث معالي الدكتور محمد حافظ غانم عن دور الجامعات في نقل الثقافات من جيل إلى جيل وأشاد برسالة الجامعة الإسلامية.

وبعد انتهاء الاجتماع زار معالي الضيف الكريم ومرافقوه بعض أقسام الجامعة ثم ودعوا بما استقبلوا به من حفاوة وتكريم.

وفي مساء اليوم غادر الوفد المدينة المنورة متوجهاً في رعاية الله إلى جدة وكان في وداعه بالمطار فضيلة نائب رئيس الجامعة والأمين العام والعمداء وبعض المسئولين في الجامعة.

ص: 431

أضواء من التفسير

لفضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد

المدرس بكلية الشريعة بالجامعة

قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَاّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَىإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَاّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} .

المناسبة:

بعد أن ذكر أطماعهم وشهواتهم، وهم يطمعون أن تشفع لهم هذه الأصنام، أقنطهم من هذه الشفاعة، ببيان أن الملائكة المقربين لا تغني شفاعتهم إلا من بعد إذن الله ورضاه لمن يكون أهلا للشفاعة، فكيف تشفع الأصنام لمن يعبدها؟

القراءة:

قرأ الجمهور {شَفَاعَتُهُمْ} ، وقرئ شفاعته، وقرئ شفاعاتهم.

المفردات:

{كَمْ} خبرية للتكثير. {مَلَك} ٍ واحد من الملائكة مأخوذ من المأْلَكَةَ وهي الرسالة، ومنه قولهم ألكني إلى فلان أي أبلغه عني. وسمي الملك لأنه يبلغ عن الله تعالى {لا تُغْنِي} لا تدفع ولا تنفع. {يَأْذَنَ} أي يبيح للشافع أن يشفع. {تَسْمِيَةَ الأُنْثَى} أي يقولون إنهم بنات الله. {تَوَلَّى} أعرض. {ذِكْرِنَا} أي القرآن. {مَبْلَغُهُمْ} غايتهم. {ضل} حاد.

التراكيب:

ص: 432

قوله {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَاّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} كم في محل رفع على الابتداء، والخبر لا تغني، وأفردت الشفاعة على قراءة الجمهور لأنها مصدر، ولأنه لو شفع جميعهم لواحد لم تغن شفاعتهم عنه شيئاً. وجمع الضمير في شفاعتهم مع إفراد الملك باعتبار المعنى أي وكثير من الملائكة. وقوله {شَيْئا} مفعول مطلق أي شيئاً من الإغناء. واللام في قوله {لِمَنْ يَشَاء} بمعنى في. والواو في قوله {وَيَرْضَى} لمطلق الجمع. وإذنه تعالى لا يصدر إلا إذا رضي عن عبده المذنب فإذا رضي عنه أذن للشافع أن يشفع له، وهو سبحانه لا يرضى إلا بالتوحيد. وقوله {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى} التعبير بالاسم الموصول لتسجيل كفرهم وللإشارة إلى نوع الخبر وأنه من نوع القبائح. فإن قيل: زعمهم لشفاعة أصنامهم إيمان منهم بالآخرة؛ قلنا: هم لا يجزمون بالحشر ويقولون إن كان حشر فهم يشفعون. وقوله: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} حال من فاعل يسمون، أي يسمونهم والحال ألا علم لهم بما يقولون أصلاً، وعلم مبتدأ مؤخر، ولهم خبر مقدم. وقوله:{فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا} الفاء فصيحة. وكان مقتضى الظاهر أن يقول {فأعرض عنهم} ولكنه وضع الموصول موضع الضمير للتوسل به إلى وصفهم بما في حيز الصلة من الأوصاف القبيحة مع تعليل الحكم بها. وقوله: {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْم} قيل الجملة مقررة مضمون ما قبلها من قصر الإرادة على الحياة الدنيا. والإشارة فيه قيل إلى ما هم فيه من التولي وقصر الإرادة على الحياة الدنيا. وقيل الإشارة إلى جعلهم الملائكة بنات الله. وقيل إلى الظن أي غاية ما يعلمون أن يأخذوا بالظن. وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ

ص: 433

بِمَنِ اهْتَدَى} تعليل للأمر بالإعراض ووعيد شديد لهم. وإنما كرر {هُوَ أَعْلَمُ} لزيادة التقرير والإيذان بكمال تباين المعلومين.

المعنى الإجمالي:

وكثير من الملائكة الذين هم عباد مكرمون لا يستطيعون أن يطلبوا أن يخفف العذاب عن أحد إلا إذا رضي الله عمن يشفع فيه وأذن للشافع في الشفاعة مع أنه لا يرضى إلا عن أهل التوحيد.

إن هؤلاء الجاحدين للبعث ليصفون الملائكة الذين هم عند الرحمن بصفات الإناث فيقولون هم بنات الله. والحال أنه لا علم لهم بهذا الاسم الذي يطلقونه، فإنهم لم يشهدوا خلقهم، ولم يبصروا أجسامهم.

ما ينقادون إلا للخواطر الشيطانية، وإن الخواطر الشيطانية لا تكون سبيلا للصدق. وإذا كانوا بهذه المثابة فلا تقتل نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا، فإن دأبهم الإعراض، وديدنهم البعد عن مصدر الخير والشرف. وليست لهم أهداف نبيلة، ولا مثل عليا. وإنما همهم بطونهم وما يدور حولها.

هذا الذي وصفناهم به هو منتهى علمهم، وغاية معارفهم، وسيجدون عاقبة كفرهم خزياً ووبالا.. وستجد عاقبة صبرك نصراً وعزا، لأن ربك لا يعزب عنه أحوالهم الخبيثة، ولا يضيع عنده صبرك الجميل.

ما ترشد إليه الآيات:

1_

إقناط الكفار من شفاعة أصنامهم.

2_

لا شفاعة إلا في أهل التوحيد.

3_

لابد للشافع من سبق الإذن.

4_

تسمية الملائكة بنات الله من الرجم بالغيب.

5_

الرمي بالظنون لا يكون علماً.

6_

الأمر بالصبر عليهم.

7_

الوعيد الشديد لهم.

ص: 434

قال تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إلَاّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} .

المناسبة:

لما قرر أنه عالم بالضال والمهتدي أردف ذلك ببيان أنه مالك لكل ما في السموات وما في الأرض، على سبيل التأكيد للوعيد الشديد.

القراءة:

قرأ الجمهور {لِيَجْزِيَ} الياء، وكذلك {ويجزي} ، وقرئ {لنجزي} {ونجزي} بالنون فيهما.

وقرأ الجمهور {كَبَائِرَ الإِثْمِ} وقرئ {كبير الإثم} .

المفردات:

المفردات: {لِيَجْزِي} ليكافئ، {أَسَاءُوا} أي ارتكبوا القبائح، {أَحْسَنُوا} فعلوا الجميل، {الحسنى} الجنة. {يَجْتَنِبُون} اجتناب الشيء تركه والابتعاد عنه كأنه ترك جانبه وناحيته. {كَبَائِرَ الإِثْم} كبائر جمع كبيرة قيل هي المعصية التي توجب الحدّ، وقيل كل ذنب قرن بالوعيد. وقيل كل ما نص الكتاب على تحريمه. وسميت كبيرة لعظم خطرها وثقل وقعها. وأما من قرأ {كبير الإثم} فقيل أريد الجنس وقيل الشرك. {الإثْمِ} الذنب. {َالْفَوَاحِش} جمع فاحشة وهي ما يشتد قبحه من الذنوب، يقال فحش يفحش فحشا وفاحشة. وأفحش إذا جاء بالقبيح من القول أو الفعل. {اللَّمَم} ما قل وصغر، وقال أبو العباس المبرد: أصل اللمم أن يلم بالشيء من غير أن يرتكبه، يقال ألم بكذا إذا قاربه، ولم يخالطه. وقال الأزهري: العرب تستعمل الإلمام في المقاربة والدنو يقال ألَمّ يفعل كذا بمعنى كاد يفعل، قال جرير:

على ومَن زيارته لمام

بنفسي من تَجَنيّه عزيز

وقال آخر:

ص: 435

لقاء أخلاء الصفا لمام

{أَنْشَأَكُمْ} خلقكم وأوجدكم. {مِنَ الأَرْض} من التراب والطين. {أَجِنَّة} جمع جنين وهو الولد في البطن، سمي بذلك لاستتاره. والاجتنان: الاستتار. {فَلا تُزَكُّوا} فلا تمدحوا على سبيل الإعجاب. {اتَّقَى} خاف ربه وعمل بطاعته فاتخذ لنفسه وقاية من عذابه.

التراكيب:

قوله {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} تقديم الجار والمجرور لإفادة الحصر، وأنها لله خلقاً وملكاً، لا لغيره أصلا لا استقلالا ولا اشتراكاً. والتعبير بما التي لغير العاقل للتغليب لكثرة أفراده. وقوله {لِيَجْزِي} قيل اللام متعلقة بما دل عليه معنى الملك في قوله {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ

} الخ. أي فيضل ويهدي ليجزي. وعليه فالواو في قوله {وَلِلَّهِ} للاستئناف. وقيل اللام للصيرورة والعاقبة، لا للتعليل أي عاقبة أمرهم جميعاً للجزاء بما عملوا. وقيل اللام متعلقة بما دل عليه أعلم، كأنه قيل فيعلم ضلال من ضل واهتداء من اهتدى ويحفظهما ليجزى. وعلى هذا فجملة ولله ما في السموات الخ اعتراضية. وتكرير الفعل يجزي لإبراز كمال الاعتناء بأمر الجزاء أو للتنبيه على تباين الجزاءين.

ص: 436

وقوله {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَاّ اللَّمَمَ..} الموصول منصوب بدلا من الذين أحسنوا. وصيغة الاستقبال في صلته للدلالة على تجدد الاجتناب واستمراره. أو منصوب بإضمار أعني، أو هو مرفوع خبرا لمبتدأ محذوف أي هم الذين يجتنبون. وقوله:{وَالْفَوَاحِشَ} من عطف الخاص على العام. والاستثناء في قوله: {إِلَاّ اللَّمَم} منقطع لأنه ليس قبله ما يندرج فيه. وقوله {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} تعليل لاستثناء اللمم وتنبيه على أن إخراجه عن حكم المؤاخذة ليس لخلوه عن الذنب في نفسه بل لسعة المغفرة الربانية. وقيل إنما عقب وعيد المسيئين ووعد المحسنين بهذا لئلا ييأس صاحب الكبيرة من رحمة الله تعالى. وقوله: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} استئناف مقرر لشمول علمه وإحاطته سبحانه بأحوال عباده، ووقت إيجادهم من التراب، ووقت استتارهم في بطون أمهاتهم، وأفعل التفضيل فيه لا مانع أن يكون على بابه. والفاء في قوله {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُم} فصيحة. وقوله {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} استئناف مقرر للنهي.

المعنى الإجمالي:

المعنى الإجمالي: ولله كل كائن في العالم العلوي والسفلي خلقاً وملكاً، فيعلم ضلال من ضل واهتداء من اهتدى، ويحفظهما ليكافئ الذين ارتكبوا القبائح بما يسود وجوههم، ويكافئ الذين فعلوا الجميل بالجنة، الذين يتركون عظائم الذنوب، وما اشتد قبحه منها إلا ما قلّ وصغر. إن سيدك ومالكك ومدبر أمرك عظيم التجاوز عن هفوات عباده، هو أعلم بكم وقت إيجادكم من التراب ووقت استتاركم في بطون أمهاتكم، وإذا كان الأمر كذلك فلا تمدحوا أنفسكم على سبيل الإعجاب بها. هو أعلم بمن خاف ربه، وعمل بطاعته، فاتخذ لنفسه وقاية من عقابه.

ما ترشد إليه الآيات:

1_

الكائنات كلها لله.

ص: 437

2_

الجزاء من جنس العمل.

3_

اجتناب الكبائر يكفر الصغائر.

4_

سعة عفو الله تعالى.

5_

إحاطة علمه بأحوال العباد.

6_

الإعجاب بالنفس مذموم.

7_

من مدحه الله هو الممدوح.

قال تعالى {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى وأن سعيه سوف يرى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} .

المناسبة:

لما بيّن في الآيات السابقة أن الكائنات له، وأنه عالم الغيب، أنكر هنا أن يكون غيره يعلم الغيب، ثم عدد نعمه ونقمه ترغيباً وترهيبا.

سبب النزول:

قال مجاهد وغيره: "نزلت في الوليد بن المغيرة كان قد سمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرب من الإسلام، ثم عاتبه رجل من المشركين، فقال له: أتترك ملة آبائك؟ ارجع إلى دين آبائك وأنا أتحمل لك بكل شيء تخافه في الآخرة على أن تعطيني كذا من المال فوافقه الوليد على ذلك ورجع عما هَمّ به من الإسلام، وضل ضلالا بعيدا ثم قطع باقي العطاء فنزلت".

القراءة:

ص: 438

قرأ الجمهور {وَفَّى} بتشديد الفاء وقرئ بتخفيفها. وقرأ الجمهور {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} بفتح همزة أن. وكذلك ما بعدها من المواضع. وقرئ بالكسر فيهن. وقرأ الجمهور {وَثَمُودَ} بغير تنوين. وقرئ بالتنوين.

المفردات:

{تَوَلَّى} أي أعرض عن الإسلام، {أَكْدَى} أصله من الكدية، يقال لمن حفر بئرا ثم وصل إلى حجر لا يتهيأ له فيها حفر قد أكدى، ثم استعملته العرب لمن أعطى ولم يتم، ولمن طلب شيئاً فلم يبلغ آخره.

قال الحطيئة:

ومن يبذل المعروف في الناس يحمد

فأعطى قليلا ثم أكدى عطاءه

ص: 439

ويقال: كديت أصابعه إذا كلت من الحفر، وكدا البيت قل ريعه. وأكدى الرجل قلّ خيره. {وَفَّى} أتم ما أمر به نحو {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُن} . {تَزِرُ} تحمل. {وَازِرَةٌ} نفس آثمة. {وزر} إثم. {سَعَى} عمل وقدم. {يرى} أي يبصر في الآخرة عند العرض. {الأَوْفَى} الأكمل. {الْمُنْتَهَى} المرجع والمصير بعد الموت. {أَضْحَكَ} أفرح حتى انطلقت الأسارير. {أَبْكَى} أحزن حتى سالت العيون. {تُمْنَى} تدفق في الرحم. {النَّشْأَةَ} الإحياء بعد الموت. {أَغْنَى} دفع الحاجة وأكسب المال. {أَقْنَى} أرضى أو أفقر. {الشِّعْرَى} هو الكوكب المضيء الذي يطلع بعد الجوزاء. وطلوعه في شدة الحر ويقاله مرزم الجوزاء. وكانوا يعبدونه في الجاهلية. {عَاداً} قوم هود. {الأُولَى} أي القدماء أو المتقدمون الأشراف. أو أن هناك عادا الأخرى من ولد عاد الأولى. وقيل الأخرى ثمود. {ثَمُودَ} قوم صالح عليه السلام. {فَمَا أَبْقَى} فما ترك فيهم من باقية. {مِنْ قَبْلُ} أي قبل عاد وثمود. {أَظْلَمَ} أكثر تجاوزا للحد في الإيذاء. {وَأَطْغَى} أشد عتوا. {والْمُؤْتَفِكَةَ} هي مدائن قوم لوط من دائرة الأردن. وسميت مؤتفكة لأنها انقلبت. ومنه الإفك لأنه قلب الحق كذبا. {أَهْوَى} أسقط بعد أن رفعها إلى السماء وجعل عاليها سافلها. {فَغَشَّاهَا} فألبسها وكساها وجعل فوقها من الحجارة ما الله به وحده عليم. {آلاءِ} نعم. {تَتَمَارَى} تتشكك، أو تجحد.

التراكيب:

ص: 440

قوله: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى} الهمزة للاستفهام التعجبي. والفاء للعطف على محذوف يقتضيه السياق، ورأى بصرية مفعولها الموصول، وقيل علمية، والمفعول الثاني جملة أعنده علم الغيب، فهي داخلة في حيز الاستفهام المقصود منه الإنكار. ويرى علمية أي فهو يعلم أن غيره يتحمل عذاب الآخرة، وهذه الجملة المقدرة سدت مسد مفعولي يرى. وقوله:{أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} أم فيه منقطعة بمعنى بل، والهمزة وتقديم موسى في الذكر لأن صحفه عندهم أشهر وأكثر، وقوله:{وَفَّى أَلَاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أن هي المخففة من الثقيلة وهي في محل جر بدلا من ما في قوله {بمافِي صُحُفِ مُوسَى} أو في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف، كأن قائلا قال: ما في صحفهما؟ فقيل: ألا تزر وازرة وزر أخرى. وقوله {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى} أن فيه مخففة من الثقيلة أيضاً واسمها ضمير الشأن محذوف. ولم يفصل هنا بينها وبين الفعل لأنه لا يتصرف. ومحلها الجر أو الرفع عطفاً على أن قبلها. وقوله {وأن سعيه سوف يرى} معطوف على ما قبله فهو في محل جر أو رفع كذلك. وقوله {ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى} الضمير المرفوع في يجزاه عائد على الإنسان والمنصوب عائد على سعيه. والجزاء مصدر مبين للنوع. وقد تعدى يجزى إلى المفعول بنفسه هنا. وقوله {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} بفتح أن عطفاً على ما قبله، وكذلك المواضع السبعة الباقية. وعلى هذا فيكون مضمون هذه الجمل موجودا في الصحف المذكورة. وأما على قراءة كسر الهمزة في هذه المواضع الثمانية فعلى الاستئناف، ولا يكون مضمون هذه الجمل موجودا في الصحف المذكورة فيكون ما في الصحف قد تم بيانه وانتهى عند قوله {الْجَزَاءَ الأَوْفَى} وقوله {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} المفعول في هذه الأفعال محذوف لقصد

ص: 441

العموم. وقد أتى بضمير الفصل لدفع ما يتوهم من أنها بفعل الإنسان. وكذلك الحال في قوله {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} وأما قوله {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ} فإنه لم يؤكد بالفعل لأنه لا يتوهم إنسان أنها بفعل أحد من الناس. وهكذا الحال في الإنشاء الآخر وإهلاك عاد. والتعبير بعليه في قوله {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى} للإشعار بوجودها لا محالة كأنه تعالى أوجب ذلك على نفسه. وقوله {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} جيء فيه بضمير الفصل لأن الشعرى لما عبدت من دون الله تعالى نص على أنه تعالى هو ربها وموجدها. وقوله {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} ثمود معطوف على عاداً. وهو بالصرف اسم لأبي القبيلة. والضمير في قوله {إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} لقوم نوح. وأنهم أطغى من عاد وثمود. ويجوز أن يكون الضمير لجميع من تقدم من الأمم الثلاثة أي كانوا أطغى من قريش. ويكون ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله {هُمْ} يجوز أن يكون توكيداً للضمير المنصوب الواقع اسما لإن، ويجوز أن يكون فصلا، لأنه واقع بين معرفة وأفعل التفضيل. وإنما حذف المفضول بعد الواقع خبر لكان لأنه جار مجرى خبر المبتدأ، وحذفه فصيح فيه فكذلك في خبر كان. وقوله {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} يجوز أن تكون المؤتفكة منصوبة بأهوى، ويجوز أن يكون معطوفاً على ما قبله. وأهوى جملة في محل نصب على الحال لتوضيح كيفية إهلاكهم أي وأهلك المؤتفكة مهوياً بها. وقوله {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} يجوز أن يكون الفاعل ضميرا يعود على الله عز وجل، وقوله {مَا غَشَّى} مفعول به. ويجوز أن يكون الموصول هو الفاعل. والإيهام للتهويل. وقوله {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} الباء للظرفية والخطاب للسامع، والاستفهام للإنكار، وقد سبق ذكر نعم ونقم وقد جعلها كلها آلاء لما في النقم من الزجر والوعظ وهو نعمة لأصحاب العقول.

ص: 442

المعنى الإجمالي:

أمددت عينك فأبصرت الذي أعرض عن الإسلام، وأعطى شيئاً قليلا لمن تعهد بتحمل العذاب عنه، وقلّ خيره. ننكر أن يكون لديه علم الغيب، وأنه يعلم أنه غيره يتحمل عنه عذاب الآخرة، بل ألم يخبر بالخبر الذي في أسفار موسى من التوراة، وأسفار إبراهيم الذي أتم ما أمر به، أنه لا تحمل نفس مذنبة ذنب نفس مذنبة أخرى، وأن الحال والشأن ليس لأحد من الخلق ثواب ولا عقاب إلا على عمله، وأن ما يعمله الإنسان سوف يبصره معروضاً عليه في الآخرة، ثم يثاب عليه الثواب الأتم. وأن إلى ربك المصير والمرجع. وأنه سبحانه لا غيره أفرح من شاء حتى انطلقت أساريره، وأحزن من شاء حتى سالت عيونه، وأنه سبحانه لا غيره سلب الحياة ممن شاء ومنحها من شاء، وأنه أوجد الصنفين الذكور والإناث من سائر الحيوانات من مني عند تدفقه في الرحم، وأن الإحياء الآخر بعد الموت حتم لابد من وجوده. وأنه أكسب المال وأرضى أو أفقر.

وأنه سبحانه لا غيره مالك مرزم الجوزاء الذي عبده الجاهلون، وأنه دمر قوم هود وقوم صالح لما كذبوا الرسل، فما ترك منهم باقية. وأهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود. إن قوم نوح كانوا أشد تجاوزا للحد في إيذاء الرسل، وأعتى من قوم هود وقوم صالح. والمدائن المنقلبة من دائرة الأردن أسقطها بعد أن رفعت إلى السماء على طرف ريشة من جناح جبريل فجعل عاليها سافلها، وأمطر عليها حجارة من سجيل. ففي أي أنعم الله المتعددة تتشكك؟.

ما ترشد إليه الآيات:

1_

سوء حال من نزلت فيه الآيات.

2_

أن الغيب لله.

3_

أن صحف موسى وإبراهيم المشتهرة تنص على أنه لا يتحمل أحد وزر أحد.

4_

لا ينال الإنسان غير عمله.

5_

سيعرض عليه عمله فيجازى عليه.

6_

تشريف المحسن وتوبيخ المسيء.

7_

إثبات القضاء والقدر.

8_

لابد من البعث حتماً.

9_

تدمير المكذبين.

10_

ظهور أنعمه تعالى.

ص: 443

تتعين كتابة المصحف على الرسم العثماني

لفضيلة الشيخ عبد الفتاح القاضي

الأستاذ بكلية القرآن الكريم بالجامعة

نشرت صحيفة ((المدينة)) بعددها الصادر في 15 من شهر ذي القعدة سنة 1395هـ الموافق 18 نوفمبر سنة 1975م - كلمة تحت عنوان ((من وحي آية قرآنية كريمة)) رسم المصحف على قواعد الإملاء ((للأستاذ الكاتب الكبير علي حافظ)) يحدثنا الأستاذ فيها عن حوار حمي وطيسه بينه وبين صديقيه الدكتور عمر أسعد -والأستاذ سامي كتبي - في تصحيح قوله تعالى في سورة المعارج {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} فالأستاذ يقرؤها {برب المشرق والمغرب} ويصمم على ذلك، ويؤكده نظرا لحذف الألف بعد الشين في المشارق، وبعد الغين في المغارب، ولم ينتبه الأستاذ إلى أن فوق كل من الشين والغين ألفا صغيرة يسميها علماء رسم القرآن.. ((ألف الإشارة)) لأنها تشير إلى الألف المحذوفة، وتقوم مقامها وتدل عليها، واستمر الشجار بينه وبين الأستاذ سامي إلى أن جاء الصديق الدكتور عمر أسعد، ونبه الأستاذ إلى هذه الألف، وأكدله أن صحة الآية {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} فاقتنع الأستاذ برأي صديقه، ورجع إلى الآية يقرؤها على وجه الصواب كما أنزلها الله تعالى.

ثم خلص الأستاذ من الحوار وتصحيح الآية إلى التساؤل لماذا لا يطبع المصحف بالرسم الإملائي المتداول، والذي أصبح علماً يدرس في المدارس، لتسهل قراءة كتاب الله على المسلمين. ثم قال: إننا في حاجة قصوى لطبع القرآن الكريم على قواعد الإملاء.

ص: 444

ثم ذكر بعد ذلك أنه - منذ نحو سنتين - تقدم للحكومة بمشروع - ورجا الحكومة الرائدة الموفقة أن تحتضنه وتعمل على تنفيذه، وقد تضمن مشروعه أن تأمر الحكومة بإنشاء مطبعة ضخمة متكاملة خاصة بالمشروع، لا عمل لها إلا طبع المصاحف الشريفة - على قواعد الرسم الإملائي طبعاً - وتجليدها بمختلف الأحجام، ثم توزيعها على العالم الإسلامي كله لتختفي بعد ذلك الطبعات الأخرى التي لا يستطيع القارئون فيها أن يقرءوا بدون أخطاء. الخ ما قال.

أخي الأستاذ الكبير السيد.. علي حافظ.

أحب أن أقص عليك من أنباء سلف الأمة، وأعلام الإسلام، وأئمة القرآن ما يثبت فؤادك، ويثلج صدرك ويملأ قلبك إيماناً ويقينا بوجوب كتابة المصحف على مقتضى الرسم العثماني القديم. وأسوق لك من الأدلة القواطع، والحجج النواهض على ذلك ما فيه الغناء إن شاء الله تعالى:

ص: 445

كان للنبي صلى الله عليه وسلم كتّاب يكتبون له الوحي، وقد كتبوا القرآن كله بهذا الرسم، وأقرهم الرسول صلى الله عليه وسلم على كتابته. فانتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وقد كتب القرآن كله على هذه الكيفية المخصوصة لم يحدث فيها تغيير ولا تبديل. ثم ولي الخلافة بعده أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فأمر بكتابة القرآن كله في الصحف على هذه الهيئة، ثم جاء الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه فأمر بنسخ المصاحف من صحف أبي بكر على هذا الرسم أيضاً - ووزع عثمان هذه المصاحف على الأمصار الإسلامية - لتكون إماماً للمسلمين، وأقر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمل أبي بكر وعثمان في المصاحف، ولم ينكر أحد منهم عليهما شيئاً بل ظفر كل منهما بإقرار جميع الصحابة لعملهما واستمرت المصاحف مكتوبة بهذا الرسم في عهد بقية الصحابة، ثم في عهد التابعين، وتابعي التابعين، والأئمة المجتهدين، في عصورهم التابعين، والأئمة المجتهدين في المختلفة، ولم يثبت أن أحداً من هؤلاء جميعاً حدثته نفسه بتغيير هجاء المصاحف ورسمها الذي كتبت عليه أولا، وكتابتها برسم آخر يساير الرسم المحدث الذي حدث في عهد ازدهار التأليف في الكوفة والبصرة بل ظل هذا الرسم القديم قائماً مستقلا بنفسه، بعيداً عن التأثر بالرسم الحادث. نعم ظل الرسم القديم منظورا إليه بعين التقديس والإكبار في سائر العصور المختلفة. والأزمنة المتفاوتة، مع أنه قد وجد في هذه العصور المختلفة أناس يقرءون القرآن ولا يحفظونه، وهم في الوقت نفسه لا يعرفون من الرسم إلا هذا الرسم المحدث الذي وضعت قواعده في عصر التأليف والتدوين، وشاع استعمال هذه القواعد بين الناس في كتابة غير القرآن ولم يكن وجود هذا الصنف من الناس مما يبعث الأمة على تغيير رسم المصحف بما تقضي به هذه القواعد الجديدة.

ص: 446

وإذا ثبت أن الرسم القديم الذي كتبت عليه المصاحف قد حظي بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم له، وإجماع الصحابة عليه، ورضا أئمة الصدر الأول – وهم خير الأمة - عنه. واتفاق التابعين وأتباعهم، والأئمة المجتهدين عليه، فلا يجوز العدول عنه إلى غيره، لا سيما وأنه أحد أركان القراءة الصحيحة.

وهاك نصوص الأئمة من صدور هذه الأمة وعظمائها.

روى الإمام السخاوي - من أجلاء علماء القراءات - أن مالك بن أنس إمام دار الهجرة سئل: أرأيت من استكتب مصحفاً أيكتب على ما أحدثه الناس من الهجاء اليوم؟ فقال مالك: لا أرى ذلك ولكن يكتب على الكتبة الأولى، قال السخاوي: والذي ذهب إليه مالك هو الحق، إذا فيه بقاء الحالة الأولى إلى أن تعلمها الطبقة الأخرى.

ولا شك أن هذا هو الأحرى، إذ في خلاف ذلك تجهيل بأولية ما في الطبقة الأولى انتهى.

وقال الإمام أبو عمرو الداني: لا مخالف لمالك من علماء هذه الأمة.

وقال الداني أيضاً: سئل مالك عن الحروف في القرآن.. مثل الواو، والياء والألف، أترى أن يغير من المصحف إذا وجد فيه شيء من ذلك؟ قال: لا، قال أبو عمرو: يعني الواو والياء والألف الزائدات في الرسم. المعدومات في اللفظ، نحو: لا أذبحنه، بأييد، وأولو، وهكذا..

وقال الإمام أحمد بن حنبل: تحرم مخالفة خط مصحف عثمان في واو، أو ياء.. أو ألف أو غير ذلك.

وقال صاحب المدخل: يتعين على كاتب المصحف أن يترك ما أحدثه بعض الناس في هذا الزمان من نسخ المصحف على غير المرسوم الذي اجتمعت عليه الأمة. انتهى.

وقال الإمام النيسابوري: وقال جماعة من الأئمة إن الواجب على القراء والعلماء وأهل الكتابة أن يتبعوا هذا الرسم في خط المصحف، فإنه رسم زيد بن ثابت وكان أمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكاتب وحيه. انتهى.

ص: 447

وقال الإمام البيهقي في شعب الإيمان: من كتب مصحفاً ينبغي أن يحافظ على الهجاء الذي كتبوا به تلك المصاحف، ولا يخالفهم فيه، ولا يغير مما كتبوه شيئاً، فإنهم كانوا أكثر علما، وأصدق قلباً ولسانا، وأعظم أمانة منا، فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكا عليهم.. انتهى.

ونقل الإمام الجعبري وغيره إجماع الأئمة الأربعة على وجوب اتباع رسم المصحف العثماني.

2-

إن قواعد الهجاء والإملاء الحديثة عرضة للتغيير والتنقيح في كل عصر، وفي كل جيل، فلو أخضعنا رسم القرآن لهذه القواعد لأصبح القرآن عرضة للتغيير والتبديل، وحيطتنا للكتاب العزيز، وتقديسنا له يضطرنا إلى أن نجعله بمنأى من هذه التغييرات في رسمه وكتابته.

3-

إن تغيير الرسم العثماني ربما يكون مدعاة - من قريب أو من بعيد - إلى التغيير في جوهر الألفاظ والكلمات القرآنية، ولا شك أن في ذلك القضاء على أصل الدين. وأساس الشريعة، وسد الذرائع - مهما كانت بعيدة - أصل من أصول الشريعة الإسلامية التي تبنى عليها الأحكام، وما كان موقف الأئمة من الرسم العثماني إلا بدافع من هذا الأصل العظيم، مبالغة في المحافظة على كيان ألفاظ القرآن، وصيانتها من تطرق التحريف إليها، والعبث فيها، ومن طريف ما يذكر في هذا الموضوع أن محكمة استئناف مصر حكمت بمصادرة مصحف، وعللت حكمها بأن هذا المصحف مكتوب حسب قواعد الإملاء، ومخالف للرسم العثماني الذي يجب أن تكتب المصاحف كلها حسب قواعده، وكان من حيثيات حكمها أيضا أن الأمم الراقية تحافظ على آثار سلفها، وتجعلها في المحل الأول من العناية والمحافظة.

ومن ذلك أن الشعب الإنجليزي لم يسمح لطابع ما، ولا لناشر كائنا من كان أن يكتب أشعار "شكسبير"شاعرهم العظيم بغير لغة العصر الذي عاش فيه مع تغير كثير من كلماته وطرق إملائه عن العهد المتداول في عصر الشاعر المذكور.

ص: 448

لم يسمح الإنجليز بهذا، لأن شعر الشاعر المذكور أصبح في نظرهم مقدساً لا يجوز المساس به حتى في طريقة إملائه، أفلا يكونا الأجدر بالمسلمين - وهم يقدسون كتابهم أشد من تقديس الإنجليز لشعر هذا الشاعر- أن يحافظوا على رسمه وكتابته؟؟ انتهى.

وأما ما يستند إليه الأستاذ الكاتب، ويتعلل به في وجوب طبع المصحف على قواعد الإملاء من أن أي قارئ – حتى ولو كان طالباً جامعياً – لا يستطيع القراءة في المصاحف المكتوبة على الرسم العثماني دون أخطاء متواصلة، ولو طبع المصحف برسم الإملاء لاستطاع الجميع قراءته مع تفادي الأخطاء، ولكانت تلاوته ميسورة للمسلمين القارئين – فنقول له في صراحة إن ما استندت إليه وتعللت به يجافي الحقيقة، ولا يتلاقى مع الواقع، فإن المصاحف في هذا العصر – وبخاصة المصاحف المصرية – قد ضبطت بالشكل التام، ووضعت فيها علامات مخصوصة تدل على الحروف المحذوفة التي ينطق بها، وأمارات معينة تدل على الحروف الزائدة التي لا ينطق بها، وألف جمهور المسلمين القراءة في هذه المصاحف دون أخطاء، ومرنوا على القراءة فيها دون تعثر أو مشقة.

ومن يقرأ - بإمعان وروية - اصطلاحات رسم المصحف وضبطه الموضوعة في ذيل كل مصحف مصري تحت عنوان "التعريف بالمصحف الشريف "يستطيع أن يقرأ في المصحف بغاية اليسر والسهولة.

4-

ذكر أئمة القرآن أن للرسم العثماني مزايا جليلة، وفوائد جمة نقتصر منها على فائدتين اثنتين:

ص: 449

الأولى: الإشارة إلى ما في الكلمة من قراءات، فإذا كان في الكلمة القرآنية قراءتان فإنها تكتب بصورة تحتمل كلتا القراءتين، وإذا لم يكن في الكلمة إلا قراءة واحدة كتبت بهيئة لا تحتمل غيرها، ومن أمثلة ذلك كلمة ((سراجا)) وردت في القرآن في سورة الفرقان في قوله تعالى:{وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً} آية 61 وفي سورة الأحزاب في قوله تعالى: {وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} آية 46 وفي سورة النبأ في قوله تعالى {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} آية 13 كتبت كلمة ((سراجاً)) في سورة الفرقان بحذف الألف، لأن فيها قراءتين، إحداهما بضم السين والراء من غير ألف بعدها على الجمع، والأخرى بكسر السين وفتح الراء وألف بعدها على الإفراد. فكانت كتابتها بحذف الألف لتحتمل القراءتين، قراءة الإفراد وقراءة الجمع، ولو كتبت بإثبات الألف لم تكن محتملة إلا لقراءة الإفراد.

وكتبت في سورة الأحزاب وسورة النبأ بإثبات الألف لاتفاق القراء على قراءتها بكسر السين وفتح الراء وألف بعدها على الإفراد في الموضعين.

الفائدة الثانية: إفادة بعض لغات العرب، وذلك مثل كتابة هاء التأنيث تاء مفتوحة في بعض المواضع للإيذان بجواز الوقف عليها بالتاء على لغة (طيئ) نحو {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} في الأعراف، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} في إبراهيم، {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ} في التحريم، {وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ} في الأنفال، {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ} في الدخان.

ومثل: {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغ..} في الكهف، كتبت كلمة ((نبغ)) بحذف الياء على لغة هذيل التي تحذف لام الفعل المضارع المعتل من غير دخول جازم عليه.

ص: 450

وأخيراً يقول الأستاذ الكاتب: إنني أتحدى أي طالب جامعي فضلا عن الطالب الابتدائي والثانوي أتحداه أن يقرأ القرآن في المصاحف الموجودة دون أخطاء متواصلة، ثم يقول: وأؤكد أن المصحف الشريف إذا طبع برسم الإملاء العلمي استطاع الجميع قراءته مع تفادي الأخطاء.

وأقول أنا: ((إنني مع الأستاذ في هذا التحدي، بيد أني أضيف إلى الطالب الجامعي السواد الأعظم، والكثرة الكاثرة من المثقفين على اختلاف ثقافتهم، وتنوع معارفهم، وتباين استعدادهم، فإن أحداً من هؤلاء مهما علا كعبه في العلم، وسمت درجته في الألمعية والفضل لا يستطيع أن يقرأ في المصحف القراءة الصحيحة السليمة ولو كان المصحف مكتوباً على قواعد الإملاء، فإن في قواعد التجويد، وقوانين الترتيل من الأحكام ما لا يمكن أخذها من المصحف ولا يمكن تطبيقها إلا بالتلقي، والأخذ عن العلماء الأثبات الثقات المبرزين في علوم القرآن، وفنون التجويد والقراءات، وخذ مثلا لذلك: النون الساكنة والتنوين فقد قرر علماء التجويد أنه يجب إظهارهما إذا لقيا حروفاً معينة، ويجب إدغاهما في حروف مخصوصة، ويجب إخفاؤهما عند حروف مخصوصة ولا يمكن أحدا تطبيق هذه الأحكام إلا بواسطة أستاذ ماهر مجيد لعلم التجويد.

ص: 451

ومثلا آخر: قرر علماء التجويد قاطبة أن النون في كلمة ((تأمنا)) في قوله تعالى في سورة يوسف {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} تقرأ بوجهين لجميع القراء، وهما الروم والإشمام، وقد وضعت في المصحف علامة فوق النون تدل على الإشمام، ولم توضع علامة أخرى تدل على الروم، ولا يستطيع قارئ ما أن يتعلم كيفية النطق بالإشمام أو الروم من المصحف أياً كانت كتابته ورسمه، وليت شعري هل يستطيع قارئ ما أن يتعلم من المصحف كيف ينطق بفاتحة سورة الأعراف ((المص)) أو فاتحة سورة مريم ((كهيعص)) أو فاتحة سورة القصص ((طسم)) أو فاتحة سورة الشورى ((حم عسق)) لعلك توافقني على أن المصحف لا يعلم أحدا النطق الصحيح بشيء من ذلك، وقصارى القول أن من يريد تلاوة القرآن تلاوة صحيحة سليمة مراعى فيها جودة الترتيل، وحسن الأداء، بحيث تكون مطابقة لمقاييس القراءة، وموازين التلاوة التي وضعها أئمة الأداء وشيوخ الإقراء - من يريد قراءة القرآن - القراءة الموعود عليها بعظيم الأجر وجزيل المثوبة - فعليه ألا يعول على المصحف وحده، بل عليه أن يتعلم أحكام التجويد النظرية العلمية ثم يطبقها عملياً بقراءة ختمة من أولها إلى آخرها على أحد الحفاظ الثقات الأثبات المهرة بالقرآن الكريم، المجيدين للتعليم والتلقين، والله وحده الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 452

حقوق الحيوان والرفق به في الشريعة الإسلامية

لفضيلة الشيخ أحمد عبيد الكبيسي

طبيعة التشريع الإسلامي:

عن الفقه الإسلامي يقول الدكتور ((أنريكو انساباتو)) في كتابه الإسلام وسياسة الخلفاء: "ولا يجوز قط أن يهدم هذا الصرح العظيم من العلوم الإسلامية، ولا أن يغفل شأنه، أو أن تمسه يد بسوء، وأنه أوجد للعالم أرسخ الشرائع ثباتاً، وأنها لشريعة تفوق الشرائع الأوربية في كثير من التفاصيل".

وهذه الحقيقة التي أدركها انساباتو أدركها العديد من فقهاء الغرب ومشرعيه، وهي ناتجة عن الطابع العام للشريعة الإسلامية الذي يحدد مقاصدها، ويوسع مداراتها، وهو الذي يستلهمه الفقهاء فيما يقررون من أحكام.

وفيما نحن بصدده من الكلام في حقوق الحيوان يتجلى أثر الطابع الجماعي للشريعة الإسلامية في مسألة ((الحق)) أي مدى ما لصاحبه من سلطان في الانتفاع به واستعماله والتصرف به، وما يكون من تقييد الشارع له بألاّ يضر هذا الاستعمال الغير.

وهذا يقوم على قاعدة راسخة ثابتة تقرر من أول الأمر: أن الإنسان وكل ما يملك ملك لله وحده، ومن هنا كان تقييد استعمال ((الحق)) من نواح عديدة، وقد تولد عن هذا التقييد حقوق للغير، والحيوان من جملة هذا الغير، في الوقت الذي نجد فيه أن أعرق القوانين الوضعية قد جعلت الفردية طابعها العام، فإن القانون الروماني _ في مراحله الأول _ مبني على فكرة استبداد صاحب الحق بما يزعمه من حقه الذي يملكه، والقوانين الوضعية _ في مجملها _ تعتبر حق الفرد حقاً طبيعياًله، فهي تعمل على حمايته له، وتمكينه من الانتفاع به على ما يشاء ما دام يتصرف بزعمه في خالص حقه، وبهذا الإطلاق في استعمال ((الحق)) ضاعت بعض حقوق الغير، والحيوان من جملة هذا الغير أيضاً.

أعود إلى موضوعنا فأقول:

ص: 453

في عام 1824 تأسست في إنجلترا أول جمعية للرفق بالحيوان، ثم انتشر هذا التقليد بعد ذلك في كثير من أقطار الأرض، فقامت هنا وهناك جمعيات تهدف إلى الرفق بالحيوان عند المصاحبة، والإحسان إليه في المعاملة، والتلطف معه في السلوك.

غير أن هذه الجمعيات جميعاً إنما تقوم على أسس أخلاقية صرفة، وقواعد إنسانية عامة، ليس لها أساس من القواعد التشريعية، أو القوانين الملزمة، وليس لها خلفية فقهية تنظم مسائلها، وتوضح حدودها المتعلقة بحفظ حقوق الحيوان المتعاون مع الإنسان في هذه الحياة، ومن هنا بقيت هذه الجمعيات ذات صفة طوعية اختيارية، وهي لذلك لا ترتب ثواباً لممتثل، ولا توجب عقاباً على مخالف، فماذا فعلت الشريعة الإسلامية في هذا الصدد؟

الرفق مبدأ إسلامي:

يعتمد الإسلام مبدأ الرفق بصورة عامة في جميع شؤون الحياة، فيجعل منه سمة تميز المؤمن، وعنصرا ًيقوي الإيمان، وفضيلة تزين العمل، وفي ذلك يقول رسول الله من حديث عائشة عن البخاري ومسلم:"إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله "وفي رواية لمسلم: "إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على سواه"، وروى مسلم بسنده عن عائشة:"إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه".

وعن جرير بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل ليعطي على الرفق ما لا يعطي على الخرق، وإذا أحب الله عبداً أعطاه الرفق، ما من أهل بيت يحرمون الرفق إلا حرموا الخير" رواه الطبراني، ورواه مسلم وأبو داود مختصراً.

وعن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير" رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

وروي عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله قال: "الرفق يمن، والخرق شؤم" رواه الطبراني في الأوسط.

ص: 454

والأحاديث في ذلك كثيرة متوافرة سقنا بعضها على سبيل التمثيل لا الحصر، وكلها تنص على أن الرفق مبدأ إسلامي يبني التشريع الإسلامي قواعده وأصوله عليه.

نظرة الإسلام إلى الحيوان:

ينظر الإسلام إلى عالم الحيوان إجمالا ًنظرة واقعية ترتكز على أهميته في الحياة ونفعه للإنسان، وتعاونه معه في عمارة الكون واستمرار الحياة، ومن هنا كان الحيوان ملء السمع والبصر في كثير من مجالات الفكر والتشريع الإسلامي، ولا أدل على ذلك من أن عدة سور في القرآن الكريم وضع الله لها العناوين من أسماء الحيوان مثل سورة البقرة، والأنعام، والنحل، والنمل، والعنكبوت، والفيل.

ويعود القرآن بعد ذلك لينص على تكريم الحيوان، وبيان مكانته، وتحديد موقعه إلى جانب الإنسان، فبعد أن بين الله في سورة النحل قدرته في خلق السموات والأرض، وقدرته في خلق الإنسان، أردف ذلك بقوله {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَاّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ، وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} .

وقد استنبط الفقهاء والمفسرون من هذه الآيات الأربع من سورة النحل ما يلي:

أولا: أن الحيوان شديد الارتباط بالإنسان، وثيق الصلة به، قريب الموقع منه، ومن هنا كان للحيوان على الإنسان حرمة وذمام. (القرطبي 10/69) .

ثانياً: أن أشرف الأجسام الموجودة في العالم السفلي _ بعد الإنسان - سائر الحيوانات لاختصاصها بالقوى الشريفة وهي الحواس الظاهرة والباطنة والشهوة والغضب (الرازي 19/227) .

ص: 455

ثالثا: أن الله - سبحانه - قصد بهذه الآيات أن يبتعد بالإنسان عن أن ينظر إلى الحيوان نظرة ضيقة لا تتعلق إلا بالجانب المادي المتعلق بالأكل والنقل واللباس والدفء، فوسع نظرته إليه مشيراً إلى أن للحيوان جانباً معنوياً، وصفات جمالية تقتضي الرفق به في المعاملة، والإحسان إليه في المصاحبة، والإقبال عليه بحب واعتزاز، فقال:{وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} ، وقال:{لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} .

قال الرازي (19/228)"واعلم أن وجه التجمل بها، أن الراعي إذا روحها بالعشي وسرحها بالغداة تزينت عند تلك الإراحة والتسريح الأفنية، وتجاوب فيها الثغاء والرغاء، وفرحت أربابها، وعظم وقعهم عند الناس بسبب كونهم مالكين لها".

وقال القرطبي (10/70) : "وجمال الأنعام والدواب من جمال الخلقة، وهو مرئي بأبصار موافق للبصائر، ومن جمالها: كثرتها وقول الناس إذا رأوها: هذه نعم فلان، ولأنها إذا راحت توفر حسنها، وعظم شأنها وتعلقت القلوب بها".

رابعاً: أن ذكر بعض الحيوانات بأسمائها في هذه الآيات لا يعني أن غيرها ليس كذلك، بل إنه ذكرها على سبيل المثال لا الحصر بدليل قوله:{وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} .

ويقول الرازي في تفسير ذلك (19/231) : "لأن أنواعها وأصنافها وأقسامها كثيرة خارجة عن الحد والإحصاء فكان أحسن الأحوال ذكرها على سبيل الإجمال كما ذكر الله تعالى في هذه الآية".

ثناء الإسلام على بعض الحيوانات:

ص: 456

وقد أناط الإسلام وجوب الإحسان إلى بعض الحيوانات بمنافعها المعنوية وصفاتها الحميدة، فأوجب الرفق بها لذلك، ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر، أنه صلى الله عليه وسلم قال:"الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة"، ووقع في رواية ابن إدريس عن حصين في هذا الحديث من الزيادة قوله صلى الله عليه وسلم "والإبل عزّ لأهلها، والغنم بركة" أخرجه البرقاني في مستخرجه، ونبه عليه الحميدي، ونقله ابن حجر (فتح الباري 6/395) .

وروى النسائي عن زيد بن خالد الجهني عن رسول الله قوله: "لا تسبوا الديك فإنه يوقظ للصلاة". رواه أبو داود أيضاً وابن حبان في صحيحه، إلا أنه قال:" فإنه يدعو للصلاة" على ما نقله المنذري (5/133) .

الرفق بالحيوان عبادة لله:

توافرت النصوص على أن الإحسان إلى الحيوان والرفق به عبادة من العبادات التي قد تصل في بعض الأحيان إلى أعلى درجات الأجر وأقوى أسباب المغفرة، ومن ذلك حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه الحر، فوجد بئرا ًفنزل فيها فشرب، ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماء، ثم أمسكه بفيه حتى رقي، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفرله، قالوا: يا رسول الله إن لنا في البهائم أجرا ً؟ فقال: في كل كبد رطبة أجر" رواه مالك، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، وابن حبان في صحيحه إلا أنه قال:"فشكر الله له فأدخله الجنة".

وأخرج مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة بسنده إلى أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن امرأة بغيا رأت كلبا ًفي يوم حار يطيف ببئر قد أدلع لسانه من العطش فنزعت له بموقها _أي استقت له بخفها _ فغفر لها " فقد غفر الله لهذه البغي ذنوبها بسبب ما فعلته من سقي هذا الكلب.

ص: 457

وعن عبد الله بن عمرو أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أنزع في حوضي حتى إذا ملأته لأبلي ورد عليّ البعير لغيري فسقيته، فهل في ذلك من أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن في كل ذات كبد أجرا " رواه أحمد ورواته ثقات مشهورون.

وعن محمود بن الربيع أن سراقة بن جعثم قال: يا رسول إن الضالة ترد على حوضي فهل لي فيها من أجر إن سقيتها؟ قال: "أسقها، فإن في كل ذات كبد حراء أجرا ً"رواه ابن حبان في صحيحه، ورواه ابن ماجة والبيهقي.

وأخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسلمة من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الخيل لثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر. فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال في مرج أو روضة فما أصابت في طلبها ذلك من المرج أو الروضة كانت له حسنات، ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شرفا أو شرفين كانت أرواؤها وأثارها حسنات له، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقيها كان ذلك حسنات له.."الحديث.

الإساءة للحيوان معصية لله:

وبنفس القدر الذي أوصلت به الشريعة الإسلامية به الإحسان إلى الحيوان والرفق به إلى أعلى درجات العبادة، أوصلت الإساءة للحيوان وتعذيبه إلى أعمق دركات الإثم والمعصية، وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما أخرجه البخاري ومسلم:"عذبت امرأة في هرة لم تطعمها ولم تسقها، ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض"، وروى البخاري بسنده إلى أسماء بنت أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"دنت مني النار حتى قلت: أي رب وأنا معهم، فإذا امرأة حسبت أنه قال: تخدشها هرة _: قال ما شأن هذه؟ قالوا: حبستها حتى ماتت جوعا ً" قال النووي في شرح هذا الحديث عن مسلم (9/89) : "إن المرأة كانت مسلمة وإنها دخلت النار بسببها، وهذه المعصية ليست صغيرة بل صارت بإصرارها كبيرة".

ص: 458

وقد حرم الإسلام تعذيب الحيوان ولعن المخالفين على مخالفتهم، فقد روى مسلم بسنده إلى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ على حمار قد وسم في وجهه فقال:"لعن الله الذي وسمه" وفي رواية له: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضرب في الوجه وعن الوسم في الوجه"، ورواه الطبراني بإسناد جيد مختصرا ً:"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من يسم في الوجه"وروى الطبراني أيضا ًعن جنادة بن جراد أحد بني غيلان بن جنادة قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بإبل قد وسمتها في أنفها، فقال رسول الله:"يا جنادة فما وجدت عضوا تسمه إلا في الوجه أما إن أمامك القصاص" فقال: أمرك إليها يا رسول الله.

وعن جابر بن عبد الله قال: مرّ حمار برسول الله صلى الله عليه وسلم قد كوي وجهه يفور منخراه من دم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لعن الله من فعل هذا" ثم نهى عن الكي في الوجه والضرب في الوجه"رواه الترمذي مختصرا ًوصححه، والأحاديث في النهي عن الكي في الوجه كثيرة. وقد حرمت الشريعة الإسلامية تصبير البهائم – أي أن تحبس لترمى حتى تموت _ كما حرمت المثلة _ وهي قطع أطراف الحيوان _ فقد روي عن ابن عمر أنه قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أن تصبر بهيمة أو غيرها للقتل". وأخرج البخاري ومسلم عن المنهال بسنده إلى عبد الله بن عمر أنه قال: "لعن النبي صلى الله عليه وسلم من مثّل بالحيوان" قال العسقلاني في شرح صحيح البخاري (8/84) : "واللعن من دلائل التحريم كما لا يخفى".

ص: 459

وقال العقيلي: "جاء في النهي عن صير البهيمة أحاديث جياد"، وقال ابن حجر (فتح الباري 12/65) :"وفي هذه الأحاديث تحريم تعذيب الحيوان"والتحريم يقتضي العقاب، والعقاب أثر من آثار الجريمة، وهذا يعني: أن الإساءة إلى الحيوان وتعذيبه وعدم الرفق به يعتبر جريمة في نظر الشريعة الإسلامية، وورد النهي عن خصاء البهائم كما جاء في شرح معاني الآثار للطحاوي من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يخصى الإبل والبقر والغنم والخيل وإذا دعت الضرورة إلى ذلك في الحيوان الذي يخشى عضاضه ووجد طريق آخر لمنع أذاه من غير طريق الخصاء فإنه لا خلاف في منع الخصاء حينئذ، لأنه تعذيب.

تحريم أنواع من التصرفات مع الحيوانات:

من الفنون التي تشيع هنا وهناك ما لا تتم إلا بتعذيب الحيوان بإغراء بعضه على بعض وتهييجه، كمصارعة الثيران، ومصارعة الديكة، والكباش ونحو ذلك، أو نصبه غرضا ًللرماية والصيد، أو قتله بدون فائدة ولا منفعة، أو إرهاقه بالعمل الشاق، وقد اعتبرت الشريعة الإسلامية ذلك من الفعل المحرم الذي يستحق العقوبة. فقد روي عن ابن عباس قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التحريش بين البهائم" رواه أبو داود والترمذي متصلا ًومرسلا عن مجاهد وقال في المرسل: هو أصح.

وروي عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن الخطاب عن أبيه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حمّرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تعرش، فلما جاء رسول الله قال:"من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها" وعن الشريد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من قتل عصفورا عبثا ًعجّ إلى الله يوم القيامة يقول: يا رب إن فلانا قتلني عبثا ًولم يقتلني منفعة" رواه النسائي وابن حبان في صحيحه.

ص: 460

وعن ابن عمر أنه مرّ بفتيان من قريش طيرا ًأو دجاجة يترامونها، وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا، فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم "لعن من اتخذ شيئا ًفيه الروح غرضا" رواه البخاري ومسلم.

قال الصنعاني في سبل السلام (4/86) بعد أن أورد هذا الحديث بلفظ مسلم: "الحديث نهى عن جعل الحيوان هدفا يرمى إليه، والنهي للتحريم لأنه أصله، ويؤيده قوة حديث "لعن الله من فعل هذا"ووجه حكمة النهي أن فيه إيلاما للحيوان.

ومن الرفق بالحيوان تجنب أذيته في بدنه ولطمه على وجهه، فقد روي عن المقداد بن معد يكرب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم "ينهى عن لطم خدود الدواب"، وفي صحيح مسلم: أن امرأة كانت على ناقة فنفرت فلعنتها فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بإعراء الناقة مما عليها وإرسالها، عقوبة لصاحبتها.

تحريم التعسف في استعمال الحق مع الحيوان:

إذا كان الله- سبحانه- قد أجاز للإنسان أن يستعمل حقه في الانتفاع بالحيوان، فإنه اشترط لذلك أن يتم على الوجه المشروع، فإن كان فيه شيء من التعسف فقد ورد النهي عنه في نصوص كثيرة ومن ذلك ما يلي:-

أولا: التعسف في استعمال حق الذبح:

لقد جعل الإسلام من حق الإنسان أن يذبح الحيوان المأكول للاستمتاع بالطيب من لحمه، ولكنه أمر بالإحسان في ذبحه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته" وقد وضع فقهاء الإسلام آدابا ًلذبح الحيوان المأكول اقتباسا ًمما جاء في الرفق بالحيوان من أصول، فقال أمير المؤمنين عمر:"من الإحسان للذبيحة أن لا تجر الذبيحة إلى من يذبحها".

وقال ربيعة الرأي: "من الإحسان أن لا تذبح ذبيحة وأخرى تنظر إليها".

ص: 461

وقرر الفقهاء أنه على الذابح أن لا يحد شفرته أمام الذبيحة، وأن لا يصرعها بعنف، فعن ابن عباس أن رجلا أضجع شاة وهو يحد شفرته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أتريد أن تميتها موتتين هلا أحددتك شفرتك قبل أن تضجعها" رواه الطبراني في الكبير والأوسط، والحاكم واللفظ له وقال: صحيح على شرط البخاري.

وعن معاوية بن مرة عن أبيه أن رجلا قال: يا رسول الله، إني لأرحم الشاة أن أذبحها، فقال:"إن رحمتها رحمك الله"رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد.

وعن الوحين بن عطاء قال: إن جزارا ًفتح بابا على شاة ليذبحها، فانفلتت منه فاتبعها، فأخذ يسحبها برجلها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا جزار سقها سوقا رفيقا" رواه عبد الرزاق في مصنفه.

وعن ابن سيرين أن عمر رضي الله عنه رأى رجلا يسحب شاة برجلها ليذبحها فقال له: "ويلك قدها إلى الموت قودا ًجميلا ً"رواه عبد الرزاق أيضا.

ثانيا: التعسف في استعمال حق القتل:

أذن الإسلام في قتل الحيوان المؤذي، كالكلب العقور، والأفعى السام، والفأر المخرب، وما أشبه ذلك، غير أنه أمر بالإحسان في قتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله كتب الإحسان في كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة"والمعروف أن القتل يستعمل للحيوان الذي لا يؤكل، على خلاف الذبح الذي يستعمل للحيوان المأكول.

ص: 462

وعن ابن مسعود قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى قرية نمل قد حرقناها فقال: "من حرق هذه؟ " قلنا: نحن، قال:"إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب العالمين" رواه أبو داود، وقد أمر رسول الله بقتل ((الوزغ)) وهو الكبار من أفعى سام أبرص، إلا أنه أمر بالإحسان في قتله، وذلك بقتله بضربة واحدة دون تعذيبه بضربات متعددة، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل وزغة في أول ضربة فله كذا وكذا حسنة، ومن قتلها في الضربة الثانية فله كذا وكذا حسنة دون الحسنة الأولى، ومن قتلها في الضربة الثالثة فله كذا وكذا حسنة دون الحسنة الثانية" رواه مسلم، وأبو داود والترمذي وابن ماجة، وفي رواية لمسلم "من قتل وزغا ًفي أول ضربة كتبت له مائة حسنة، وفي الثانية دون ذلك، وفي الثالثة دون ذلك".

وفي حديث سقيا الكلب الذي يلهث قال المفسرون: فيه دلالة على وجوب الإحسان إلى الحيوان المؤذي المأمور بقتله، فقد أمر الإسلام بقتل الكلب العقور إلا أنه أثاب من سقاه من البئر بأعلى درجات الثواب فأدخله الجنة، فلا تعارض بين الأمر بقتله والأمر بالإحسان إليه امتثالا لحديث: فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة.

ثالثا: التعسف في استعمال حق الركوب:

سخر الله الحيوان لنقل الإنسان من مكان كما جاء في قوله تعالى: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} غير أن هذا الحق ليس مطلقا ًوإنما قيدته الشريعة الإسلامية بقيود ترتكز كلها على أصل الرفق بالحيوان والإحسان إليه ومراعاة حقوقه.

ومن حقوق الحيوان في ذلك:-

ص: 463

1_

أن تتاح له فرصة الرعي والاستراحة في السفر الطويل، فقد أخرج البخاري ومسلم من طرق متعددة بالسند إلى أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظها من الأرض"قال النووي في شرح هذا الحديث عند مسلم (8/128) : "ومعنى الحديث الحث على الرفق بالدواب، ومراعاة مصلحتها، فإن سافروا في الخصب قللوا السير وتركوها ترعى في بعض النهار وفي أثناء السير، فتأخذ حظها من الأرض بما ترعاه منها". وقد جاء في أول هذا الحديث من رواية مالك: "إن الله رفيق يحب الرفق".

2_

ومن حق الدابة المعدة للركوب أن لا يركب عليها ثلاثة في آن واحد، فقد أخرج الطبراني في الأوسط عن جابر قال:" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يركب ثلاثة على دابة"، وفي رواية أبي سعيد:"لا يركب الدابة فوق اثنين"، وأخرج ابن أبي شيبة من مرسل زاذان: أنه رأى ثلاثة على بغل، فقال:"لينزل أحدكم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الثالث"وأخرج الطبراني عن علي قال: "إذا رأيتم ثلاثة على دابة فارجموهم حتى ينزل أحدهم".

وقد حمل الفقهاء هذه النصوص على ما إذا كانت الدابة غير مطيقة للثلاثة، فإن أطاقتهم جاز. قال ابن حجر في فتح الباري (12/520) :"يحمل ما ورد في الزجر من ذلك على ما إذا كانت الدابة غير مطيقة كالحمار مثلا، وعكسه على عكسه كالناقة والبغلة".

وقال النووي في شرح مسلم (9/135) : "مذهبنا ومذهب العلماء كافة جواز ركوب ثلاثة على دابة إذا كانت مطيقة"وحكى القاضي عياض منعه عن بعضهم مطلقا ً، وقال ابن حجر:"لم يصرح أحد بالجواز مع العجز".

3_

ومن المحرم في الشريعة الإسلامية وقوف الراكب على الدابة وقوفا ًيؤلمها، فقد ورد في سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم منابر، فإن الله إنما سخرها لكم لتبلغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس".

ص: 464

4_

ولا يجوز الركوب على ما لم يخلق للركوب كالبقرة، قال القاضي أبو بكر بن العربي:"لا خلاف في أن البقر لا يجوز أن يحمل عليها، وذهب كثير من أهل العلم إلى أن المنع من ركوبها نظرا ًإلى أنها لا تقوى على الركوب، إنما ينتفع بها فيما تطيقه من نحو إثارة الأرض وسقي الحرث".

5_

ولا يجوز أن يكون مقود الدابة ضارا ًبها، فقد ورد في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر إلا قطعت"، فذهب بعض أهل العلم في فهم الحديث مذهب الرحمة بالحيوان وقال: إنه أمر بقطع القلائد من أعناق الدواب مخافة اختناق الدابة بها عند شدة الركض لأنها تضيق عليها نفسها، وكراهة أن تتعلق بشجرة فتخنقها أو تعوقها عن المضي في سيرها.

رابعا ً: التعسف في استعمال حق التحميل:

وحرمت الشريعة الإسلامية الإساءة إلى الحيوان بتحميله من الأثقال ما لا يطيق، وكان الصحابة الكرام يعرفون أن من حمّل دابة ما لا تطيق حوسب على ذلك يوم القيامة، فقد روي عن أبي الدرداء أنه قال لبعير له عند الموت:"يا أيها البعير لا تخاصمني عند ربك، فإني لم أكن أحملك فوق طاقتك"، وعن عبد الله بن جعفر قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه ذات يوم..فدخل حائطا ً_أي بستانا_ لرجل من الأنصار فإذا فيه جمل فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حنّ وذرفت عيناه، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح ذفراه فسكت، فقال:"من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ "فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله، فقال:" أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها، فإنه شكى إليّ أنك تجيعه وتدئبه"أي تعمل عليه عملا متواصلا، رواه أحمد وأبو داود.

ص: 465

وروى أحمد أيضا ًمن حديث طويل عن يحي بن مرة قال فيه: وكنت معه – أي مع النبي – جالسا ًذات يوم إذ جاء جمل يخب حتى ضرب بحرانه بين يديه، فقال:"ويحك تنظر لمن هذا الجمل؟ إن له لشأنا" قال: فخرجت ألتمس صاحبه، فوجدته لرجل من الأنصار، فدعوته إليه، فقال:"ما شأن جملك هذا"فقال: وما شأنه؟ لا أدري والله ما شأنه، عملنا عليه، ونضحنا عليه حتى عجز عن السقاية، فأتمرنا البارحة أن ننحره ونقسم لحمه، قال:"فلا تفعل، هله لي أو بعنيه"، وعن سهل بن الحنظلية قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعير قد لصق ظهره ببطنه فقال: "اتقوا الله في هذه البهائم فاركبوها صالحة.." رواه أبو داود وابن خزيمة، إلا أنه قال:"قد لحق ظهره".

وإذا كانت الشريعة قد حرمت ركوب ما لم يخلق للركوب من الحيوان، فقد حرمت أيضاً أن يحمل على ما لم يخلق للحمل منه كالبقر مثلا، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما رجل يسوق بقرة له قد حمل عليها التفتت إليه البقرة فقالت: إني لم أخلق لهذا ولكني إنما خلقت للحرث"قال القرطبي في الجامع (10/72) معقبًا: "فدل هذا الحديث على أن البقرة لا يحمل عليها ولا تركب"ويقول أيضاً في تفسير قوله تعالى: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُم} : "في هذه الآية دليل على جواز السفر بالدواب وحمل الأثقال عليها، ولكن على قدر ما تحتمله من غير إسراف في الحمل مع الرفق في السير".

وروى أبو داود بسنده إلى المسيب بن آدم قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يضرب جمّالا وقال: تحمل على بعيرك ما لا يطيق؟ ".

أحكام فقهية تحدد حقوق الحيوان:

ص: 466

كتُب الفقه الإسلامي طافحة بالأحكام المتعلقة بالحفاظ على حقوق الحيوان وهي كثيرة لا يتسع المجال لذكرها في هذه المقالة الموجزة، ومن ذلك ما قرره الفقهاء من وجوب القيام على سقي الدابة وإطعامها، وإذا قصر مالك الحيوان في ذلك أجبره القضاء عليه، فإن لم يقم للدابة بما يجب عليه من حسن تغذيتها وسقيها، باعها القاضي ولم يتركها تحت يد صاحبها تقاسي.

ويقول القاضي أبو يعلى في كتابه (الأحكام السلطانية ص 305) : "وإذا كان في أربا المواشي من يستعملها فيما لا تطيق الدوام عليه أنكره المحتسب عليه، ومنعه منه وإن لم يكن فيه مستعد _ أي مخاصم _ إليه، فإن ادعى المالك احتمال الدابة لما يستعملها فيه جاز للمحتسب أن يفكر فيه، لأنه وإن افتقر إلى اجتهاد فهو عرفي يرجع فيه إلى عرف الناس وعادتهم وليس باجتهاد شرعي".

وفي الفتاوى البزازية (6/370) ما نصه: "المختار أن النملة إذا ابتدأت بالأذى لا بأس بقتلها وإلا يكره، وإلقاؤها في الماء يكره مطلقًا"، لأنه تعذيب لا مبرر له، "وقتل القملة لا يكره، وإحراقها وإحراق العقرب بالنار يكره"والهرة إذا كانت مؤذية لا تضرب ولا تعرك أذنها بل تذبح بسكين حاد.

ويقول النويري في نهاية الأرب (9/258) : "وسمعوا بعض المفسرين يقول في قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} أن المحروم هو الكلب".

وقال الصنعاني في سبل السلام: (1/232) بعد حديث المرأة التي دخلت النار في هرة حبستها: "والحديث دليل على تحريم قتل الهرة لأنه لا عذاب إلا على فعل محرّم"ومثل هذه الأحكام في كتب الفقه الإسلامي لا حصر لها.

هذا وقد بلغ المسلمون في الرفق بالحيوان حدًا يكاد يكون متطرفاً، حتى أن عدي بن حاتم كان يفت الخبز للنمل ويقول: إنهن جارات ولهن حق، كما رواه النووي في تهذيب الأسماء.

ص: 467

وكان الإمام أبو إسحاق الشيرازي يمشي في طريق يرافقه فيه بعض أصحابه، فعرض لهما كلب فزجره رفيق الإمام أبي إسحاق فنهاه الإمام وقال: أما علمت أن الطريق بيني وبينه مشترك.

وأمثال ذلك في تراثنا كثير، وكان الدافع إلى كل ذلك هو الرغبة الشديدة في تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية نصاً وروحاً.

وأخيرا نقول: إن شريعة فيها من ضمان حقوق الحيوان ما ذكرنا بعضه القليل، ماذا يمكن أن تشرع للإنسان من حقوق؟

ص: 468

مهمة المسجد في بناء المجتمع الإسلامي

لفضيلة الشيخ محمد المجذوب: المدرس بكلية الدعوة بالجامعة

بحث قدمته الجامعة الإسلامية إلى مؤتمر رسالة الجامعة بمكة المكرمة

في رأس الحقائق البديهية أن عبادة الله هي المهمة الأولى للثقلين الجن والإنس، ويؤكد ذلك قوله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} فهاهنا قصر الخلق على صفة العبادة وحدها، فكأنه لا غرض من وجود الجن والإنس سوى عبادة الخالق وحده، وبذلك يصبح مفهوم العبادة أوسع مدى من الشعائر الخاصة كالصلاة والصوم والزكاة والحج وما إليها مما يدخل بداهة في هذا النطاق، حتى يتناول كل تحرك يأتيه الإنسان في حياته، فلا يستثني من ذلك طعامه وشرابه ومختلف تصرفاته، إذ المفروض أن هذا الإنسان على وعي تام لسلطان الخالق ومراده من خلقه، فلا يأتي شيئاً أو يذر شيئاً إلا وفق الأفضل والأرضىله.. ومتى استوفى الإنسان هذه الصفة كان عبداً ربانياً، وكان كل تحرك له عبادةً لله خالصة.

ولقد تكاملت هذه الخصائص العليا في شخص محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رسالته الخاتمة، فكانت الأرض كلها له مسجدا وطهورا، وكان كل عمله من ثم تحقيقاً لفضيلة العبودية الخالصة لله القائم على كل نفس بما كسبت..

والإسلام متتام الأجزاء، أول أركانه بعد شهادة الحق الصلاة، التي عدها رسول الله صلى الله عليه وسلم عمود الدين، وكما تنهض على العمود عوالي البناء، هكذا كانت الصلاة الصحيحة منطلق البواعث المحركة لطاقة الفرد في طريق الحياة السعيدة، تسكب روحها في كل تصرفاته.. ومن هنا كان للمسجد أثره العظيم في تكوين المجتمع الإسلامي الأمثل، ولهذا رأينا أول عمل يقوم به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد استقراره في المدينة هو تأسيس مسجد قباء، ثم إنشاء مسجده المبارك، الذي شارك بنفسه في بنائه مع صحابته الأكرمين.

ص: 469

من هذا المسجد المبارك تفجرت ينابيع العلم والهدى وأصول الحضارة المثلى، التي ما لبثت أن عمت العالم فغيرت معالمه، وشقت له الطريق إلى تاريخ لا عهد له بمثله من قبل.

وأدرك الرعيل الأول عظم الأمانة، فتزود لها بكل ما وسعه من معاني الوحي حتى كان الواحد منهم يغشى سوق المدينة، فيخشى أن يشغل المسلمون بصفقاتها عن ذلك الخير الأكبر، فيهيب بهم أن هلم إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشاركوا في ميراثه الذي يتقاسمه الناس هناك [1]

وما ميراث النبوة سوى العلم الذي به سيشقون الأعين الكمه، ويفتحون القلوب الغلف..

لقد بدأ هذا المسجد مهامه في تنظيم المجتمع من أول يوم، فكان أشبه بمحطة الكهرباء، تمتد أسلاكها إلى كل ناحية، فتضيء وتحرك وتزود الجميع بكل نافع..

في هذا المسجد تلتقي الجماعة المؤمنة للصلوات الخمس خلف إمامها الأعظم صلى الله عليه وسلم فتتعلم منه كيف تؤديها بالخشوع الذي يحقق أهدافها العليا، وفيه تنتظم حول هاديها لتتلقى منه تعاليم السماء، التي تدربها على تنظيم مسيرتها في الطريق اللاحب الذي لا يعتري سالكه ضلال، وإلى هذا المسجد تهرع الجماعة المؤمنة كلما دعاها إمامها إلى (صلاة جامعة) تطرح في أعقابها المشكلة أو المشكلات الطوارئ، ليشاركوا في معالجتها بما أوتوا من خبرة وإخلاص لدينهم ولمصلحة مجتمعهم فيكتسبوا بذلك الدربة التي تعوزهم لضبط سلوكهم في نطاق الخير العام، ومن ثم لقيادة الأمم التي سيستخلفهم الله على إصلاحها وتوجيهها في قابل الأيام.

ص: 470

من هذه الأصول الأولى تعرف المسلمون أهمية المسجد في حياتهم فكان لهم على مر الدهر المعبد الذي فيه يجتمعون لإقامة الصلاة، والمدرسة التي يتلقون فيها علم الدنيا والآخرة، والندوة التي يبحثون في ظلها معضلاتهم اليومية والأسبوعية، والمركز الذي يتدربون فيه على تطبيق معاني الإسلام في سلوكهم الفردي والاجتماعي والسياسي، والملاذ الآمن الذي يعمق بينهم روابط الأخوة، ويفتت الفوارق التي يحدثها اختلاف المنازل الاجتماعية بين الناس فيعودون كما يريد لهم الإسلام خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، أمة تجمعها أخوة الإيمان، ويتساوى فيها الأفراد في حق الكرامة والعدالة والحياة، فلا يستكبر فيها قوي على ضعيف، ولا يذل ضعيفها لقوي، لأنهم كلهم أذلة للمؤمنين أعزة على الكافرين

جامعات شعبية:

وهكذا أخذ المسجد سبيله في ضبط المسيرة الإسلامية، حتى لقد كانت المساجد الجامعة في صدر الإسلام تؤدي بجانب رسالتها الدينية عدة مهام، فمن على منابرها تذاع أوامر الدولة وجيهاتها، وفيها تنعقد مجالس القضاء للحكم بين الناس.

"وقد شاهد ناصر خسرو في جامع عمرو بن العاص رضي الله عنه محرري الصكوك والعقود، كما رأى فيه مجلس قاضي القضاة ويقول إنه: كان في الزيادة الغربية من المسجد، كما كان فيها مجلس قاضي الحكم الشافعي، ومجلس القاضي المالكي

"ٍ، وكذلك عاين ابن رستة وهو من رجال القرن الثالث الهجري، بيت المال الخاص بحفظ أموال اليتامى في هذا المسجد نفسه، ووصفه بأنه كان أمام المنبر، وأنه شبه قبة عليها أبواب من حديد، ثم نقل إلى صحن المسجد، وحتى اليوم لا يزال البناء الخاص ببيت المال قائماً في الجامع الأموي بدمشق، وفي الجامع الكبير بمدينة حماة وإن هو قد خلا من كل مال

ص: 471

أما الجانب التعليمي من حياة المسجد فلا يزال من أبرز مقوماته بعد الصلاة، على الرغم من كل العوائق التي اعترضت طريق الإسلام، وبخاصة في أيامنا هذه، وقلما ترى مسجدا في قرية أو مدينة لا يقوم فيه مدرس أو مدرسون، أو مقرئون يعلمون صغار المسلمين كتاب الله حتى الساعة.

إنها بقية من ماض مجيد، كان المسجد فيه يتخذ صفة الجامعة الشعبية مفتحة الأبواب لكل راغب في المعرفة، لا تقيده بدوام، ولا تفرض عليه مادة دون أخرى، بل تفتح لمواهبه سبيل الانتخاب الطبيعي، فينتقل من حلقة إلى أخرى، حتى يستقر في الاتجاه الذي يتلاءم مع استعداده، وبهذه الطريقة أتيح للمسجد أن يخرج أكبر العباقرة الذين تسنموا مقاعد الإمامة في الدنيا والدين..

ولقد زاحمت المدارس والجامعات النظامية مدرسي المساجد منذ مطلع العصر العباسي، ولكن المسجد لم يتخل عن مهمته لها، بل جعل يضاعف من نشاطه بإزاء ما واجه المسلمين من البدع والفتن والمذاهب التي أحدثتها الفلسفات الوثنية فكان كطوف النجاة وسط الخضم الهائج يفند الباطل، ويدعم الحق، ويعلى رايته فوق كل راية..

ولعل عهود المماليك كانت أحفل عهود الإسلام بالنشاط المسجدي في الشام ومصر، إذ أقبلوا يتنافسون على عمران المساجد، والتفنن في رعايتها وتقويتها، فكان لكل مسجد جامع ملحقاته من الحجرات والمكتبات، يأوي إليها أهل العلم من طلبة وأساتذة فتجري عليهم المساعدات السخية الثابتة لتوفر لهم العيش الكريم، فلا ينصرفوا عن العلم إلى البحث عن الخبز.

وما كاد المسجد يفقد بعض مميزاته في عهود الدول المتتابعة حتى أطل بوجهه الجديد من عاصمة الخلافة العثمانية، يحيي ما اندرس أو كاد يندرس من نشاطه المبارك في خدمة المجتمع المسلم.

ص: 472

يصف أحد المستشرقين اثنين من مساجد العاصمة فيقول: "في عهد العظمة التركية كان المسجد مركزاً اجتماعياً، فمسجد محمد الفاتح مثلا كان على جانبيه كليات وفندق ومستشفى ومركز لتوزيع الطعام، وعلى رابية أخرى كان يربض أوسع المساجد إطلاقاً وهو مسجد سليمان القانوني، الذي كان حوله عشر مؤسسات منها كليات أربع، والمدرسة لم تكن خاصة بالدين، بل كانت وحدة للسكن، وكان المسجد نفسه قاعة للدرس والمحاضرات، وكان بوسعك أن ترى لعهد قريب أساتذة في صحن المسجد خلال الصيف، وفي المسجد نفسه أثناء الشتاء، يدرسون جماعات صغيرة من الطلاب".

بين أمس واليوم:

أجل

إن المسجد لم يفقد حتى اليوم تأثيره في حياة المسلمين فهو لا يزال قائماً لاستقبال المصلين، ولا يخلو في كثير من الأحيان والبلدان من مكتبة صغيرة تمد المسجد بنسخ من كتاب الله للتبرك ببعض التلاوة، وقد تحتوي بعض الكتب الإسلامية الأخرى تبرع بها بعض المحسنين دون تفريق بين النافع منها وغير النافع.

على أن قليلا من التأمل في أوضاعها على ضوء الغاية العليا التي من أجلها وجد المسجد في الإسلام يؤكد لنا أن ثمة فجوة هائلة تفصل بين مسجد اليوم ومسجد الأمس.. لا من حيث بناؤه وشكله وأثاثه، فقد توافر لمسجد اليوم من ذلك الشيء الكثير، ولكن من حيث الروح الذي يجب أن يهيمن على واقعه فيجعل منه منطلق حياة وتكوين وتوجيه.

ص: 473

لقد جرد المسجد الحديث من الطاقات التي تمكنه من العمل في بناء الفكر والقلب وتصحيح المفهومات الخاطئة، فقلما نجد على منبره الخطيب المزود بسلاح العلم الواسع، وإذا وجد فقلما تجد لديه الإخلاص الذي يجعل الحق أعلى وأغلى في قلبه من الحياة- إلا من رحم الله- لقد سيطر الرعب على خطيب المسجد ومدرسه وضاقت في أعينهما سبل الرزق، فلا يريان سبيلا للوصول إليه إلا بإرضاء المتسلطين على مرافق الحياة، ممن لا يقيم وزنا لدين الله ولا يعرف حقا لشريعة الله.. ويكاد أن يكون هذا هو واقع المسجد في معظم ديار المسلمين، إلا من رحم الله..

ولا عجب في ذلك ما دام المسلمون في تلك الأقطار محكومين بغير نظام الإسلام، فكل محاولة لتوعية المصلين، وتزويدهم بحقائق دينهم ستصطدم برغبات المخالفين لها من أصحاب السلطان وأعوانهم، ممن باعوا أنفسهم للشيطان بأبخس الأثمان..

فكيف إذا أخذنا بعين الاعتبار نوعية الخطباء والمدرسين الذين يقع اختيار أولئك المتسلطين عليهم، حيث يكونون من المرتزقة الذين لا يهمهم إلا منافعهم العابرة، فلا يتورعون عن أن يجعلوا الحق باطلاً والباطل حقاً، والظالم عادلا والصالح باغيا..

التطور المدمر:

إن الإسلام في توكيده على عمران المساجد إنما يستهدف من ذلك توفير وسائل التوعية الدائمة التي لا مندوحة عنها لإقامة المجتمع الصالح.. المجتمع الذي يعرف كل فرد منه ماله وما عليه، ذلك لأن الجماعة المسلمة هي المادة التي منها تتكون دولة الإسلام، وهي القاعدة التي عليها ترتكز، وإذا كانت وظيفة المجتمع المسلم _شعباً ودولة _ هي تبليغ رسالة الله وإقامة الحكم الأفضل، فطبيعي أن يجد هذا المجتمع من الرعاية والحرية ما يمكنه من تحقيق واجبه في الاستعداد للنهوض بأعباء هذه الرسالة في نفسه أولا، ثم في أوساط الشعوب الأخرى ثانياً..

ص: 474

ولا شيء أفعل في تحقيق هذه المعاني في قلب المسلم من كلمة الحق يسمعها في بيوت الله مؤيدة بآيات الوحي من كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا أدل على ذلك من توكيد الشريعة على حضور الجماعة في صلوات النهار الخمس وظهيرة الجمعة، وإيجاب صلاة العيدين على كل مكلف من ذكر وأنثى، حتى الحيض والعواتق كيلا تفوتهم المشاركة في شهود الخير، والتفاعل مع روحانية الجماعة، لتستمر للفرد صلته الوثقى بأمته وملته، فتظل الأفكار متقاربة، والأذواق متناغمة، فلا يجد الشيطان مجالا للتسلل إلى وحدة الصفوف..

تلك هي رسالة المسجد في أوضح صورها، وحين تؤدى هذه الرسالة على الوجه الصحيح، لن يتعرض المجتمع الإسلامي لمثل هذه الهزات التي تهب عليه من كل صوب، حاملة إلى أجياله جراثيم التشكيك والتخريب تحت مختلف الأسماء والعنوانات

ولكن المسجد أوشك أن يفقد سلطانه على النفوس بعد هذه التطورات التي سلخته من معظم مقوماته، وسلطت عليه حتى من لا يؤمن برسالته، فهو اليوم في جل ديار المسلمين أداة شلاء لا يكاد يؤدي أي وظيفة اجتماعية هادفة، بل لا نغالي إذا قلنا إنه بما يعتوره من المعوقات المختلفة، لا يزيد الواقع الاجتماعي إلا بلبلة واضطرابا.

لنبدأ من هنا:

على ضوء هذه الأحاديث وجدتني وأنا أهم بكتابة هذا البحث أتساءل: ما الحصيلة التي سيرجع بها المجتمعون في هذا المؤتمر إلى بلادهم؛؟

وإلى أي مدى يمكنهم أن يضعوا مقرراتهم في حيز التنفيذ؟

ص: 475

لقد تكررت المؤتمرات التي عقدت لعرض أحوال المسلمين، ولدراسة أوضاعهم على مختلف المستويات، وإن في مقرراتها الكثير من العلم والخير

غير أني أتطلع في كل اتجاه لأرى آثارها العملية فلا أكاد ألمح شيئا

ولا جرم أن اجتماعا يعقد لتصحيح أوضاع المسجد والمسجديين جدير بكل تقدير واهتمام، إذا كان من شأنه تغيير هذا الواقع الذي انتهى إليه المسجد وأهله

ولكن ما السبيل إلى ذلك وهو الذي لا سبيل إليه إلا عن طريق الذين لا يريدون هذا التغيير

في اعتقادي أن أعظم خدمة نقدمها لإحياء رسالة المسجد هو أن نبدأ هذا التصحيح في مساجد هذه المملكة أولا

فإذا نجحت المحاولة هنا كانت الخطوة التالية إقناع الأقطار الإسلامية الأخرى بنقل هذه التجربة إلى مساجدها.

إن المملكة السعودية هي البيئة الإسلامية المتميزة، فقضاؤها إسلامي صرف، وتعليمها لا يزال مرتبطاً بأهداف الإسلام، ونشاطها الإسلامي لا يكاد يفوته جانب من أرض المسلمين، وفي إمكاناتها المادية ولله الحمد ضمان لإنجاح أي مشروع إسلامي من هذا النوع.. فلتكن هي المنطلق الأول لتحقيق الأنموذج الأفضل الذي تتطلع إليه أبصار المصلحين وبصائرهم

لقد كتب الكاتبون، وألّف المؤلفون، وخطب المحاضرون، وتغنى الشعراء الإسلاميون بعظمات الإسلام وإمكاناته العجيبة لإصلاح الإنسان، وبناء الأوطان وإقامة الحكم الصالح، وإعطاء البشرية أفضل الأنظمة في السياسة والاقتصاد والعدالة

ولكن شيئاً من ذلك لم يترجم إلى نطاق العمل المنظور خارج هذه البلاد حتى الآن، لذلك ستظل هذه الكنوز حديثاً ماتعاً يسلي القارئ والسامع، على حين أن المسلمي، ن ومن ورائهم العالم كله يظلون أحوج ما يكونون إلى رؤية هذه الكنوز بارزة في متناول الأيدي والأبصار، فمتى يتاح لهذه الحقائق الإسلامية أن تحتل مكانها في عالم الواقع، ليقتنع العالم أن لدينا ما نقدمه لإنقاذه من مهامه الضياع.

ص: 476

إن الضمير الإنساني يطالب المسلمين بإقامة أنموذج صحيح للمجتمع الذي يستطيع الإسلام أن يبنيه بإمكاناته الخاصة وحدها، فيكون مجتمعاً ربانياً يحكمه نظام الإسلام في كل شيء، دون أن يسمح للتيارات الدخيلة بأي تأثير في خصائصه العليا، حتى يكون حجة الإسلام على العالم، الذي مزقته التجارب البشرية المقطوعة عن طريق الوحي..

وما لم يتفق المسلمون على هذه الحقيقة وما لم يتقدم من الشعوب الإسلامية من يحقق هذا الأنموذج، فسيظل كماخض الماء، لا يتجاوز حدود الأحلام.

المسجد الذي نريده:

أما المسجد الأنموذج الذي تتطلع إليه أبصار المفكرين فهو الذي توافرت فيه كل الوسائل المساعدة على استعادة منزلته وتحقيق رسالته التي أنشئ لها من أول يوم أول مسجد أسس على التقوى.

ولن يكون المسجد كذلك إذا قصرنا العناية فيه على الشكل دون المضمون.. أو على المضمون دون الشكل.

إن الذي قدح فكرة إصلاح المسجد في قلوب المصلحين هو شعورهم بحاجة المجتمع العميقة إلى مؤثرات هذه المؤسسة الإسلامية الهامة، ولابد في تحقيق هذه الغاية من مراعاة التطور الاجتماعي الذي تعيشه الإنسانية في كل مكان وزمان.

ومن موحيات ذلك التطور أن يكون المسجد وحدة اجتماعية متكاملة، تؤمّن لمرتاديها كل متطلباتهم الروحية والعقلية، وحين نفعل ذلك لن نبتعد كثيراً عن أوضاع هذه المؤسسات في ظل الخلافة العثمانية أو عهد المماليك مثلا، ذلك لأن أولئك الذين أنشئوا تلك المساجد، وأحاطوها بالمرافق الاجتماعية المختلفة، إنما صنعوا ذلك بحافز من الوعي التام لرسالة المسجد في نطاق الحاجات الاجتماعية الطارئة..

وعلى هذا فالمسجد الذي يراد أن تتمثل فيه الوحدة الاجتماعية المتكاملة هو الذي يجد فيه المصلون على اختلاف مستوياتهم كل الفرص التي يستطيع توفيرها ناد مزود بكل المرغبات الصالحة

ص: 477

إن قاعة الصلاة جزء من هذه الوحدة يفيء إليها روادها كلما دعا إليها الداعي في أوقاتها الخمسة، ثم مكتبة عامرة بأفضل المؤلفات الإسلامية في شتى العلوم والفنون، على أن يعنى فيها باختيار الطبعات الرائعة من كتاب الله، فلا تقع فيها العين ولا اليد على تلك المصاحف التجارية التي طبعت أردأ طبع، وجلدت أسوأ تجليد، فلا يتكرر لمسها حتى تتفتت، وتتحول إلى ركام من الأوراق الممزقة. ثم تلحق بهاتين القاعتين ثالثة للجلوس يجتمع فيها أهل الفكر من أبناء المحلة أو زوار الوحدة، حيث يتداول الرأي في أمورها وأحوال روادها، وما ينبغي عمله لاستمرار تقدمها وازدهارها على أن تكون من السعة بحيث تصلح لإلقاء المحاضرات، وإقامة الندوات الفكرية تحت إشراف المسئول عن الوحدة. وسيكون من الإحياء للسنة إجراء عقود النكاح في هذه القاعة، ليحضرها رواد المسجد والمكتبة والمجاورون، فيكون ذلك مدعاة لتقوية الروابط بين أهل المحلة، وأفضل وسيلة لمكافحة السرف الذي اعتاد الناس أن يتنافسوا به في مثل هذه المناسبات.

ولن ننشد المستحيل عندما نتمنى أن تكتمل هذه الوحدة بإضافة مستوصف يتناسب مع حاجة البيئة، يقوم عليه طبيب أو أطباء بصورة ثابتة أو بالتناوب بين أطباء يخصصون بعض وقتهم لخدمة المترددين على هذا المستوصف على أن تصرف لهم الأدوية الأولية من الصيدلية الملحقة به..

إن مركزاً إسلامياً كهذا من شأنه أن يقدم لبيئته أجل الخدمات، ويهب للإسلام أفضل نماذج الدعاية، التي تعرف الناس قدراً غير قليل من جمال هذا الدين، الذي يهدي للتي هي أقوم، ويهيب بالمؤمنين أن يتعاونوا _ دائماً وأبداً _ على البر والتقوى.

ص: 478

على أن كل مجهود يبذل لتوفير هذه المصالح سيظل أبتر معرضاً للخلل فالزوال، إذا لم توجه مثل هذه العناية إلى نوعية الرجال الذين سيشرفون عليها. ولهذا نرى أن أول الشروط التي على أساسها يختارون هو الكفاية الخلقية ثم الكفاية العلمية، فما ينبغي لغير مؤمن بهذا الدين أن يعهد إليه بالإشراف على المسجد وملحقاته، ولا يصح أن يوسد أمرها إلى خبير عليم اللسان فاسد الجنان، لأنه واحد من زمرة الشياطين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، كما أنه سيكون من الجناية على المشروع أن يعين لها الدراويش من ذوي التقوى، الذين لا يملكون نصيباً وافياً من العلم العاصم، لأن تولية أي من هؤلاء سيكون نذيرا بدماره حسب منطوق الحديث الصحيح:"إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة" وقد فهم أولو العلم أن المراد بالساعة هنا ساعة خراب الأمر.

إن المسجد الجديد لا يصلح إلا بما صلحت به أوليات المساجد التي أسست على تقوى من الله، وفي رأس ذلك الجمع بين العلم والإيمان، ولا سبيل إلى ذلك إلا بإصلاح أوضاع المشرفين الأعلين على مصاير المساجد في بلاد المسلمين، فلا يرفع إلى تلك المناصب من لا خشية عنده لله، ولا غيرة على حرمات الإسلام، وإني لأكتب هذه الكلمة وفي رأسي ذكرى يوم رافقت فيه أحد مديري الأوقاف في بلد مسلم إلى أحد المساجد التاريخية، وهناك أدركتنا صلاة العصر فإذا هو يستعجل بفراقنا لأنه لايريد الصلاة _أو لا يعلم كيف يصلي_ وما أكثر هؤلاء في معظم ديار المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

نعم.. لابد من التركيز على نوعية الخطيب والمدرس والإمام والمشرف العام، فكم من إمام لا يحسن إقامة الآية من كتاب الله، وكم من خطيب لا يصلح إلا للتنفير من دين الله، وكم من مدرس يعلم الناس الخير، وهو غارق بالفساد إلى صماخيه....

ص: 479

لقد آن للمسئولين عن رعاية المساجد أن يحسنوا لها الاختيار، فلا يقل مؤهل الإمام والخطيب عن الشهادة الثانوية الشرعية في أوساط القرى والبوادي، وأما في المدن والحواضر فلا يصل إلى هذه الأعمال امرؤ يقل مؤهله الدراسي عن مستوى الإجازة من إحدى الكليات الإسلامية، وذلك بعد الاستيثاق الكامل من مؤهله الخلقي، على أن هذا يقتضي أن يوفر للعاملين في خدمة المسجد كل ما يؤمن لهم الحياة الكريمة، وقد درج بعض المحسنين أن يلحقوا بالمسجد منزلاً خاصاً للإمام والخطيب، وإنها لسنة حسنة يجدر بالمؤتمر ألا يغفلها.

وإذا كان هذا صحيحاً بالنسبة إلى كل مسجد في أي مكان، فهو أحق بالتحقيق في المسجد الأنموذج، الذي يراد له أن يكون مناراً للهداية، ومنطلقاً للدعوة إلى دين الله بين مختلف عباد الله.

المراكز الإسلامية:

وبحث كهذا في شأن المسجد لا يستكمل عناصره ما لم نلق من خلاله نظرة إلى ما يسمى اليوم بالمراكز الإسلامية المنشآت خارج أقطار المسلمين

إن لبعض هذه المراكز نشاطاً ملحوظاً في خدمة المسلمين وفي الدعوة إلى الإسلام، وقد حقق هذا البعض بفضل الله غير قليل من النجاح في أوساط الجاليات الإسلامية، وطلاب الحق والخير من غيرها

بيد أن الملاحظ أن أكثر هذه المراكز نجاحاًً في خدمة الإسلام هي التي يقوم على خدمتها عناصر حرة من الشباب المؤمن، الذي لا تقيده وظيفة رسمية.. ففي ظل هؤلاء الأحرار يحسن عرض الإسلام لجاهليه من الأجانب، وتنظم برامج تعليم لصغار المسلمين ممن لا يتاح لهم معرفة شيء من دينهم إلا عن طريق هؤلاء المتطوعة..

ص: 480

هذا على حين نرى المراكز الأخرى التي تتولى أمرها قيادات رسمية لا يهمها من أمرها إلا تحقيق الدعاية السياسية التي تفرضها الدولة.. ومن هنا رأينا مراكز تنفق عليها الأموال الطائلة، ثم لا مردود لها سوى زيادة البلبلة في أوساط الجاليات الإسلامية.. ولقد حدثني زميل فاضل تولى إمامة أحد هذه المراكز من قبل هيئة خاضعة للحكومة فلم يستطع أن يحقق فيه أي مهمة إسلامية، بل لم يستطع حمايته من المفاسد التي ينكرها أهل الإيمان، لأن الذي عهد إليه بإدارته كان أبعد الناس عن فضائل الإسلام، حتى إنه ليفطر رمضان دون عذر، ويأتي من المنكرات ما لا يكتمه زميلي الفاضل لو سئل عنه.. وقد شكا أمره إلى المسئول الأعلى فلم يجد أي مردود سوى التهديد والوعيد

وهكذا تذهب آمال المسلمين ببعض هذه المراكز مع الريح.. ولا جرم أن إخفاق أي مركز إسلامي في الغرب يجر معه إخفاقاً أكبر للدعوة الإسلامية، إذ يكون سبباً لتشويه الإسلام، وصرف الراغبين عنه إلى البحث عن علاج حيرتهم في غيره....

طموح مشكور يرجى تحقيقه:

ومرة أخرى أسمح لنفسي بالقول: إن هذه المملكة أحق بلاد الإسلام في عهدنا هذا بإصلاح هذا الوضع، وذلك بإحداث مراكز للإسلام في مختلف حواضر العالم الغربي، يقوم على رأسها رجال جمعوا بين قوة العلم وأمانة التبليغ، كبعض أولئك الذين خرجوا من هنا بدعوة الله قبل قليل إلى أوربة والفاتيكان، فأحسنوا العرض والحوار وعادوا مكللين بالأجر والغار.

ص: 481

وفي ظني أن أهم واجب يتحمل تبعته كل مركز إسلامي ينشأ خارج البلاد العربية هو لمُّ شعث الجوالي الإسلامية تحت راية الصلاة، ثم تخصيص برامج أسبوعية لتعليم أبنائهم ما لابد من علمه عن كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم إلى برامج أخرى خاصة لنشر العربية والإسلام بين الأجانب والأعاجم، ودعم كل من البرنامجين بمكتبة صالحة تيسر لطالب العلم الحصول على بغيته من أقرب سبيل، على أن يراعى فيها مستوى كل من القسمين، مع الاهتمام الكبير بنوعية المنشورات والكتب، بحيث تكون مقصورة على عرض الإسلام وتيسير العربية دون انحراف نحو الدعايات السياسية الخاصة.

لقد حدثني قبل أيام فتى سعودي كري، م على اتصال بسمو الأمير المؤمن العامل محمد بن الفيصل منشئ (مؤسسة الإيمان للتربية والتعليم والثقافة الإسلامية) التي تنتشر مدارسها النموذجية حتى الآن في الرياض وجدة والمدينة المنورة، حدثني بخبر يسر كل مسلم هو أن سموه يعتزم أن يوسع دائرة المشروع إلى أبعد من حدود المملكة حتى تشمل أمريكة، فيغزوها بالإسلام عن طريق التعليم، كما تقوم هي بغزو المسلمين بالنصرانية والخنفسة عن طريق المبشرين والهيبيين.

وقد أشار إلى ذلك المنشور الخاص بهذه المؤسسة المباركة، إذ يقول في نهاية الفقرة الرابعة منه:"وتعد المؤسسة مشروعاً لتحويل مدارسها إلى مدارس دولية إسلامية تكون لها نظائر خارج المملكة، سواء في الدول الإسلامية أو الأجنبية".

وقد علمت بعد ذلك من أحد العاملين في هذه المؤسسة أنها ستبدأ خطواتها الأولى على هذا الطريق في القاهرة والإسكندرية، لتكون منطلقاً إلى عمل تعليمي على مستوى العالم الإسلامي

ص: 482

وياله من طموح يستسهل في سبيل الله كل صعب، ويدغدغ الآمال بمستقبل مشحون بالنصر والمجد، وما أحوج مؤتمر رسالة المسجد إلى مثل هذا الطموح، الذي من شأنه أن يرد بفضل الله وتوفيقه إلى المسجد رسالته العظمى، في إيصال هداية الله إلى كل مستحق لها من الله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

مضمون حديث حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه

ص: 483

رسائل لم يحملها البريد

لفضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي

المدرس بكلية الشريعة بالجامعة

صديقي الأعز وعدوي الألدّ

لست أدري بأي اسم من أسمائك الكثيرة أسميك، ولا بأي نداء من نداءتك العديدة أخاطبك، أأسميك باسم الدرهم والدينار، أم أخاطبك باسم الجنيه والدولار، أم أكتب إليك بأقرب الأسماء إلى شفتيّ، وأكثرها وروداً على سامعيّ، وأوسعها أخذا وعطاء أمام ناظرتيّ، فأقول يا أيها الريال؟! أم أترك أسماءك وألقابك إلى أشكالك وصورك، وكم لك فوق الأرض وفي باطنها من شكول وصور تخطف الأبصار وتزيغ البصائر وتهزّ العقائد والقلوب هزا عنيفا.

أنا لا يهمني أسماؤك ولا ألقابك، ولا يعنيني أشكالك ولا صورك، سواء أكنت ورقا مصقولا مكفولا منمنما تتخطفه الأيدي، أم كنت ذهبا أصفر مشعّاً لا يتحرك إلا بتؤدة ولا يجلس إلا مجلساً كريماً، أم كنت تجارة متداولة، أم عمارة متطاولة، أم سائمة تملأ المراعي، أم نباتا يطعمه الناس.

أنا لا يهمني شيء من ذلك، وإنما يهمني حقيقتك ومعناك، يهمني هذا الدور الذي تقوم به على مسرح هذا العالم مذ هبط آدم إلى الأرض إلى أن يدس أبناؤه في التراب.

ولقد دعا هذه الخواطر التي أكتبها إليك داع ربما لم يكن دعاؤه نديا، ولكنه على كل حال قد دعا سواء أكان دعاؤه ندياً أم خفيتاً خفيا، دعاها أبيات قالها النمر بن تولب العكلي لعاذلة أغلب الظن أنها كانت زوجه، ولعلها كانت تلومه في إنفاق، وتعتب عليه بسط يد، وتطلب إليه أن يمسك عليه ماله، قال:

بعيدا نآني صاحبي وقريبي

أعاذل إن يصبح صداي بقفرة

وأن الذي أنفقت كان نصيبي

ترى أن ما أبقيت لم أك ربه

أخو نصب في رعيها ودؤوب

وذي إبل يسعى ويحسبها له

وبدل أحجارا وجال قليب

غدت وغدا رب سواه يقودها

ص: 484

ما أكثر ما أنشدت هذه الأبيات التي تتحدث عنك، وما أكثر ما ردّدت هذا الشعر الذي يصور نزاعاً فيك، زوجة تحرص عليك وتضن بك، وتحبك حباً جماً ولا تطيق فراقا، وزوج يعدّك ماله ينتفع بك، ويراك نصيبه حين ينفقك، أما حين يحبسك ويغلق دونك الأبواب فلست له مالا، وإنما أنت مال أناس آخرين ستأتيهم برداً وسلاما، دون أن ينصبوا فيك أو يدأبوا لك أو يقوموا عليك قياما.

وقد تسألني وتقول: وما قضاؤك لو قضيت؟ أي الزوجين كان على حق؟ وأي الرأيين كان صواباً؟

أما عقلي فمع الرجل، وأما هواي فمع المرأة، ويا لله من ذاك الهوى!!

لقد أفسدت عليّ أيها المال حياتي، أفسدت عليّ ديني، وأفسدت عليّ خلقي، وسلبتني الرأي، وباعدت ما بيني وبين الكتب.

شتان ما حالي وقد حرمتك، وحالي بعد أن عرفتك وذقتك، كان لي قبل أن أراك رأي أقوله لا أبالي فيه العواقب ولا أخشى الثبات، أرى الباطل فأقول هذا باطل، واسمع المفتري فأناديه يا ذا الإفك والبهتان، وأحضر مجالس المنافقين والمرائين فيكون لي فيها رأي لا يطيب لهم سماعه، كنت قبل أن تقوم بيننا هذه المودة أشتري بالقليل القليل الذي أجمعه منك كتب علم وأدب أوسع بها معارفي، وأصقل بها ذوقي، وأثقف بها نفسي، وأملأ بها سمعي وقلبي، كنت أفضل ذلك على أن أشتري بك أطعمة لذيذة يتمتع بها حسي، ويتضخم بها جسمي، ويتبلد بها ذهني، ويموت فيها نشاطي، كنت أفضل ذلك على أن أشتري بك ثياباً جديدة جميلة أختال فيها كما تختال الطواويس، وأميس فيها كما يميس الصغار والفتيان في ثيابهم الجديدة أيام أعيادهم السعيدة.

ص: 485

كنت من قبل أن تقوم بيننا هذه المودة أعيب أيما عيب أناساً على رغم ما يتسمون به من العلم والفضل يقبلون على جمعك وادخارك بشراهة، لا يعرفون فيك سكينة ولا أمنا، ولا يذوقون فيك راحة ولا نوما، وإذا ما سألت: علام هذا النصب الناصب، وفيما هذا السعي اللاغب؟! قال قائلهم: أريد أن أؤمن مستقبلي ومستقبل أولادي من بعدي، أتريد أن يعيش التجار ورجال الأعمال وأصحاب المهن وسائر الناس في سعة من العيش وخفض، ونعيش نحن رجال العلم في ضيق من العيش وحرمان من الدنيا وزهد في نعيم الحياة؟! ألسنا يا أخي بشراً من هؤلاء البشر؟! أفلا يكون حقاً وعدلا أن نستمتع كما يستمتعون وننعم كما ينعمون؟! لقد وفّر الناس لأنفسهم أموالا ضمنت لهم مستقبلهم، ونالوا من الطيبات ما طابت به أنفسهم، وأخذوا من أسباب الحياة ما نعمت به حياتهم، فإذا وفرنا لأنفسنا ما وفروا، ونلنا من الطيبات ما نالوا، أفنكون بذلك قد اجترحنا السيئات ونلقى من بعد أثاما؟!

كنت قبل أن عرفتك أيها المال أنعم بحياتي، وأحسن التصرف فيما أدع وفيما آتي، وأجد أيامي راضية واسعة مباركة، أعبد الله في طمأنينة وسكينة وحضور قلب، وأحضر دروس غير معجل ولا كاره، وأذهب إلى مكان تدريسي مبكراً، وألقى طلابي هاشاً باشاً نشيطاً، ثم لا أعدم مع هذا أوقاتاً طيبة أصاحب فيها علماء رحلوا عن هذه الحياة الدنيا منذ قرون، وقد شغلوا عن تأمين مستقبلهم ومستقبل أبنائهم في الحياة الدنيا، وعن التمتع بالطيبات من الرزق والرفاه من العيش، قد شغلوا عن ذلك كله بتأمين مستقبلهم في الدار الآخرة، وتأمين مستقبل أبناء المسلمين بتركة مباركة غنية من العلم والأدب والمعرفة.

ص: 486

كنت

وكنت

وما أكثر ما كنت

وما أقل ما كنت

ثم ذقت طرفا من حلاوتك، وتمليت بقية عمر في صحبتك، وأصبحت أدور معك حيث تدور، وأقف معك حيثما تقف، قد استعبدني هواك وحبي إياك، حتى لم أعد أبصر الأمور إلا بعينيك، ولا أسمع الأشياء إلا بأذنيك، ولا يطيب لي العيش إلا حيث تكون.

بالأمس أمسكت حزمة سمينة من أوراقك الثمينة، أقلبها تارة وأعدّها تارة أخرى، ثم أرفه عن نفسي بتقسيمها ألفاً ألفا، ثم بتقسيمها ألفين ألفين، ثم أضمها كلها بعضها إلى بعض، وأسرح الطرف إليها في زهو وإعجاب، ثم حملني الزهو والإعجاب على أن أملأ جيبي بتلك الأوراق وأجوب بها الأسواق، ومع أن عينيّ كانتا تلبسان نظارات طبية جديدة، وكان إبصاري بهما قويا حديدا، مع ذلك كنت لفرط زهوي وغروري لا أرى الناس والأشياء إلا أشباحاً وظلالا، وعلى رغم أني فارقت شبابي منذ عهد بعيد، فقد خطوت خطوات الشباب السريعة الواسعة الواثبة، ومضيت في السوق لا ألوي على شيء، ولا أعوج بشيء، وسرعان ما صدمت أحد العابرين فإذا هو لقى على الأرض يئن ويتلوى، ونظرت إليه من عل فوجدت فيه مسكيناً غريباً زريّ الهيأة، فحقرت شأنه، ومضيت لطيّي لا أبالي، والناس يرجمونني بنظرات ملؤها السخط والمقت، وفجأة رأيتني وأنا لا أدري أمام مكتبة ضخمة فخمة تموج بالكتب وبالمشترين موجا، وكاد حنيني الكمين القديم يقذفني إلى الداخل لولا صوت رنّ في أذني يقول: إلى أين؟! أتريد أن تعود إلى عهدك القديم وسيرتك الأولى؟! علام ذلك وفيمه؟! لقد نلت الشهادة منذ سنين بعيدة، وأصبحت بها موظفاً ذا درجة حميدة، فما أنت والكتب والمكتبات؟! تلك أيام قد خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، وما بك من حاجة أن تعود، أتريد أن تدرس وتطالع؟ وما حاجتك إلى المطالعة والدرس؟! كان ذلك من أجل الامتحانات وقد نجحت في تلك الامتحانات، أتريدها توسيعاً لمعلومتك وتعميقاً لمفهوماتك في تحضير دروسك لطلابك؟ ولكن ما حاجتك إلى ذلك؟!

ص: 487

تدبير تجارتك وتربيب أموالك أولى بوقتك واهتمامك، أم تخشى أن يفجأك المفتش فيلقاك مقصراً مهملا، ولكنك تعلم أنه لا تثريب عليك في ذلك ولا تأثيم، فكثيراً ما دعوت رؤساء ذلك المفتش ومن بيدهم الحل والعقد إلى حفلات تقيمها لهم وموائد، وكثيراً ما قدمت إليهم الهدايا والتحف، فأنت بهذا في حصن حصين من غوائل الوظيفة، وفي مأمن أمين من عوادي الإهمال والتقصير.

وهممت أن أجادل وأدافع وأبين ما في قوله من خطأ وجناية وتضييع أمانة، ولكن صوت المؤذن لصلاة العشاء وخروج المشترين من المكتبة إلى المسجد لم يدعا مجالا للجدل ولا للبيع والشراء.

ودخلت المسجد مع الداخلين، وصليت مع المصلين وأنا مشغول البال مهموم القلب ثائر العواطف، وانتهت الصلاة وأنا لا أذكر شيئا من صلاتي ولا شيئا مما قرأه الإمام في تلك الصلاة، ولم تصح نفسي إلا وأنا علة عتبات المسجد أدس قدمي في الحذاء.

وما أسرع ما تعزيت وتخففت من تلك الهموم بتلك اللمسات التي أحسّ بها جيبي وما في تلك الجيب من أوراق نقدية قد ملأت منها كل جانب، وكانت تلك اللمسات متتابعة ما تكاد تنقضي حتى تبدأ، وكثيراً ما كانت عيني تحسد يدي على تلك اللمسات فترسل النظرات وراءها تشارك وتستمتع، وما كانت أذني بمعزل عن تلك المتعة، فما أكثر ما قالت ليدي في رقة واستعطاف: ناشدتك الله يا أختي أن تحركي تلك الأوراق بقوة فإن لها خشخشة مطربة وحفحفة لذيذة!! وقبل أن أخلص من السوق بقليل روعت يدي ترويعاً شديداً حين لمست جيبي فهوت ولم تجد تلك الربوة الصغيرة التي كانت تملأ كفها وتزيد، وكاد يصيبها شلل لولا أن الشلل في تلك اللحظات كان مصيبة أخرى، فاستجمعت قواها وأخذت تروح وتجيء في الجيوب كلها محمومة مرتعشة تظن جيباً أخرى قد استضافت تلك الأموال، ولكن تلك الأموال كان قد استضافها مكان آخر بعيد لا يعلمه إلا الله.

ص: 488

ورجعت أدراجي أرسل النظرات هنا وهناك فوق أرض الشارع وفي زحمة الخطأ واشتجار الأقدام، لعل تلك الأوراق سقطت في الطريق.

وبينا أنا ذاهل عما حولي مطرق الرأس إلى الأرض إذا شيء يصدم ذلك الرأس بعنف فيلقيني على الأرض، وتجمع الناس من حولي يساعدونني على القيام ويلومونني ويقولون: هذا الرجل الذي يحمل صناديق الخشب على ظهره كان يصيح بأعلى صوته مراراً وتكرارا يحذر الناس! الخشب الخشب! أفلم تسمع إذا كنت لا ترى؟! أو لم تر إذا كنت لا تسمع؟!

وأقبل الرجل الحامل يعتذر بكلمات أحسست فيها الحسرة وبنبرات صوت شاع فيها الأسف، وقبلت عذر الرجل، فقد بذل في تحذيري كل جهد، وكانت الصدمة منه على غير قصد، وكانت مني غفلة وشرود خاطر.

وسرت إلى البيت وئيد الخطا ظالع المشية، وكانت نفسي تحدثني في أثناء العودة وتقول: كان لابد من قبول عذر الرجل، فقد ضاعت ثروتك وأصبحت ضعيفاً مسكينا لا حول ولا طول ولا مال، ومن كان في مثل هذه الحال فلا ينبغي له أن يفعل غير ما فعلت، أما لو كان مالك لا يزال في جيبك فما كان ينبغي لك إلا أن تلطم وتصدم وتغلظ القول.

ولم يعجبني حديث نفسي هذا، فأعرضت عنه وجعلته دبر أذنيّ وتحت قدميّ، فقد كان في اعتذار الرجل إليّ تكريم لي وتعظيم، وكان في قبولي العذر منه إحسان ومودة، ثم كان فيما قدمه من عذر وفيما قدمته من عفو مؤاخاة أضاءت لها وجوه الناس، وعمل صالح لا يضيع أجره عند الله.

وطرقت باب البيت، واستقبلني أهله وقد راعهم كدم في الجبين، واضطراب في الخطا، وصفرة في الوجه، ونبرات صوت حزينة أليمة خافتة لا تكاد تبلغ الآذان، وأجبت قبل سؤال: لا تراعوا زلة قدم، وسقطة جسم، وكدوم ليست بذات بال.

- ولكن ما بال صوتك يبكي؟! وما بال عينيك قد غامتا؟! وها هو ذا وجهك قد غارت دماؤه!!

ص: 489

- أشرت إلى جيبي التي كانت على صدري، كانت خواء مطبقاً بعضها على بعض كأن لم تغن قبل قليل بأوراق ثمينة لم تعرفها جيب عاقل قط.

- أصلحك الله! لقد حذرناك، ولكنك ركبت رأسك واتبعت هواك، وعلى كل حال فنعم الله علينا كثيرة لا تنفذ، ولقد كنا من قبل أن نعرف هذا المال في نعمة، ومن يدري؟! فلربما كان في ذلك المال شر لنا فصرفه الله عنا، فارض بما قضى الله وقدّر، ولا تأس على ما فات، هاهو العشاء محضر فتفضل.

- الحمد لله على كل حال وأسأله تعالى الخير لنا فيما يختار، أما العشاء فأنا متعب وأريد أن أستريح قليلا.

وما كدت أضع رأسي على الوسادة حتى سمعت صوتاً غريباً يرن في أرجاء الغرفة ويقول: إنني أنا المال، أتحدث إليك من أرجاء العالم كلها، ومن أنحاء الأرض جميعاً، إنني أحب الحرية، أحب أن أسيح في الأرض، وأن أنطلق من يد إلى يد، ومن صاحب إلى صاحب أحمل البر والخير، وأنقل الإخاء والرخاء، لا أحب أن يستعبدني إنسان، ولا أن يحبسني مكان، لقد خلقني الله فتنة للناس ومحنة، وتجربة كبرى لهم واختبارا، فكم من أناس يراهم الناس شامخة أنوفهم على ارتفاع ثلاثين أو أربعين ألف قدم، سرعان ما يخرون إلى الأرض يمرغون جباههم بالثرى وأنوفهم بالرغام، حينما يرونني مقبلا من بعيد أو بارقة في الظلام.

وكم من فقير كان يلبس ثياب التقوى ويدعو إلى الدين في حرارة قول وصدق يقين، ثم ساقني الله إليه فنسي الناس ونسي ما كان يعظ به الناس، وتلهى عن حق العباد وحق الله فيما وهب له الله، ثم اتبع خطوات الشيطان وكان عاقبة أمره غيا.

وكم من قاض جلس يحكم بين الناس فكان العدل هو الذي يقضي، وكان الحق هو الذي يحكم، ثم طرقت _ أنا المال _ عليه الأبواب الخلفية، فانفتحت فرجة صغيرة تسللت منها على شيء من الخوف وقليل ثقة واطمئنان ثم كثرت زياراتي، ونجحت وساطاتي وتفتحت ليّ الأبواب.

ص: 490

وكم من وزير وموظف كبير تولى مصالح الناس وتصريف شؤون الدولة، جلست _أنا المال _ في كفة ميزان، وجلست مصالح الناس ومصالح الدولة في الكفة الأخرى، فوضع يده في كفتي فثقلت ورجحت، وأعرض عن الأخرى فخفت وشالت.

وكم صيحة صحت يا حسرة على المسلمين حين رأيت ثلة من زعمائهم وفئة من علمائهم لا يفتر لهم لسان عن ذكري، ولا يطيب لهم حديث غيري وليس لهم مشغلة إلا أياي.

قليل قليل جداً أولئك الذين جئتهم فظلت أقدامهم ثابتة لا تزل، وظلت عيونهم مبصرة لا تعشو، وظلت قلوبهم مضيئة لا تلتف بضباب، ولا يغفلها سحاب.

ولقد كرمني الله فجعلني من هذه القواعد التي يقوم عليها المجتمع، ومن هذه الأشياء التي تصلح بها أمور الناس، وأولئك الذين يرمونني بالإثم، ويتهمونني بأنني مثير ضغائن وحروب بين أفراد وشعوب، ويجتهدون أن يقيموا مجتمعاً بدوني، وأن يبنوا أمة ليس لي فيها وجود، أولئك ساء ما يقولون، وضلة ما يحاولون، فأنا مطية ذلول يمتطيني صاحبي على طريق الخير إن كان من أهل الصلاح والبر، ويسوقني صاحبي على دروب الشر إن كان من أهل الفساد والضر.

وعلى رغم ما ألاقيه في هذا العالم من تكريم وتعظيم، فإن حياتي لا تخلو من أحزان، ومما يحزنني في هذه الحياة أن أناسا يجمعونني على غير هدى وإبصار، وأن قوماً يدخرونني ولا يدرون فيما يكون هذا الادخار، وأن أيديا طائشة كثيرة تنفقني على غير حاجة ولا رشدة.

ليت الذين يجمعونني يجمعون كما تجمع أريها النحل، وليت الذين يدخرونني يدخرون لما تدخر له النمل، وليت الذين ينفقونني ينفقون كما أمر الله وفي سبيل الله وكيما ينتفع الناس بي في هذه الحياة.

ولقد نسيت أن أبدي لك رأيي فيما قاله بعض الشعراء ف إنفاق المال، كقول هذا العكلي الذي ذكرت.

وقول حاتم الطائي الذي لم يذكر:

بصير إذا ما مت نهبا مقسّما

أهن في الذي تهوى التلاد فإنه

إذا نال مما كنت تجمع مغنما

ص: 491

قليلا به ما يحمدنك وارث

وقول طرفة بن العبد:

فدعني أبادرها بما ملكت يدي

فإذا كنت لا تستطيع دفع منيتي

فأنا لا يعجبني هذا الذي بعث هؤلاء على

ويفتح باب ويهتف صوت: لعلك استرحت وزال عنك ما شكوت.

إن العشاء لا يزال ينتظر.

وفررت أيها المال وفر صوتك معك، ليتك اصطبرت قليلا وأتممت ذلك الحديث! هل إلى رجوع من سبيل؟

عبد الرؤوف اللبدي

ص: 492

البيان البلاغي عند العرب معناه أطواره

الدكتور عبد الحميد العبيسي

الأستاذ المساعد بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة

الحمد لله الرحيم الرحمن علّم القرآن، خلق الإنسان علمه البيان، والصلاة والسلام على رسول الله أفصح من نطق وأبان وبعد:

فقد وردت كلمة "البيان"في المعاجم العربية بمعنى: ما تبين به الشيء من الدلالة وغيرها؛ تقول بان الشيء بيانا: اتّضح، فهو بيّن، والجمع: أبْيناء، والبيان: الفصاحة واللَّسَن، وكلام بيّن: فصيح، وفلان أبْين من فلان، أفصح وأوضح كلاماً منه، والبيان: الإفصاح مع ذكاء، والبيان إظهار المقصود بأدلّ لفظ، وهو من الفهم وذكاء القلب مع اللَّسَن، وأصله الكشف والظهور.

فمادة البيان تدور حول معنى: الدلالة، والفصاحة، والوضوح، والكشف، والظهور، وقد استمرت هذه المعاني مستقرة حتى ظهرت باكورة الدراسات البيانية المتخصصة متمثلة في كتاب (البديع) لمؤلفه الأمير الشاعر ابن المعتز المتوفى سنة 296هـ؛ استجابة لدعوة الجاحظ المتوفى سنة 255هـ القائمة على تحقيق التأنق في رسم الصورة الأدبية، والكشف عن الوسائل التي تزدان بها تلك الصورة، وتزداد بها وضوحاً وروعة، وكتاباه:(البيان والتبيين) ، (الحيوان) يمثلان أسلوبه ومنهجه في هذه الدعوة إلى النهج البياني، وبهما اعتبره البعض مؤسس البيان العربي.

ولقد كان صنيع الجاحظ حقاً بداية التحوّل بالبيان إلى معنى: الأدب وفنونه، والدلالة على أسباب نضجه الفني، والتعريف بالمقومات التي قد تعترض نموّه؛ إذ لكل موضوع طريقة خاصة في التعبير عنه، فالموضوع الأدبي له العبارات الأدبية، والألفاظ المنتقاة، والتشبيهات، والاستعارات، والكنايات التي تعبر عن العواطف المختلفة [1] ، بل إن لكل صناعة ألفاظها قد حصلت لأهلها بعد امتحان سواها، فلم تلزق بصناعتهم إلا بعد أن كانت مُشَاكِلاً بينها وبين تلك الصناعة.

ص: 493

وقبيح بالمتكلم أن يفتقر إلى ألفاظ المتكلمين في خطبة أو رسالة، أو مخاطبة العوام والتجار، أو في مخاطبة أهله وعبده، أو في حديثه إذا تحدّث، أو خبره إذا أخبر، وكذلك من الخطأ أن يجلب ألفاظ الأعراب، وألفاظ العوام وهو في صناعة الكلام داخل، ولكل مقام مقال، ولكل صناعة شكل [2] .

وعلى هذا فالبيان عند الجاحظ هو: الدلالة الظاهرة على المعنى الخفي، وهو اسم جامع لكل شيء كشف لك عن قناع المعنى، وهتك الحجاب دون الضمير؛ حتى يُفضَى السامع إلى حقيقته، لأن مدار الأمر والغاية التي إليها يجري القائل والسامع؛ إنما هو: الفهم والإفهام؛ فبأي شيء بلغت الإفهام، وأوضحت عن المعنى فذلك هو البيان في ذلك الموضع.

ثم إن أصناف الدلالات على المعاني من لفظ وغير لفظ خمسة أشياء:

(1)

اللفظ، (2) الإشارة، (3) العْقَدْ، (4) الخطّ، (5) الحال الدّالة التي تُسمى: نِصبة (بكسر النون) .

وهكذا ترى أن المعنى اللغوي للبيان هو الذي سيطر على فكر الجاحظ، واستبدّ بخياله، وينتهي القرن الثالث الهجري الذي برز فيه الجاحظ، ويأتي القرن الرابع ليخرج أبو الحسين إسحاق بن وهب الكاتب كتابه:(البرهان في وجوه البيان) مقتفياً طريق الجاحظ في البيان والتبيين ناقداً إيَّاه، من حيث إنه وجد فيه أخباراً منتخلة، ولم يأت فيه بوصف البيان، ولا أتى على أقسامه في هذا اللسان، حتى بات هذا الكتاب غير مستحق لهذا الاسم الذي نسب إليه [3] والبيان عنده على أربعة أوجه:

(1)

فمنه بيان الأشياء بذواتها، وإن لم تُبيّن بلغاتها، وهو بيان الاعتبار.

(2)

ومنه البيان الذي يحصل في القلب عند إهمال الفكرة واللُّبّ، وهو بيان الاعتقاد.

(3)

ومنه البيان: الذي هو نطق باللسان وهو: بيان العبارة.

(4)

ومنه البيان بالكتاب: الذي يبلغ من بعُد، أو غاب [4] .

ص: 494

وإنك حين تتأمل في هذه الأوجه تجدها قريبة من صنوف البيان التي قالها من قبل؛ إذ بيان الاعتبار، والاعتقاد عند ابن وهب هما معاً: بيان ((النّصبة)) عند الجاحظ، وبيان العبارة هو بيان ((اللفظ)) عند الجاحظ، وبيان الكتاب هو: بيان ((الخط)) عند الجاحظ، فمحاولة ابن وهب إنما هي ترديد لما صنعه الجاحظ، فلا يدع أن يستمر البيان في نطاق معانيه اللغوية، ونجد عالماً آخر هو الرماني في كتابه:(النكت في إعجاز القرآن) يشرح البيان: بأنه الإحضار لما يظهر به تمييز الشيء من غيره، وأقسامه أربعة: كلام، وحال، وإشارة، وعلامة [5] .

ثم يأتي القرن الخامس الهجري عصر النضج البلاغي، ولا نجد غير التعميم لكلمة: البيان، فنجدها مرادفة للظهور في تعريف الفصاحة عند ابن سنان الخفاجي المتوفى سنة 466هـ، كما وردت في معرض كلامه عن الأسباب التي لأجلها يغمض الكلام على السامع، ولا يعني بها إلا الظهور والإيضاح، وكذلك نراها في حديثه عن التشبيه، وحسن الاستعارة [6] ؛ فلم ترد كلمة البيان إلا مرادفة للكشف والظهور والوضوح، وكذلك كان الأمر عند معاصره إمام البلاغة ومؤسسها عبد القاهر الجرجاني في كتابيه: دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة، فنراه يجعل البيان مرادفاً للفصاحة، والبلاغة، والبراعة وكلها تعني عنده: وصف الكلام بحُسن الدلالة، وتمامها فيماله كانت دلالة، ثم تبرجها في صورة هي أبهى وأزين، وأنقى وأعجب [7] .

ص: 495

ولم يكن ابن رشيق القيرواني المتوفى سنة 462هـ _صاحب (العمدة)[8] الذي عاش في المغرب- أبعد أثرا من معاصريه: الخفاجي، والجرجاني اللذين عاشا في المشرقن فكل ما صنعه أنه عقد باب ((البيان)) في كتابه، ونقل فيه تعريف الرُمَّاني للبيان، ثم ساق أمثلة للبيان الجيّد، وللبيان الموجز، وأتبع ذلك بأنماط من أقوال الخلفاء الراشدين؛ منهياً إلى أن الجاحظ _وهو عَلَاّمة وقته _ استفرغ الجهد وصنع فيه كتاباً لا يُبلَغ جودة وفضلا ثم ما ادّعى إحاطة بهذا الفن لكثرته، وأن كلام الناس لا يحيط به إلا الله عز وجل.

وظلت هذه المفاهيم: البيان، البلاغة، البراعة، الفصاحة، البديع متشابكة لا تحديد فيها، ومختلطة لا تمييز بينها، حتى كان تقسيم علوم البلاغة على يد صاحب (مفتاح العلوم) أبو يعقوب يوسف السكَّاكي المتوفى سنة 626هـ؛ حيث جعل البلاغة علمين هما: المعاني والبيان [9] ، وألحق وجوه تحسين الكلام وتزيينه بهذين العلمين [10] .

وبهذا التقسيم برز البيان الاصطلاحي الذي عرّفه السكاكي بقوله: "هو معرفة إيراد المعنى الواحد في طرق مختلفة بالزيادة في وضوح الدلالة عليه، وبالنقصان؛ ليحترز بالوقوف على ذلك عن الخطأ في مطابقة الكلام لتمام المراد منه"[11] .

ولقد سلم هذا التقسيم وذاك التحديد للسكاكي فكراً وتطبيقاً على الرغم من أن الزمخشري المتوفى في 528هـ هو أول من أطلق هذه التسمية! علم المعاني وعلم البيان، في مقدمة تفسيره المعروف بـ (الكشاف عن حقائق التنزيل، وعيون الأقاويل في وجوه التأويل) ؛ حيث قال: "ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن، وهما: علم المعاني، وعلم البيان"[12] .

ص: 496

وواضح أن الزمخشري لم تظهر لديه الفروق بين أنواع هذين العلمين، فخلط بين هذه الأنواع، ولم تكن له مزية سوى السبق إلى هذه التسمية، على أنه مما لا شك فيه أن صنيع السكاكي قد شجع الخطيب القزويني على جعل علوم البلاغة ثلاثة: المعاني، والبيان، والبديع، وشرح البيان بقوله:"علم يُعرَف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه"[13] .

وهذا التعريف على وجازته مقتبس من تعريف السكاكي؛ كما ترى.

ولما جاء السَّعد التفتازاني المتوفى سنة 792هـ صاحب المطوّل، والمختصر في شرح: تلخيص المفتاح للخطيب القزويني ذكر في كتابه المطول تعريف الخطيب السابق، وتعريفاً آخر للبيان قائلا:"والأقرب أن يُقال: علم البيان: علم يُبحث فيه عن التشبيه والمجاز، والكناية [14] ..".

والذين جاءوا من بعد السعد من علماء البلاغة المتأخرين لم يزيدوا على ذلك شيئاً عن التعريفين المشهورين لدى البيانيين.

هذا ومن الوضوح بمكان أن ابن المعتز قد سمَّى كتابه ((البديع)) الذي أرسى به أسس البلاغة الفنية الخالصة، وهو غير البديع الذي جعله الخطيب علماً ثالثاً مستقلا عن علمي: المعاني، والبيان، ذلك أنه يعني بالبديع: الجديد المستحسن لطرافته وغرابته لدى النفوس، بل إن البديع تعبير عن مسلك تجديدي في الشعر العباسي كان يقوده الشعراء: مُسلم بن الوليد، وابن المعتز، وأبو تمام، والبحتري، وغيرهم ممن نهج طريق التجديد البديعي والصياغي.

ص: 497

ثم ذهب شراح التلخيص إلى القول بأنه يمكن أن تطلق: البديع على علوم البلاغة الثلاثة؛ لبداعة مباحثها وحسنها؛ لأن البديع: وهو الشيء المستحسن؛ لطرافته وغرابته، وعدم وجود مثاله من جنسه، ومباحث هذه العلوم كذلك، كما أنهم ذهبوا إلى أن كثيراً من الناس يسمي الجميع: علم البيان؛ لأن البيان هو: المنطق الفصيح المُعرِب عما في الضمير، ولا شك أن العلوم الثلاثة لها تعلُّق بالكلام الفصيح تصحيحاً وتحسيناً [15] .

وبهذا تكون طرائق البلاغيين في هذا الإطلاق ثلاثة:

(1)

التقسيم الثلاثي: المعاني، البيان، البديع، كما يظهر في صنيع صاحب تلخيص المفتاح والإيضاح؛ حيث سَمَّى كل فن منها باسمه.

(2)

اتجاه الكثرة إلى إطلاق اسم البيان على العلوم الثلاثة.

(3)

اتجاه البعض إلى إطلاق اسم البديع عليها.

ومهما تنوعت الطرائق فإن مفهوم البيان يظل دائراً بين معنيين في حياتنا المعاصرة هما:

1_

معنى أدبي واسع: ينتظم الإفصاح عن كل ما يختلج في النفس من المعاني والأفكار، والأحاسيس والمشاعر؛ بأساليب لها حظها الممتاز من الدقة والإصابة، والوضوح والجمال، وهو بهذا التعميم يجمع فنون البلاغة الثلاثة..

2_

معنى علمي محدود هو: التعبير عن المعنى الواحد بطريق الحقيقة أو المجاز أو الكناية [16] 2 وهو أحد فروع البلاغة عند أهل الاصطلاح.

ولعل التعريف الذي ترتضيه للبيان الاصطلاحي هو: التعبير عن المعنى الواحد بطريق التشبيه، أو المجاز، أو الكناية، ذلك أنها الطرق التي يستخدمها الأدباء في صياغة آثارهم الأدبية الرائعة، بل هي الدلالات الخاصة التي تنتظم أسرار الفصاحة والبلاغة في جو الأساليب التي ينشئها هؤلاء الأدباء؛ تعبيراً عن أفكارهم، وتصويراً لعواطفهم، وهذه الأساليب تتفاوت وضوحاً وخفاء، قوة وضعفا..

ص: 498

ولا شك أن البيان العربي تجود به الفكرة، وتتضح به الصورة؛ ومن ثمّ كثر عُشّاقه على مرّ العصور يعمدون إليه، ويحرصون عليه، وقد تأكدّت منزلة البيان الرفيعة مع تعاقب الأيام والأعوام؛ لأهمية موضوعه؛ فما موضوعه ذلك؟ وما مكانه من البلاغة؟ هذا موضوع مقال تال ٍنرجو أن نوفق إليه إذا شاء الله تعالى، هذا وبالله التوفيق.

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

الحيوان: ج1/45.

[2]

المرجع السابق ج 3: 114.

[3]

نقد النثر (جزء من البرهان) ص 3 ط 1939 وزارة المعارف مصر.

[4]

المرجع السابق ص 9، ص10.

[5]

النكت (من ثلاث رسائل في إعجاز القرآن) ص 98 ط دار المعارف بمصر.

[6]

سر الفصاحة 55، 211، 235 ط صبيح بمصر 1953م.

[7]

دلائل الاعجاز 4، 30 ط الفنية المتحدة بمصر سنة 1961م.

[8]

العمدة في الصناعة الشعرية ونقده ج 1 254- 257 ط السعادة بمصر.

[9]

مفتاح العلوم من ص 86 إلى ص 224 ط الأدبية بمصر 1317هـ.

[10]

المرجع السابق من ص 224 إلى ص 229.

[11]

المرجع السابق ص 86.

[12]

الكشاف ج 1 ص 14 ط الأميرية سنة 1318هـ.

[13]

الإيضاح مع شروح التلخيص ج 3 ص 258 ط الأميرية سنة 1317هـ.

[14]

المطول ص 310 ط كامل سنة 1330هـ.

[15]

شروح التلخيص ج 1 ص 151 ط الأميرية سنة 1317هـ.

[16]

فن التشبيه علي الجندي ج 1 ص 17 ط نهضة مصرية سنة 1952م.

ص: 499

حديث عن التفرقة والتمييز في الماضي والحاضر

الشيخ عبد الفتاح العشماوي

الجمع الفاضل الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

عندما أتكلم الآن عن التفرقة أو التمييز، وكلاهما تعبير همجي سخيف، لا أقصد بذلك الحديث عن أولئك الذي أيقظوا هذه الفتنة، وأمدوها بوقود الحقد حتى أصبحت ناراً موقدة وامتد أوارها فلم يعد يسلم مكان من لفحها عن أديم الأرض، فهؤلاء الذين أججوها وهم غير مسلمين، لن يكون حديثي عنهم إلا قليلا، فهو منهم ليس بمستغرب، ولا يحرك الجنان ليتكلم عنه اللسان، فقد اختاروا شقاء الضلال وعناء الكفر، حتى ولو أخذت لهم الأرض زخرفها وازينت، وظنوا قدرتهم عليها، فهؤلاء لا يعنينا أمرهم كثيرا في هذه المحاضرة.

ص: 500