المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 41 فهرس المحتويات 1- كلمة العدد: أسرة التحرير 2- المفهوم الصحيح للسلفية:أسرة - مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - جـ ١٥

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌ ‌العدد 41 فهرس المحتويات 1- كلمة العدد: أسرة التحرير 2- المفهوم الصحيح للسلفية:أسرة

‌العدد 41

فهرس المحتويات

1-

كلمة العدد: أسرة التحرير

2-

المفهوم الصحيح للسلفية:أسرة التحرير

3-

شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن: لفضيلة الشيخ أبي بكر الجزائري

4-

أهل الكتاب في القرآن الكريم: لفضيلة الشيخ معوض عوض إبراهيم

5-

في رحاب سورة المائدة: د. إبراهيم عبد الحميد سلامه

6-

الصوم ومسلمو اليوم: لفضيلة الشيخ عبد الفتاح عشماوي

7-

التنبيه على خبر باطل في أخبار مكة: لفضيلة الشيخ حمود بن عبد الله التويجري

8-

مفهوم الربوبية: بقلم سعد ندا

9-

العبادة في الإسلام: بقلم أحمد عبد الرحيم السايح

10-

العقل والنقل عند ابن رشد: بقلم فضيلة الشيخ محمد أمان بن علي الجامي

11-

حوار مع المحيط الهادي: بقلم فضيلة الشيخ عبد الله بن أحمد قادري

12-

لزوم التزام المسلم بأحكام الشريعة الإسلامية: بقلم فضيلة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد

13-

نظام الأسرة في الإسلام: إعداد: محمد أمان بن علي الجامي

14-

غزوة بدر معالم في طريق النصر: لفضيلة الشيخ محمد السيد الوكيل

15-

فتح الفتوح: لفضيلة الدكتور عباس محجوب

16-

تاريخ مشرق للعلوم الصيدلية في النهضة الإسلامية: بقلم دكتور أبو الوفاء عبد الآخر

17-

الإمام عبد الرحمن بن الجوزي مثال الطالب المكافح والداعية الناجح: لفضيلة الدكتور جمعة علي الخولي

18-

ترجمة الشيخ عبد الرحمن الإفريقي: لفضيلة الشيخ عمر بن محمد فلاته

19-

خطر مشاركة المرأة للرجل في ميدان عمله: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز

20-

الدين والحضارة: لفضيلة الدكتور عبد المنعم حسنين

21-

البحث الأمين في حديث الأربعين: لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن عمر الربيعان

22-

تعقيب لا تثريب: لفضيلة الشيخ محمد المجذوب

23-

قرن إفريقيا

24-

قلم التحرير

25-

مواصفات العبد الواصل كما يقدمها الإمام ابن قيم الجوزية: مختارات من الصحف

26-

الفتاوى: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز

27-

أخبار الجامعة

عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م

ص: 229

لزوم التزام المسلم بأحكام الشريعة الإسلامية

بقلم فضيلة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد

نائب رئيس الجامعة الإسلامية

الحمد لله الذي ارتضى الإسلام ديناً لهذه الأمة فأكمله لها وأتم عليها به النعمة وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، المبعوث رحمة للعالمين صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد:

فموضوع حديثي: لزوم التزام المسلم بأحكام الشريعة الإسلامية، وسيدور الكلام فيه باختصار حول النقاط التالية:

1 -

من هو المسلم؟ 2 - الشريعة الإسلامية وما بنيت عليه. 3 - كمال الشريعة الإسلامية وشمولها وخلودها. 4- إلتزام المسلم بأحكام الشريعة الإسلامية لازم لا بد منه. 5 - النتائج الطيبة للالتزام بالشريعة الإسلامية والآثار السيئة في التخلي عن ذلك..

من هو المسلم؟

ص: 230

المسلم اسم فاعل من أسلم بمعنى أذعن وانقاد لربه وخالقه سبحانه وتعالى، والإسلام بهذا المعنى شامل خضوع جميع المخلوقات له سبحانه كما يندرج تحته رسالات رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، يقول الله تعالى:{أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (آل عمران:83) .. ويقول سبحانه: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ، إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة: 133)، ويقول سبحانه:{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (آل عمران: 67)

ويقول سبحانه عن نبيه يوسف عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (يوسف: 101)

ص: 231

فجميع شرائع الله كلها تلتقي في إخلاص العبادة لله والخضوع له والاستسلام لشرعه والالتزام بأمره ونهيه، وإن تنوعت الشرائع وتعددت المناهج كما ورد في الحديث:"نحن معشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد"..

وبعد بعثة رسوله الكريم محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم أصبح الإسلام علماً على شريعته وعنواناً لأهل ملته ولا يسع أحداً من الجن والإنس الخروج عن دين الإسلام الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم.

ص: 232

يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ. وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ. فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ. وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (آل عمران:20)، ويقول سبحانه:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران: 85)، ويقول سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهََ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 102)، ويقول سبحانه:{فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ. وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} (الأنعام:125)، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام في حديث جبريل المشهور بقوله:"الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً". وأخبر صلى الله عليه وسلم في حديث آخر أنّ الإسلام بني على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان، وفسر صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث جبريل بقوله:"أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره"، والإسلام والإيمان لفظان إذا جمع بينهما في الذكر عني بالإسلام الأعمال

ص: 233

الظاهرة وبالإيمان الأعمال الباطنة، كما في حديث جبريل هذا فإذا ذكر كل واحد منهما منفرداً عن الآخر عنى به الأعمال الظاهرة والباطنة معاً.

إذا فالإسلام عقيدة وعمل، دين ودولة، منهج حياة في جميع المجالات، وقد عرف الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الإسلام بأنه الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك.

فالمسلم حقاً هو الذي وفق للدخول في الإسلام أو النشأة عليه والتزم له قولاً وعملاً واعتقاداً حتى أتاه اليقين.

الشريعة الإسلامية وما بنيت عليه:

الشريعة الإسلامية هي الوحي الذي أوحاه الله إلى نبيه محمد عليه الصلاة والسلام ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور وهي كتاب الله الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم المفسرة للقرآن والمبينة له والدالة عليه، والكتاب والسنة متلازمان تلازم شهادة لا إله إلا الله وشهادة أن محمداً رسول الله. وقد بُنِيَتْ الشريعة الإسلامية على أصلين عظيمين وقاعدتين أساسيتين:

إحداهما: أن لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له ولا يعبد معه غيره كائناً من كان لا ملك مقرب ولا نبي مرسل فضلاً عمن عداهما كما قال الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللهِ أَحَداً} (الجن: 18)، وقال:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام: 163) .

ص: 234

الثانية: أن لا يعبد الله إلا بما شرع الله في كتابه أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر: 7) وقال: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (الكهف: 110)، قال ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية:{فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} أي ما كان موافق لشرع الله {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} وهو الذي يراد به وجه الله وحده لا شريك له، وهذان ركنا العمل المتقبل لا بد أن يكون خالصاً لله صواباً على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته عن عائشة رضي الله عنها:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، وفي لفظ مسلم:"من عمل ليس عليه أمرنا فهو رد"، أي مردود على صاحبه إذ فلا بد في العمل المقبول أن يكون خالصاً لله وعلى وفق ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم.

كمال الشريعة الإسلامية وشمولها وخلودها:

لقد جمع الله للشريعة الإسلامية التي بعث بها رسوله وخليله محمدا صلى الله عليه وسلم هذه الصفات، صفة الكمال، وصفة الشمول، وصفة الخلود والبقاء.

أما صفة الكمال الخالية من أي نقص ومن الحاجة إلى أي زيادة فقد أثبتها سبحانه لشريعة الإسلام بقوله سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) .

ص: 235

قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: "هذه من أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم فلا يحتاجون إلى دين غيره ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء وبعثه إلى الإنس والجن فلا حلال إلا ما أحله ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خلف كما قال تعالى:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} (الأنعام: 115) أي صدقاً في الأخبار وعدلا في الأوامر والنواهي، فلما أكمل لهم الدين تمت عليهم النعمة ولهذا قال:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} ، أي فارضوه أنتم لأنفسكم فإنه الدين الذي أحبه الله ورضيه وبعث به أفضل الرسل الكرام وأنزل به أشرف كتبه.

ص: 236

وأما صفة الشمول والخلود فإنه ما من شيء يقرب إلى الله إلا دلّ الرسول صلى الله عليه وسلم أمته عليه، وما من شر إلا حذّرها منه، وقد أخرج مسلم في صحيحه عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أنه قيل له:"قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة قال: فقال: "أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول أو أن نستنجي باليمين أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار أو أن نستنجي برجيع أو عظم"، وهي صالحة لكل زمان ومكان وعامة للجن والإنس ليست لقوم دون قوم كما قال صلى الله عليه وسلم في بيان خصائصه: "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة"، وقال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار" رواه الإمام مسلم في صحيحه، وقال صلى الله عليه وسلم: "لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي" قال ذلك لما رأى مع أحد أصحابه أوراقاً من التوراة ينظر فيها. وإذا نزل عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان من السماء فإنه يحكم بشريعة الإسلام التي خاتمة الشرائع.

ص: 237

وقد قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير سورة (هود) : "ثم قال متوعداً لمن كذب بالقرآن أو بشيء منه {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} (هود: 17) أي ومن كفر بالقرآن من سائر أهل الأرض مشركهم وكافرهم وأهل الكتاب وغيرهم من سائر طوائف بني آدم على اختلاف ألوانهم وأشكالهم وأجناسهم ممن بلغه القرآن كما قال تعالى: {لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (الأنعام: 19) ، وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} (الأعراف: 158) ، وقال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} ، وفي صحيح مسلم من حديث شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار"، وقال أيوب السختياني عن سعيد بن جبير قال: "كنت لأسمع بحديث النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه إلا وجدت مصادقه أو قال تصديقه في القرآن، فبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني فلا يؤمن بي إلا دخل النار" فجعلت أقول: أين مصداقه في كتاب الله؟ قال: وكلما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدت له تصديقاً في القرآن حتى وجدت هذه الآية: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} . قال: "من الملل كلها"..

إلتزام المسلم بأحكام الشريعة الإسلامية لازم لا بد منه:

ص: 238

وهذه الشريعة الكاملة الشاملة الخالدة إلتزام المسلم بأحكامها لازم لا بد منه ولا خيار للمسلم فيه، وحاجة المسلم إلى السير طبقاً لتعاليم الشريعة الإسلامية فوق كل حاجة وضرورته إلى ذلك فوق كل ضرورة ليفوز برضى الله عز وجل وينجو من سخطه وأليم عقابه يقول سبحانه وتعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهُ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} (الأحزاب: 36) . ويقول سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ} (الحشر: 7)، ويقول سبحانه:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: 63) . ويقول سبحانه: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} (الأعراف: 3)، ويقول سبحانه:{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (هود: 121)، ويقول سبحانه:{فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الزخرف:43)، ويقول سبحانه:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام:153)، ويقول سبحانه:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (آل عمران: 32)، وقول سبحانه: {إِنَّمَا كَانَ

ص: 239

قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (النور: 52) ، ويقول سبحانه وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59)، ويقول سبحانه:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: 65) .

ص: 240

ويقول سبحانه: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ، ويقول:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (المائدة: 45)، ويقول سبحانه:{وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهُ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ، وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ. أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة: 50)، ويقول سبحانه:{أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ، وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (الأنعام: 115) .

ص: 241

النتائج الطيبة للالتزام بالشريعة الإسلامية والآثار السيّئة في التخلّي عن ذلك:

إنّ التزام المسلمين بأحكام شرعهم الحنيف ودينهم القويم هو أساس فلاحهم وعنوان سعادتهم وسبب عزهم ونصرهم على أعدائهم، وهو مصدر أمنهم واستقرارهم. ومتى كانت حالهم بعكس ذلك حصل لهم الخسران والهلاك والذل والهوان. وقد أقسم الله بالعصر على خسارة كل إنسان إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، وكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مليئان بالنصوص التي توضح هذه الحقيقة، وما سجله التاريخ من حصول العزة لمن أطاعه والذلة لمن عصاه يصدق ذلك، والواقع المشاهد المعاين أصدق برهان.

ص: 242

قال تعالى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (آل عمران: 101)، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7)، وقال تعالى:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: 41)، وقال سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (الصف: 12)، وقال سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (الأنفال: 29)، وقال سبحانه:{وَعَدَ االلهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (النور: 56) .

ص: 243

هكذا قال الله في حق من أطاعه واتقاه والتزم شرعه وهداه، ولنستمع لما قاله في حق من زهد بالحق واستبدل الأدنى بالذي هو خير، فأعرض عن ذكر الله، يقول الله تعالى:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى، وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} (طه: 127)، ويقول سبحانه:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} (الزخرف:37) .

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى"، قيل: يا رسول الله ومن يأبى؟ فقال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى".

ص: 244

وقد حوى التاريخ في طياته أخبار انتصار المسلمين الصادقين على أعدائهم وتغلبهم عليهم ليس لكثرة عددهم وعددهم وإنما هو بسبب قوة إيمانهم وتمسكهم بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم مع الأخذ بالأسباب التي أمرهم الله بها بقوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) ، فظفروا بنصر الله لأنهم نصروه وجاهدوا في سبيله لتكون كلمته هي العليا، وكلمة أعدائه السفلى، فكان لهم ما أرادوا نصراً في الدنيا وسعادة في الآخرة، وصدق الله إذ يقول:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7)، ويقول:{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (آل عمران:160)

ص: 245

وإذا أراد العاقل في هذا العصر الذي نعيش فيه معرفة الشاهد من الواقع على صدق هذه الحقيقة، وهي أن المسلمين ينتصرون بسبب التزامهم شريعة الإسلام التي اختارها الله لهم وينهزمون عند زهدهم فيها وبعدهم عن الأخذ بتعاليمها لم يجد شاهداً أوضح من نتائج الحرب بين العرب واليهود التي تجلت فيها هذه الحقيقة بوضوح ذلك أن العرب الذين أعزهم الله بالإسلام لما لم يلتزموا في هذا العصر - إلا من شاء الله منهم - بشرع الله، ولم يحكموا الوحي الذي نزل به جبريل من الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، واختاروا لأنفسهم التحاكم إلى قوانين وضعية ما أنزل الله بها من سلطان، لما لم يلتزموا بهذه الشريعة الكاملة الصالحة لكل زمان ومكان ظفروا بالخذلان وصارت لهم الذلة أمام من كتب الله عليهم الذلة، وأي ذل وهوان أشد من هذا الذل والهوان، وسيسجل التاريخ ذلك للذين يأتون من بعد، كما سجل ما جرى من خير وشر للذين مضوا من قبل، ولن يقوم للمسلمين قائمة إلا إذا رجعوا إلى الاعتصام بالله والالتزام بشريعة الله.

وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يوفق المسلمين جميعاً في كل مكان إلى ما فيه عزهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة إنه سميع مجيب.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وخليله وخيرته من خلقه نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

ص: 246

نظام الأسرة في الإسلام

إعداد: محمد أمان بن علي الجامي

عميد كلية الحديث بالجامع ة الإسلامية

الحمد لله وصلاة الله وسلامه وبركاته على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد تلقت الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة دعوة كريمة من المجلس الأعلى لمسلمي كينيا بنيروبي للمشاركة في هذه الندوة الدينية المباركة - إن شاء الله -..

فبادرت الجامعة فلبت الدعوة، ثم طلبت إليّ الاشتراك في الندوة ممثلاً لها ببحث أقدمه فيها.

فلبيت الطلب طبعاً لأنه طلب لا يرد مثله، لأن في تلبية مثل هذا الطلب مساهمة في ميدان من ميادين الدعوة إلى الله، والدعوة إلى الله من أهم أهداف الجامعة الإسلامية، ومن أجلها أنشئت..

فها أنا ذا أتقدم بهذا البحث المتواضع [1] تحت عنوان:

نظام الأسرة في الإسلام

والله أسأل أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم إنه خير مسؤول وأكرم معط، فأقول مستعيناً بالله وحده..

إن للدعوة الإسلامية مجالات متعددة وأساليب مختلفة، ومن أساليبها إقامة الندوات والمؤتمرات التي يلتقي فيها رجال الفكر الإسلامي وفقهاء المسلمين ليعالجوا فيها مشكلات الوقت، ويردوا الشبهات التي تثار حول الإسلام وعقيدة المسلمين.

ويبينوا للناس أحكام الدين الإسلامي في جميع مجالات الحياة لمن يحتاجون إلى البيان - وما أكثر من يحتاجون - ليكون الناس على بينة من أمور دينهم ودنياهم ويكون ذلك على ضوء الكتاب والسنة ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ولا سبيل للخروج من ظلمات الجهل والجاهلية إلا بفقه الكتاب والسنة، وتلك وظيفة رسل الله عليهم الصلاة والسلام من أولهم نوح عليه السلام إلى خاتمهم وإمامهم محمد عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام.

ص: 247

فيقول الله تعالى مخاطباً لنبيه الكريم محمد عليه الصلاة والسلام ومبيناً لوظيفته ووظيفة أتباعه {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، وَدَاعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً} (الأحزاب: 47)

في هذه الآي الثلاث من سورة الأحزاب بيان لوظيفة الرسول الكريم محمد عليه الصلاة والسلام، ووظيفة أتباعه.

وهي الدعوة إلى الله بإذنه وأمره وعلى بصيرة وعلم {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) .

وتكليف الله نبيه بهذه الدعوة العامة التي لا تخص قومه دون غيرهم - كما هو شأن دعوة الرسل من قبله - بل هي للناس كافة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنَّاس} (سبأ: 28) .

وهذا التكليف له ولأتباعه يثبت له ثم لأتباعه أن يكونوا شهداء على الناس جميعاً.

وهذا يعني أن الرسالة المحمدية هي المهيمنة على جميع الأديان السابقة، فدينه هو النظام الأخير الذي لا يسع أحدا من البشر إلا اتباعه ولا تجوز مخالفته.

ص: 248

وهو نظام رباني كامل؛ لأن الله الذي خلق هذا الكائن الممتاز (الإنسان) لا يليق بحكمته أن يتركه هملا دون أمر أو نهي أو توجيه، بل يسلمه للفوضى ليتخبط خبط عشواء، يحلل ويحرم كما يهوى أو يشاء أو يعبد ما يريد كلا، بل نظم له حياته وعلاقاته المتنوعة وأرسل رسله لهذا الغرض ذاته، وأنزل عليهم كتبه، وخاتم رسله محمدٌ عليه الصلاة والسلام إذ لا نبي بعده، وآخر كتبه القرآن الكريم إذ لا كتاب بعده وبيان ذلك الكتاب وتفسيره في السنة المطهرة {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) ، وبهذا كله نظم الإسلام علاقة العبد بربه وخالقه بحيث يصبح عبدا له وحده يعبده دون غيره.. يعبده بعبادة منظمة مضبوطة بضوابط الشرع، تولى القرآن تنظيمها جملة أو تفصيلا، وشرحتها السنة المطهرة وزادتها بياناً وتوضيحا، على اختلاف درجاتها وشعبها الكثيرة إذ يقول الرسول عليه الصلاة والسلام:"الإيمان بضع وستون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان".

وهذه الشعب كلها عبادات وطاعات، على تفاوتها.

وجميع العبادات يجب أن تكون مقيدة بشريعة الله التي تؤخذ رأساً من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وخاضعة لأحكامه، وسلوك العبد هذا المسلك في جميع عباداته ومعاملاته وجميع تصرفاته هو الذي نعنيه بالعلاقة بين العبد وربه وهي العبودية الخالصة، وحقيقتها ألا يفقد الرب عبده حيث أمره ولا يجده حيث نهاه، وإن هفى أحياناً وخالف أمر ربه بادر بالتوبة والرجوع إلى الصواب، ليمحو أثر مخالفته وعصيانه بالتوبة والإنابة؛ لأن التوبة تجب ما قبلها، {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور: 31) .

ص: 249

هكذا نظم الإسلام - بالاختصار - علاقة العبد بربه وخالقه، فكما نظم هذه العلاقة على الوجه الذي ذكرنا، كذلك اهتم الإسلام بتنظيم الأسرة.

وقد حث الإسلام على إنشاء مؤسسة الأسرة بتشريعه الزواج وحثه عليه مبيناً أن الزواج سكونٌ للنفس للطرفين وهدوء لهما وراحة للجسد، وطمأنينة للروح وامتداد للحياة إلى آخر مطافها.

فلنستمع الآن إلى بعض الآيات القرآنية في هذه المعاني إذ يقول الله تعالى وهو يحث عباده على الزواج: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} (النساء: 3) . ويقول: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم: 21) وحيث يقول: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} (البقرة: 187)، ويقول:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ} (البقرة: 223) .

هكذا يتحدث القرآن عن مؤسسة الأسرة في عديد من الآيات، وبأساليب مختلفة كما رأينا وكما نسمع مرة أخرى آية سورة النساء التي تبين أن طرفي هذه المؤسسة خلقا من نفس واحدة وكأنهما شطران لنفس واحدة فلا فضل لأحد الشطرين على الآخر في أصل الخلقة ومن حيث العنصر وإنما يحصل التفاضل بينهما بأمور خارجية ومقومات أخرى غير ذاتية وصفات مكتسبة إذ يقول الله تعالى في هذا المعنى:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} (النساء: 1) . هكذا يحث الإسلام على إنشاء الأسرة لتكون امتدادا للحياة وراحة للطرفين.

أهداف الزواج في الإسلام

التشريع الإسلامي تشريع حكيم، وله هدف ومغزى..

ص: 250

فالله تعالى من أسمائه: (الحكيم) لذا يجب أن نعتقد جازمين أنه تعالى حكيم في تشريعه كما هو حكيم في خلقه وصنعه.

فحكم تشريع الزواج تكمن في الأمور التالية:

أ – غض البصر من الطرفين، وقد اهتم الإسلام في قرآنه وسنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر، يقول الله تعالى: وهو يأمر الرجال والنساء معاً بغض البصر: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ، وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} (النور: 30-31) .

والتساهل في مسألة غض البصر يؤدي إلى الانزلاق الخلقي كما هو مشاهد في أكثر مدننا وعواصمنا الإسلامية ـ وللأسف الشديد..

ب – حفظ الفرج، وقد تناولت الآيات التي تقدم ذكرها قريباً الأمر بحفظ الفرج مع الأمر بغض البصر، ولعل الأول ينتج الثاني بمعنى أن غض البصر ينتج حفظ الفرج في الغالب الكثير، لأن من تمكنت منه مراقبة الله تعالى فلازم غض بصره خوفاً من الله وحياء منه سوف يحفظ فرجه عما حرمه الله عليه ولا يقع في الفاحشة.

وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام قوله: "العينان تزنيان وزناهما النظر، والأذنان تزنيان وزناهما السماع" إلى أن قال: "والفرج يصدق ذلك أو يكذبه"..

ج – الحصول على النسل الذي هو لبنة في بناء المجتمع وسبب إكثار أتباع خاتم الأنبياء والمرسلين.

ويزيد الأمر وضوحاً الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مسعود والذي يخاطب فيه الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام شباب المسلمين بذلك الأسلوب الرقيق ليرشدهم إلى ما فيه صلاحهم ونجاتهم إذ يقول عليه الصلاة والسلام:

ص: 251

"يا معشر الشباب من استطاع الباءة منكم فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحفظ للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء". وعند البيهقي من حديث أبي أمامة "تزوجوا فإني مكاثرٌ بكم الأمم".

وقد تقدمت بعض المعاني التي يمكن أن تعد من أهداف الزواج كالهدوء وراحة النفس مثلاً.

وقد يخطئ الذين يظنون أن الغرض من الزواج هو الحصول على اللذة والمتعة كيفما تيسرت، وليس وراء ذلك غرض آخر، وهذا التصور الخاطئ قد أوقع كثيراً من الشباب في مهالك خطيرة وسقوط في الخلق والانحطاط، مما جعل حياة عديد منهم في كثير من البلدان شبيهة بحياة الحيوانات التي ليس عليها قلم التكليف بل هم أضل سبيلاً وأسوأ حالا.

من يتولى إدارة مؤسسة الأسرة؟

إن الإسلام لم يهمل هذه المؤسسة وبيان من يرأسها، أو من أولى الناس لتحمل مسؤليتها.

والذي يتضح من دراسة الإسلام أن الاختصاصات أو الصلاحيات موزعة بين الطرفين، والواجبات محددة، ولكل جانب خاص هو مسئول عنه:

للرجل اختصاصات لا تشاركه فيها المرأة ولا تقوى على الاضطلاع بمهمتها وسياستها، وللمرأة اختصاصات لا يصلح لها الرجل ولا يحس القيام بها..

فمحاولة أحد الطرفين التدخل في اختصاص الطرف الآخر يعرض المؤسسة للارتباك والاضطراب ويسلمها للفوضى.

فلنستمع إلى بعض الآيات القرآنية وهي تنظم حياة الأسرة وتحدد المسئوليات فتعطي الرجل القوامة والإدارة حيث يقول الله عز وجل:

{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ} (النساء: 34) .

ص: 252

فالآية صريحة في إعطاء الرجل إدارة المؤسسة، والقوامة عليها كما ترى ولم تهمل الآية بيان السبب، بل بينت إذ يقول الله عز وجل:{بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} ، ثم إنه مما لا نزاع فيه أن أي مؤسسة أو شركة إنما ينتخب لإرادتها من لديه دراية وخبرة وقوة على الإدارة، وعلى الصبر على العمل، وحنكة في سياسة طبيعة العمل، ومؤسسة الأسرة من أعم المؤسسات وأخطرها على الإطلاق؛ إذ بصلاحها يصلح المجتمع، وبفسادها يفسد المجتمع؛ لأنها هي التي تقدم للمجتمع أفراداً هم لبنات المجتمع، والبناء إنما يكتسب صفاته من مواد البناء قوة وضعفاً.

لهذا كله حمّل الإسلام الرجل هذه المهمة، وهي أمانة ثقيلة لأنه أليق بها وأقوى على أدائها، والمرأة المنصفة تعترف بذلك.

يقول الأستاذ محمد الغزالي في كتابه: (حقوق الإنسان في الإسلام) .

"ولما كان الرجل بعيداً عن مشاغل الحيض والنفاس والحمل والرضاع كان أجلد على ملاقات الصعاب ومعانات الحرف المختلفة، وكان الضرب في الأرض ابتغاء الرزق ألصق به هو، ومن ثم فقد كلفه الإسلام الإنفاق على زوجته وعلى قرابته الإناث الفقيرات"اهـ.

ما ذكره الأستاذ الغزالي جانب مهم ومعقول لترشيح الرجل لهذه المهمة مهمة القوامة.

وهناك جوانب أخرى تبدو عند التأمل في بعض النواحي وهي كثيرة، نكتفي بهذه الإشارة اقتصاداً في الوقت:

مسئولية المرأة في الأسرة

إذا كان الرجل هو الذي كلف ليمثل سياسة الأسرة الخارجية والاقتصادية على ما وصفنا فإن المرأة هي المسئولة عن إدارة الأسرة الداخلية تحفظ بيت زوجها في حضوره وغيابه. وتحفظ ماله وتحفظ أولاده وعليها تنظيم المنزل إلى غير ذلك من الشئون المنزلية.

ص: 253

ولهذا كله تتمتع بكل احترام وتقدير من أفراد الأسرة طالما حافظت على مسئوليتها الداخلية ولم تتطلع إلى ما وراءها مما لا تستطيع القيام به من صلاحيات الرجل.

الإسلام لم يظلم المرأة

كثيراً ما نسمع تلكم الأصوات المنكرة التي تنادي بأن الإسلام هضم حقوق المرأة وظلمها ولم يعطها حريتها ولن يساو بينها وبين الرجل إلى آخر تلكم العبارات المترجمة عما يكتبه أعداء الإسلام ضد الإسلام.

وفي الواقع أن أصحاب هذه الدعوى هم أحد رجلين اثنين:

أما أحدهما: فجاهل ساذج سمع الناس قالوا قولة فاتبعهم بل صار لهم بوقاً يبلغ ما يقولون، وليس لديه علم يستند عليه فيما يقول ويذيع، بل ليس له من الأمر شيء إلا البلاغ، وهو يهرف ما لا يعرف.

وقد اغتر به كثير من الناس الذين لم يؤتوا من الفقه في الدين شيئاً ولا سيما النساء المثقفات بثقافة غير إسلامية أو الجاهلات المقلدات على غير هدى.

وهذا الصنف من الناس يضل ويضلل غيره لأنه جاهل وفي الوقت نفسه أنه يجهل جهله، يصدق عليه قول القائل:

إذا كنت لا تدري بأنك لا تدري

فذاك إذاً جهل مضاف إلى جهل

وأما الآخر: فهو إنسان ماكر يمكر ويكيد للإسلام والمسلمين ويريد أن يفسد عليهم دينهم وأخلاقهم عن طريق إفساد الأسرة متأثراً بأعداء الإسلام ومنفذاً لخطتهم في محاربة الإسلام.

إنّ هذا وذاك وهما اللذان يطلقان هذا الصوت المنكر في كل مكان لمحاولة التضليل وقد تأثر به الكثيرات من المسلمات الجاهلات ظناً منهن بأن هذا النداء في صالحهن فضمت أصواتهن إلى ذلك الصوت.

فبذلك تصبح المرأة لمسلمة المتأثرة بذلك النداء ظالمة لدينها وإسلامها متهمة إياه بأنه ظلمها، ذلك الإسلام الذي رفع من شأنها لو كانت تعلم وتفقه - وأين الفقه لدى نسائنا إلا ما شاء الله - والله المستعان.

ص: 254

فعلى المرأة المسلمة المثقفة أن تدرس دينها لتعرف موقف الإسلام من المرأة وما لها من الكرامة في الإسلام ولا تتبع كل ناعق.

وفي الوقت نفسه عليها أن تتطلع على ما في القوانين الأجنبية مثل القوانين الفرنسية وغيرها لتعلم موقف تلك القوانين [2] من المرأة، ثم عليها أن تعرف كيف كانت المرأة قبل الإسلام حيث كانت سقط المتاع فاقدة القيمة والكرامة وما أكرمها إلا الإسلام.

تتمتع المرأة في الإسلام بالحقوق المدنية مثل الرجل

للمرأة المسلمة حرية كاملة في الحقوق المدنية، وهي مثل الرجل في هذه الحقوق.

فللمرأة المسلمة أن تبيع وتشتري وتهب وتقبل الهبة وتعير وتستعير وتتصرف في مالها، ولها جميع التصرفات المالية مثل الرجل.

الحقوق الدينية للمرأة المسلمة

فالمرأة المسلمة تشرع لها جميع العبادات كالرجل فهي تصلي وتصوم وتزكي من مالها وتحج وتثاب على عباداتها وطاعتها مثل ما يثاب الرجل وليس أجرها دون أجر الرجل.

إلا أن الإسلام قد يخفف عن المرأة بعض العبادات تقديراً لظروفها الطارئة فمثلاً يسمح للمرأة الحائض في ترك الصلاة ولا تؤمر بقضائها بعد الطهر لما في ذلك من المشقة والحرج {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} (الحج: 78) .

ولها أن تترك الصيام أيام عادتها ولكنها تقضي على السعة لعدم المشقة عليها في قضاء الصوم بخلاف الصلاة، والنفساء تعامل بنفس المعاملة.

حرية الزواج للمرأة المسلمة

الإسلام يعطي المرأة حرية كاملة في الزواج، فهي تختار الزوج الصالح لها قبل أن يكلفها وليها على من يختاره هو، بل ليس له أن يزوجها إلا بإذنها الصريح بالنطق إذا كانت المرأة ثيباً لأنها قد جربت الرجال ولا تستحي أن تقول نعم أو لا.

ص: 255

وأما البكر فيكفي في إذنها السكوت حين الاستئذان فلا بد من الاستئذان ولو زوجها أبوها في صغرها وقبل بلوغها فلها الخيار إذا بلغت بين إجازة ذلك الزواج أو رفضه.

هذا هو حكم الإسلام في الزواج حيث يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن وإذنها صماتها أي سكوتها". أو كما قال عليه الصلاة والسلام رواه البخاري من حديث أبي هريرة.

إرث المرأة في الإسلام

وقد ركز دعاة المساواة على هذه النقطة فتمكنوا من تضليل الكثيرات من المسلمات الغافلات حيث زينوا لهن بأن الإسلام يفضل الرجل على المرأة فيعطيه في الميراث أكثر من النساء، فيعطيه مثل حظ الانثيين ولماذا؟؟ !! ..

وللإجابة على السؤال أقول:

حقاً إن الإسلام يعطي الرجل امرأتين وهذا التفضيل في الميراث لا يترتب عليه تفضيل الرجل على المرأة في كل شيء كما سنرى قريباً إن شاء الله.

كما لا يلزم منه الحط من مكانة المرأة بل إنه عطاء عادل ومنصف.

بيان ذلك ما سبق أن ذكرنا من أن الإسلام يكلف الرجل وحده بالإنفاق على الأسرة المكونة من الزوجة والأولاد بل وعلى كل محتاج من أقاربه ولم يكلف المرأة حتى بنفقة نفسها بل نفقتها على زوجها ولو كانت هي أغنى من زوجها وأما قبل الزواج فنفقتها على أهلها.

فهل من الإنصاف أن تعطى المرأة المنفق عليها مثل الذي ينفق عليها؟؟ !!

أعتقد أن المرأة المسلمة المنصفة سوف تبادر بالجواب على هذا السؤال قبل الرجال قائلة: إن ذلك ليس من الإنصاف لو حصل.

بل الإنصاف ما فعله الإسلام وقد أنصف الرجل والمرأة معاً ولله الحمد والمنة.

سفر المرأة في الإسلام

النقطة الثانية من النقاط التي يركز عليها دعاة الحرية والمساواة مشكلة سفر المرأة يقولون: إن الإسلام لا يسمح لها بالسفر كما يسمح للرجل ولو في سفر أداء فريضة الحج ولماذا؟؟ !!

ص: 256

والعجيب من أمر هؤلاء أنهم كثيراً ما يقلبون الحقائق ليغالطوا الناس فيجعلون الإهانة كرامة والكرامة إهانة كما في هذه المسألة.

والمرأة المسلمة الجاهلة تسمع لكل ناعق لجهلها أمر دينها واستجابة للعاطفة أحياناً.

وفي الواقع أن الإسلام لم يمنع المرأة من السفر المباح إلا أنه قيد سفرها بقيد واحد. وهذا القيد في الحقيقة إكرام لها وحفظ لشرفها لو كانوا يعلمون.

يشترط الإسلام لسفر المرأة وجود زوجها معها في السفر أو أحد أقاربها الذين تحرم عليهم تحريماً مؤبداً كأبيها وأخيها مثلاً؛ لأن هؤلاء سوف يضحون بأنفسهم في سبيل المحافظة عليها وحفظ كرامتها ولا تصل الذئاب إليها إلا على أشلائهم.

كما يقومون بخدمتها في سفرها حيث تعجز عن الخدمة وهل اشتراط الإسلام لسفر المرأة هذا الشرط يعتبر إهانة للمرأة أم هو إكرام لها؟ إنها لإحدى الكبر!!

فلتقول المرأة المسلمة الإجابة على هذا الاستفهام.

أما السفر من حيث هو فالإسلام لا يمانع فيه.

فالمرأة تسافر للحج، وتسافر للتجارة، وتسافر لزيارة أهلها وأقاربها وتسافر لطلب العلم ولغير ذلك من الأسباب طالما الشرط متوفر وهو وجود الزوج أو المحرم معها.

هذا هو حكم الإسلام في سفر المرأة أيها المسلمون إذ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا ومعها رجل ذو محرم عليها"[3] .

وللحديث ألفاظ كثيرة وروايات متعددة وكلها تدل على أن الإسلام يشترط في سفر المرأة وجود الزوج أو رجل ذي محرم عليها تحرم عليه تحريماً مؤبداً.

وهذا يعد إكراماً للمرأة المسلمة لو كانت تعلم، وبالله التوفيق.

موقف الإسلام من التبرج والاختلاط والخلوة

ص: 257

إنّ موقف الإسلام واضح من هذه الجاهليات وهو موقف فطري ومعقول، بل ومقبول لدى الأذواق السليمة، والإسلام يشدد الإنكار على هذه الجاهليات ولا سيما جاهلية الخلوة إذ يقول رسول الهدى عليه الصلاة والسلام:"ألا لا يخلونّ رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان"، "لا يخلونّ أحد بامرأة إلا مع ذي محرم".

هكذا يقول رسول الإسلام أيها المسلمون، وفي النهي عن جاهلية التبرج يقول الله تعالى:{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} (الأحزاب: 33) ويقول مخاطباً لنبيه وخليله محمد عليه الصلاة والسلام: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} (الأحزاب: 59) ، هكذا يأمر الإسلام المرأة المسلمة ابتداء من أمهات المؤمنين الطاهرات إلى يوم الناس هذا، بل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يأمرها بالحشمة والحياء وعدم الاختلاط لأن الحياء شعبة من الإيمان، وينهى عن هذه الجاهليات، ويشدد الإنكار عليها لأنها ذرائع للفساد الخلقي الذي إذا أصيبت به المجتمعات ضاعت وذهبت، ولقد صدق الشاعر حيث يقول:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت

فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

موقف الإسلام من عمل المرأة

ولسنا نقول - كما يظن - أن المرأة لا تخرج من بيتها لمزاولة الأعمال، كلا بل للمرأة المسلمة أن تعمل ولها مجالات واسعة للعمل، والقول بأن الإسلام يمنع المرأة عن العمل إساءة إلى الإسلام وسمعته كما أن القول: مجال عملها ضيق قول غير محرر، فالمرأة المسلمة لها أن تزاول أعمالها دون محاولة أن تزاحم الرجال أو تختلط بهم أو تخلو بهم، للمرأة أن توظف مدرسة أو مديرة أو كاتبة في المدارس النسائية، ولها أن تعمل طبيبة أو ممرضة أو كاتبة أو في أي عمل تجيده في المستشفيات الخاصة بالنساء إلى آخر الأعمال المناسبة لها.

ص: 258

أما المرأة التي تخرج من بيتها بدعوى أنها تريد أن تعمل - متبرجة - بزينتها ومتعطرة ومنكرة [4] مائلة مميلة وكأنها تعرض نفسها حين تتجول بين الرجال.

فموقف الإسلام منها أنه يشبهها بالمرأة الزانية لما ثبت عند الترمذي من حديث أبي موسى الأشعري عن النبي عليه الصلاة والسلام قال:

"والمرأة إذا استعطرت فمرّت بالمجالس فهي كذا وكذا يعني زانية"، قال الترمذي:"هذا حديث صحيح"، ولأبي هريرة مثله عند أبي داود، والذي يبدو أن اللفظة يعني "زانية" من قول أبي موسى الأشعري تفسير لكذا وكذا والله أعلم.

وهذه المرأة مثلها كمثل طعام شهي بذل صانعه في إعداده كل ما في وسعه ثم أخذه فجعله في قارعة الطريق وبجوار المستنقعات فرفع عنه الغطاء فهاجرت إليه الحشرات من كل مكان تستنشق ريحه فأخذ الذباب يحوم حوله فيسقط فيه أحياناً والناس ينظرون إليه مستقذرين وعابسين وجوههم.

وفي النهاية يصبح عشاء للكلاب إذا تغلبت على الحشرات ولا بد أن تتغلب هذا مثل المتبرجات المتجولات فلتربأ المرأة المسلمة بنفسها وشرفها عن هذه المنزلة المنحطة ولتسدل جلباب الحياء عن وجهها كما أمرها ربها وذلك خير لها عند الله وأمام المجتمع.

ويريد الإسلام من وراء هذا كله المحافظة على الأسرة المسلمة لأن سلامتها تعني سلامة المجتمع كما أن فسادها فساد للمجتمع كله كما تقدم.

وقد حرص الإسلام على هذا المعنى كل الحرص وأنه لا يُغفِل هذه المحافظة حتى في حال أداء بعض العبادات التي تؤدى في حال اجتماع الرجال والنساء في مكان واحد كالجمعة والعيدين مثلاً فقد نظم الإسلام كيف يتم هذا الاجتماع لأداء تلك العبادات.

يقول رسول الهدى عليه الصلاة والسلام وهو ينظم الصفوف:

"خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها"[5] .

ص: 259

ولعلمه صلى الله عليه وسلم ما تثيره المرأة المتعطرة في صدور الرجال أمرها بقوله: "إذا خرجت المرأة إلى المسجد فلتغتسل من الطيب كما تغتسل من الجنابة"[6] .

وبعد:

إن هذا الحديث والذي قبله يعتبران - بحق - من أبرز أمثلة الذرائع كما ترى. والله الموفق.

إنهاء الحياة الزوجية

تنتهي الحياة الزوجية بأحد فراقين اثنين:

1 – فراق بالموت وهو أمر لا يملك كل من الطرفين تقديمه أو تأخيره فلذا نمسك عن الحديث عنه.

2 – فراق بالطلاق وهو محل حديثنا: يعتبر الطلاق في نظر الإسلام مخرجاً مما قد يتفاقم بين الأزواج من الخلافات والنزاعات وهو بمثابة الكي في حل المشكلات الزوجية والكيّ آخر العلاج.

حيث يبدأ علاج المشكلات الزوجية على النحو التالي:

أ – الوعظ. . الوعظ الذي يتضمن النصح والتوجيه وبيان ما على الزوجة من حقوق الزوج كما يتعرض لبيان حقوق الزوجة على الزوج، ويركز علي بيان ما يترتب على تضييع حقوق الزوج وعصيانه.

ب – الهجران في الفراش. . الهجران الذي يجلب لها نوع من الوحشة وعدم الأنس ويدعو إلى التوبة والرجوع إلى الطاعة.

ج – الضرب شريطة أن يكون ضرب تأديب وتخويف فقط لا ضرب انتقام يجرح الجلد أو يكسر العظم.

د – جلسة مفاوضة ومناقشة يشترك فيها حكَمٌ من أهله وحكَمٌ من أهلها وإذا لم يُجْدِ شيء مما ذكر وضاق كل واحد منهما نفساً بالحياة الزوجية، هنا يأتي الطلاق لإنقاذ الموقف بإنها تلك الحياة التي تحولت جحيماً لا تطاق بعد أن كانت مودة ورحمة وطمأنينة وراحة.

وهذه المراحل التي تسبق الطلاق - وربما تمنع الطلاق - بيّنتها سورة النساء في الآيتين التاليتين: آية رقم 33 إذ يقول الرب عزّ من قائل:

ص: 260

{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ وَاللاّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} .

وآية رقم 34:

{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً} .

لماذا جعل الإسلام الطلاق في يد الرجل فقط

وقد تبين مما تقدم أنّ مشروعية الطلاق أمر له أهميته في الموضوع إذا ثبت أنه العلاج الأخير في المشكلات الزوجية.

وبقي في المقام سؤال له وزنه إذا فهم جوابه حق الفهم وهو لماذا جعل الطلاق في يد الرجل فقط؟؟!! قبل أن يكون للمرأة فيه دور يذكر، اللهم إلا ما كان من قبل الخلع وهو فراق تشترك فيه المحكمة الشرعية ولا تستقل به المرأة كما هو معروف.

الجواب عن هذا السؤال أن يقال:

لما كان الرجل هو الغارم الذي عليه المهر وسائر النفقات جعل الطلاق في يده لأنه سوف لا يفرط في الحياة الزوجية التي غرم في تأسيسها بل سوف يكون أحرص ما يكون على بقاء مؤسسة الأسرة متمتعة بالهدوء والراحة كلّما وجد إلى ذلك سبيلا ولو جعل الطلاق في المرأة لرأينا الآتي:

رأينا رجلاً يؤسس ثم يؤثث فيحرص على النتائج المنتظرة من المؤسسة ثم رأينا امرأة ناقصة العقل والتفكير تهدم المؤسسة وتبعثر الأثاث لأتفه الأسباب لأنها لم تغرم شيئاً عند تأسيس المؤسسة بل ربما رغبت عن هذه المؤسسة لتجرب غيرها.

ص: 261

وفي اعتقادي أن المرأة المسلمة المنصفة تصدقني فيما ذكرت قبل الرجل نفسه لأن بعض الوقائع من تصرفات بعض النساء تشهد لما قلنا في الوقت الذي ليس في يدها الطلاق. والله أعلم.

وبعد أيها الأخوة المسلمون فلنمثّل إسلامنا بالعمل ما استطعنا إلى ذلك سبيلا لا بالقول فقط لأن الإسلام دين عمل وتطبيق فالمسلم معناه هو الإنسان المستسلم المنقاد لأوامر ربه وخالقه المنفذ لأحكامه.

والقصد الحسن والنية الصادقة والعمل الصالح محاولة تطبيق الشريعة هذه المعاني هي محل نظر الرب من عبده إذ يقول رسول الهدى عليه الصلاة والسلام: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".

أيها الإخوة إن لديكم الفرصة لتعملوا لدينكم وإسلامكم لأن قانون بلدكم يسمح لكم أن تخدموا دينكم بكل حرية فعليكم أن تدركوا أن هذه الحرية نعمة من نعم الله عليكم، فعليكم أن تستغلوها بالعمل الجاد لنشر تعاليم إسلامكم.

والله معكم إن صدقتم في أعمالكم لأنه تعالى مع العاملين الصادقين يوفقهم ويهديهم.

{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت: 69) ..

وصلى الله وسلم وبارك على رسول الهدى محمد وآله وصحبه..

محمد أمان بن علي الجامي

عميد كلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية

بالجامعة الإسلامية ـ بالمدينة المنورة

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

ألقيت هذه المحاضرة في مدينة (كوسومو) في كينيا في (الندوة الدينية) التي أقامها المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في كينيا.

[2]

في القوانين الفرنسية في الأسرة لا يسمح للمرأة أن تتصرف في مالها الخاص إلا بإذن زوجها وتنتسب إلى زوجها لا إلى أبيها.

[3]

البخاري ومسلم وأهل السنن.

ص: 262

[4]

مستعملة ما يسمى بالمناكير في أظفارها.

[5]

رواه مسلم.

[6]

رواه النسائي.

ص: 263

غزوة بدر معالم في طريق النصر

لفضيلة الشيخ محمد السيد الوكيل

تمهيد:

لقد أحدث الإسلام أخطر انقلاب في تاريخ البشرية الطويل، فمنذ انقطاع الوحي برفع عيسى عليه السلام والبشرية تتعثر في خطواتها، وتنحدر بسرعة هائلة إلى حضيض مخيف، وهوة ساحقة.

ووقف المنصفون وذوو البصائر من هذا التردي وقفة الحذر المترقب، وقفوا يرقبون البشرية وهي تحفر قبرها بيدها، وصاح بعضهم صيحات الإنذار على هؤلاء الغافلين ينتبهون إلى المصير المشئوم الذي ينتظرهم، ولكن هيهات.

ولف الدنيا ظلام حالك، وخيم عليها سكون رهيب، وضاعت كل صيحات الإنذار بين ضجيج الشهوات المسيطرة، وعربدة الفساد المتسلط، فلا تكاد تجد داعياً ولا تكاد ترى مصغياً. والمنصفون من القوم يمسكون رؤوسهم بأيديهم، ويعصرون قلوبهم بسواعدهم خوفاً من وقوع الكارثة كنتيجة لها التردي.

وبينما هم يرقبون الكارثة بزغ نور بدد الظلام، وفرق السكون، وأهدى إلى الدنيا أعظم منحة في عمرها المديد، وتبددت علامات التشاؤم أمام هذا النور الغامر، وحلت محلها بشارات الأمل المنشود.

وانساب نور النبوة يسري في جزيرة العرب كالماء يتسلل إلى عروق تلك الشجرة اليابسة فيعيد إليها نضرتها وبهجتها، ويدعو القائظين إلى تفيؤ ظلها الظليل.

وأعلنت الرسالة الجديدة ثورة عارمة على الوثنية ومعتنقيها، وحررت رقاب الناس من الخضوع لأصنام صنعوها بأيديهم، ليذعنوا بها بالعبودية، ويحيطوها بالتقديس والإجلال ووصلت أصداء تلك الثورة إلى كل قلب، ودخلت كل بيت، وعاشت في كل نفس، وبدأ الناس يفكرون في آلهتهم ويترقبون ماذا سيكون مصيرها؟

ص: 264

وأسوا بنفوذ الدين الجديد يسيطر على أهل الجزيرة طائعين أو مكرهين، وماجت أندية القوم بآراء الناس في الرسالة والرسول، وارتفعت الأصوات في صخب وضجيج معارضة أو مؤيدة ومبشرة أو متوعدة، وعاد الناس إلى بيوتهم وقلوبهم واجمة مضطربة، وعيونهم شاخصة جاحظة، تدور رؤوسهم كالرحا، وهم لا يدرون ماذا تخبئ لهم الأيام المقبلة؟

بين يدي المعركة:

أيقن الشرك الحاقد أن الأمر قد أفلت من يده بنجاح خطة الهجرة إلى طيبة، وظل يجتر عداوته، ويبدئ ويعيد في خصومته، ونعم المؤمنون بالأمن والاطمئنان في وطنهم الجديد، وأخذوا يرسلون قواعد الدولة الفتية، ويخططون لإقامة المجتمع على هدى كتاب الله الذي كان يمدهم بكل ما يحتاجون إليه.

ظن السفهاء من المشركين أن الآلهة قد أراحتهم من محمد ودينه، وأنهم سيفرغون لعبادتهم من غير أن يكون هناك معكر لصفوها، وأيقن أولوا الرأي منهم أن نجاح الهجرة واستقرار الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في المدينة إنما هو بداية نهايتهم مهما طال بهم الأمد.

وأشار هؤلاء على قومهم بمهادنة محمد إذا لم يريدوا الدخول في دينه صلى الله عليه وسلم، ولقد لقوا من جراء صراحتهم عنتاً ومشقة وظلت الأوضاع هكذا جامدة لا تغادر أبواب مكة.

ولكن الرسول قد استعد للأمر، واتخذ وسائل لحماية الدولة الجديدة، فأخذ يعمل على تأمين حدودها فأرسل السرايا وبعث البعوث ليثبت قوة المسلمين، وقدرة الدولة الناشئة على حماية نفسها من أي عدو يبغيها الدوائر.

وخرجت سرية من المدينة تترصد عيراً لقريش قادمة من الطائف، وكانت القيادة فيها لعبد الله بن جحش واستولى المسلمون على القافلة وكانت محملة زبيباً وأدماً، وقتلوا عمرو ابن الحضرمي وأسروا رجلين من رجالها [1] .

ولم تتحرك قريش لهذا العدوان، وكأن الأمر لا يعنيها في قليل أو كثير حتى كانت قافلة أبي سفيان بن حرب القادمة من الشام والتي تمخضت عن غزوة بدر.

ص: 265

لقد أثارت سرية عبد الله بن جحش الرعب في قلوب المكيين، وكانت سبباً في أمرين هامين:

الأول: اتخاذ اللازم لحماية القوافل.

والثاني: تشويه سمعة المسلمين.

ولقد اضطر أهل مكة على أثر ذلك إلى أن يشددوا الحراسة على قوافلهم سواء كان ذلك داخل الجزيرة أو في خارجها، حتى بلغ عدد رجال قافلة أبي سفيان المتوجهة إلى الشام أربعين رجلاً. [2]

كذلك استغل أهل مكة قتل ابن الحضرمي على أيدي المسلمين في الأشهر الحرم حيث قتل في شهر رجب، وأخذوا يشوهون على المسلمين، وأكثروا من ترديد ذكر الحادث محاولين بذلك إثارة سكان الجزيرة ضد المسلمين لاعتدائهم على حرمة الشهر الحرام حيث كانوا يعظمون تلك الأشهر، ويرون الاعتداء فيها خطيئة لا تغتفر.

وقد نجحت دعايتهم إلى حد ما، وأثارت جدلاً عنيفاً حتى بين المسلمين أنفسهم، وقد أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم فعلتهم، وقال:"ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام"، وعنفهم إخوانهم المسلمون على صنيعهم. [3] وقد سقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا ولم يحسم الأمر إلا نزول الآية الكريمة:

{يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [4] .

وضعت الآية الكريمة الأمور في نصابها وأوضحت الأمر بالنسبة لموقف المسلمين، ومن ناحية أخرى أثارت دعاية المشركين المغرضين نفوس المسلمين، ودفعتهم إلى تحديد موقفهم من تجارة قريش التي تعبر حدود الدولة الإسلامية في طريقها إلى الشام، وعزموا على مصادرة كل قافلة تمر بهم، وكانت أولى القوافل قافلة أبي سفيان.

فرصة يجب ألا تفلت:

ص: 266

علم المسلمون بعودة قافلة أبي سفيان من الشام، واستنفر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه للاستيلاء عليها، وأسرعوا في الخروج حتى لا تفلت القافلة، فخرجوا وليس عليهم كبير سلاح، وكان عدوهم ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً.

وعلم أبو سفيان بخروج المسلمين لمطاردة القافلة في محاولة للاستيلاء عليها فاستأجر رجلاً وبعثه إلى أهل مكة يستنجدهم لحماية القافلة، ووصل رسول أبي سفيان إلى مكة، وصرخ فيهم منذراً بتعرض تجارتهم للوقوع في أيدي المسلمين، وأخذ أهل مكة يستعدون للخروج.

وكان أبو سفيان رجلاً خبيراً بمسالك الطريق، فطالما خرج بالقوافل في تجارة القوم وطالما سلك هذا الطريق حتى أصبح لا يخفى عليه شيء من شعابها ودورها، أفينتظر حتى تأتيه نجدة قريش؟ وقد يسرع إليه المسلمون فتقع القافلة تحت أيديهم، أم يتصرف بطريقته الخاصة محاولاً إنقاذ التجارة والنجاة بها، وقدر أبو سفيان أن نجدة قريش قد تتأخر فانحاز على بدر ومال ذات اليمين وسلك طريق الساحل. ونجا بقافلته. وجاءت الأخبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنجاة القافلة، واتجاهها إلى مكة.

أفلتت الفرصة وبقيت المواجهة:

أصبح الموقف حرجاً بالنسبة للجيش الإسلامي، وبالتالي أصبح موقف الرسول صلى الله عليه وسلم دقيقاً للغاية، فهو لم يخرج لقتال، ولم يخبر أصحابه بذلك حتى يأخذوا أهبتهم لملاقاة عدوهم، وماذا يفعل وقد خرجت قريش للحرب، ورمتهم مكة بأفلاذ كبدها؟

إن الجيش الإسلامي لا يستطيع العودة إلى المدينة دون مواجهة، لأن ذلك يعود على الدولة الناشئة بأضرار بليغة، وعواقب وخيمة، إذ لا يشك إنسان حينئذ في طمع قريش، وقد يترتب على ذلك مهاجمة المدينة، وانتهاك حرمة الدولة باقتحام حدودها ثم ماذا سيكون موقف اليهود داخل المدينة، وهم يتربصون بها وينتظرون لحظة ضعف للانقضاض عليها؟

ص: 267

وهناك مشكلة أعظم من ذلك كله، لقد كان أكثر المسلمين من الأنصار حيث كان عددهم واحداً وثلاثين ومائتي رجل، في حين كان المهاجرون ثلاثة وثمانين رجلاً [5] ، ولم يكن الأنصار ملزمين بحماية الرسول صلى الله عليه وسلم والدفاع عنه إلا في داخل المدينة حسب نصوص بيعة العقبة، فما موقف الأنصار من هذه المعركة التي فوجئوا بها، وقد فرضت عليهم نفسها؟

إن الموقف دقيق للغاية، ويحتاج إلى حل حاسم وسريع، فليس هناك مجال للتردد وليس في ميدان المعركة مكان للمترددين.

استعرض الرسول صلى الله عليه وسلم كل هذه المشكلات، وأدار فكره فيها، وقرر فيها رأيا، ولكنه لم يفرض على أصحابه، لأن في المسلمين من ليسوا ملزمين بالقتال في هذا الموقف، ولأن الأمر شورى بين المسلمين فيما لم يرد فيه نص، لهذا صارح الرسول أصحابه بحقيقة الموقف، وأخبرهم بخروج قريش لتحمي تجارتها، وتدخل معهم في معركة إذا اقتضى الأمر ثم قال:"أشيروا علي أيها الناس"[6] .

وهنا قام زعماء المهاجرين - أبو بكر وعمر والمقداد بن الأسود - فأحسنوا الكلام وردوا الأمر إلى رسول الله ليفعل ما أمره به الله، وقال المقداد:"لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (المائدة: 24) ، ولكن نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، نقاتل عن يمينك وعن شمالك، ومن بين يديك ومن خلفك"[7] .

ص: 268

وظل الرسول يطلب مشورة القوم، حتى فطن سعد بن معاذ رضي الله عنه لما يعنيه الرسول من أخذ رأي الأنصار، فقال:"لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقاً عليها ألا تنصرك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا منها ما شئت، وما أخذت منها كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك، فوالله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك، ووالله لئن استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك"[8] .

وعندئذ استوثق الرسول ممن معه، واطمأنّ إلى أنه لن يتخلف منهم أحد عن خوض المعركة فسرّ بما سمع وأشرق وجهه وقال:"سيروا وأبشروا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين، وإني قد رأيت مصارع القوم"[9] .

وبهذا تكون الجبهة الإسلامية قد توحدت تماماً، ولم يعد هناك خوف من شذوذ أحد ممن خرج من المسلمين، ولم يعد النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة إلى التفكير في موقف الأنصار تجاه سياسته الخارجية.

ولو تركنا الجبهة الإسلامية قليلاً في وضعها القوي المتماسك لننظر في وضع الجبهة الأخرى وحالتها المعنوية لوقفنا على ما يلي:

لم يكن أهل مكة متفقين على الخروج للمعركة، وهم رغم اتفاقهم في عداوة المسلمين إلا أنهم كانوا مختلفين في خوض المعركة، فقد تخلف عنهم بنو عدي بن كعب، ورجع بنو زهرة من الجحفة نزولاً على رأي الأخنس بن شريق، فلم يشهد بدراً من هاتين القبيلتين أحد [10] .

ولم يكن موقف زعمائهم خيراً من موقفهم، فإننا نرى أمية بن خلف وعتبة بن ربيعة، وحكيم بن حزام لم يخف أحد منهم للخروج لأنهم كانوا غير مؤمنين بسلامة موقفهم، وحتى أبو لهب مع شدة عدواته لم يشهد المعركة وأخرج رجلاً آخر مكانه.

ص: 269

ولقد لعبت العصبية القبلية دوراً خطيراً في الخلاف الحاصل بين المكيين، كما كان لنجاة القافلة ووصولها إلى مكة سالمة أعظم الأمر في تثبيط همم الخارجين للقتال، حيث وجدوا أنفسهم أمام معركة لا مبرر لها، ولعلهم أيضاً لا يضمنون نتائجها، حتى أحسوا بأنهم إنما خرجوا يقاتلون عن قضية وهمية لا وجود لها، وهذا هو ما عبر عنه الأخنس بن شريق حين قال:"يا بني زهرة، قد نجّى الله لكم أموالكم، وخلّص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله، فاجعلوا لي جانبها، وارجعوا، فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في ضيعة"[11] .

وكما كان ذلك رأي الأخنس فإنه رأى عتبة بن ربيعة حين قام خطيباً - وقد وصلوا بدر - فقال: "يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمداً وأصحابه شيئاً، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه، أو ابن خاله أو رجلاً من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين الرجل وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون"[12] .

ولم يرض أبو جهل بهذا الرأي، وأتاهم عتبة بالجبن والخوف على ولده الذي كان بين صفوف المسلمين وثار النزاع وتكلم بعضهم على بعض، وحدث الخلاف واستحكمت الفرقة.

وهكذا كانت الجبهة المكية خلاف في الرأي بين القواد، وخصومة ونزاع بين الجنود، وعدم وضوح للغاية والهدف عند الجميع.

والتقى الجمعان:

وفي يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة كانت المعركة الفاصلة حيث التقى الجمعان على الحال التي كانت عليها كل منهما، ولكن هل كان هناك تكافؤ في الفرص والعدد والعتاد؟ وذلك ما سأوضحه فيما يأتي:

أستطيع أن أؤكد أنه لم يكن هناك تكافؤ قط في شيء مما ذكر، بل كان هناك تفاوت وفرق هائل في كل شيء.

ص: 270

فمن حيث الفرصة فإن المسلمين فوجئوا بالحرب، ولم يكونوا على استعداد لها، وقد يعدوا من مصادر تموينهم فليست هناك فرصة للتسلح والاستعداد للمعركة، في حين أن المشركين خرجوا متهيئين للقتال متسلحين بكل ما يحتاج إليه المحارب، حتى كانوا يقولون:"أيظن محمد أن نكون كعير ابن الحضرمي؟ "[13] .

ومن حيث العدد فإن جيش المسلمين كان أربعة عشر وثلاثمائة مقاتل، في حين كان جيش المشركين يتراوح عدده بين التسعمائة والألف.

وأما المعتاد فلم يكن لدى المسلمين سوى سبعين بعيراً يتعاقبونها، وفرسين فقد، ومن السلاح ما يحمله الرجل الذي لم تخطر بباله الحرب، ولذا كانت وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لهم ألا يحملوا على العدو حتى يأمرهم، وقال:"إن اكتنفوكم فانضحوهم عنكم بالنبل"، [14] كأنه يريد بذلك ألا يسرف المسلمون في استعمال السلاح، وليس معهم ما يكفي ذلك.

وأما المشركون فكان معهم سبعمائة بعير، ومائة فرس، هذا عدا ما كانوا يذبحون منه يوماً عشراً ويوماً تسعاً، وكان معهم عدة الحرب كاملة حيث كانوا قد استعدوا لها، [15] ولقد وصفهم القرآن الكريم فقال:{خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ} [16] لأنهم كانوا فخورين بعددهم مختالين بقوتهم.

مهارة القيادة الإسلامية ومرونتها:

أثبتت القيادة الإسلامية مهارة فائقة في رفع الروح المعنوية للمقاتلين حيث وعدتهم بالنصر، وبشرتهم بالجنة، وأخبرتهم بشهود الملائكة المعركة ليؤازروهم ويهزموا أعداءهم، فكان صلى الله عليه وسلم يقول لهم:"والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة"[17] .

ص: 271

كما أثبتت مرونة لم تعهد من قبل، وذلك بمشاورة الجنود، والنزول عند مشورتهم عندما تتبين صحة المشورة، كما حدث في مشورة الحباب بن المنذر حين أشار بتغيير مكان الجيش، فنزل الجيش بذلك أفضل موقع بالنسبة للمعركة، وحرم جيش العدو من السيطرة على ذلك المكان، كما حرم من استعمال الماء اللازم ضرورة للجيش [18] .

نتيجة المعركة:

إن نظرة سريعة إلى المقارنة التي أوردتها آنفاً بين الجيشين تدل على أن نتيجة المعركة لا بد أن تكون في صالح المشركين لأنهم كانوا أكثر عدداً وأعظم عدداً، وأحسن حالاً من المسلمين، ولكن هل كانت النتيجة كذلك؟؟!!

لا، إن النتيجة كانت في صالح القلة الضعيفة، ذات الأسلحة الهزيلة، والظروف السيئة - أي في جانب المسلمين - ولم يكن أحد يتوقع ذلك، لأن حساب المعارك دائماً يكون بالتفوق المادي أما الغيبيات أما قدرة الله، أما نصر الله لعباده المؤمنين، فذلك لا يدخل قط في حساب الماديين ولهذا كانت النتيجة مدهشة لكل من علم بها، إذ كيف تنتصر القلة على الكثرة؟ وكيف يهزم الضعيف القوي؟ بل كيف تتغلب فئة لم تخرج لقتال، وليس معها من السلاح إلا القليل على الكثرة المغرورة التي أعدت من السلاح وأسباب القوة ما يحقق النصر غالباً؟؟

ذلك هو ما حصل في ميدان المعركة، فلم تكد القوتان تلتقيان حتى ولى المشركون الأدبار ومنحوا المسلمين أكتافهم يقتلون ويأسرون، فكان اللقاء كما قال سلمة بن سلامة رضي الله عنه:"فوالله إن لقينا إلا عجائز صلعاً كالبدن المعلقة، فنحرناها"[19] .

ولم يكن هؤلاء العجائز الصلع إلا سادات مكة، وأشرفها، لذا تبسم صلى الله عليه وسلم حين سمع مقالة سلمة وقال:"أي ابن أخي، أولئك المل " أ [20] .

ص: 272

انهزمت القوة التائهة المختالة، وخلفت وراءها في أرض المعركة سبعين قتيلاً فيهم سادات قريش: أمية بن خلف، عمرو بن هشام - أبو جهل -، عتبة بن ربيعة، الوليد بن عتبة، شيبة بن ربيعة، نبيه ومنبه ابنا الحجاج، وغيرهم من القادة والزعماء، كما تركوا في أيدي المسلمين سبعين أسيراً منهم سهيل بن عمرو والعباس بن عبد المطلب وغيرهما، واستولى المسلمون على كثير من الغنائم، ولم يستشهد من المسلمين سوى أربعة عشر رجلاً [21] .

وكان لهذه النتيجة أبعاد أعمق من إحراز النصر نلخصها فيما يأتي:

أ – رفع معنويات جيش المسلمين، وإحساسه بمعونة الله له.

ب – تشجيع المسلمين على خوض معارك مع أعدائهم لم يجرؤوا على خوضها لولا انتصارهم في بدر.

ج ـ شعور الجيش الإسلامي بأنه قوة رادعة جعله يمضي قدماً في تأسيس الدولة بعزم.

د – ردع الأعداء حتى شل تفكيرهم عن الدخول في معارك جديدة مع المسلمين لمدة تزيد عن السنة مما أعطى المسلمين فرصة لتنظيم أنفسهم والاستعداد للقاء عدوهم.

هـ-كل انتصارات المسلمين بعد تلك الغزوة كانت امتداداً طبيعياً للنصر فيها حيث كان المسلمون يقاتلون وهم يعتقدون أنهم في معية الله عز وجل وكان المشركون يعتقدون أنهم يقاتلون عدواً غير عادي ليس من السهل التغلب عليه.

دروس من المعركة:

وإذا كانت نهاية المعركة جاءت على هذا النحو الغريب، ولم تكن بالشيء الذي يمر به الإنسان دون أن يقف حياله مبهوراً حائراً، كان لازماً على الباحث أن يستخلص منها بعض الدروس التي يمكن أن تكون عوامل هامة في توجيه المعركة ونتائجها، كما يمكن أن يستفيد بها المسلمون في مواجهة أي عدو يلقونه، ومن هذه الدروس ما يلي:

ص: 273

1 – التنظيم الدقيق الذي امتاز به الجيش الإسلامي، فقد صفهم الرسول صفوفاً على غير عادة العرب، وأصدر تعليمات مشددة بعدم الهجوم أو بدء المعركة حتى تصدر أوامر القيادة بتنظيم المبارزة واختيار المبارزين وغير ذلك.

2 – رفع معنويات الجنود بتبشيرهم بالجنة، وذكر ما أعد الله فيها للشهداء مما جعل الجنود يستبسلون ولا يهفون كما في قصة عمر بن الحمام حين ألقى التمرات التي كان يأكلها وقال:"بخ بخ أفما بيني وبين الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء؟!! "[22] .

3 – دخول المعركة برغبة من الجنود جعل كل جندي يشعر بأن المعركة معركته وأنه مسئول عن نتيجتها مما جعلهم يضحون بكل غال ونفيس.

4 – الاعتداد بأخوة الإسلام قبل أخوة النسب والرحم واعتبارها هي الأخوة الحقيقية كما حدث من مصعب بن عمير مع أخيه أبي عزيز حين رآه أسيراً فقال لمن أسره: "شد يديك به فإن أمه ذات مال لعلها تفديه منك"[23] .

5 – الشورى وعدم الاستبداد بالرأي فقد كان ذلك المبدأ هو القاعدة السائدة في المعركة من بدايتها إلى نهايتها فقد استشار الرسول المسلمين في دخول المعركة، ونزل على مشورة الحباب في تغيير مكان الجيش، وأخذ رأيهم في الأسرى.

6 – الاهتمام بتثقيف المسلمين وتعليمهم، حيث جعل الرسول فداء الأسرى الذين يقرأون أن يعلم كل واحد منهم عشرة من صبيان المسلمين الكتابة والقراءة [24] .

آثار المعركة:

تركت معركة بدر آثاراً عميقة في كل من مكة والمدينة، أما في المدينة فقد استقرت على أثرها أوضاع الدولة الإسلامية، فأصبحت مرهوبة الجانب، يخشاها العدو، ويرهبها المحايد، وأصبح مركز المدينة مرموقا كعاصمة لدولة أخذت وضعها اللائق بها واعتز المسلمون بهذا النصر فواجهوا أعداءهم في قوة وحزم.

كما كان لها في نفوس الأعداء المتربصين بها من الداخل - اليهود والمنافقين - أثران متلازمان هما: الفزع والكيد.

ص: 274

لقد أحس الأعداء بأن الدين الجديد أصبحت له دولة تحميه، وأن الرجل الذي هرب من بلده ولجأ إلى بلدهم صار ذا نفوذ وسلطان، فانزعجت نفوسهم، وانخلعت قلوبهم، وبدأوا يفكرون كيف يتخلصون من هذا المأزق الذي أحاط بهم؟

عندئذ أخذوا يتآمرون ويدبرون المكايد للقضاء على تلك الدولة، فاتصلوا بالمشركين في مكة يحرضونهم على قتال المسلمين ويعدونهم بالوقوف معهم، كما اتصلوا باليهود في البلاد الأخرى مستعينين بهم في تنفيذ خططهم لاغتيال محمد صلى الله عليه وسلم.

أما المسلمون فكانوا بعد الانتصار الذي أحرزوه أقوى معنوية، وأحسن حالاً مما كانوا عليه من قبل، فقابلوا التآمر بتآمر أكثر إحكاماً، وواجهوا الكيد بكيد أشد إيلاما، فقتلوا كعب بن الأشرف زعيم المتآمرين، وأجلوا بني قينقاع عن المدينة، وهكذا أثبت المسلمون قدرتهم على أعدائهم، وأحبطوا المؤامرات التي تدبر لهم، وأبعدوا عن المدينة الخطر الذي طالما تهددهم، وأصبحوا أكثر استعداداً لصد الهجمات المتوقعة من جانب أهل مكة.

وأما في مكة فكان أثر المعركة عنيفاً على نفوس الناس، حيث لم يكن أحد يتوقع هذه النتيجة المؤسفة، ولكن هذا الأثر اتجه اتجاهاً واحداً، وبرز في تفكيرهم شبحاً للثأر الذي لا يمكن تركه مهما كلفهم من جهد أو مال، فاتفقوا على أن يجعلوا القافلة التي نجا بها أبو سفيان، والتي كانت سبباً في معركة بدر وقفاً على تمويل جيش يحاربون به المسلمين لعلهم يدركون به ثأرهم، وكانت القافلة تضم ألف بعير ومن الأموال خمسين ألف دينار [25] وضعت جميعها في خدمة الجيش الذي عقدوا عليه آمالهم.

محمد السيد الوكيل

مدرس التاريخ الإسلامي

في كلية الحديث الشريف

والدراسات الإسلامية

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

ابن هشام 2/180.

[2]

زاد المعاد 2/217.

ص: 275

[3]

ابن هشام 2/180.

[4]

البقرة: 217.

[5]

ابن هشام 2/250.

[6]

ابن هشام 2/188.

[7]

زاد المعاد 2/218.

[8]

نفسه

[9]

نفسه 219.

[10]

ابن هشام 2/191.

[11]

ابن هشام 2/191.

[12]

نفسه 183.

[13]

مختصر السيرة ص203.

[14]

ابن هشام 2/195.

[15]

مختصر السيرة ص230، ابن هشام 2/189.

[16]

الأنفال 47.

[17]

ابن هشام 2/196.

[18]

زاد المعاد: 2/219.

[19]

ابن هشام 2/208.

[20]

نفسه.

[21]

ابن هشام 2/251-259.

[22]

ابن هشام: 2/196.

[23]

نفسه 209.

[24]

روض الأنف 5/245 تحقيق عبد الرحمن الوكيل.

[25]

المواهب المدنية 1/92.

ص: 276

فتح الفتوح

لفضيلة الدكتور عباس محجوب

ارتبط شهر رمضان المبارك في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين بأحداث عظيمة على قمتها موقعة بدر الكبرى التي كانت نقطة انطلاق عظيمة في انتصارات المسلمين على مر التاريخ وتوالت بعدها انتصارات المسلمين المرتبطة بهذا الشهر الكريم فتح مكة والعودة من تبوك وإسلام ثقيف بعد عودته من تبوك في السنة التاسعة.

ولم تكن انتصارات المسلمين في هذا الشهر المبارك في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فحسب بل تتابعت هذه الانتصارات فكان فتح الأندلس في رمضان عام 98هـ.

وانتصارات صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين كما كان انتصارهم الأكبر على التتار في رمضان سنة 658هـ في معركة عين جالوت وما أكثر انتصارات المسلمين في شهر رمضان لو تتبعنا تاريخهم ولكننا نأخذ واحدة من هذه المعارك التي لا زالت محل عناية المسلمين ودراستهم وتدبرهم لما سبقها من أحداث وما ترتب عليها من نتائج وتلك المعركة هي فتح الفتوح ـ فتح مكة في شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة.

ولا يشك أحد في أنّ انتصارات المسلمين في معاركهم السابقة لفتح مكة في بدر وأحد وغيرهما من الغزوات والسرايا وانتصارهم الدبلوماسي الأكبر في صلح الحديبية - تلك الانتصارات لم تكن إلا تمهيداً للنصر الكبير تدبيراً إلهياً قاد المسلمين إلى هذا النصر الذي لم يخطر في مخيلة الكثيرين بالسرعة الزمنية التي تمت فيها، فمَنْ من المهاجرين كان يحلم بالعودة إلى مكة فاتحاً منتصراً بعد سنوات قلائل؟ إن مثل هذه الانتصارات تحتاج إلى فترة زمنية طويلة وإعداد وتخطيط مستمر ولكنه في تقدير الله سبحانه وتعالى أمر لا يحتاج لغير التسليم بأن تقديره فوق حساب البشر وتقديرهم.

سبب التسمية:

ص: 277

سمي فتح مكة، بفتح الفتوح "لأن العرب كانت تنتظر بإسلامها إسلام قريش ويقولون هم أهل الحرم وقد أجارهم الله من أصحاب الفيل، فإن غلبوا فلا طاقة لأحد به صلى الله عليه وسلم فلما فتح الله مكة دخلوا في دين الله أفواجا قبائل من جملتها بعد أن كانوا يدخلون أفرادا ولم يقم للشرك قائمة بعده"[1] .

سبب الغزوة:

تذكر كتب السيرة والتاريخ أن العداوة كانت مستمرة بين قبيلتي خزاعة وبني بكر كأغلب العلاقات القبلية في الجاهلية وبدايات الإسلام الأولى، وعندما عقد الصلح بين المسلمين وقريش في الحديبية دخلت خزاعة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم بينما دخلت بنو بكر في عهد قريش، ولصلة خزاعة بالرسول صلى الله عليه وسلم جذور تاريخية إذ أن خزاعة كانت في عهد مع عبد المطلب جدّ الرسول صلى الله عليه وسلم مما جعلها تأتي بعد صلح الحديبية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهي تحمل نص العهد الذي كان بينهما وبين عبد المطلب ( [2] ) وقد أراد الله لذلك الصلح أن يبلغ أجله فنشب النزاع بين خزاعة وبكر وأعانت قريش بني بكر على خزاعة بالسلاح والرجال خفية فقاتلوا معهم وأصابوا منهم فانتقض بذلك العهد الذي كان بينهم وبين المسلمين، وجاءت رسل خزاعة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى رأسها عمرو بن سالم الخزاعي الكعبي الذي وقف على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو بالمسجد وأنشده:

يا رب إني ناشدا محمداً

حلف أبينا وأبيه الأتلدا

قد كنتم ولدً وكنا والداً

ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا

فانصر هداك الله نصرا أعتدا

وادع عباد الله يأتوا مددا

فيهم رسول الله قد تجردا

إن سيم خسفاً وجهه تربّدا

في فيلق كالبحر يجري مزبدا

إن قريشا أخلفوك الموعدا

ونقضوا ميثاقك المؤكدا

وجعلوا لي في كداء رصدا

وزعموا أن لست أدعوا أحد

وهم أذل وأقل عددا

هم بيتونا بالوتير هجدا

وقتلونا ركعاً وسجدا [3]

ص: 278

فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم: "نصرت يا عمرو بن سالم"، ثم عرضت سحابة في السماء فقال عليه الصلاة والسلام:"إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب"، [4] وأخبر عليه الصلاة والسلام بوحي من الله بما يدور في خاطر قريش وما يتوقع منهم فقال:"لكأنكم بأبي سفيان قد جاء يقول: جدد العهد وزد في الهدنة"[5] .

وكيف لا يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم نفسية قريش وما يشغل بالها آنذاك وقد أعطاه الله عقلاً نيراً وفكراً ثاقباً وبصيرة لا تخطئ لأنه يسنده الوحي دائماً، فهذه قريش منزعجة من الحادث، مترقبة لرد الفعل، خائفة من العاقبة، وأكثرهم انزعاجاً قائدهم أبو سفيان الذي أخبر قريشاً عن رؤية رأتها زوجته هند كرهها وخاف منها، إذ رأت دماً أقبل من الحجون يسيل حتى وقف عند جبل بمكة مما جعل أبا سفيان يستنكر اشتراك قريش في القتال ونقضها للعهد ويقول:"والله ليغزونا محمد إن صدقني ظني وهو صادقني، ومالى بد أن آتي محمدا فأكلمه أن يزيد في الهدنة ويجدد العهد قبل أن يبلغه هذا الأمر". فقالت قريش: "قد والله أصبت الرأي"[6] .

وهكذا جرت الأحداث بمشيئة الله تعالى الذي هيأ للمسلمين أمراً لم يفكروا فيه وظفراً لم يحلموا به، وقد علل الرسول عليه الصلاة والسلام لتلك المشيئة بقوله لعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وهي تستبعد من قريش أن تنقض العهد وما لها مقدرة على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ينقضون العهد لأمر يريده الله تعالى بهم"، وتسأل عائشة:"خير أو شر يا رسول الله؟ قال: "خير". [7]

وكيف لا يكون خيراً وهو سيحمل رسالة الإسلام إلى أهل مكة ومن حولها، يستظلون بظلها، وينعمون بفيئها، ويسعدون في الدنيا والآخرة بنشرها وحمايتها.

ص: 279

وما لبث أن جاء أبو سفيان كما أخبره المصطفى صلى الله عليه وسلم يطلب شد العهد وزيادة المدة فيجيبه الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه على العهد والمدة، لا يغير ولا يبدل، غير أن الأمر لم يفت على ذكاء أبي سفيان وحنكته وتجاربه وخبرته فلم يطمئن قلبه ولم تهدأ نفسه فبحث عن وسيلة أخرى ينقذ بها قومه، فطلب من يتشفع به إلى رسول الله فبدأ بأبي بكر الصديق رضي الله عنه فاعتذر له برفق، وذهب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأغلظ له القول ورده بعنف، واتجه إلى علي رضي الله عنه ومعه فاطمة رضي الله عنها وابنهما الحسن رضي الله عنه يلعب بين يديهما، فاعتذر له علي، وبلغ اليأس بأبي سفيان والحيرة في الأمر أن يطلب من فاطمة شفاعة الحسن لجده فتعتذر بصغر ابنها عن الأمر ثم ينصحه على نصيحة قبلها وعمل بها وليس له غيرها، فأعلن أبو سفيان في المسجد بين الناس أنه أجاره، ولكن هل يغني ذلك عنه شيئاً؟ ورجع أبو سفيان إلى قومه مهيض الجناح كسير القلب مشتت الفكر ليجد من قومه غلظة واستنكارا لإخفاقه وفشله في زيادة المدة وتمكين العهد.

استعداد المسلمين للحرب:

ص: 280

عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال قريش والظروف كلها لذلك والنصر مضمون بإذن الله لا سبيل لقريش في جمع العرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بادرت بنقض العهد وتخطي المواثيق، فطلب الرسول الله صلى الله عليه وسلم من عائشة أن تجهز له وتكتم أمره وقال ما معناه:"اللهم خذ على قريش الأخبار والعيون حتى نأتيهم بغتة"، وحفظت عائشة كعهدها سر الرسول صلى الله عليه وسلم حتى عن أبيها الصديق الذي ذهب إلى رسول الله وسأله فأعلمه طالباً منه كتمان الأمر، وأخذ المسلمون يفكرون إلى أي يود الرسول أن يتوجه، وزيادة في الحذر والسرية يبعث الرسول صلى الله عليه وسلم سرية بقيادة أبي قتادة بن ربعي إلى بطن اضم في الطريق بين مكة واليمامة ( [8] ) فيحتار الناس في اتجاه الرسول ومقصده، ثم أرسل الرسول رسله إلى أهل البادية يطلب منهم أن يحضروا رمضان بالمدينة، وانتشرت رسله تحمل الدعوة إلى قبائل أسلم وغفار ومزينة وجهينة وأشجع وبني سليم وضمرة وبني كعب، وفي أثناء ذلك كله حدث ما أشار إلى مقصد رسول الله، فمثلاً في قصة حاطب بن أبي بلتعة تلك القصة التي تمخضت عنها تشريعات وتعاليم وإبراز لمكانة أهل بدر فما هي تلك القصة؟

رسالة حاطب:

ص: 281

قصة حاطب بن أبي بلتعة هي قصة النفس الإنسانية عندما تركن إلى بشريتها ويصيبها الوهن والضعف وهي خاضعة للتفكير في الأمر من زاوية ضيقة شخصية، فقد كتب إلى قريش يخبرهم بعزم الرسول على غزوهم، وكانت الرسالة موجهة إلى صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو - الذي وقع اتفاقية الهدنة مع الرسول وكتب بنودها نيابة عن قريش - وعكرمة بن أبي جهل، وجاء في رسالة حاطب "أن رسول الله قد أذن في الناس بالغزو ولا أراه يريد غيركم وقد أحببت أن تكون لي عندكم يد بكتابي إليكم". وسلم الكتاب لامرأة من مزينة جعلته في شعرها وقد ضفرت شعرها عليه، وقد جعل لها أجراً على ذلك، إلا أن الله سبحانه وتعالى أخبر نبيه بما فعل حاطب استجابة لدعوته بأن يخفى الله أمرهم على قريش، فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم علياً والزبير وطلب منهما أن يدركا المرأة، فأدركاها وأنزلاها وفتشا رحلها فلم يجدا شيئاً فقال لها:"إنا نحلف بالله ما كذب رسول الله ولا كذبنا ولتخرجن هذا الكتاب أو لنكشفنك" ولما علمت المرأة بجدهما وعزمهما على فعل ما قالا، حلّت ضفائرها وأخرجت الكتاب فجاءا به إلى رسول الله، فاستجوب حاطباً على فعله فأكد حاطب إيمانه بالله ورسوله وأنه لم يتغير أو يتبدل، لكنه أراد أن تكون له دالة على قريش لوجود أهله وولده بينهم، وثار عمر رضي الله عنه على حاطب وطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يضرب عنقه لأنه منافق في نظره، ولكن رسول الله يجيب:"وما يدريك يا عمر؟ لعل الله اطلع يوم بدر على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". وتذكر بعض الروايات بأن الله سبحانه وتعالى أنزل بعد هذه الحادثة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [9] .

ص: 282

وفي هذه القصة نرى الرسول صلى الله عليه وسلم يرد للصحابي اعتباره أمام المسلمين وقد عظم الأمر عندهم، وذلك لتأكد الرسول صلى الله عليه وسلم من صدق كلام حاطب، وتأكده من حسن إيمانه، وأن الأمر لا يعدو أن تكون حالة نفسية استسلم فيها الصحابي لحاجته. والرسالة نفسها في صيغتها تنبئ عن ذلك فقد قال لقريش:"إن رسول الله قد أذن في الناس"ولم يقل: إن محمداً كما يقول المنافقون.

والقصة لا تخلو من دروس للمسلمين في أهمية كتمان السر وإحاطة تحركات المسلمين بالسرية والتزام الجندي المسلم بتنفيذ الأمر من تجرد الإيمان، ثم فيها إشعار بعظم مكانة أهل بدر وما أعد الله لهم من نعيم مقيم.

خروجه صلى الله عليه وسلم:

عسكر الرسول صلى الله عليه وسلم في بئر أبي عنية ووزع المهام وقسم الرايات على الجيش الذي وصل إلى عشرة آلاف مقاتل من المهاجرين والأنصار والقبائل الأخرى وخرج بهم يوم الأربعاء العاشر من رمضان وهم صائمون في لفحة الحر وبعد الطريق. وقد نادى فيهم مناد الرسول صلى الله عليه وسلم يخيرهم بين الفطر والصوم، ولكن من الذي يهنأ بالفطر والرسول القائد صلى الله عليه وسلم صائم يضرب أروع الأمثال في الجلد والصبر والتخطيط والتدبير، وأصحابه يرونه يصب الماء على رأسه ووجهه من شدة العطش، ومع ذلك يأخذ الرسول عندما يصل إلى الكدية إناء مملوءاً بالماء في وقت العصر ويشرب منه وهو على راحلته ليراه الجميع وهو يقول فيما يرويه أبو سعيد الخدري:"إنكم مصبحون عدوكم والفطر أقوى لكم" ومع ذلك يخبر أن قوماً تمادوا في الصيام فيقول: "أولئك العصاة".

ومع ذلك لم يكن المسلمون على يقين من وجهة رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يقصد قريشاً أم هوزان أم ثقيفاً مما جعل كعب بن مالك يذهب إليه ويبرك على ركبتيه بين يدي المصطفى صلى الله عليه وسلم وينشده:

قضينا من نهامة كل ربب

وخيبر ثم أجمعنا السيوفا

ص: 283

نسائلها ولو نطقت لقالت

قواطعهن دوساً أو ثقيفا

فلست لحاضر أن لم تروها

بساحةِ داركم منها ألوفا

فتنتزع الخيام ببطن وجّ

وننزل دورهم منها خلوفا

فما زاد الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يبتسم له، فقال له الناس:

"والله ما بيّن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، ما ندري بمن يبدء، بقريش أو ثقيف أو هوزان "[10] .

أما قريش فكانت وجلة خائفة مترقبة غير مطمئنة ودفعها الخوف ومحاولة معرفة الأخبار إلى أن يخرج أبي سفيان وآخرون علهم يعرفون شيئاً.

وقد خاف العباس بن عبد المطلب على قريش الفجاءة قبل أن يأمنوا لأنفسهم، فخرج في بغلة الرسول عليه الصلاة والسلام يبحث عن شخص يذهب إلى أهل مكة فيخبرهم وينذرهم، ولكنه سرعان ما سمع صوت أبي سفيان وهو يحاور صاحبه بديل بن ورقاء بعد أن رأى نيران جيش المسلمين التي اكتشفها أبو سفيان بذكائه وخبرته إذ كان صاحبه يظنها نيران قبيلة خزاعة جاءت للأخذ بثأرها فيجيبه أبو سفيان:"إن خزاعة أقل وأذل من أن تكون لها تلك النيران"، وإذا بأبي سفيان يفاجأ بعم رسول الله صلى الله عليه وسلم يناديه يحاوره ويطلب منه الذهاب للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يقتله.

وهنا تأتي المقارنة بين موقف وموقف، وأخبار وأخبار، أبو سفيان يحذر قريشاً فيحمد ذلك منه، وحاطب يحذر قريشا فيستجوب عن ذلك؟ هل هناك تشابه بين الموقفين؟ كلا فالفارق بينهما كبير، فارق في الزمان حيث كانت الأولى في مرحلة الإعداد والثانية في نهاية الخطة، وفارق في المكان حيث كانت الأولى من المدينة والثانية على مشارف مكة، وفارق في السرية والعلنية حيث أذن الرسول صلى الله عليه وسلم بالثاني إذ أعطى بغلته لعمه ولم يأذن في الأولى.

ص: 284

أخذ العباس أبا سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تكن الرؤيا واضحة بحيث يعرفه المسلمون وهو يشق صفوف الجيش، ولكن صوت عمر رضي الله عنه يرتفع وقد ميز أبا سفيان في تلك الكلمة فيقول:"أبو سفيان عدو الله؟ الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد"ويحاول عمر أن يسبق العباس الذي يمتطي بغلة الرسول ليسارع بطلب الإذن لضرب عنق أبي سفيان، ويدخل العباس في نقاش حاد مع عمر رضي الله عنه إلا أن عمر يهدئ الموقف بالكشف عن مدى تجرده وحبه للعباس إذ يقول:"فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إليّ من إسلام الخطاب لو أسلم وما بي إلا أني قد عرفت إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب"[11] .

ولم يكن أبو سفيان أقل وضوحاً وصراحة ممن حوله، فعندما طلب منه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يؤمن لم يتردد ولكنه أخبر بأن في نفسه شيئاً من أن محمداً رسول الله مع اعترافه بحلم الرسول وكرمه وصلته للرحم، ثم عُرضت على أبي سفيان كتائب جيش المسلمين قبيلة بعد قبيلة أخرى ورجالاً وراء رجال، وأبو سفيان مندهش متعجب مقتنع بأن قريشاً لا قبل لها بمثل هؤلاء الرجال المجاهدين الصابرين، وإذا به يسرع إلى مكة لينقذ قومه من الهلاك مخبراً بتأمين الرسول صلى الله عليه وسلم لمن دخل داره أو المسجد أو دار أبي سفيان.

ودخلت جيوش الإسلام مكة تحمل رايات العزة وألوية الإسلام والجيش مقسم في نظام بديع أظهر عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم العسكرية وكبار قادة المسلمين على رأس تلك الجماعات علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد والزبير رضي الله عنهم وموكب الرسول صلى الله عليه وسلم المهيب يتقدمه أبو عبيدة الجراح رضي الله عنه.

ص: 285

إنه موكب رهيب وساعات حاسمة، المسلمون يدخلون من أسفل مكة وأعلاها ومن ذي طوى، والأوامر لدى القادة بإزالة العوائق ومحاربة من يقاتلون، ولم يقتل من المسلمين إلا رجلين شذا عن جيش خالد، أما المشركون فقد قتل منهم ثلاثة عشر رجلاً [12] .

ودخل الرسول صلى الله عليه وسلم شاكراً خاضعاً لله رحيماً شفوقاً بقريش أعطى الأمان للجميع إلا رجالاً ارتبطت أسماؤهم بقضايا معينة ومواقف تستدعي المساءلة والجزاء من أمثال عبد العزى بن خطل الذي ارتد وقتل من بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم معه لجمع الصدقات، ثم لحق بالمشركين، وقد وجد متعلقاً بأستار الكعبة فقتل جزاء ارتداده وقتله لصاحبه وخيانته الأمانة، وكذلك قتل الحويرث بن نقيذ بيد علي بن أبي طالب لكثرة ما كان يؤذي الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة، كما قتل مقيس بن صبابة بيد غميمة بن عبد الله لقتله رجلاً من الأنصار قتل أخاه عن طريق الخطأ، وهناك من أمّنهم الرسول صلى الله عليه وسلم كإحدى جاريتي ابن خطل الهاجيتين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسارة مولاة بني المطلب ورجلين احتميا بأم هاني بنت أبي طالب قيل إنهما الحارث بن هشام وزهير بن أمية وكذلك عبد الله بن سعد بن أبي السرح وعكرمة بن أبي جعل وكلهم أسلموا وحسن إسلامهم وفيهم من تولى أمر المسلمين [13] .

وتسلم القائد المنتصر مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة فدخل الكعبة وصلى داخلها ومعه عثمان وبلال وأسامة بن زيد ثم كرّم الرسول صلى الله عليه وسلم عثمان إذ ترك له حجابة البيت، وتوارثه أبناؤه وارتفع صوت بلال بنداء الحق، وحطمت الأصنام في مكة وحول الكعبة والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا"[14] .

ص: 286

وكانت للرسول صلى الله عليه وسلم مواقف لا تنسى، ومن ينسى موقفه من أهل مكة وهم ينتظرون مصيرهم ويتوقعون الانتقام ممن آذوه وأخرجوه واتهموه بكل أمر فظيع؟ كالسحر والكهانة والجنون والرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ ما في عيونهم ويعلم ما في نفوسهم وحياً فيسألهم:"يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟ "قالوا: "خيرا أخ كريم وابن أخ كريم"، قال:"فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} اذهبوا فأنتم الطلقاء"[15] .

وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم عن مكة ما معناه: "لا تغزى بعد هذا اليوم أبداً إلى يوم القيامة"، وقد علق البيهقي على ذلك بأنها لا تغزى على كفر أهلها فكان كما قال، [16] ولا زال المسلمون يتعلمون من هذا الفتح العظيم دروساً من بينها:

1 – أن كلمة الله يجب أن تعلو على كلمة الكفر في أي زمان ومكان، وأن واجب المسلمين الدائم هو تحطيم الأصنام والطواغيت في كل صورها وأشكالها ومسمياتها.

2 – أن الخطة التي وضعها الرسول صلى الله عليه وسلم قد نفذت بدقة وتحققت الأهداف الكبرى مثل دخول الناس في الإسلام وعلى رأسها قريش.

3 – أن الأمور الهامة في حياة المسلمين لا بد فيها من السرية في الهدف وفي التخطيط وفي التنفيذ.

4-

أن الحرب النفسية سلاح من أسلحة المحاربين تفيد المسلمين إذا أحسنوا تنظيمها وتوقيتها وتنفيذها.

5 – أن الجندي المسلم مطيع منفذ للأوامر في التأهب للجهاد والتحرك للقتال دون مراجعة أو تردد.

6 – أن روح التسامح والتعالي هي صفات جيش المسلمين فلا انتقام ولا حقد ولا مذابح ولا تمثيل.

7 – أن ظهور المسلمين دائماً بمظهر الأقوياء الأشداء المستعدين للقتال أمر لا بد منه لإدخال الرعب في نفوس الأعداء وتنفيذ أمر الله في إعداد العدة لهم.

وما أكثر الدروس والعبر في هذه الغزوة لمن يعتبرون ويتعظون ويعدون ويخططون.

ص: 287

إن يوم الجمعة في العشرين من رمضان سنة ثمان من الهجرة يوم من أيام المسلمين التي لا تنسى والتي يجب أن تكون منقوشة بأحداثها وظروفها ونتائجها في ذاكرة الأجيال المسلمة التي يجب أن تدرس تاريخها فتعرف جوانب العظمة فيه وتحقق بذلك اتباع نبيها صلى الله عليه وسلم وإخضاع العالم لأمر ربها.

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

عماد الدين يحيى بن أبي بكر العامري - بهجة المحافل ص397 المجلد الأول.

[2]

الواقدي المغازي ص781 ج ثاني.

[3]

راجع القصة كاملة في سيرة ابن هشام ص 389 المجلدات الثاني الطبعة الثانية 1855م.

[4]

بهجة المحافل ص399.

[5]

المغازي للواقدي ص791 ج ثاني.

[6]

المصدر السابق ص785 ج ثاني.

[7]

المصدر السابق: ص788 ج ثاني.

[8]

الواقدي المغازي ص796 ج ثاني.

[9]

راجع القصة في المغازي ص797 وما بعدهما، الخصائص الكبرى للسيوطي ص87 ج ثاني، بهجة المحافل 401-402، جوامع السير لابن حزم 226.

تعليق المجلة: وهذا جريا على مذهب ابن حزم في اعتباره الفطر في السفر عزيمة، وهو خلاف مذهب الجمهور حيث يرون أن الفطر في السفر رخصة ـ وقد تختلف باختلاف أحوال الصائمين وظروفهم.

[10]

المغازي للواقدي ص80.

[11]

جوامع السير لابن حزم ص229.

[12]

جوامع السير لابن حزم ص231.

[13]

راجع سيرة ابن هشام ص410-411.

[14]

راجع سيرة ابن هشام ص417-412 وجوامع السير ص233.

[15]

سيرة ابن هشام ص412، المغازي 835.

[16]

الخصائص الكبرى للسيوطي ص83.

ص: 288

تاريخ مشرق للعلوم الصيدلية

في النهضة الإسلامية

بقلم دكتور أبو الوفاء عبد الآخر

صيدلي الجامعة الإسلامية

الحمد لله، خلق الإنسان وعلمه البيان، ورزقه العقل والإلهام، ووهبه البحث والتجربة والبرهان.. والصلاة والسلام على سيد الأنام، وأفضل من دعا إلى العلم النافع، وإلى كل ما ينفع بني الإنسان..

وبعد.. فإن للأمة الإسلامية في ماضيها: نهضة وحضارة، ورفعة وصدارة، باركتها رسالة السماء، وأيدتها عقيدة سمحاء..

فبعد أن أكمل الله سبحانه وتعالى دينه للمسلمين، وبعد أن تأصلت العقيدة في قلوب الموحدين، وبعد أن دانت عمالقة الدول للأبطال المجاهدين.. سارت الأمة الإسلامية في طريق الأسباب - أسباب القوة - كما نظر علماؤها في ملكوت السموات والأرض، وبحثوا عن كل ما ينفع بني الإنسان، تعبداً وقربى إلى الله سبحانه وتعالى.. فأنعم الله سبحانه وتعالى عليهم بحضارة إسلامية، امتدت عبر القرون وأضاءت كل أرجاء المعمورة.

ولقد كان (للعلوم الصيدلية) نصيب كبير في تلك الحضارة الإسلامية المباركة، وفي مقالنا هذا سوف نقدم موجزاً (لتاريخ العلوم الصيدلية في النهضة الإسلامية) عسى أن يكون لنا في ذلك عبرة وتذكرة، وحافز وهمة، فنقول وبالله التوفيق:

إن (العلوم الصيدلية) تشتمل على مجموعة من العلوم، تشترك جميعاً في هدف واحد، ألا وهو "إيجاد الدواء المناسب لكل داء"ومن هذه العلوم: الكيمياء، والصيدلة، والنبات، والفيزياء.

ص: 289

ولقد اهتم علماء الدولة الإسلامية، بهذا الجانب من العلوم، وقاموا بالأبحاث الرائدة، وقدموا الابتكارات الرائعة، وكلما ذكرت الحضارة الإسلامية في غابر الزمان، ذكر التقدم الصيدلي الذي تحقق على أيدي علماء الأمة الإسلامية، ولقد ظلت المعارف الصيدلية، والأعمال الصيدلية قروناً عديدة إلى ما قبل النهضة الإسلامية، أشبه بما نراه الآن من "أعمال العطارة، وخبرات العطارين"إلى أن ظهر العلماء في عصور النهضة الإسلامية، فقاموا بالدراسات المنهجية، وأجروا التجارب العلمية، واستعملوا الأجهزة العلمية، وتوصلوا إلى الاكتشافات القائمة على البحث والتجربة، وبهذا أصبحت (الصيدلة) علماً له كل مقومات العلم: الملاحظة، والبحث، والتجربة.

النهضة الصيدلية وعلماء الصيدلة:

وفيما يلي نعرض بعض مظاهر النهضة الصيدلية، ونذكر بعض مشاهد العلماء الذين شاركوا في هذا الجانب من النهضة الإسلامية:

أولاً: لقد تقدم علم الكيمياء تقدماً عظيماً، وذلك نتيجة لمجهودات العالم الشهير (جابر بن حيان) الذي يعتبر من أعظم علماء العالم في جميع العصور، ولقد عرف العلماء قدره فسموا "علم الكيمياء"(علم جابر) .

وكان (جابر بن حيان) أول من حضّر: حامض الكبريتيك، وحامض النيتريك، وكربونات الصودا، وكربونات البوتاسيوم، وماء الذهب. وأصبح لهذه الكيماويات أهمية عظمى في العصور الحديثة، بل تكاد تكون من أسس حضارة القرن التاسع عشر والعشرين في الكيمياء، والصيدلة، والزراعة، والصناعة.

وهو أول عالم كيميائي استعمل الموازين الحساسة في التجارب الكيميائية.

ولقد ابتدع طرقاً أفادت كثيراً في تحضير العقاقير وتنقيتها وذلك في عمليات (البلورة، والترشيح، والتقطير، والتصعيد) وغيرها من الأعمال الهامة الكيميائية والصيدلية.

ص: 290

وكان (جابر بن حيان) حريصاً على إبراز أهمية التجارب، واتباع المنهج التجريبي، ومن أقواله المأثورة:"إن من واجب المشتغل في الكيمياء، العمل وإجراء التجارب، وإن المعرفة لا تحصل إلا بها"وبهذا يكون (جابر بن حيان) ومن بعده (مسلمة بن أحمد المجريطي) قد سبقا علماء الغرب بعدة قرون في إخضاع العلم للتجربة، ووضع أسس "المنهج العلمي"الذي يقوم على التجربة.

وألف (جابر بن حيان) العديد من الكتب في الكيمياء والصيدلة منها كتاب (الموازين) وكتاب (سر الأسرار) وكتاب (الخواص) وكتاب (السموم ودفع مضارها) ولقد ترجمت معظم كتبه إلى اللغات الأوربية، وظلت مرجعاً في جامعات أوربا لعدة قرون.

ثانياً: ولقد ارتقت العلوم الصيدلية والطبية والكيميائية بعد ذلك درجات أخرى على يدي العالم الشهير (أبو بكر الرازي) الذي برع في الطب والصيدلة والكيمياء، ومن مؤلفاته كتاب (المنصوري) الذي أهداه إلى المنصور أمير خراسان، والذي ترجمه إلى اللاتنية فيما بعد (جيرار الكريموني) وظلت تدرس الأجزاء الكيميائية والبية منه بجامعات أوربا، حتى القران السادس عشر.

وكتاب (الحاوى) وهو موسوعة من عشرين جزءاً، يبحث في كل فروع الطب والكيمياء، وكان يدرس أيضاً في جامعات أوربا، بل إنه كان أحد الكتب التسعة التي كانت تدرس بكلية طب باريس سنة 1394.

وكان مؤلفه (الجدري والحصبة) دراسة علمية رائعة، وهي الدراسة الأولى التي استطاعت أن تفرق بين تشخيص هذين المرضين، وحتى تعرف قيمة الكتاب الطبية، فقد أعيد طبعه أربعين مرة باللغة الإنكليزية بين 1494، سنة1866، وهو من أوائل الكتب التي أخرجتها المطابع الأولى في العالم.

وهو الذي اخترع خيوط الجراحة المصنوعة من جلد الحيوان.

كما أنه قدم العديد المبتكر من الأدوية التي تعالج أمراض العيون، والصدر والأمعاء والمجاري البولية.

ص: 291

ثالثاً: ولقد خضعت الأدوية والعلاجات لدراسات مستقضية على أيدي علماء الأمة الإسلامية في عصور النهضة الإسلامية، وكان من أبرز العاملين في هذا الميدان الشهير (ابن سيناء) الذي يعتبر من أعظم العلماء إلى عصرنا هذا، وكتابه (القانون) من أشهر المؤلفات الطبية التي سجلها التاريخ، وظلت هذه الموسوعة موجعاً للطب والصيدلة في كثير من بلاد العالم المتحضر، حتى أوائل القرن الثامن عشر، ولقد بدأت كتبه تترجم منذ أوئل القرن الثاني عشر، وذلك بعض دارساته أساساً لبرامج التعليم الطبي والصيدلي في إسبانيا وفرنسا وإيطاليا حتى النصف الأول من القرن الثامن عشر.

وقام (ابن البيطار) وهو أكبر علماء النبات من العرب، بدراسات موسعة على النباتات الطبية، وقام بإجراء التجارب عليها، وما كتبه (ديستوريدس) و (جالينوس) من الغرب و (الإدريسي والغافقي) من العرب.

رابعا ً: ولقد مهد علماء الأمة الإسلامية في عصور النهضة الإسلامية للصناعات الصيدلية نتيجة ملا قاموا به من دراسات في (فن التجهيز الدوائي) . ولقد وصف (أبو مروان بن زهر)"قالبا" توضع فيه المساحيق، لتخرج أقراصاً سهلة التناول، كما قام بدراسات لحفظ العقاقير فكان من أوائل الباحثين في هذا الحقل..

ص: 292

(وبعد) .. فهذا عرض موجز لجانب من جوانب النهضة الإسلامية التي عاشها المسلمون، لعدة قرون، وذلك عندما تأصلت العقيدة في نفوسهم، وهانت الحياة في عيونهم، ولانت الأسباب لعزائمهم.. فعلى أثر ظهور الإسلام في الجزيرة العربية، ظهرت أمة مسلمة، تولى أمرها: سيد الرسل وخاتم الأنبياء والمرسلين (محمد) صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، وفي أقل من 50 عاماً كانت الأمة الإسلامية من الهند وفارس شرقاً إلى المحيط الأطلسي وشمال إسبانيا غرباً، وأصبحت المدينة المنورة والكوفة ودمشق وبغداد والبصرة وسمرقند والقيروان والقاهرة وغرناطة وقرطبة وطيطلة مراكز الحضارة لهذه الأمة الإسلامية، وانضمت إلى هذه العواصم فيما بعد عواصم أخرى إسلامية: كالأستانة والقسطنطينية، ولقد بلغ المسلمون من المدنية والتقدم والحضارة درجة عظيمة لم يبلغها شعب من شعوب الأض في مثل هذه الفترة القصيرة. كما امتدت حضارتهم عدة قرون وأضاءت كل أرجاء المعمورة، وكانت النهضة العلمية التي بلغتها الأمة الإسلامية الأساس الذي قامت عليه النهضة الحديثة، ولو أنصف المؤرخون لقالوا: بأن النهضة الحديثة بدأت منذ النهضة الإسلامية واستمرت في تطور متصل بحيث يجب اعتبار النهضة الإسلامية والنهضة الأوربية جزءين متصلين للنهضة الحديثة المستمرة حتى يومنا هذا.

ولهذا فإن (قضية تصحيح تاريخ العلوم) ما زالت مطروحة على الفكر الإنساني بعامة، والفكر الإسلامي بخاصة، ومن الواجب على رجال التاريخ الدفاع عن هذه القضية بما يتيح للحقائق التاريخية أن تظهر وتسود، وبما يتيح لتاريخ الحضارة الإسلامية أن يأخذ مكانته اللائقة بين تاريخ الحضارات..

ص: 293

(وختاماً) آمل أن يكون في الحديث عن الحضارة الإسلامية ما يحفز الهمم، ويشد العزائم، ويقضي على حالة اليأس والاستسلام ويدفع المسلمين جميعاً إلى العمل الجاد، الخالص لوجه الله الكريم، حتى تأخذ الأمة الإسلامية دورها في ركب الحضارة وحتى تصبح: أمة قائدة لا مقودة، ومبتكرة لا مقلدة.. والله ولي التوفيق..

ص: 294

الإمام عبد الرحمن بن الجوزي

مثال الطالب المكافح والداعية الناجح

لفضيلة الدكتور جمعة علي الخولي

كلية الدعوة وأصول الدين

من رجالات الدعوة في القرن السادس الهجري عالم العراق الإمام أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي الحسن علي بن محمد المعروف بابن الجوزي، ولد سنة 510هـ وتوفي سنة 597هـ.

أمضى عبد الرحمن هذا طفولته يتيماً حيث توفي أبوه وله من العمر ثلاث سنين، وبعد وفاة أبيه أهملته أمه وانصرفت عنه، وتركته لعمته التي منتحته كل عطفها ورعايتها وكانت خير عوض عن فقده لرعاية أبيه أو عطف أمه عليه، بل لقد كان لحدب هذه العمة على ابن أخيها دخلٌ كبير فيما صار إليه ابن الجوزي فيما بعد عالماً مرموقاً وإماماً مشهوراً، فهي التي سهرت على خدمته وتعليمه.

ومن يدري، فلعله لو قدر وعاش أبوه لتغيرت حياته تبعاً لظروف عمل الأسرة فلقد كان أبوه وأهله تجاراً بالنحاس لم يشتغل أحد منهم بالعلم وغيره [1] .

ولقد صرح ابن الجوزي في مواضع من كتابه (صيد الخاطر) بأن أباه توفي وهو صغير وكان نوسراً وخلف له من الأموال الشيء الكثير، ولهذا نرى أنه يكثر الكلام على نفسه في أكثر من كتاب فيبين أنه نشأ في النعيم، وربي على الدلال، ولأنه قد حبب إليه العلم من زمن الطفولة، ولم يرغب في فن واحد بل رغب في كل فن من فنونه [2] .

إلا أن هذه الظروف من تيسُّر المورد والبسطة في الرزق وسعة الحياة لم تدم طويلاً، فرغم أن أباه قد أورثه مالاً كثيراً كان يتيح له أن يعيش هذه العيشة الناعمة لو أن الذين تولوا تربيته ورعايته في طفولته قاموا بما يحقق العدل ويحفظ له ماله حتى يبلغ رشده.

إلا أن أمه - كما ذكرنا - أهملته وتركته لعمته، وبدد الورثة ماله ولم يعطوه إلا عشرين ديناراً ودارين، وقالوا له هذا نصيبك من إرث أبيك، فاشترى بذلك كتباً [3] .

ص: 295

ثم إن همته في طلب العلم جعلته يصرف وقته وهمه في تحصيله، مستسهلاً الصعاب متحملاً للشدائد، قانعاً باليسير، حتى إنه يحدثنا عن نفسه بأنه لا يجد ما يقتات به إلا كسرات الخبز الجاف، ولا يجد ما يأتدم به إلا الماء البارد، ولكنه مع هذه الحياة الخشنة لم يتطلع إلى ما في أيدي الناس ولم يذل نفسه لأحد قال:"ولقد كنت أصبح وليس لي ما آكل، وأمسي وليس لي ما آكل، ما أذلني الله لمخلوق قط، ولكنه ساق رزقي لصيانة عرضي ولم يعوزني شيئاً من الدنيا بل ساق إليّ مقدار الكفاية وأزيد"[4] .

وأورث العلم في قلبه لذة فاقت كل لذة، وأنسته كل غصة قال:"ولقد كنت في مرحلة طلبي للعلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل لأجل ما أطلب وأرجو، كنت في زمن الصبا آخذ معي أرغفة يابسة فأخرج في طلب العلم وأقعد على نهر عيسى - نهر بغداد - فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء، فكلما أكلت لقمة شربت عليها شربة وعين همتي لا ترى لذة إلا لذة تحصيل العلم"[5] .

وقال أيضاً يخاطب ولده: "وما زال أبوك في طلب العلم، ولا خرج يطوف في البلدان كغيره من الوعاظ، ولا بعث رقعة إلى أحد يطلب منه شيئاً وأموره تجري على السداد [6] ، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} "[7] .

وهكذا فليتأس الدعاة وطلاب العلم..

على الواحد منهم أن يمتلك نفسه ويعف، وينطلق من قيود الرغبة والرهبة، ويرتضي لونا من الحياة بعيداً عن ذل الطمع، وشهوة التنعم، وحب الدنيا، ولله در القائل:

أمتُّ مطامعي فأرحت نفسي

فإن النفس ما طمعت تهون

ومن قول علي بن عبد العزيز القاضي رحمه الله تعالى:

ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي

لأخدم من لاقيت لكن لأخدما

أأشقى به غرسا وأجنيه ذلة

إذن فاتباع الجهل قد كان أحزما

ولو أن أهل العلم صانوه صانهم

ولو عظموه في النفوس لعُظما

ص: 296

ولكن أهانون فهان ودنسوا

مُحَيَّاه بالأطماع حتى تجهما

كما قيل لأعربي بالبصرة من سيدكم؟

قال: الحسن، يقصد الحسن البصري رحمه الله..

قال: بم سادكم؟ قال: احتاج الناس إلى علمه واستغنى هو عن دينارهم.

منزلة ابن الجوزي في الوعظ:

اشتغل ابن الجوزي بالوعظ قرابة قرن من الزمان، وقد بلغ فيه شأواً بعيداً حتى اشتهر بذلك وعرف به.. قال ابن كثير: "تفرد بفن الوعظ الذي لم يُسبق إليه ولا يلحقُ شأوه فيه، وفي طريقته وشكله، وفي فصاحته وبلاغته وعذوبته وحلاوة ترصيعه، ونفوذ وعظه، وغوصه في المعاني البديعة، وتقريبه الأشياء الغريبة بما يشاهد من الأمور الحسية بعبارة وجيزة سريعة الفهم والإدراك بحيث يجمع المعاني الكثيرة في الكلمة اليسيرة. [8]

وكان يسمع وعظه مرة الخليفة المستضيء العباس فالتفت إلى ناحيته وهو في درسه وقال: يا أمير المؤمنين، إن تكلمت خفتُ منك، وإن سكت خفتُ عليك، وإن قول القائل لك: اتق الله خير له من قوله لكم: أنتم أهل بيت مغفور لكم.. ثم زاد قائلاُ: "لقد كان عمر بن الخطاب يقول: "إذا بلغني من عامل ظلم فلم أغيره فأنا الظالم، كما كان رضي الله عنه يضرب بطنه عام الرمادة ويقول:"قرقري أولا تقرقري فو الله لا ذاق عمرُ سمناً ولا سمينا حتى يطعم سائر الناس".

فبكى المستضيء وتصدق بمال كثير، وأطلق المحبوسين، وكسا خلقاً من الفقراء.. [9]

ومن مناجاة ابن الجوزي: "إلهي لا تعذب لسانا يخبر عنك، ولا عينا تنظر إلى علوم تدل عليك، ولا قدماً تمشي إلى خدمتك، ولا يداً تكتب حديث رسولك، فبعزتك لا تدخلني النار فقد علم أهلها أني كنت أذب عن دينك"..

ص: 297

ومن أجوبته الموفقة ما ذكره ابن خلّكان من أنه وقع نزاع ببغداد بين أهل السنة والشيعة في المفاضلة بين أبي بكر وعلي رضي الله عنهما، ورضي الكل بما يجيب به الشيخ ابن الجوزي، وتوجهوا إليه بالسؤال وهو في مجلس وعظه، فقال:"أفضلهما من كانت ابنته تحته"، ثم نزل في الحال حتى لا يراجع في ذلك.. فقالت السنية: هو أبو بكر؛ لأن ابنته عائشة رضي الله عنها تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت الشيعة: هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تحته"، قال ابن خلكان: "وهذه من لطائف الأجوبة، ولو حصل بعد الفكر التام وإمعان النظر كان في غاية الحسن فضلاً عن البديهة". [10]

ابن الجوزي وابن قم الجوزية:

ذكر الذين أرّخوا لابن الجوزي أنه كان له من الأولاد الذكر ثلاثة، أكبرهم عبد العزيز، وقد مات شاباً في حياة والده سنة 554، والثاني أبو القاسم علي الذي ألف له رسالة (لفتة الكبد في نصيحة الولد) وكان يأمل أن ينبغ في العلم وينهج سيرة أبيه، لكن ما أراد الله له ذلك، بل قد ذكر بعض المؤرخين أن هذا الولد كان عاقاً له، وكان يتسلط على كتبه فيبيعها بأبخس الأثمان.. والثالث هو أصغرهم محي الدين يوسف، ذكروا أنه كان أنجب أولاده، اشتغل بالدعوة والوعظ على طريقة أبيه، وباشر الحسبة في بغداد، ثم صار رسول الخلفاء إلى الملوك بأطراف البلاد، وفي آخر حياته أسندت إليه أستاذية دار الخليفة المستعصم العباسي، وقتل معه سنة 656 أيام الغزو التتري على المسلمين واستيلاء هولاكو على بغداد.

ص: 298

ومحي الدين يوسف هذا هو الذي بنى المدرسة الجوزية بدمشق.. وإلى هذه المدرسة ينسب والد الإمام ابن القيم لأنه كان قيماً عليها، وبعض الناس يخلطون بينه وبين ابن الجوزي حتى أنه طبع كتاب أخبار النساء لابن الجوزي ونُسب إلى ابن قيم الجوزية وذلك من غفلة النساخ ودور النشر.. مع أن بين وفاة ابن الجوزي ووفاة ابن قيم الجوزية ستين سنة والأول بغدادي والثاني دمشقي. [11]

دروس من حياة ابن الجوزي لطلاب العلم ودعاة الإسلام:

إن حياة ابن الجوزي لتعد قدوة لطالب العلم، ونموذجاً للعالم المسلم والواعظ المرشد ونوضح ذلك في الآتي:

1 – الصبر على متاعب التحصيل وحياة الشظف، والاشتغال بلذة العلم وحلاوة المعرفة فإن في ذلك سلوى عن كل مفقود، وقد رأيت ابن الجوزي كان لا يجد ما يأتدم به فيأخذ الرغيف اليابس ولا يأكله إلا عند الماء ليستعين به على بلع الطعام، ومع ذلك حول كل همته إلى طلب العلم.

2 -

إدمان القراءة وكثرة المطالعة.. ولقد حاول ابن الجوزي جاهداً وصادقاً أن يقرأ كل ما تقع عليه عينه، وهكذا الطالب المجد، والداعية الحصيف، إنه مدمن قراءة، وصديق للكتاب به يأتنس، وله يلازم الصحبة، ولسان حاله يقول:

أنا من بدل بالكتب الصحابا

لم أجد لي وافياً إلا الكتابا

يقول ابن الجوزي: "سبيل طالب الكمال في طلب العلم الاطلاع على الكتب، وأن يكثر من المطالعة، وعلى الفقيه أن يطالع من كل فن طرفاً من تاريخ وحديث ولغة وغير ذلك، فإن الفقيه يحتاج إلى جميع العلوم فيأخذ من كل شيء منها مهماً.."[12] .

ثم يقول مخبراً عن نفسه وحاله: "ما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتاباً لم أره فكأني وقعت على كنز، ولو قلت: إنني طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر وأنا بعد في الطلب"، أي في مرحلة طلبه العلم.

ص: 299

3 -

وكان من نشاطه العلمي أن يسعى إلى العلم حيث وجد لا يضن بمجهود مهما عظم يقول: "لم أترك أحدا ً ممن يروي ويعظ، ولا غريباً يقدم إلا وأحضره، وأتخير الفضائل، ولقد كنت أدور على المشايخ للسماع فينقطع نفسي من العدو لئلا أسبق". [13]

4 -

ومما ينبغي أن يلتفت إليه، أن ابن الجوزي كثيراً ما كان يهتم بالربط بين العلم والعمل ربطاً وثيقاً، ومن نصيحته لابنه "إياك أن تقف صورة مع العلم دون العمل به، فإن أقواماً أعرضوا عن العلم بالعمل فمنعوا البركة والنفع به، وعلى قدر انتفاعك بالعلم ينتفع السامعون، ومتى لم يعمل الواعظ بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما يزل الماء عن الحجر) . [14]

5 -

وكانت الأمانة العلمية جزءاً من منهجه يقول: "وإذا سئلت عما لا تعلم فقل الله أعلم"وكان يعيب على العلماء الذين يفتون بلا علم حفظاً للمظاهر، ومن كلامه "إن كثيراً من العلماء يأنفون من قول (لا أدري) فيحفظون بالفتوى جاههم عند الناس لئلا يقال جهلوا الجواب، وإن كانوا على غير يقين مما قالوا.. وهذا نهاية الخذلان، وقد روي عن مالك بن أنس رحمه الله أن رجلاً سأله عن مسألة فقال: "لا أدري"، فقال: "سافرت البلدان إليك! "فقال: "ارجع إلى بلدك وقل سألت مالكاً فقال: لا أدري".

فانظر إلى دين هذا الرجل وعقله، كيف استراح من التكلف، ومن إثم القول بغير علم".

6 -

وكان يكره الجدال في المسائل التي تثير الفرقة بين المسلمين وتبلبل أفكارهم، يقول في منهاج القاصدين تحت منكرات المساجد:"ومن ذلك ما يجري من الوعاظ في المساجد من الأشياء المنهي عنها كالخوض في الكلام الموجب للفتن والاختلاف".

7 – وكان يتطلب الدليل على كل ما يلقى إليه، أو يسمع به، أو يطالعه، ولا يخضع لتزييفات ولا ينخدع ببريق الأسماء، وإنما كان يقول كما قال الإمام علي رضي الله عنه "إن الحق لا يعرف بالرجال، ولكن اعرف الحق تعرف أهله".

ص: 300

وبعد.. فبهذا النشاط، وبهذه الرغبة في تحصيل العلم والاستهانة في سبيله بكل مجهود، وبهذا الإدراك الواعي لمسئولية الداعي، كوّن ابن الجوزي شخصيته العلمية وصار فيما بعد عالم العراق، وواعظ الآفاق، حتى رووا أنه كان يحضر مجلس وعظه أكثر من مائة ألف [15] ، ولست أري كيف كانوا يسمعون صوته، ويفهمون منه، ولم تكن مكبرات صوت ظهرت يومئذٍ، وحق للذهبي أن يقول:"لا ريب إن كان هذا وقع فإن أكثرهم لا يسمعون مقالته".

ولقد أثرى رحمه الله المكتبة الإسلامية، بمؤلفاته الكثيرة المتنوعة، في التفسير والحديث والوعظ والأدب والتاريخ واللغة.. وغير ذلك

ومما نوصي بقراءته من مؤلفاته في المجال الوعظ والدعوة إلى الله ما يلي:

1 -

كتاب صيد الخاطر بتحقيق الشيخ محمد الغزالي، أو بتحقيق الأستاذ علي الطنطاوي.

2 -

كتاب بستان الواعظين ورياض السامعين.

3 -

كتاب الطب الروحاني.

4 -

كتاب ذم الهوى، بتحقيق د. مصطفى عبد الواحد، ومراجعة الشيخ محمد الغزالي.

5 -

كتاب منهاج القاصدين، وقد اختصره المقدسي في كتاب (مختصر منهاج القاصدين) ..

هذا.. ولقد أسلم علي يدي هذا العالم الجليل وتاب عدد كثير.. يقول في آخر كتاب (القصاص والمذكرين) : "ما زلت أعظ الناس وأحرضهم على التوبة والتقوى، فقد تاب على يدي إلى أن جمعت هذا الكتاب أكثر من مائة ألف رجل، وقد قطعت من شعور الصبيان اللاهين أكثر من عشرة آلاف طائلة، وأسلم على يدي أكثر من مائة ألف". [16]

فلله دره من رجل.. فقد عاد بخير كثير على الإسلام والمسلمين..

ليت الدعاة يتأسون، والله المستعان..

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

لفتة الكبد في نصيحة الولد لابن الجوزي، والبداية والنهاية لابن كثير أحداث 597.

ص: 301

[2]

انظر: (صيد الخاطر)، الفصل: 21، ومقدمة التحقيق لعلي الطنطاوي /24.

[3]

صيد الخاطر لابن الجوزي.

[4]

صيد الخاطر لابن الجوزي.

[5]

صيد الخاطر لابن الجوزي.

[6]

لفتة الكبد في نصيحة الولد لابن الجوزي.

[7]

سورة الطلاق: 2،3..

[8]

البداية والنهاية حوادث سنة 587.

[9]

المرجع السابق.

[10]

وفيات الأعيان 2/322.

[11]

انظر مقدمة صيد الخاطر لعلي الطنطاوي /37.

[12]

هذه النصوص من كتاب صيد الخاطر لابن الجوزي.

[13]

هذه النصوص من كتاب صيد الخاطر لابن الجوزي.

[14]

هذه النصوص من كتاب صيد الخاطر لابن الجوزي.

[15]

بل لقد قال ابن الجوزي نفسه في وصف أحد مجالسه الوعظية: "لو قيل: إن الذين خرجوا يطلبون المجلس وسعوا في الصحراء بين باب البصرة والحربية مع المجتمعين في المجلس كانوا ثلاثمائة ألف ما أبعد القائل"، وكل هذا من باب التقدير لا التحقيق.

[16]

كما صرح بذلك في مواضع من صيد الخاطر، وفي رسالته المسماة (لفتة الكبد) .

ص: 302

ترجمة الشيخ عبد الرحمن الإفريقي

لفضيلة الشيخ عمر بن محمد فلاته

الأمين العام للجامعة الإسلامية

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف خلقه وأفضل أنبيائه ورسله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.. أما بعد..

فإن حديثي معكم في هذه الليلة [1] يتعلق بترجمة شخصية كريمة، اتصفت بالعلم والحلم، والفضل والنُّبل، وامتازت بخصال فريدة هيأها الله تعالى لها، وحديثي عنها يعتبر غيضاً من فيض.

ولا أكتمكم أن عنوان هذا الموضوع لم أخترعه بادئ ذي بدء، إنما اختير لي من قبل الجهة المسؤولة عن المحاضرات، ونعم الاختيار كان، وأتوقع أنكم لن تسمعوا غريباً، ولن تقفوا على ابتكار أو اختراع وتجديد، وإنما أرجو أو يوفقني الله تعالى على أن أقوم بالتعبير عما تكنّه النفس من حب ووفاء، واعتراف بالجميل لأصحابه.. وأنعم بالحب الذي يكون لله وفي الله

فلقد صح في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله"، وذكر منهم "رجلين تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه".

وأرجو أن أوفق لإجلاء صورة الشخصية على حقيقتها، وفي نظري أنها من الأمثلة التي تحتذى.

وإنه لمن فضل الله على عباده أن قرْننا هذا حظي بطبقات غير قليلة من العلماء ذوي علم وبصيرة، وصدق وتقوى، نشروا العلم والدين والهدى والرشاد. ولم يخل قطر من الأقطار الإسلامية من عالم أو فقيه أو محدث أو داعية، يتلو الخالف منهم السالف، محافظين على سلامة شرع الله من عبث العابثين، وكيد الكائدين.

ص: 303

وليس بدعاً أن أقوم بترجمة لعالم حري أن تظهر آثاره، وتنشر أخباره، وقد شحنت المكتبات الإسلامية بتراجم وسير الأعلام من الرجال من عصر الصحابة رضوان الله عليهم، بل إن الحفاظ من النسابين في الجاهلية قد حفظوا الأنساب، وسير أبطالهم، وأفذاذهم، وأخيار أيامهم، وأذاعوا ذلك وأشاعوه في محافلهم ومنابر أسواقهم، فنقل ذلك عنهم الرواة، ودوّن ذلك الكتاب والأدباء والإخباريون.

ولم تكن الكتابة عن أي شخص وافية كاملة إلا بتعدد الكتاب واستخلاص الحقائق من مجموع ما كتب عنه. وها أنا الآن أسهم بقلمي للقيام بترجمة عالم جليل، وقرنٍ نبيل، شيخنا الشيخ عبد الرحمن بن يوسف الأفريقي الففوي مولداً، والمدني مهاجراً، والمحدث مسلكاً والفلاني نسباً.

أقول إن الترجمة سنة العلماء، ومنهج أهل الحديث النبلاء بل إن السند والإسناد من ميزة هذه الأمة المحمدية، وهذه المكتبة الإسلامية حافلة بكتب تراجم الصحابة وغيرهم كطبقات ابن سعد والاستيعاب، وأسد الغابة والإصابة، وتاريخ البخاري الكبير والصغير، وكتب ابن حبان وابن عدي والدارقطني والدواليبي والتهذيب وتهذيبه والتقريب والخلاصة، والإكمال والتكملة، وغيرها من كتب التراجم للأدباء والشعراء والقراء والفقهاء.

ص: 304

ونظراً إلى أن أحق الناس بالكتابة عن العالم المذكور هم أبناؤه وتلاميذه فإني أرى لزاماً القيام ببعض ذلك، وقد أكرمني الله تعالى بصحبته وطول ملازمته، وكثرة مرافقته، وسمعت منه في المسجد النبوي ودار الحديث بالمدينة المنورة وفي الحضر والسفر والاستقرار وأعدكم أني لا أنطلق مع العاطفة إلى حد المبالغة بناءً على أنه شيخي ووالدي الروحي وذلك لأني مستحضر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله"، وقوله لعبد الله الشخير رضي الله عنه وقد قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم:"أنت سيدنا"– فقال: "السيد لله تبارك وتعالى"، قلنا:"وأفضلنا"، فقال:"قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستحوذنكم الشيطان". رواه أبو داود بسند جيد.

وفي حديث أنس رضي الله عنه: "أن أناساً قالوا لرسول الله: "يا خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا"فقال: "يا أيها الناس قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل". رواه النسائي بسند جيد، وقوله: "إذا رأيتم المدّاحين فاحثوا على وجوههم التراب".

ميلاده ونشأته:

ص: 305

ولد رحمه الله عام 1326هـ في بلاد مالي من قارة إفريقيا الغربية، بقرية تسمى (فَفَا) من أبوين كريمين أنجبا من الأولاد الكثير من الذكور والإناث لم يعش منهم غير المترجم له وأخوه الأكبر، وكان أبوه من بيت الإمارة والحكم الذي لم يزل حتى اليوم يتداوله آله. ونشأ في تلك الربوع مع أترابه يستنشق هواء الصحراء، ويمتع ناظريه بالفضاء الواسع الذي لا يردهما إلا النهر الذي جعل القرية جزيرة. وكانت هذه الفترة فترة بؤس وبلاء على أهل تلك الديار؛ لأن المستعمر الفرنسي قد قبض بكلتا يديه على هذه البلاد، وانقض عليها انقضاض الأسد على الفريسة، بعد أن جرت بينه وبين الأهالي العزل من السلاح حروب انتهت باستعماره البلاد والعباد، وفرض سلطته عليهم قهراً شأن غيرها من البلاد التي اقتسمها الأوربيون من الانجليز والبلجيكيين والبرتغاليين والألمان.

وذلك لأنهم علموا ما امتازت به أفريقيا الخضراء من جودة التربة وكثرة المياه، وجمال الطبيعة، ووفرة الأقوات والأرزاق والمعادن، وقام البعض منهم بالقرصنة، وبعض الأعمال التي لا يقرها شرع، ولا خلق ولا وازع إنساني، ولقد قال عنها بعض الرحالة المحدثين:"إنها القارة الافريقية الخضراء زينة القارات ومستودع الكنوز والثروات، ومنبع للرجولات والبطولات".

ص: 306

دخلها الإسلام أول ما دخلها قبل أن يعرف العالم الغربي والشرقي، وقام الإسلام فيها بدوره الحضاري في أقطارها الشرقية والوسطى والغربية والشمالية، وإن الديانة الكبرى اليوم السائدة فيها هي الإسلام ومع ذلك فإن أفريقيا المسلمة لا تزال مجهولة لدى العالم الغربي والإسلامي، ومجهول ما فيها من كنوز وخيرات وثروات يانعات، أقول إنه مع الأسف، لم يعرفوا أن هناك أمة يتوجهون إلى كعبة الله، ويتبعون رسول الله، ويتألمون لآلام الأمة التي بعث فيها رسول الله مع أن أول اتصال بأفريقيا الشرقية كان على عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم حينما أمر أصحابه الكرام بالهجرة إلى الحبشة، وقال لهم حينما اشتد عليهم الأذى من مشركي مكة:"اخرجوا إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم مخرجاً مما أنتم فيه"، واستطاع الصحابة رضوان الله عليهم أن يزرعوا بذور الإيمان هناك، وينشروا دين الإسلام حتى أسلم النجاشي نفسه ملك الحبشة آنذاك.

ولما جاء نعيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يخرجوا إلى المصلى فصف أربعة صفوف، وصلى عليه وهو غائب. وعلى ذلك فإن البلاد الأفريقية قد دخلها الإسلام والمسلمون من صحابة رسول الله قبل أن يدخل أية بلد بعد مكة، أما شمال أفريقيا وغربيها فقد بدأ الفتح فيها على عهد عثمان بن عفان الخليفة الراشد رضي الله عنه، فقد أخرج سنة 27هـ عشرين ألفاً من الصحابة والتابعين يقودهم عبد الله بن أبي السرح وقطعوا مفاوز برقة وطرابلس ثم دخلوا افريقيا، ومنّ الله على المسلمين بالفتح، وكان الأعداء قد خرجوا عليهم بمائة ألف مقاتل، واستشهد لله رجال من المسلمين، وتم النصر، وفتحت تونس وكانت تسمى أفريقيا، وعاد عبد الله بن أبي السرح إلى مصر بعد أن أقام بأفريقيا سنة وشهرين، وقد عرفت هذه الغزوة بغزوة العبادلة لأنه قد شارك فيها سبعة من الصحابة كلهم يدعى عبد الله وهم:

ص: 307

(1)

عبد الله بن عمر. (2) عبد الله بن الزبير. (3) عبد الله بن عباس. (4) عبد الله بن جعفر. (5) عبد الله بن عمرو بن العاص. (6) عبد الله بن مسعود. (7) عبد الله بن أبي السرح.

وفي عهد معاوية بن أبي سفيان بعث جيشاً كبيراً بقيادة معاوية بن خديج الكندي عام 45 فغزا أفريقيا ثلاث غزوات، وعين يزيد بن معاوية وقيل أبوه معاوية عقبة بن نافع الفهري الذي تم له التوغل في غرب أفريقيا وقال البربر، وبلغ إلى المحيط: وناجى ربه عند المحيط بعد أن أدخل قوائم فرسه في البحر قائلاً: "اللهم لو كنت أعلم أن أحداً وراء هذا المحيط من الخلق لمضيت مجاهداً في سبيلك"ثم عاد - ويومها لم تكن أمريكا مذكورة ولا أخبارها معلومة -.

ولقد عدّد السيوطي رحمه الله في كتابه (درُّ السحابة فيمن دخل مصر من الصحابة) ، وفي كتابه (حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة) - عدد أسماء جملة من الصحابة، الذين وطئت أقدامهم بلاد مصر وهي من القارة الإفريقية، وطؤوها داعين الخلق إلى عبادة الخالق، وترك عبادة المخلوق، ولم يدخلوها دخول المستعمرين الذين أكلوا الحرث والنسل، والذين أفسدوا العقائد والفطر، وأشاعوا فيها الكنائس والبيع لاتخاذ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله.

ص: 308

ولقد ذكر التاريخ أن عقبة بن نافع الذي سبقت الإشارة إلى ذكره أو عقبة بن ياسر أو عقبة بن عامر قتله كَسيلة بن كزم البربري وهو عائد إلى القيروان من غزوة غزاها لنشر دين الله سنة 63هـ، وخلف فيها أولاداً ينتمي إليهم الفلاتنون، كما ذكر ذلك صاحب كتاب (تعريف العشائر والخلان بشعوب وقبائل الفُلاّن) والله أعلم بحقيقة الحال. قال رحمه الله:"وفي كتاب الاستيعاب في أسماء الأصحاب لابن عبد البر المغربي المالكي (عقبة بن نافع بن عبد قيس الفهري) وفدَ على عهد النبي، وكان ابن أخت عمرو بن العاص فولاّه افريقية، وافتتح غدامس وكُوراً من السودان وودّان وبلاد البربر، وغزا السويس القصوى، وكان مستجاب الدعوة، قتله كسيلة بن كزم سنة 63هـ" اهـ. من كل هذا يعلم أيضاً أن صلة تلك البلاد بالبلاد العربية وأهلها ألصق، ونسب بعض جذاميرها بهم أقرب، كيف لا وقد ربط الله بينهم الإسلام، وجعل وشيجته أقوى الوشائج، وصلته أعظم الصلات.

وما أحسن قول العلامة الأستاذ أبي الحسن الندوى قال: "وقد عقد الله بين العرب والإسلام، ثم بين الحجاز والأمة الإسلامية، ثم بين الحرمين الشريفين وقلوب المسلمين للأبد، وربط مصير أحدهما بالآخر".

لذا فإن الشعوب المسلمة في أفريقيا عندما حل ببلادها المستعمر اعتبروا تلك الفترة فترة بلاء، وأيام نحس ـ وساعات بؤس، وآثروا الموت على الحياة.

ص: 309

وفي هذا الوقت ولد الشيخ عبد الرحمن الافريقي المترجم له، وشب عن الطوق، ولما بلغ سن التمييز بعثه والده إلى فقيه القرية الذي يسمى ألفا ليلقنه بعض سور القرآن الكريم ويعلمه بعض الأحكام المبسطة من الكتب الفقهية المتداولة، وظهرت عليه ملامح النجابة، ولم يمض كبير وقت حتى اختاره حكام البلاد المستعمرون للتعليم في مدارسهم التي افتتحوها في تلك البلاد، وأخذ قهراً عن والديه ضمن عدد من أبناء الأعيان، فازداد البلاء ، وتفاقم الخطب على والديه وآله لاعتقادهم أنه لا يرجى الخير من شخص تربى على أيدي أعداء الله، وتثقف بثقافتهم ولكن الله غالب على أمره {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} وشاء الله أن يشتغل الفتى بدروسه، ويهضم معلوماته، ويكون النجم اللامع بين أقرنه، وينال الشهادات الدراسية التي تدل على تفوقه وجدارته مما جعله يختار للعمل مدرساً ثم موظفاً مسؤولاً في الأنواء الجوية. ولما دنت ساعة الظفر، وحانت ساعة السعادة والكرامة جرى بينه وبين مدير إدارته حديث في شأن الإسلام وواقع المسلمين، ونثر الخصم ما في جعبته من السموم، ورمى الإسلام الجمود والتخلف، وذكر له أن الإسلام دين لا يصلح للعالم، وتعاليمه لا تهذب النفوس وإنما هو منهج يكتبل الحريات، ويدعو إلى الوهم والخيالات، واستدل بواقع المسلمين وما هم عليه من التخلف والذل، وركونهم إلى الطلاسم والسحر والحجب واعتمادهم على الجن والكهان، والكواكب والحروز والأصنام، مما أدى الأوربيين إلى احتلال البلاد لإسعادهم، وانتشالهم من وهدة التخلف التي هم عليها، وقام يدلل على ذلك بالكثير والكثير من الأدلة التي نمقها المبشرون، وكادوا بها الإسلام والمسلمين، فلم يستطع الفتى حينها من أن يقنع الخصم، ولا أن يدافع عن دينه وعقيدته، لا سيما وأنه خال الوفاض بعيد عن العلم والعلماء والفقه والفقهاء، ولو كان مع أهل العلم والفقهاء فإن العلم في تلك البلاد وما شابهها لا يعدو

ص: 310

حفظ القرآن. والمرور على بعض الرسائل في فقه الإمام مالك رحمه الله، ومنظومات شعرية في المديح النبوي باللغة المحلية والعربية، وعزم على أن يتصل بعلماء قريته ليقف على الحجج التي يرد بها على المجادل الخانق المعلم فلم ينل بغيته، ولم يحصل على طلبته، فامتلأت نفسه حسرة وندامة، وقرر السفر إلى الحرمين الشريفين، وهو يرى في كل عام المسافرين والآتين من مكة بدعوى أداء الحج، وقرر البقاء فيهما برهة من الزمن ليتفقه في دينه، ويتسلح بسلاح يقارع به الخصم، وينازل به العدو الذي طعن في عقيدة الإسلام وفي صدق رسالة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.

وأرى أن أقف ههنا وقفة قصيرة لأذكر السامع الكريم بأن أعداء الإسلام من اليهود والنصارى وغيرهم منذ مئات السنين فكروا وقدروا، ودبروا الكثير من المؤامرات ضد الإسلام والمسلمين، ولمكافحة دعوته، وكسر شوكته؛ لأنهم علموا أنه لم تنكس له راية، ولم ينهزم في معركة - لما كان المسلمون على بصيرة من دينهم وعلى صلة بربهم - فأجمعوا كيدهم، وانطلقوا يضعون المخططات لمحاربة الإسلام، وإبعاد المسلمين عن حقيقة ما جاء به.

ومن تلك الخطط:

1-

فتح المدارس الاستشراقية في بلاد المسلمين.

2-

إرسال القسيس والرهبان ليشرفوا عليها.

3-

غسل اذهان أبناء المسلمين وتشكيكهم في دينهم.

4-

الهيمنة على برامج التعليم في البلاد الإسلامية.

5-

إحياء الحضارات القديمة القومية لإبعاد المسلم عن حضارته الإسلامية.

6-

تشويه التاريخ الإسلامي والتشكيك في حوادثه والطعن فيها.

7-

العمل على إخراج المرأة المسلمة من بيتها بدعوى الحرية والتقدمية، وأنها شقيقة الرجل.

8-

إشغال الرجال بها، وإخراجهم من مثلهم وآدابهم وأعرافهم وأخلاقهم بواسطتها.

9-

تشجيع الطرق المنحرفة وإلباس مقدميها هالة من التقديس والتقدير وإعطائهم الصدارة والرفع من شأنهم.

ص: 311

10-

الإكثار من المؤتمرات المسيحية لمكافحة الإسلام.

11-

الإكثار من المناسبات المختلفة في بلاد المسلمين باسم الذكرى والعبرة لإيقاعهم في المشابهات المذمومة، والابتداع في شرع الله.

12-

محاربة القرآن العظيم كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بطبعه محرفاً، وترجمة معانية ترجمة باطلة لإثارة الجدل ونقده.

13-

شن الافتراءات الباطلة على الإسلام لتشويه حقائقه تحت ستار العلم والبحث التكنولوجي المجرد. وغير ذلك كثير وكثير.

وفي أفريقيا بالذات الإكثار من الإرساليات التبشيرية، وإشاعة الكنائس الكبيرة فيها، وإعطاء من اختاروه من الأفارقة الرتب المسيحية لإغراء الرعاع والحطمة في التوغل فيها، وإدخال اللهو وبعض الشهوات في الكنيسة، وتخفيف بعض التعاليم المسيحية إلى درجة الإباحة بدعوى التسامح وإظهار أن الإسلام هو دين القسوة والتعنت والشدة، وبث المحطات الإذاعية القوية للتبشير بالمسيحية، وتشويه سمعة البلاد بأنها بلاد الوحوش والعراة والأدغال، وأكلة لحوم البشر ليتفردوا بخيراتها.

هذا وقد دخلوا في ربوع أفريقيا منذ خمسمائة عام - والعالم العربي المسلم غالبه يجهل إخوانه المسلمين في تلك البلاد، ويدع السرطان الخبيث يفتِكُ في عقائد أمة لو وجدوا مجدداً داعياً ناصحاً، وواعظاً مخلصاً لالتفوا حوله وسلموا الزمام له، واستجابوا لدعوته - وما أمر دعوة التضامن الإسلامي التي قام بها جلالة الملك فيصل رحمه الله، والتفاف زعماء أفريقيا مسلمهم وكافرهم حينما علموا إخلاصه وصدقه - ما أمرها عنا ببعيد.

إذاً فلا عجب من أن يسمع الشيخ الأفريقي رحمة الله عليه من ذلك الفرنسي ما لا يريد أن يسمعه عن الإسلام، وأن يعقد العزم على الرحيل إلى منازل الوحي، ومهبط الرسالة ليتلقى من علماء المسلمين فيها بعد أداء الحج - ما يدحض به الباطل، ويتزود من الدلائل والبيانات ما فيه شفاء ورحمة للمؤمنين.

ص: 312

إنها لهمة عالية ونية صادقة، وغيرة لله خالصة انبعثت من شاب مسلم لم يبلغ يومها العشرين عاماً، يصبر على مفارقة الآباء والأقرباء، والأنداد والأحباء، والوطن والمنصب، والحال أنه أصبح شخصاً مرموقاً يشار إليه بالبنان، قد ينال في المجتمع مرتبة يغبطه عليها أترابه من أبناء الزمان، ولكن الأمر كما قال الله تعالى:{وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ..} الآية، (الزمر: 37) .

وصول الشيخ إلى الحرمين الشريفين

ولقد نفّذ خطته فعلاً، ووصل إلى مكة عام 1345 هـ وأدى فريضة حجه، وعندما وصل إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم اتصل بعالم جليل من أبناء جنسه وعشيرته يدعى الشيخ سعيد بن صديق، وكان يشتغل بالتدريس في المسجد النبوي، واشتهر بالعلم والإخلاص والصدق والتواضع، والكرم واللطف والنبل - ووصفه الأستاذ محمد بن سعيد دفتدار عندما ترجم له بقوله:"ولد عام 1310هـ وتوفي عام 1353هـ، وتخرج في العلم علي يدي الشيخ ألفا هاشم، وتربى في كفالته ولد في بلاد فلانة في بلدة قابيور فجدّ في طلب العلم من الشيخ ألفا حتى نال حظاً وافراً من العلم.."، إلى أن قال:"وفي الحرب العالمية الأولى ظل بالمدينة المنورة صابراً على لأوائها، ولما توفي الشيخ ألفا هاشم عام 1349هـ أخذ الشيخ سعيد مكانه وتصدى للتدريس في الفقه والحديث النبوي والتوحيد السلفي. وفي العهد السعودي اتصل بالشيخ عبد الله بن بلهيد فلما تحقق من فضله وعلمه عين مدرساً في المسجد النبوي، وعضوا في هيئة الأمر بالمعروف، وانتفع بعلمه كثير منهم الشيخ علي بن عمر والشيخ محمد قوني، وتوفي يوم الجمعة في رجب عام 1353هـ".

ص: 313

هذا هو الرجل الأول الذي اتصل به المترجم له في المدينة المنورة، وبالحقيقة فقد انتفع منه علماً، وخلقاً ونبلاً، وكان اتصاله به بمثابة تحول من حال إلى حال، وحياة إلى حياة، وبدأ يتعلم اللغة العربية من ألفها وساعده على سرعة التحصيل إخلاصه أولا بعد توفيق الله، وجده واجتهاده وثقافته الفرنسية التي هونت عليه الكثير من الأمور.

ولقد مكث الشيخ الأفريقي مع شيخه سعيد المذكور مدة قرأ فيها القرآن وشيئاً من كتب الفقه المالكي كمتن العشماوي، والأخضري، وابن عاشر والأزهرية وشيئاً من شروحها، ومتن الرسالة وبعض شروحها، ودرس عليه العقيدة السلفية وشيئاً من كتب الحديث كالأربعين النووية، والمختارة من الأحاديث للهاشمي، وجزء يسير من بلوغ المرام.

ص: 314

بعد ذلك حن إلى وطنه، وظن أنه قد حاز من العلم ما يهيئ له مقارعة الأعداء بالحجة والبيان، واستأذن شيخه في العودة إلى البلاد بعد أدائه الحجة الثانية وهو لا يدري ما سبق في قدر الله من الخير - ولما فرغ من أداء المناسك اجتمع بشيخ جليل من بني قومه يقيم بجدة وجرى نقاش علمي في مسألة فقهية فأدلى دلوه، وتقدم في الحديث على جلسائه، وسرد النصوص التي يحفظها من الكتب التي قرأها فقال له الشيخ: يا بني - وبكل بساطة وهدوء – "إن هذه المسألة ورد فيها حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالف النصوص التي ذكرت، ويدل على غير ما قرأت"، وقرأ عليه حديثاً ملك مجامع قلبه، وألجم لسانه، وفند حجته، وامتلأ مهابة، وقال: إذاً، علام خالفت المتون هذا الحديث؟! فقال الشيخ:"يا بني، إن جميع المتون وكل الكتب تابعة لأقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما سمعت ما قال الإمام مالك، وهو يرد فتوى سمعها عن أمير المؤمنين عمر: "كل كلام فيه مقبول ومردود سوى كلام صاحب هذا القبر وأشار إلى حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يقول:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِر} . (النساء: 59) ".

ومن يومها قرر عدم السفر وكان يقول: "فأجمعت أمري على العودة إلى المدينة المنورة لأتقوى في دراسة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونظرت إلى زملائي المسافرين نظرة مودع مفارق فراق غير وامق، وقلت في نفسي: إذا كان ما تحصلت عليه لا يقنع مسلماً ليعود عما هو عليه، فلأن أعجز عن إقناع الملحد المعاند من باب أولى، وقلت لهم: بلغوا آلي أنني لن أعود إلى البلاد حتى يأذن الله، وغربة عن الأوطان في سبيل العلم والمعرفة خير من إقامة سعيدة بالأوطان على جهل وتبعية".

ص: 315

وأنا أدعك لتتصور لأواء الغربة، والحنين إلى الأوطان والصحبة، وأدعوك إلى أن تقرأ كتاب الحنين إلى الأوطان عل ذلك يدعو الطلاب للجد والاجتهاد والحرص على الفوز والنجاح في الدور الأول - إن شاء الله - ليتمكنوا من السفر في العطلة الصيفية، ويبلوا الصدأ، ويقضوا النهمة، ويعودوا بعد ذلك إلى الجامعة وهم أسعد حالاً، وأهدأ بالاً، وأزكى قلباً. والله المستعان.

وأسمعك ما قاله بلال بن رباح رضي الله عنه عندما هاجر، وأصابته الحمى واشتد عليه الأمر، كان يرفع عقيرته ويقول كما روت عائشة:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة

بوادٍ وحولي إذخر وجليل

وهل أردنّ يوماً مياه مجنةٍ

وهل يبدونّ لي شامة وطفيل

قالت: أما أبو بكر رضي الله عنه فكان إذا اشتدت به الحمى يقول:

كل امرئ مصبح في أهله

والموت أدنى من شراك نعله

أقول: إن الشيخ الأفريقي رحمه الله فإنه قد عاد إلى المدينة فعلاً، وعاد إلى شيخه الشيخ سعيد، ولما رآه سر بعودته، وأنزله منزلة كريمة، وخصّص له أوقاتاً يتلقى فيها العلم في البيت والمسجد، وصار يصحبه معه في مجالس لعلماء، ليلقح ذهنه، وتوجه فكره، واتخذه التلميذ الخاص، ولو جاز التبني لتبناه، لا سيما أن الشيخ سعيد لم يرزق أولاداً.

وعندما افتتحت مدرسة دار الحديث بالمدينة عام 1350هـ وعين الشيخ مدرساً فيها، دعاه إلى الالتحاق بها، وكانت يومها مدرسة معنية بتدريس الحديث النبوي، وعلومه على أوسع نطاق، ويدرس فيها كبار العلماء، ومنهم الشيخ سعيد فوجد فيها بغيته، وكان مؤسسها العلامة الشيخ أحمد بن محمد الدهلوي رحمه الله معنياً بالحديث، ومحدثاً مشهوراً أراد من تأسيس هذه الدار إنشاء جيل في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم بصير بالحديث دراية ورواية، شأن مدارس الحديث في الهند إذ ذاك.

ص: 316

فالتحق الشيخ الأفريقي بها، ودرس فيها الصحاح والسنن، ومصطلح الحديث والفقه وأصولهما، وعلوم الآلة، ورأى مؤسس الدار منه الحرص الشديد على طلب العلم، وانقطاعه له، وإخلاصه فيه فازدادت محبته له، وجعل مكتبة الدار مذللة هـ، وصار يشرف عليها ويرشده إلى المراجع وينمي فيه ملكة البحث والمطالعة.

وقد استفاد من دار الحديث فائدة عظيمة، وتعمق في الحديث وعلومه ساعده على ذلك وجود العلماء الأجلاء الذين يعلمون في دار الحديث - عد توفيق الله سأتحدث عن بعضهم عند الكلام على الشيوخ الذين تلقى عنهم العلم إن شاء الله - وكان تعلقه بالحديث تعلقاً عظيماً ملأ عليه شغاف قلبه، واستولى على لبه بحيث أصبح مشهوراً بين أقرانه وعند شيوخه برجل الحديث والمحدث.

وأذكر أنني كثيراً ما سمعته يتمثل بأبيات العلامة الذهبي رحمه الله عليه:

أهل الحديث عصابة الحق

فازوا بدعوة سيد الخلق

فوجدوهم لألاء ناضرة

لألاءها كفالق البرق

إشارة إلى الحديث الصحيح "نضر اللهُ امرأً سمع مقالتي فوعاها.." الحديث.

وكثيراً ما كان يردد أبياتا من منظومة الشيخ محمد سفر المدني صاحب رسالة الهدى:

وقول أعلام الهدى لا تعملوا

بقولنا في خلف نص يقبل

فيه دليل الأخذ بالحديث

وذاك في القديم والحديث

قال أبو حنيفة الإمام

لا ينبغي لمن له إسلام

أخذ بأقوالي حتى تعرضا

على الكتاب والحديث المرتضى

ومالك إمام دار الهجرة

قال وقد أشار نحو الحجرة

كل كلام منه ذو قبول

ومنه مردود سوى الرسول

والشافعي قال إن رأيتم

قولي مخالفاً لم رويتم

من الحديث فاضربوا الجدار

بقولي المخالف الأخبارا

وأحمدٌ قال لهم لا تكتبوا

ما قلته بل أصل ذلك اطلبوا

دينك لا تقلد الرجالا

حتى ترى أولاهما مقالا

ص: 317

فاسمع مقالات الهداة الأربعة

واعمل بها فإن فيها منفعة

لقمعها لكل ذي تعصب

والمنصفون يكتفون بالنبي

ولقد حفظت منه حديث ابن عباس الذي رواه الترمذي والطبراني بسند حسن من كثرة ذكره له - عن عطاء بن يسار عن ابن عباس قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اللهم ارحم خلفائي"، قال فقلنا يا رسول الله ومن هم خلفاؤك؟ قال: "الذين يأتون من بعدي يروون أحاديثي وسنتي، ويعلمونها الناس".

أقول: إنه مع حبه الجم للعمل بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عادلاً منصفاً لا يرضى لأحد من طلابه أو جلسائه أن يتنقض أحداً من العلماء والفقهاء ولا أن يتطاول على أحد ممن اشتهر بعلم الفقه وتدريسه أياً كان وشهدته مرة ينصح طالباً قال: ومن يكون هذا الرجل، وما هي منزلته يعني أحد علماء الفقه فقال له الشيخ مغضباً في الحال: "هو ممن أمرك الله بالدعاء والاستغفار له في قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا} (الحشر: 10)، والله يقول:{يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (المجادلة: 11) .

وذكر له قصة الإمام علي رضي الله عنه وقد سأله رجل مسألة فقال فيها، فقال الرجل: ليس كذلك يا أمير المؤمنين، ولكن الأمر كذا وكذا، فقال علي رضي الله عنه:"أصبت وأخطأت وفوق كل ذي علم عليم".

وذكر له أيضاً أن ابن عباس وزيداً رضي الله عنهما اختلفا في الحائض تنفر، فقال زيد: لا تنفر حتى يكون آخر عهدها الطواف بالبيت، وقال ابن عباس لزيد: سل نسّابتك أم سليمان وصويحباتها، فذهب زيد فسألهن ثم جاء وهو يضحك، فقال: القول ما قلت.

ص: 318

ولا أحصي عدد ما سمعته رحمة الله علينا وعليه يدعو إلى الاعتدال والإنصاف وينشد أبياتا منسوبة لأبي عمر بن عبد البر قالها حينما سمع قائلاً يقول: "لو أتتني مائة من الأحاديث رواها الثقة، وجاءني قول عن الإمام قدمته"، فقال ابن عبد البر: يعقب هذا القول:

من استخف عاندا بنص ما

عن النبي جا كفرته العلما

لذا فإنه يتعين على العاقل البصير أن يعلم الفرق بين الاتباع والتقليد الأعمى، وأن يعود إلى أهل البصيرة في هذا الشأن، ليقف على حقيقة الأمر، ويعلم جليته، وبذلك يبعد بتوفيق الله من الوقوع في مثل ما وقع فيه من رد عليه الحافظ ابن عبد البر رحمه الله بالأبيات الدالة على عظيم عنايته، ومدى حرصه على التمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وإنه بحمد الله قد ألف العلماء كتاباً في هذا الشأن يسترشد بها البصير ويستنير منها الراغب الخبير، ونحن في وقت عجت في المكتبات بالكتب المطبوعة والمخطوطة، وانتشر العلم، وعمت الثقافة بحيث أصبح العذر عديم الجدوى، والاحتجاج بالجهل قليل المفعول.

ومن هذه الكتب جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، وإيقاظ الهمم للفلاني، والاعتصام للشاطبي، والقول المفيد للشوكاني، وإرشاد الناقد للصنعاني، ورفع الملام عن الأئمة الأعلام لابن تيمية الحراني، وغيرها كثير وكثير.

ويعجبني في هذا الباب ما قاله منصور الفقيه المغربي رحمه الله:

خالفوني وأنكروا ما أقول

قلتُ: لا تعجلوا فإني سؤول

ما تقولون في الكتاب فقولوا

هو نور على الصواب دليل

وكذا سنة الرسول وقد

أفلح من قال ما يقول الرسول

واتفاق الجميع أصل وما

تنكر هذا وذا وذاك العقول

وكذا الحكم بالقياس فقلنا

من جميل الرجال يأتي الجميل

فتعالوا نرد من كل قول

ص: 319

ما نفى الأصلُ أو نفته الأصول

فأجابوا ، وناظروا وإذا العلم

لديهم هو اليسير القليل

هذا ولم يقصر الشيخ الأفريقي استفادته وتلقيه من دار الحديث فقط بل كان يتردد على الحلقات العلمية في المسجد النبوي، والمسجد النبوي جامعة من الجامعات وموضع إعداد القياديين من رجال العلم والفكر، وأرباب الشهامة والكرامات من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وكان يومها يعج بالطلاب الذين ينهلون من المورد الصافي، ويتزودون من ميراث النبوة ما يحيي قلوبهم ويهذب أخلاقهم، وتقر به عيونهم ونفوسهم.

وقد ظل المسجد إلى عهد قريب هو المدرسة لكل العلوم، وكانت أسطواناته وسواريه مسنداً لظهور العلماء والفقهاء، والمحدثين والمفسرين يتحلق حولهم الطلاب، وينهلون من علمهم وفقههم العديد من الطبقات وعلى مختلف الأعمار والفئات.

يتجول المرء في المسجد ليستمع إلى تلك الدروس ومتى أصغى إلى شيخ وأعجب من أسلوبه، وتمكن من الفهم منه جلس مع الملتفين حول الشيخ وأخذ ما شاء الله له من الفوائد وانصرف.

وللصبية الصغار حلقات وكتاتيب عند مدخل المسجد النبوي أذكر منها كتاب الشيخ التابعي والشيخ الرحالي، والشيخ مولود، والعريف بن سالم والعريف مصطفى والعريف جعفر فقيه، وغيرهم. وكل كتاب منها يعتبر مدرسة تتكون من عدة مراحل دارسية لدراسة القرآن الكريم، وبعض المبادئ الدينية، والأذكار النبوية التي ينبغي أن يلم بها المسلم.

أما تدريس الصغار للعلوم الشرعية فإن على الآباء أن يختاروا لأبنائهم الفقيه الذي يختارونه لذلك سواء كان التعليم في البيت أو المسجد ما داموا صغاراً، فإذا بلغ السن التي تؤهله لحمل الكتاب، ومزاحمة الرجال انتقل الأبناء إلى حلقات المسجد، وبذلك تكون رابطة الفرد بالمسجد وعلاقته به من الصبا إلى ما شاء الله.

ص: 320

وقد ورد في الحديث ما يدل على أن التعلم والتعليم في المساجد من أفضل القربات، من ذلك ما روى أحمد وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دخل مسجدنا هذا ليتعلم خيراً أو ليعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله، ومن دخل لغير ذلك كان كالناظر إلى ما ليس له".

وأنت خبير بقصة الثلاثة الذين دخلوا المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فيه مع أصحابه فأقبل أحدهم، واستحى الثاني، وأعرض الثالث، فأعرض الله عنه، وقصة دخوله صلى الله عليه وسلم المسجد مرة وإذا بحلقة علم وحلقة ذكر فجلس مع أهل العلم، وقال:"إنما بعثت معلماً"، ناهيك عن خطب النبي صلى الله عليه وسلم فيه للجُمع وبعض المناسبات.

ويذكر العلماء أن تميماً الداري استأذن عمر رضي الله عنهما أن يقص في المسجد فأذن له عمر، واستمع ابن عمر وابن عباس إلى عبيد بن عمير في المسجد، وكان معاذ يستند إلى سارية في مسجد دمشق، وتلتف الناس حوله ليقص عليهم.

أما الاشتغال بالتذكير والفتوى في المساجد والدور بالمناسبات فقد حصل من العديد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم من التابعين وتابعيهم تولى بيان ذلك العلماء الذين عنوا بأخبار القصاص والوعاظ والمذكرين.

أقول: لذا فإن الشيخ الأفريقي رحمة الله علينا وعليه قد وجد ميراث النبوة وافراً بالمسجد النبوي، ووجد أساطين العلماء، وكبار المربين منتشرين فيه، ووجد العلم ثرا في الروضة اليانعة به. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا"قالوا: "يا رسول الله وما رياض الجنة؟ "قال: "حلق العلم".

فخاض الشيخ الأفريقي فيه ورتع، وأخذ من الثمار ما قدر له وكان للإخلاص والتقوى مفعولهما بعد توفيق الله وهو يقول:{وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ} (البقرة: 282) .

شيوخه وتلاميذه:

ص: 321

لقد لازم الشيخ رحمه الله علماء أفذاذاً في المسجد النبوي وبدار الحديث، أخص منهم بالذكر شيخه الأول سعيد بن صديق، والشيخ ألفا هاشم، والعلامة المصلح السلفي واللغوي محمد الطيب بن إسحاق الأنصاري، شيخ شيوخ المدينة وعلمائها وأدبائها في أوساط هذا القرن والمتوفى عام 1363 هـ. قرأ عليه في المسجد النبوي التفسير والحديث، وعلوم الآلة، وكان الشيخ الأنصاري حفياً به ومقرباً له، معجباً من حرصه وإخلاصه وتحرر عقله في المناقشة والاستدلال، وخاصة في الحديث.

ولازم كلاًَ من الشيخ يونس بن نوح الأفريقي، والعلامة الجليل السلفي الورع الزاهد الشيخ صالح الزغيبي الذي كان إماماً للمسجد النبوي قرابة ربع قرن لم يتخلف طيلة هذه المدة عن الإمامة إلا مرتين أو ثلاث.

وتلقى على كل من الشيخ محمد سلطان المعصومي الأفغاني، والشيخ محمد سلطان المعصومي الأفغاني، وكان نادرة في معرفة الحديث وعلومه، وقرأ على زميله الشيخ محمد بن علي الحركان النحو والصرف، وعلى الشيخ محمد بن علي شويل الحديث وعلومه، وتردد على حلقات الشيخ إبراهيم بري، والشيخ محمد حميدة، والشيخ أحمد البساطي، والشيخ صالح الفيصل التونسي، والعلامة المحدث الشيخ محمد علي اللكنوى.

هذه بعض الدوحات التي استظل تحت ظلها، وجنى من ثمارها، وكرع من سلسبيل أنهارها، أما تلاميذه فكثيرون في الشرق والغرب وهنا وهناك، وفي العديد من القارات، فلقد نفع الله به نفعاً كبيراً في تدريسه بالمسجد النبوي، وفي مدرسة دار الحديث المدنية، وفي ينبع النخل حينما اختاره جلالة الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله ليقوم بها داعية متجولاً في جميع قراها عام 1364هـ.

ص: 322

وفي الرياض عندما كان مدرساً بالمعهد العلمي، وفي مسجد سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله، وفي كلية الشريعة بالرياض، وفي منزله الذي كان مجمعاً للضيوف الذين لا يأخذ على قراهم أجراً، وإنما كانوا يقصدونه لأنه يجيد بعض لغاتهم الأفريقية، ويجيد اللغة الفرنسية.

ولأمر ما دعا النبي صلى الله عليه وسلم زيداً أن يتعلم العبرية، وكان يقصده بالذات المثقفون لما يجدون فيه من قبول للمناقشة والبحث، والفهم والوعي، والعلم والحلم، والصبر على الإيرادات التي يوردونها عليه ولا يجدون منه ضجراً ولا مللاً أو سباباً أو شتماً، وإنما كان يأخذهم كما يأخذ المنقذ الغريق الذي إن لم يحتل عليه أهلك منجده.

وهنا ينبغي للداعية أن يعلم أن أسلوب الفظاظة والغلظة والجفاء والشدة لا يسعد على خدمة الدعوة، وإنما يؤدي إلى العكس، لذا قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران:159)، وقال:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف:199)

ولا أريد هنا أن أعدد أسماء طلابه المبرزين، أو أشيد بأعمالهم وآثارهم وأذكر مناصبهم ومكانتهم الاجتماعية فإن ذكر ذلك لا يغني فتيلاً ولا ينفع نقيراً، ولا يزيد من قدر الشيخ رحمه الله شيئاً.

ولكني أسأل الله جل وعلا أن يبارك فيهم وفي علومهم، ويزيد من صلاحهم وتوفيقهم، وينفع الإسلام والمسلمين.

صفاته وأخلاقه:

ص: 323

ولقد وعدت في مطلع حديثي أنني لا أبالغ في المدح والوصف والثناء كما يفعل عادة عندما يصف التلميذ شيخه، ولذا فإنني ههنا أذكر إلمامة صغيرة عن الجوانب التي أختار الكتابة عنها، وأعتقد أنني لست بالمبالغ أو المتزيد إذا سلكت الشيخ في عداد المصلحين في هذا القرن، فقد كان معلماً بارعاً، ومصلحاً وهب نفسه وفكره، وأذوى ناضر شبابه، وسلخ عمره في مجال الخير، وكان رحمة الله علينا وعليه قد أعطي بسطة في الجسم كما أعطيها في العلم، أسمر ممتلئ الوجه متلألأة، لا ترى العبوس في وجهه، لين العريكة، يحرص في جميع شؤونه أن يسير سير المصطفى صلى الله عليه وسلم.

وكان في منتهى الذكاء واللباقة، شجاعاً في الحق صبوراً على الأذى في سبيل الله، حكيماً في أحاديثه أديباً في مجلسه، لطيفاً في أسلوبه، سهلاً في تعليمه ومعاملته، مشجعاً للمجدين من طلابه في ألفاظ يرسلها كأنها سهام تنفذ إلى القلوب، يؤدب في شفقة وبشاشة وإيناس، ضليعاً في علم الحديث ومصطلحه، داعية لطلابه إلى اعتناق منهج الانطلاق الفكري في البحوث المقيدة بميزان الشريعة.

رجاعاً إلى الحق، مثيراً طلابه على ملازمة الطاعة والعبادة، عزيزاً في نفسه، ويغرس بذور العزة والكرامة في نفوسهم.

وأذكر أنه كان يسألهم تارة بمناسبة أيام الخميس والاثنين عمن صامهما تطوعاً، وعمن قام شيئاً من الليل غير الفريضة، فإذا أجابوا بالنفي ندب حال طلاب العلم في هذا الزمان.

أما جوده وكرمه وطيبته وحسن طويته، وحبه إسداء الخير للمحتاج فحدث عن ذلك ولا حرج.

وقبل أن أنهي الكلام على ما يتعلق بصفاته وأخلاقه أقرأ على مسامعكم هذه النماذج باختصار:

ص: 324

1 – وافق أنني تخلفت عن حج عام 1367 هـ ولما كان يوم عيد الأضحى رأيت أن أتناول طعام الغداء في منزل الشيخ، ووافق أنّ كثيراً من الطلاب ذهبوا للحج، فدخلت عليه والطعام بين يديه، ومعه أولاده، وعندما ألقيت السلام رفع رأسه وقال من غير تأمل أو تفكير:"الحمد لله الذي لم يُرني اليوم الذي آكل فيه وحدي ومع أولادي فقط"..

2 – جاء في نظام أعمال دار الحديث التي وضعها دليلاً لدار الحديث بعد أن آل أمر نظارة مكتبتها وإدارة مدرستها إليه، وفي الفقرة (خ) وقع في خارطة البناء شقة للناظر أعلن من يومي هذا وأنا الناظر حالياً أنني متنازل عن سكناها لتسكنها أسرة الشيخ أحمد الدهلوي المؤسس، وأطلب ممن تولى النظارة بعدي من أبنائي وأحبابي أن يدعوا سكناها للمذكورين ما دام شرط النظارة لا ينطبق عليهم.

3 – شج رجل فقير معاند مخالف للشيخ في العقيدة رأس ابن الشيخ انتقاما من أبيه، وقامت السلطات بسجن الجاني، فحاول الشيخ أن يشفع في فك سراحه فلم يفلح، ولما كان آل الرجل محتاجين إلى من يعولهم أمرني رحمه الله بالإنفاق عليهم إلى أن يطلق سراح عائلهم، ولما علم الرجل ذلك رجع إلى نفسه، وثاب إلى رشده وكان سبباً لقبوله الحق.

أردت أن أضع هذه النماذج الثلاثة أمام السامع من غير تعليق عليها خشية أن أطيل فيكون الملل.

ولقد اشتغل منذ عام 1360هـ بالتدريس في المسجد النبوي وبمدرسة دار الحديث المدنية إلى عام 1364هـ حيث انتدب للوعظ والإرشاد بمدينة ينبع النخل، وعاد منها في عامه بعد أن أمضى فيها ثمانية شهور أسس خلالها قواعد متينة، وأشاد بنياناً راسخاً في العقيدة هناك. وأزال كثيراً من البدع والمنكرات، باللطف والحكمة والموعظة الحسنة. وربض في دار الحديث ليثبت أركانها، ويدعم بنيانها، ويعمر جوانبها بالعلم النبوي.

ص: 325

وأشهد بالله تعالى أنه كان يجلس للتدريس من الساعة الثانية صباحاً على وجه التقريب، إلى أذان الظهر جلسة واحدة لا يتخللها كلل ولا ملل، ثم يعود بعد صلاة الظهر ليعقد درساً لبعض الطلاب الذين يشغلهم الضرب في الأسواق صباحاً، وبعد صلاة العصر يرتاد بيته طلاب آخرون للتحصيل والتعلم، وبعد صلاة المغرب وصلاة العشاء يقوم بالدرس العام بالمسجد النبوي، وكانت حلقته تجمع الخليط من الطبقات الصغار والكبار، والمتفرغين لطلب العلم، والراغبين في الانتفاع من العوام وكان الجميع يكرعون وينهلون ويردون ويصدرون، لأن الله حبى الشيخ شفافية النفس، وعظيم الإخلاص، والخلق وسهولة الأسلوب، مع قوة الاقناع فاستفاد منه الكثيرون من المقيمين والحجاج.

أما دار الحديث فقد أخصبت وأفرغت وأربعت ثم ازهرت وأينعت إبان قيامه بإدارتها والتدريس فيها. وصدق عليها ما قال القائل عن دار الحديث النووية بالشام:

وفي دار الحديث لطيف معنى..

وتخرج منها طلاب انتشروا في العديد من البلاد، وأصبحوا قادة في الفكر والعلم ودعاة إلى الحق، وهداة إلى سبيل الله.

وفي أواخر عام 1370هـ اختاره جلالة الملك عبد العزيز ليكون ضمن المدرسين في المعهد العلمي بالرياض، ثم بكلية الشريعة فكان يمكث بالرياض مدة الدراسة ويقضي عطلة الصيف بالمدينة المنورة ليشرف على أعمال دار الحديث، ويواصل تدريسه بالمسجد النبوي الذي كان يتمنى أن يكون بجوار معظم سواريه طلاب يعقلون عن الله، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقومون بتبليغ رسالة الله.

هذه صورة مبسطة من حياة رجل عالم جليل أدى ما عليه. وهكذا تصنع الرجال الأمجاد وكأنما يريدون أن يعالجوا الزمن بنفوسها الكبيرة، وهممها العالية والله من وراء القصد.

مؤلفاته:

ص: 326

هذا ولما كان التأليف صنوا للتدريس والتبليغ في مجالات الإصلاح فقد قام الشيخ رحمه الله بتأليف بعض من الكتب النافعة، أرى أن أوجز ما تضمنته فيما يلي:

1 -

من اتصاله بالكثير من الحجاج الأفارقة تأكد أن الطريقة التيجانية المنسوبة إلى الشيخ أحمد التيجاني قد انتشرت في تلك البلاد، وتضاربت أقوال الناس فيها، وعمت بلاد أفريقيا موجة من الاختلاف في شأن هذه الطريقة، وفشا بين العامة منهم أن من لم يعتنق الطريقة التيجانية فليس من الإسلام في شيء.

وكان منزل الشيح رحمه الله منتدى يجتمع فيه الحجاج من غالب البلاد التي يحتلها الفرنسيون قبل أن يقسم إلى جمهوريات متعددة، ويقصده المثقفون منهم بالذات، لأنه يجيد اللغة الفرنسية، ويشرح لهم بواسطتها ما يحتاجون إليه من أمور دينهم. وكثيراً ما كان يدور النقاش والاستفسار عنها. فعكف رحمه الله على دراسة كتبها، والوقوف على حقيقة ما فيها من مراجعها وأصولها. وخلص من ذلك إلى تأليف رسالته التي بارك الله فيها - كانت سبباً لوعي الكثير من الناس لسهولة أسلوبها وخلوص نية صاحبها، والتركيز على نقاط حساسة هامة جعلت العامة تقف على بعض المعتقدات التي لا يعرفها إلا الخاصة من أهل الطريقة - أسماها (الأنوار الرحمانية لهداية الفرقة النجاتية) .

وقبل أن أوجز الكلام عن فصول الرسالة يناسب التعريف بالشيخ أحمد التيجاني الذي نسبت إليه هذه الطريقة، وببعض مصادرها. فهو أحمد بن محمد بن المختار بن أحمد بن سالم الشريف التيجاني، ولد عام خمسين ومائة ألف من الهجرة. بعين ماضي، ونشأ بها، وارتحل لفاس علم إحدى وسبعين ومائة وألف وتوفي بها عام 1230هـ.

قال الشيخ محمد الحافظ التجاني المصري المعاصر في ترجمة له للشيخ:

ص: 327

"وما زال رضي الله عنه منذ تولى رسول الله تربيته بالروح يسمو ويرقى حتى بلغ مقام القطبانية العظمى، ثم وصل إلى مقام الولاية المعروف عند الأولياء بالخيمة عام أربعة عشر في القرن الثالث عشر"اهـ.

ومن أشهر ما ألف من الكتب في هذه الطرقة هو كتاب جواهر المعاني للشيخ علي حرازم، وكتاب الرماح للشيخ عمر الفوني، وكتاب الإفادة الأحمدية لمريد السعادة الأبدية، للشيخ محمد الطيب الشهير بالسفياني والمتوفى عام 1259هـ وهو من خاصة الخاصة من أصحاب الشيخ أحمد التجاني.

وبمناسبة ذكر كتاب الإفادة وهو كتاب لا تزيد صفحاته عن 84 صفحة أورد لك نبذة مما جاء فيه: قال الشيخ السفياني في مقدمة الكتاب.. وبعد.

فأول ما يعتني به بعد كلام مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم كلام المشايخ رضي الله عنهم إذ هم خلفاؤه المغترفون من فيض بحره، ونوابه المقتطفون من أزهار حدائق سره، وأولى ذلك عندي جمع كلام شيخ الشيوخ، ومعدن الثبات والرسوخ، قطب الأمة المحمدية، وخليفته عن الرحمة الربانية أبي العباس مولانا أحمد بن محمد التجاني إلى أن قال:

"ولقد تلقيت جله مشافهة منه، والباقي ممن أثق به، وأروي عنه، وحملني على تقييده، خوف الدرس والضياع لينفع الله به من أراد"ا. هـ.

وإليك بعض النماذج مما في الإفادة الأحمدية المطبوعة بالمطبعة الخيرية عام 1350 هـ بتعليق الشيخ محمد الحافظ التجاني الذي سبقت الإشارة إليه لتحكم على ذلك بما أراك الله فإن في صفحة (7) :

"أقول لهم كما قيل في علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو قسم ( [2] ) النار من أحبنا يقال له أدخله الجنة، ومن أبغضنا ومات دخل النار"..

"أكابر أقطاب هذه الأمة لا يدركون مراتب أصحابي، أعطانا ذلك رغماً عن أنوفكم"صفحة (10) .

"أصحابي ليسوا مع الناس في الموقف بل هم مكتنفون في ظل العرش"صفحة (15) .

ص: 328

"أمرني صلى الله عليه وسلم بجمع كتاب جواهر المعاني وقال لي كتابي هو وأنا ألفته"صفحة (19) .

"ثلاثة تقطع التلميذ عنا أخذ ورد عن وردنا، وزيارة الأولياء، وترك الورد"صفحة (31) .

"ذكر ليلة الجمعة مائة من صلاة الفاتح لما أغلق.. الخ بعد نوم الناس يكفر أربعمائة سنة"صفحة (35) .

"طريقنا طريق محض الفضل أعطاها لي صلى الله عليه وسلم منه إليّ من غير واسطة"صفحة (36) .

"طائفة من أصحابنا لو اجتمع أكابر أقطاب هذه الأمة ما وزنوا شعرة من بحر أحدهم"صفحة (40) .

"كل الشيوخ أخذوا عنا من عصر الصحابة إلى النفخ في الصور"صفحة (40) .

"كل من عمل عملاً وتقبل منه فرضاً كان أو نفلاً يعطينا الله تبارك وتعالى ولأصحابنا على ذلك العمل أكثر من مائة ألف ضعف مما يعطى صاحبه"صفحة (43) .

"من حلف بالطلاق أنه جالس مع المصطفى صلى الله عليه وسلم في الوظيفة فهو بار في يمينه، ولا يلزمه طلاق"صفحة (54) .

"نهاني صلى الله عليه وسلم عن التوجه بالأسماء وأمرني بالتوجه بصلاة الفاتح لما أغلق"صفحة (57) .

"قدماي هاتان على رقبة كل ولي لله تعالى من أول نشأة العالم إلى النفخ في الصور"صفحة (62) .

"يوضع لي منبر من نور يوم القيامة، وينادي منادى حتى يسمعه كل من بالموقف يا أهل الموقف، هذا إمامكم الذي كنتم تستمدون منه في دار الدنيا من غير شعور منكم"صفحة (74) .

هذا الكلام وأمثاله هو ما حفز الشيخ رحمه الله بتأليف رسالته (الأنوار الرحمانية) نصحاً للأمة الإسلامية، وقمعاً للبدعة، وإعلاماً بأن ما لم يكن ديناً في الصدور الأول لا يكون اليوم ديناً. وقد حرص رحمة الله علينا وعليه على أن تكون الرسالة سهلة الأسلوب، صغيرة، واضحة الهدف، مبيناً فيها ما ينكره أهل السنة على أهل هذه الطريقة مشيراً إلى رقم الصفحة من كتب القوم ليبين كل مسلم غيور تلك المعتقدات. وأكتفي بذكر عشر عقائد منها:

ص: 329

الأولى: أن هذا الورد ادخره رسول الله صلى الله عليه وسلم للشيخ أحمد ولم يعلمه أحداً من الصحابة.

الثانية: أن المرة الواحدة من صلاة الفاتح تعدل كل تسبيح وقع في الكون، وكل ذكر، وكل دعاء، كبيراً كان أو صغيراً، وتعدل قراءة القرآن ستة آلاف مرة.

الثالثة: من لم يعتقد أن صلاة الفاتح من القرآن لم يصب الثواب فيها.

الرابعة: وضع لي منبر من نور يوم القيامة

الخ.

الخامسة: لا تقرأ جوهرة الكمال إلا بالطهارة المائية.

السادسة: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التوجه بالأسماء الحسنى.

السابعة: أن ولياً وذكر اسمه كان كثيراً ما يلقى النبي صلى الله عليه وسلم ويعلمه الشعر.

الثامنة: من حصل له النظر فينا يوم الجمعة والاثنين يدخل الجنة بغير حساب.

التاسعة: أنهم يأخذون عن الله ورسوله الأحكام.

العاشرة: أن الشرط في طريقتهم أن لا يلقن لمن له ورد من أوراد المشايخ إلا إن تركه، وانسلخ عنه لا يعود إليه أبداً.

وقد أجاب على كل مسألة من هذه المسائل بما أغنى وأشفى، وقد طبعت هذه الرسالة عدة مرات آخرها الطبعة الرابعة التي تولت الجامعة الإسلامية نشرها عام 1394 هـ جزاها الله أفضل الجزاء.

كما أنه قد قام بالرد على هذه الطائفة جماعة من أهل العلم أذكر منهم العالم الجليل مفتي المالكية بالمدينة سابقاً الشيخ محمد الخضر بن سيدي عبد الله بن ما يابي الشنقيطي في كتابه (مشتهى الخارف الجاني في رد زلعات التجاني الجاني) بلغت صفحاته أربعمائة صفحة.

وفضيلة الدكتور ممد تقي الدين الهلالي في رسالته الهدية الهادية، والتي بلغت صفحاتها 80 صفحة تقريباً، وقد ألف جماعة من علماء أفريقيا الغربية رسائل تضمنت الرد على معتقدات هذه الطائفة منها ما جرى الاطلاع عليه، والبعض لم أطلع عليه حتى الآن.

ص: 330

أما رسالة الشيخ رحمه الله الثانية فهي (جواب الأفريقي) ، وهي رسالة لطيفة بلغت صفحاتها ستين صفحة، أجاب فيها على سبع عشرة مسألة، وردت إليه من بلاد مليبار عام 1366هـ وهي:

إذا مات الميت ماذا يفعل له أهله، وما يقولون حين يمشون بالجنازة، وإذا مات الأب ماذا يفعل الأولاد من الخير والصدقات، وقراءة القرآن وهل ينفعه ويصل إليه أم لا؟ إذا صلوا الفرض هل لهم أن يجلسوا في مصلاهم للدعاء؟ والإمام يدعو وهم يؤمنون، وعن القنوت في صلاة الصبح، وعن صلاة التراويح كم ركعة هي، وعن مجالس الوعظ والإرشاد في المساجد وعن قراءة المولد للنبي صلى الله عليه وسلم، وهل يتصدق ويجعل ثوابه للنبي وما هي محبته عليه الصلاة والسلام. وهل لعيسى عليه السلام أب أم لا وهل هو حي الآن أم لا؟

ولما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء هل كان بجسده أو روحه، وهل يجوز التداوي بالحرام، وهل يجوز للمسلم أن يكون مذهبياً أم لا. وما هي السنة في صيام التطوع.

وهي مسائل كما سمعت هامة وجليلة تولى الإجابة عليها بما وفقه الله مستدلاً بالكتاب والسنة وذكر بعض أقوال العلماء.

أما كتابه الثالث فهو: توضيح الحج والعمرة، كما جاء بالكتاب والسنة. وقد بلغت صفحاته 120 صفحة فرغ من تأليفه ليلة الثلاثاء من شهر صفر عام 1367هـ.

وأكتفى في تلخيصه بما ذكره مصححه والمشرف على طبعه: فضيلة الشيخ محمد علي عبد الرحيم رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية حالياً عند تصدير الكتاب حيث قال:

"مصدر يشرح قواعد الإسلام الخمس، وما يهم كل مسلم معرفته من الأوامر والنواهي، مع تفصيل محبة الرسول صلى الله عليه وسلم والاقتداء به".

وقال: "قرأت الكتاب فألفيته مع صغر حجمه جامعاً لكل ما يهم المسلم معرفته من عقيدة سليمة وعادة صحيحة".

ص: 331

وقال: "أما عبارات الكتاب فهي في متناول الجميع لا لبس فيها ولا إيهام يتفهمها العام قبل الخاص، ويعقلها المتعلم قبل العالم فجاء جزيل النفع كثير الفائدة".

ولفضيلته رحمه الله مجموعة من الفتاوى لم تطبع ومسودات لبعض المذكرات في الحديث والمصطلح ألقاها على طلابه في المعهد العلمي وفي كلية الشريعة بالرياض.

وفاته:

توفي رحمه الله تعالى في ليلة الثلاثاء الموافق 28/3/1377هـ بعد أن انتابته أمراض كثيرة لم تكن سبباً لتوقفه عن الدعوة والجهاد في سبيل الله، بعد خدمة جليلة للسنة شهد له بها القاصي والداني.

وخلف أربعة أبناء، وأربع بنات، لم يكن رحمه الله حريصاً على ترك دنيا لهم حرصه على إحياء دار الحديث بالمدينة المنورة، وجعلها شغله الشاغل والتي كان ينوي جعلها كلية للحديث النبوي الشريف في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن أدركه الأجل قبل أن تتحقق أمنيته.

وقد حقق الله تعالى إنشاء كلية الحديث في هذه المدينة الطيبة تابعة للجامعة الإسلامية في عام 1396هـ نفع الله بها وبقية كليات الجامعة والمعاهد الإسلامية جمعاء، وجعلها معاقل خير لخدمة الإسلام والمسلمين فرحمه الله رحمة واسعة، وأغدق عليه رضوانه، وجعلنا وإياه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

وبعد:.. فإن الله تعالى يقول: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (آل عمران: 185) الآية، ويقول:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} (آل عمران: 144) .

ص: 332

ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه"، فقالت عائشة رضي الله عنها:"إنا نكره الموت"، فقال:"ليس ذلك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشّر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حضره الموت بشّر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أمره إليه مما أمامه وكره لقاء الله، وكره الله لقاءه". متفق عليه.

وروى البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وأحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً فأفتوا الناس بغير علم فضلوا وأضلوا".

هذا وليحسن العلماء، وليخلص الطلاب، وبالله التوفيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتبه: عمر محمد فلاته

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

ألقيت هذه المحاضرة بقاعة المحاضرات بالجامعة الإسلامية في الموسم الثقافي لعام 97-98هـ.

[2]

المعنى غير واضح وظاهر الكلام غير مستقيم.

ص: 333

خطر مشاركة المرأة للرجل في ميدان عمله

لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز

الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:

فإن الدعوة إلى نزول المرأة للعمل في ميدان الرجال المؤدي إلى الاختلاط سواء كان ذلك على جهة التصريح أو التلويح بحجة أن ذلك من مقتضيات العصر ومتطلبات الحضارة أمر خطير جداً له تبعاته الخطيرة وثمراته المرة وعواقبه الوخيمة. رغم مصادمته للنصوص الشرعية التي تأمر المرأة بالقرار في بيتها والقيام بالأعمال التي تخصها في بيتها ونحوه.

ومن أراد أن يعرف عن كثب ما جناه الاختلاط من المفاسد التي لا تحصى فلينظر إلى تلك المجتمعات التي وقعت في هذا البلاء العظيم اختياراً أو اضطراراً بإنصاف من نفسه وتجرد للحق عما عداه يجد التذمر على المستوى الفردي والجماعي والتحسر على انفلات المرأة من بيتها وتفكك الأسر، ونجد ذلك واضحاً على لسان الكثير من الكتاب بل في جميع وسائل الإعلام وما ذلك إلا لأن هذا هدم للمجتمع وتقويض لبنائه.

والأدلة الصحيحةالصريحة الدالة على تحريم الخلوة بالأجنبية وتحريم النظر إليها وتحريم الوسائل الموصلة إلى الوقوع فيما حرم الله أدلة كثيرة قاضية بتحريم الاختلاط لأنه يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه.

وإخراج المرأة من بيتها الذي هو مملكتها ومنطلقها الحيوي في هذه الحياة إخراج لها عما تقتضيه فطرتها وطبيعتها التي جبلها الله عليها.

فالدعوة إلى نزول المرأة في الميادين التي تخص الرجال أمر خطير على المجتمع الإسلامي ومن أعظم آثاره الاختلاط الذي يعتبر من أعظم وسائل الزنا الذي يفتك بالمجتمع ويهدم قيمه وأخلاقه.

ص: 334

ومعلوم أن الله تبارك وتعالى جعل للمرأة تركيباً يختلف تماماً عن تركيب الرجل هيأها به للقيام بالأعمال التي في داخل بيتها والأعمال التي بين بنات جنسها.

ومعنى هذا: أن اقتحام المرأة لميدان الرجال الخاص بهم يعتبر إخراجاً لها عن تركيبها وطبيعتها. وفي هذا جناية كبيرة على المرأة وقضاء على معنويتها وتحطيم لشخصيتها ويتعدى ذلك إلى أولاد الجيل من ذكور وإناث لأنهم يفقدون التربية والحنان والعطف. فالذي يقوم بهذا الدور وهو الأم قد فصلت منه وعزلت تماماً عن مملكتها التي لا يمكن أن تجد الراحة والاستقرار والطمأنينة إلا فيها وواقع المجتمعات التي تورطت في هذا أصدق شاهد على ما نقول.

والإسلام جعل لكل من الزوجين واجبات خاصة على كل واحد منهما أن يقوم بدوره ليكتمل بذلك بناء المجتمع في داخل البيت وفي خارجه.

فالرجل يقوم بالنفقة والاكتساب والمرأة تقوم بتربية الأولاد والعطف والحنان والرضاعة والحضانة والأعمال التي تناسبها لتعليم الصغار وإدارة مدارسهن والتطبيب والتمريض لهن ونحو ذلك من الأعمال المختصة بالنساء. فترك واجبات البيت من قبل المرأة يعتبر ضياعاً للبيت بمن فيه. ويترتب عليه تفكك الأسرة حسياً ومعنوياً وعند ذلك يصبح المجتمع شكلاً وصورة لا حقيقة ومعنى.

ص: 335

قال الله جلّ وعلا: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (النساء: 34) ، فسنة الله في خلقه أن القوامة للرجل على المرأة وللرجل فضل عليها كما دلت الآية الكريمة على ذلك. وأمر الله سبحانه للمرأة بقرارها في بيتها، ونهيها عن التبرج معناه: النهي عن الاختلاط، وهو: اجتماع الرجال بالنساء الأجنبيات في مكان واحد بحكم العمل أو البيع أو الشراء أو النزهة أو السفر أو نحو ذلك، لأن اقتحام المرأة في هذا الميدان يؤدي بها إلى الوقوع في المنهي عنه، وفي ذلك مخالفة لأمر الله وتضييع لحقوقه المطلوب شرعاً من المسلمة أن تقوم بها.

ص: 336

والكتاب والسنة دلا على تحريم الاختلاط وتحريم جميع الوسائل المؤدية إليه قال الله جلا وعلا: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً، وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ، إِنَّ للهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} (الأحزاب: 34) ، فأمر الله أمهات المؤمنين، وجميعُ المسلمات والمؤمنات داخلاتٌ في ذلك، بالقرار في البيوت لما في ذلك من صيانتهن وإبعادهن عن وسائل الفساد لأن الخروج لغير حاجة قد يفضي إلى التبرج كما يفضي إلى شرور أخرى، ثم أمرهن بالأعمال الصالحة التي تنهاهن عن الفحشاء والمنكر، وذلك بإقامتهن الصلاة وإيتائهن الزكاة وطاعتهن لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ثم وجههن إلى ما يعود عليهن بالنفع في الدنيا والآخرة وذلك بأن يكن على اتصال دائم بالقرآن الكريم وبالسنة النبوية المطهرة اللذين فيهما ما يجلو صدأ القلوب ويطهرها من الأرجاس والأنجاس ويرشد إلى الحق والصواب. وقال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً} (الأحزاب:59) . فأمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام -وهو المبلغ عن ربه - أن يقول لأزواجه وبناته وعامة نساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن وذلك يتضمن ستر باقي أجسامهن بالجلابيب وذلك إذا أردن الخروج لحاجة مثلاً لئلا تحصل لهن الأذية من مرضى القلوب، فإذا كان الأمر بهذا المثابة فما بالك بنزولها إلى ميدان الرجال واختلاطها معهم وإبداء حاجتها إليهم بحكم الوظيفة والتنازل عن كثير من أنوثتها

ص: 337

لتنزل في مستواهم وذهاب كثير من حيائها ليحصل بذلك الانسجام بين الجنسين المختلفين معنى وصورة.

قال الله جلا وعلا: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ، وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنّ..} الآية. (النور:31) .

يأمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يبلغ المؤمنين والمؤمنات أن يلتزموا بغض النظر وحفظ الفرج عن الزنا ثم أوضح سبحانه أن هذا الأمر أزكى لهم. ومعلوم أن حفظ الفرج من الفاحشة إنما يكون باجتناب وسائلها ولا شك أن إطلاق البصر واختلاط النساء بالرجال والرجال بالنساء في ميادين العمل وغيرها من أعظم وسائل وقوع الفاحشة. وهذان الأمران المطلوبان من المؤمن يستحيل تحققهما منه وهو يعمل مع المرأة الأجنبية كزميلة أو مشاركة في العمل له. فاقتحامها هذا الميدان معه واقتحامه معها لا شك أنه من الأمور التي يستحيل معها غض البصر وإحصان الفرج والحصول على زكاة النفس وطهارتها.

وهكذا أمر الله المؤمنات بغض البصر وحفظ الفرج وعدم إبداء الزينة إلا ما ظهر منها، وأمرهن الله بإسدال الخمار على الجيوب المتضمن ستر رأسها ووجهها لأن الجيب محل الرأس والوجه، فكيف يحصل غض البصر وحفظ الفرج وعدم إبداء الزينة عند نزول المرأة إلى ميدان الرجال واختلاطها معهم في الأعمال. والاختلاط كفيل بالوقوع في هذه المحاذير. كيف يحصل للمرأة المسلمة أن تغض بصرها وهي تسير مع الرجل الأجنبي جنباً إلى جنب بحجة أنها تشاركه في الأعمال أو تساويه في جميع ما تقوم به.

ص: 338

والإسلام حرم جميع الوسائل والذرائع الموصلة إلى الأمور المحرمة. وكذلك حرم الإسلام على النساء خضوعهن بالقول للرجال لكونه يفضي إلى الطمع فيهن كما في قوله عز وجل: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} (الأحزاب: 32) ، يعني مرض الشهوة، فكيف يمكن التحفظ من ذلك مع الاختلاط.

ومن البدهي أنها إذا نزلت إلى ميدان الرجال لا بد أن تكلمهم وأن يكلموها ولا بد أن ترفق لهم الكلام وأن يرفقوا لها الكلام والشيطان من وراء ذلك يزين ويحسن ويدعو إلى الفاحشة حتى يقعوا فريسة له. والله حكيم عليم حيث أمر المرأة بالحجاب وما ذاك إلا لأن للناس فيهم البر والفاجر والطاهر والعاهر. فالحجاب يمنع - بإذن الله - من الفتنة ويحجز دواعيها وتحصل به طهارة قلوب الرجال والنساء والبعد عن مظان التهمة، قال الله عز وجل:{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنّ} الآية (الأحزاب: 53) . وخبر حجاب المرأة بعد حجاب وجهها وجسمها باللباس هو بيتها. وحرم عليها الإسلام مخالطة الرجال الأجانب لئلا تعرض نفسها للفتنة بطريق مباشر أو غير مباشر. وأمرها بالقرار في البيت وعدم الخروج منه إلا لحاجة مباحة مع لزوم الأدب الشرعي، وقد سمى الله مكث المرأة في بيتها قراراً، وهذا المعنى من أسمى المعاني الرفيعة ففيه استقرار لنفسها وراحة لقلبها وانشراح لصدرها. فخروجها عن هذا القرار يفضي إلى اضطراب نفسها وقلق قلبها وضيق صدرها وتعريضها لما لا تحمد عقباه. ونهى الإسلام عن الخلوة بالمرأة الأجنبية على الإطلاق إلا مع ذي محرم، وعن السفر إلا مع ذي محرم سداً لذريعة الفساد وإغلاقاً لباب الإثم وحسماً لأسباب الشر وحماية للنوعين من مكايد الشيطان ولهذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

ص: 339

أنه قال: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء". وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"اتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت من النساء".

وقد يتعلق بعض دعاة الاختلاط ببعض ظواهر النصوص الشرعية التي لا يدرك مغزاها ومرماها إلا من نور الله قلبه وتفقه في دين الله وضم الأدلة الشرعية بعضها إلى بعض وكانت في تصوره وحدة لا يتجزأ بعضها عن بعض. ومن ذلك خروج بعض النساء مع الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات. والجواب عن ذلك أن خروجهن كان مع محارمهن لمصالح كثيرة لا يترتب عليه ما يخشى عليهن منه من الفساد لإيمانهن وتقواهن وإشراف محارمهن عليهن وعنايتهن بالحجاب بعد نزول آيته بخلاف حال الكثير من نساء العصر ومعلوم أن خروج المرأة من بيتها إلى العمل يختلف تماماً عن الحالة التي خرجن بها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو فقياس هذه على تلك يعتبر قياساً مع الفارق. وأيضاً فما الذي فهمه السلف الصالح حول هذا، وهم لا شك أدرى بمعاني النصوص من غيرهم وأقرب إلى التطبيق العملي بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فما هو الذي نقل عنهم على مدار الزمن، هل وسعوا الدائرة كما ينادي دعاة الاختلاط فنقلوا ما ورد في ذلك إلى أن تعمل المرأة في كل ميادين الحياة مع الرجال تزاحمهم ويزاحمونها وتختلط معهم ويختلطون معها. أم أنهم فهموا أن تلك قضايا معنية لا تتعداها إلى غيرها.

ص: 340

وإذا استعرضنا الفتوحات الإسلامية والغزوات على مدار التاريخ لم نجد هذه الظاهرة، أما ما يدعى في هذا العصر من إدخالها كجندي يحمل السلاح ويقاتل كالرجل فهو لا يتعدى أن يكون وسيلة لإفساد وتذويب أخلاق الجيوش باسم الترفيه عن الجنود لأن طبيعة الرجل إذا التقت مع طبيعة المرأة كان منهما عند الخلوة ما يكون بين كل رجل وامرأة من الميل والأنس والاستراحة إلى الحديث والكلام وبعض الشيء يجر إلى بعض وإغلاق باب الفتنة أحكم وأحزم وأبعد من الندامة في المستقبل.

ص: 341

فالإسلام حريص جداً على جلب المصالح ودرء المفاسد وغلق الأبواب المؤدية إليها ولاختلاط المرأة مع الرجال في ميدان العمل تأثير كبير في انحطاط الأمة وفساد مجتمعها كما سبق، لأن المعروف تاريخياً عن الحضارات القديمة الرومانية واليونانية ونحوهما أن من أعظم أسباب الانحطاط والانهيار الواقع بها هو خروج المرأة من ميدانها الخاص إلى ميدان الرجال ومزاحمتهم مما أدى إلى فساد أخلاق الرجال وتركهم لما يدفع بأمتهم إلى الرقي المادي والمعنوي.. وانشغال المرأة خارج البيت يؤدي إلى بطالة الرجل وخسران الأمة انسجام الأسرة وانهيار صرحها وفساد أخلاق الأولاد يؤدي إلى الوقوع في مخالفة ما أخبر الله به في كتابه من قوامة الرجل على المرأة. وقد حرص الإسلام أن يبعد المرأة عن جميع ما يخالف طبيعتها فمنعها من تولي الولاية العامة كرئاسة الدولة والقضاء وجميع ما فيه مسئوليات عامة لقوله صلى الله عليه وسلم:"لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" رواه البخاري في صحيحه. ففتح الباب لها بأن تنزل إلى ميدان الرجال يعتبر مخالفاً لما يريده الإسلام من سعادتها واستقرارها. فالإسلام يمنع تجنيد المرأة في غير ميدانها الأصيل. وقد ثبت من التجارب المختلفة - وخاصة في المجتمع المختلط - أن الرجل والمرأة لا يتساويان فطرياً ولا طبيعياً فضلاً عما ورد في الكتاب والسنة واضحاً جلياً في اختلاف الطبيعتين والواجبين. والذين ينادون بمساواة الجنس اللطيف المنشئ في الحلية وهو في الخصام غير مبين بالرجل يجهلون أو يتجاهلون الفوارق الأساسية بينهما.

ص: 342

لقد ذكرنا من الأدلة الشرعية والواقع الملموس ما يدل على تحريم الاختلاط واشتراك المرأة في أعمال الرجال مما فيه كفاية ومقنع لطالب الحق ولكن نظراً إلى أن بعض الناس قد يستفيدون من كلمات رجال الغرب والشرق أكثر مما يستفيدون من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام علماء المسلمين رأينا أن ننقل لهم ما يتضمن اعتراف رجال الغرب والشرق بمضار الاختلاط ومفاسده لعلهم يقنعون بذلك. ويعلمون ما جاء به دينهم العظيم من منع الاختلاط هو عين الكرامة والصيانة للمرأة وحمايتهن من وسائل الأضرار بهن والانتهاك لأعراضهن.

قالت الكاتبة الإنجليزية اللادي كوك: "إن الاختلاط يألفه الرجال ولهذا طمعت المرأة بما يخالف فطرتها وعلى قدر كثرة الاختلاط تكون كثرة أولاد الزنا وههنا البلاء العظيم على المرأة"، إلى أن قالت:"علموهن الابتعاد عن الرجال أخبروهن بعاقبة الكيد الكامن لهن بالمرصاد".

وقال شوينهور الألماني: "قل هو الخلل العظيم في ترتيب أحوالنا الذي دعا المرأة لمشاركة الرجل في علو مجده وباذخ وفعته وسهل عليها التعالي في مطامعها الدنيئة حتى أفسدت المدنية الحديثة بقوى سلطانها ودنيء آرائها".

وقال اللورد بيرون: "لو تفكرت أيها المطالع فيما كانت عليه المرأة في عهد قدماء اليونان لوجدتها في حالة مصطنعة مخالفة للطبيعة ولرأيت معي وجوب إشغال المرأة بالأعمال المنزلية مع تحسن غذائها وملبسها فيه وضرورة حجبها عن الاختلاط بالغير" اهـ.

ص: 343

وقال سامويل سمايلس الإنجليزي: "إن النظام الذي يقتضي بتشغيل المرأة في المعامل مهما نشأ عنه من الثروة للبلاد فإن نتيجته كانت هادمة لبناء الحياة المنزلية لأنه هاجم هيكل المنزل وقوض أركان الأسرة ومزق الروابط الاجتماعية فإنه يسلب الزوجة من زوجها والأولاد من أقاربهم صار بنوع خاص لا نتيجة له إلا تسفيل أخلاق المرأة. إذ وظيفة المرأة الحقيقية هي القيام بالواجبات المنزلية مثل ترتيب مسكنها وتربية أولادها والاقتصاد في وسائل معيشتها مع القيام بالاحتياجات البيتية ولكن المعامل تسلخها من كل هذه الواجبات بحيث أصبحت المنازل غير منازل وأضحت الأولاد تشُب على عدم التربية وتلقى في زوايا الإهمال وطفئت المحبة الزوجية وخرجت المرأة عن كونها الزوجة الظريفة والقرينة المحبة للرجل وصارت زميلته في العمل والمشاق وباتت معرضة للتأثيرات التي تمحو غالباً التواضع الفكري والأخلاقي الذي عليه مدار حفظ الفضيلة".

وقالت الدكتورة ايدايلين: "إن سبب الأزمات العائلية في أمريكا وسر كثرة الجرائم في المجتمع هو أن الزوجة تركت بيتها لتضاعف دخل الأسرة فزاد الدخل وانخفض مستوى الأخلاق"ثم قالت: "إن التجارب أثبتت أن عودة المرأة إلى الحريم هو الطريقة الوحيدة لإنقاذ الجيل الجديد من التدهور الذي يسير فيه".

وقال أحد أعضاء الكونجرس الأمريكي: "إن المرأة تستطيع أن تخدم الدولة حقاً إذا بقيت في البيت الذي هو كيان الأسرة".

وقال عضو آخر: "إن الله عندما منح المرأة ميزة إنجاب الأولاد لم يطلب منها أن تتركهم لتعمل في الخارج بل جعل مهمتها البقاء في المنزل لرعاية هؤلاء الأطفال".

وقال سوبنهور الألماني أيضاً: "اتركوا للمرأة حريتها المطلقة كاملة بدون رقيب ثم قابلوني بعد عام لتروا النتيجة ولا تنسوا أنكم سترثون معي للفضيلة والعفة والأدب وإذا مت فقولوا أخطأ أو أصاب كبد الحقيقة".

ص: 344

ذكر هذه النقول كلها الدكتور مصطفى حسني السباعي رحمه الله في كتابه المرأة بين الفقه والقانون.

ولو أردنا أن نستقصي ما قاله منصفوا الغرب في مضمار الاختلاط الذي هو نتيجة نزول المرأة إلى ميدان أعمال الرجال لطال بنا المقال ولكن الإشارة المفيدة تكفي عن طول العبارة.

والخلاصة أن استقرار المرأة في بيتها والقيام بما يجب عليها من تدبيره بعد القيام بأمور دينها هو الأمر الذي يناسب طبيعتها وفطرتها وكيانها وفيه صلاحها وصلاح المجتمع وصلاح الناشئة فإن كان عندها فضل ففي الإمكان تشغيلها في الميادين النسائية كالتعليم للنساء والتطبيب والتمريض لهن ونحو ذلك مما يكون من الأعمال النسائية في ميدان النساء كما سبقت الإشارة إلى ذلك. وفيها شغل لهن شاغل وتعاون مع الرجال في أعمال المجتمع وأسباب رقيه كل في جهة اختصاصه ولا ننسى هنا دور أمهات المؤمنين رضي الله عنهن ومن سار في سبيلهن وما قمن به من تعليم للأمة وتوجيه وإرشاد وتبليغ عن الله سبحانه وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فجزاهن الله عن ذلك خيراً وأكثر في المسلمين اليوم أمثالهن مع الحجاب والصيانة والبعد عن مخالطة الرجال في ميدان أعمالهم.

والله المسؤول أن يبصر الجميع بواجبهم وأن يعينهم على أدائه على الوجه الذي يرضيه وأن يقي الجميع وسائل الفتنة وعوامل الفساد ومكايد الشيطان إنه جواد كريم وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.

الرئيس العام

لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد

عبد العزيز بن عبد الله بن باز

من ع تشغيل النساء في الشركات والمؤسسات الخاصة

هذا ويسر المجلة أن تنشر بهذه المناسبة الخطاب الذي وجهه صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية إلى معالي وزير العمل والشئون الاجتماعية المتضمن منع تشغيل النساء في الشركات والمؤسسات الخاصة.

حفظ الله سموه وزاده توفيقاً.

ص: 345

وجه صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية خطاباً إلى معالي الشيخ إبراهيم العنقري وزير العمل والشؤون الاجتماعية طالب فيه سموه بتكليف مكاتب العمل في عموم مناطق المملكة بالقيام بجولات تفتيشية فورية على عموم الشركات والمؤسسات الخاصة وكل من يوجد لديه امرأة تعمل يحقق معها على كيفية استقدامها وهل لديها رخصة عمل ومن ثم ترحيلها من البلد وتطبيق النظام بحق من قام بتشغيلها وإذا وجد ولي أمرها فيؤخذ عليه تعهد بعدم عملها وإذا عادت مرة أخرى ترحل في الحال.

هذا ومن جهة أخرى علمت (الندوة) أن سمو الأمير نايف قد طالب معالي الوزير العمل بمنع السعوديات من العمل.. في مثل تلك الأعمال ويطبق النظام بحق من شغلها بدون رخصة ويؤخذ عليه تعهد وعلى ولي أمرها بعدم تشغيلها إلا في المجالات المسموح بها لها بالعمل فيها. كما علم مندوب (الندوة) أن الجهات التي حددها سمو وزير الداخلية هي المستشفيات ومدارس تعليم البنات والكليات والدوائر الحكومية المسموح بها عمل الفتيات السعوديات كسجون النساء والجمعيات الخيرية والشؤون الاجتماعية. وقد طالب سمو وزير الداخلية معالي الوزير العمل بضرورة تنسيق مع الجوازات في إجراءات الإبعاد وتطبيق ما يخص الجوازات من أنظمة تطبيق العقوبات في هذه المخالفات بحدها الأقصى. كما يؤخذ تعهد على أصحاب المؤسسات والشركات ومالكيها الأصليين بعدم تشغيل أي امرأة لديهم وفد حدد سمو وزير الداخلية في خطابه أن المسؤولية ستكون على مالكي المؤسسات والشركات أمام الدولة وليس من جانب مديري أعمالهم حتى لا تكون حجة أمام المالكين الأصليين بالتنصل من أي مخالفة وتحميلها لهؤلاء المديريين.

كما علمت الندوة أنه قد تم تبليغ أصحاب السمو والمعالي الوزراء بهذه الإجراءات الجهات المسموح للمرأة بالعمل فيها.

الندوة 25 جمادى الثانية سنة 1398هـ - العدد 5858

ص: 346

المفهوم الصحيح للسلفية

أسرة التحرير

السلفية مسلك منسوب إلى الرعيل الأول من سلف هذه الأمة الذين سبقوا بالإيمان والفضل والعمل الجاد لنشر الإسلام والدعوة إليه. وصدقوا الله في إيمانهم وعملهم.

فهي تعني تجريد العبادة لله وحده بجميع أنواعها بحيث لا تركع الظهور ولا تسجد الجباه ولا تعنو الوجوه إلا للحي القيوم إذ لا تذلل إلا لله، ولا خوف إلا من الله ولا فقر إلا إلى الله الغني الحميد.

فيصبح العبد المؤمن شجاعاً صريحاً واثقاً بالله فتقضي هذه الثقة على العناصر الذميمة التي تحول بين العبد وبين ربه، من الخوف والخور والذل والتملق والنفاق والتزلف للمخلوق حياً أو ميتاً جنياً أو إنسياً، مع عدم الخوض في صفات الله تعالى بغير علم بالتحريف أو التشبيه، بل تمر كما جاءت في كتابه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام وعدم الإلحاد في أسمائه الحسنى.

ثم تعنى بعد ذلك تجريد متابعة رسول الهدى محمد عليه الصلاة والسلام، والاكتفاء به إماماً وقدوة، والعمل بسنته والدعوة إليها، وتحذير الناس من الابتداع في دين الله الذي بعث به رسوله محمداً عليه الصلاة والسلام.

ومن ثمرات هذا التجريد وتلك المتابعة الصادقة أن يحب المرء لا يحبه إلا لله ويحب له ما يحب لنفسه من خير، ويكره له ما يكره لنفسه من شر.

فالسلفيُّ صادق في توحيده وعبادة ربه ومحبة نبيه محمد عليه الصلاة والسلام وأتباعه، وهو حسن المعاملة مع الناس جميعاً متواضعاً، حزين حين يفرح الناس، باك حين يضحك الناسو يحاسب نفسه عل كل صغيرة وكبيرة.

خائف وجل، راج طامع، عفيف اللسان، رحيم القلب، حريص على نفع عباد الله بكل ما يستطيع، بعلمه وماله وجاهه وشفاعته، "اشفعوا تؤجروا.." الحديث..

دؤوب على الجهاد في سبيل الله بالنوع الذي يدخل تحت استطاعته، بنفسه، أو بماله، أو بلسانه، أو بقلمه، أو بكل ذلك حيث أمكن.

ص: 347

هذه هي السلفية بإيجاز.. وإياكم والمتسلفين المتكلفين السلفية ليستخدموها كوسيلة مؤقتة لغاية معينة.. والله المستعان.

أسرة التحرير

ص: 348

الدين والحضارة

لفضيلة الدكتور عبد المنعم حسنين

الأستاذ بالدراسات العليا

يظن كثير من الناس أن الدين شيء وأن الحضارة شيء آخر وأن المتدينين قوم، وأن المتحضرين قوم آخرون، وهذا ظن خاطئ، تسرب إلى أقطار العالم الإسلامي في العصر الحديث نتيجة لانتشار مظاهر الحضارة المادية الوافدة من الغرب العلماني الذي فصلت دوله عن العلم عن الدين، وحسبت الدين داخل جدران الكنائس، فلم يعد له أثر فعال في سلوك الناس، لذلك ينبغي بيان صلة الحضارة بالدين، حتى لا يخدع شباب المسلمين، بما يروجه أعداء الإسلام أياً كان لونهم من ضرورة الفصل بين الدين والحضارة، مجاراة للعلمانيين.

ولكي تتضح الصلة بين الدين والحضارة، ينبغي أن نتبين المقصود بالدين ثم نتبين المقصود بالحضارة لتظهر الصلة بينهما، وبالله التوفيق.

أولاً: المقصود بالدين:

يطلق الدين على كل معتقد يدين الإنسان به نفسه، ويلزمها إياه، وما يقتضي به هذا المعتقد من عبادات وأحكام وأخلاق ونحوها، وهو بهذا يشمل كل معتقد يعتقده الإنسان، سواء أكان هذا المعتقد حقاً أم باطلاً، صالحاً أم فاسداً، هدى أم ضلالا.

فدين رسل الله هو دين الحق، ودين رسل الله هو الإسلام، فيه بعث الله رسله، وأنزل كتبه، وأساسه الإيمان بالله واحداً لا شريك له، وإخلاص العبادة له، بحيث يكون الله وحده هو المعبود وهو المطلوب وهو المقصود، وبحيث يراقب الإنسان الله في كل عمل يعمله، سواء أكان هذا العمل من أعمال الدنيا أم كان من أعمال الآخرة، إذ لا فضل بين الدنيا والآخرة في دين الإسلام.

أما دين الكفر وأصحاب المذاهب الضالة المضلة قديمها وحديثها فدين فاسد لأنه يقوم على شرك وزيغ وضلال.

ص: 349

ويتضح الفرق بين دين الحق، ودين الباطل من قول الله سبحانه وتعالى:{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} سورة الكافرون.

فدين الإسلام هو دين الحق الذي ارتضاه الله لعباده يقول الله عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلامُ} (آل عمران:19) . ويقول سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران: 15) .

وقد أكمل الله دينه، وأتم نعمته، قبل أن يلحق بالرفيق الأعلى رسوله محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه فقال تبارك وتعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة:3) .

والإنسان العاقل هو المكلف بهذا الدين، وهو الذي ينبغي أن يأتمر بما فيه من أوامر، وينتهى عما فيه من نواه، حتى يستقيم طريقه في الحياة، ويتحقق له الفلاح والسعادة في دنياه وأخراه.

وقد خلق الله الإنسان، وجعله خليفة في الأرض، ليمشي في مناكبها ويأكل من رزق الله فيه ويعمرها، ويقيم الحضارة فيها على أساس عبادة الله وحده، ومراقبته في جميع الأعمال.

ولهذا فضل الله الإنسان على كثير ممن خلق تفضيلاً، فقال جلت حكمته:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء:71) .

ص: 350

والإنسان يولد على الفطرة نقيا صافيا، والإسلام دين الله الحق، دين يتفق مع الفطرة السليمة. ولهذا يقول الله تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (الروم:30) .

وكل مولود يولد على هذه الفطرة السليمة، كما يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم:"كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه".

والإسلام يخاطب الإنسان بوجوده كله، جسداً وروحاً، فهو المخلوق العاقل المؤهل للتكليف والحساب والجزاء، فإذا استقام الإنسان كما أمره الله تحققت له السعادة في الدنيا والآخرة، وكان له في الدنيا مكان العزة والقيادة، ومن الآخرة جزاء المتقين المحسنين الفائزين برضوان الله، كما يقول الله سبحانه وتعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل: 97) .

ثانياً: المقصود بالحضارة:

الحضارة في أحدث تعريف لها هي كل إنتاج مصدره العقل، فهي تشمل كل ألوان النشاط البشري، أي أن الإنسان العاقل هو الذي ينتج الحضارة، فهي ثمرات أعماله التي يوجهها الدين الحق توجيهاً صحيحاً ويزكيها.

وقد عرف علماء الاجتماع الإنسان بأنه حيوان عاقل، وبأنه حيوان ذو دين، وبأنه حيوان ذو حضارة، أي أن الإنسان العاقل هو الكلف دينياً، والنتج حضارياً، والعقل هو أكبر نعمة أنعم الله بها على الإنسان؛ لأنه يستطيع به التمييز بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال وبين الخير والشر، وبين النافع والضار، وبين الصالح والفاسد، فيستطيع به أن يعرف الدين الحق ويدين به، وأن ينتج الحضارة الصالحة المفيدة في الدنيا والآخرة.

ص: 351

والحضارة السليمة هي التي تتفق مع الفطرة السليمة، فيجب على الإنسان أن يحتفظ بفطرته، ويتسامى بإنسانيته ليكون أهلاً للخلافة في الأرض، فينبغي عليه أن يكون ذا دين حق، حتى يكون ذا حضارة صحيحة تحقق السعادة للإنسان فرداً ومجتمعاً في الدنيا والآخرة.

أما إذا كان الإنسان يدين نفسه بدين باطل فاسد ومعتقدات ضالة مضلة، فإنه ينتج حضارة فاسدة؛ لأن كل إناء بما فيه ينضح، فالإنسان بفطرته ذو دين وهو الذي ينتج الحضارة، وفقاً لمعتقداته الصحيحة أو الزائفة، فتكون حضارة كريمة أو سقيمة.

والتاريخ خير شاهد على ارتباط الحضارة بالدين، وأنها ثمرة له، وأن الدين الحق هو الذي يثمر الحضارة الراقية معنويا وماديا، لأن الإنسان منتج الحضارة محتاج إلى الدين الحق، ليستقيم طريقه في الحياة، وتستقيم أعماله في جميع الميادين، فتتحق له السعادة في الدنيا والآخرة.

وحين سار المسلمون الأولون على هدى دينهم الحق استطاعوا أن يبنوا حضارة راقية، وأن يدخلوا الحياة من أوسع أبوابها وأكرمها، وأن يقيموا دولة ملكت أطراف العالم، وزخرت بألوان المجد والعزة، وزهت بألوان العلم والمعرفة، وأرست قواعد الحياة بين الأمم على أكرم المبادئ، وأسمى الفضائل.

ثالثاً: ارتباط الحضارة بالدين:

يتضح مما ذكرنا أن الدين أساس الحضارة، وأن ارتباط الحضارة بالدين كارتباط البناء بالأساس، فإذا كان الأساس صحيحاً قوياً استقام البناء، وترابطت أجزاؤه، وإذا كان الأساس فاسداً، صار البناء هشاً ضعيفاً مهم كان براقاً.

والدين الحق هو الذي يعدّ الإنسان الصالح ليبني به المجتمع الصالح؛ لأن الإنسان هو لبنة البناء للمجتمع، وهو الذي يستطيع أن ينتج حضارة على أسس سليمة قائمة على المبادئ الدينية القويمة.

ص: 352

ولن يكون الإنسان صالحاً إلا إذا توازنت قواه المادية والمعنوية جميعاً، وتلاقى بعضها مع بعض على دواعي الخير، ومواقع الإحسان وإلا إذا كان ذا دين حق، ليكون ذا سلوك حميد، وسيرة طيبة، وعمل نافع في ماديات الحياة ومعنوياتها.

فالدين الحق يعد الإنسان منتج الحضارة إعداداً طيباً، ليدخل في المجتمع معها صالحاً عاملا فيه، ويجعل الناس جميعاً ينتظمون في وحدة شعورية عامة، بأنهم على سواء في التكاليف الشرعية، وأنهم مطالبون كأفراد وكجماعة أن يقوموا بما كلفوا به، وأن يأمروا فيما بينهم بالمعروف، وأن ينهوا عن المنكر.

كما أن الدين الحق يضع المؤمنين به جميعاً وضعاً واحداً من أوامر الشريعة ونواهيها، وعلى قدم المساواة بينهم لا فرق بين حاكم ومحكوم، أو بين خاصة وعامة، أو بين أغنياء وفقراء، أو بين علماء وغير علماء، ثم تبدأ المفاضلة بينهم على حسب إحسان كل منهم أو تقصيره، فيكون أتقاهم هو أكرمهم عند الله، كما يقول الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات:13) .

وفي هذا المجال يكون التنافس في فعل الخير، والتقرب إلى الله بصالح الأعمال، الذي يؤدي إلى سعادة الإنسان في الدنيا وإقامة حضارة راقية على أساس سليم، والظفر بالثواب الجزيل في الآخرة.

والدين يقيم المجتمع الإنساني كله على أساس من المساواة ورفع الحواجز المصطنعة بين الجماعات على مدعيات باطلة من الاعتزاز بالدم أو اللون أو المال أو الجاه أو السلطان ويرد الناس إلى معدنهم الأصلي الذي خلقهم فيه من نفس واحدة {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (النساء:1) .

ص: 353

ويقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه: "كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى".

وإنّ أيّ مجتمع لا يتحقق له الأمن والاستقرار والطمأنينة إلا إذا ارتبطت مشاعر أفراده جميعاً بروح المودة والإخاء، تؤلف بين قلوب الجماعة، وتجعل منهم جسداً واحداً إذا مسه ضر وجد كل عضو من أعضائه مس هذا الضر كما قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم:"مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى".

والإسلام دين الحق يربي الفرد والمجتمع على أساس الإيمان بالله الواحد الأحد، الذي لا شريك له والذي له ما في السموات وما في الأرض، ثم الإيمان بملائكة الله وكتبه ورسله وباليوم الآخر والبعث والحساب والجزاء والجنة والنار، ثم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا، ثم بفعل الخير وإتقان العمل.

وبقدر تمسك الإنسان بهذا الإيمان والاستقامة على شريعته يكون حظ المجتمع من الخير الذي يجنيه من ثمرات هذا الإيمان، ويكون حظ الحضارة التي ينتجها من ثمرات هذا الإيمان في رقي وسمو، فتكون حضارة فاضلة يطيب فيها العيش، وتهنأ في ظلالها الحياة لكل أهلها.

وقد تكفلت شريعة الإسلام بوضع الأسس السليمة التي يقوم عليها المجتمع الآمن، والحضارة القويمة الصالحة الملائمة لكل زمان ومكان، التي تؤلف تأليفاً حكيماً بين الفرد والجماعة، وتقيم لأفراد البشرية حضارة سليمة، على هذه الأسس القويمة.

فلا تنافر إذاً بين الدين والحضارة، لأن الحضارة ثمرة الدين، والدين الحق يتفق مع الفطرة السليمة، التي فطر الله الناس عليها، ولا تبديل لخلق الله.

ودين الإسلام الحق يربي الفرد تربية صحيحة يقيم بها حضارة راقية تسعد بها البشرية في الدنيا، ويثقل بها ميزان الإنسان يوم يقوم الناس لرب العالمين.

ص: 354

والحضارة الفاسدة هي التي تقوم على معتقدات باطلة، لا تتفق مع الفطرة السليمة، ولا ترضى جميع جوانب الإنسان المادية والروحية.

والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم والله يقول الحق. وهو يهدي السبيل.

وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

ص: 355

البحث الأمين في حديث الأربعين

لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن عمر الربيعان

مدير المعهد المتوسط بالجامعة الإسلامية

صدر الجزء الثامن من كتاب أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، وهو الجزء الأول من التكملة والذي قام بتأليفه فضيلة الشيخ عطية محمد سالم تلميذ مؤلف الكتاب أصلاً، وهو العلامة بحر العلوم الزاخر محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله الذي اخترمته المنية قبل إتمام ذلك الكتاب النفيس والسفر العظيم الذي في اعتقادي لا يماثله كتاب في هذا الفن - تفسير القرآن الكريم - مما سبقه من كتب التفسير. وقد وصل فيه مؤلفه إلى آخر سورة الحديد فانتدب لإكماله فضيلة الشيخ عطية القاضي بمحكمة المدينة، وقد حرص أثابه الله على محاكاة خطة المؤلف والنسج على منواله بقدر الإمكان، فلما صدر الجزء الأول من التكملة وهو من أول سورة المجادلة حتى آخر سورة المرسلات تردد على ألسنة طلبة العلم وشاع بينهم أن فضيلة المؤلف قد وقع في بعض الأخطاء التقليدية التي في اعتقادي أنه لو تجرد أمامها من المؤثرات الخارجية واتجه في بحثها إلى علمه وعقله فقط لما وقع فيها، ونظراً لكوني لم أقرأ كل الكتاب وإنما قرأت بعضه فإني سوف أناقش فضيلة المؤلف في مسألتين هما فيما قرأت أولاهما مسألة تصحيحه لحديث "من صلى بمسجدي أربعين صلاة.. الخ"، وثانيهما مسألة شد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم.

وأبدأ بالأولى من المسألتين فأقول:

إن فضيلته صحّح هذا الحديث وقد ضعفه بعض اهل العلم ممن هم أعلم منه بهذا الشأن، وقد صححه الشيخ عطية دون أن يقدم أي حجة يرد بها دليل من ضعّفه سوى كلمة بسيطة نقلها عن الشيخ حماد الأنصاري لا تغني في الموضوع شيئاً، لذلك سوف نناقش فضيلة الشيخ حماد مع فضيلة الشيخ عطية إذ هو شيخه في ذلك التصحيح، فنقول:

ص: 356

أيها الشيخان الكريمان أنظرا معنا أولا في متن الحديث وتأملا في أسلوبه بتجرد وإخلاص فربما وافقتمانا على أن أسلوبه ليس نبوياً ولا عربياً بليغاً وهذا نصه: "من صلى في مسجدي أربعين صلاة لا تفوته صلاة كتب له براءة من النار ونجا من العذاب وبرئ من النفاق"أليس النار هي العذاب؟.. أليس العذاب عند الاطلاق ينصرف إلى عذاب الآخرة؟.. مقتضى التعبير البليغ أن يكتفي بواحد من هذين إما النار أو العذاب، وبعد ذلك "وبرئ من النفاق" بعد أن ضمن له النجاة من النار والعذاب أخبر ببراءته من النفاق ومعلوم أن من ضمنت له النجاة من النار لا يكون منافقاً لا في الحاضر ولا في المستقبل.

ثم إن مقتضى هذا الحديث أن من صلى في المسجد النبوي الشريف ثمانية أيام تحقق له ما تحقق لأهل بدر حيث أخبر المصطفى عليه السلام أن الله قال لهم: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" ولو كان ذلك صحيحاً لعرفه السلف الصالح وبادروا إليه وتناقلوه فيما بينهم وبلّغوه إلى من بعدهم إذ هذا أمر ليس بالهيّن فكيف لم يرد إلا بخبر واحد عن صحابي واحد من طريق تابعي واحد غير معروف عند علماء الإسلام ولم يرد اسمه في حديث واحد غير هذا الحديث ولا في كتاب واحد من كتب الترجمة سوى كتاب ابن حبان، وهذا الذي قلناه عن متن الحديث مجرد وجهة نظر خاصة لا نلزم أحداً بقبولها ولا نلوم من خالفنا فيها.

ص: 357

والآن إلى سند الحديث لنرى غير متعصبين لأحد ولا ضد أحد، إنما نريد الحق فقط رغبة منا بأن لا تبنى أعمال المسلمين على الظنون والأوهام ولا على مجاراة العواطف، يقول فضيلة الشيخ حماد الأنصاري وتبعه الشيخ عطية بأن هذا الحديث صحيح وانتقد من ضعفه بجهالة نبيط بن عمرو من أهل الاختصاص بهذا الفن، أما الشيخ عطية فقد اكتفى بنقل عبارة مختصرة عن الشيخ حماد ولم يكلف نفسه أي عناء في سبيل البحث ليقدم لقرائه من طلبة العلم خلاصة دراسة وافية وبحث عميق مقنع. وظن وفقه الله أن طلبة العلم يكتفون بهذا الجهد الخفيف وإن لم يكتف بذلك بعض منهم ففي البعض الآخر بركة - هذا ظني والعلم عند الله وإذا كان بعض الظن إثماً فبعضه حق - ونقول لفضيلته: إننا من البعض الذي لا يكتفي بمثل هذا البحث الخفيف في المسائل المختلف فيها في سبيل الوصول إلى الحق والقول على الله ورسوله، أما فضيلة الشيخ حماد فقد احتج لتصحيحه هذا الحديث بما يلي:

1 – نبيط بن عمرو ذكره ابن حبان في الثقات.

2 – ابن حجر نقل ذلك عن ابن حبان ولم يعارضه.

3 – الهيثمي أورد هذا الحديث في الزوائد وقال بعد سياقه: "رواته ثقات".

4 – المنذري أورد هذا الحديث في الترغيب والترهيب وقال بعد سياقه: "رواته رواة الصحيح".

وبهذا اعتبر الشيخ حماد هؤلاء العلماء الأربعة كلهم موثقين لنبيط بن عمرو الذي قرر غيره بأنه مجهول العين والحال.

وهذه عبارة فضيلة الشيخ حماد بنصها حسبما نقل فضيلة الشيخ عطية:

قال ابن حجر في تعجيل المنفعة في زوائد الأربعة: "نبيط بن عمرو ذكره ابن حبان في الثقات"انتهى المنقول عن ابن حجر. قال الشيخ حماد: "فاجتمع على توثيق نبيط كل من ابن حبان وابن حجر والمنذري والهيثمي ولم يجرحه أحد من أئمة هذا الشأن فمن ثم لا يجوز لأحد أن يطعن في من وثقه أربعة من أئمة هذا الشأن".

ص: 358

ثم قال: "ولو فرض وقدر جدلاً أن في السند مقالاً فإن أئمة الحديث لا يمنعون إذا لم يكن في الحديث حلال أو حرام أو عقيدة بل كان في باب فضائل الأعمال لا يمنعون العمل به لأن باب الفضائل لا يشدد فيه هذا التشديد نقل السيوطي مثل ذلك عن أحمد وابن المبارك"، ومن هنا نبدأ النقاش مع فضيلة الشيخ حماد فنقول:

أما ذكر ابن حبان لنبيط في الثقات فأنت نفسك قد ذكرت وكررت أن توثيق ابن حبان لا يعتد به قبلك جماهير علماء المسلمين الذين لهم عناية بهذا الشأن وذلك لأمرين: الأول: تساهل ابن حبان في التوثيق فإنه يوثق المجروحين، والثاني: قاعدته الشاذة وهي توثيق المجاهيل من الرواة، وعلة هذا الحديث جهالة أحد رواته وهو نبيط الذي انفرد بذكره ابن حبان دون جميع من ألفوا تراجم رواة الحديث، والذي لم يرد له اسم في أي حديث صحيح ولا ضعيف ولا موضوع سوى هذا الحديث الذي نحن بصدد الكلام فيه، فذكر ابن حبان له في كتاب الثقات ما هو إلا جري على قاعدته في توثيق المجهولين، وإن قلت يا فضيلة الشيخ: إنني قد ذكرت عدم الاعتداد بتوثيق ابن حبان إذا عورض دون ما إذا لم يعارض.

نقول جواباً على هذا: إنه لا فرق بين أن يعارض وبين أن ينفرد لأن العلة حاصلة في الحالين ألا وهي التساهل في التوثيق وفي توثيق المجاهيل، أما لو أن عدم المعارضة حاصل بجانب رجل معروف العين مشهور بين أهل العلم وحصل توثيقه من ابن حبان ولم يعارضه معارض بتضعيف ذلك الرجل فحينئذ يكون الاشتراط وجيهاً ومقبولاً.

أما والرجل مجهول لم تذكره كتب التراجم لا إجمالاً ولا تفصيلاً سوى ابن حبان، فلا ينبغي أن يقال أن ابن حبان لم يعارض في توثيقه لذلك الرجل، ونحن لا نشك في أنّ ابن حبان وجد اسم ذلك الرجل في سند ذلك الحديث ولم يجد له أي خبر ولا أثر فيما سواه فدوّن اسمه في كتاب الثقات جرياً على قاعدته المعروفة.

ص: 359

والآن انتهينا من مناقشتنا للشيخ حماد بشأن ابن حبان فلننتقل إلى مناقشته حول ادعائه أن ابن حجر وثق نبيطاً فنقول:

إن ابن حجر لم يزد على قوله: "ذكره ابن حبان في الثقات"، ولم يأت بشيء من عند نفسه بشأن نبيط يدل على رأيه الخاص، أما إن تعلقتم فضيلتكم بعدم معارضة ابن حجر لابن حبان كأنكم تقولون: السكوت دليل على الموافقة. فأولاً: هذا الدليل في غاية من الضعف إن لم نقل إنه باطل.

ثانياً: نحن نقول: إن سكوت ابن حجر وعدم معارضته لابن حبان بشأن توثيق هذا الرجل راجع إلى أمرين:

الأول: عدم معرفته لذلك الرجل إذ لم يرد له ذكر في شيء من كتب الجرح والتعديل إلا في كتاب ابن حبان.

والثاني: علم ابن حجر باشتهار ابن حبان بين أهل العلم بالتساهل من ناحية وبتوثيق المجاهيل من ناحية أخرى، فاكتفى بذلك عن بيان جهالة نبيط، علماً بأن ابن حجر لم يقل في مقدمة كتابه (تعجيل المنفعة) أنه إذا نقل حكماً من أحد على أحد ولم يعارضه كان ذلك دليلاً على موافقته له، ولا يجوز إلزام أحد لما لم يلتزم.

ونحن وفضيلة الشيخ حماد وغيرنا نعلم أن الزمان طويل جداً بين نبيط وهو تابعي - لأنه في هذا الحديث يروي عن صحابي - وبين ابن حجر وهو من أهل القرن التاسع فلا سبيل إلى معرفة رجل من التابعين إلى عن طريق الكتب التي ألفها السلف، والكتب التي اطلع عليها ابن حجر موجودة الآن فهل ذكر نبيطاً شيء منها سوى كتاب ابن حبان، وقد فرغنا من الحديث عنه وبيّنّا أنه لا حجة به كما قرر فضيلة الشيخ حماد نفسه.

ص: 360

ثم نوجه هذا السؤال إلى فضيلة الشيخ حماد فنقول: من نقل شهادة غيره ولم يعارضه هل يعتبر شاهداً ثانياً له؟.. وهل يحكم عليه بأن موافق على مقتضى تلك الشهادة؟!! لا شك أن الجواب: لا، إذاً كيف يسوغ لنا أن نحكم على ابن حجر بأنه موافق لابن حبان في توثيق نبيط بحجة أنه ذكر توثيقه له ولم يعارضه؟.. نقول: هذا لا يجوز ما دام الناقل لم يصرح بالموافقة ولم يبد ما يدل على رأيه الخاص.

بل لو صرح ابن حجر نفسه بتوثيق هذا الرجل لاستغربنا وتساءلنا من أين عرف ابن حجر هذا الرجل مع عدم ورود اسمه في كتب الجرح والتعديل بل في كتب التراجم أجمع سوى ما ذكر؟

والآن إلى الهيثمي والمنذري لنرى هل يصح أن يقال: إن أربعة من أئمة هذا الشأن وثقوا نبيطاً فلا يجوز لأحد بعدهم أن يطعن فيه، كما هي عبارة فضيلة الشيخ حماد، وهو يعني بأولئك الأربعة ابن حبان وبن حجر والهيثمي والمنذري.

فنقول أولا: إنّ من تشير إليه يا فضيلة الشيخ لم يطعن في نبيط وإنما قرر أنه مجهول وجهالته أمر واقع لا مجال لانكاره.

ثانياً: نقول للشيخ حماد: لا شك أنك توافقنا على أن كلاً من الهيثمي والمنذري قد اعتمد في توثيقه لهذا الرجل على ذكر ابن حبان له في كتاب الثقات، وقد أوضحنا أنه لا اعتماد على توثيق ابن حبان، وأنه يوثق المجاهيل كما قررت ذلك يا فضيلة الشيخ حماد في مجلة صوت الجامعة التي تصدرها الجامعة السلفية ببنارس في الهند - السنة السابعة، العدد الأول، شعبان عام 1395هـ ص 58 - ولولا تقرير فضيلتكم المشار إليه لنقلنا من كلام أهل العلم ما يثبت ما ذكرنا.

ص: 361

ثالثاً: الذي يغلب على ظني أن فضيلة الشيخ حماد لا يخالف في أن كلا من الهيثمي والمنذري متساهل في التوثيق لا يعتمد عليه إلا بعد النظر والتحقيق. يعرف ذلك من نظر في كتابيهما الزوائد والترغيب، وانظر العبارة التي نقلناها عن مقدمة المنذري لكتابه الترغيب، وانظر ما كتبه الشوكاني في البدر الطالع ص424جزء2 ضمن ترجمته للهيثمي إذ يقول:"أراد ابن حجر أن يتتبع أوهامه فبلغه ذلك فعاتبه فترك التتبع". قال: "وهو كثير الاستحضار للمتون يسرع الجواب بحضرة الزين فيعجب الزين ذلك وكان من لا يدري يظن لسرعة جوابه بحضرة الزين أنه أحفظ منه وليس كذلك، بل الحفظ المعرفة".

أليس في هذا الكلام تعريض بالهيثمي بعدم المعرفة؟..

وأخيراً نأتي إلى ما ذهب إليه الشيخ حماد من التفريق بين حديث في الحلال والحرام وبين حديث في فضائل الأعمال حيث يرى فضيلته أن التشدد في طلب صحة السند لازم ومطلوب في القسم الأول دون الثاني، وأن ذلك مذهب أهل الحديث اعتماداً منه على ما نسبه السيوطي للإمام أحمد وابن المبارك فنقول: إن أهل الحديث أكثر من هذين الإمامين، ثم يا صاحب الفضيلة هناك أمور ينبغي ملاحظتها:

أولاً: هل سمع السيوطي من هذين الإمامين؟ الجواب: "لا؛ لأن الزمن طويل بينهما وبينه فلا سبيل إلى سماعه منهما.

ص: 362

هل كتبا ذلك في كتاب اطلع عليه السيوطي؟.. لو كان كذلك لرأينا ذلك الكتاب، أليست مكتبة فضيلتكم يندر أن يوجد كتاب باللغة العربية في أي علم الحديث لا تشتمل عليه؟.. فهل وجدت ذلك مكتوباً بأيديهما أو بيد أحد ممن عاصرهما أو عاش قريباً من عصرهما؟ وهل كل ما قيل يصدق وتبنى عليه أحكام؟ .. وهل السيوطي ثقة في النقل؟ .. الجواب عندنا:"لا"، وكيف يكون ثقة وهو يورد أحاديث في كتاب اللآلئ المصنوعة ويحكم عليها بأنها موضوعة، وإذا دعته نفسه إلى إثبات حكم - غالباً ما يكون في الخرافات - أورد ذلك الحديث محتجاً به على صحة ما ذهب إليه، وانظر في فتاواه ترى العجب العجاب في باب التصوف والشعوذة وأنواع الخرافة، فكيف يقال: نقل السيوطي عن الإمام أحمد وابن المبارك ويحتج بهذا في المسائل العلمية الأساسية؟!

ثم لو صح ذلك عن أحد أئمة الإسلام فمعلوم أنّ السلف إذا قالوا بالحديث الضعيف أو عدم التشدد في صحة الإسناد فهم يعنون ما سمى بعدهم بـ (الحسن) إذ أن اصطلاح السلف على الحديث قسمان صحيح وضعيف، فما لم يبلغ درجة الصحيح فهو ضعيف في اصطلاحهم وعلى هذا أنزلوا ما نقل عن الإمام أحمد وغيره من قولهم: الحديث ضعيف، أحب إلينا من القياس، وكذا قولهم:"إذا روينا في الحلال والحرام تشددنا وإذا روينا في فضائل الأعمال تساهلنا"، فهو لا يعنون حديثاً فرداً من أول سنده إلى آخره وفي سنده راو مجهول العين والحال وحتى راويه ذلك المجهول وهو عبد الرحمن بن أبي الرجال قال فيه ابن حجر في التقريب:"صدوق يهم"فليس هو في الدرجة العليا من رواة الحديث.

أما ما سمي ضعيفاً في الاصطلاح الأخير فهو عند السلف متروك لا يلتفت إليه، انظر مقدمة مسلم لصحيحه.

ثم لو فرض أن نقل السيوطي صحيح وأن الإمامين يعنيان مثل هذا الحديث لقلنا: كل يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 363

ثم إن الناس اليوم ينفقون أوقاتهم وأموالهم على أساس هذا الحديث فترى الحاج الفقير المسكين يقيم في المدينة ثمانية أيام، ولا بد أن يستأجر مسكناً بمبالغ باهظة وقد تنفد نفقته ويبقى يتسول بسبب ظنه صحة هذا الحديث بالإضافة إلى حرمانه نفسه من المقام هذا المدة في مكة يطوف بالبيت الحرام ويصلي بالمسجد الحرام الذي الصلاة فيه بمائة ألف صلاة.

فالعامة وأشباههم يهتمون بالوصول إلى المدينة والإقامة فيها ما أمكن أكثر من حرصهم واهتماهم بالوصول إلى مكة والإقامة فيها لكثرة ما يسمعون هذا الحديث من بعض الوعاظ.

وبعد أن فرغت من تحرير هذه الورقات واطلع عليها بعض طلبة العلم الذين يحبون التحقيق ويكرهون التلفيق قدمت لي ورقة فيها اثنان وأربعون اسماً من رواة الحديث كل واحد منهم ذكره ابن حبان في الثقات، وذكر كذلك ابن حجر في التهذيب وسكت عليه، وفي التقريب ذكر أمام كل واحد منهم أنه ضعيف أو مجهول وغالبهم حكم عليهم بالجهالة، وإليك أيها القارئ الكريم أمثلة منهم لتكون على بصيرة في هذا الأمر، وحتى لا تغتر بقول أحد دون أن تقوم بنفسك بالمراجعة والتحقيق ما أمكن وحتى تعرف أن أكثر الناس يبنون أحكامهم على الوهم والظنون وقد تكون نياتهم حسنة ولكن حسن النية لا يكفي وخاصة بالأمور العلمية.

1 – غيلان بن عبد الله العامري - ذكره ابن حبان في الثقات وسكت عليه ابن حجر في التهذيب وبيّن في التقريب أنه لين.

2 – القاسم بن فياض الصنعاني - ذكره ابن حبان في الثقات وسكت عليه ابن حجر في التهذيب وبيّن في التقريب أنه مجهول.

3 – القاسم بن محمد بن عبد الرحمن- ذكره ابن حبان في الثقات وقال الذهبي: غير معروف.

4 – قدامة بن وبرة العجلي البصري ذكره ابن حبان في الثقات وسكت عليه ابن حجر في التهذيب وبين في التقريب أنه مجهول.

ص: 364

5 – كعب المديني أبو عامر - ذكره ابن حبان في الثقات وسكت عليه ابن حجر في التهذيب وبين في التقريب أنه مجهول.

فإلى الله المشتكى، وهو حسبنا ونعم الوكيل

كتبه: عبد العزيز بن عمر الربيعان

ص: 365

تعقيب لا تثريب

لفضيلة الشيخ محمد المجذوب

كلية الدعوة وأصول الدين

جولة ثانية مع الدكتور البهي

وعدنا القارئ في التعقيب الأخير أن نعود إلى استكمال مذكراتنا عن شطحات هذا المفكر الفاضل. وها نحن أولاً نعرضها فيمايلي مفصلة رجاء أن يتفضل بإعادة النظر فيها فنلتقي وإياه على الحق الذي يرضي الله إن شاء الله.

1 – في إحدى مذكراتي للأعوام السابقة وجدتني قد سجلت الملاحظات الثلاث التالية تعليقاً على واحدة من مذاعات الدكتور، وكان قد أدارها حول آيات من سورة (الحجر) .

قلت في الملاحظة الأولى: لقد أصر المتحدث على أن إبليس كان من جنس الملائكة ونسي قوله تعالى: {إِلاّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ} (الكهف: 50)، وقوله عز وجل:{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} ومعلوم بالضرورة ألاّ ذريةَ من للملائكة.

وقلت في الملاحظة الثاني: فسر المتحدث (الغابرين) في قوله تعالى: {إِلاّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} (الحجر:60) ، بمعنى (الرجعية) مؤكداً أن ذلك من مصطلحات القرآن. والذي عليه أهل العلم أن الغابر في كلام العرب مقصور الدلالة على ما مضى وما بقي، وهي في الآية الكريمة بمعنى (الباقين) بدلالة السياق فلا رجعية ولا تقدمية.

وقلت في الثالثة والأخيرة: وقد قرأ معاليه قوله تعالى {وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} (الحجر: 64) بمد (أتيناك) وهي من (أتي) الثلاثي لا من (آتى) المزيد.

ص: 366

كتبت هذه الملاحظات في أعقاب سماعي للحديث من إذاعة الكويت، وكان في نيتي أن أبعث بها إليه في رسالة خاصة، ثم شاء الله أن ترقد مكانها حتى أيقظها عمل الدكتور الفاضل وهو يحشد أغاليطه العجيبة في تفسيره لسورة الجن، فكان من حقه على كل مؤمن يعي كلام الله أن يتصدى له بما يجب من التنكير الذي أمر به الله. وهكذا يأتي تعقيبنا السابق لتفسيره ذاك تصحيحاً كافياً لتلك الأغاليط، وشاملاً في الوقت نفسه لمضمون الملاحظة الأولى حول جنسية إبليس، إذ كان إصراره على ملائكته في حديثه تكراراً مقصوداً لما قرره من ذلك في تفسيره، وعلى هذا فلا حاجة للكلام في هذه النقطة لأنه لن يعدو أن يكون إعادة لما أثبتناه في تعقيبنا على ذلك التفسير.

وإذن فالتعقيب الآن حول الملاحظتين الأخريين وما يتجاوزهما من أشياء عثرنا عليها في بعض مقرراته الأخرى.

ونقف هنا على تفسيره العجيب لصفة (الغابرين) بأنها من (الرجعية) ولنسأل الدكتور الفاضل عن مستنده في هذا القول، الذي لم يفطن له أحد من أئمة التفسير ولا من مدوني المعاجم، ولم يسبق أن تكلم به لسان قبل البدعة القومية والاشتراكية التي تريد بقوة الإرهاب والأعلام أن تفرض مصطلحاتها على كل شيء حتى المعاني الإسلامية.

لقد وردت هذه الكلمة (الغابرين) سبع مرات في الكتاب الحكيم، وكلها في قصة لوط عليه السلام وامرأته، وكان ثمة إجماع بين المفسرين على أن المراد بها أنها مع (الباقين) الذي قدر لهم العذاب فلم تنج مع آل لوط.

وفي لسان العرب عن (الغابر) أنه الباقي وأنه الماضي، وقد ذيل الشهيد سيد قطب هذه الكلمة في الظلال بقوله:"أي أنها مع القوم – الكافرين - تلقى مصيرهم، وأصله من الغبرة وهي بقية اللبن في الضرع".

ص: 367

وأما الرجعية في لغو (التقدميين) و (الثوريين) قد فاتت المتقدمين والمتأخرين من أساطين اللغة، حتى جاء الدكتور البهي يستدرك عليهم بإسباغ هذه الحلة القشيبة على (الغابرين) ليجعلهم في مقابل (التقدميين) ، ولعل ذلك مشجع بعضهم على تطوير آخر للكلمة يُلحقها - ذات يوم - باليمين في مواجهة اليسار، وما أحسب ذلك مما يسر فضيلته.

ولا مندوحة هنا عن التساؤل.. ما الذي حفز الدكتور الفاضل إلى إيثار (الرجعية) الدخيلة على (الباقين) العربية الأصيلة؟.. وهل ثمة من علاقة بين المعيبتين تُسَوّغ مثل هذا التوسع على طريقة البلاغيين

؟

أما أنا فلا ألمح في أي صلة بين الاتجاهين، لأن مفهوم (الرجعية) في معجم أصحابها يمثل نمطاً من الحياة يرتبط بقيم الماضي، في مقابلة (التقدمية) التي تقوم على تدمير كل الجسور المتصلة به.. فكيف استطاع الدكتور حفظه الله أن يغفل كل هذه التصورات الملصقة بالكلمة ليجعل منها تفسيراً (عصرياً) للكلمة القرآنية!

تعليل واحد يمكن له الاحتجاج به هو احتواء كل من الإيمان والكفر على نمط للحياة مضاد للآخر، بمعنى أن الإيمان منطلق القيم السعيدة المنسجم مع سنن الكون، في حين أن الكفر يمثل رأس المنحدر إلى هاوية الاضطراب والشقاء والضياع المنافي لنظام الوجود.. وإنه لتعليل معقول لولا حاجته إلى التفسير المقبول الذي يطهره من اللبس الذي يشد المصطلح إلى اللغو الثوري، ومثل الدكتور البحاثة المؤلف الكبير لا يفوته أن للكلمة - ذات الدلالة الاصطلاحية - ظلالاً هي التي ترسخ صورتها في الذهن، فما أن تمس السمع حتى تشيع صورها الخاصة على لوح الفكر.

ص: 368

ومن هنا كان إقبال الكاتب الإسلامية على استعمال المصطلحات الدعائية ذات الارتباط الصميم بالنظم غير الإسلامية أول بوادر الهزيمة، وأولى الخطى في الطريق إلى الفخ.. وإذا جاز لمفكر مؤمن تدوال مثل هذه الألفاظ في معرض الجدال أو البحث فلا عذر له البتة في إقحامها حرم المعاني الشرعية عند تفسير الكتاب الحكيم أو شرح الحديث الكريم.

أما النقطة الثالثة فهي أيسر من ذلك، ولكنها مع يسرها ترسم صورة غير مرضية لتساهل الدكتور بحق العربية على الأقل، ومعلوم أن الفرق غير قليل بين الفعل الثلاثي المجرد (أتى) والمزيد (آتى) فبينما الأول يتعدى إلى مفعوله الثاني بالباء ليفيد المجيء والإقبال مع المصاحبة، نرى في قوله تبارك اسمه:{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي} (الحجر: 87)، هذا إلى ما في التعبير الإلهي {وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقّ} (الحجر: 64) ، من لطائف مناسبة لسياق القصة تُحمِل الفعل (أتى) شيئاً من معاني النجدة التي بشر بها الملائكة نبي الله لوط، إذ استنكر أمرهم فطمأنوه بقولهم:{.. جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ} (الحجر: 63) ، أي بالعذاب الذي كان يهدد به قومه فلا يبالون وعيده بل يستمرون على فسوقهم مصرّين مكذبين.

ولهذا يردفون البشرى بتوكيدها {وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقّ..} ، وقد سمى الله جلت حكمته العذاب هنا بالحق لتضمنه معنى العدل والحسم الذي سيقطع دابر القوم الظالمين، ونحن لا نستطيع استيعاب الصورة التي يرسمها الفعل الثلاثي المقترن بالباء (أَتيناك بالحق) إلا عندما نتصور سريّة من المجاهدين مثلاً قد أحاط بهم العدو، وضيق عليهم المنافذ، وإذا هم يتلقون بشرى وصول النجدة وإحاطتها بالعدو من كل صوب.. وبذلك نعلم أن مجرد زيادة المدة على أول الفعل مؤدٍ إلى تحوير في بلاغة الجملة القرآنية ولا يأتلف مع السياق في قليل ولا كثير.

ص: 369

وقد يقال إنها زلة لسان لا تستحق كل هذا التفصيل، وهو قول مقبول لولا سوابق للدكتور حفظه الله تؤكد أن الزلل في أسلوبه من الوقائع التي لا يكاد يسلم منها مقال له.. وبين يدينا الآن واحدة منها ننقلها إلى القارئ من مقالة القيم في (الخلاف بين صاحب العمل والعامل..) الذي سنعرض بعض هفواته في هذا التعقيب وذلك في قوله:"لأن هذا الصراع يعود إلى شحن النفوس بالبغضاء والكراهية ضد بعضها بعضاً"[1] ، وبقليل من الانتباه يتضح ألا وجه لنصب (بعضاً) وكان الصواب أن يقول "بعضها ضد بعض".

2 – ومن ملاحظات المفكرة ننتقل إلى مقاله في (الوعي الإسلامي) فنسجل أولا تقديرنا العميق لمعظم الجوانب التي يتناولها، وكم كنا نود لو استقام له الطريق فتجنب تلك الزلقات التي شوهت من محاسن البحث.

أ – يعدد الدكتور وجه الإنفاق بنظر القرآن الكريم فيحدد الإسراف المنهيّ عنه في قوله تعالى: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأنعام: 141) بأنه الإنفاق في محرم ولو كان قليلاً كالإنفاق في الخمر والزنا وفي سبيل موالاة الأعداء.

وهو بذلك يقيد مفهوم الإسراف في حدود الكبائر وحدها، بخلاف ما نجده في القرآن الكريم من اختلاف دلالات هذا اللفظ حسب القرائن، وبديهي أن مفهوم الإسراف في قوله تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} (الأعراف: 31) } هو غير مفهومه في قوله الآخر {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} (غافر: 28) .

ص: 370

عرض ابن كثير وصاحب (فتح القدير) لأقوال الأئمة في تفسير {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} فلم يرد منها ما يؤدي مذهب الدكتور في قليل ولا كثير، بل تكاد تتفق على أن المراد بالإسراف هو ما جاوز أمر الله في الصدقات حتى لا يخرج المنفق من المؤمنين عن كل ماله فينتهي إلى الفقر. وهو تقدير لا مندوحة عن قبوله لأنه النتيجة المنطقية لما تقدم في الآية من قوله تعالى {.. وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا..} .

وقد نقل ابن كثير عن ابن جريج أن الآية نزلت في ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه إذ جذّ نخلاً له فقال: "لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته"، فأطعم حتى أمسى وليس له ثمرة [2] ، وهكذا جاءت الآية تحمل للمؤمنين حكماً ينظم علاقتهم ويضبط تصرفاتهم في نطاق الصالح العام.

ب – ويورد الدكتور في قوله تعالى - من سورة النحل - {وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} (الآية:71) فيقدم للآية بقوله: "إن القرآن الكريم جعل السيد صاحب المال والرقيق المملوك له متساويين في مال السيد.."، ثم يستدرك بعدها بقوله:"والمساواة بينهما قطعاً لا تكون في (الملكية) وإنما في المنفعة) ..".

ص: 371

وفي هذا التخريج بعدٌ عن التفسير الصحيح للآية الكريمة، فقد تضافرت أقوال المفسرين قديماً وحديثاً على أن هذا مثلٌ ضربه الله لسوء تصرف المشركين في رزق الله، إذ يجعلون لآلهتهم الباطلة جزءاً منه فيقرعهم على ذلك بأن أحداً منكم لا يشارك مملوكه في زوجته وفراشه وملكه فكيف ترضون لربكم ما لا ترضون لأنفسكم؟ [3]، ويعقب شيخنا المرحوم صاحب (أضواء البيان) على هذا المعنى بقوله: "ويؤيده أن (ما) في قوله: {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} ، نافية، أي ليسوا برادي رزقهم عليهم حتى يسووهم مع أنفسهم، وإذا لم يكن ثمة مجال لصرف (ما) إلى غير النفي فكل محاولة لتقرير غير هذا المعنى لا تعدو أن تكون ضرباً من التحكم.

وإذا هذا ذهب القرطبي وسائر المفسرين قدامى ومحدثين، فالآية إذن تقريع للمشركين على تصرفهم الأحمق الذي لا يستند إلى منطق، وهي كذلك تقريع مستمر لكن من يسلك سبيلهم في صرف حقوق الله إلى سواه، ليس في المال فقط بل في كل شيء على الإطلاق. فمن أين جاءت فكرة المساواة في (الملكية) أو (المنفعة) بين المالك والمملوك؟ لا شك أنها (زلة) استجر الكاتب إليها ضوضاء العملاء الذين يشحنون الجو من حوله بمصطلحات الاشتراكية والماركسية وما إليها..

ص: 372

جـ – وتستبد فكرة المساواة بذهن الدكتور حتى ليمدها إلى مصير المؤمنين في الآخرة فيورد الخبر الآلهي: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} (الحجر:47)، ثم يفسر مضمون الآية الكريمة بقوله:"إنهم متساوون في المنزلة والدرجة فهم متقابلون في المنزلة"، وإنه لتفسير لا سند له من فهوم السلف الذين قرأوا في كتاب الله عن منازل المؤمنين في جنات النعيم أن {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ} (3: 163) ، {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} (46: 19) ، و {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} (17: 21) ، واستيقنوا بالعلم القطعي الواصل إليهم في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب..".

وفي تفسير ابن كثير وغيره للآية ما يشبه الإجماع على أن المراد بالذين نزع الله ما في صدورهم من غل هم العشرة المبشرون بالجنة من أصحاب رسول الله، وهي رواية ابن عباس رضي الله عنه كما في فتح القدير وغيره، وفد تعددت الروايات عن علي رضي الله عنه أنه قال:"فينا والله أهل الحنة نزلت"وفي إحداها خص بالذكر إخوانه الراشدين الثلاثة. [4]

وفي تفسير {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} جاءت الروايات متضافرة عن جمع من المفسرين وأهل الحديث وكلهم عن زيد بن أبي أوفى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنهم المتحابون في الله في الجنة ينظر بعضهم إلى بعض"[5] ويزيد هذا وضوحاً وتوكيداً ما أخرجه أبو داود والترمذي عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي "يقول الله تعالى: المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء"[6] فتكون السرر هي المنابر النورانية.

ص: 373

وحول موضوع التفاوت بين درجات المؤمنين في الجنة يقول الشهيد صاحب الظلال معقباً على قوله تعالى: {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} "فمن شاء التفاوت الحق، ومن شاء التفاضل الضخم، فهو هناك في الآخرة وفي ذلك فليتنافس المتنافسون".

وما أعلم أحداً من كبار أئمة التفسير ذهب في فهم الآيات إلى غير هذه الوجهة، أو أشار من قريب أو بعيد إلى ثمة تساوياً بين نزلاء الجنة في المنزلة والدرجة، وهو يعلم أنّ جهنم دركات وأن الجنة درجات، وأن لكل عمل قل أو جل جزاءه العدل.

د – بقيت ملاحظة أخيرة على خاتمة المقال الذي نحن بصدده..

يقول الدكتور حفظه الله: "وأول ما يدعو إليه الإسلام هو رفع الصراع الداخلي في النفس وإزالته بجعل النفس لوامة وليست أمارة بالسوء، فإذا ارتفع الصراع النفسي الداخلي ارتفع تبعاً لذلك صراع الطبقات في المجتمع لأنه لا توجد طبقات عندئذ..".

ففي هذه الخاتمة تقرير حاسم لا يتفق مع الواقع، ولذلك لا يحسن إمراره دون مناقشة.

وأول المآخذ في هذا الكلام حكمه بأن القضاء على الصراع الداخلي في النفس هو رأس الأمر في الدعوة الإسلامية، دون أن يوضح السبيل إلى ذلك، وكان على الكاتب أن يبرز أول كل شيء دور التوحيد الخالص في تصحيح النفس وإنقاذها من التمزق بين مختلف التيارات.

ثم يأتي حصره النفس البشرية بين اللوامة والأمارة، ونسي أن هناك النفس المطمئنة أيضاً، وكل من الثلاث قد ورد ذكرها ووصفها في كتاب الله، وقد سبق الباحثون من مفكري الإسلام قديماً وحديثاً إلى الكلام الشافي في هذه القوى الثلاث بينوا صلة كل منهم بالأخرى، وعملها في سلوك الإنسان وموقف الإنسان منها.

ص: 374

ولعل أفضل الأقوال في ذلك أن هذه النفوس تمثل الطاقات التي أودعها الخالق جلت حكمته أعماق هذه النفس لتدفعها إلى التفاعل لعمران الحياة، فالأمارة بالسوء هي منطق الرغبات الشريرة على حين تمثل الأخريان الرغبات الخيرة فإذا اندفعت الأمارة في الطريق الأدنى دون نظر في العواقب، تعرضت لها اللوامة تشدها إلى الاتزان، وتبصرها بالأخطار المتوقعة من ذلك، فإما أن تفلح في جهودها فتكبح جماح الأمارة وتخضعها لأوامر الله، فينتهي الأمر بالإنسان إلى كنف المطمئنة، وإما أن تخفق في علاجها وتلقي إلى الشيطان بزمامها، فيكون الشقاء الغامر في الدنيا والآخرة.

ولكن هل يعني أن ذلك الصراع الداخلي سيخفت نهائياً بانتصار أحد الفريقين؟..

أما أنا فلا أتوقع ذلك لأن إبقاء هذا الصراع ملازم لبقاء الحياة البشرية نفسها، وإنما يخمد حينا ويلهب حيناً، وفي الحديث الصحيح "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم". [7]

وشيء آخر لا مندوحة عن تقديره وأخذه في الحسبان عند تقييم الحياة والإنسان، ذلك أن تصفية النفس البشرية من كدورات التراب مطلب غير متصور في الحياة الدنيا، وكل ما على الإنسان هنا أن يجاهد نفسه بضبطها في نطاق المسلك الشرعي، وأن يكون على حذر من شططها، فيقدعها كلما حاولت التلفت، ويرفعها كلما همت بالهبوط، حتى يخلص إلى المصير الموعود في رحمة الله، حيث يطهر سبحانه من كل غل، وينزه نفسه حتى من خواطر السوء.

هذا موضوع الصراع داخل النفس.

ص: 375

3 – أما موضوع صراع الطبقات فله شأن آخر، ذلك أن الدكتور يعتبر بقاء الطبقات نفسها على بقاء الصراع الذاتي، ولهذا يقدر لها الزوال بمجرد تصحيح الوضع النفسي، وهو ما يخالف الواقع، ذلك لأن الإنسان في سعيه من أجل العيش، ثم في جهاده من أجل القيم التي يؤمن بها صائر لا محالة إلى التوزع الطبقي، فضلاً عن التفاوت في ميدان المواهب والقدرات والخبرات التي تسوقه إلى الكينونة الطبقية.

أجل. . ذلك هو المجتمع البشري، جسم واحد إلا أنه كذلك مجتمع من الأعضاء تتفاوت في أقدارها وأحجامها وآثارها، ويكمل بعضها بعضاً في كل ما يتطلب من الجسم الحي، وكل محاولة لإزالة هذا التنوع من جسم المجتمع لا مردود لها سوى تدميره كله.

لقد أزهقت الشيوعية في الاتحاد السوفيتي والصين عشرات الملايين من الأنفس، واجتاحت في فيتنام وكمبوديا مئات الألوف من المعارضين، وبلغ ضحاياها في أنغولا حتى تسيطر هذه الكلمات سبعين ألفاً، وفي أثيوبيا يقوم سفاحها منجبستو بمذابح يومية في صفوف من يسميهم أعداء الثورة.. وستستمر هذه المجازر في كل بلد تسلل إليه هذا الوباء الشيطاني تحت مظلة النضال ضد الطبقية، وبدعوى إقامة المجتمع الخالي من الطبقات سوى طبقة البروليتارية، ومع ذلك فكل ما انتهت إليه هذه المذابح الهائلة لا يتعدى تثبيت أنواع جديدة من الطبقات يلتهم بعضها بعضا، وتستأصل كل واحدة جذور الأخرى كلما وجدت إلى ذلك سبيلاً.

ص: 376

على أن ثمة حقيقة كبيرة لا يسع عاقلاً سليم التفكير تجاهلها.. وهي أن الطبقات التي تؤلف المجتمع الإسلامي غيرها في سائر التجمعات البشرية، ومرد ذلك أن أفراد المجتمع الإسلامي قد مُيزوا بتربية ربانية تجعل العلاقة بينهم قائمة على أساس البر والتقوى، فتكون بالتالي دافعاً طبيعياً نحو السمو بالحياة إلى أعلى المستويات، وبالحضارة إلى أقصى المجالات، وهكذا يكون المجتمع الإسلامي أمة واحدة مركبة من طبقات ولكنها (طبقات دون استغلال) كما يقول الدكتور عبد المنعم النمر. [8]

نقرر ذلك ونحن نعلم ما يعانيه عالم الإسلام المعاصر من أمراض تسللت إليه من مفاسد الجاهليات القديمة والحديثة، بيد أنه لا يزال ولله الحمد محتفظاً بالكثير من الخصائص العليا التي بها كان المسلمون خير أمة أخرجت للناس.

والله نسأل لنا والدكتور البهي العصمة من الزلل، والسداد في القول والعمل، إنه خير مسئول..

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

مجلة الوعي الإسلامي ـ شعبان 1397هـ.

[2]

ابن كثير ص111ج3.

[3]

انظر بشأن الآية تفسير ابن كثير والقرطبي وفتح القدير و (في ظلال القرآن) .

[4]

انظر (فتح القدير) 136 ج3.

[5]

انظر (فتح القدير) 136 ج3.

[6]

اللفظ من رواية الترمذي.

[7]

رواه مسلم في كتاب التوبة.

[8]

الوعي الإسلامي ربيع 2/ 98.

ص: 377

قرن إفريقيا

يعيش العالم الإسلامي اليوم أحداثاً تجعل الإنسان يحتار إذا أراد أن يتحدث عنها، لتشعبها وخطورتها، ومن أخطر تلكم الأحداث تمكن الشيوعية في قرن إفريقيا.

وعندما أرادت الشيوعية أن يكون لها وجود في المنطقة أنزلت ثقلها في (عدن) فباضت وفرخت في الخليج العدني ثم تسربت إلى قرن إفريقيا فدخلت الصومال بهمجيتها ووحشيتها، دخلت على شعب مسلم خال الذهن سليم القلب ففاجأته الشيوعية بإلحادها، وبادر الشعب أو علماؤهم بالاستنكار فذهبوا ضحية في سبيل عقيدتهم ودينهم إذ قتل منهم عدد يقدر بالعشرات وشرد الآخرون إلى خارج البلاد. هذا ولا تزال الشيوعية تعمل عملها الهدام بشكل أو بآخر مع تغيير الخطة لتخدع السذج من الناس بتلونها، بعد نقلت ثقلها الكبير إلى أثيوبيا ففوجئ المسلمون بماركسية شرسة بجانب نصرانية حاقدة. وقد كان المسلمون يتوقعون الفرج بعد هلاك (هيلاسيلاسي) العدو اللدود للإسلام، ولكنهم فوجئوا بشر منه، فجعلوا يقولون:"كمستغيث من الرمضاء بالنار".

تلون الشيوعية في المنطقة:

ولما علمت الشيوعية الأثيوبية أن الصوماليين ولَّوا وجوههم قبل الدول العربية سياسيا بحكم أنهم أصبحوا عضواً في الجامعة العربية قلبت لهم ظهر المجن فأشبكت معم في قتال مرير وضربتهم ضرباً مؤلماً، فها هي الآن تقاتل القتال الهمجي في إريتيريا، ذلك القتال الذي تقصد من ورائه القضاء على حركة تحرير إريتيريا لو استطاعت.

هكذا أخذت الماركسية خطاً دائرياً في قرن إفريقيا.

ص: 378

وليس هدف الماركسية من هذه العملية مجرد استغلال تلك الموانئ الاستراتيجية فحسب (ميناء عدن وميناء مصوع وميناء عصب) ، ولكنها ترمي من وراء ذلك إلى القضاء على العقيدة الإسلامية - لو استطاعت - هذه المنطقة العريقة في الإسلام، والتي دخلها الإسلام في أول صدر الإسلام قبل أن يدخل أي بقعة في العالم بعد مكة المكرمة، إذا كان دخوله إبان أن هاجر إلى الحبشة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمره فارين بدينهم ناشدين الحرية في عبادة ربهم، هاجروا حيث النجاشي ملك الحبشة فآواهم وأكرمهم، ثم أكرمه الله بالإسلام حيث اعتنق الإسلام على يد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه.

هذا هو قرن أفريقيا وهذا تاريخ إسلامه. فما موقف الدول العربية والإسلامية من هذا الخطر المحدق بالمنطقة؟ !!

ولست بحاجة إلى القول بأن قرن أفريقيا أو أفريقيا كلها ليست الهدف الأول والأخير للشيوعية التي تزحف الآن في المنطقة، بل هي لا تنوي أن تحط عصى السفر حتى تحط قدمها في الجزيرة - لا سمح الله - فليس من الحزم أن تنتظر العدو في عقر دارك، بل الحزم يتطلب أن تهاجمه بعيداً عن دارك لئلا تدور المعركة على الأبواب وبين النساء والصبيان.

فنسأل الله تعالى أن ينصر دينه، وينصر من ينصره ويدافع عنه.

وبعد..

هل يجوز السكوت سياسياً أو شرعياً - والحالة ما وصفت - على ما يجري حالياً في المنطقة..

الجواب: لا بالحرف العريض إذ يتنافى ذلك وتعاليم الإسلام حيث يقول رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام: "من لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم" أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

لذا نهيب بقادة المسلمين جميعاً ونلفت أنظارهم نحو هذه القضية الإسلامية ليتصوروا أولاً أنها إسلامية. ثم يفكروا في حل هذا الحصار عن المنطقة بأية طريقة ممكنة حرباً أو سلماً أداءاً لبعض الواجب الإسلامي نحو إخوانهم في المنطقة.

والله من وراء القصد

(قلم التحرير)

ص: 379

مواصفات العبد الواصل كما يقدمها الإمام ابن قيم الجوزية

إذ يقول رحمه الله: "إذا عزم العبد على السفر إلى الله تعالى وإرادته عرضت له الخوادع والقواطع:

- فينخدع أولاً بالشهوات، والرياسة، والملاذ، والمناكح، والملابس، فإن وقف معها انقطع وإن رفضها ولم يقف معها وصدق في طلبه ابتلي.

- بوطء عقبه، وتقبيل يده، والتوسعة له في المجلس، والإشارة إليه بالدعاء، ورجاء بركته، ونحو ذلك فإن وقف معه انقطع عن الله وكان حظه منه، وإن قطعه ولم يقف معه ابتلي.

- بالكرامات والكشوفات فإن وقف معها انقطع بها عن الله وكانت حظه، وإن لم يقف معها ابتلي.

- بالتجريد والتخلي ولذة الجمعية، وعزة الوحدة، والفراغ من الدنيا وأن وقف مع ذلك انقطع عن المقصود، وإن لم يقف معه، وسار ناظراً إلى مراد الله منه، وما يحبه منه بحيث يكون عبده الموقوف على محابه ومراضيه، أين كانت، وكيف كانت، تعب بها أو استراح، تنعم أو تألم، أخرجته إلى الناس أو عزلته عنهم، لا يختار لنفسه غير ما يختاره له وليّه وسيده، واقف مع أمره، ينفذه بحسب الإمكان، ونفسه عنده أهون عليه أن يقدم راحتها ولذتها على مرضاة سيده وأمره، فهذا هو العبد الذي وصل ونفذ ولم يقطعه عن سيده البتة.. وبالله التوفيق.

(الفوائد ص163) .

التعليق:

هذا الذي صوره الإمام ابن القيم هو المفهوم الصحيح للوصول إلى الله، وحقيقته - كما يفهم من كلام هذا الإمام - هو قطع الخوادع والقواطع التي طالما خدعت كثيراً من السائرين إلى الله فثبطتهم عن السير وقطعتهم في أثناء الطريق وأخلدوا إلى أرض الراحة والشهوات وحب الرياسة والتطلع إلى الكشوفات حتى تقبّل أيديهم ويوسع لهم في المجالس ويتحرك القاعدون إذا وصلوا إلى المجالس إلى آخر القواطع الكثيرة التي عدد أهمها الإمام ابن القيم رحمه الله.

ص: 380

ومن اقتحم العقبات وتغلب على تلك القواطع فصار عبداً لله وحده لا يشاركه فيه أحد سواه فهو العبد الواصل إلى الله لأنه وصل إلى العبودية الخالصة وذاق حلاوتها فأصبح شديد الخشية والحياء من سيده، قوي المراقبة له سبحانه وقوي الأنس به والشوق إلى لقائه.

لا راحة له إلا حين يكون في عبادة ربه وطاعته "أرحنا بها يا بلال"كثير البكاء شوقاً إلى لقاء ربه في دار كرمته.

هذه بعض صفات العبد والواصل إلى الله وهذا تصورالوصول وهذه حقيقته.

من هنا تعلم أن ما يسميه بعض الزنادقة من غلاة المتصوفة بالوصول إلى الله، عندما يمرق بعضهم عن الدين ويتحلل عن التكاليف بدعوة أنه وصل إلى منزلة تسقط عنه فيها جميع التكاليف فيصبح حراً طليقاً يفعل ما يشاء ويذر ما يريد، فإن هذا الذي يسمونه وصولاً فهو في الواقع خروج عن الجادة ومروق عن الدين فهذا الصنف من الناس هم من أبعد الناس عن الله لأنهم يرغبوا عن دينه الذي بعث به رسوله محمداً عليه الصلاة والسلام الذي يطيل القيام في صلاته حتى تتورم قدماه الشريفتان وإذا قيل له في ذلك يكون جوابه "أفلا أكون عبداً شكوراً".

هذا هو أرقى درجات الوصول لأنه عليه الصلاة والسلام أعرف الناس بربه وأتقاهم له سبحانه، وأتباعه يتفاوتون في الوصول، فهم درجات عند ربهم.. والله المستعان.

قلم التحرير.

ص: 381

مختارات من الصحف

كتبت جريدة الأخبار المصرية، العدد 8143 الجمعة 17 شعبان سنة 1398هـ مقالاً لأحد كتابها وهذا نصه:

{إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب: 56) .

حول معنى هذه الآية كتب الأستاذ أحمد عبد اللطيف بدر المفتش السابق بوزارة التربية والتعليم يقول:

إن في الصلاة صلة روحية تمنع الانقطاع، والصلاة بالنسبة للعبد تضرع، واعتراف بالعبودية واتجاه إلى القبلة طلباً للقبول.

أما الصلاة من المولى عز وجل، ففي حسن الاستجابة بتقبل الدعاء بعد التقرب للرضاء.

وقد سألنا رجل صالح عن ادعاء قوم مغالين من أن مدح الرسول لم يرد في القرآن فلا يصح أن نضفي عليه من صفات الكمال ما يبعده عن بشريته.

نقول: إن هذه القولة فتنة ينبغي أن يتحاشاها المسلمون ويشغلوا نفوسهم بتطبيق شرائع الدين الحكيم، ولزومها لتتحقق الاستقامة.

إن مؤدب الرسول الصادق الأمين عز وجل قد أكرمه بجميع صفات المدح بقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4)، والتأكيد مع التعبير بالعلو والعظمة يدل على أن كماله البشري ثابت لكن لا يليق أن يقال عنه:(يا كحيل العين.. يا سبط الشعر.. يا دقيق اللحية) كما كان المبتدعون يرددون هذه النداءات في الأذان التي لا تزيد شيئاً من قدر من ثبتت له جميع الفضائل صلى الله عليه وسلم.

ص: 382

إن خلائقه الغراء رفيعة، والمحاسن المادية لم ترد في وصف الأنبياء والرسل، فقد وصف سيدنا إبراهيم بأنه كان {صِدِّيقاً نَبِيّاً} (مريم:41) ، وموسى بأنه كان {مُخْلَصاً} (مريم:51) ، وإسماعيل {صَادِقَ الْوَعْدِ} (مريم:54) ، وإدريس {صِدِّيقاً نَبِيّاً} (مريم:41) ، أما رسولنا صلى الله عليه وسلم فقد اتصف بصفتين تفرد بهما وهما "الرأفة والرحمة"، فكيف لا يمتدح بكل صفة معنوية غراء ما دام ليس في المدح مغالاة وادعاء؟!

إن هذه الآية الكريمة جاءت بعد قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً} (الأحزاب:55) ، لعدم تفاوت الأحوال عنده - جل شأنه - فعلمه ثابت غير موقوت بزمن، وكان نداء المؤمنين بالصلاة والتسليم يعطي الدلالة على منتهى التكريم، فالصلاة دعاء بالرحمة، والسلام طلب الأمان بتحية الإسلام.

قالوا: إن بعض الصحابة سأل الرسول - المجمل بالفضائل - بعد نزول هذه الآية: "السلام عليك يا رسول الله عرفناه، فكيف نصلي عليك؟ قال: "قولوا: اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، وارحم محمداً وآل محمد كما رحمت وباركت على إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد".

كتبت جريدة الأخبار المصرية في العدد 8143، الجمعة 17 شعبان سنة1398هـ مقالا لأحد كتابها وهذا نصه:

نحن نطلب بأن تكون القدوة هي القدوة عندما تكون مسئولاً عن منصب قيادي في دولة شيوعية تتنكر للأديان وتعمل على هدمها أو - بأقل تقدير - إضعاف شوكتها، فأنت - بإلحادك وطبيعة منصبك - مطالب بأن تلتزم في قطاع عملك بما يعزز هذا (المنهاج) وبما يحفظ لكرسي (الكفر) الذي تجلس عليه أكبر فترة ممكنة من البقاء.

ص: 383

ولكن عندما تكون قد ترعرت في رقعة من الأرض كانت يوماً ما مهداً للرسالات السماوية وتشغل - في نفس الوقت - مركزاً محترماً في قمة العمل الوزاري في دولة تشيد - باستمرار بدستورها الإسلامي وبشعارها - العلم والإيمان المعلن في كلن مناسبة واحتفال.. فأنت مطالب بأن تكون على مستوى رفيع من الإدراك الكامل والمسئول بما يحرمه ويحلله دينك، وأن تكون محافظاً لا متساهلا على جوهره، الأصيل بلا مراء، وذلك حتى لا يتشكك العامة في أقوالك ولا تضع الدولة في وضع (الحساب) من تصرفاتك باعتبارك جزءاً لا يتجزأ من المسئولية القيادية في بلد مؤمن المفترض أنه لا يتستر على المعصية أو (يتصالح) على الملأ معها!!

فلقد حدث في الأسبوع الماضي بعد صدور قرار تحريم الخمور بالأندية ـ الذي طالبت به من قبل عقب إهدار دم فنان صحفي كبير بكلمات سوقية في ناد عريق أن اجتمع السيد وزير الدولة للحكم المحلي برؤساء 20 قيادياً رياضياً وقد جاء في سياق حديثه كلمات غرييبة تقول: "إن النادي محراب للرياضة فآمل أن يكتسب الشباب خلال ممارستها الصفات الخلقية والاجتماعية.. ونحن لا نمانع الأعضاء الكبار في السن الذين يتناولون الخمور ولكن فليتم ذلك بعيداً عن الأندية لأنهم القدوة للشباب فيها؟؟ "

هذه هي الكلمات التي خرجت من وزير مسئول في اجتماع عام تحضره قيادات رياضة وشبابية ونشرته إحدى الصحف، وأنا لن أعلق على مثل هذه (التفوهات) المتناقضة التي لم تناقشها قيادات الأندية في هذا الاجتماع ولكنها فضلت المطالبة بالتعويض المالي لأنديتها نتيجة تحريم الخمور بها.

ص: 384

فهذه هي بعض التصرفات غير المسئولة والتي لا يعي - للأسف - فاعلوها إلا شيئاً واحداً وهو (تطييب) الخواطر على حساب العقيدة.. حتى ولو كان هذا تناقضاً صارخاً مع شعار الدولة المعلن وما يحرمه الدين وانفلاتاً وقتياً من القصاص المحتوم: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (البقرة:281) .

فالذي يجب أن يقال إننا بكل وضوح نشجع اهتمام الأندية بالأنشطة الدينية وبإقامة مكتبات دينية متكاملة تكون بمثابة وسائل جذب بفحواها ومحتواها لا أدوات تنفير، ونأخذ على الأندية مؤازرتها المستمرة لحفلات هز البطن حتى مطلع الفجر في قلب الملاعب الرياضية.. بدلاً من إقامة الندوات ذات الطابع الديني والمجتمعي لعلماء لهم القدرة والمرونة على (فهم) وتوجيه نفسية الشباب الذي يلبس (الجينز) .. ورجال أجلاء يخاطبون الشباب بمشاكل مجتمعهم - ويربطونهم بها - بكل جلاء.

نحن نطالب الأندية بأن (تجتهد) في البحث عن مصادر مالية شريفة - وما أكثرها - بدلاً من تمسكها الواهي بترويج الخمور ودون أن يناقش ويتظلم رؤساؤها مما حدث ويقعوا في ما حرمته - وحذرت من عواقبه - الأديان..

نحن نطالب بأن تكون القدوة هي (القدوة) وليست هذا النوع (المستتر) الذي ينادي به مسئول المفترض أنه يعرف جيداً ما يمليه عليه.. دينه ومركزه وضميره!!

محمد عبد المجيد ـ آداب الاسكندرية.

الطريق إلى المدينة

وتحت هذا العنوان كتبت جريدة المدينة المنورة في عددها الصادر في 18 شعبان السبت خبراً هذا نصه:

ص: 385

يقوم المعهد الإسلامي في لندن حالياً بمشروع كبير لإجراء بحوث من المأمول ان تكون نتيجتها كتابة ونشر سلسلة من الكتب في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والافتراض الأول الذي يقوم عليه المشروع هو أن بعض (الأساليب أو المناهج العلمية) المعاصرة يمكن أن تطبق على فترة حياة النبي كي تزودونا بتبصر وفهم أعمق علاوة عن التفاسير (الدينية) و (التاريخية) المتوفرة حتى الآن.

والافتراض الثاني هو أن نظاماً اجتماعياً - اقتصادياً وسياسياً على غرار مدينة النبي صلى الله عليه وسلم يمكن إقامته كبديل على طراز الأمة - الدولة في بعض الأقطار العربية والإسلامية ربما في المئة القادمة ومن ثم اختيرت عبارة (الطريق إلى المدينة) كاسم يحمله هذا المشروع.

ابتكر هذا المشروع وأعده الدكتور كيم صديقي مدير المعهد الإسلامي الذي يرأس أيضاً الفريق المكلف بالبحوث كما انضم لهذا الفريق الدكتور الطيب زين العابدين من جامعة الخرطوم وقد قدمت منحة دراسية لإعداد أطروحة دكتوراه في إحدى الجامعات البريطانية تستخدم فيها وسائل وأنظمة التحليل العلمي في دراسة المجتمع القبلي في عهد الني صلى الله عليه وسلم.

وفي نفس الوقت سينظر المعهد في الطلبات التي يقدمها الطلاب الذين تخرجوا من جامعات لمتابعة الدراسات في هذا الحقل من البحوث كما يرحب المعهد بالطلاب الذين يمولهم أولياؤهم أو بعض الحكومات، كذلك يحتاج المعهد لمثقفين مشهود لهم ليعملوا كمؤلفين بالاشتراك مع الدكتور صديقي في إعداد كتب أو أجزاء منها في الموضوع.

ص: 386

المعهد مستعد للنظر في طلبات العلماء من أي مذهب أو اتجاه فكري ومن أي بلد في العالم والمشروع الحالي الذي يقوم به المعهد الإسلامي تشترك في تمويله وزارة التعليم العالي في المملكة والمؤسسات الدولية الإسلامية، وكذلك العديد من الأفراد الذي قدموا تبرعات بصورة منتظمة هذا ويبحث المعهد عن موارد تمويل جديدة وللحصول على تفاصيل أخرى، يمكن الكتابة إلى مدير المعهد الإسلامي.

عنوان المعهد:

6-

endsleigh street london ، wcih ods.

التعليق:

إذا كان لا بد لنا من تعليق على هذه الأنباء فإنها تفيد بل تعطي صورة واضحة بأن جمهور المسلمين على استعداد لتفهم الإسلام والعمل به وأن حبه كامن في نفوسهم وأن الذي يعوقهم على تطبيق الإسلام هو عدم القيادة الصالحة - في الغالب - التي تملك السلطة، السلطة التي تحمل على العمل بالإسلام من قد يجرهم سيل الهوى وينحرف بهم عن الجادة، لأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.

التحرير

ص: 387

الفتاوى

لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز

الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدي بهداه..

أما بعد:

فقد سألني كثير من الأخوان عن حكم الاعتماد على الإذاعة في الصوم والإفطار وهل ذلك يوافق الحديث الصحيح "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته " الحديث..؟

وهل إذا ثبتت الرؤية بشهادة العدل في دولة مسلمة يجب على الدولة المجاورة لها الأخذ بذلك؟ وإذا قلنا بذلك فما دليله وهل يعتبر اختلاف المطالع؟

والجواب على هذه الأسئلة أن يقال: قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة أنه قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين"، وفي لفظ آخر "فأكملوا العدة ثلاثين"، وفي رواية أخرى "فأكملوا عدة شعبان ثلاثين".

وثبت عنه صلى الله عليه وسلم انه قال: "لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة". والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وهي تدل على أن المعتبر في ذلك هو الرؤية أو إكمال العدة.

ص: 388

أما الحساب فلا يعول عليه وهذا هو الحق وهو إجماع من أهل العلم المعتمد بهم، وليس المراد من الأحاديث أن يرى كل واحد الهلال بنفسه وإنما المراد ثبوت البينة العادلة، وقد خرج أبو داود بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:"تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام وأمر الناس بالصيام"، وخرج أحمد وأهل السنن وصححه ابن خزيمة وابن حبان عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أعرابياً قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"إني رأيت الهلال فقال: "أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ " فقال: "نعم"، قال: "فأذن في الناس يا بلال أن يصوموا غداً"، وعن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنه خطب في اليوم الذي يشك فيه فقال: "ألا إني جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألتهم وأنهم حدثوني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، وانسكوا لها، فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين يوماً فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا" رواه أحمد ورواه والنسائي ولم يقل فيه "مسلمان"، وعن أمير مكة الحارث بن حاطب قال:"عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننسك للرؤيا فإن لم نره وشهد شاهداً عدل نسكنا بشهادتهما"رواه أبو داود والدارقطني وقال: "هذا إسناد متصل صحيح".

فهذه الأحاديث وما جاء في معناها تدل على أنه يكتفى برؤية هلال رمضان بالشاهد الواحد العدل. أما في الخروج من الصيام وفي بقية الشهور فلا بد من شاهدين عدلين جمعاً بين الأحاديث الواردة في ذلك، وبهذا قال أكثر أهل العلم وهو الحق بظهور أدلته، ومن هذا يتضح أن المراد بالرؤية هو ثبوتها بطريقها الشرعي وليس المراد أن يرى الهلال كل أحد، فإذا أذاعت الدولة المسلمة المحكمة لشريعة الله كالمملكة العربية السعودية أنه ثبت لديها رؤية هلال رمضان أو هلال شوال أو هلال ذي الحجة فإنّ على جميع رعيتها أن يتبعوها في ذلك.

ص: 389

وعلى غيرها أن يأخذ بذلك عند جمع كثير من أهل العلم لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وأخرجه مسلم بلفظ:"صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غمي عليكم فاقدروا له ثلاثين". وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن أغمى عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين" وأخرجه مسلم بهذا اللفظ لكن قال: "فإن أغمى عليكم الشهر فعدوا ثلاثين". فإن ظاهر هذه الأحاديث وما جاء في معناها يعم جميع الأمة، ونقل النووي رحمه الله في شرح المهذب عن الإمام ابن المنذر رحمه الله أن هذا هو قول الليث ابن سعد والإمام الشافعي والإمام أحمد رحمة الله عليهم قال - يعني ابن المنذر -:"ولا أعلمه إلا قول المدني والكوفي يعني مالكاً وأبا حنيفة رحمهم الله"انتهى. فقال جمع من العلماء: إنما يعم حكم الرؤية إذا اتحدت المطالع، إما إذا اختلفت فلكل أهل مطلع رؤيتهم، وحكاه الإمام الترمذي رحمه الله عن أهل العلم، واحتجوا على ذلك بما خرجه مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن كريباً قدم عليه في المدينة من الشام في آخر رمضان فأخبر أن الهلال رؤي في الشام ليلة الجمعة فإن معاوية والناس صاموا بذلك فقال ابن عباس:"لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نراه أو تكمل العدة"، فقلت:"أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: "لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم". قالوا: فهذا يدل على أن ابن عباس يرى أن الرؤية لا تعم، وأن لكل أهل بلد رؤيتهم إذا اختلفت المطالع، وقالوا: إن المطالع في منطقة المدينة غير متحدة مع المطالع في الشام، وقال آخرون: لعله لم يعمل برؤية الشام لأنه لم يشهد بها عنده إلا كريب وحده، والشاهد الواحد لا يعمل بشهادته في الخروج، وإنما يعمل

ص: 390

بها في الدخول.

فقد عرضت هذه المسألة على هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في الدورة الثانية المنعقدة في شعبان عام 1392هـ فاتفق رأيهم أن الأرجح في هذه المسألة التوسعة في هذا الأمر وذلك بجواز الأخذ بأحد القولين على حسب ما يراه علماء البلاد.

قلت: هذا قول وسط، وفيه جمع بين الأدلة وأقوال أهل العلم إذا علم ذلك.

فإن الواجب على أهل العلم في كل بلاد أن يعنوا بهذه المسألة عند دخول الشهر وخروجه وأن يتفقوا على ما هو الأقرب إلى الحق في اجتهادهم ثم يعملوا بذلك ويبلغوه الناس وعلى ولاة الأمر لديهم وعامة المسلمين متابعتهم في ذلك ولا ينبغي أن يختلفوا في هذا الأمر لأن ذلك يسبب انقسام الناس وكثرة القيل والقال، إذا كانت الدولة غير إسلامية. أما الدولة الإسلامية فإن الواجب عليها اعتماد ما قاله أهل العلم، وإلزام الناس به من صوم أو فطر عملاً بالأحاديث المذكورة وأداء للواجب ومنعاً للرعية مما حرم الله عليها، ومعلوم أن الله يزع بالسلطان ما يزع بالقرآن، وأسأل الله أن يوفقنا وجميع المسلمين للفقه في الدين، والثبات عليه، والحكم به، والتحاكم إليه، والحذر مما خالفه، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.

ص: 391

أخبار الجامعة

المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية في دورته السادسة:

أ – انعقد المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية في دورته السادسة يوم الإثنين الموافق 21/7/1398هـ برئاسة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد نيابة عن الرئيس الأعلى للجامعة الإسلامية صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء. وبحث في العديد من الموضوعات التي تضمنها جدول أعمال المجلس. واتخذ فيها قرارات من أهمها ما يلي:

1 – الموافقة على أن توقع شهادات الماجستير والدكتوراه التي تمنحها الجامعة الإسلامية من صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير فهد بن عبد العزيز الرئيس الأعلى للجامعة الإسلامية.

2 – الموافقة على أن يستمر صرف مكافأة طلاب الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية طيلة مدة دراستهم.

3 – الموافقة على تعديل اسم (كلية اللغة العربية والآداب) ، بحيث يصبح اسمها (كلية اللغة العربية) .

4 – الموافقة على اللوائح الجديدة للامتحانات بالجامعة الإسلامية.

ب – أناب الرئيس الأعلى للجامعة صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير فهد بن عبد العزيز سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد لرئاسة المجلس الأعلى للجامعة في الدورة السادسة وما بعدها من دورات تالية في الحالات التي لا يتمكن فيها سموه من الحضور، وفيما يلي نص خطاب الإنابة:

بسم الله الرحمن الرحيم

المملكة العربية السعودية

ديوان رئاسة مجلس الوزراء

فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز سلمه الله:

الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية

والإفتاء والدعوة والإرشاد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

ص: 392

نظراًَ لأن الدورة السادسة للمجلس الأعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ستعقد يوم الاثنين الموافق 21/7/1398هـ وبمناسبة سفرنا خارج البلاد قبل فترة انعقاد هذه الدورة وأثناء انعقادها، وعدم تمكننا من الحضور، فإننا نرغب أن تقدموا فضيلتكم نيابة عنا برئاسة جلسات المجلس في دورته المشار إليها والدورات القادمة التي لا نتمكن من حضورها، ونتمنى لكم/ والله يحفظكم.

نائب رئيس مجلس الوزراء

وفود للدعوة إلى الإسلام:

أوفدت الجامعة الإسلامية كعادتها - عدداً من الوفود إلى خارج البلاد ليقوموا بالدعوة إلى الله خلال العطلة الصيفية - ومن البلدان التي أرسلت إليها هذه الوفود:

1) الولايات المتحدة الأمريكية 2) الفلبين 3) غانا 4) مالي 5) نيجيريا.

- المعسكر الصيفي:

أقامت الجامعة الإسلامية معسكراً طلابياً في خلال هذه العطلة الصيفية في بلدة (نماص) . وقد ضم هذا المعسكر مجموعة من طلاب الجامعة وأساتذتها بتنظيم من إدارة الإشراف الاجتماعي بالجامعة.

والغرض من هذا المعسكر توجيه الطلاب وتثقيفهم وتدريبهم على أساليب الدعوة إلى الله عمليا.

- منح الجامعة لأبناء العالم الإسلامي:

ومن المعلوم أن الجامعة تقوم بترحيل كل طالب أعطته المنحة من بلده إلى المدينة المنورة حيث الجامعة الإسلامية، ثم تؤمن له السكن والتنقلات من وإلى الجامعة علاوة على المكافآت الشهرية التي تتراوح بين 300 الثلاثمائة والسبعمائة 700 تختلف باختلاف المراحل الدراسية وباختلاف الكليات، وهناك تسهيلات أخرى لطلاب الجامعة ومعاهدها ومن أهمها تأمين الكتب الدراسية.

مؤتمرات الجامعة:

ومنذ سنتين تقريباً عقدت الجامعة مؤتمراً إسلامياً واسعاً تحت عنوان (مؤتمر إعداد الدعاة وتوجيه الدعوة) .

ص: 393

وهي تأخذ الآن في الإعداد لعقد مؤتمر هام تحت عنوان (مؤتمر مكافحة المسكرات والمخدرات) ، وسوف يتم انعقاده في سنة 1399هـ إن شاء الله، وفي الوقت ذاته أن الجامعة مزمعة لعقد المؤتمر الثاني (لإعداد الدعاة وتوجيه الدعوة) في عام 1400هـ.. فنسأل الله لها التوفيق المطرد لتؤدي واجبها في خدمة الإسلام والمسلمين.

أخبار الرسائل الجامعية:

تمت مناقشة رسالتين لدرجة (ماجستير) في قاعة المحاضرات بالجامعة الإسلامية في نهاية العام الدراسي 97- 1398هـ.

الرسالة الأولى:

قدم الرسالة الأولى الطالب السعودي (نايف بن هاشم الدعيس) .. وموضوعها: تحقيق كتاب (بيان خطأ من أخطأ على الإمام الشافعي) للإمام البيهقي.

الإطار العام للرسالة:

قام الطالب بدراسة الكتاب وتحقيقه تحقيقاً علمياً، وتناولت الرسالة ترجمة للإمام البيهقي ترجمة مستفيضة، كما تضمنت ترجمة الإمام الشافعي ترجمة واسعة وهو الذي يدور مادة الكتاب حول مروياته، كما تناولت الرسالة تحليل بعض كتب علل الحديث مطبوعة ومخطوطة، وبيان مكانة كتاب البيهقي من بينها إلخ. هذا القسم الأول.

أما القسم الثاني: فتناول نص كتاب (بيان خطأ من أخطأ على الإمام الشافعي) حيث ضبط المحقق الأعلام الواردة فيه وعرف بها في الحاشية وخرج أحاديث الكتاب وعني بالتحقيق على الفوائد الحديثية والفقهية.. هذا وقد نال الطالب درجة (ممتاز)) فنرجو له دوام التوفيق.

لجنة المناقشة:

وتشكيل لجنة المناقشة كان على الوجه التالي:

1-

الدكتور أكرم ضياء العمري رئيس قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية (رئيساً للجنة) .

2-

الدكتور أبو شهبة الأستاذ بجامعة الملك عبد العزيز (عضواً) .

3-

الدكتور السيد الحكيم الأستاذ بالجامعة الإسلامية (عضواً) .

الرسالة الثانية:

ص: 394

قدمها الطالب اليمني (محمد عبد الرحمن الأهدل))

وموضوعها: (مرويات نكاح المتعة) دراسة وتحقيقاً.

الإطار العام للرسالة:

جمع الطالب الروايات المتعلقة بنكاح المتعة من كتب الحديث الشريف، ومن كتب التراجم لمعرفة آراء ومواقف الصحابة والتابعين، ومن كتب الفقه لبيان آراء المدارس الفقهية في نكاح المتعة، ثم تعرض للآثار السيئة لشيوع المتعة في بعض المجتمعات، وقد قام الطالب بنقد الروايات وفق أساليب المحدثين وأظهر استيعاباً للقواعد الأصولية في الترجيح بين الأدلة المتعارضة. وتعتبر دراسة الطالب من أوسع الدراسات الحديثية في الموضوع.

هذا وقد نال الطالب درجة (ممتاز) مع توصية اللجنة بطبع الرسالة على نفقة الجامعة الإسلامية.

وقد تشكلت لجنة المناقشة من كل من:

1-

الدكتور أكرم ضياء العمري (رئيساً) .

2-

الدكتور محمد محمد أبوشهبة (عضواً) .

3-

الشيخ حماد الأنصاري (عضواً) .

عقد المجلس الأعلى للجامعة دورته السادسة بمقر الجامعة في الفترة من 21 إلى 24 رجب سنة 1398هـ برئاسة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز نيابة عن صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز الرئيس الأعلى للجامعة. وقد اتخذ المجلس في هذه الدورة عدة قرارات منها:

1-

إقرار لائحة الامتحانات في كليات الجامعة.

2-

تعيين الشيخ أبو بكر الجزائري عضو هيئة التدريس بكلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية عضواً في مجلس الجامعة لمدة سنتين.

3-

تعيين الشيخ عبد الرؤوف اللبدي عضو هيئة التدريس بكلية اللغة العربية عضواً في مجلس الجامعة لمدة سنتين.

4-

اعتماد الحساب الختامي للجامعة في العام الحالي 97/1398هـ وتعيين مراقب لحسابات الجامعة لعام 98/1399هـ.

ص: 395

5-

تعديل كادر المتعاقدين من هيئة التدريس وللمحاضرات والمعيدين ولائحة توظيفهم.

صدرت الموافقة السامية على تعيين أعضاء بالمجلس الأعلى للجامعة لمدة ثلاث سنوات وهم:-

1-

فضيلة الشيخ أبو بكر جومي رئيس قضاة شمال نيجيريا.

2-

فضيلة الشيخ أبو الحسن الندوي رئيس ندوة العلماء بلكنو في الهند.

3-

معالي الدكتور إسحاق الفرحان رئيس الجامعة الأردنية سابقاً.

4-

فضيلة الدكتور محمد أديب صالح رئيس قسم علوم القرآن والسنة في جامعة دمشق.

5-

فضيلة الدكتور عبد الكريم زيدان الأستاذ بجامعة بغداد سابقاً.

6-

فضيلة الأستاذ محمد قطب الأستاذ بقسم الدراسات العليا بكلية الشريعة - مكة المكرمة-.

7-

معالي الشيخ يوسف جاسم الحجي وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة الكويت.

8-

سعادة الأستاذ مندور المهدي عميد كلية التربية بجامعة الخرطوم.

9-

فضيلة الشيخ كمال التارزي مدير الشعائر الدينية بتونس.

10-

سعادة الدكتور عبد السلام الهراس الأستاذ بجامعة محمد بن عبد الله بفاس.

11-

معالي الشيخ صالح بن عبد الرحمن الحصين.

12-

معالي الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي مدير جامعة محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.

13-

معالي الدكتور بكر بن عبد الله بكر مدير جامعة البترول والمعادن بالظهران.

تقوم الجامعة بإعادة طباعة تفسير الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي لتوزيعه ضمن الكتب التي تطبعها الجامعة للتوزيع.

ص: 396

قامت الجامعة بطباعة خمسمائة ألف نسخة من رسالة التحقيق والإيضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة والزيارة على ضوء الكتاب والسنة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، وقد وزعت الجامعة هذه الكمية على سفارات جلالة الملك في البلاد العربية لتقوم بتوزيعها على الذين يتقدمون إليها بطلب تأشيرة الدخول للملكة للحج والعمرة.

ص: 397

شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن

لفضيلة الشيخ أبي بكر الجزائري

{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهُ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) .

يقدم شرحها - بمناسبة شهر رمضان المبارك -:

الجزائري.

بسم الله، والحمد لله، والصلاة على رسول الله..

وبعد فإن هذه الآية الكريمة من سورة البقرة من كتاب هذه الأمة القرآن الكريم لمن أعظم آي القرآن الكريم خيراً وبركة، وذلك لأنها أوجبت صوم شهر رمضان الذي هو شهر البركة والخير، ولأنها أشادت بفضل القرآن العظيم ونوّهت بما فيه من الهدى والفرقان، والقرآن كله بركة وخير، ولأنها قرّرت رخصة الإفطار للمريض والمسافر والرخصة يسر، واليسر بركة وخير، ولأنها أبانت عن مراد الله تعالى لأمة الإسلام، ذلك المراد الكريم وهو اليسر في كل أمور هذه الأمة وشؤونها، والبعد بها عن مواطن الحرج والعسر. وفي هذا المراد الإلهي الخير كله والبركة جميعها، ولأنها بشرت أمة القرآن بهداية الله تعالى لها وهيأتها لشكر نعم ربها عليها وفي ذلك من الخير والبركة ما لا يعلم مداه إلا الله.

ومن هنا كان شرح هذه الآية لقراء المجلة يتطلب بسطة في القول يضيق عنه نطاق المجلة المحدود.

ص: 398

وانطلاقاً من مبدأ: (ما لا يُدرك كله، لا يترك جله) فإنا نشرح هذه الآية الكريمة العظيمة شرحاً سنراعي فيه مستويات القراءة الثقافية العلمية المختلفة، وذلك عذرنا لذوي المستوى العلمي العالي؛ إذ هبطنا بالتعبير ليقرب من متناول ذوي العلم الضحل القليل، كما هو عذرنا لقليلي العلم والمعرفة إذا رفعنا العبارة إلى مستوى ما فوق السقوط والهبوط رَبْأً بالكلمات والمعاني من الإهمال والابتذال.

وتيسيراً للفهم، وإمتاعاً للعقل فإنا ننهج في شرح هذه الآية الكريمة نهج التحليل التقسيمي فنشرح ألفاظها أولاًّ، ثم جملها وتراكيبها ثانياً، ثم نسترج أحكامها الشرعية الحاوية لها، ثم نبرز مظاهر هدايتها الكامنة فيها، وبذلك يتم تحليل هذه الآية وشرحها المطلوب لها، والله المستعان، وعليه وحده التكلان..

أ - ألفاظها ومفرداتها:

{شَهْرُ} الشهر: الوقت المعين أو المدة المحدودة من الزمن وهو تسعة وعشرون يوماً، أو ثلاثون ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو في السنن والصحاح.

وقيل في هذه الفترة من الزمن شهر، لشهرتها بين الناس، وذلك لتعلق مصالحهم الدينية والدنيوية بها، إذ العقول لا بد لها من آجال ترتبط بها، ولا تعرف إلا بها.

{رَمَضَانَ} اختلف في هذا اللفظ (رمضان) هل هو اسم جامد مرتجل، أو هو اسم مشتق؟ وإن كان مشتقاً فهل هو من الرمض الذي هو مطر ينزل أول الخريف، سمي به هذا الشهر، لأنه يغسل ذنوب أهله الصائمين له القائمين فيه المعظمين لحرمته؟ أو هو من الرمضاء التي هي شدة الحر المحرق، سمي بها هذا الشهر لأنه محرق ذنوب التائبين فيه ويطهرهم منها كما يطهر الجلد الدباغ؟.

وإن كان اسماً جامداً غير مشتق فهل هو اسم من أسماء الله تعالى لإضافة الشهر إليه في أكثر التعابير الشرعية، ومن ذلك هذه الآية {شَهْرُ رَمَضَانَ} .

ص: 399

ولو صح في هذا خبر عن سيد البشر لما جاز القول بغيره، ولكن لما لم يصح كان للناس أن يقولوا. والله أعلم بما هو الحق في ذلك.

{القُرْآنُ} القرآن اسم وضع وضع الأعلام على كتاب الله تعالى المنزل على خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، وهل هو اسم جامد كما ذهب إليه الشافعي رحمه الله تعالى؟ أو هو مشتق من قرأ يقرأ قراءة وقرآناً كما ذهب إليه جمهور العلماء والمفسرين؟ وكونه مشتقاً من قرأ إذا جمع يقال: قرأ الماء في الحوض إذا جمعه، ولما كان القارئ للكتاب الكريم يجمع كلماته وتراكيبه عند النطق بها قيل له قارئ، والمقروء قرآن، فهو مصدر بمعنى المفعول، وضع علماً على كتاب الله تعالى ليعرف به بين سائر كتبه تعالى.

{هُدىً} الهدى مصدر هدى يهدي هدىً وهدياً وهداية إذا أرشد إلى طريقة خير، أو سبيل سعادة. وجعل الله تبارك وتعالى القرآن هدى للناس؛ لأنه متى آمنوا به وأخذوا بما فيه من الشرائع والأحكام هداهم إلى سبل السعادة والسلام، ودلّهم على ما فيه صلاحهم وفلاحهم في الدنيا والأخرى، وأرشدهم إلى الخير الذي جبلوا على حبه والرغبة فيه ما استقامت فطرهم وسلمت أرواحهم من الخبث والشر.

{وَالْفُرْقَانِ} هذا اللفظ مصدر فرق يفرق فرقاً وفرقاناً بين الشيئين والأشياء ميز بينها وفصل بعضها عن بعض.

أطلق على القرآن العظيم فصار علماً ثانياً له كالقران، لأنه يفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والكفر والإيمان، وبين كل الملتبسات والمتشابهات مما قد تضل فيه العقول ويلتبس عليها، وذلك لما فيه من أنواع الهدايات الإلهية العظيمة التي لا توجد في غيره من الكتب السماوية.

ص: 400

{شَهِدَ} شهد هنا هو بمعنى حضر الإعلان عن رؤية هلال رمضان سواء رآه بعينه مشاهداً له أو سمع الأخبار برؤيته، وهو حاضر غير مسافر، وصحيح غير مريض، فليصم على سبيل الوجوب إن كان بالغاً عاقلاً، وإن كانت امرأة اشترط في صومها أن تكون طاهرة من دَمَىِ الحيض والنفاس.

{فَلْيَصُمْهُ} الفاء واقعة في جواب الشرط الذي هو (مَنْ) في قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} ، واللام للأمر الذي هو هنا للوجوب.

و (يَصُمْهُ) بمعنى يمسك عن المفطرات من طعام وشراب وغشيان النساء، والضمير عائد على شهر رمضان الذي تقدم في أول الآية، أي يمسك الشهر كله، فلا يفطر فيه إلا إذا مرض أو سافر، أو حاضت المرأة أو نفست.

{وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً} الواو للعطف أو الاستئناف، ومن كان مريضاً أي ومن قام به مرض، والمرض: هو انحراف الأمزجة المسبب لضعف القوة، وذهاب القدرة على تحمل مشقة التكليف الذي هو الصوم هنا.

{أَوْ عَلَى سَفَر} أو حرف عطف، وعلى حرف جر واستعلاء، والسفر مشتق من سفر إذا ظهر، فمن ظهر من البلد الذي يسكنه بحيث خرج منه وتجاوز دياره ولو حكماً جاز له أن يفطر، ودلّ حرف (على) في الآية على أنه لا بد من السفر الفعلي فلا يكفي مجرد النية أو مباشرة بعض أسباب السفر بل لا بد من التمكن من السفر، وذلك لا يتم حقيقة إلا إذا خرج من البلد وتجاوز دياره، وبذلك يكون فد تمكن المسافر من السفر تمكن الراكب من ظهر دابته، أو ما يركبه، وهذا هو السر في حرف (على) في الآية.

والسفر الذي تذكره الآية السفر الشرعي لا اللغوي فليس لمؤمن أن يظهر خارج قريته ويفطر بحجة أنه مسافر، وإنما يفطر في السفر المباح الهادف إلى خير ديني أو دنيوي يتحقق للمسلم، وأن يكون مسافة تحصل معها المشقة الملائمة للرخصة.

ص: 401

{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ} العدة بمعنى العدد، والأيام جمع يوم وهو هنا من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وأخر جمع آخر أب غير التي أفطرتم فيها من سائر أيام السنة.

والفاء داخلة على محذوف والتقدير: فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فأفطر فعليه صيام عدة أيام أخر بقدر ما أفطر فيه، ومن هنا كان القضاء واجباً حتمياً. ومن فرط في القضاء بلا عذر حتى دخل عليه رمضان آخر فقضى بعده فإن عليه أن يطعم مسكيناً كل يوم يقضيه كفارة لتفريطه بلا عذر قام به.

{يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} إرادة الله تعالى هنا شرعية قدرية واليسر السهولة وهي ضد الشدة المسببة للمشقة، والجملة خبرية سيقت لتعليل حكم هذه الرخصة للمريض والمسافر، وهي مظهر من مظاهر الرحمة الإلهية.

{وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} العسر: الشدة والمشقة وهو خلاف اليسر والسهولة، والجملة معطوفة على الجملة قبلها ذكرت تقريراً لإرادة الله تعالى اليسر بهذه الأمة المرحومة أمة الإسلام.

{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّة} الواو للعطف والاستئناف، واللام للتعليل، والإكمال: الإتمام، والعدة: مجموعة أيام الشهر، أي رخص الله تعالى في الإفطار للمريض والمسافر وأوجب القضاء عليهما من أجل أن يكمل لهما صوم شهر رمضان فيثابون عليه كله، وفي ذلك من العناية بهذه الأمة وحسن التشريع لها والرأفة بها وإردة الخير لها ما لا يقدر قدره، فالحمد لله تعالى على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة!!!

ص: 402

{وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ} الواو للعطف أو للاستئناف، واللام للتعليل، وتكبروا بمعنى تعظموا الله تعالى بلفظ الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، وذلك ليلة عيد الفطر وعند الخروج إلى المصلى، وعند انتظار الصلاة به بين هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، أي شرع الله تعالى لنا الصوم والإفطار، فنصوم بأمره تعالى ونفطر بإذنه تعالى، وفي ذلك مظهر من مظاهر عظمة الرب تعالى وهنا يتعين التكبير لله والتعظيم، فتنطلق ألسنة المؤمنين لاهجة بأعظم لفظ: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد..

{عَلَى مَا هَدَاكُم} (على) هنا تعليلية بمعنى لأجل، أي تكبرون الله لأجل ما هداكم إليه من الصيام الذي هو من أعظم العبادات، والإفطار الذي هو من أكبر النعم على العباد حيث أباح لهم ربهم تعالى الأكل والشرب وما كان ممنوعاً بالصوم تعبداً لهم وتربية وتهذيباً، فله وحده الحمد والمنة.

{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} الواو للعطف.. (ولعل) هي الإعدادية كما قال بعض أهل الذوق القرآني أي تعد المؤمن للشكر.. و {تَشْكُرُون} بمعنى تظهرون نعمة الله عليكم بحمده تعالى المنعم بها، والثناء عليه مع طاعته بامتثال أمره واجتاب نهيه، فمن امتثل أمر الله فصام رمضان ثم أفطر يوم العيد ولبس صالح ثيابه وتصدق من طيب ماله، وخرج يلهج بذكر اسم ربه وصلى صلاة العيد فقد شكر الله، وأدّى بعض الواجب الذي خُلق لأجله الذي هو الذكر والشكر.

ب- جملها وتراكيبها:

قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} ..

ص: 403

في هذا التركيب العظيم يخبر الله تعالى أنّ ما كتبه على عباده المؤمنين من صيام أيام معدودات بقوله أول السياق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} : هو أيام شهر رمضان المبارك الذي هو سيد الشهور وأفضلها بما خصه الله تعالى به من نزول القرآن سيد الكتب وأفضلها فيه ابتداءً، حيث نزل الروح الأمين بأول آية منه وهي:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} ، في رمضان بلا خلاف، وانتهاء حيث نزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، وكان ذلك في ليلة القدر من رمضان لقوله تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ، وقوله:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} وهي ليلة القدر ويشهد لذلك الاحتفال بها من قبل الملائكة في السماء والمؤمنين من الناس في الأرض كل ليلة قدر من رمضان {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} . كما أن الله تعالى قد أنزل في شأن صيام رمضان قرآناً، به وجب صومه وتحتم على المؤمنين قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ، وقال:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه} أي شهر رمضان.

فهذه المعاني الثلاثة أوردناها تندرج كلها تحت لفظ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن.

ص: 404

وأما قوله تعالى: {هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} فإن هذا الجزء من القول أو التركيب هو حال من القرآن أي أنزله تعالى حال كونه هدىً للناس عامة، فكل إنسان يؤمن به ويقدمه بين يديه، نور هداية اهتدى به فأرشده إلى ما يكمل آدميته ويسعده في الدنيا ويؤهله لسعادة الدار الآخرة وبينات من الهدى والفرقان، حيث حوى من التشريع العاصم من الضلال والمنجي من الردى والهلاك، والموضح لسبل السعادة وطرق الكمال ما لا يوجد في غيره مما سبقه من كتب الله تعالى التي أنزلها على رسله عليهم السلام.

قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .

في هذا التركيب الكريم يأمر الله تعالى المؤمنين الذي أعلمهم بأنه كتب عليهم صيام شهر رمضان المعظم يأمرهم بأن كل من حضر دخول شهر رمضان؛ عليه أن يصومه أمراً لازماً وقضاءً محتوماً، اللهم إلا من كان مريضاً أو على سفر، فإنّ له أن يفطر دفعاً للمشقة التي قد تلحقه بالصيام، وإذا هو أفطر فإنّ عليه قضاء أيام أخر بعدد الأيام التي أفطرها من رمضان لمرضه أو سفره.

وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر} .

إن هذا الجزء من التركيب في الآية قد سيق لغرض التعليل لرخصة الإفطار في رمضان بسبب المرض أو السفر، كما فيه بشرى تثلج لها صدور المؤمنين وتقرّ بها أعين المسلمين، إذ أخبرهم ربهم أن شأنه سبحانه وتعالى معهم دائماً إرادة اليسر بهم، ونفى العسر عنهم في كل ما يشرع لهم، ويدعوهم إليه ويهديهم إلى فعله والقيام به من سائر العبادات والقرب والطاعات.

وقوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ..

تضمن هذا الجزء الأخير من الآية ثلاث تعليلات:

ص: 405

الأول: التعليل لقضاء ما أفطر فيه المريض والمسافر من رمضان، فإن العلة في القضاء هي أن يكمل المؤمن عدة صوم رمضان، فيصوم تسعة وعشرين يوماً أو ثلاثين، فيثاب ثواب من صام كل رمضان ولم يفطر فيه، وهذا خير عظيم وفضل كبير حيث أيام القضاء وهي قطعاً من غير شهر رمضان بانضمامها إلى عدة أيام رمضان تصبح ذات فضل وأجر كأنما هي من شهر رمضان.

والثاني: التعليل لهداية الله تعالى لهذه الأمة إلى أكمل الشرائع وأحسنها، وأجلها وأعظمها مع التوفيق للأخذ بها والعمل بما فيها، مما يبعث على تكبير الله تعالى وتعظيمه، فالقلوب تستشعر عظمة الله تعالى من عظمة علمه وتشريعه، والألسن تلهج بذكره وتكبيره: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله الله أكبر ولله الحمد.

والتعليل الثالث: فإنه مسوق لكل ما تقدم من الإنعامات الإلهية على هذه الأمة، فالله تعالى يَخْلُق ليذكر ويُنعِم ليُشكَر، وتلك الغاية التي من أجلها خلق الخلق، فإنه ما خلق ولا رزق ولا أكرم ولا أنعم إلا ليذكر بذلك ويشكر فيما أنعم تعالى على هذه الأمة المسلمة من جزيل النعم، وعظيم الامتنان أعدها لشكره، وهو الشكور الحليم.

ج- استخراج أحكامها:

إنّ هذه الآية الكريمة المباركة تعدّ من آيات الأحكام لاحتوائها على عدة أحكام شرعية منها:

1-

وجوب صوم رمضان الدال عليه قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .

2-

وجوب ترائي هلال رمضان؛ إذ صيام رمضان يتوقف على رؤية هلاله، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

3-

الرخصة في الإفطار لمن لا يطيق الصيام لمرض أو لكبر سنّ، ولمن تلحقه مشقة السفر، أو حمل أو إرضاع الدال عليه قوله تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر} .

4-

وجوب قضاء ما أفطر فيه صاحب الرخصة لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر} .

ص: 406

5-

سقوط سائر التكاليف بالعجز الكامل الذي هو انعدام القدرة على أداء الواجب أو الانكفاف عن المحظور، دل على هذا الحكم قوله تعالى:{يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وهو قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} .

6-

وجوب تعظيم الرب تبارك وتعالى الدال عليه قوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .

7-

وجوب شكر النعم بحمد الله تعالى والثناء عليه وذكره وطاعته الدال عليه قوله تعالى: {عَلَى مَا هَدَاكُمْ} .

8-

مشروعية التكبير ليلة العيد ويومه عند الذهاب إلى المصلى، وهو مظهر من مظاهر تعظيم الرب وشكره وذكره وحسن عبادته، وفي الحديث:"يا معاذ إني أحبك فلا تدعنّ أن تقول دبر كلا صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك". اللهم أعنا على ذلك إنك قوي قدير.

د – ما في الآية من هداية:

إنّ في كل آية من كتاب الله تعالى هداية خاصة تحملها للمؤمنين، وللناس أجمعين إذ كل آية تدل باللزوم على وجود الله وقدرته وعلمه ورحمته وسائر نعوت الكمال له، كما تدل على نبوة محمد ورسالته صلى الله عليه وسلم، وأعظم بهذه الهداية من هداية للعالمين، كما تدل بدلالة الخطاب على هداية خاصة وقد تتعدد وجوه الهداية في الآية الواحدة كما في آيتنا المباركة هذه فتبلغ العدد الكثير وهذا طرف مما حملته هذه الآية من هداية لأمة الإسلام:-

1 – جمع قلوب المسلمين على تعظيم ما عظم الله تعالى من شهر رمضان والقرآن العظيم وفي هذا من الهداية والبركة والخير ما لا يقدر قدره، ولا يعرف مداه ولا يُطاق حصره.

2 – رفع قيمة أمة الإسلام، وإظهارها في مظاهر الوحدة والنظام مما يجعلها المثل الكامل بين شعوب العالم وأممه إذا التزمت ذلك.

ص: 407

3 – تحقيق مبدأ الإيجابية بين أفراد الأمة الإسلامية، والقضاء على مظاهر السلبية والتواكل، تلك المظاهر التي تزري بالأمم والشعوب، وتقودها إلى هاوية الهلاك والدمار.

4 – المحافظة على ينابيع الخير والجمال والكمال في أمة الإسلام، وذلك بقيامها بشكر الله تعالى بذكره وطاعته، والشكر يقيد النعم الواردة ويجلب النعم الشاردة، كما قيل وصح.

5 – تقرير مبدأ الخير والجمال وهما زينة حياة الأمم والشعوب وسرّ مجدها وعنصر بقائها حية قوية نامية صالحة تنفع وتضر، وتهدي الحيارى إلى سبل الخير والسلام.

وأخيراً نشير إلى مكامن هذه الهدايات الخمس من الآية الكريمة فنقول:

إنها في تعظيم رمضان والقرآن.

إنها في سرعة الامتثال والطاعة الصادقة.

إنها في جلال التشريع وجماله وسره وشموله.

إنها في الوفاء الكامل بالالتزام أي التزام كان مما هو شرع وطاعة لله ورسوله.

إنها في الذكر والشكر وهما علة الحياة وسر كل الوجود.

ص: 408

أهل الكتاب في القرآن الكريم

لفضيلة الشيخ معوض عوض إبراهيم

لا يبعد عن الصواب من يرى "المنافقين"جرثومة يهود، وإن أفرد الله في صدر سورة البقرة الحديث عن المنافقين بعد حديثه عن الذين كفروا. والإمام القرطبي يقول في قوله تعالى:

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} الآية [1] . ..

"وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها نزلت في شأن اليهود، أي وإذا قيل لهم - يعني اليهود - آمنوا كما آمن الناس: عبد الله بن سلام وأصحابه، قالوا: أنؤمن كما آمن السفهاء يعني الجهال والخرقاء"[2] . .

إن اليهود يجامعون المنافقين بما استوجبوه بكفرهم في عاجل أمرهم وآجله، ويذهبون بعد كل خسيسة ونقيضة تطالع القارئ لآيات سورة البقرة تحدثت عن بني إسرائيل باعتبارهم أصل اليهود والنصارى، وكأننا نرى تلكم الآيات تمسك بمخانقهم، وتكشف عن خبيئتهم وتدعهم تفسيراً حياً، وواقعاً بشرياً لما ترويه إلى أبد الدهر من صفاتهم وتصرفاتهم.

فإذا انتهينا من كلام الله عن المنافقين، دورنا بخشوع ويقين على مشاهد وجود الله، وشواهد نسبة القرآن إلى من أنزله معجزة خالدة تالدة على مصطفاه، وفي ذلك ما يسكت المتكلمين بالإنكار والمحاراة في هذه الحقائق المجلوة البينة، وإن كان الذي يعلم من خلق قد قضى فيهم قضاؤه بقوله:{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا..} ، قال الإمام القرطبي:"وهذا من الغيوب التي يضربها القرآن قبل وقوعها"[3] .

ص: 409

واجهنا معجزة القرآن في عرضه لأمور كثيرة تكون بين الغرض الواحد التفاتة عقلية وروحية هادية وتنقلاً يجم الخواطر، وينعش البصائر فتستقبل الكلام في السياق الأول أقدر ما تكون تفهماً واستيعاباً {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} [4] .

والمفسرون يرون في قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا..} الآية [5]

أن اليهود هم المرادون بقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً} .

قال الحسن وقتادة: "لما ذكر الله الذباب والعنكبوت في كتابه، وضرب للمشركين به المثل، ضحكت اليهود، قالوا: "ما يشبه هذا كلام الله فنزلت الآية".

والآيات - بعد - وإن ذكر الله فيها صفات "الفاسقين"الخارجين عن طاعة الله تعالى كفراً أو عصياناً قلا يمتنع أن تكون في يهود [6] فهم - لا ريب - ناقضوا العهود، وما أقطعهم لمن كان ينبغي أن يصلوه وقد عرفوه كما عرفوا أبناءهم، مما تحدثت به كتبهم وأنبياؤهم، وتأمل مثل قوله تعالى:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُم} [7] ، {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِه} [8] . حلقات في سلسلة تأخذ من القوم بالنواصي والأقدام..

وكم هي لمحة ذكية أن يقول الإمام القرطبي في قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ..} [9] .

" فإن قيل: كيف يجوز أن يكون هذا الخطاب لأهل الكتاب وهم لم يكفروا به؟!

"فالجواب ما سبق من أنهم لما لم يثبتوا أمر محمد عليه الصلاة والسلام ولم يصدقوه فيما جاء به فقد أشركوا؛ لأنهم لم يقروا بأن القرآن من عند الله، ومن زعم بأن القرآن كلام البشر فقد أشرك، وصار ناقضاً للعهد.."[10] .

ص: 410

وتتصل الآيات في بيان مقاصد عليا وغايات رفيعة، ثم ترانا من الآية 40 حتى نهاية كلام الله تعالى عن تحويل القبلة أمام صور إحسان الله إلى بني إسرائيل، وأنعمه عليهم إلى مدى لم يكن من قبل لغيرهم، وإن لم يثن منهم إلى الله عنانا، ورحم الله ابن قيم الجوزية فقد قال:"فالأمة الغضبية هم اليهود، أهل الكذب والبهت والغدر والمكر والحيل، قتلة الأنبياء وأكلة السحت - وهو الربا والرشا -، أخبث الأمم طوية، وأردأهم سجية، وأبعدهم من الرحمة، وأقربهم من النقمة، عادتهم البغضاء، ودينهم العداوة والشحناء، بيت السحر والكذب والحيل، لا يرون من لمن خالفهم - في كفرهم وتكذيبهم الأنبياء - حرمة، ولا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة، ولا لمن وافقهم عندهم حق ولا شفقة، ولا لمن شاركهم عندهم عدل ولا نصَفة، بل أخبثهم أعقلهم، وأحذقهم أغشهم، وسليم الناصية - وحاشاه أن يوجد بينهم – ليس بيهودي على الحقيقة، أضيق الخلق صدوراً، وأظلمهم بيوتاً، وأنتنهم أفنية، وأوحشهم سجية، تحيتهم لعنة، ولقاؤهم طيرة، وشعارهم الغضب، ووثارهم المقت"[11] .

إن ابن القيم رحمه الله يقدم بهذه العجالة دراسة فاحصة مستوعبة عن يهود، مبدؤها ومستمدها كتاب الله، ابتداءً من قوله تعالى:{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} من سورة الفاتحة، فقد سماهم النبي صلوات الله عليه، وما لعاقل مَعْدِل عما سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عدي بن حاتم، كما أخرجه الإمام أحمد وغيره بإسناد حسن، وقال الإمام القرطبي: "ويشهد لهذا التفسير قوله سبحانه في اليهود: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ} [12]، وقال:{وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ} [13] ا. هـ وقال: {مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِير} [14] .

ص: 411

إنّ القوم محجوبون بقبائحهم عن رضوان الله، فكم حرفوا كلامه، وعصوا رسله وقتلوا أنبياءه والذين يأمرون بالقسط من الناس، وكانوا من خلال كل جريمة خلقية، وكأنما قدت قلوبهم من الحجر، وإن تراءوا في صور البشر، فلا عجب أن يضرب الله فيهم الأمثال في غير مجال وما يزال قيد الخاطر قول الله في المنافقين: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً

} وما وراءه فهي ليهود أشبه، وهم في قصة البقرة التي أمرهم موسى أن يذبحوها فجادلوا أول الأمر فيها حتى ذبحوها، وما كادوا يفعلون حتى انجلى حكم الله وحكمته.. على طبيعتهم في التعنت وسوء الأدب واللجاج مع نبيهم، ألا تراهم يقولون غير مرة لموسى عليه السلام:{ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} وهو تعالى، ربه وربهم ورب كل شيء، بعد أن جهلوا أمر نبيهم عن ربهم "لو أن يذبحوا بقرة"ونسبوا إليه الاستهزاء بهم؟! إنها طبيعة القوم مذ كانوا إلى اليوم وما بقي منهم واحد، وشديد عادة منتزعة. وليس عجباً أن ينتهي ذلك السياق بقوله تعالى فيهم:

{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهِ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [15] .

ومهما تعددت أقوال المفسرين في الذين قست قلوبهم ههنا، فإن قوم موسى هم المرادون أولاً وأخيرا وعلى كل حال، فما كان أهل القتيل إلا نفراً من بني إسرائيل، قال ابن عباس:"المراد: قلوب ورثة القتيل لأنهم حين حَيِيَ وأخبر بقاتله وعاد إلى موته أنكروا قتله، وقالوا: كذب بعد ما رأوا هذه الآية العظمى.. أن يضرب القتيل ببعض البقرة بعد ذبحها فيتكلم.. لم يكونوا قط أعمى قلوباً ولا أشد تكذيباً لنبيهم منهم عند ذلك. ."[16]

ص: 412

والقوم يتجاهلون حقائق وحقوقاً بغياً وعدواً، ويصور لهم ضلالهم، ووهمهم وباطل فهمهم أن الوجود كلّه لهم، وليس لسواهم حق في شيء، فيفضح الله دخيلتهم، ويهتك أستارهم، ويقلل أسرارهم، ويقيض للبشرية من يتابع ذلك من رجال السياسة وزعماء الإصلاح في عصر بعد عصر ليكون الناس من هؤلاء القوم أيقاظاً حذرين من شرور ومكايد تختفي وتبين بحسب الظروف والأحوال.

وإذ اكان الحديث عن أهل الكتاب يهود ونصارى، وهم وكل مبطل اليوم كما كانوا في كل يوم مضى على قلب رجل واحد في العداوة للإسلام والكيد للمسلمين، فلا بأس في أن أورد ههنا كلاماً لمارتن لوثر الذي يذكر على رأس الثورة التي يسمونها ثورة الإصلاح المسيحي في القرن السادس عشر الميلادي فهو يقول:"وأين عقول النصارى - إن كانت لهم عقول؟ ".. مما يقول؟!

"هؤلاء هم الكذابون الحقيقيون، مصاصوا الدماء، الذين لم يكتفوا بتحريف الكتاب المقدس وإفساده، من الدنة إلى الدفة، بل إنهم ما فتئوا يفسرون محتوياته حسب أهوائهم وشهواتهم، وما كل هذه الآهات - والتنهدات والحسرات المتصاعدة من أعماق قلوبهم إلا تعبيراً عن انتظار اليوم الذي يستطيعون فيه معاملتنا، كما سبق أن عاملوا الوثنيين وعبَّاد النار خلال العهود الغابرة أيام الملكة استير في بلاد فارس.

"أواه لكم هم مغرمون بقصة استير لانسجامها مع أمزجة المشغوفة بالدماء، ونفسياتهم المغرمة بالانتقام، ومع تعطشهم لجشع الإجرام.. إن التاريخ لم يعرف بعد شعباً مصاصاً للدماء، ولهاً بالانتقام الدموي كالشعب اليهودي.. أقول وهي اليوم ترمي غيرها بدائها وتذرف دموع التماسيح ودماء غيرهم تتقاطر من بين الأصابع متناسية أن للناس عقولاً وأبصاراً وأفئدة"ويتابع مارتن لوثر قائلاً: "الشعب اليهودي الذي يعتبر نفسه الشعب المصطفى المختار، كذريعة يتخذها مبرراً ليبيح لنفسه قتل الآمنين وسحقهم وشنقهم..".

ص: 413

"إن أول ما ينتظره اليهود من "مسيحهم المرتقب"، مبادرته إل ذبح جميع شعوب العالم وإبادتها، مستخدماً سيف الانتقام الدموي "اليهودي"كما حاولوا أن يفعلوا بنا، نحن المسيحيين، وكما يودون لو استطاعوا تكرار المحاولة بنجاح".

وكم هي صيحة تبددت في فضاء الغفلات قول لوثر يومئذٍ "ولن يعرف التاريخ كذلك شعباً بمستوى الجشع الذي يتميز به اليهود، فهكذا كانوا، وهكذا هم اليوم، وهكذا سيبقون إلى الأبد، وهم يمنون النفس الآن.. والرجل كان يتكلم في القرن السادس عشر - بأنه حال ظهور "مسيحهم المرتقب"فسيبادر أيضاً إلى جمع ذهب العالم وفضته ليوزعها بالتساوي عليهم".

ويردف لوثر قائلاً: "وبينما يعفوا الأمراء وأصحاب السلطة والمسئولون في العالم، غافلين عما يدبر حولهم وبين ظهرانيهم يتابع اليهود سرقة وسلب ما يريدون من خزائن هؤلاء وصناديقهم المفتوحة. والمسئولون بذلك إنما يخاطرون بأنفسهم وبرعاياهم حينما يتركون اليهود يمتصون دماءهم ويسلخون جلودهم برباهم الأسطوري الفاحش وأساليبهم الاحتيالية الخادعة.. وهكذا يتحول الأمراء والمسؤلون.. وهم أصحاب المال الشرعيون أصلاً - إلى شحاذين فقراء في بلادهم".

وكأني بالرجل وبيننا وبينه هذه القرون يرى بعض الواقع في ديارنا بخاصة وفي العالم عامة!! "وفي كل واد أثر من ثعلبة"! ..

ثم يقول الرجل بمرارة وأسىً تعتلج بهما أنفس كثيرين وإن كان الداعي اليوم أمعن وأوجع.. "لقد استولى اليهود على أموالنا وأرزاقنا، فأصبحوا أرباب نعمتنا على أرضنا وفي وطننا، وهم المنبوذون "..

أقول: لقد صنع منبوذوا الأمس لأنفسهم وطناً، واتخذوا القدس له عاصمة، وهم يعملون جهرة للانسياب والتسلل إلى مقدسات أخرى وديار، وما كان شيء من ذلك يكون لولا غيبة الدين وما يستتبعه من أنانيات وغفلات يقول في مثلها علي بن أبي طالب رضي الله عنه:"لا قيام للباطل إلا في غفلة الحق"..

ص: 414

ومارتن لوثر يذكر يقظة القوم وتناجيهم بصوالحهم الخاصة، ويبرز بعض مبادئهم وأفكارهم التي يتواصون بها باغين فيقول:

"وهم يتهامسون في مجالسهم الخاصة لترسيخ إيمانهم بأنفسهم وكراهيتهم العميقة لنا":

"استمروا في تنفيذ خططنا، وسترون أن الله لن يتخلى عن شعبه المنبوذ المضطهد، إننا لا نبذل جهداً ولا نعمل، بل نحن استمرأنا البطالة والكسل، فمن ليس يهودياً هو الذي يجب أن يعمل ويعرق من أجلنا، ونحن من تجب أن تجنى ثمار كده وأرباح تعبه وعرقه كي نصبح تدريجياً أسياد العالم، وتتحول شعوب الأرض بدورها إلى عبيد لنا وخدَّام.. امضوا في ثبات - هكذا يقول اليهود - يا أبناء إسرائيل الأعزاء، في السير على هذا الطريق فاليوم الذي سنكون فيه أفضل مما نحن عليه الآن، آت لا ريب فيه، إن مسيحنا المنتظر سيظهر إذا واصلنا السير على هذا المنوال، فنكون دائماً من الغانمين الرابحين، بربانا الفاحش، وتظفر أيدينا في النهاية بكل أملاك وأموال الوثنيين والملحدين"ويتحدث لوثر بعد أن أورد من تهامس القوم ما أورد.. فيقول:

"لقد لقنهم آباؤهم وحاخاماتهم منذ نعومة الأظفار الكراهية السامة لكل غريب عن ملتهم، لا يدين باليهودية، وما برحوا حتى يومنا هذا يمضون - دون كلل - تلك الكراهية المجسدة في كل فرد منهم، حتى إن الكراهية تغلغلت - كما جاء في الزمور 109 - في أجسادهم ودمائهم، فسيطرت عليهم، وغلفت عظامهم وأدمغتهم فغدت منهم وفيهم كما هي حياتهم وكيانهم، وكما أنه يستحيل عليهم تغيير أجسادهم ودمائهم وعظامهم وأدمغتهم، كذلك يستحيل عليهم أن يتخلوا عن طباعهم المتأصلة فيهم، كالتكبر والغرور والجشع والحسد، لذلك لا مفر لهم من بقائهم على ما هم عليه: طماعون، حاسدون، مرابون، إلى أن تحل الساعة التي يبيدون فيها أنفسهم أو تقع المعجزة"[17] .

وينتهي الرجل وهو لوثر مصلح نصراني فيقول:

ص: 415

"فلتكن أيها المسيحي، على ثقة من أنه ليس هناك من عدو لك مبين، بعد الشيطان سوى اليهودي السامّ ببغضائه، القاسي بحقده، الطافح الناضح بالجشع والطمع والكراهية، الذي يسعى بكل جهده، ويتمنى بكل قلبه ليكون "يهودياً" حقيقياً بكل ما في الكلمة من معنى.

وكل ذ لك يبرهن على أن حكم المسيح فيهم كان عادلاً من وصفهم بالسامّين المنتقمين، الحيات، الأفاعي الضارة، القتلة المأجورين، وأبناء الشياطن، الذين يقتلون ويلحقون الأذى بالآخرين غيلة وكيداً وغدراً؛ لأنهم أضعف وأعجز من أن يفعلوا ذلك علناً وبصورة مكشوفة"ا. هـ[18] .

إن كلام المصلحين النصارى والحكام عبر القرون في "يهود"يطول ويكثر، وكلامهم وكلام اليهود "النصارى"كذلك، وجل الله الذي يقول:

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [19] .

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

البقرة: 13.

[2]

تفسير القرطبي ج 1 ص 205 طبعة دار القلم.

[3]

الكتاب السابق ج 1 ص 234.

[4]

الفرقان: 6.

[5]

البقرة: 26.

[6]

قال ابن الجوزي في تفسيره للآية: "وفي المراد بالفاسقين هنا ثلاثة أقوال: أحدهما أنهم اليهود كما قال ابن عباس"اهـ ج 1 ص 56 وهم راحلون في القولين الآخرين.

[7]

البقرة.

[8]

البقرة.

[9]

البقرة.

[10]

تفسير القرطبي ج1 ص 248-249.

[11]

كتابه هداية الحيارى ص 8 توزيع الجامعة الإسلامية.

[12]

البقرة: 61.

[13]

الفتح/ 6، تفسير القرطبي: 149-150.

[14]

المائدة: 63.

[15]

البقرة: 74.

ص: 416

[16]

القرطبي ص 463.

[17]

لقد انتهى زمن المعجزات وعلى المؤمنين وهم يودون التفسير أن يذكروا قوله تعالى: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} سورة محمد: 4.

[18]

بتصرف من كتاب "اليهود" للأستاذ زهدي الفاتح.

[19]

البقرة: 113.

ص: 417

في رحاب سورة المائدة

د. إبراهيم عبد الحميد سلامه

أسماؤها:

لهذه السورة الكريمة ثلاثة أسماء: ـ

1 – المائدة، وذلك لأن الله - جل في علاه - قص علينا فيها قول الحواريين لعيسى عليه السلام:{هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ..} ؟ وما جرى بين عيسى وبينهم، حيث نصحهم بتقوى الله، وأرشدهم إلى ترك اقتراح الآيات المادية على ربهم، وأنهم بينوا له الغرض من طلبهم هذا فقالوا:{نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} (المائدة: من الآية113)، وهنا رفع عيسى أكف الضراعة إلى ربه قائلاً:{اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [1] .

2 -

سورة العقود، وذلك لقول الله في مطلعها:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَاّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُم..} الآية. (المائدة: الآية:1)

3 – المنقذة؛ لأنها تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب، يقول القرطبي في تفسيره:"روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سورة المائدة تدعى [2] في ملكوت الله المنقذة، تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب" [3] .

نزولها:

هي مدنية بالإجماع، فقد أخرج ابن المنذر وابن جرير عن قتادة قال:"المائدة مدنية"[4] .

ص: 418

بل إنّ سورة المائدة من أواخر سور القرآن نزولاً فقد أخرج أحمد والنسائي والمنذر والحاكم وصححه وابن مردوي ة والبيهقي في سننه عن جبير بن نفير قال: "حججت فدخلت على عائشة فقالت لي: يا جبير، تقرأ المائدة؟ فقلت: نعم فقالت: أما إنها آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم من حرام فحرموه"[5] .

وأخرج أبو عبيد عن محمد بن كعب القرظي قال: "نزلت سورة المائدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فيما بين مكة والمدينة وهو على ناقته، فتصدعت كتفها، فنزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك من ثقل الوحي"[6] .

وإذاً فمدنية هذه السورة بناء على أرجح مذاهب العلماء وأشهرها من أن المدني ما نزل بعد الهجرة، ولو كان نزوله بمكة أو في الطريق بين مكة والمدينة، فالحد الفاصل بين المكي والمدني هو وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فكل ما نزل قبله من القرآن فهو مكي، وكل ما نزل بعده فهو مدني ولو كان نزوله بمكة [7] .

عدد آياتها:

هي مائة وعشرون آية عند الكوفيين، ومائة وثلاث وعشرون آية عند البصريين، ومائة وثنتان وعشرون آية عند غيرهم.

وسبب هذا الاختلاف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ على أصحابه السورة لأول مرة - بعد أن يكتمل نزولها - يقف على رأس كل آية للتوقيف وإعلامهم برؤوس الآيات والفواصل، فإذا قرأ السورة نفسها مرة أخرى فإنه قد يصل بين آيتين منها؛ لأن الثانية تتم معنى الأولى، فيظن من لم يسمع القراءة الأولى لهذه السورة أن هاتين الآيتين آية واحدة، فيترتب على هذا الاختلاف في عدد الآيات.

وهناك سب آخر لاختلاف الكوفيين والبصريين وغيرهم في عدد الآيات القرآنية، هو الاختلاف في البسملة وهل هي آية من كل سورة أو لا؟ فمن عدّها آية تكون السورة عنده أزيد آية واحدة بالنسبة لغيره الذي لا يعتبرها كذلك [8] .

ص: 419

وعلى كل فالخطب في مثل هذا الاختلاف يسير هين، لأنه لا يترتب عليه زيادة ولا نقص في القرآن الكريم، فمن قال: إن سورة المائدة مائة وعشرون آية، لا ينكر ثلاث آيات منها بناء على الرأي الآخر الذي يقول: إنها مائة وثلاث وعشرون آية، وصاحب هذا القول الأخير لا يضيف إلى السورة ثلاث آيات، لا يقول بها صاحب الرأي الأول - وإذاً فلا ضرر في هذا الاختلاف؛ لأنه لا يترتب عليه زيادة ولا نقص في النص القرآني، وإنما هو خلاف في عدد الآيات فقط وإن كان الكل مجمعين على آيات كل سورة بلا خلاف.

علاقتها بسورة النساء:

إن المتأمل في هاتين السورتين ليرى أن الثانية تناسب الأولى وترتبط بها من وجوه عديدة:

الأول: أن سورة النساء قد اشتملت على عدة عقود، صراحة أو ضمناً، فالصريح: عقد النكاح والصداق والحلف والمعاهدة، والضمني: عقد الوصية والوديعة والوكالة والعارية، وغير ذلك مما هو داخل في عموم قوله تعالى:{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا..} (النساء: الآية: 58)، فناسب ذلك أن تتبع هذه السورة بما يناسب ذلك وهو الأمر بإيفاء العقود والحفاظ عليها والالتزام بموجبها وذلكم في قوله تعالى في مطلع سورة المائدة:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ..} (المائدة: الآية:1)، فكأنه قيل: يا أيها الناس أوفوا بالعقود التي فرغ من ذكرها في السورة السابقة وإن كان في هذه أيضاً عقود، ذكر هذا الوجه الآلوسي نقلاً عن الجلال السيوطي [9] .

الثاني: أنه سبحانه لما ختم سورة النساء آمراً بالتوحيد والعدل وإعطاء كل ذي حق حقه، حيث بيّن أنصبة الورثة وحذّر من تجاوز ما شرعه وبينه حيث قال:{يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} (النساء: الآية:176) ناسب ذلك أن تفتتح هذه السورة بالأمر بالإيفاء بالعقود والمواثيق والحفاظ عليها، وعدم التحلل منها بحال.

ص: 420

الثالث: أن سورة النساء مهدت السبيل لتحريم الخمر، حيث جاء فيها قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُون..} الآية [10] ، وسورة المائدة حرمتها ألبتة، فكانت متممة لشيء فيما قبلها، وذلكم في قوله تعالى في المائدة:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [11] .

الرابع: أن معظم سورة المائدة في محاجة اليهود والنصارى، مع ذكر شيء من أمر المنافقين والمشركين، وذلك ما تكرر في سورة النساء، ولا سيما في آخرها، فذلك من أقوى المناسبات وأظهر وجوه الاتصال بين السورتين، كأن ما جاء منه في المائدة مكمل ومتمم لما جاء في النساء.

هذا وفي كل من السورتين - فوق ما تقدم - طائفة من الأحكام العملية في العبادات، والحلال والحرام، كآيتي التيمم والوضوء، وحكم حل المحصنات من المؤمنات، والأمر بالقيام بالقسط، والشهادة بالعدل، من غير محاباة لأحد، والوصية بتقوى الله تعالى.

وهنا سؤال يفرض نفسه وهو: لماذا يحرص كثير من المفسرين على ذكر العلاقات والمناسبات التي تربط بين سور القرآن الكريم بعضها ببعض؟ وهل يلزم وجود مثل هذه العلاقات والمناسبات بين آيات القرآن بعضها مع بعض؟ على معنى أن تكون هناك مناسبة بين كل آية وسابقتها ولاحقتها ومناسبة وصلة بين كل سورة وسابقتها ولاحقتها كذلك؟

ص: 421

والجواب على ذلك: أن المفسرين يحرصون على ذكر هذه المناسبات، ليظهروا للناس كلهم وخاصة من عنوا بالدراسات القرآنية ما في هذا الكتاب العزيز من أحكام وترابط وانسجام وتآلف فهو:{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (هود:1) . أي أنه منظم رصين، متقن متين، لا يتطرق إليه خلل لفظي ولا معنوي، كأنه بناء مشيد محكم، يتحدى الزمن، ولا ينتابه تصدع ولا وهن، مصداقاً لقول الله فيه:{وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [12] .

وإذا كان الأمر على ما ذكر فإنه يلزم أن تكون هناك مناسبات وعلاقات بين الآي والسور القرآنية، ويتحتم أن يكون هناك ترابط وانسجام وتآلف بين كل آية وسابقتها ولاحقتها، وكل سورة وسابقتها ولاحقتها كذلك، لأنه كلام الله المعجز للبشر الذي أعجز الفصحاء والبلغاء بأسلوبه الفذ، وأعياهم عن الإتيان بمثل أقصر سورة منه:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [13] .

ص: 422

ومن العجيب أن الإمام الشوكاني وهو علَمٌ في التفسير، يعيب على المفسرين هذا المسلك، ويقلل من قيمة هذا العمل، وهو بيان التزام الربط بين الآيات القرآنية وسورها، بل إنه يصرّح بعدم وجود العلاقة والمناسبة بين آيات نزلت في مناسبات مختلفة وظروف متباينة، ويستدل على قوله هذا بأن ترتيب السور القرآنية في المصحف مغاير لترتيب نزولها، وإذا كان الأمر كذلك:"فأيّ معنى لطلب المناسبة بين آيات نعلم قطعاً أنه قد تقدم في ترتيب المصحف ما أنزله الله متأخراً، وتأخر ما أنزله الله متقدماً، فإن هذا عمل لا يرجع إلى ترتيب نزول القرآن، بل إلى ما وقع الترتيب عند جمعه ممن تصدى لذلك من الصحابة، وما أقل نفع مثل هذا وأنزر ثمرته وأحقر فائدته. ."[14] .

والناظر في كلام الإمام الشوكاني يجد أنه مبني على أمرين اثنين:

هما نزول القرآن مفرقا ومنجماً حسب الحوادث والأسئلة والقضايا التي كانت تثار على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ترتيب المصحف مغاير لترتيب النزول، وهو من عمل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.

والحق أن ذلك كله لا يمنع من وجود الترابط والانسجام والتآلف بين الآيات والسور القرآنية، التي بلغت أعلى درجة في البلاغة والفصاحة والإحكام.

ذلك أن القرآن الكريم، وإن نزل منجماً ومفرقاً حسب الحوادث والوقائع إلا أن جبريل عليه السلام كان يوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على موضع الآية من السورة، وكان صلى الله عليه وسلم يرشد أصحابه وخاصة كتّاب الوحي إلى ذلك، فيقول:"ضعوا هذه الآية هذا الموضع من هذه السورة"، أو بين آيتي كذا وكذا من سورة كذا، وذلك لأن ترتيب آيات القرآن من النظم المعجز، ولذلك لم يقل أحد بأنه من صنع البشر.

وإذا كان ترتيب الآيات في سورها توقيفاً - فإنه من غير شك - يكون على أعلى درجات الإحكام والترابط والانساج والتآلف.

ص: 423

وأما ترتيب السور القرآنية في المصحف وكونه من عمل الصحابة، فإن ذلك أيضاً لا يمنع من وجود المناسبات والعلاقات بين السور القرآنية؛ لأن الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - كانوا في عملهم ملتزمين الترتيب الذي علموه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان يتلو القرآن أمامهم في الصلاة وخارجها.

وخلاصة ما تقدم أن الآيات القرآنية قد رتبت في عهد رسول الله وبتوقيت منه عن جبريل عليه السلام، حفظاً في الصدور وكتابةً في السطور، وأما السور فقد رتبت في عهده حفظاً فقط، ولم ترتب كتابة لعدم جمع القرآن كله في مصحف واحد في عهده صلى الله عليه وسلم، فقام أصحابه رضوان الله عليهم بهذا العمل على النحو الذي كانوا يسمعونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولعل الإمام الشوكاني يريد أن يقول إن المناسبة بين بعض الآيات قد لا تكون واضحة، أو أن العقول البشرية قد تقصر أو تعجز عن إدراكها، وفي مثل هذه الحالات فإنه يحسن عدم التكلف والتعسف في إظهارها تنزيهاً لكلام الله تعالى عن محض الرأي المنهي عنه.

والذي يدفعني إلى هذا الفهم من كلام الشوكاني أمران:

الأول: أنه إمام من أئمة التفسير وعلم من أعلامه المبرزين فيبعد على مثله أن ينكر المناسبات بين آيات القرآن الكريم وسوره فيما يظهر لي ولو أن كلامه يبدو منه الإنكار.

الثاني: أن الدارس لتفسير الشوكاني يجد أنه كثيراً ما يذكر المناسبات والعلاقات التي تربط آيات القرآن الكريم بعضها ببعض في عبارة واضحة لا لبس فيها ولا خفاء وأكتفي بذكر مثال واحد يؤكد هذه الحقيقة:

ص: 424

عند شرحه لقوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَار..} (البقرة: الآية 25)، ذكر علاقته بما سبقه فقال:"لما ذكر تعالى جزاء الكافرين عقبه بجزاء المؤمنين، ليجمع بين الترغيب والترهيب والوعد والوعيد، كما هي عادته سبحانه في كتابه العزيز، لما في ذلك من تنشيط عباده المؤمنين لطاعاته، وتثبيط عباده الكافرين عن معاصيه"[15] .

إلى غير ذلك من المثل العديدة البارزة في تفسير الإمام الشوكاني والتي جعلتنا نفهم كلامه على النحو السابق، وإن كانت عبارته ظاهرة في إفادة عدم التناسب بين الآيات حيث يقول:".. وإذا كانت أسباب النزول مختلفة هذا الاختلاف، ومتبانية هذا التباين الذي لا يتيسر معه الائتلاف، فالقرآن النازل فيها هو باعتباره نفسه مختلف كاختلافها، فكيف يطلب العاقل المناسبة بين الضب والنون، والماء والنار، والملاج والحادي، وهل هذا إلا من فتح أبواب الشك، وتوسيع دائرة الريب على من في قلبه مرض؟ "[16] .

وفي ختام هذه الدراسة نحب أن نقف وقفة متأنية مع قصة ولدي آدم عليه السلام التي قصها الله علينا في هذه السورة الكريمة لنقف على بعض ما فيها من عظات وعبر، وإليك البيان: ـ

ص: 425

قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِين، َ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ، فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ، فَبَعَثَ اللهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [17] .

معاني المفردات:

{اتْلُ} الأصل في هذه المادة التبع، فالتلو - بالكسر - ولد الناقة والشاة، إذا فطم وصار يتبعها، وكل ما يتبع غيره في شيء يقال له تلوه، والتلاوة - بالكسر -: القراءة، ولا تكاد تستعمل إلا في قراءة كلام الله تعالى، وسميت قراءته تلاوة لأنه مثاني، كلما قرئ منه شيء أتبع بقراءة غيره أو بإعادته أو لأن شأنه أن يُقرأ ليتبع بالاهتداء والعمل به.

{نَبَأَ} : النبأ هو الخبر العظيم الذي له شأنه.

{بِالحقِّ} : أي تلاوة متلبسة بالحق والصحة، لأنها من عند الله.

{قُرْبَاناً} : هو اسم لما تتقرب به إلى الله من ذبيحة أو صدقة أو غير ذلك.

{بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ} : مددتها لقتلي وإراقة دمي.

{تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ} : أي ترجع بإثم قتلك لي، وإثمك الخاص بك، الذي كان من شؤمه عدم قبول قُربانك.

{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} : أي زينته وسهلته، وشجعته عليه.

ص: 426

{سَوْءَةَ أَخِيهِ} : أي جسده، وقيل: عورته؛ لأنها تسوء ناظرها، وخصت بالذكر وإن كان المطلوب مواراة جميع الجسد لأن سترها آكد [18] .

علاقة الآيات بما قبلها:

بعد أن ذكر - عز اسمه - موقف اليهود من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعراضهم عن دعوته على الرغم من وضوح البراهين الدالة على صدقه، حتى همّ قوم أن يبسطوا أيديهم لقتله، وقتل كبار أصحابه، مصداقاً لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} . [19] وما ذاك إلا حسداً منهم لرسول الله عليه الصلاة والسلام، على ما آتاه الله من الدين الحق، وذكر كذلك تمردهم على نبيهم موسى عليه السلام، ونكوصهم عن قتال الجبارين، وذكر بعد ذلك قصة ولدي آدم عليه السلام اللذين قتل أحدهما صاحبه، بياناً لكون الحسد الذي صرف هؤلاء عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وحملهم على عداوته عريقاً في الآدميين، فالداء قديم والشر أصيل، وإن كان هؤلاء اليهود قد ورثوا عن أسلافهم من هذا الداء الحظ الأوفر، والنصيب الأكبر مصداقاً لقوله تعالى فيهم:{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [20] . وقوله: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [21] .

قال القرطبي: "وجه اتصال هذه الآية بما قبلها، التنبيه من الله على أن ظلم اليهود ونقضهم المواثيق والعهود كظلم ابن آدم لأخيه"[22] .

في ظلال النص الكريم:

ص: 427

يأمر الله - جلّ في علاه - رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يتلو على الناس عامة وأهل الكتاب خاصة، ذلك النبأ العظيم، نبأ ابني آدم، تلاوة متلبسة بالحق، مظهرة له، لأنها من عند الله عالم الغيب والشهادة، مبينة لغرائز البشر وطبائعهم وأنهم جُبلوا على التباين والاختلاف، الذي يفضي إلى التحاسد والتقاتل، ليعلموا الحكمة فيما شرعه الله من عقوبات رادعة للبغاة الظالمين، الذين يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الأرض فساداً، وليعلم أهل الكتاب صدق محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك لاشتمال كتبهم على هذه القصة، وهو لم يطلع على هذه الكتب، فتعين أن يكون علمها عن طريق الوحي، فتقوم بذلك الحجة عليهم ويعرف الجميع أنهم ضلوا على علم، وجحدوا عن بينة.

وخلاصة نبأ ولدي آدم أن كلا منهما قرب لربه قرباناً، فتقبل من أحدهما، لتقواه وإخلاصه وطيب نفسه بما قدم، ورفض قربان الآخر لأنه كان على العكس من ذلك كله، عندئذ ثارت ثائرته ودب الحسد في قلبه، وحمله على البغي والعدوان فقال مهدداً ومتوعداً أخاه الذي تقبل الله قربانه:{لأَقْتُلَنَّكَ} فأجابه بقوله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} أي: إنما يتقبل الله الصدقات وغيرها من الأعمال، القبول الحسن المقترن بالرضا والمثوبة من عباده المتقين المخلصين.

فهذا الجواب يتضمن بيان سبب قبول قربان أحدهما ورفض قربان الآخر، وكأن هذا الابن البار يقول لأخيه: إنني لم أرتكب ذنباً في حقك لتقتلني، فإن كان الله تعالى لم يتقبل منك، فارجع إلى نفسك فحاسبها على السبب، فإنما يتقبل الله من المتقين الذين يتقون الله ولا يقعون في المعاصي، فاحمل نفسك على تقوى الله، والإخلاص له في العمل، ثم تقرب إليه بصالح الأعمال فإنه عندئذٍ يتقبل أعمالك، ويرضى عنك، ويجزيك خيراً [23] .

ص: 428

ثم بين الابن البار لأخيه الحاقد حقيقة أخرى هي حرمة إراقة الدماء فقال: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} أن يراني باسطاً يدي إلى الإجرام وسفك الدم بغير حق، فإن ذلك يسخطه ويوجب عقابه ونقمته؛ لأنه رب العالمين الذي يغذيهم بنعمه ويربيهم بفضله وإحسانه، فالاعتداء على أرواحهم أعظم مفسدة لهذه التربية.

وهذا الجواب من الأخ البار التقي يتضمن أبلغ موعظة، وألطف استعطاف لأخيه الحاقد العازم على إراقة الدم بغير حق، ثم يواصل الابن البار نصح أخيه وإرشاده عله أن يرعوي ويعود إلى رشده، فكيف عن تهديده وتوعده له بالقتل، مذكراً إياه بعذاب الآخرة فيقول:{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} .

قال الفخر الرازي: "كيف يعقل أن يبوء القاتل بإثم المقتول مع أنه تعالى قال: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: الآية: 164) .

والجواب من وجهين:

الأول: قال ابن عباس وابن مسعود والحسن وقتادة رضي الله عنهم معناه: "تحمل إثم قتلي، وإثمك الذي كان منك قبل قتلي".

والثاني: قال الزجاج: "معناه ترجع إلى الله بإثم قتلي، وإثمك الذي من أجله لم يتقبل قربانك"[24] .

وهناك وجه آخر في الجواب، وهو أن القاتل يحمل في الآخرة إثم المقتول إن كانت له آثام، وذلك يعارض قوله تعالى:{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ؛ لأن تحمل القاتل لآثام المقتول إنما هو بسبب قتله له، فالقاتل بهذا لا يحمل إلا أوزار نفسه.

ونلاحظ من هذه المواقف أن الأخ التقي البار قد ترقى في نصح أخيه الحاقد وصرفه عن عزمه على النحو التالي:

1 – بين له أنه أُتيَ من قبل نفسه لعدم تقواه {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} .

ص: 429

2 – نزه نفسه عن مقابلة الجناية بمثلها: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ} .

3 – ذكره بما يجب عليه من خوف ربه واتقاء عذبه: {إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} .

4 – ذكره بأن المعتدي يحمل وزر نفسه وأوزار المعتدى عليه: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ} .

5 – ذكره بعذاب النار وكونها مثوى للظالمين الفجار {فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} .

ولكن هل أثرت هذه المواعظ وتلك النصائح الغالية في نفس ذلك الأخ الحاقد الباغي؟ ذلك ما بينه ربنا بقوله: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} لقد كان بفطرته البشرية يتخوف من قتل أخيه، ويتهيب هذا الأمر العظيم، ولكن نفسه الأمارة بالسوء ما زالت به تسهل له هذا المنكر، وتزينه وتشجعه عليه، حتى تجرأ وأقدم على هذه الجريمة النكراء، جريمة قتل أخيه ظلماً وعدواناً، بلا تفكر ولا تدبر، فأصبح بعمله هذا من الذي خسروا أنفسهم حيث عرضوها لعقاب الله ونقمته، وخسروا أقرب الناس إليهم، وأبرهم بهم، وخسروا نعيم الآخرة، إذ لم يعودوا أهلاً لدار المتقين، بل صاروا أهلاً لجهنم وبئس مثوى الظالمين.

قال الشوكاني في تفسيره: "وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أول من سن القتل" [25] .

ص: 430

ولما كانت هذه أول جريمة قتل ترتكب على ظهر الأرض، فإن هذا القاتل الأثيم لم يعرف كيف يتخلص من جثمان أخيه، فشاءت حكمة الله أن يكون تلميذاً للغراب، حيث يتعلم منه سنة الدفن ومواراة جسد الميت في التراب، فكان ما قصه الله بقوله:{فَبَعَثَ اللهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} .

وقول هذا الأخ القاتل: {يَا وَيْلَتَى} يدل على شدة تحسره وتألمه، لأن هذه الكلمة لا تقال إلا عند حلول الدواهي العظام، والمصائب الكبار، ولكن هذا التحسر لم يكن ندماً وتوبة وخوفاً من الله، ولكنه كان لإحساسه لأنه صار دون الغراب علماً وتصرفاً، ولو كان ندمه ندم توبة لقبل الله توبته، ولكن الله أخبر عنه أن صار بعمله هذا من جملة الخاسرين، وكذلك دلت السنة المطهرة على أنه سيحمل كفلاً من دم كل نفس تقتل ظلماً وعدواناً، لأنه أول من سن القتل، فدل ذلك كله على عدم توبته.

وإذاً فتحسر هذا الأخ وندمه إنما كانا لعدم انتفاعه بقتل أخيه، وإحساسه بأنه صار دون الغراب علماً وتصرفاً كما أسلفنا.

قال الفخر الرازي: "فلما كان من النادمين كان من التائبين فلم تقبل توبته؟ أجابوا عنه من وجوه:

الوجه الأول: أنه لما لم يعلم الدفن إلا من الغراب صار من النادمين.

الثاني: أنه صار من النادمين على قتل أخيه، لأنه لم ينتفع بقتله، فضلاً عن أن قتل الابن يثير غضب والديه وإخوته فكان ندمه لهذه الأسباب، لا لكونه معصية.

الثالث: أن ندمه كان لأجل أنه تركه بالعراء استخفافاً به بعد قتله.. فكان ندمه لذلك، لا لأجل الخوف من الله تعالى، فلا جرم أن لم ينفعه ذل ك الندم" [26] .

ص: 431

وقد اختلف أهل العلم في ابني آدم المذكورين، هل كانا لصلبه أو لا؟ فذهب الجمهور إلى الأول، وذهب الحسن والضحاك إلى الثاني، وقالا: إنهما كانا من بني إسرائي، فضر ب بهما المثل في إبانة حسد اليهود، وكانت بينهما خصومة فتقربا بقربانين، ولم تكن القرابين إلا في بني إسرائيل، والحق أن هذا كلام بعيد عن الصواب.

قال ابن عطية: "وهذا وهم، أي من الحسن والضحاك إذ كيف يجهل صورة الدفن أحد من بني إسرائيل حتى يقتدي بالغراب في ذلك"[27] .

ولكن ما هو سبب تقديم ولدي آدم عليه السلام لهذين القربانين، وهو قربان كل منهما؟ وكيف علما أنه تقبل من أحدهما دون الآخر؟ وكيف تم تنفيذ هذه الجريمة وهي الأولى من نوعها على ظهر هذه الأرض؟ ومتى وأين وقعت؟ وما هو اسم كل من هذين الاثنين؟

أسئلة كثيرة لم يعطها القرآن أدنى اهتمام، لأنه لا تتعلق بها فائدة، وإنما ركز القرآن على مواطن العظة والاعتبار التي تفيد البشرية المعذبة لو أنها أرادت لنفسها الهداية والاستقامة على الطريق بتطبيق شريعة الله.

ولكن المفسرين قد أثاروا بعض هذه الأسئلة، وذكروا الإجابة عليها أقوالاً عديدة، واستندوا إلى روايات لا تعلم صحتها وجلها منقول عن أهل الكتاب:

فمثلاً يقول صاحب روح المعاني: "أخرج ابن جرير عن مجاهد وابن جريج أن قابيل لم يدر كيف يقتل هابيل، فتمثل له إبليس اللعين في هيئة طير فأخذ طيراً فوضع رأسه بين حجرين فشدخه فعلمه القتل، فقتله وهو مستسلم"، ويقول كذلك:"واختلف في موضع قتله، فعن عمرو الشيباني عن كعب الأحبار أنه قتل على جبل دير المران، وفي رواية عنه أنه قتل على جبل (قاسيون) وقيل: عند عقبة حراء، وقيل: بالبصرة، في موضع المسجد الأعظم"( [28] ) .

ص: 432

وكذلك ذكر المفسرون روايات كثيرة كهذه يجيبون بها على الأسئلة التي تثار حول هذه القصة القرآنية المنزلة بالحق من عند الله رب العالمين، لبيان أن الحسد يجر على صاحبه خزي الدنيا وعذاب الآخرة، ويجر صاحبه على البغي وقتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق.

قال صاحب المنار: "ولكن هذه الرواية من الأخبار الإسرائيلية، وقد اختلفت فيها روايات السلف، وبعضها يوافق ما عند اليهود، وبعضها يخالفه، وليس فيها شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعول عليه"[29] .

ما ترشد إليه القصة من عظات وعبر

1 -

الناس جبلوا على التباين والاختلاف وذلك يفضي إلى البغي والحسد وإراقة الدم ظلماً وعدواناً.

2 – أن الحسد مرتعه وخيم، ويجلب على صاحبه خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

3 – أن الله لا يتقبل الأعمال إلا من عباده المتقين المخلصين.

4 – أن خوف الله تعالى يحجز الإنسان عن محارم الله ومقابلة الشر بمثله، ويضبط سلوكه وتصرفاته وفق ما شرع الله.

5 – حرمة الدماء بغير حق، ووجوب الحفاظ عليها، وعدم الاعتداء على أحد، لأن حياة الإنسان لها حرمتها العظيمة في نظر الإسلام الحنيف.

6 – وجوب مخالفة النفس الأمارة بالسوء؛ لأنها تزين لصاحبها الشرور، وتغريه بالنكرات، حتى تورده موارد الهلكة والبوار.

7 – في اشتمال القرآن على هذه القصة دليل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم في دعوى الرسالة، فتكون هذه القصة حجة على أهل الكتاب الذي ضلوا على علم وجحدوا عن بينة مصداقاً لقول الله فيهم:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (البقرة:146) .

ص: 433

8 – أن الحسد الذي صرف اليهود عن رسول الإسلام وحملهم على عداوته، عريق في الآدميين فالداء قديم والشر أصيل، وإن كان اليهود المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد ورثوا عن أسلافهم من هذا الداء أكبر حظ وأوفر نصيب والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته واهتدى بهديه إلى يوم الدين.

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

راجع الآيات: 112-115 من سورة المائدة.

[2]

يبحث عن درجة هذا الحديث.

[3]

تفسير القرطبي: 6/30 وانظر الآلوسي: 6/47.

[4]

فتح القدير للشوكاني: 2/3، والقرطبي: 6/30.

[5]

أخرجه أحمد والنسائي وابن المنذر والحاكم وصححه، انظر فتح القدير: 2/3، وتفسير ابن كثير: 2/2

[6]

تفسير الآلوسي: 6/47، وفتح القدير: 2/3.

[7]

راجع: مناهل العرفان للشيخ الزرقاني: 1/186-188.

[8]

انظر: الإتقان للسيوطي: 1/67، والبيان للشيخ غزلان: 223، ومناهل العرفان للشيخ الزرقاني: 1/337.

[9]

الآلوسي: 6/48.

[10]

النساء: 43.

[11]

المائدة: 90. الخمر كل ما يخمر العقل أي يغطيه ويستره. والميسر: القمار. والأنصاب: الأصنام المصنوعة للعبادة. والأزلام: قداح الميسر.

[12]

فصلت: 41-42.

[13]

الإسراء: 88.

[14]

انظر: فتح القدير للشوكاني: 1/72-73.

[15]

المرجع نفسه: 38.

[16]

فتح القدير: 1/72-73.

[17]

المائدة: 27-30.

[18]

انظر: المنار: 6/340، والآلوسي: 6/314.

[19]

المائدة: 11.

[20]

البقرة: 90.

[21]

البقر: 109.

[22]

تفسير القرطبي: 6/133.

[23]

انظر: تفسير المنار للشيخ رشيد رضا: 6/343.

[24]

الفخر الرازي: 12/199.

[25]

فتح القدير: 2/32، وانظر القرطبي: 6/140.

[26]

الفخر الرازي: 6/202.

ص: 434

[27]

انظر: فتح القدير: 2/30.

[28]

الآلوسي: 6/114-115.

[29]

تفسير المنار: 6/343.

ص: 435

الصوم ومسلمو اليوم

لفضيلة الشيخ عبد الفتاح عشماوي

المدرس بالمعهد الثانوي التابع للجامعة الإسلامية

وقبل الحديث عن الصوم مع مسلمي اليوم، نقدم عنه مع مسلمي الماضي كلمات في قليل الأسطر؛ ذلك لأن الصائب من الأمور لا يقال أو يكتب عنه كثير لوضوحه، خاصة لدى من يعقلون.

فمسلمو الماضي أدركوا رهبة وهيبة نداء عُلْوي وجه مباشرة إلى أهل الإيمان، فلم يأمر نبيه صلوات الله عليه أن يقول لهم بنحو {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ} ، كما ورد في مواضع عدة في القرآن الكريم، وما كان على الموحى إليه صلى الله عليه وسلم إلا نقل هذا النداء المهيب إلى من عنُوا به {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (البقرة: 183) ، فأدركوا على الفور خطر الأمر، أدركوا أن هذا المنادي من أعلى لا جواب على ندائه إلا بلبيك يا اجل المنادين، وأدركوا أنه شرَّفهم بندائه المباشر، فأعدوا أنفسهم ليقابلوا هذا التشريف بأسرع ما تكون الطاعة، وأدركوا أنه وصفهم بالإيمان وهو يناديهم، فعزموا على أن يكونوا جديرين بهذا النعت العظيم الذي أضفاه عليهم، ومن هذه الإدراكات من أهل اللب الناهبين، قدروا جلل الأمر الذي كتب عليهم، وأنه لا بد سامق المكانة عند كاتبه سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} فعلموا من المنادي، أنه الآمر المطاع، وعلموا إلى من وُجّه النداء، إلى المؤمنين السبَّاقين إلى الطاعة، وأن المأمور به فرضٌ له عند الله خصوصية "إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به". .

ص: 436

أدرك مسلمو الماضي هذه المعاني العجب، التي في أول آيات الصوم، فتتبعوا بعد ذلك متلهفين بقية آياته المنظمة لأدائه، حتى قوله تعالى:{تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (البقرة:187) ، فأصبح شهر رمضان عندهم أحب شهورهم، وربيع سنتهم، وخير ما يعيشون من أعمارهم، يتعجلون قدومه ليسعدوا بعز الذكر الذي نزل فيه، وليشمتوا بعدوهم الذي يكبل فيه وليزيدوا من سخاء أكفهم لستزيدوا من مثوبة ربهم وسعة فضله، ويستعيدوا بشهرهم أمجاد نصرهم لما سحقوا فيه عدوهم، فبقيادة نبيهم صلى الله عليه وسلم وقعت فيه اثنتا عشرة ملحمة، اثنتان فاصلتان قادهما بنفسه، بدر والفتح، والباقي سرايا سيرها وحدد وجهتها وعين قادتها، ثلاث منها بقيادة علي، واثنتان بقيادة خالد، وقاد كلاً من الخمس الباقية، عبد الله بن عُتَيْك، وعبد الله بن رواحة، وأبو قتادة، وعمرو بن العاص، وسعد بن زيد رضي الله عنهم أجمعين، صوام الماضي كانوا يتعجلون شهر الصوم ليجعلوا منه لجام المتقين، فتصبح شهور الفرج لديهم ذليلة، ورغبة البطن معافة، والنظرة في دنياهم زهيدة، يتعجلون قدومه ليصوموه ليلاً ونهاراً، ففي النهار صاموه مادة معنى، لما صوّموا معهم آذانهم وأبصارهم وألسنتهم عن اللغو والتأثيم، وفي الليل جعلوا الصوم عن النوم، فتجافت جنوبهم عن مضاجعهم قياماً ودعاء وبكاء، وكان أكثر ما تفيض به أعينهم من الدمع عند وداعه في عشرته الأخيرة، يتحسرون لفراق شهرهم الحبيب، فهو موسم أرواحهم وواصلهم بربهم، لهذا منحو الفرحتين، وجنوا شهي الحسنيين، تلك فكرة ضئيلة عن رمضان مع مسلمي الماضي، وما رمضان مع مسلمي اليوم؟!!

ص: 437

أولاً: قيل إن نسبة الذي لا يصومونه مطلقاً في المجموع العددي المنتسب إلى الإسلام بالاسم، تزيد بأكثر من النصف عن الذين يصومون [1] ، إذاً فإلى الأقل الذي نفترض أنه يصوم نوجه حديثنا هذا، لأن هذا الأكثر الذي لا يصوم لا حديث لنا مع بعد ذلك، لما حادّ الله الذي ناداه، فما كان الجواب إلا سمعنا وعصينا، ورفض أن يكون من المنادوْن بالإيمان، فانسلخ منه فأتبعه الشيطان، فلا أملك ولا أحدٌ اعتباره مؤمناً ألبتة، لهذا فلا موضوع له معنا، أما قسم الصوم من مسلمي اليوم، باستثناء القلة من المؤمنة التي لا ينعقد بها الحكم، فنمشي وإياهم مع كلمات القرآن عن رمضان، لنرى قربهم منها أو بعدهم عنها، حيث لا زال نداء الله للمؤمنين لهذه الآيات قائماً، يسمعهم النبأ العظيم عن الصوم، وبعد أربعة عشر قرناً، وسيظل يناديهم بها ما بقي القرآن المجيد يضيء دياجير هذه الدنيا.

ص: 438

فهل فهمنا نحن صائمي اليوم، أن الصوم فريضة من القدم منذ وجدت الأمم، {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُم} (البقرة: 183) إذاً فهو أزلي الكتابة، غائر الرسوخ لا يخضع للمنسوخ إلى أن تنسخ هذه الدنيا، ومن هنا كان علمنا بعلو قدره عند مشروعه، وعِلْمُنا بعظيم نفعه لخلقه لما جعله ماكثاً في الأرض بطول مكثها، {وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} (الرعد: 17) ، ولو لم نعرف كل النفع ولا تفاصيله؛ لأن شرط الإيمان الذي إذا اختل ينحل معه الإيمان كله، هو أن المؤمن يطيع أمر ربه ولا يقول لماذا هذا ولأي شيء تلك، يقينا منه بأن الله لا سميّ له فلا يأمر ولا ينهى إلا لحكمة عليا ثابتة لديه، بدت لنا أو خفيت عنا {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} (البقرة:285) ، ولا يجوز السؤال عما هو الخير الناتج عن السمع والطاعة، بل قد يؤدي هذا السؤال إلى بال {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} (المائدة:102) ، وواضح استثناء السؤال للتعلم والتفقه ليعبد الله على علم، ولكن المنهي عنه هو ما لم يظهره الله وأبقاه في غيبه، إذاً فالصوم لما شرع منذ القدم ويبقى إلى أن تصبح الدنيا في العدم له عند الله حكمة بالغة، بعضها بلغنا ومعظمها أو أعظمها يكشف لنا في فرحة اللقاء "وفرحة عند لقاء ربه"، فهل صائمو اليوم فهموا ذلك من آيات الصوم ليصوموا بهذه المعرفة رجاء قبول صومهم؟؟ !!.

ص: 439

والتقوى وهي خوف ما عند الله من عقاب، ورجاء ما عنده من ثواب، شيء محتم أن يلازم المؤمن طول مقامه في الدنيا، والتجرد منها مهلكة مؤكدة، لهذا قالت الآية بعد ذلك:{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} (البقرة: 184) ، ذلك لأن التقوى تقاوم على الدوام، وبأشياء عدة تقوم على ركيزتين، شهوة الإنسان ونزعة الشيطان، وهما مع العبد طول السنة في مدافعة مستمرة، فمرة تغلبها التقوى ومرة يغلبانها؛ لأن البطن يطلب الطعام في أي وقت من ليل أو نهار، فتجده حاضراً من حلال أو من حرام لتمتلئ به معدته، والفرج يظل يطلب الشهوة لأن البطن غذاه وأمده، والشيطان طليق يزين الأمرين فوق ما يغمز وينزع، والتقوى مع هذا كله ترتفع مرة وتنخفض مرات في أغلب أمرها، أما في رمضان فجاءت (لعل) برجائها مصاحبة لكلمة التقوى، حيث المرجو أن تكون التقوى في أقوى أيامها وأعز مواسمها، لما وهنت مقاومة الشهوة بقلة المدد من الطعام والشراب، ووهنت مقاومة الشيطان لما صُفّد نوعه المريد، فخلا الجو للتقوى يعلو بها الصائم على رغائبه السفلى، والتي طالما أخضعته لها، فقد زكته تقواه وأدنته من الله ويستمر يهنأ بحاله الرباني هذا أياماً معدودات هي أيام رمضان، فتمناه العام كله حيث انتقل من ذل المعصية إلى عز الطاعة، فهل فهم صائمو اليوم ذلك لعلهم يتقون أياماً معدودات يحصلون بها ما يزيد عن عديد السنوات؟

ص: 440

وبعدئذ تأتي الرأفة والحنان من لدنه، حيث انفرد بصفات هو بها واحد، ليعطي العبد الذي قهره أمر دنيوي عذر التخلي عن الصوم ما بقي في قهره، فإذا ما زال كان فيه من حال، فليس عليه إلا صيام عدد ما غلب على تركه، ولحق في الأجر بمن لم يمنعوا أثناء الشهر وأدركوا معهم مقام الصائمين {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} بل وزادت رأفة الرؤوف بالذين يصومونه فعلاً يصاحب صومهم نوع من النصب والعنت، سواء كان ذلك جسدياً ككبر أو مرض خفيف ملازم، أو نفسياً كمجرد خوف الأم على رضيعها أو جنينها، وهو ما قالت عنه الآية {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} ؛ لأن معنى الإطاقة إتيان الشيء بجهد، فهذا النوع وما يشبهه أبيح له الإفطار مقابل شيء زهيد، مدٌّ من أغلب ما يأكله ناس بلده، {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} ولكن حسن التعامل مع المحسن سبحانه، يقتضي أن يكون المؤمن معه الله ذا وُدٍّ أكثر من المد، فدعته الآية إلى أن يزيد تطوعاً بأكثر من هذه الحفنة ما دام ذا ميسرة {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} فلن يكون الخير من المخلوق مقابلاً إلا بما يليق بالذي خلق {فَهُوَ خَيْرٌ لَه} ، بل ودعته الآية إلى خير هو أكثر من خير الزيادة على الحفنة، وهو القيام بذات الصوم ولو ببعض المشقة، ما لم تغلبه مشقته على أمره كما أسلفنا {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} أي ولو بتعب يتحمل، ويحبب سبحانه في الأخير ويرغب فيه قائلاً:{إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، إن كنتم تعلمون حقيقة هذا العمل وإثبات المثوبة لعامله فالحرص منكم على إدراكه أقرب وأوجب، فالصوم هو المختار على الفدية يا ذا الأعذار الخفيفة [2] .

ص: 441

اختار ذلك صوام الماضي، وصائمو اليوم جعلوا الصداع مرضاً فأفطروا، وجعلوا السفر في مكيف السيارة وبأجنحة الطائرة لساعة أو أقل أمراً شاقاً جداً يفطرون له، والوالدات يرضعن أولادهن من المعلبات ويفطرن على أنهن مرضعات، خوفاً على جمالهن من أن يذبل، وأولات الأحمال في بداية حملهن ولو لأيام كذلك، فقد سمع هؤلاء بأن المرض والسفر والرضاعة والحمل وكبر السن يبيح الفطر، دون تفريق بين الإطلاق والتقييد، لأن القصد اتخاذ الذرائع والتحايل على أحكام الإسلام، وحتى بعد هذا التحليل لا افتداء ولا عطاء.

ص: 442

ثم تترى الآيات لتحدد الأيام المعدودات داخل شهر اسمه "رمضان"، قلّ أن تكمل أيامه ثلاثين، وتقدمه الآية بأنه شُرّف بما هو أعظم من الصوم الذي يقع فيه، فقد اختير دون أشهر السنة لينزل فيه كتاب الله، فكتاب الله كل، والصوم فيه جزء، والصوم أمره ينتهي في الدنيا، والقرآن عابر لحدودها فهو الذي نظم أمرها، ومن هنا عظم شأن رمضان بالقرآن {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} ، وما أمر هذا القرآن الذي رفع به ذكر رمضان، لقد عرفت الآية أمره بأوجز بيان وأوسع معان {هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} ، هدى للناس لما علموا منه بديع هذا الملكوت الهائل بسمائه وأرضه وما بينهما وهم ضمنه، فاهتدوا لما انتهوا بنهيه وائتمروا بأمره، وكرموا بذلك آدميتهم تمييزاً لها عمن هم من الأنعام أضل، رجاء أن يؤمنهم ربهم من خوف الدنيا وفزع الآخرة، وبينات من الهدى التشريعي والحكم التنظيمي، والحد الذي يقف كلٌ عنده، فاستقام أمرهم وطاب زمانهم وتآخى جمعهم، وكما هو بينات من الهدى التشريعي بينات من الفرقان لما وضع لهم الفوارق الواضحة والضوابط الفاصلة بين ما هو صدق وما هو كذب، فأشرقت جوانحهم وأنست أفئدتهم للصدق الذي وضحه، ونفرت من الكذب الذي فضحه ذلك هو القرآن الذي نزل في رمضان، فشمخت به مكانة الشهر وبوركت أيامه، فأفاض الله على صائميه من خزائن رحمته بما شاء.

ص: 443

إذاً فمن سمع ما ذكر فهفت نفسه إلى جنى الجنتين، فأتت عليه وهو حي هذه الأيام المعدودات العزيزات، فليصمها على الصورة المشروحة آنفاً {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فليصمه، أمر قاطع بالعمل بعد تفهيم بالقول، محتم تنفيذه لا يجرؤ رسول ولا مرسل إليه أن يبدئ فيه أو يعيد، {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَة} (القصص:68) ، ولما كانت الكلمة الإلهية {فَمَنْ شَهِدَ} يخشى معها الظن بأن الله تعالى سلب ما خفف حين رخص لذوي الأعذار الإفطار، ثم القضاء أو الافتداء، أعادها سبحانه ثانية هنا ليعلم عباده بأنه القائل الذي لا ينقض، والمتفضل الذي لا يرجع، والممد الذي لا يسترد، فأكد منحته {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ، فليصمه من شهده معافى مقيماً، ومن كان غير ذلك فرخصتنا له قد أحكمناها وما نسخناها، ولأي شيء؟ {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وبدهي أن إثبات اليسر هنا ونفي العسر ليس قاصراً على ما يتصل بالصوم وحده، وإنما هي إرادة مطلقة، وأرادها المتصف بالتيسير والمنزه عن التعسير في كل ما شرع، وإلا فنبئوني، ما هو العسر في صلاة صورتها أن تؤدى وهو واقف مكانه، ولا عليه إلا أن ينحني وينزل ويجلس، تتم جميعها على هذا النحو المريح في دقائق، عددها خمس في أربع وعشرين ساعة، مجموع زمان الإتيان بهذه الخمس ساعة أو تقل، وقلّ أن تزيد، وما هو العسر في زكاة يخرج بها المزكي اثنين ونصف، ويبقى لنفسه خمسة وسبعين، وقد انتفخت الجيوب الآن بالمال مما لا يدع الحاضر والباد، ونفس التيسير أو أيسر في بقية أنواع الزكاة، وما هو العسر في حج يؤدى مرة واحدة في العمر كله، وهكذا كل دين الله أمراً ونهياً، وعفا الله عن الذين قالوا عن معنى {وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} (الأحزاب:72) ، أي لصعوبة أدائها، والتأويل الصحيح هو أن الإشفاق من رهبة العهد خشية عدم الوفاء، وليس

ص: 444

بالنسبة للمطلوب صعوبة الأداء، وإلا فهل يمكن التوفيق بين تأويل ذلك بالمشقة وقوله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} (الحج: 78) وقوله في سورة القمر مرات {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (القمر: 17) ، أي للعمل به، وقوله سبحانه لمبلغ هذا الدين - صلوات الله عليه - {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} (الأعلى: 8) أي الشريعة السهلة، هكذا بحرفيّة ما في أشهر التفاسير.

وحتى يا من أعذرتم وما قصرتم، لن نتركم أعمالكم بعد أن تقضوا ،أو تفدوا سنُسَوِيكُم في الأجر بمن أتموا الشهر صائمين، ونعتبركم مكملين لعدته مثلهم {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} (البقرة: 185) ، فالجملة القرآنية هنا أعطت المثوبة كاملة للحريصين الذين قهرهم العذر، فإكمال العدة إكمال للأجر، وحيث تمت العدة عدداً أو اعتباراً، ووعدتم بمثل الأجر المعد للصائمين، وإنه لأجر كبير، إذاً فجدير بكم أن تكبروا الله شكراً له على هباته {وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} (البقرة: 185) ، هداكم لعمل لما أدّيتموه كبّر لكم له به الأجر، كذلك قال العلماء إنه بذلك أصبح من عزم الأمور أن يكثر العبد الصائم من التكبير لعون ربه له على صيام شهره، هكذا صمتم رمضان في الماضي معرفة به وأداء له.

أما صائمو اليوم، فرمضان عندهم موسم البطون، تملأ فتتخم فتمرض، وموسم السهرات في (السينمات) ، وأمام (التلفزيونات) ، والجلوس على المقاهي للتلهي بلعب الورق (والدمنة) وما إلى ذلك حتى السحور، وتتحول مباريات لعب الكرة و (التنس) وغير هذا من أنواع الرياضة المختلفة إلى الليل بدل النهار بقرارات حكومية، أما السهر مع صلاة التراويح، أو مع بعض ركعات التهجد، أو مع قراءة القرآن في شهر القرآن، فهذا غير وارد في الأذهان عند صائمي اليوم إلا ما شاء الله.

ص: 445

وآية الدعاء توسطت آيات الصوم لأنها وإن لم تكن من صميمه فهي جداً على صلة به وثيقة، لأن الذي صام كما ينبغي بسره وعلنه لا ترد إن شاء الله دعوته بنص أحاديث مشهورة، فإذا كان العبد في صلاته أثناء سجوده إلى ربه أقرب، والدعاء ساعتئذ للإجابة أيضاً أقرب، لما وضع أشرف أعضائه لربه في حذاء قدامه، فيلي حال الساجد حال الصائم، لما قهر شهواته ومقومات حياته طاعة لربه، فكان أن يُعطى ما يطلب، وجاءت لهذه آية الدعاء هذه بين آيات الصوم، ولهذا أيضاً انتهت بقوله عز من قائل:{فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (البقرة: 186) ، فالصائم استجاب مؤمناً بإخلاص لربه، فأعطي الرجاء من الله بالرشد، ورجاء الله محقق، فلما دعا فتحت لدعوته مسالك السماء، وتحقق له بإذن الله الرجاء.

ص: 446

ولما كان أشد ما يحرم منه الصائم مجافاة الحليلة، ويتحمل من ذلك العنت الكثير، فهي معه بالمواجهة طول اليوم أو أكثره، ونداء الشهوة المتصلة بالفرج قد يعشى العين ويوقر الأذن، خاصة لدى الإنسان، فالحيوان عندما تحمل أنثاه لأول يوم لا يقربها حتى تضع حملها، والإنسان يظل يباشر أنثاه حتى قبل الولادة بساعة، فشهوة الجنس عنده هي الغالبة على كل شهوة، ولو نودي للشهوة وهو شديد الجوع شديد العطش لأجاب الأولى وترك الأخيريين، وقد طلب من الصوام ألا يقربوا نساءهم بعد العشاء، لكن بعضهم ومنهم مؤمنون أكابر، غلبهم الأمر عند عدوتهم ليلاً إلى نسائهم، فلم يسخط عليهم سبحانه، ولم يحبط لهم عملاً ولم يضيع لهم إيماناً، فنسخ المنع ومنح الإباحة، مكتفياً سبحانه من عبده بعدم طاعة الشيطان الذي من أسهل إغرائه تحريك النصف البهيمي في الإنسان، وهو أقرب ما يلبى ويجاب سحابة نهار الصوم، فنقل إليهم رسولهم عليه الصلوات قول ربهم:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُم} (البقرة: 187) ، فهو سبحانه وإن كان قد أحله متجاوز عما سبق، لكن اعتبره رفثاً كان يجمل أن يعافى إبان المنع، {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنّ} (البقرة: 187) . وهذا التصوير باللباس هو ما قوي الدافع إليه وضعف الصبر عنه، حيث أبيحت الملاصقة أصلاً كما يلصق اللباس الجسد، فلم يرض بعد ذلك سبحانه أن يباعد أو يشدد، {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} {عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} (البقرة: 187) ، ومع وجود معنى الذم واضحاً في الآية، وهو أن خيانة وقعت منهم خانوا بها أنفسهم وليس سواهم، لما باشر هؤلاء البعض نساءهم حين المنع الليلي، نقول مع ما فهم من ذم في كلمة (تختانون) ، فإن وعد الله باليسر هو الذي كان، فتاب عليكم بل ولم يجعل المنع إلزاماً

ص: 447

مستمراً، وعفا عما وقع منكم، والعفو معناه إلغاء العقاب المترتب على الإثم {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} (البقرة: 187) بعد علمنا بما كنتم تختانون، فباشروهن ولا حرج، حتى لا يقع بكم كبت أو عنت، وسداً لأسهل مداخل الشيطان فلا يفسد ما تجنون من بركات الشهر، {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} (البقرة:187) ، أطلبوه يقيناً وعملاً تجدوه عند الله خيراً وأعظم أجراً.

ولكي تتم لكم صورة الصوم الكاملة لطريقة العمل في رمضان ليلاً ونهاراً، فكما أبحنا لكم ملامسة نسائكم يكون نفس الأمر مع الأكل والشرب، فلا تفعلوا شيئاً من ذلك بين الفجر والمغرب، وبين المغرب والفجر افعلوه {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْر. ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْل} (البقرة: 187) أي بدايته وهو المغرب، لأن (إلى) هنا بدائية [3] وليست نهائية، وتم لكم بذلك كيف يكون الصوم، فإذا قصرتم بعد ذلك فعلى أنفسكم وحدها اللوم.

ص: 448

ولما كان الاعتكاف من أحلاف الصوم المشابهة له، لأن المعتكف صائم نهاره قائم ليله، إضافة إلى أنه صام عن كل الدنيا التي هي خارج المسجد، وأنه زهد فيها لما حبس نفسه فيه، وضمن هذه الدنيا التي تركها خلفه زوجته، ولأن الصيام يبيح المباشرة في الليل دون النهار، وحتى لا يظن ذلك أيضاً في الاعتكاف وهو أقرب العبادات إلى الصوم كما قلنا، فأفرد له توضيح خاص به غير ما أبيح في رمضان، وهو منع مباشرة النساء البتة في الاعتكاف ليلاً ونهاراً طول المدة المنْوية {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (البقرة: 187) حيث كان المعتكف يغادر المسجد إلى بيته ليتغشى أهله ثم يعود ليعتكف، فينافي ذلك تبتل الاعتكاف والتفرغ لعبادة الله وقد ذهب إليه في بيته يستجديه رحماته، فإن كان ذلك قد وقع منكم قبل فلا يقع منكم بعد {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} .

فبعد هذه الأحكام المحددة والتشريعات الميسرة، نحذركم من أن تتركوها، أو بزيادة أو نقص تقربوها {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} (البقرة: 187) ، وكلمة (تقربوها) مرهبة حقاً، أي الويل لمن يضيف أو يحيف بأي شيء مهما قل، متعللاً بأن المعنى قريب، أو القصد متقارب، وهكذا مما نسمع الآن من قول ابتدع بعد أن أُتي بالبدع، وتأتي كلمة التقوى في النهاية كما أتت في البداية، ذلك لأن قصة الصوم كلها تقوى، لا يتجمل بها إلا من خشي الرحمن بالغيب، حيث كل العبادات ترى من الله والناس إلا الصوم، فقد تُرى الشفاه مطبقة ولكن الله رآها تتحرك بالمضغ متوارية، فلا يرجى من الصائم غير التقوى {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (البقرة: 187) ، هكذا كان صوام الماضي، اتقوا حتى أذلوا دنياهم ليعزوا أخراهم، فكان لهم من الكريم ما تمنوا.

ص: 449

وصائمو اليوم عاديون وليسوا عباديين مع قلتهم، يشاركون الكثرة المفطرة في كثير مما يحبط صومهم، ألسنتهم طول النهار عن ذكر الله صامتة، وفي الغيبة والنميمة ونهش العرض صامدة، عيونهم عن النظر في القرآن والتأمل في عظمة هذه الأكوان غضوها، وفي النظر إلى المحرمات وتتبع العورات أطلقوها، خالطوا المفطرين طوال الليل في مجالس لهوهم ونوادي شياطينهم، فالصوم عندهم ساعات محدودة لا تبتلع فيها لقمة ولا تحتسى فيها جرعة، وبعد ذلك انطلاق مع الهوى بغير حدود، بل وعندما يأمرهم حكامهم الذين يحكمونهم بقوانين الكافرين بأن يفطروا - حتى لا يحول الصوم دون القيام بالعمل - كما حدث من حاكم تونس لقومه، أطاعوه مسارعين إلى الإفطار طاعة للمخلوق في معصية الخالق، بل ومن صائمي اليوم من إذا عُزم عليه من صديق السوء بسيجارة قبلها وضيع صومه أو نفسه من أجلها، بل قد يصل الأمر إلى أن يقبل كأس الخمر بعد أن تسحر ونوى وأصبح صائماً، ذلك لأن بلده الإسلامي غارق في نتن مستنقع من الخمر، بل وتنتجها مصانعها وتصدره لدول إسلامية أخرى، إي نعم، ويصوم صائمو اليوم وهم وهُنّ (بالمايوهات) عراة على شواطئ البحار، تتلاصق أثناء ذلك الأجسام فوق وتحت الماء، بل وتراهم في بلادهم الإسلامية صائمين وألسنتهم لا تكف عن سب الله ودينه ورسوله، إي والله، وليسوا بالقلة ولا بالندرة، وإنما هم بالكثرة التي لا يغيب فحشها عن أذنك طويلاً، أما الزواج في شهر رمضان فسرعان ما يتحول من شهر الصوم إلى (شهر العسل9، وهو إصطلاح مشهور عندهم يبيح للعريس أن يظل في ضيافة الشيطان طول النهار، فلا صوم مع العسل، وغير هذا كثير حيث كان ولا بد من تطوير الصوم بما يتناسب والمدنية والتقدمية، وهم وتاركوا الصوم نهائياً في مرتبة واحدة جهنمية، بل قد يكون صائمو اليوم بالصورة الآنفة عقابهم أشد، لتلاعبهم هكذا بأمر ربهم، أما الفئة التي لا تكاد أن تعرف ممن يصومون على طريقة الماضين من السلف، وهم

ص: 450

الآن في عصر فيه الفتن، فهم الغرباء وهنيئاً لهم غربتهم، لأنهم غداً سيكونون أهل الدار.

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

وهذا إن صح يكون بالنسبة لبعض أقطار معينة، وليس حكماً شاملاً لجميع المسلمين في كل قطر. التحرير

[2]

منهم من قال إن هذا إشارة إلى بداية تشريع الصوم ثم نسخ، ومنهم من قال إن الحكم كما أوضحنا ولم ينسخ.

[3]

والذي يظهر- كما هي القاعدة - أن (إلى) غائبة للإتمام؛ لأن الاتمام ينتهي إلى الليل أي إلى أوله وهو أمر ظاهر.. والله أعلم. (التحرير) .

ص: 451

التنبيه على خبر باطل في أخبار مكة

لفضيلة الشيخ حمود بن عبد الله التويجري

الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين..

وبعد فقد ذكر الأزرقي في أخبار مكة في باب ما جاء في ذكر بناء قريش الكعبة في الجاهلية أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بمحو الصور التي في الكعبة سوى صورة مريم وعيسى عليهما السلام. وروى الأزرقي ذلك بأربعة أسانيد كلها ضعيفة فلا يغتر بها ولا يعتمد على شيء منها..

الإسناد الأول: قال: حدثني جدي قال حدثنا مسلم بن خالد الزنجي عن ابن أبي نجيح عن أبيه قال: "جلس رجال من قريش - في المسجد الحرام-.."فذكر خبراً طويلاً في بناء الكعبة، وقال في آخره:"وجعلوا في دعائمها صور الأنبياء وصور الشجر وصور الملائكة، فكان فيها صورة إبراهيم خليل الرحمن شيخ يستقسم بالأزلام، وصورة لعيسى بن مريم وأمه وصور الملائكة عليهم السلام أجمعين، فلما كان يوم فتح مكة دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت فأرسل الفضل بن العباس بن عبد المطلب فجاء بزمزم ثم أمر بثوب فبل بالماء وأمر بطمس تلك الصور فطمست، قال: ووضع كفيه على صورة عيسى بن مريم وأمه عليهما السلام وقال: "أمحوا جميع الصور إلا ما كان تحت يدي" فرفع يديه عن عيسى بن مريم وأمه.

الإسناد الثاني: قال: وحدثني جدي قال حدثنا داود بن عبد الرحمن قال أخبرني بعض الحجبة عن مسافع بن شيبة بن عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا شيبة امح كل صورة فيه إلا ما تحت يدي" قال فرفع يده عن عيسى بن مريم وأمه.

ص: 452

الإسناد الثالث: قال: حدثني جدي عن سعيد بن سالم قال حدثنا يزيد بن عياض بن جُعدُبة عن ابن شهاب أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة يوم الفتح وفيها صور الملائكة وغيرها فرأى صورة إبراهيم فقال: "قاتلهم الله جعلوه شيخاً يستقسم الأزلام" ثم رأى صورة مريم فوضع يده عليها وقال: "امحوا ما فيها من الصور إلا صورة مريم".

الإسناد الرابع: قال أخبرني محمد بن يحيى عن الثقة عنده عن ابن إسحاق عن حكيم بن عباد بن حنيف وغيره من أهل العلم أن قريشاً كانت قد جعلت في الكعبة صوراً فيها عيسى بن مريم ومريم عليهما السلام، قال ابن شهاب: قالت أسماء بنت شقران امرأة من غسان حجت في حاج العرب فلما رأت صورة مريم في الكعبة قالت: "بأبي وأمي إنك لعربية"، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمحو تلك الصور إلا ما كان من صورة عيسى ومريم.

وهذه الأخبار مردودة من وجوه:

الوجه الأول: ضعف أسانيدها:

أما الخبر الأول فإنه منقطع لأن أبا نجيح لم يدرك زمن الجاهلية ولا زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أدرك آخر زمان الصحابة رضي الله عنهم. والمنقطع لا يثبت به شيء، وأيضاً ففي إسناده مسلم بن خالد الزنجي وقد وثقه ابن معين وضعفه أبو داود وقال أبو حاتم:"إمام في الفقه تعرف وتنكر ليس بذاك القوي يكتب حديثه ولا يحتج بهط، وقال النسائي: "ليس بالقوي"، وهذا مما يزيد الخبر وهناً على وهنه.

وأما الخبر الثاني: فإنه أضعف مما قبله لأمرين: أحدهما: أنه مرسل والمرسل ليس بحجة، والثاني: أن في إسناده رجلاً لم يسم، ومثل هذا لا يثبت به شيء، وقد ذكره البخاري في التاريخ الكبير بدون ذكر الزيادة الباطلة فقال: في ترجمة مسافع بن عبد الله عن شيبة بن عثمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا شيبة امح كل صورة في البيت".

ص: 453

وأما الخبر الثالث: فإنه أضعف مما قبله لأمرين: أحدهما أنه مرسل، والثاني: أن في إسناده يزيد بن عياض بن جُعْدُبة - بضم الجيم والدال بينهما مهملة ساكنة -. قال الذهبي في الميزان: قال البخاري وغيره: "منكر الحديث"ووقال يحيى: "ليس بثقة"، وقال علي:"ضعيف"، ورماه مالك بالكذب، وقال النسائي وغيره:"متروك"، وقال الدارقطني:"ضعيف"، وروى عباس عن يحيى:"ليس بثقة ضعيف"، وروى يزيد بن الهيثم عن ابن معين:"كان يكذب"، وروى أحمد بن أبي مريم عن ابن معين:"ليس بشيء لا يكتب حديثه".

وأما الخبر الرابع: فإنه ضعيف جداً؛ لأمرين: أحدهما: أنه منقطع، والثاني: أن فيه رجلاً لم يسم، ومثل هذا لا يثبت به شيء.

الوجه الثاني: أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يمحو الصور التي في الكعبة وأنه صلى الله عليه وسلم دخلها وما فيها شيء من الصور، قال الإمام أحمد حدثنا روح - وهو ابن عبادة القبسي - حدثنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب يوم الفتح وهو بالبطحاء أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها، ولم يدخل البيت حتى محيت كل صورة فيه"إسناده صحيح على شرط الشيخين.

ص: 454

وقال الإمام أحمد أيضاً حدثنا عبد الله بن الحارث - وهو ابن عبد الملك المخزومي - عن ابن جريج أخبرني أبو اليزيد أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن الصور التي في البيت، ونهى الرجل الذي يصنع ذلك"، وأن النبي صلى الله عليه وسلم "أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه زمن الفتح وهو بالبطحاء أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها ولم يدخل البيت حتى محيت كل صورة فيه" إسناده صحيح على شرط مسلم. وقد رواه الإمام أحمد أيضاً بإسنادين أحدهما صحيح والآخر حسن. ورواه أبو داود في سننه والبيهقي من طريقه وإسناده حسن. وفي هذا الحديث رد لما جاء في الأخبار الأربعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بمحو الصور التي في الكعبة ولم يستثن شيئاً منها، وفي هذا أبلغ رد على من زعم أنه صلى الله عليه وسلم وضع كفيه على صورة مريم وعيسى وأمر بإبقائها ومحو ما سواها.

وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو بالبطحاء أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها وفي هذا رد على ما جاء في خبر أبي نجيح أنه صلى الله عليه وسلم أرسل الفضل بن العباس فجاء بماء زمزم.

الوجه الثالث: ما ذكره الزرقاني على المواهب أنه وقع عند الواقدي في حديث جابر وكان عمر قد ترك صورة إبراهيم فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم رآها فقال: "يا عمر ألم آمرك أن لا تدع فيها صورة، قاتلهم الله جعلوه شيخاً يستقسم بالأزلام". ثم رأى صورة مريم فقال: "امحوا ما فيها من الصور، قاتل الله قوماً يصورون ما لا يخلقون". وهذا ظاهر في شدة إنكاره صلى الله عليه وسلم للصور التي رآها في الكعبة ومنها صورة مريم. ويدل على تشديده في الإنكار ثلاثة أمور: أحدها: إنكاره صلى الله عليه وسلم على عمر رضي الله عنه حير ترك بعض الصور فلم يمحها، والثاني: أمره بمحو الصور بدون استثناء. والثالث: دعاؤه على المصورين.

ص: 455

وفي معنى قوله: "قاتلهم اللهُ" أقوال:

أحدها: لعنهم الله قاله ابن عباس رضي الله عنهما واختاره البخاري.

الثاني: قتلهم الله قال ابن جريج.

الثالث: أنه ليس على تحقيق المقاتلة ولكنه بمعنى التعجب حكاه البغوي في تفسيره. قال الراغب الأصفهاني: "والصحيح أن ذلك هو المفاعلة، والمعنى صار يحيث يتصدى لمحاربة الله فإن من قاتل الله فمقتول، ومن غالبه فهو مغلوب"انتهى.

الوجه الرابع: أن تصوير الصور واتخاذها من أعظم المنكرات، وتغيير المنكر واجب بحسب القدرة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي ومسلم وأهل السنن من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقال الترمذي:"هذا حديث حسن صحيح"، وفي رواية النسائي:"من رأى منكراً فغيره بيده فقد برئ، ومن لم يستطع أن يغيره بيده فغيره بلسانه فقد برئ، ومن لم يستطع أن يغيره بلسانه فغيره بقلبه فقد برئ وذلك أضعف الإيمان".

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد الناس غيرة على انتهاك المحرمات وأشدهم في إنكار المنكرات وتغييرها، ومن المحال أن يرى المنكر وهو قادر على تغييره فلا يغيره، فضلاً عن أن يأمر بإبقائه، ومن ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ببقاء شيء من الصور التي في الكعبة ونهى أن يمحى فقد ظن به ظن السوء.

الوجه الخامس: أن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن التصوير كما في المسند وجامع الترمذي عن جابر رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصور في البيت ونهى الرجل أن يصنع ذلك"قال الترمذي: "حديث حسن صحيح".

ص: 456

وروى الإمام أحمد أيضاً والبخاري في تاريخه بأسانيد جيدة عن معاوية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن التصاوير". وما كان النبي صلى الله عليه وسلم لينهى عن التصوير ثم يقر بعضه ويأمر بإبقائه، هذا من أبطل الباطل.

الوجه السادس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل على عائشة رضي الله عنها ورأى القرام الذي فيه التصاوير هتكه وتلون وجهه، قالت عائشة رضي الله عنها: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل فلما رآه هتكه وتلون وجهه وقال: "يا عائشة أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة الذي يضاهون بخلق الله" رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه، وهذا لفظ مسلم. وفي رواية النسائي:"بقرام فيه تصاوير"، وفي رواية ابن ماجه:"بستر فيه تصاوير"، وفي رواية لمسلم قالت:"دخل النبي صلى الله عليه وسلم عليّ وقد سترت غطاء فيه تصاوير فنحاه فاتخذت عنه وسادتين".

وإذا كان التبي صلى الله عليه وسلم قد هتك الستر الذي في بيت عائشة رضي الله عنها من أجل التصاوير، فكيف يظن به أنه يقر التصاوير في بيت الله تعالى ويأمر بإبقائها.

الوجه السابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المصورين وأخبر أنهم أشد الناس عذاباً يوم القيامة كما في حديث أبي جحيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم "لعن المصورين" رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي.

وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة الذي يضاهون بخلق الله"متفق عليه.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفس فتعذبه في جهنم"رواه مسلم.

والأحاديث في الوعيد الشديد للمصورين كثيرة جداً، وقد ذكرتها في (إعلان النكير على المفتونين بالتصوير) فلتراجع هناك.

ص: 457

وإذا تأمل طالب العلم ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من لعن المصورين وما ثبت عنه أيضاً من الوعيد الشديد لهم لم يشك في كذب ما جاء في الأخبار الأربعة التي ذكرها الأزرقي في تاريخه وتقدم ذكرها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يخالف قوله بفعله، ولا يقر المنكر الذي هو من أظلم الظلم ومن كبائر الإثم

الوجه الثامن: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر في عدة أحاديث صحيحة أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة. وروى الإمام أحمد والبخاري والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت فوجد فيه صورة إبراهيم وصورة مريم فقال: صلى الله عليه وسلم: "أما لهم فقد سمعوا أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة هذا إبراهيم مصور فما له يستقسم" وهذا الحديث ظاهر في إنكاره صلى الله عليه وسلم لصورة إبراهيم ومريم حين رآهما في الكعبة. وهذا يرد قول من زعم أنه صلى الله عليه وسلم وضع كفيه على صورة مريم وعيس وأمر بإبقائها ومحو ما سواها، وإذا كانت الملائكة لا تدخل البيت الذي فيه صورة فكيف يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه يقر صورة مريم وعيسى في بيت الله الذي هو أشرف البيوت وأعظمها حرمة ويأمر بإبقائها ومحو ما سواها. هذا من أسوأ الظن وأبطل الباطل.

الوجه التاسع: ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده بإسناد جيد عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة ورأى صوراً، قال: فدعا بدلو من ماء فأتيته به فجعل يمحو ويقول: "قاتل الله قوماً يصورن ما لا يخلقون". وهذا الحديث ظاهر في إنكاره صلى الله عليه وسلم لما رآه من الصور في الكعبة وأنه لم يستثن شيئاً منها. وفي هذا رد على من زعم أنه صلى الله عليه وسلم رضع كفيه على صورة مريم وعيسى وأمر بإبقائها ومحو ما سواها.

ص: 458

الوجه العاشر: ما رواه ابن ماجه بإسناد صحيح عن علي رضي الله عنه قال: "صنعت طعاماً فدعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء فرأى في البيت تصاوير فرجع"، ورواه النسائي ولفظه: قال: "صنعت طعاماً فدعوت النبي صلى الله عليه وسلم فجاء فدخل فرأى ستراً فيه تصاوير فخرج وقال: "إن الملائكة لا تدخل بيتاً في تصاوير"، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج من بيت علي وفاطمة رضي الله عنهما وامتنع من أكل طعامهما من أجل الستر الذي فيه التصاويرفكيف يظن به أن يقر صورة مريم وعيسى في الكعبة. لا شك أن هذا مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم.

الوجه الحادي عشر: ما رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن إلا ابن ماجه عن أبي هياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن لا تدع صورة إلا طمستها ولا قبراً مشرفاً إلا سويته" هذا لفظ إحدى روايات مسلم.

وهذا الحديث الصحيح يدل على أنه يجب طمس الصور أينما وجدت وفي أي شيء كانت. وفيه أبلغ الرد على من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع كفيه على صورة مريم وعيسى وأمر بإبقائها ومحو ما سواها.

ص: 459

وأما ما رواه الأزرقي عن جده قال حدثنا داود بن عبد الرحمن عن ابن جريج قال: سأل سليمان بن موسى الشامي عطاء بن أبي رباح وأنا أسمع: أدركت في البيت تمثال مريم وعيسى؟، قال: نعم، أدركت فيها تمثال مريم مزوقاً في حجرها عيسى ابنها قاعداً مزوقاً". قال:"وكانت في البيت أعمدة ست سواري وكان تمثال عيسى ومريم في العمود الذي يلي الباب"، قال ابن جريج: فقلت لعطاء متى هلك؟ قال: "في الحريق في عصر ابن الزبير". قلت: أعلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان؟ قال: "لا أدري، وإني لأظنه قد كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم". قال له سليمان: "أفرأيت تماثيل صور كانت في البيت من طمسها؟ "قال: "لا أدري، غير أني أدركت من تلك الصور اثنين درستا وأراهما والطمس عليهما". قال ابن جريج: "ثم عاودت عطاء بعد حين فخط لي ست سواري ثم قال: "تمثال عيسى وأمه عليهما السلام في الوسط من اللاتي تلين الباب الذي يلينا إذا دخلنا".

ثم قال الأزرقي: حدثني جدي قال حدثنا داود بن عبد الرحمن عن عمرو بن دينار قال: "أدركت في بطن الكعبة قبل أن تهدم تمثال عيس بن مريم وأمه".

ص: 460

فجوابه: أن يقال قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها ولم يستثن شيئاً من الصور. وثبت أيضاً من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت فوجد فيه صورة إبراهيم وصورة مريم فقال صلى الله عليه وسلم: "أما لهم فقد سمعوا أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة هذا إبراهيم مصور فما له يستقسم". وثبت أيضاً عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة ورأى صوراً قال: فدعا بدلة من ماء فأتيته به فجعل يمحوها ويقول: "قاتل الله قوماً يصورون ما لا يخلقون". وقد تقدم ذكر هذه الأحاديث الثلاثة قريباً. وتقدم أيضاً ما ذكره الزرقاني على المواهب أنه وقع عند الواقدي في حديث جابر وكان عمر قد ترك صورة إبراهيم فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم رآها فقال: "يا عمر ألم آمرك أن لا تدع بها صورة قاتلهم الله جعلوه شيخاً يستقسم بالأزلام"، ثم رأى صورة مريم فقال:"محوا ما فيها من الصور قاتل الله قوماً يصورون ما لا يخلقون"..

وعلى هذا فيحتمل أن تكون صورة مريم وعيسى محفورة في عمود البيت بحيث لا يذهبهما الغسل بالماء، فلهذا بقيت إلى أن احترق البيت في عهد ابن الزبير، ويحتمل أن تكون مصبوغة بصبغ ثابت لا يذهبه الماء أو أنه قد ذهب بعض الصبغ حين محيت بالماء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبقي منه بقية تظهر منه الصورة. وقد تقدم عن عطاء أنه أدرك أيضاً صورتين من الصور التي كانت في الكعبة وأنهما قد درستا وأنه رأى الطمس عليهما. فلعل صورة مريم وعيسى كانت كذلك. ويحتمل أن يكون قد ألزق عليهم ما يمنع من رؤيتهما فخفيت على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الخلفاء الراشدين وعلى غيرهم من الصحابة ورآها عطاء وعمرو بن دينار بعدما أزيل عنها ما يمنع من رؤيتها.

ص: 461

ويحتمل أن يكون بعض النصارى وضعها بعد زمان النبي صلى الله عليه وسلم وبعد زمان الخلفاء الراشدين، ولا سيما في زمن الفتنة التي كانت في زمن يزيد بن معاوية فقد يتسمى بعض النصارى بالإسلام بحيث لا يرد عن دخول مكة ودخول الكعبة فيصور صورة مريم وعيسى ليفتن المسلمين بذلك ويوهمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقر صورتهما، ويحتمل أن يكون ذلك من عمل بعض من أسلم من النصارى بعد زمان النبي صلى الله عليه وسلم وزمان الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم والله أعلم.

وليس في بقاء صورة مريم وعيسى في الكعبة بعد زمان النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقر ذلك، فإنه صلى الله عليه وسلم لا يقر المنكر ولا يرضى به وقد قال الله تعالى في صفته {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَر} (الأعراف: 157) .

والمقصود هنا أنه لا يجوز أن يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه يقر شيئاً من الصور أو يأمر بإبقائها، ومن ظن ذلك فقد ظن بالنبي صلى الله عليه وسلم ما لا يليق به.

والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

حمود بن عبد الله التويجري

15/4/1398هـ

تعليق:

ذكر فضيلة الكاتب بعد حديث عمر الذي هو أقوى دليل في الموضوع عدة أحاديث تعارضه وحاول التوفيق بينها وبين حديث عمر بذكر عدة احتمالات، ولكن الذي يبدو أن القارئ لا يقتنع بهذا الصنيع، فترى المجلة أن يعيد فضيلة الكاتب النظر في التوفيق بين تلك الأحاديث التي ظاهرها التعارض.

وبالله التوفيق.

ص: 462

مفهوم الربوبية

بقلم سعد ندا

المدرس بالجامعة الإسلامية

(المعهد الثانوي)

الحلقة الأولى

الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئآت أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فقد بدا لي أن موضوع (الربوبية) له أهميته من حيث تعلقه بنقطة البدء في حياة المسلم. والمدخل الوحيد للعقيدة الصحيحة - عقيدة التوحيد - التي يتحتم عليه اعتناقها وتنفيذ متضمناتها والتي لا يقبل الله تعالى منه أي عمل يؤسس على غيرها ، وكذلك من حيث أنه لا يُعقل أن يوجه فردٌ ما أي عبادة إلى إله لا يؤمن بوجوده، بل إن العبادات توجه دائماً إلى إله يبدأ العابد بالإقرار به وبصفات كماله المطلقة التي لا تماثلها صفة واحد من خلقه.

ومن ثم برزت عندي أهمية هذا الموضوع، وآثرت أن أدخل في شيء من معالجته بقد ما ييسر الله تعالى لي، خاصة وأن موجة الإلحاد وإنكار وجود الله قد اجتاحت معظم بلاد العالم، وزحفت على شطر ليس بالقليل من قلوب من ينتسبون إلى الإسلام، وخاصة القلوب الغضة التي يحملها بين جنبيه شباب الإسلام الذي تحير فتذبذب بدفعات عنيفة من تيارات الملحدين تارة، والمبتدعين تارة أخرى، حتى أصبح كريش تلعب به هبّات الرياح.

وفي معالجتي لهذا الموضوع، أتناول إن شاء الله بحث: معنى الربوبية، وتوحيد الله تعالى في الربوبية إقراراً وإنكارا وأثر ذلك، وبيان نظرة المنكرين للخالق سبحانه والرد عليهم بالأدلة العقلية والنقلية، ثم علاقة توحيد الربوبية بأقسام التوحيد المختلفة.

ومن الله عز وجل أستمد العون والتوفيق.

معنى الربوبية لغة [1] :

الربوبية مصدر رَبَبَ، ومنه الربّ.

ص: 463

والربّ هو الله عز وجل، هو ربُّ كل شيء أي مالكه، وله الربوبية على جميع الخلق لا شريك له، وهو رب الأرباب، ومالك الملوك والأملاك.

ورب كل شيء مالكه ومستحقه، وقيل: صاحبه، ولا يقال الربّ في غير الله إلا بالإضافة: فيقال: فلان ربّ هذا الشيء أي ملكه له. وكل من ملك شيئاً فهو ربه. يقال: هو رب الدابة، ورب الدار، وفلان رب البيت، وهن ربات الحمال.

ويقال: رب مشدد، ورب مخفف.

وأنشد المفضل:

وقد علم الأقوال أن ليس فوقه

رب غير من يعطي الحظوظ ويرزق

وفي حديث أشراط الساعة "وأن تلد الأمة ربها أو ربتها" قيل: الرب يطلق في اللغة على المالك، والسيد والمربي، والقيم، والمنعم، ولا يطلق غير مضاف إلى على الله عز وجل.

وقد أريد به في الحديث المولى أو السيد، يعني أن الأمة تلد لسيدها ولداً فيكون كالمولى لها، لأنه في الحسب كأبيه، أراد أن السبي يكثر، والنعمة تظهر في الناس، فتكثر السراري.

وفي حديث إجابة المؤذن "اللهم رب هذه الدعوة التامة" أي صاحبها، وقيل المتمم لها، والزائد في أهلها والعمل بها والإجابه لها.

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه "لا يقل المملوك لسيده: ربي" كره أن يجعل مالكه رباً له لمشاركة الله في الربوبية.

أما في قوله تعالى: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} (يوسف: 42) فإنه خاطبهم على المتعارف عندهم وعلى ما كانوا يسمونهم به.

فأما الحديث في ضالة الإبل "حتى يلقاها ربها"فإن البهائم غير متعدية ولا مخاطبة فهي بمنزلة الأموال التي تجوز إضافة مالكيها إليها، وجعلهم أرباباً لها.

وقوله عز وجل: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} (يوسف: 23) قال الزجاج: "إن العزيز صاحبي أحسن مثواي". قيل: ويجوز أن يكون: الله ربي أحسن مثواي.

وربّه يرُبُّه ربّاً: مَلَكَه.

ومربوب: أي مملوك، أي بيّن الربوبية.

والعباد مربوبون لله عز وجل، أي مملوكين.

ص: 464

وربَبْت القوم: سستهم، أي كنت فوقهم.

والعرب تقول: لأن يَرُبَّني فلان أحب إلي من أن يربني فلان، يعني أن يكون رباً فوقي وسيداً يملكني.

ويقول ابن الأنباري: "الرب بنفسه على ثلاثة أقسام:

1 – الربّ: المالك.

2 – والرب: السيد المطاع. يقول تعالى: {فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً} (يوسف: 41) أي سيده.

3 – والرب: المصلح.

وربَّ الشيء: إذا أصلحه.

وربَّ ولده والصبي يربه ربّاً وربَّبته تربيباً بمعنى ربَّاه.

وفي الحديث "لك نعمة تربها" أي تحفظها وتراعيها وترببها كما يربي الرجل ولده. وتربّاه: أحسن القيام عليه، ووليَه حتى يفارق الطفولية، كان ابنَه أو لم يكن. والصبي مربوب وربيب، والمربوب هو المربَّى.

معنى الربوبية اصطلاحاً:

الربوبية من الربِّ.

والربّ في الاصطلاح الشرعي: هو السيد، المنعم، الخالق، البارئ، المصور، المالك، الرازق، المعطي، المانع، النافع، الضار، المحي، المميت، المدبر لأمر هذا الكون كله.

توحيد الله تعالى في ربوبيته إقراراً وإنكاراً وأثر ذلك:

معنى توحيد الربوبية:

يقصد بتوحيد الربوبية: أن يقر العبد ويشهد بقلبه ولسانه وجوارحه بأن الله تعالى تفرّد بالربوبية المطلقة وخصائصها من: سيادة وإنعام وإبراء وتصوير وملك ورزق ومنع وإعطاء ونفع وضر وإحياء وإماتة وتدبير محكم بديع لأمر هذا الكون كله أزلاً وأبداً، فلا يشركه أحد من خلقه مهما علا مركزه في هذه الحياة دينا ودنيا في أي من خصائص ربوبيته سبحانه ومن ثم فإن العبد ينبغي عليه أن يعتقد:

1 – بأن الله تعالى هو وحده السيد، فلا سيادة في هذا الكون على الخلق إلا له وحده، وإذا أطلق على الإنسان لفظ (السيد) فذلك من باب التجوز في التعبير، وحتى مع إقراره له، فإن سيادته مقيدة بحدود تناسب ذاته، أما سيادة الله جل وعلا فهي سيادة مطلقة لا حدود لها.

ص: 465

2 – وبأن الله تعالى هو وحده الخالق، أي المقدر للأشياء على مقتضى مشيئته، فلا يملك مخلوق ما أن يخلق ذرة ولا حبة ولا شعيرة، لذا يقول تعالى:{هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِه} ِ [2] فهذا استفهام إنكاري يؤكد عجز المخلوق عجزاً كاملاً عن خلق أي شيء، وقد ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة"أخرجاه، فهذا الحديث يقرر أنّ من يحاول مضاهاة خلق الله بالتصوير شديد الظلم له، شديد العقوبة، إذ أنه يعجز أن يخلق ذرة أو حبة أو شعيرة.

3 – وبأن الله تعالى هو وحده البارئ أي المنشئ للمخلوقات، والموجد لها من العدم - فمن من الخلق هذا الذي يزعم أنه يستطيع أن يبرئ من العدم شيئاً؟ - إنه يستحيل عليه ذلك، بل إنه كثيراً ما يعجز عن أن يصنع أشياء من مواد متجمعة لديه، لكن رب العالمين سبحانه يخلق دون حاجة إلى سبق مواد يخلق منها، ونجد إشارة إلى ذلك في قوله تعالى:{أَوَلا يَذْكُرُ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} ؟ [3] .

4 – وبأن الله تعالى هو وحده المصور لصور خلقه على كثرتهم الكاثرة واختلاف أنواعهم وأشكالهم - وهو وحده - بعد خلقه وتصويره يجعل في مخلوقاته الأرواح التي تحصل بها الحياة.

5 – وبأن الله تعالى هو وحده الرازق، وضمن رزق كل مخلوق لديه، فقال تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [4]، وقال جل وعلا:{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ، فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [5] .

ص: 466

وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [6]ـ فلا يملك مخلوق أن يجري لغيره رزقاً لم يقدره الله تعالى له، ولا أن يمنع عنه رزقاً قدر الله تعالى أن يجريه له.

وبأن الله تعالى هو وحده الذي يعطي خلقه من نعمه ما يشاء، وهو وحده الذي يمنعهم إياها كما يشاء، ولا يملك أيّ مخلوق أن يمنع عطاء الله الذي أراد ولا أن يجري ما أراد سبحانه أن يمسك، يقول تعالى:{مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [7] .

6 – وبأن الله تعالى هو وحده النافع لعباده بما يشاء، والضار لمن يستحق منهم الضر بما يشاء سبحانه.

وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك في الحديث القدسي الذي رواه عن ربه عن ابن عباس رضي الله عنهما: "واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، جفت الأقلام وطويت الصحف".

7 – وبأن الله تعالى هو وحده المحبى الذي يقدر أن يمنح الحياة لمن يشاء من خلقه، ويحدد مدة هذه الحياة ونهايتها في أجل معلوم لديه، ولا يملك أي مخلوق أن يمنح حياة لغيره - لم يشأها له الله تعالى - ولو للحظات يسيرة.

8 – وبأن الله تعالى هو وحده المميت، الذي يقدر أن ينهي حياة من يشاء من خلقه فيقضي عليه بالموت، ولا يملك مخلوق ما أن ينهي حياة غيره الذي يُقدر الله له بقيةً من حياة.

ص: 467

9 – وبأن الله تعالى هو وحده المدبر لأمر هذا الكون كله، فيصرف شؤونه على وجه حكيم فيه صلاح خلقه، بحيث لا يوجد في هذا التدبير تناقضٌ ولا تنافرٌ، ولا يملك أي مخلوق مهما كان مركزه دنيا ودينا أن يدبر من أمر هذا الكون شيئاً، ويشير إلى هذا قوله تعالى:{يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} (السجدة: 5)[8] .

أهمية هذا الإقرار:

تظهر أهمية الإقرار بتوحيد الربوبية في أنه مقدمة لنتيجة، فإذا أقر العبد أن الله سبحانه تعالى هو الرب المتفرد بالربوبية وخصائصها، استلزم ذلك حتماً أن ينتج عن إقراره هذا إقرار آخر بتفرد الرب جل وعلا في ألوهيته، فيُجَرّد له العبادات جميعاً، ولا يصرف شيئاً منها لسواه، إذ أنه لا يصلح أن يُعْبَد إلا من كان رباً، سيداً، خالقاً، بارئاً، مصوراً، مالكاً، رازقاً، معطياً، مانعاً، محيياً، مميتاً، مدبراً لأمر الكون كله، وما دام أن ذلك جميعه لا يثبت إلا له وحده سبحانه، فوجب أن يكون هو وحده المعبود، الذي لا يصح أن يكون لأحد من خلقه شركة معه في أي شيء من العبادات على اختلاف صورها.

ص: 468

ولهذا جرت سنة القرآن الكريم على سوق آيات الربوبية، ثم الخلوص منها إلى الدعوة إلى توحيد الألوهية، فيجعل توحيد الربوبية مدخلاً لتوحيد العبادة للإله الذي لا يستحقها بأنواعها جميعاً سواه، كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [9]، وكما قال تعالى:{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ..} [10] .

وأما توحيد الإلهية فهو متضمن لتوحيد الربوبية، بمعنى أن توحيد الربوبية داخل في ضمن توحيد الإلهية، فإن من عبد الله وحده ولم يشرك به شيئاً، لا بد أن يكون قد اعتقد أن الله هو ربه ومالكه الذي لا رب له غيره ولا مالك له سواه، فهو يعبده لاعتقاده أن أمره كله بيده، وأنه هو الذي يملك ضره ونفعه، وأن كل ما يُدْعى من دونه فهو لا يملك لعابديه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشورا.

ولا ينفع توحيد الربوبية بدون توحيد الألوهية، كما لا ينفع توحيد الألوهية بدون توحيد الربوبية، فإن من عبد الله وحده ولم يشرك به شيئاً في عبادته، ولكنه اعتقد مع ذلك أن لغير الله تعالى تأثيراً في شيء، أو قدرة على ما لا يقدر عليه إلا الله، أو أنه يملك ضر العباد أو نفعهم ونحو ذلك، فهذا لا تصح عبادته؛ لأن أساسها يجب أن يكون الإيمان بالله ربّاً متفرداً بخصائص الربوبية جميعاً.

الإقرار بتوحيد الربوبية:

ص: 469

إن الإقرار بهذا النوع من التوحيد وحده لا يكفي لجعل صاحبه موحداً ينجو بتوحيده من عذاب الله تعالى يوم القيامة الذي أعده لغير الموحدين، وإنما هو مدخل لأنواع التوحيد الأخرى التي بها جميعاً يتحقق النجاة من عذاب الله.

وقد أقر المشركون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوحيد الربوبية، وكذلك أقر به الكفار، إذ كانوا يقرون بأن الله تعالى هو المالك، الخالق، الرازق، النافع، الضار، المحي، المميت، المدبر لأمر هذا الكون، ولكن هذا الإقرار وحده لم يجدهم شيئاً ولم ينقذهم من عذاب الله.

وقد أثبت الله جل وعلا إقرارهم هذا في كتابه، فقال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [11]، وقال:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [12] .

وقال: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [13] .

وقال: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟ سَيَقُولُونَ للهِ، قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ، قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ؟ سَيَقُولُونَ للهِ، قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ، قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟ سَيَقُولُونَ للهِ، قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [14] .

ص: 470

وهذا فرعون مع كفره، وادعائه الربوبية العليا، بل والألوهية المتفردة يقر بربوبية الله تعالى، فيقول سبحانه في حق فرعون حاكياً عن موسى عليه السلام {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلاّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [15] .

وهذا إبليس اللعين يعترف بربوبية الله تعالى فيقول: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [16]، ويقول:{رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [17]، ويقول:{إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [18] .

فالكفار والمشركون أقرّوا بأن الله خالقهم، وخالق السموات والأرض وربهن ورب ما فيهما ورازقهم، لهذا احتج عليهم الرسل بقولهم:{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [19] .

أثر إقرارهم:

ورغم أن الكفرة والمشركين قد أقروا بتوحيد الربوبية لله تعالى، فإن هذا الإقرار لم ينفعهم شيئاً، ولم يخرجهم من كفرهم وشركهم، ولم يصبحوا بهذا الإقرار موحدين لله جل وعلا.

لقد كانوا يوحدون الله تعالى في ربوبيته، وملكه، وقهره، وكانوا يعبدونه ويخضعون له أنواعاً من العبادات وقت الاضطرار، كما يقول تعالى:{وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلاّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [20] . وكانوا يدّعون أنهم على ملة إبراهيم عليه السلام، فأنزل الله تعالى:{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [21] .

بل كان بعضهم يؤمن بالبعث والحساب، وبعضهم يؤمن بالقدر، كما قال زهير:

يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر

ليوم حساب أو يعجل فينتقم

وكما قال عنترة:

ص: 471

يا عبل أين من المنية مهرب

إن كان ربي في السماء قضاها

ومع هذا الإيمان، فإن دماءهم وأموالهم فد أبيحت، لإشراكهم في توحيد العبادة الذي هو معنى لا إله إلا الله، ولم ينفعهم إقرارهم بتوحيد الربوبية وحده دون توحيد الله تعالى في عبادته.

ولذلك ما اعترضوا على توحيد الربوبية حين ذكرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما كان اعتراضهم وإنكارهم وتعجبهم على دعوته لهم إفراد الله تعالى بالعبادة، وذلك فيما حكاه الله جل وعلا عنهم في قوله:{وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ، أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً؟ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ! وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ، مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاّ اخْتِلاقٌ} [22] .

فكانت النتيجة لاقتصارهم على هذا لإقرار بالربوبية أنه أبيح قتالهم وعدم رفع السيف عنهم حتى يقروا بشهادة أن لا إله إلا الله تلفظاً، وفهم معنىً، وتنفيذ مقتضى، والكفر بما يعبد من دون الله، إذ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي، وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله"، وفيما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله"، وقد أجمع العلماء على أن من قال (لا إله إلا الله) ، ولم يعتقد معناها، ولم يعمل بمقتضاها، يقاتل حتى يعمل بما دلت عليه من النفي والإثبات.

ص: 472

ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطاب لأبي بكر رضي الله عنهما لما قاتل مانعي الزكاة:"كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله"، فقال أبو بكر رضي الله عنه: "والله لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه". فقال عمر رضي الله عنه:"فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق". لفظ مسلم.

ص: 473

فأبو بكر رضي الله عنه فهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد مجرد اللفظ بقول (لا إله إلا الله) باللسان فحسب دون التزام بمعناها وأحكامها. وقد سئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله عن قتال التتار مع التمسك بالشهادتين، ولما زعموا من اتباع أصل الإسلام فقال [23] :"كل طائفة ممتنعة من التزام شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة من هؤلاء القوم أو غيرهم، فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا ناطقين بالشهادتين وملتزمين بعض شرائعه، كما قاتل أبو بكر والصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة وعلى ذلك اتفق العلماء بعدهم. فأيما طائفة ممتنعة عن بعض الصلوات المفروضات أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء، أو الأموال أو الخمر، وأو الميسر أو نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، أو غير ذلك من التزام واجبات الدين أو محرماته التي لا عذر لأحد في جحودها أو تركها، التي يكفر الواحد بجحودها فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها. وهذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء، وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنزلة البغاة، بل هو خارجون على الإسلام بمنزلة مانعي الزكاة".

أما ما ورد في حديث "أمرت أن أقاتل الناس

"من قوله: "وحسابهم على الله " [24] أي أن تبارك وتعالى هو الذي يتولى حساب هذا الذي يشهد بلسانه بهذه الشهادة، فإن كان صادقاً جازاه بجنات النعيم، وإن كان منافقاً عذبه العذاب الأليم.

وأما في الدنيا فالحكم على الظاهر، فمن أتي بالتوحيد، ولم يأت بما ينافيه ظاهراً والتزام شرائع الإسلام، وجب الكف عنه.

يخلص من ذلك أن الاقتصار على توحيد الربوبية من باب أولى لا أثر له في عصمة الدم والمال.

--------------------------------------------------------------------------------

ص: 474

[1]

لسان العرب المحيط في معنى كلمة (ربب) .

[2]

سورة لقمان آية 11.

[3]

سورة مريم آية 67.

[4]

سورة هود آية 6.

[5]

سورة الذاريات آية 22-23.

[6]

سورة الذاريات آية 58.

[7]

سورة فاطر آية 2.

[8]

سورة السجدة آية 5.

[9]

سورة البقرة آية 21،22.

[10]

سورة النمل آية 60،64.

[11]

سورة الزخرف آية 87.

[12]

سورة الزخرف آية 9.

[13]

سورة يونس آية 31.

[14]

سورة المؤمنون آية 84.

[15]

سورة الإسراء آية 102.

[16]

سورة الحجر آية 36.

[17]

سورة الحجر آية 39.

[18]

سورة الحشر آية 16.

[19]

سورة النحل آية 17.

[20]

سورة لقمان آية 32.

[21]

سورة آل عمران آية67.

[22]

سورة ص آية 4،5،6،7.

[23]

فتح المجيد ص92،93.

[24]

المرجع السابق ص 91.

ص: 475

العبادة في الإسلام

بقلم أحمد عبد الرحيم السايح

قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إلَاّ لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} .. [1]

فهذه الآية الكريمة.. تحدد غاية الخلق.. كما تبين الحكمة الشرعية الدينية من خلق الجن والإنس، والتي هي وجوب عبادة الله وحده لا شريك له، وإفراده بتلك العبادات.

والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة. [2]

وأصل العبادة: التذلل والخضوع.. وسميت وظائف الشرع على المكلفين عبادات لأنهم يلتزمونها ويفعلونها، خاضعين متذللين لله تعالى. [3]

والعبادة في اللغة من الذلة.. يقال: طريق معبد، أي: مذلل. وفي الشرع: عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف [4] . .

والعبادة في الإسلام.. تؤكد إقرار المرء إقراراً كاملاً بقلبه وجوارحه، وخضوعه خضوعاً مطلقاً، يطفى على كل خضوع، لله الخالق الباقي من وراء كل وجو د زائل [5] ..

ويقوم التصور الإسلامي على أن هناك ألوهية وعبودية.. ألوهية يتفرد بها الله سبحانه.. وعبودية يشترك فيها كل من عداه، وكل ما عداه..

وكما يتفرد الله سبحانه بالألوهية.. كذلك يتفرد تبعاً لذلك بكل خصائص الألوهية.. وكما يشترك كل حي، وكل شيء بعد ذلك في العبودية، كذلك يتجرد كل حي وكل شيء من خصائص الألوهية..

فهناك إذن وجودان متميزان: وجود الله، ووجود ما عداه من عبيد الله، والعلاقة بين الوجودين هي علاقة الخالق بالخلق والإله بالعبيد [6] . .

ص: 476

والله سبحانه وتعالى لم يخلق الإنسان في هذا الكون.. ليعبث أو يلهو أو يلعب، أو ليتمرد على الإنسانية.. ولم يخلق الله الإنسان ليطغى ويتمرّغ في وحل الإلحاد.. ولم يخلق الله الإنسان ليعيش في أحضان الجهل والتبعية العمياء.. قال تعالى:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا ل اتُرْجَعُونَ} [7] .. وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيز ُ الْغَفُورُ} [8] ..

فالإنسان خلقه الله وركب فيه ما ركب من قوى الإدراك والعلم والفهم والتفكير والعمل.. ليكون خليفة في الأرض.. والخلافة في الأرض ليست مجرد الملك والرياسة والقهر والغلبة.. وليس البطش بالأبرياء والزج بهم في المعتقلات وسجون التعذيب.. وليست سفكاً للدماء، وقطعاً لرءوس المؤمنين.. ولا هي كذلك دعوة إلى الإلحاد وعباد ة الطواغيت [9] .. ولا هي التسلط على الناس والتحكم فيهم بغير ما أنزل الله..

إذن هي القيام بمسؤلية التكليف. والتكليف حجة على المكلفين فيما يعينهم من أمر الأرض والسماء، ومن أمر أنفسهم ومن أمر خالقهم وخالق الأرض والسماء.. وهي أداء رسالة الإسلام، وتحقيق المنهج الذي رسمه الله للإنسانية، قال تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُم ْ تَتَّقُونَ} [10] ..

والخلافة في الإسلام حقيقة ضخمة، تستغرق النشاط الإنساني كله.. وتوجه النشاط الإنساني كله..

ص: 477

فهي قدرة على التفوق العلمي.. وقدرة على مواجهة التحديات الشركية، وقدرة على الصمود أمام الأحداث.. وقدرة على محارة الإلحاد والأحزاب الحمراء.. وقدرة على تحقيق الطمأنينة والأمن والعدل والخير والسلام..

"وإن النظرة القرآنية تجعل هذا الإنسان بخلافته في الأرض عاملاً مهما في نظام الكون.. ملحوظاً في هذا النظام.. فخلافته في الأرض تتعلق بارتباطات شتى مع السموات، ومع الرياح، ومع الأمطار، ومع الشموس والكواكب، وكلها ملحوظ في تصميمها إمكان قيام الحياة على الأرض، وإمكان قيام الإنسان بالخلافة، فأين هذا المكان الملحوظ، ومن ذلك الدور الذليل الذي تخصصه له المذاهب المادية، ولا تسمح له أن يتعداه [11] .

والإنسان أعز وأكرم وأغلى من كل شيء مادي، ومن كل قيمة مادية في هذه الأرض جميعاً. ولا يجوز إذن أن يستعبد أو يستذل لقاء توفير قيمة مادية، أو شيء مادي. ولا يجوز أن يتعدى على أي مقوم من مقومات إنسانيته الكريمة. ولا أن تهدر أية قيمة من قيمه لقاء تحقيق أي كسب مادي أو إنتاج أي شيء مادي أو تكثير أي عنصر مادي..

فهذه الماديات كلها مصنوعة من أجله، من أجل تحقيق إنسانيته، من أجل تقرير وجوده الإنساني.. فلا يجوز أن يكون ثمنها هو سلب قيمة من قيمه الإنسانية، أو نقص مقوم من مقومات كرامته.. [12] .

والإنسان أكرمه الله بالعبادة، وأمره بها ليكون صالحاً مصلحاً، قال تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [13] . .

وإذا كانت العبادة غاية الوجود الإنساني، كما هي غاية كل وجود، فإن مفهومها لا يقتصر على المعنى الخاص الذي يرد إلى الذهن، والذي يضيق نطاقها، حتى يجعلها محصورة بأنواع الشعائر الخاصة التي يؤديها المؤمن، إن حقيقة العبادة تبدو في معنيين.. أولهما عام، والأخر خاص..

ص: 478

أما العبادة بالمعنى العام. . فإنها تعني السير في الحياة ابتغاء رضوان الله، وفق شريعة الله. فكل عمل يقصد به وجه الله تعالى، والقيام بأداء حق الناس استجابة لطلب الله تعالى بإصلاح الأرض ومنع الفساد فيها، يعد عبادة، وهكذا تتحول أعمال الإنسان مهما حققت له من نفع دنيوي إلى عبادة إذا قصد بها رضاء الله [14] .

فالعبادة ما تكاد تستقر حقيقتها في قلب المسلم، حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط وحركة وبناء.

عبادة تستغرق نشاط المسلم.. بخواطر نفسه، وخلجات قلبه، وأشواق روحه، وميول فطرته، وحركات جسمه، ولفتات جوارحه، وسلوكه مع الناس..

وبه ذا الاستغراق، وهذا الشمول يتحقق معنى الخلافة في الأرض في قوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأََرْضِ خَلِيفَةً..} [15] .

لأن الخلافة في الأرض هي عمل هذا الكائن الإنساني.. وهي تقتضي ألواناً من النشاط الحيوي في عمارة الأرض والتعرف إلى قواها وطاقاتها وذخائرها ومكنوناتها، وتحقيق إرادة الله في استخدامها وتنميقها، وترقية الحياة فيها.. كما تقتضي الخلافة القيام على شريعة الله في الأرض، لتحقيق المنهج الإلهي الذي يتناسق مع الناموس الكوني العام..

ومن ثم يتجلى أن معنى العبادة التي هي غاية الوجود الإنساني، أو التي هي وظيفة الإنسان الأولى.. أوسع وأشمل من مجرد الشعائر، وأن وظيفة الخلافة داخلة في مدلول العبادة قطعاً..

وإن حقيقة العبادة تتمثل إذن في أمرين رئيسيين:

الأول: هو استقرار معنى العبودية لله في النفس، أي استقرار الشعور على أن هناك عبداً ورباً.. عبداً يُعبد.. ورباً يُعبد.. وأن ليس وراء ذلك شيء، وأن ليس هناك إلا هذا الوضع، وهذا الاعتبار، ليس في هذا الوجود إلا عابد ومعبود، وإلا رب واحد، والكل له عبيد..

ص: 479

الثاني: هو التوجه إلى الله بكل حركة في الضمير، وكل حركة في الجوارح، وكل حركة في الحياة.. التوجه بها إلى الله خالصة، والتجرد من كل شعور آخر، ومن كل معنى غير معنى التعبد لله..

بهذا وذلك يتحقق معنى العبادة.

قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [16] ، والعبادة هي العبودية المطلقة، معنى وحقيقة.. وكل ما يأتي به المسلم في طاعة الله فهو عبادة لذا كانت جملة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ..} كلية اعتقادية.. فلا عبادة إلا لله، ولا استعانة إلا بالله..

وفي هذا مفرق طريق.. مفرق طريق بين التحرر المطلق من كل عبودية، وبين العبودية المطلقة للعبيد.

وهذه الكلية تعلن ميلاد التحرر البشري الكامل الشامل.. التحرر من عبودية الأوهام، والتحرر من عبودية النظم، والتحرر من عبودية الأوضاع.. وإذا كان الله وحده هو الذي يعبد، والله وحده هو الذي يستعان فقد تخلص العبد من استذلال النظم والأوضاع والأشخاص، كما تخلص من استذلال الأساطير والأوهام والخرافات [17] .

أما العبادة بالمعنى الخاص: فهي إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً.. وهي نوع من التربية على العبادة الكامل ة الحقة [18] ..

ففرائض الإسلام تخاطب كل الجوانب في الإنسانية، وتفي بكل الحاجات، وتصحح كل الاتجاهات..

ومن وراء كل ذلك.. نجد أن العبادات في الإسلام تدعو إلى الوحدة والجماعة، وهي أساس لوحدة التفكير، ووحدة المفاهيم الأساسية في الحياة، بل ووحدة القيم، والمقاييس الخلقية، والنظر إلى الخير والشر، والفضائل والرذائل.. وقواعد السلوك.. [19] .

والعبادات في الإسلام تنتهي إلى نتيجتين:

أولاهما: الاتجاه إلى تربية الوجدان الديني الذي يجعل المؤمن بالإسلام مؤتلفاً مع غيره، ليتكون من هذا الائتلاف مجتمع إنساني متواد متحاب..

ص: 480

والثانية: أن غاية العبادات في الإسلام ليست مجرد التقوى السلبية، لأنه تتجه إلى النفع الإنساني العام، وإلى إيجاد مجتمع متحاب، غير متباغض ولا متنازع.. فعلاقة الإخلاص لله فيها أن تكون مطهرة للقلب، قاضية على الشرفية، مؤلفة بينه وبين الناس من غير مراءة ول امغالاة [20] ..

ويود أن يدرك المسلمون حقيقة العبادة في الإسلام.. ويوم أن يقتنع المسلمون بأن الإسلام هو المنهج الأمثل.. ويوم أن تكون الفرائض الإسلامية عملاً بناء.. لا حركات تؤدى.. ويوم أن تكون (لا إله إلا الله) المنطلق الوحيد للمسلمين.. يومها وبكل تأكيد سوف يتحقق للمسلمين بإذن الله تعالى نجاح رائع في كل نواحي الحياة..

والله ولي التوفيق..

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

سورة الذاريات الآيات: 56،57،58.

[2]

كلام ابن تيمية. انظر في ذلك كتاب تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد ص 30 للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب. مكتبة الرياض الحديثة.

[3]

اجع تفسير القرطبي لسورة الذاريات الآية رقم 56.

[4]

فسير القرآن العظيم للإمام ابن كثير.. المجلد الرابع.

[5]

عالم الثقافة الإسلامية، للدكتور عبد الكريم عثمان، ص147 الطبعة الثالثة، الناشر: مؤسسة الأنوار بالرياض.

[6]

صائص التصور الإسلامي. سيد قطب ص 215 طبع دار الشروق.

[7]

ورة المؤمنون الآية 115.

[8]

ورة الملك، الآيتان الأولى والثانية.

[9]

ال ابن القيم: "الطاغوت ما تجاور به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة الله، فهذه طواغيت العالم..".

[10]

ورة الأنعام الآية رقم 153.

ص: 481

[11]

ظر: تفسير "في ظلال القرآن"للشهيد سيد قطب. المجلد الأول ص 71 الطبعة الرابعة. الدار العربية للطباعة والنشر. بيروت.

[12]

ي ظلال القرآن المجلد الأول 70.

[13]

ورة الأنعام الآيتان 162،163.

[14]

عالم الثقافة الإسلامية. الدكتور عبد الكريم عثمان. ص 148.

[15]

ورة البقرة. جزء من الآية رقم 30.

[16]

ورة الفاتحة.

[17]

ي ظلال القرآن المجلد الأول ص 19.

[18]

مبادئ الإسلام. للأستاذ أبو الأعلى المودودي ص 94.

[19]

من وحي السماء لأحمد عبد الرحيم السايح ص46،47 الطبعة الأولى القاهرة.

[20]

لمجتمع الإسلامي في ظل الإسلام للشيخ العلامة محمد أبو زهرة ص 96.. القاهرة.

ص: 482