الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 4
فهرس المحتويات
1-
الإحسان - حقيقته - فضلة - طرقه: للشيخ عبد المحسن العباد
2-
الإدارة العامة في الإسلام: لإبراهيم مبارك الأعظمي
3-
الإسلام دين الفطرة.. صالح لكل زمان ومكان: للشيخ محمد مريسي محمد
4-
الإسلام والحياة: بقلم أحمد عبد الرحيم السايح
5-
الأعداء الثلاثة: للشيخ حسنين محمد مخلوف
6-
الأمر بالمعروف بالمعروف والنهي عن المنكر: نائب رئيس الجامعة الإسلامية - عبد العزيز بن عبد الله بن باز
7-
مع الصحافة - الصحفي الذي أنشأ حزبا شيوعيا ثم تحول إلى الفكر الإسلامي
نقلا عن جريدة الميثاق
8-
الفتاوى: نائب رئيس الجامعة الإسلامية - عبد العزيز بن عبد الله بن باز
9-
القدوة المتمثلة: للشيخ صالح رضا
10-
المدلّسون (الحلقة الثانية) : للشيخ حماد الأنصاري
11الإمام عبد العزيز (قصيدة) : للشيخ محمد بهجت الأثري
12-
بماذا نسمي الحاكم العبيدي؟ : رمضان أبو العز
13-
حقيقة الجهاد وأطواره: للشيخ عبد القادر شيبة الحمد
14-
دروس من معركة أحد: بقلم الأستاذ محمد المجذوب
15-
دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب: لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
16-
رسائل لم يحملها البريد: للشيخ عبد الرؤوف اللبدي
17-
صوت التضامن: بقلم الأستاذ محمد المجذوب
18-
عوامل نجاح الأمم.. في الدنيا والآخرة: للشيخ عبد الله خالد قادري
19-
عودة قائد: لسعادة الدكتور محمد ناصر
20-
متى: عبد العزيز القارئ
21-
من أخبار الجامعة
22-
ندوة الطلبة - لمحات تاريخية من حياة ابن تيمية: بقلم:صالح بن سعيد بن هلابي
23-
نظرات تحليلية في القصة القرآنية: عرض وتحليل بقلم: الشيخ محمود فكري
24-
هذه إسلاميتنا: بقلم الشيخ: أبو بكر جابرالجزائري
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م
الإحسان
حقيقته - فضله - طرقه
للشيخ عبد المحسن العباد المدرس بالجامعة
الإحسان في اللغة: ضد الإساءة، وهو مصدر أحسن إذا أتى بما هو حسن، وفي الاصطلاح: الإتيان بالمطلوب شرعا على وجه حسن.
وقد أوضح صلى الله عليه وسلم الإحسان في حديث جبريل عليه السلام المشهور حين سأله عن الإسلام والإيمان فأجابه عن كل منهما، وكان جوابه عند ما سأله عن الإحسان أن قال:"أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، فقد بيّن صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الذي رواه مسلم معنى الإحسان: وهو أن يفعل الإنسان ما تعبده الله به كأنه واقف بين يدي الله، وذلك يستلزم تمام الخشية والإنابة إليه سبحانه، ويستلزم الإتيان بالعبادة على وفق الخطة التي رسمها رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد ضمّن صلى الله عليه وسلم جوابه عن الإحسان بيان السبب الحافز على الإحسان لمن لم يبلغ هذه الدرجة العالية، والمنزلة الرفيعة، ألا وهو: تذكير فاعل العبادة بأن الله مطلع عليه، لا يخفى عليه شيء من أفعاله، وسيجازيه على ذلك، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، ولا شك أن العاقل إذا تذكر أن الله رقيب عليه أحسن عمله، رغبة فيما عند الله من الثواب للمحسنين، وخوفا من العقاب الذي أعده للمسيئين {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} .
فضل الإحسان:
ولمزيد عناية الإسلام بالإحسان وعظيم منزلته نوه سبحانه بفضله، وأخبر في كتابه العزيز أنه يحب المحسنين، وأنه معهم، وكفى بذلك فضلا وشرفا، فقال سبحانه:{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} ، وقال:{فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} ، وقال:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} ، وقال:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} .
جزاء المحسنين:
ومن رحمة الله وفضله أن جعل الجزاء من جنس العمل، ومن ذلك أنه جعل ثواب الإحسان إحسانا كما قال:{هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ} ، فمن أحسن عمله أحسن الله جزاءه، وقد أوضح الله سبحانه في كتابه العزيز جزاء المحسنين، وأنه أعظم جزاء وأكمله، فقال تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} ، وهذه الآية فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بما رواه مسلم عن صهيب رضي الله عنه بأن الحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله عز وجل، ولا يخفى ما بين هذا الجزاء وذلك العمل الذي هو الإحسان من المناسبة؛ فالمحسنون الذين عبدوا الله كأنهم يرون جزاءهم على ذلك العمل النظر إليه عيانا في الآخرة، وعلى العكس من ذلك الكفار الذين طبعوا على قلوبهم فلم تكن محلا لخشيته ومراقبته في الدنيا، فعاقبهم الله على ذلك بأن حجبهم عن رؤيته في الآخرة كما قال تعالى:{كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} ، وكما أنّ جزاء الذين أحسنوا الحسنى؛ فإن عاقبة الذين أساءوا السوأى كما قال تعالى:{ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} . ومما ذكره الله في جزاء المحسنين قوله: {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} ، وقوله:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} الآية، وقوله:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ، جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} الآية، وقوله:{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} ، وقوله: {وَالسَّابِقُونَ
الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} الآية، وقوله:{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} ، وقوله:{إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} ، إلى غير ذلك من الآيات.
طرق الإحسان:
والإحسان مطلوب في العبادات والمعاملات فأي عبادة افترضها الله على العبد فإن عليه أن يأتي بها على الوجه الذي رضيه سبحانه من إخلاصها له وموافقتها لشريعة نبيه صلى الله عليه وسلم، وكما أن الإنسان يحب لنفسه أن يعامله غيره معاملة حسنة، فإن عليه أن يحسن إلى غيره، ويعامله بمثل ما يحب أن يعامل به هو، ذلك بسلوك طرق الإحسان التي نتعرض لبعضها فيما يلي على سبيل الاختصار:
1-
الإحسان بالنفع البدني:
وذلك بأن يجود ببذل ما يستطيعه من القوة البدنية في تحصيل المصالح ودفع المفاسد، فيمنع الظالم من الظلم، ويميط الأذى عن الطريق مثلا، وهذه الطريق هي التي عناها صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث المتفق عليه:"كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس، تصلح بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته، فتحمله عليها صدقة، أو ترفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة".
2-
الإحسان بالمال:
ومن وسّع الله عليه الرزق، وآتاه المال؛ فإنّ عليه أن يشكر الله على ذلك بصرفه في الطرق التي شرعها، فيقضي الحاجة، ويواسي المنكوب، ويفك الأسير، ويقري الضيف، ويطعم الجائع تحقيقا لقوله سبحانه:{وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} .
3-
الإحسان بالجاه:
وإذا لم يتمكّن المؤمن من قضاء حاجة أخيه وإيصال النفع إليه، فعليه أن يكون عوناً له في سبيل تحصيلها، وذلك بالسعي معه لدى من يستطيع ذلك، إقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وامتثالا لأمره، فقد شفع صلى الله عليه وسلم لمغيث لدى زوجته بريرة رضي الله عنها، وأمر أصحابه بالشفاعة فقال:"اشفعوا تأجروا" متفق عليه.
4-
الإحسان بالعلم:
وهذه الطريق مع التي تليها أعظم الطرق وأتمها نفعا؛ لأن هذا الإحسان يؤدي إلى ما فيه سعادة الدنيا والآخرة، وبه يعبد الله على بصيرة، فمن يسر الله له أسباب تحصيل العلم وظفر بشيء منه كانت مسئوليته عظيمة، ولزمه القيام بما يجب للعلم من تعليم الجاهل وإرشاد الحيران، وإفتاء السائل، وغير ذلك من المنافع التي تتعدى إلى الغير.
5-
الإحسان بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
ولم تكن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير أمة أخرجت للناس إلا بسلوكها تلك الطريق، كما أنّ بني إسرائيل لم يلعن من لعن منهم على لسان أنبيائهم إلا لتخليهم عن ذلك الواجب من عدم اكتراثهم بارتكاب المنكرات، قال الله تعالى في حق هذه الأمة:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} ، وقال في حق بني إسرائيل:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} ، ثم بيّن سبب اللعن بقوله:{ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} ولا يحصل المطلوب ويتم النفع إلا إذا كان الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر مؤتمرا بما يأمر به، ومنتهيا عما ينهى عنه، وإلا كان أمره ونهيه وبالاً عليه لقول الله تعالى:{كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} ، والإحسان إلى الناس بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر لا بد أن يكون عن علم؛ لأن الجاهل قد يأمر بما هو منكر، وقد ينهى عما هو معروف، ولا بد أن يجمع إلى العلم الحكمة، ويصبر على ما أصابه، ومن الأدلة على هذه الأمور الثلاثة قوله تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} ، وقوله:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} ، وقوله:{وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} . وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم إنكار المنكر على ثلاث مراتب إن لم تحصل المرتبتان الأوليتان فلا أقل من الثالثة التي هي أضعف الإيمان، كما روى ذلك مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليُغيِّرهُ بيده، فإن لم يستطع
فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".
المدلّسون
للشيخ حماد الأنصاري المدرس بالجامعة
الحلقة الثانية:
الباء
(ع) بشير بن زاذان: روى عن رشدين بن سعد وغيره، وروى عنه قاسم بن عبد الله السراج، ضعفه الدارقطني وغيره، ووصفه بن الجوزي بالتدليس عن الضعفاء، من الطبقة الخامسة، لم أجد له وفاة.
(ب) بشير بن المهاجر الغنوي: من رجال مسلم، كوفي يروي عن الحسن وطبقته، وثقه بن معين وغيره، وقال بن حبان في ثقاته:"روى عن أنس"، ولم يره دلس عنه، من الطبقة الثانية من طبقة المدلسين.
(ع، ب،س) بقية بن الوليد الحمصي: المحدث المشهور والمكثر، له في مسلم حديث واحد، وكان كثير التدليس عن الضعفاء والمجهولين، وتعافى تدليس التسوية. وقال أبو مسهر: كُن من بقية على تقية؛ فإن أحاديثه غير نقية"، توفي سنة 197هـ من الرابعة.
(ب) بكير بن سليمان الكوفي: وهو تليد بن سليمان الآتي في التاء بعده، قال فيه أحمد بن صالح العجلي:"كان يدلس"، من الخامسة.
التاء
(ب، ع) تليد بن سليمان بالمثناة فوق اللام على وزن عظيم، وهو تليد بن سليمان المحاربي الكوفي: رافضي مشهور بالضعف، وهو الذي قبله، قال الحافظ:"وهم فيه العلائي وتبعه العراقي والبرهان الحلبي فذكروه ترجمتين ونسبوه للعجلي، إحداهما هكذا والأخرى بكير بالوحدة وهذا خلط وتصحيف فاحش؛ فإن بكير بن سليمان غير موجود في الكتب، بل هو تليد بفتح ثم كسر ثم تحتانية ساكنة: رافضي خبيث، قال صالح جزره: كانوا يسمونه بليدا بالموحدة مات سنة 90هـ من الطبقة الخامسة".
الثاء
(ب) ثور بن يزيد الكلاعي: أبو خالد الحمصي أحد الحفاظ الأثبات العلماء، عن خالد بن معدان وغيره، وعنه الثوري، ثقة ثبت، قال بن المبارك:"سألت سفيان عن الأخذ عن الثور؟ فقال: خذوا عنه واتقوا قرنيه"، قال أبو داود في سننه في باب مسح الخفين:"بلغني أنه لم يسمع ثور هذا الحديث من رجاء - يعني بن حيوة –"، وقد تقدم كلام الشافعي في مثل هذا، توفي سنة 153 هـ من الطبقة الأولى.
الجيم
(ب) جابر بن يزيد الجعفي: أحد كبار علماء الشيعة، عن الشعبي وغيره، قال أبو نعيم:"قال الثوري: "كل ما قال فيه جابر: سمعت أو حدثنا فاشدد يديك به، وما كان سوى ذلك فتوقه"، وقال النسائي: "متروك"، له في سنن أبي داود فرد حديث..من الطبقة الخامسة توفي سنة 128هـ.
(ع) جبير بن نفير الحضرمي: أبو عبد الرحمن الشامي، مخضرم أسلم في زمن أبو بكر الصديق، عن عبادة وعيينة، وثقه أبو حاتم، وقال ابن عبد الهادي الإمام شمس الدين الحنبلي في طبقات الحفاظ:"لم يخرج له البخاري؛ لأنه ربما دلس عن قدماء الصحابة"، من الطبقة الثانية توفي سنة 752 هـ وقيل سنة 85هـ.
(ع) جرير بن حازم الأزدي: وصفه بالتدليس يحي الحماني في حديثه عن أبي حازم عن سهل بن سعد في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، من الطبقة الأولى مات سنة 170 هـ بعد أن اختلط، ولكنه لم يحدث في حال اختلاطه.
الحاء
(ع ب) حبيب بن أبي ثابت: من ثقات التابعين، يروي عن ابن عمر وابن عباس، تكلم فيه بن عون، وغاية ما قال فيه:"كان أعور"، وهذا وصف لا جرح، مشهور بكثرة التدليس، وصفه ابن خزيمة والدارقطني وغيرهما. ونقل أبو بكر بن عياش عن الأعمش عنه أنه كان يقول:"لو أن رجل حدثني عنك ما باليت أن أرويه عنك"يعني وأسقطته من الوسط، من الطبقة الثالثة من طبقات المدلسين، توفي سنة 119هـ، وقيل غير ذلك.
(ع ب) حجاج بن أرطاة الكوفي المشهور: أخرج له مسلم مقرونا بغيره، وصفه النسائي وابن معين بالتدليس عن الضعفاء، وممن أطلق عليه التدليس ابن المبارك ويحي القطان وأحمد، قال أبو حاتم:"إذا قال: حدثنا فهو صالح لا يرتاب في حفظه وصدقه وليس بالقوي"، من الرابعة توفي سنة 147هـ.
(ع) الحسن بن علي بن محمد: أبو علي بن المذهب بضم الميم وكسر الهاء التميمي البغدادي الواعظ رواية المسند عن القطيعي، قال الخطيب: روى عن القطيعي حديث لم يسمعه منه، وقال الذهبي:"لعله استجاز روايته بالإجازة والوجادة".
قال الخطيب: "وحدثني عن أبي عمرو بن مهدي بحديث فقلت:لم يكن هذا عند بن المهدي فضرب عليه". قال الخطيب: وكان سماعه صحيحا في المسند إلا في أجزاء منه ألحق اسمه فيها"، وتعقبه ابن نقطة بأنه لم يحدث بمسندي فضالة بن عبيد وعوف بن مالك، وبقطعة من مسند جابر، فلو كان يلحق اسمه لألحقه في الجميع، ولعل ما ذكر الخطيب أنه ألحقه كان يعرف أنه سمعه أو رواه بالإجازة. من الطبقة الثانية توفي سنة 444 هـ.
(ع ب) الحسن بن أبي الحسن البصري: الإمام المشهور، من سادات التابعين، رأى عثمان وسمع خطبته، ورأى عليا ولم يثبت سماعه منه، كان مكثر من الحديث، ويرسل كثيرا عن كل أحد، وصفه بتدليس الإسناد النسائي وغيره، قال بن معين وغيره:"لم يسمع الحسن من سمرة غير حديث العقيقة"وقال البخاري: "قد سمع منه أحاديث كثيرة"، وصح سماعه من سمرة فيما ذكره أبو عيسى الترمذي عن الإمام البخاري. من الثانية 110هـ.
(ع ب) الحسن بن ذكوان: مختلف في الاحتجاج به، وله في صحيح البخاري حديث واحد له شواهد، ذكره محمد بن نصر المروزي في حديث عن حبيب بن أبي ثابت عن عاصم بن حمزة عن علي "نهى عن ثمن الميتة"الحديث، ولهذا قال بن معين في كل ما رواه الحسن بن ذكوان عن حبيب بن أبي ثابت أن بينه وبين حبيب رجل ليس بثقة. من الطبقة الثالثة لم أجد له وفاة.
(ع) الحسن بن عمارة الكوفي الفقيه المشهور أبو محمد: ضعفه الجمهور، وقال ابن حبان:"كان بليته التدليس"، ورماه ابن المديني بالوضع. من الخامسة سنة 153 هـ.
(ع ب) الحسن بن مسعود بن الحسن أبو علي بن الوزير الدمشقي، محدث مكثر، مذكور بالحفظ، قال بن عساكر:"كان يدلس عن شيوخه ما لم يسمعه منهم". من الثانية مات سنة 543 هـ.
(ع) حسان بن يزيد الجعفي: ضعفه الجمهور، ووصفه الثوري والعجلي وابن سعد بالتدليس. من الخامسة، لم أجد له وفاة.
(ب) الحسين بن عطاء بن يسار: من أهل المدينة، يروي عن زيد بن أسلم، روى عنه عبد الحميد بن جعفر، "يخطئ ويدلس"، قاله ابن حبان في ثقاته. من الخامسة.
(ع ب) الحسين بن واقد المروزي: أحد الثقات من أتباع التابعين، وصفه الدارقطني وأبو يعلى الخليلي بالتدليس، من الأولى، توفي سنة 159هـ.
(ع ب) حفص بن غياث الكوفي القاضي: أحد الثقات من أتباع التابعين، وصفه أحمد بن حنبل والدارقطني بالتدليس. من الطبقة الأولى، توفي سنة 194هـ على الأصح.
(ع ب) الحكيم بن عتبة - بمثناة ثم موحدة مصغّر-: تابعي صغير من فقهاء الكوفة مشهور، وصفه النسائي بالتدليس، وحكاه عن السلمي عن الدارقطني. من الثانية، "مات سنة 115هـ"قاله أبو نعيم.
(ع ب) حميد الطويل صاحب أنس: مشهور، كثير التدليس عنه، حتى قيل:"إن معظم حديثه عنه بواسطة ثابت وقتادة"، وصفه بالتدليس النسائي وغيره، وقد وقع تصريحه عن أنس بالسماع وبالتحديث في أحاديث كثيرة في البخاري وغيره. من الثالثة توفي سنة 142هـ.
(ع ب) حميد بن الربيع بن مالك بن سحيم: أبو الحسن اللخمي الخزاز، في ترجمته في ميزانه عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة "أنه يدلس"، وهو من طبقة عثمان، قال محمد بن عثمان قال أبي:"إني لأعلم الناس بحميد بن الربيع"، كان ثقة ولكنه يدلس، وقال الخليلي:"طعنوا عليه في أحاديث تعرف بالقدماء فرواها عن هشيم"، قال الحافظ:"وهذا هو التدليس". من الطبقة الرابعة، لم أجد له وفاة.
(ع) حماد بن أسامة أبو أسامة الكوفي: من الحفاظ، من أتباع التابعين، مشهور بكنيته، متفق على الاحتجاج به، وصفه بالتدليس القبطي قال:"كان كثير التدليس ثم رجع عنه"، وقال بن سعد:"كان كثير الحديث، ويدلس ويبين تدليسه"وقد قال أحمد: "كان صحيح الكتاب ضابط لحديثه"، وقال أيضا:"كان ثبتا ما كان أثبته لا يكاد يخطئ". من الثانية، توفي سنة 201هـ.
(ع) حماد بن أبي سليمان: الكوفي، الفقيه المشهور، ذكر الشافعي أن شعبة بحديث عن حماد عن إبراهيم، قال: فقلت لحماد: سمعته من إبراهيم قال: لا،أخبرني به المغيرة بن مقسم عنه. من الثانية، توفي سنة 120هـ.
الخاء
(ع ب) خارجة بن مصعب الخراساني: ضعفه الجمهور، قال ابن معين:"كان يدلس عن الكذابين"، وفي الجرح والتعديل:"أنه يدلس عن غياث". من الخامسة، توفي سنة 168هـ.
(ع) خالد بن معدان الشامي الثقة المشهور، قال الذهبي:"كان يرسل ويدلس"، من الثانية، مات سنة 103هـ.
(ع) خالد بن مهران الحذاء وليس بالحذاء ولكنه كان يجلس عند الحذائين..أحد الأثبات المشهورين، روى عن عراك بن مالك حديثا سمعه من خالد بن أبي الصلت عته في استقبال القبلة في البول، قال بن سعد:"ثقة لم يكن بالحذاء بل كان يجلس إليهم". من الأولى، توفي سنة 142هـ.
الدال والذال: فارغتان وكذلك الراء
الزاي
(ع) زيد بن أسلم العمري مولاهم، روى عن ابن عمر رضي الله عنه في رد السلام بالإشارة، قال عبيد:"قلت لإنسان سله: "أسمعه من ابن عمر؟ "، فسأله فقال: "أما أني فكلمني وكلمته"أخرجه البيهقي. وفي هذا الجواب إشعار بأنه لم يسمع هذا بخصوصه منه مع أنه مكثر عنه فيكون قد دلسه. من الأولى، مات سنة 136هـ.
- يتبع -
الإمام عبد العزيز
للشيخ محمد بهجت الأثري
هذه قصيدة رائعة كان قد نظمها فضيلة الشيخ محمد بهجت الأثري عند وفاة الملك عبد العزيز رحمه الله. وفضيلته من كبار علماء العراق وأدبائها، وهو عضو في رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، وعضو في المجلس الاستشاري للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
وبأي لفظ تنطق الشعراء؟
أنّى تفي برثائك البلغاء؟
وخرست لما فاهت الأنباء
كبُر النعي عليّ حتى رابني
ضاقت بوصف فعالها الفصحاء؟
منعاك، أم منْعى البطولات التي
هي في مناحة رزئك البلغاء!
إنّ الملاحم والعظائم والتقى
وتفجري بالسحر يا (بطحاء)
يا (نجد) هاتي الرائعات من الرؤى
وتناقلت أنباءه الخضراء
وصفا لنا ما دار فوق ثراكما
حييت بحسن بلائها الصحراء
من واقعات منهضات (يعربا)
طلق الأعنة طامح أبّاء
أجرى سوابقها إلى غاياتها
في الناس ألقاب ولا أسماء
(عبد العزيز) .. ولن تزيد جلاله
ومضائه ، والهادم البنّاء
العبقري الفذ في عزماته
ما هولته بسحرها النبغاء
هذا الذي لقفت نهاه بسحرها
فزهت (تهامة) واشمخرّ (حراء)
فسل (الجزيرة) كيف هزّ رمامها
وحياتها ببياضها سوداء
أفنى شبيبته لرد شبابها
نسخت سواد العيش فهي ذُكاء
حتى أفاء على بنيها أنعما
والعود يزهر ، والظلام يضاء
فإذا الحياة تجيش في جنباتها
(عاد) وردت (تغلب) الغلباء
عادت إلى الأمم الطليقة حرة
ما للحياة مع الخمول وراء
صحب الفلاح الناهضين إلى العلى
نسَقاً، وكل درة عصماء
يا ابن العظام المالكين تتابعوا
المحسنين إذا البغاة أساؤوا
الحاملين إذا الغواة تمردوا
مات الرجاء، وأخلف الرؤساء
الناهضين (بيعرب) من بعد أن
والدين آفة روحه الأهواء
المنقذين الدين من بدع الهوى
وأذاقهم ثكل الحمى الغرماء
لما أدال القاسطون زمانهم
صغرت لدى عظماته العظماء
كنت العِصاميَ العظامي الذي
نفس على الدنيا بها إرباء
بعثت حفاظك للجدود وللحمى
وتلفتت لفعاله الأحياء
إن الذي هز الزمان بطولة
زمر بَمدرجة الهوى لعباء
يفع لبانته العلى، ولداتُه
زمر بمدرج
ومناه ملك دونه الجوزاء
لذاتهم عبث الصبا وفنونه
ذل أناخ بآله وشقاء
قد ذاق ثكل زواله وأمضّه
صدته من أحلامها الغلواء
لا النفي كفكف من سطاه ولا الصبا
مما يكابد من جوى ويساء
حرّان..حاربه الفراش مؤرّق
بكريمتيه، وساءه الإنضاء
كالصقر فوق المربأ العالي..رنا
تدني البعيد الهمّةُ القعساء
أين (الرياض) من (الكويت) ؟ وإنما
تطويه في لهواتها الصحراء!
لله سار في الدياجر سارب
عن عزمه حد له ومضاء
كالسيف سال من القِراب وما انثنى
حتى دهته الطعنة النجلاء
عجلاّ إلى (عجلان) .. لم يشعر به
والحر يثأر، والدماء بواء
بيديك يا (عبد العزيز) أذيقها
بك أمة، وتسامت الأملاء
يا طعنة طاحت بفرد، قد علت
وعلت لمجدك راية شماء
حتى جرى الفتح المبين إلى المدى
يمن النقيبة همة ودهاء
والفتح بشرّ بالفتوح، وأيدت
ومعيد سيرة ما بنى الآباء
يا باعث التاريخ من أجداثه
منها بما تتماثل السيماء
ذهبت عصور المعجزات، فجئتنا
تتألق الدنيا به وسناء
لك من بناء الدولة الكبرى سنا
ئط ملكها، والفضل والإسناء
الدين أُسُّ بنائها، والعقل حا
منها، وما يتعجب البسلاء
خمسون قد حفلت بما أعيا الورى
عجباً، وتزهى (يعرب العرباء)
تتخايل الأبناء من سيمائها
يحكي سناها عهدك الوضّاء
ذكرت عهود الراشدين، وإنما
أسطورة هرفت بها القدماء
لكأنّ ما يروي لنا من أمنه
فيه، وصاحبت الذئاب الشاء
فلقد تمتعت العيون من الكرى
وعلاه من قسمتها لألاء
ومشت عليه من الحياة بشاشة
شعّ الرواء به وشفّ الماء
كاللؤلؤ اللماح..كيف نظرته
ند، وأين لمثله النظراء؟
يا راحلاً.. خلت العصورُ، وما له
فإذا هم أرض وأنت سماء
أعطاك ربك فوق ما أعطى الورى
أعطى، وما قسم العباد سواء
أعطى، وزادك بسطة في كل ما
ذهبٌ كأن فيوضه الدأماء
وحباك ملكا سال في جنابته
لم يزهه ملك ولا نعماء
وكأنك (الفاروق) في أطماره
تذهب على الدنيا بك الخيلاء
متواضع لله، لم تبطر، ولم
وعشِقتَ ما يتعشق الصلحاء
عشق الملوك الأبهات وعفتها
وتضاءلت في عينها الأشياء
وإذا صفت نفس العظيم تكرّمت
ما طاله من قلبك الحكماء
وسموت بالرأي الأصيل إلى مدى
عقل يفيدك كسبه العلماء
إن الأصالة في العقول أجل من
يُحكى، وموهوب له الآراء
شتان بين مقلد يروي الذي
حملته فوق مهادها الغبراء
أكبرت في بريدك أكرم ماجد
لهواك بين جوانحي إحفاء
وحببت فيك العبقرية، فاغتذى
ما إن لها أبد الأبيد شفاء
أبقى مماتك في حشاي جراحة
والدين والأخلاق والحنفاء
فإذا بكيت فالعلى تبكي معي
بكم عن الملك العظيم عزاء
أبني السعود الأكرمين بني العلى
حقاً على ميراثه الأمناء
فيكم مشابهة، وأنتم بعده
زاكٍ، وتحت بنودكم وضاء
شرف (العروبة) في ظلال سيوفكم
بماذا نسمي الحاكم العبيدي؟
رمضان أبو العز
في ذكرى أعظم ليلة أهلت على الوجود، ليلة القدر العظمى في ليلة السابع والعشرين من رمضان الماضي، فتحت المذياع لأرى ما شأن المسلمين، وكيف يواجهون الأحداث، وبوجه أخص بعد النكبة النكباء التي ألمت بهم، فسمعت احتفالا أقيم في مسجد من أكبر مساجد الشرق الأوسط فماذا سمعت؟
وفد على المسجد الآلاف تتلوها الآلاف يهيأ إليك من احتكاك أقدامهم وانتشار همسات أصواتهم أن العدد قارب المليون، ولا بد أنّ الأضواء كانت لألأة أخاذة، وبعد قليل حضر جوهر الحفلة ولوائها، وهو مقرئ شهير فاستهل التلاوة بقوله تعالى:{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} ، برزانة وتؤدة، فلم يكن هناك إنصات ولا استماع، ثم عدَّل المقرئ طريقته، وابتدأ التنغيم والتقطيع على مقاطع الغناء، فعلت أصوات الاستحسان الصاخبة من كل جانب (الله، الله يا سي الشيخ) ثم إذا صوت عال يصيح: (صلي على النبي) مادّاً في الياء، علامة على الطرب، فاستجاب المقرئ، فكان يعيد الآيات التي نالت الاستحسان أربع مرات أو تزيد، علمت أن القوم إنما جاءوا ليستمعوا إلى حفلة طرب وغناء، والذي أكد هذا المعنى أنّ المقرئ حين وصل إلى قوله تعالى:{وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا} وقف المقرئ على {يَا وَيْلَنَا} ، فإذا الآلاف المؤلفة تصرخ دفعة واحدة الله، الله أعد! .. وهكذا فعلوا بعد آيات العذاب..
أغلقت المذياع، وقلت لنفسي: يا حسرة على المسلمين، إن هذه الآيات التي تفتت الأكباد وتدر الدمع منهمرا لم يبق لها من أثر لديهم إلا التطريب والتنغيم، تأملت قليلا فعلمت أن الذي سنّ هذه الحفلات في العالم الإسلامي ابتداء إنما هم الذين سموا أنفسهم (بالفاطميين) ، وما هم إلا العبيديون، وينسبون إلى خليفتهم الأول (عبيد الله بن ميمون القداح) .
ومن أعجب الظواهر التي برزت في عصرنا الحاضر محاولة التهوين من الجرائم الكبرى، وإن شئت فقل: محاولة العطف على الجريمة، فمن ذلك المطالبة المستمرة بإلغاء عقوبة القتل، حتى عن القتلة الذين أزهقوا عشرات الأنفس البريئة، ووصلت الدناءة عندهم إلى عدم اعتبار اللواط جريمة، والعياذ بالله.
وإن دلت هذه الظاهرة على شيء إنما تدل على سريان الانحراف، وفشو المرض في القلوب، وقديما قيل:"النقص يهوى النقص".
فمن هذا القبيل ما صدر عن الدولة العبيدية بوجه عام، وعن خليفتها السادس الحاكم بأمر الله، وبوجه أخص من هدم وتمرد على الله، لقد أصدر هذا الحاكم أوامره بتحويل الليل إلى نهار، والنهار إلى ليل، فأمر بقفل الحوانيت نهارا وفتحها ليلا، ومما روي في هذا الصدد أنه مر على صانع يعمل في حانوته نهارا، فلما سأله عن سبب مخالفته الأمر أجاب الصانع:"أنا لست في نوبة عمل الرسمية، وإنما كثرت أشغالي، فأنا في نوبة السهر، والسهر لا يكون إلا نهارا".
كما حرَّم على الناس أكل الزيت والعسل والملوخية، ومن ذلك أتت تسميتها (ملوكية) ، ثم قلبت الكاف خاء.
وقد ذهب كتّاب التاريخ في أمر الحاكم مذاهب شتى؛ فقال بعضهم: "إنّ ما صدر عنه مجرد شذوذ"، وقال الزميل علي أحمد باكثير:"إنها مجرد عقدة نفسية لا أكثر ولا أقل"، وهذه الأحكام ما صدرت في الحقيقة إلا عن جهل مطبق بواقع الرجل، وواقع أسرته.
وبالرغم من أن فريقا آخر نسبه إلى العته والجنون، إلا أن هذا الفريق ما زال بعيدا عن فهم السر الذي قامت عليه تصرفات الحاكم، وتصرفات أسرته.
وفريق ثالث من المؤرخين وقف موقف المدافع عنه، وإذا عرفت أنّ على رأس هذا الفريق الدكتور (فلييب حتى) النصراني حيث يقول عن الحاكم العبيدي:"لقد اتهموه مدونو الأخبار من خصومه بغرابة الأطوار"، إذا عرفت هذا بطل عجبك؛ فأمثال (فلييب حتى) يفرحون بكل عامل فيه هدم للإسلام، ولكن العجب أن يتابع (فلييب حتى) مؤرخ حديث لامع، وهو الدكتور أحمد شلبي حيث يقول - مدافعا عن الحاكم -:"وقد كتب تاريخ الحاكم إثر وفاته، وقد عادت السلطة إلى من اضطهدهم الحاكم، أولئك الذين كان يهمهم أن يبرزوه معتوها أو مجنونا ليصرفوا الناس عن البحث عن قتلته، أو الكشف عما في القضية من أسرار"، ولكن الدكتور شلبي إنما تابع في مقالته هذه الدكتور (حتى) جهلا منه بسوء مقصد الدكتور (حتى)، ولذلك قال الدكتور شلبي - في ختام كلمته –:"وقد فطن الدكتور (فلييب حتى) لموقف التاريخ من الحاكم".
ولكي نفهم هذا الحاكم العبيدي فهما أعمق يجب أن نرجع بعض الخطوات إلى الوراء.
تنسب الدولة العبيدية إلى مؤسسها (عبيد الله بن ميمون القداح) الذي ادعى الانتساب إلى إسماعيل بن جعفر الصادق من البيت الحسيني، ولقد استطاع عبيد الله أن يؤسس الدولة العبيدية في مكان ما من تونس، سماها (المهدية) في سنة 297هـ، وخلفه القائم ثم المنصور فالمعز - الذي انتقل إلى مصر 362هـ بعد أن أسس له قائده جوهر للصقلي القاهرة المعزية سنة 969م، ولذلك يحاولون إقامة العيد الألفي لتأسيس القاهرة - ثم العزيز ثم الحاكم هذا.
وفرقة الإسماعيلية هم من أعنف الفرق الهدامة في الإسلام، بل وفي العالم بأسره، فهم الذين حرفوا الدين، ونقضوا قواعده، ولما عجزوا عن تحريف القرآن لجأوا إلى تحريف المعنى، فيوسوس لهم الشيطان بفكرة غاية في الخبث واللؤم، تلك أنّ لكل نص ظاهرا وباطنا، فسرح خيالهم اللئيم في أوحال هذا الباطن، حتى ركزوا فيه كل الوثنيات، والخزعبلات، والإلحاديات، ما خطر منها بالبال، وما لم يخطر حتى نقضوا كل العبادات، والفرائض، مثال ذلك:
الحلال: هو الواجب إظهاره من عقائدهم..
الحرام: هو الواجب ستره وكتمانه.
وعلى هذا الأساس يحرّمون الحلال، ويحلون الحرام. والصلاة عندهم هي صلة الداعي، وموالاة الإمام. وأما الزكاة فليست إلا إيصال الحكمة إلى مستحق، وبناءا على هذا يبطلون الصلاة والزكاة، بل وجميع الفرائض، فالصيام عندهم ليس سوى الإمساك عن إفشاء سر الإمام، وأما الحج فليس إلا القصد إلى صحبة الأئمة والسادة.
والظلم عندهم وضع الإمام في غير آل محمد صلى الله عليه وسلم، والجبت عندهم هو أبو بكر الصديق، والطاغوت هو عمر رضي الله عنهما، وبرّأهما من وصفهم اللعين.
ودليلهم في إسقاط العبادات قوله تعالى في سورة الحجر: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} ، واليقين عندهم: هو المعرفة التامة بعلم التأويل والباطن، وعندهم تسقط العبادة ويسقط التكليف قبحهم الله.
ثم تطرقوا إلى ذي الجلال سبحانه فقالوا: إنّ الله - سبحانه وتعالى عما يصفون - إنما هو تأويل الكلمة، أما النبوة عندهم فليست سوى تنصيب المرشد، والدليل والباب، وهي وظائف احتكروها هم بزعمهم.
أما القيامة فليست عندهم سوى قيام الشرائع بظهور صاحب الزمان..الخ.
من ذلك يتضح مدى إيغالهم في التخطيط للهدم عن طريق هذا الباطن الخبيث
…
والنظرة العميقة لتاريخ العبيديين تدلنا بوضوح على أنّ نِحلَتَهُم إنما قامت على الهدم والإلحاد، ثم تأليه ملوكهم، من أول عبيد الله إلى آخرهم، غاية ماهنالك أنّ أوائلهم قد اضطروا إلى إخفاء غرضهم السيئ حقبة من الزمن، فأخرّوا إعلان الألوهية إلى أجل حتى لا ينكشف مستورهم، تماما كما يفعل الشيوعيون والإشتراكيون من تقسيم دعوتهم على مراحل ثلاث أو أكثر، حسب الظروف والمُلابَسات.
وبالرغم من هذا التستر ومن إحكامهم كتمان الأمر كانت نواياهم تبدو سافرة، الفينة بعد الفينة، ففي عهد القاسم بن عبيد الله المهدي ثاني خلفائهم أصدر هذا القاسم سنة (326) تعليمات بسب الصحابة عامة، والشيخين العظيمين خاصة، فقامت ضده ثورة عارمة قادها أبو زيد مخلد بن كيراد الملقب بـ (صاحب الحمار) ، وقد ظلّت مستعرة عشر سنوات، وهلك القاسم وهي قائمة، وقد أخفى ابنه المنصور خبر وفاته حتى لا يتقاعس ضده، ولم يتمكن المنصور من إخمادها إلا بعد عناء كبير.
فعلَّمتهم هذه الثورة أنّ الأوان لم يئن لنشر ترّهاتهم حتى إذا جاء المعزّ وأنشأ القاهرة أوعز إلى شاعره ابن هانئ الأندلسي بالتنويه بتأليههم.
فمن أبياته المشهورة في هذا الصدد:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فافعل أنت الواحد القهار
وقد ظن بعض السذّج أنها مجرّد غلو من ابن هانئ، ولكن إذا علمت أنه دأب على هذا الدرب تيقّنت أنه طريق مرسوم، اسمع إليه حين يصف المعزّ بصفات ذي الجلال سبحانه:
ندعوه منتقما عزيزا قادرا
غفار مويقة الذنوب صفوحا
وفي قصيدة أخرى يقول في المعز:
فيا رازقا من كفه نشأ الحيا
وإلا فمن أسرارها نبع البحر
وعنده من هذا القبيل شواهد كثيرة جدا.
وقد ثبّت المعزّ أركان دولته بعد اتخاذ القاهرة عاصمة له، وجاء ابنه العزيز فضمّ إليها الشام والحجاز.
ثم جاء الحاكم بأمر الله ابن العزيز فوجد دولته ثابتة الأركان، عزيزة المنال، فما عليه من بأس لو كشف المستور، وأبرز المخبوء، فهو لم يحرم العمل نهارا والسكون ليلا إلا على اعتبار أنه مدير الكون، فمن حقه أن يجعل الليل نهارا والنهار ليلا، وعلى هذا الأساس حرّم ما حرّم من الطعام والملبس، فهو وحده الذي يحلّ ما يشاء ويحرم ما يشاء، قبّحه الله.
وليس أدلّ على هذا من أنه أمر الناس بالسجود له، ولنستمع الآن إلى أئمة المؤرخين من السلف الذين فطنوا إلى الفاطمية وحقيقة أمر الحاكم:
1-
قال فيه الحافظ ابن كثير في الجزء الثاني عشر من البداية والنهاية: "كان جباراً عنيدا وشيطانا مريدا، أخزاه الله"، وقال:"كان يروم أن يدّعي الألوهية كما ادّعاها فرعون، فأمر أهل مصر إذ قاموا عند ذكره خرُّوا له سجّداً، حتى إنه ليسجد بسجوده من في الأسواق"، ثم ذكر أن العامة بمصر كانوا يكرهونه، ويكتبون له الأوراق بالشتيمة البالغة له ولأسلافه.
2-
ثم انظر إلى ابن الجوزي وما قال فيه: "ثم ازداد ظلم الحاكم حتى عنَّ له أن يدَّعي الربوبية، فصار قوم من الجهال إذا رأوه يقولون: يا واحد.. يا أحد.. يا محيي.. يا مميت قبحهم الله جميعا".
3-
أما الإمام السيوطي فقد أسقطهم، وأهمل ذكرهم في كتابه (تاريخ الخلفاء)، وفي ذلك يقول في مقدمة الكتاب: "ولم أورد أحداً من خلفاء العبيدين؛ لأنّ إمامتهم غير صحيحة لأمور؛ منها:
أ - أنهم غير قرشيين، وإنما سمَّتهم بالفاطميين جهلة العوام، وإلاّ فجدهم مجوسي، فقد كان جدُّهم يسمى سعيداً، وكان أبوه يهودياً حدّاداً تشابه.
ب - ومنها أن أكثرهم زنادقة خارجون عن الإسلام ومنهم من أمر بالسجود له" إلى أن قال: "ومثل هؤلاء لا تصح لهم إمامة".
4-
وقال فيهم القاضي الباقلاني: "وكان المهدي عبيد الله باطنيا خبيثا حريصاً على إزالة ملة الإسلام، أعدم العلماء والفقهاء ليتمكّن من إغواء الخلق، وجاء أولاده على أسلوبه، أباحوا الخمر، والفروج، وأشاعوا الرفض".
5-
وقال الذهبي: "وكان القائم بن المهدي شرّاً من أبيه، زنديقا ملعوناً، وكان العبيديون على ملة الإسلام شرّاً من التتر".
وبعد، فواجبنا أن نسمّيَ الأسماء بمسمياتها، فلا نسمي السم ترياقا، ولا البرص بياضا، ولا الهدم اشتراكية. ولحكمة بالغة نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن نسمي العنب كرماً؛ لأنّ تلك التسمية الجميلة قد تنسحب إلى أم الخبائث (الخمر) ، المستخرجة من العنب، فنزينها ونحببها للناس.
ولنقل في مثل الحاكم العبيدي وأسرته ما قاله الأئمة الأعلام، كابن كثير، والذهبي، والسيوطي، والباقلاني، ولا نقتصر على مجرّد الشذوذ، أو العقيدة النفسية، أو الشطط، بل الصراحة في مثل هذه الأقوال حتم لازم.
رمضان أبو العز
سؤال
سأل رجل الأعمش فقال له: إني أخرج من المسجد فتعلق الحصاة منه في ثوبي فكيف أفعل؟ فقال الأعمش: "ألقها في الطريق"فقال: "ولكنّهم زعموا أنها تصيح حتى تردّ إلى المسجد"فقال: "دعها تصيح حتى ينشق حلقها"، قال الرجل: أولها حلق؟ فقال: "وكيف تصيح إذن".
حقيقة الجهاد وأطواره
للشيخ عبد القادر شيبة الحمد المدرس بالجامعة
الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعهد بنصرة أوليائه وفي ذلك يقول:} وإنّ جندنا لهم الغالبون {، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله القائل: "إن الجنة تحت ضلال السيوف"، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه الموصوفين في محكم الكتاب بأنهم} أشداءُ على الكفار رُحماءُ بينهم {، سلكنا الله وإياكم في حزبهم، وهدانا لسلوك دربهم وسبيلهم أما بعد:
فإن فريضة من فرائض الإسلام لم تتعرض لما تعرض له الجهاد من طعن أعداء الإسلام فيه، والتشويش عليه، وجعل ذلك سبيلاً للوصول إلى غمز الدين كله، حتى صاروا يوهمون الجاهلين بأن الإسلام لم ينتشر إلا بالسيف، وأنه لو كان حقاً من عند الله لاعتمد على الحجة والبرهان، لا على السيف والسنان، ولم يقف أعداء الإسلام عند ذلك فحسب، بل استطاعوا أن يوجدوا من أبناء المسلمين من يحمل راية الحرب على الجهاد، إما بإبطاله أصلاً، كما فعل الملحد الضال غلام أحمد القادياني والقاديانيون، فقد بذل هذا المارق كل جهده في محاربة فريضة الجهاد في الإسلام، فبعد أن أعلن عام (1902م) أنه نبي مرسل، وأصدر رسالة سماها (تحفة الندوة) قال فيها:"فكلما ذكرت مراراً أن هذا الكلام الذي أتلوه هو كلام الله بطريق القطع واليقين كالقرآن والتوراة، وأنا نبي ظلي وبروزي من أنبياء الله، وتجب على كل مسلم إطاعتي في الأمور الدينية، ويجب على كل مسلم أن يؤمن بأني المسيح الموعود، وكل من بلغته دعوتي فلم يحكمني، ولم يؤمن بأني المسيح الموعود، ولم يؤمن بأن الوحي الذي ينزل عليّ من الله، مسئولٌ ومحاسبٌ في السماء -وإن كان مسلماً-؛ لأنه قد رفض الأمر الذي وجب عليه"، ثم يقول:"وقد شهد لي القرآن وشهد لي الرسول وقد عين الأنبياء زمان بعثتي.."، ثم ادعى أنه نسخ الجهاد الذي شرع الإسلام، وأن الواجب على كل مسلم أن يسالم الإنجليز، وألف لذلك كتاباً سماه (ترياق القلوب) يقول في (ص: 15) منه: "لقد قضيت معظم عمري في تأييد الحكومة الإنجليزية ونصرتها، وقد ألفت في منع الجهاد ووجوب طاعة أولى الأمر الإنجليز من الكتب والإعلانات والنشرات ما لو جمع بعضها إلى بعض لملأ خمسين خزانة، وقد نشرت جميع هذه الكتب في البلاد العربية ومصر والشام وتركيا، وكان هدفي دائماً أن يصبح المسلمون مخلصين لهذه الحكومة، وتمحى من قلوبهم قصص المهدي السفاك، والمسيح السفاح، والأحكام التي تبعث فيهم عاطفة
الجهاد، وتفسد قلوب الحمقى".
ويقول في رسالة قدمها إلى نائب حاكم المقاطعة: "لقد ظللت منذ حداثة سني وقد ناهزت اليوم الستين أجاهد بلساني وقلمي لأصرف قلوب المسلمين إلى الإخلاص للحكومة الإنجليزية، والنصح لها، والعطف عليها، وألغي فكرة الجهاد التي يدين بها بعض جهالهم، والتي تمنعهم من الإخلاص لهذه الحكومة". وقد بذلت الحكومة الإنجليزية كل مستطاع لإنجاح هذه الدعوة، وأغدقت على دعاتها الأموال الطائلة والمناصب الرفيعة.
ولم يقف أعداء الإسلام في محاربة دعوة الجهاد إلى هذا الحد، بل صاروا يساعدون على نشر أفكار أخرى، منها أن الجهاد في الإسلام ليس من أجل الإسلام، وإنما هو لمجرد الدفاع عن النفس فقط، وقد لقيت هذه الفكرة نجاحاً في أوساط المثقفين من المسلمين بالثقافة الأجنبية حتى رسخت في قلوب عامة المفكرين تقريباً في هذا العصر الحاضر، فصاروا دعاة لها، ونسي هؤلاء أو تناسوا أن الدفاع أمر طبيعي لا ديني، فالحيوانات بل حتى الجمادات والنباتات قد خلقت في الكثير منها خاصية الدفاع ضد أعدائها كما هو معروف في علم النبات، وعلم الحيوان، وسنحاول هنا الإشارة إلى طبيعة الجهاد عند أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وهم الذين يحملون الراية ضد الجهاد في الإسلام، ويشيعون ويذيعون أن الإسلام لم ينتشر إلا بالسيف، ناسين أو متناسين أو جاهلين ما عندهم في التوراة والإنجيل، وناسين أو متناسين أو جاهلين كذلك أن جنوب شرق آسيا يعيش فيه الآن أكثر من مائة وخمسين مليون من المسلمين، منهم حوالي مائة مليون في أندونيسيالم يذهب إليهم جندي واحد من جيش المسلمين، بل دخلوا في دين الله أفواجاً من تلقاء أنفسهم لما ظهر لهم أنه الدين القيم، كما سنحاول كذلك الإشارة إلى أطوار الجهاد في الإسلام، إن شاء الله.
تعريف الجهاد:
الجهاد في لغة العرب معناه المشقة، يقال: جهدت أي بلغت المشقة.
أما تعريفه شرعاً فهو بذل الجهد في قتال الكفار، ويطلق أيضاً على مجاهدة النفس والشيطان والفساق قال الحافظ في الفتح: "فأما مجاهدة النفس فعلى تعلم أمور الدين ثم على العمل بها ثم على تعليمها، وأما مجاهدة الشيطان فعلى دفع ما يأتي به من الشبهات وما يزينه من الشهوات، وأما مجاهدة الكفار فتقع باليد والمال واللسان والقلب، وأما مجاهدة الفساق فباليد ثم اللسان ثم القلب، وأعلى أنواع الجهاد هو الجهاد بالنفس على حد قول الشاعر:
يجود بالنفس أن ظن البخيل به
والجود بالنفس أسمى غاية الجود
تاريخه:
والجهاد مشروع في الأصل في جميع الديانات السماوية، يشير إلى ذلك قوله تبارك وتعالى:{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} .
وكذلك قوله عز وجل في شأن موسى صلى الله عليه وسلم:} يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ، قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ، قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} .
وكقوله عز وجل:} فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ {.
طبيعة الجهاد في الأديان السابقة:
وكان الجهاد في الأديان السابقة يتسم بالعنف على العدو، فيوجب تحريق بلده وإبادته وقتل النساء والأطفال والشيوخ المسنين، ولا يبيح الأسرى إلا لأمد قصير، وإليكم نصوصاً من التوراة والإنجيل أو بتعبير آخر: من العهد القديم والعهد الجديد.
ففي سفر يشوع (الإصحاح السادس) بعد أن ذكر قصة محاصرة يشوع وبني إسرائيل لأريحا، وتواعدهم أن يهجموا على المدينة عند الهتاف وضرب الأبواق، جاء فيه:"20 فهتف الشعب وضربوا الأبواق، وكان حين سمع الشعب صوت البوق أن الشعب هتف هتافاً عظيماً فسقط السور في مكانه، وصعد الشعب إلى المدينة كل رجل مع وجهه، وأخذوا المدينة. 21 وحرموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة من طفل وشيخ حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف".
ثم يقول السفر:"24 وأحرقوا المدينة بالنار مع كل مابها: إنما الفضة والذهب وآنية النحاس والحديد جعلوها في خزانة بيت الرب يسوع".
وفي الإصحاح الثامن من يشوع في قصة حربهم لمملكة عاي بعد أريحا يقول:"1 فقال الرب ليشوع: لا تخف ولا ترتعب خذ معك جميع رجال الحرب وقم أصعد إلى عاي، انظر قد دفعت بيدك ملك عاي وشعبه ومدينته وأرضه 2 فتفعل بعاي وملكها كما فعلت بأريحا وملكها".
ثم يقول في الفقرة 8 "ويكون عند أخذكم المدينة تضرمون المدينة بالنار، كقول الرب تفعلون، انظروا قد أوصيتكم". ثم يقول: "21 ولما رأى يشوع وجميع إسرائيل أن الكمين قد أخذ المدينة وأن دخان المدينة قد صعد انثنوا وضربوا رجال عاي 22 وهؤلاء خرجوا من المدينة للقائهم فكانوا في وسط اسرائيل، هؤلاء من هنا وأولئك من هناك، وضربوهم حتى لم يبق منهم شارد ولا منفلت. 23واما ملك عاي فأمسكوه حيا وتقدموا به إلى يشوع 24 وكان لما انتهى إسرائيل من قتل جميع سكان عاي في الحقل في البرية حيث لحتوهم وسقطوا جميعا بحد السيف حتى فنوا أن جميع إسرائيل رجع إلى عاي وضربوها بحد السيف 25 فكان جميع الذين سقطوا في ذلك اليوم من رجال ونساء اثنى عشر ألفاً جميع أهل عاي". ثم يقول "28 وأحرق يشوع عاي وجعلها تلاًّ أبديا خرابا إلى هذا اليوم. 29وملك عاي علقه على الخشبة إلى وقت المساء، وعند غروب الشمس أمر يشوع فأنزلوا جثته عن الخشبة وطرحوها عند مدخل باب المدينة وأقاموا عليها رجمة حجارة عظيمة إلى هذا اليوم". هذه بعض نصوص العهد القديم.
أما العهد الجديد فبالرغم من أن النصارى يزعمون أنهم دعاة سلام وانهم في سلامهم مستمسكون بالإنجيل الذي يقول: "من ضربك على خدك الأيمن أًدِرْ له خدك الأيسر"، فبالرغم من هذه الدعوة التي لا يعرفون تطبيقها عندما يحتلون بعض البلاد أقول: وبالرغم من ذلك فقد جاء في إنجيل متى في الإصحاح العاشر منه:" 34 لا تظنوا أني جئت ألقي سلاما على الأرض، ما جئت لألقي سلاما بل سيفا. 35 فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه، والإبنة ضد أمها، والكنة ضد حماتها. 36 واعداء الإنسان أهل بيته. 37 من أحب أبا أو أما أكثر مني فلا يستحقني، ومن أحب إبنا أو إبنة أكثر مني فلا يستحقني".
وبهذه النصوص يتبين أن غيرنا من المنتسبين للأديان السماوية كانوا في باب السيف أغلظ منا سلوكا، وأشد مناشدة، وليس مثلهم- وهذه نصوصهم- أقول: ليس مثلهم هو الذي يليق به أن يتهم دين الإسلام، فإن عليهم ينطبق قول القائل:"رمتني بدائها وانسلت"، مع أن ما ذكرنا من نصوص كتبهم قد يؤيده القرآن في مثل قوله تعالى مشيرا إلى الأديان السماوية السابقة:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْض} .
أما الذين لا ينتسبون إلى دين سماوي كالشيوعيين وأشباههم فإنهم لا يتورعون عن قتال أوليائهم وأهل مذهبهم، فضلا عن أعدائهم إذا اشتموا منهم ريحا إنفصالية عنهم، كما فعل الروس وحلفاء (وارسو) في تشيكوسلوفاكيا.
الجهاد في الإسلام:
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وله أربعون سنة وستة أشهر وثمانية أيام كما قيل، فمكث بمكة يدعو إلى الله تبارك وتعالى ثلاث عشرة سنة، ويلقى من عنت قريش وأذاهم له ولأصحابه الشيء الكثير، وهم صابرون محتسبون، كلما اشتد بهم الاذى ونزل بهم الكرب من أعدائهم صبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمعوا أو تلوا نحو قوله تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} فيهون عليهم ما يلقون في جنب الله، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يوافي الموسم كل عام، ويتبع الحجاج في منازلهم، وياتي عكاظ وغيرها من أسواق العرب يدعوا إلى الله عز وجل، حتى وفق الله جماعة من الخزرج كانوا يسمعون من حلفائهم يهود يثرب أن نبيا يبعث في هذا الزمان فنتبعه ونقتلكم معه قتل عاد، فلما رأى هؤلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوا الناس إلى الله، وتأملوا أحواله، قال بعضهم لبعض:"تعلمون والله ياقوم أن هذا الذي توعدكم به اليهود فلا يسبقنكم إليه"، فاجتمعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلموا وكانوا ستة، ثم رجعوا إلى المدينة ودعوا فيها إلى الإسلام فانتشر الإسلام فيها بين الاوس والخزرج، ثم حج من العام الذي يليه اثنا عشر رجلا، منهماثنان من الاوس، والباقي من الخزرج، فاجتمعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه بيعة العقبة الأولى، ثم جاءه في العام الذي يليه أكثر من سبعين شخصا من المدينة، فاجتمعوا به عند العقبة كذلك، وبايعوه على ان يمنعوه مما يمنعون نسائهم وأبنائهم وكانوا سبعين رجلا وامرأتين. ولما علم أهل مكة باجتماع رسول الله صلى الله عليه وسلم باهل المدينة خافوا أن ينتقل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعزموا على قتله، واجتمعوا في دار الندوة يتشاورون في أمره على ما حكى الله تبارك وتعالى في ذلك حبث يقول: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} . أمره الله تبارك وتعالى بالهجرة إلى المدينة، ولما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وأيده الله بنصره، وألّف بين قلوبهم بعد العداوة ومنعته أنصار الله من الأسود والأحمر رَمَتْهُم العرب واليهود عن قوس واحدة، وشمروا لهم عن ساق العداوة والمحاربة. والله يامر رسوله والمؤمنين بالكف والصبر والعفو حتى قويت شوكة المؤمنين وأصبحوا كما قال قيس صرمة رضي الله عنه:
ثوى في قريش بضع عشر حجة
يذكر لو يلقى حبيب مواتيا
ويعرض في أهل المواسم نفسه
فلم ير من يؤوي ولم ير داعيا
فلما آتانا واستقر به النوى
وأصبح مسروراً بطيبة راضيا
وأصبح لا يخشى ظلامة ظالم
بعيد ولا يخشى من الناس باغيا
بذلنا له الأموال من جل مالنا
وأنفسنا عند الوغى والتآسيا
نعادي الذي عادى من الناس كلهم
جميعا وإن كان الحبيب المصافيا
ونعلم أن الله لا رب غيره
وأن كتاب الله أصبح هاديا
وكما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
قومي هم الذين آووا نبيهم
وصدقوه وأهل الأرض كفار
إلا خصائص أقوام هموا تبع
في الصالحين مع الأنصار أنصار
مستبشرين بقسم الله قولهموا
لما أتاهم كريم الأصل مختار
أهلا وسهلا ففي أمن وفي سعة
نعم النبي ونعم القسم والجار
فأنزلوه بدار لا يخاف بها
من كان جارهموا، دار هي الدار
وقاسموه بها الاموال إذ قدموا
مهاجرين وقسم الجاحد النار
أطوار الجهاد ومراحله:
حرّم الله على المسلمين القتال طيلة العهد المكي، ونزل النهي عنه في أكثر من سبعين آية في كتاب الله عز وجل بمكة، وكانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم ما بين مضروب ومشجوج فيقول لهم:"اصبروا فإني لم أؤمر بالقتال" حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقويت شوكة المسلمين، واشتد جناحهم أذن الله لهم في القتال ولم يفرضه لهم فرضا إذ يقول عز وجل:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} ، قال بن عباس رضي الله عنه ومجاهد وعروة بن الزبير وقتادة ومقاتل بن حيان:"هذه أول آية نزلت في الجهاد"، وقد علّل الله تبارك وتعالى هذا الإذن بأنهم ظُلِموا فلم يكن لهم ذنب يقاتلون عليه فيما بينهم وبين الناس إلا أنهم يعبدون الله عز وجل، وهذا هو الطور الثاني من أطوار الجهاد إذ كان الطور الأول هو تحريمه، وكان هذا الطور الثاني هو الإذن فيه دون الإلزام به.
الطور الثالث من أطوار الجهاد:
وكان الطور الثالث من أطوار الجهاد هو إيجابه لقتال مَن قاتل المسلمين دون من كفّ عنهم بقوله عز وجل: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} ونحوها من الآيات، وأمّا قوله تبارك وتعالى:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} ، فإنّ جماعة من أهل العلم جعلوها من أدلة هذا الطور من أطوار الجهاد، وهو أن يكون فرضاً لدفاع فقط فلا يقاتل إلا من قاتل فعلا واعتدى على المسلمين ولكن بعض أهل العلم يرى أنها ليست كذلك بل يفسر قوله تعالى:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} يعني قاتلوا من من شأنه قتالكم كالرجال الأقوياء المقاتلين أما النساء والصبيان والشيوخ المسنون ونحوهم فإنهم لا يقاتلونهم لأنهم ليسوا من أهل القتال ورغب الإسلام في هذا الطور في الجهاد حتى جعله ذروة سنان الإسلام. وفي هذا الطور ارتفعت راية الإسلام عالية في جزيرة العرب، وألقى الله الرعب في قلوب الكفار، ونصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرعب مسيرة شهر، وتحقق قول القائل:
دعا المصطفى بمكة دهراً لم يجب
وقد لان منه جانب وخطاب
فلمّا دعا والسيف صلت بكفه
له أسلموا واستسلموا وأنابوا
وساق الله تعالى ناسا إلى الجنة بالسلاسل، ونفع الله كثيرا من الخلق رغم أنوفهم على حد قوله تبارك وتعالى:{وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} فإنّ العقلاء ينفع فيهم البيان، وأما الجاهلون فدواؤهم السيف والسنان على حد قول الشاعر:
فما هو إلا الوحي أوحد مرهف
تزيل ظباه أخدعى كل مائل
فهذا دواء الداء من كل عاقل
وهذا دواء الداء من كل جاهل
الطور الرابع من أطوار الجهاد:
ثم فرض الله الجهاد لقتال المشركين كافة مع البدء بالأقربين دارا وفي ذلك يقول: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، وقال عز وجل:{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} ، وقال:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ} . وقال عزّ من قائل: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ، وقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنِّي رسول الله، فإن قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلا بحقها"، وقال صلى الله عليه وسلم:"الجهاد ماض إلى يوم القيامة"، وأنذر الله تبارك وتعالى من ترك الجهاد بأنه يلقي نفسه إلى التهلكة حيث قال:{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} ، فقد روى أبو داود والترمذي والنسائي وعبد بن حميد في تفسيره وابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه والحافظ أبو يعلى في مسنده وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه كلهم من حديث يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال: "حمل رجلٌ من المهاجرين
بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه، ومعنا أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه فقال ناس:"ألقى بيده إلى التهلكة"، فقال أبو أيوب:"نحن أعلم بهذه الآية، إنّما نزلت فينا: صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهدنا معه المشاهد، ونصرناه فلما فشا الإسلام وظهر اجتمعنا معشر الأنصار تحبباً فقلنا: قد أكرمنا بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصره حتى فشا الإسلام، وكثر أهله، وكنّا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهما فنزل فينا {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ، فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل والمال، وترك الجهاد".
وكانت فريضة الله في الجهاد ألاّ يفر مؤمن من عشرة كفار حيث بقول الله عزّوجل: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} ، ثم خفّف الله عن المسلمين، وفرض عليهم ألَاّ يفرَّ مؤمن من كافِرَيْنِ، وفي ذلك يقول:{الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} . على أنَّ الإسلام جعل الفرار يوم الزحف من الموبقات فقد روى البجاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات؟ قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولِّي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات". وقد استثنى الله عزّوجل أهل الكتاب؛ فمنع قتالهم إن أدّوا الجزية عن يد وهم صاغرون، كما أمر رسور الله صلى الله عليه وسلم بقبول الجزية من مجوس هجر مع بقائهم على دينهم كذلك. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن قتال النساء والصبيان، حتى قال مالك والأوزاعي - رحمهما الله -:"لا يجوز قتل النساء والصبيان بحال حتى لو تترس أهل الحرب بهم". غير أن أكثر أهل العلم يقولون:"إن قاتل واحد من هؤلاء أو تترس به الكفار جاز قتله". وأكثر أهل العلم يفسّرون قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يفسرون قوله: {لا إِكْرَاهَ
فِي الدِّينِ} : يعني اليهود والتصارى إن أدَّوْا الجزية، وقالوا: إنّ سبب نزولها أن جماعة من الأنصار كان لهم أبناء من يهوديات فأرادوا إكراههم على الدخول في دين الإسلام فأنزل الله هذه الآية. قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: "وقد ذهب طائفة من أهل العلم أن هذه الآية محمولة على أهل الكتاب"، ثم قال:"وقال آخرون: بل هي منسوخة بآية القتال، وعلى هذا فالآية إما محكمة محمولة على أهل الكتاب أو هي عامة لكنها منسوخة بآية السيف".
وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى أنّ السيف من دين النبيين جميعا حيث يقول: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} ، كما أشار إلى أن تهيئة المسلمين للقتال وإعدادهم للجهاد من أعظم ما يمكّن لهم في الأرض حيث يقول:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} . وقد أجمل الله تبارك وتعالى ثمرة الجهاد في قوله عزوجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ؛ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} .
جماعة ربانية
"إنّ من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى، قالوا: "يا رسول الله تخبرنا من هم؟ قال: هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام ولا أموال يتعاطَوْنها، فوالله إنّ وجوههم لنور، وإنّهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس". أبوداود.
دروس من معركة أحد
بقلم الأستاذ محمد المجذوب
المدرس في الجامعة الإسلامية
كاد غبار المعركة يحجب شمس الضحى، فهي ترسل أشعتها مصبوغة بلون هذا التراب المتطاير من حوافر الخيول وأخفاف الإبل وأقدام المتحاربين من المشاة، ولو أتيح لك أن تطل من أعلى أحد على ذلك الميدان الرهيب لرأيت ما يملؤك رعباً، ثلاثة آلاف من شباب قريش لا تكاد الدنيا كلها تتسع لغرورهم واعتدادهم واندفاعهم، يحدوهم عطش الثأر لكرامة قد حطمتها في بدر سيوف الفئة المؤمنة من المستضعفين الذين يقودهم محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أقسموا بهبل وباللات والعزى ليغسلُنّ عار الهزيمة بدماء هؤلاء المسلمين الذين غرهم دينهم، ثم لا يعودون إلى مكة إلا بعد أن يردوا اعتبارها، فيعرف كل قاص ودان من عرب الجزيرة أن جبروت مكة ما زال في عنفوانه، إذا هو نطامن بعض لحظات حتى يخدع به الطامعون، فما يلبث أن يرجع أشد ما يكون قوة وكبرياء.
ثلاثة آلاف فارس لا تكاد تجد فيهم راجلاً، إلا هؤلاء النسوة الفرشيات، تقودهم هند زوج أبي سفيان خلال صفوف المقاتلين من الوثنيين يشددن من أعصابهم، ويوقدن حميتهم، ليشفوا صدورهن الموتورة بما ثكلت من أبناء وأخوة وآباء في معركة بدر، فكأنّ أناشيدهم ألغام تتفجر في الصدور، فتحيلها براكين من اللظى لا تخمد حتى تلتهم كل شيء!.
وهناك على الجانب المقابل من سفح أحد ترتفع راية الرسول، وقد انتشر حولها المئات السبع من جنوده، في نظام لم تسيء إليه تحركات المعركة، على الرغم من النشاط العجيب الذي يغتلي في جبهة المسلمين.
وكان ظاهراً مدى التفاوت العددي بين الكثرة الكافرة والقلة المؤمنة، ولكن الظاهر أيضاً فرق ما بين الدوافع العاملة هنا وهناك، فما كان المسلمون ليقاتلوا بالسيوف التي في أيديهم وحدها، وإنما كانوا يقاتلون بقوة العقيدة التي في صدورهم، فهم - على قلة عددهم - أشبه بالذرة لا يكاد يحس لها وجود، ولكنها تنطوي من الطاقة على ما يسير الجبال، وينسف المدن، ويصنع المعجزات!.
ولقد خرج الرسول من المدينة بألف محارب، حتى إذا كان في الطريق إلى أحد بصر بكتيبة من اليهود قد أقبلت للانضمام إلى جيشه نصرة لحليفها ابن أبيّ رأس المنافقين في المدينة، ولكن الرسول لم يرض نصرتها وقال:"لا يستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك ما لم يسلموا "..، وعادت كتيبة اليهود، ثم انسحب خلفها منافقوا المدينة بقيادة شيخهم ابن أبيّ هذا، محتجاً بالغضب لكرامة حلفائه!.. وما كان انسحابه في الواقع إلا إضعافاً لعزيمة المسلمين، وإيهاناً لقوتهم..، وهكذا تقلص عدد المحاربين مع الرسول إلى سبعمائة مقاتل..، وكان ذلك باعث تخوف على مصير المسلمين، أن يلقوا بقوتهم القليلة هذه تلك الكثرة الكاثرة من صناديد الوثنية وجباريها!،.. ولكن المؤمنين مع رسول الله ما كانوا ليرتابوا في حكمة قائدهم المعصوم، فهم موقنون أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان ليرفض نصرة اليهود، ويخسر مساعدة المنافقين معهم، إلا إيثاراً لتطهير صفوفهم من عناصر الهزيمة والخيانة..، إنه خائض بالمؤمنين معركة الإسلام ضد الوثنية، وما وراء الوثنية من الظلم والطغيان، والعدوان، وما في الوثنية من حقد على الإنسانية وكفر بالحرية، وتأليب لقوى الشر، فهي إذن حرب الفكرة والعقيدة، فما ينبغي أن يكون في جنودها من لا يفنى وجوده اختياراً في هذه الفكرة وتلك العقيدة..
وهاهي ذي حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم تتجلى أبرز من الشمس منذ مطلع المعركة، إنّ هؤلاء المئات السبع ليقتحمون صفوف الآلاف الثلاثة بمثل عصف الإعصار المندفع يمر بالقصب فيقتلعه ويحطمه..، وكما تتماسك أجزاء الإعصار فتكون قوة الهباءة منه هي قوة الإعصار كله..، هكذا الفرد المؤمن من هذه القلة يضرب الضربة فيحس أنه يضربها بسبعمائة سيف، وسبعمائة ذراع، وسبعمائة قلب..، وبهذا وذاك تستحيل الكثرة قلة تافهة، وتتحول القلة كثرة لا نهاية لقوتها..
..وسرعان ما سقط لواء المشركين فوق أشلاء عشرة من حماته بني عبد الدار..، فإذا جنود الكفر ينكشفون عن مواقعهم تحت ضغط الدفقة المؤمنة، وقد ملؤوا الساحة بجثث العشرات من زهرة شبابهم..، ولم يفتهم أن ينظروا - وهم في غمرة الهزيمة - إلى إلهِهِم الموقر يهوي على أم رأسه، وهو الذي حملوه من مكة على أضخم بعير، ليكون لهم عوناً ومسعفاً فإذا هم يغادرونه أحوج ما يكون إلى المعين المسعف..!
وضع الرسول-صلى الله عليه وسلم بنفسه خطة المعركة، وأول ما فعله أن وزّع خمسين من مهرة الرماة وراء جيشه في أعلى الشعب من أحد، وألَحّ عليهم بملازمة أماكنهم قائلاً:"احموا ظهورنا.. إن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا.. وإن رأيتمونا نغنم فلا تشاركوننا.."
ثم رتب جيشه في صف منتظم، وتخيّر للمقدمة أفراداً من الذين يوزنون بالمئات، وأمر ألاّ يباشر قتال إلا بإذنه، ولما نشب العراك انطلق المسلمون يعملون في نظام عجيب من توجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأنهم حجر الرحى تدور حول قطبها، فهي تميل يمنة ويسرة، ولكنها لا تنفض عن دائرة القطب، ولعل مرد التماسك في هذا النظام ثقة الجيش جميعاً بحكمة القائد ووجوب الطاعة له، فليس هناك جندي واحد إلا وفي صدره يقين مطلق بأن مصير المعركة يتوقف على مدى انسجام الجنود في إرادة الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، ومن هنا كانت قلوبهم متعلقة بإشارته، يديرها في الاتجاه الذي توحي به الحكمة..
وهكذا سارت المعركة في اتجاهها الطبيعي..، وفي غمرة الاندحار الهائل شعر قادة الوثنية بعجز آلهتهم عن الصمود في وجه هذا الدم الجديد الذي دفعه الإسلام في شرايين جنوده..، وأدركوا أنهم أمام القوة التي لا تقهر، ولا تثبت لها حمية الجاهلية، مهما تبلغ هذه الحمية من الاستخفاف بالموت..، إنها القوة التي مزّقت صلات العصبيات والمنافع الأرضية لتقيم على أنقاضها وشائج أخرى من قرابة العقيدة..، وبذلك أزالت سلطان الأسر وحواجز الأنساب، لتجعل من الأفراد المتنابذين المتباعدين أسرة واحدة في أخوة جديدة دونها كل روابط الأرض..
أجل لقد كان مستحيلاً لقوة من البشر أن تتماسك في وجه هذا السيل الجارف من القوى التي يحارب بها محمد صلى الله عليه وسلم..، اللهم إلا أن تنقلب هذه القوى على نفسها فيحطم بعضها بعضاً..، وهيهات..، ما دام زمام هذه النفوس الجديدة في يد هذا القائد الجديد..
ولكن لا..، لقد حدث ما لم يكن في الحسبان، وهاهي ذي قوة محمد صلى الله عليه وسلم يتسرب إليها الخلل فجأة، كما يداهم محرك القلعة الطائرة، فإذا هي تهوي عن عرشها السماوي إلى القرار السحيق!..
إن النفوس التي كانت إلى ساعة خلت تقاتل بأمر ربها، لإعلاء كلمته والدفاع عن رسالته، قد جذبت الدنيا أعنتها، فإذا هي تنصرف عن مطاردة العدو لتشغل بجمع الغنائم، فهيأت له بذلك فرصة الاستجمام، ثم أناحت له مجال العمل لتجميع فلوله..
ورأى خالد بن الوليد، وهو قائد ميمنة المشركين، ما عرض لجنود محمد صلى الله عليه وسلم من التشاغل، وكان يرصد الأمر عن كثب، يترقب ظهور مناسبة تمكنه من نجدة قومه، فإذا هو يدور من رواء الشعب ليفاجئ رماة المسلمين، وقد اختلفوا فيما بينهم، واندفع أكثرهم إلى معسكر قريش يشركون إخوانهم في الغنائم، فلم يبق منهم في مركز الدفاع إلا دون العشرة من المؤمنين، أبوا أن يفارقوا المكان الذي أمرهم رسول الله بالتزامه مهما تكن النتائج!..
ويشد خالد على بقية الرماة فيجليهم.. وينصب من هناك على مؤخرة المسلمين فيبغتهم بما لم يحتسبوا، ويبلغ صياح كتيبة خالد مسامع قريش المهزومة، فإذا هي تريد لتعمل في المسلمين تقتيلاً وتجريحاً!.
وحدث ما لا بد من حدوثه في مثل هذا الخلل المباغت، وإذا المسلمون تزلزل بهم الأرض وتضطرب السبل فلا يدرون أين يذهبون!..
إنهم الساعة يقاتلون بدافع من حب الحياة وحدها، فلا يدرون من يقاتلون وكيف يقاتلون.. فيقتل بعضهم بعضاً وهم لا يعلمون..
وجاءت الطامة الكبرى إذ علت صيحة في الناس تقول: "إن محمداً قد قتل.."، فتنهار أعصاب المسلمين وتمضي أعداد منهم تتخبط لا تدري أين تذهب بها مطاياها أو أقدامها.. وتتدافع قريش إلى ناحية الرسول صلى الله عليه وسلم يريد كل مشرك أن يكون له نصيب في قتله أو التمثيل بجثته!..، ويصيح رسول الله صلى الله عليه وسلم بفلول المسلمين، وهو صامد في قلب الميدان كجبل أحد نفسه:"إليّ عباد الله.. إليّ عباد الله"، وكان بحسب المؤمنين أن يصل صوت محمد صلى الله عليه وسلم إلى أسماعهم حتى يثوبوا إلى رشدهم، كما يعود النور إلى المصباح بمجرد اتصال التيار.. وإذا ثلاثون من أبطالهم يعجلون لتلبية النداء، ثم يتحلقون حوله ليترسوا عليه بأجسامهم، فيذيقون قريشاً من لهيب الدفاع ما لم تجد مثله قط حتى في دفعة الهجوم الذي حطم صفوفها قبل النكسة..
كان عجب الصحابة بالغاً عندما رأوا (قزمان) في الصباح يشق جموع المسلمين حتى ينتهي إلى المركز الأول من مقدمتهم، بينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسوي الصفوف استعداداً للمعركة، وما كان أحد يعرف الدافع الذي بعث (قزمان) على الالتحاق بالمؤمنين، بعد أن أبى الخروج معهم منذ غادروا المدينة، وهم فضلاً عن ذلك يعلمون أن (قزمان) هذا لم يكن إلا واحداً من منافقي المدينة الذين جمعهم بغض الرسول والإسلام، فاستجابوا لكبير مجرميهم عبد الله بن أبي يتآمرون على المسلمين، ويؤلفون في داخل المدينة القوة المخرّبة التي يستند إليها كل محارب لله ولرسوله!..
على أنهم لم يستبعدوا أن يكون (قزمان) قد انشرح صدره للإسلام في هذه اللحظات الحاسمة، كما حدث لمخيريق اليهودي وغيره، ممن كانوا لساعات خلت في صفوف الكائدين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، فإذا هم الآن في طليعة العاملين لنصرة الإسلام والمسلمين!..
وزاد عجب المؤمنين ما رأوا من بلاء (قزمان) وأثره في تحطيم قوة الوثنية، فلم يتمالكوا أن ينقلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم – خبره، معجبين بهذه البطولة الرائعة، إنه أول من رمى بنفسه من صفوف المسلمين في غمرة المعركة، وهاهو ذا يرسل النبل كأنها الرماح، ثم هاهو يثخن في صفوف العدو فيقتل عدة من كبار أبطالهم، بينهم آخر حامل لراية الوثنية من بني عبد الداري، الذين تتابعوا في حمايتها واحداً بعد الآخر، حتى لم يبق منهم أحداً، فأقبل غلامهم (صؤاب) يرفعها فيقطع (قزمان) يمينه، فيضمها بيساره فيقطع يساره، فيضمها إلى صدره ببقية ذراعيه حتى سقط هو والراية..
فكانت الدائرة على الأعداء..
بيد أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم لا يزيده خبر قزمان إلا توكيداً لما سبق أن وصفه به من قبل: "إنه من أهل النار"..
وما كان للمؤمنين أن يراجعوا رسول الله-صلى الله عليه وسلم فيما يقول، فهو أعلم بربه منهم، وأعلم بحقيقة قزمان من قزمان نفسه، ولكن هذا ما كان أيضاً ليمنعهم أن يتساءلوا في قرارة نفوسهم عن ذلك السر الذي يجعل قزمان من أهل النار.. وهو الذي يقدم كل هذا العون في سبيل الإسلام.
حقاً إنه لأمر مدهش ومحير!.
وصمد قزمان آخر النهار كما صمد أوله.. صمد يقاتل بعد الهزيمة، كما صمد في مقاتلة العدو قبلها، وما أن رآه مسلم في صموده هذا إلا أخذته الدهشة أن يكون مثل هذا البطل الجبار من أهل النار!..
وشاء الله أن يصاب قزمان، وأن تكون الإصابة بالغة.. فإذا هو يهوي في ميدان المعركة وقد أثبتته الجراح.. ويمر نفر من المسلمين ممن شهد بلاءه طوال النهار، فيقف عليه يهنئه بالشهادة ويبشره بالجنة.. ولكن قزمان لم يشأ أن يخدع القوم بأمر نفسه، فإذا هو يتمتم في إصرار عجيب:"والله ما قاتلت على دين.. وما قاتلت إلا حفاظاً على المدينة أن تقتحم قريش حرمها وتطأ سعفها.. ما قاتلت إلى على أحساب قومي.. لولا ذلك ما قاتلت..".
وينهض قزمان متهادياً يغالب الموت، ثم يأخذ سيفه فيجعل ذبابه في صدره، ثم يتكئ عليه حتى يخرج من ظهره..
وما هي إلا لحظات حتى يشيع خبر قزمان بين الصفوة المدافعين عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم، فلا يشغلهم هول موقفهم عن استجلاء العبرة في مصير هذا الضال الذي خسر الدنيا ولم يربح الآخرة.. إنهم ليجدون في نهايته البشعة حافزاً جديداً يرفع حرارة إيمانهم إلى الدرجات العلى، ثم يدفع بهم إلى قمة التضحية، فلا يرون أعذب من الاستشهاد فداء لرسول الله-صلى الله عليه وسلم..
لقد كان يومهم هذا يوم أحد امتحاناً صارماً حافلاً بالدروس الربانية.. ففي هذا اليوم تعلموا أن معارك الإيمان لا تكسب إلا بالنظام والطاعة المطلقة لله ولرسوله، وأن على المؤمنين أن يسموا بأرواحهم فلا يشغلهم طلب الغنيمة عن رضوان الله.. فإذا انحرف ببعضهم هوى الدنيا عن هدف الإيمان كان ذلك عدواناً على سلامة المجموع، وتحطيماً لنظام الوحدة بين المؤمنين، كالشرارة الصغيرة تضرم الحريق الشامل المروع، ومن هنا تأتي السماء بتأديبها الرهيب.. تعم به البريء والخاطئ لا تستثني أحداً؛ لأنها تعتبر الجميع وحدة كاملة، كل جزء مسئول عن كل جزء..
وهاهو ذا رسول الله –صلى الله عليه وسلم-ينال منه المشركون، فيكسر أنفه ورباعيته، وتشج جبهته، وتكلم شفته، وتخل حلقتان من المغفر في وجنته، ثم يسقط في حفرة أعدها العدو للمسلمين.. كل ذلك يصيب رسول الله –صلى الله عليه وسلم بذنب المسلمين الذين خالفوا عن أمره، فكان لا بد من تلقينهم الدرس الذي يتكافأ مع خطيئتهم.
أما أهم دروس أحد هذه فهو ما تعلموه من مصير (قزمان) ، ذلك المصير الذي أكد لهم من جديد أن أبواب الجنة لن تفتح إلا للمجاهدين في سبيل الله، العاملين لإعلاء كلمته، المتفانين في طاعة رسوله.. فلا الشجاعة، ولا الدفاع عن الحمى والنسب بنافع عند الله شيئاً، إذا لم يؤيد ذلك كله بالرغبة الخالصة في مرضاته..
حقاً لقد كان (قزمان) بطلاً رائعاً، ولكنها بطولة ضائعة لم تعرف المثل الأعلى.. الذي يقود إلى الجنة، لقد كان بطلاً من أهل النار.
هذا الدين
إن هذا الدين ليس بظرية يتعلمها الناس في كتاب للترف الذهني والتكاثر بالعلم والمعرفة، وليس كذلك عقيدة سلبية يعيش بها الناس بينهم وبين ربهم وكفى، كما أنه ليس مجرد شعائر تعبدية يؤديها الناس لربهم فيما بينهم وبينه، إنّ هذا الدين إعلان عام لتحرير الإنسان، وهو منهج حركي واقعي يواجهه واقع الناس بوسائل مكافئة، يواجه حواجز الإدراك والرؤية بالتبليغ والبيان، ويواجه حواجز الأوضاع والسلطة بالجهاد المادي لتحطيم سلطان الطواغيت وتقرير سلطان الله.
سيد قطب
دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب
لفضيلة الشيخ: محمد الأمين الشنقيطي
المدرس بالجامعة
قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} هذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على أن القادر على صوم رمضان مخير بين الصوم والإطعام، وقد جاء في آية أخرى ما يدل على تعيُّن وجوب الصوم وهي قوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} الآية.
والجواب عن هذا بأمرين:
أحدهما: وهو الحق، أن قوله:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} منسوخ بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .
الثاني: أنّ معنى يطيقونه: لا يطيقونه، بتقدير (لا) النافية، وعليه فتكون الآية محكمة، ويكون وجوب الإطعام على العاجز على الصوم كالهرم والزمن، واستدل لهذا القول بقراءة بعض الصحابة يطوقونه (بفتح الياء وتشديد الطاء والواو المفتوحتين) بمعنى: يتكلفونه مع عجزهم عنه، وعلى هذا القول فيجب على الهرم ونحوه الفدية، وهو اختيار البخاري مستدلا بفعل أنس بن مالك رضي الله عنه.
قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} الآية، هذه الآية تدل بظاهرها على أنهم لم يؤمروا بقتال الكفار إلا إذا قاتلوهم، وقد جاءت آيات أخر تدل على وجوب قتال الكفار مطلقا؛ قاتلوا أم لا، كقوله تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} ، قوله:{فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} ، وقوله تعالى:{تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} .
والجواب عن هذه بأمور:
الأول: - وهو من أحسنها وأقربها - أنّ المراد بقوله: {الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} تهييج المسلمين، وتحريضهم على قتال الكفار، فكأنه يقول لهم: هؤلاء الذين أمرتكم بقتالهم هم خصومكم وأعداؤكم الذين يقاتلونكم، ويدل لهذا المعنى قوله تعالى:{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} ، وخير ما يفسر به القرآن القرآن.
الوجه الثاني: أنها منسوخة بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} ، وهذا من جهة النظر ظاهر حسن جدا، وإيضاح ذلك أنّ من حكمة الله البالغة في التشريع أنه إذا أراد تشريع أمر عظيم على النفوس ربما يشرعه تدريجيا لتخف صعوبته بالتدريج، فالخمر مثلا لما كان تركها شاقا على النفوس التي اعتادتها ذكر أولا بعض معائبها بقوله:{قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} ، ثم بعد ذلك حرمها في وقت دون وقت كما دل عليه قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} الآية، ثم لما استأنست النفوس بتحريمها في الجملة حرّمها تحريما باتاً بقوله:{رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ، وكذلك الصوم لما كان شاقا على النفوس شرعه أولا على سبيل التخيير بينه وبين الإطعام، ثم رغب في الصوم مع التخيير بقوله:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} ، ثم لما استأنست به النفوس أوجبه إيجابا حتما بقوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ، وكذلك القتال على هذا القول لما كان شاقا على النفوس أذن فيه أولا من غير إيجاب بقوله:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} الآية، ثم أوجب عليهم قتال من قاتلهم بقوله:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} ، ثم لما استأنست نفوسهم بالقتال أوجبه عليهم إيجابا عاما بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} الآية.
الوجه الثالث: وهو اختيار بن جرير، ويظهر لي أنه الصواب: أن الآية محكمة، وأن معناها: قاتلوا الذين يقاتلونكم أي من شأنهم أن يقاتلوكم، أما الكافر الذي ليس من شأنه القتال كالنساء، والذراري، والشيوخ الفانية، والرهبان، وأصحاب الصوامع، ومن ألقى إليكم السلم، فلا تعتدوا بقتالهم؛ لأنهم لا يقاتلونكم، ويدل لهذا الأحاديث المصرحة بالنهي عن قتال الصبي، وأصحاب الصوامع، والمرأة، والشيخ الهرم إذا لم يستعن برأيه، أما صاحب الرأي فيقتل كدريد بن الصمة، وقد فسر هذه الآية بهذا المعنى عمر بن العزيز رضي الله عنه وابن عباس والحسن البصري.
قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} الآية، هذه الآية تدل على طلب الانتقام، وقد أذن الله في الانتقام في آيات كثيرة كقوله تعالى:{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ، إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} الآية، وكقوله:{لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ} ، وكقوله:{ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} الآية، وقوله:{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} ، وقوله:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} ، وقد جاءت آيات أخر تدل على العفو وترك الانتقام كقوله:{فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} ، وقوله:{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} ، وقوله:{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} ، وقوله:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} ، وكقوله:{وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} . والجواب عن هذا بأمرين:
أحدهما: أن الله بيّن مشروعية الانتقام ثم أرشد إلى أفضلية العفو، ويدل لهذا قوله تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} ، وقوله:{لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ} ، أذن في الانتقام بقوله:{إِلا مَنْ ظُلِمَ} ، ثم أرشد إلى العفو بقوله:{إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً}
الوجه الثاني: أنّ الانتقام له موضع يحسن فيه، والعفو له موضع كذلك، وإيضاحه أن من المظالم ما يكون في الصبر عليه انتهاك حرمة الله، ألا ترى أنّ من غصبت منه جاريته مثلا إذا كان الغاصب يزني بها فسكوته وعفوه عن هذه المظلمة قبيح وضعف وخور، تنتهك به حرمات الله، فالانتقام في مثل هذه الحالة واجب، وعليه يحمل الأمر {فَاعْتَدُوا} الآية، أي كما بدأ الكفار بالقتال فقتالهم واجب، بخلاف من أساء إليه بعض إخوانه من المسلمين بكلام قبيح، ونحو ذلك فعفوه أحسن وأفضل، وقد قال أبو الطيب المتنبي:
إذا قيل حلم قل فللحلم موضع
وحلم الفتى في غير موضعه جهل
قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} هذه الآية الكريمة تدل على أن الرّدة لا تحبط العمل إلا بقيد الموت على الكفر بدليل قوله {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} ، وقد جاءت آيات أخر تدل على أن الردة تحبط العمل مطلقا ولو رجع إلى الإسلام؛ فكل ما عمل قبل الردة أحبطته الردة كقوله تعالى:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} الآية، وقوله:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} الآية، وقوله:{وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
والجواب عن هذا أن هذه من مسائل التعارض المطلق والمقيد، فيحمل المطلق على المقيد، فتقيد آيات المطلقة بالموت على الكفر، وهذا مقتضى الأصول، وعليه الإمام الشافعي ومن وافقه، وخالف مالك في هذه المسألة، وقدم آيات الإطلاق، وقول الشافعي في هذه المسألة أجرى على الأصول، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} الآية، هذه الآية تدل بظاهرها على تحريم نكاح كل كافرة، ويدل لذلك أيضا قوله تعالى:{وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} ، وقد جاءت آية أخرى تدل على جواز نكاح بعض الكافرات؛ وهنّ الحرائر الكتابيات، وهي قوله تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} .
والجواب أن هذه الآية الكريمة تخصص قوله: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} أي ما لم يكن كتابيات بدليل قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} ، وحكى ابن جرير الإجماع على هذا، وأما ما روي عن عمر من إنكاره على طلحة تزويج يهودية، وعلى حذيفة تزويج نصرانية؛ فإنه إنما كره نكاح الكتابيات لئلا يزهد الناس في المسلمات، أو لغير ذلك من المعاني، قاله ابن جرير.
قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} الآية، هذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على أنّ كل مطلّقة تعتدّ بالأقراء، وقد جاء في آيات أخر أن بعض المطلقات يعتد بغير الأقراء؛ كالعجائز والصغائر المنصوص عليها بقوله:{وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} إلى قوله: {وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} ، وكالحوامل المنصوص عليها بقوله:{وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} على أنّه جاء في آية أخرى أنّ بعض المطلّقات لا عدة عليهنّ أصلا، وهنّ المطلقات قبل الدخول، وهي قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} الآية، والجواب عن هذا ظاهر وهو: أنّ آية (المطلقات) عامة، وهذه الآيات المذكورة أخصّ منها، فهي مخصصة لها، فهي إذاً من العام المخصوص.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} ، هذه الآية يظهر تعارضها مع قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} والجواب ظاهر وهو أن الأولى ناسخة لهذه، وإن كانت قبلها في المصحف؛ لأنها متأخرة عنها في النزول، وليس في القرآن آية هي الأولى في المصحف وهي ناسخة لآية بعدها إلاّ في موضعين؛ أحدهما: هذا الموضع، الثاني: آية {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} هي الأولى في المصحف، وهي ناسخة لقوله:{لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} الآية؛ لأنها تقدمت في المصحف فهي متأخرة في النزول، وهذا على القول بالنسخ، ويأتي إن شاء الله تحرير المقام في سورة الأحزاب.
قال تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ} هذه الآية تدل بظاهرها على أنه لا يكره أحد على الدخول في الدين، ونظيرها قوله تعالى:{أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} ، قوله تعالى:{فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ} ، وقد جاء في آيات كثيرة ما يدل على إكراه الكفار على الدخول في الإسلام بالسيف كقوله تعالى:{تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} ، وقوله:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي الشرك، ويدل لهذا التفسير الحديث الصحيح:"أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله"الحديث، والجواب عن هذا بأمرين:
الأول - وهو الأصح -: أنّ هذه الآية في خصوص أهل الكتاب، والمعنى أنهم قبل نزول قتالهم لا يكرهون على الدين مطلقا، وبعد نزول قتالهم لا يكرهون عليه إذا أعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، والدليل على خصوصها بهم ما رواه أبو داود وابن أبي حاتم والنسائي وابن حبان وابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنه قال:"كانت المرأة تكون مقلاة فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوِّده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا: "لا ندع أبناءنا"، فأنزل الله: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ، المقلاة التي لا يعيش لها ولد، وفي المثل: "أحر من دمع المقلاة"، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنه قال "نزلت {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له: (الحصين) ، كان له ابنان نصرانيان، وكان هو مسلما، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم:"ألا استكرههما فإنهما أبيا إلا النصرانية؟ "، فأنزل الله الآية"، وروى ابن جرير عن سعيد بن جبير سأله أبو بشر عن هذه الآية؟ فقال: نزلت في الأنصار، قال: خاصة؟ قال: خاصة"، واخرج ابن جرير عن قتادة بإسنادين في قوله:{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} قال: أكره عليه هذا الحي من العرب؛ لأنهم كانوا أمة أمية ليس لهم كتاب يعرفونه فلم يقبل منهم غير الإسلام، ولا يكره عليه أهل الكتاب إذا أقرّوا بالجزية أو بالخراج ولم يفتنوا عن دينهم فيخلى سبيلهم"وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله:{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل جزيرة العرب من أهل الأوثان فلم يقبل منهم إلَاّ لا إله إلا الله أو السيف، ثم أمر فيمن سواهم أن يقبلوا منهم الجزية فقال:{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} ، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أيضا في قوله:{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ، قال: "وذلك لما دخل الناس في الإسلام، وأعطى أهل الكتاب
الجزية"، فهذه النقول تدل على خصوصها بأهل الكتاب المعطين الجزية، ومن في حكمهم، ولا يرد على هذا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ لان التخصيص فيها عرف بنقل عن علماء التفسير لا بمطلق خصوص السبب، ومما يدل للخصوص أنه ثبت في الصحيح: "عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل".
الأمر الثاني: أنها منسوخة بآيات القتال كقوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} الآية، ومعلوم أن سورة البقرة من أول ما نزل بالمدينة، وسورة براءة من آخر ما نزل بها، والقول بالنسخ مروي عن ابن مسعود، وزيد بن أسلم، وعلى كل حال فآيات السيف نزلت بعد نزول السورة التي فيها {لا إِكْرَاهَ} الآية، والمتأخر أولى من المتقدم، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} الآية، هذه الآية تدل بظاهرها على أنّ الوسوسة وخواطر القلوب يؤاخذ بها الإنسان مع أنه لا قدرة له على دفعها، وقد جاءت آيات أخر تدل على أنّ الإنسان لا يكلّف إلا بما يطيق كقوله تعالى:{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا} ، وقوله:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ، والجواب أنّ آية:{إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ} منسوخة بقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا} .
سورة آل عمران
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} الآية، هذه الآية الكريمة تدل على أن من القرآن محكما ومنه متشابها، وقد جاءت آية أخرى تدل على أنّ كله محكم، وأية تدل على أنّ كله متشابه، أمّا التي تدل على إحكامه كله قوله تعالى:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} ، وأما التي تدل على أنّ كله متشابه قوله تعالى:{كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ} ، ووجه الجمع بين الآيات أنّ معنى كونه كله محكما أنه في غاية الإحكام أي الإتقان في ناحية ألفاظه ومعانيه وإعجازه أخباره صدق، وأحكامه عدل، لا تعتريه وصمة ولا عيب في الألفاظ، ولا في المعاني، ومعنى كونه متشابها أن آياته يشبه بعضها بعضا في الحسن والصدق والإعجاز والسلامة من جميع العيوب ومعنى كونه بعضه محكما وبعضه متشابها أن المحكم منه الواضح المعنى لكل الناس كقوله:{وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} ، {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} ، والمتشابه: هو ما خفي علمه على غير الراسخين في العلم بناء على أن الواو في قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} عاطفة، أو هو ما استأثر الله بعلمه كمعاني الحروف المقطعة في أوائل السور بناء على أن الواو في قوله تعالى:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} استئنافية لا عاطفة.
قوله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} الآية، هذه الآية الكريمة توهم أن اتخاذ الكفار أولياء إذا لم يكن من دون المؤمنين لا بأس به بدليل قوله {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ، وقد جاءت آيات أخر تدل على منع اتخاذهم أولياء مطلقا كقوله تعالى:{وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} ، وكقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ..} الآية، والجواب عن هذا: أن قوله {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} لا مفهوم له، وقد تقرر في علم الأصول أن دليل الخطاب الذي هو مفهوم المخالفة له موانع تمنع اعتباره، منها كون تخصيص المنطوق بالذكر لأجل موافقته للواقع كما في هذه الآية؛ لأنها نزلت في قوم والَوْا اليهود دون المؤمنين، فنزلت ناهية عن الصورة الواقعة من غير قصد التخصيص بها، بل موالاة الكفار حرام مطلقا، والعلم عند الله.
وقوله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} هذه الآية تدل على أنّ زكريا - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام – ليس له شك في قدرة الله على أن يرزقه الولد على ما كان منه من كبر السن، وقد جاء في آية أخرى ما يوهم خلاف ذلك وهي قوله تعالى:{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ..} الآية. والجواب عن هذا بأمور:
الأول: ما أخرجه ابن جرير عن عكرمة والسدي من أنّ زكريّا نادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب: أنّ الله يبشرك بيحي، قال له الشيطان: ليس هذا نداء الملائكة، وإنما هو نداء الشيطان فداخل زكريا الشك في أنّ النداء من الشيطان، فقال عند ذلك الشك الناشئ عن وسوسة الشيطان قبل أن يتيقن أنه من الله {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ} ، ولذا طلب الآية من الله على ذلك بقوله:{رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} الآية.
الثاني: أنّ استفهامه استفهام استعلام واستخبار؛ لأنه لا يدري هل الله يأتيه بالولد من زوجه العجوز أو يأمره أن يتزوج شابة أو يردهما شابين؟ .
الثالث: أنه استفهام استعظام وتعجب من كمال قدرة الله تعالى، والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} الآية، هذه الآية يوهم ظاهرها أن بعض المخلوقين ربما خلق بعضهم، ونظيرها قوله تعالى:{وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} الآية، وقد جاءت آيات أخر تدل على أن الله خالق كل شيء كقوله تعالى:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} ، وقوله:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} إلى غير ذلك من الآيات. والجواب ظاهر وهو معنى خلق عيسى كهيئة الطير من الطين: هو أخذه شيئا من الطين وجعله على هيئة أي صورة الطير، وليس المراد الخلق الحقيقي؛ لأن الله متفرد به - جل وعلا -. وقوله:{وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} معناه: تكذبون، فلا منافاة بين الآيات كما هو ظاهر.
قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيّ} الآية، هذه الآية الكريمة يتوهم من ظاهرها وفاة عيسى عليه السلام وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقد جاء في بعض الآيات ما يدل على خلاف ذلك كقوله:{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} ، وقوله:{وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} الآية على ما فسرها به ابن عباس في إحدى الروايتين، وأبو مالك والحسن وقتادة وابن زيد وأبو هريرة، ودلّت على صدقه الأحاديث المتواترة، واختاره ابن جرير، وجزم ابن كثير أنه الحق من أن قوله:{قَبْلَ مَوْتِهِ} أي موت عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه:
الأول: أنّ قوله تعالى: {مُتَوَفِّيكَ} لا يدل على تعيين الوقت، ولا يدل على كونه قد مضى، وهو مُتَوَفّيه قطعاً يوماً ما، ولكن لا دليل على أنّ ذلك اليوم قد مضى، وأما عطفه {وَرَافِعُكَ إِلَيّ} على قوله:{مُتَوَفِّيكَ} فلا دليل عليه لإطباق جمهور اللسان العربي على أن الواو لا تقتضي الترتيب ولا الجمع، وإنما تقتضي مطلق التشريك، وقد ادّعى السيرافي والسهيلي إجماع النحاة على ذلك، وعزاه الأكثر للمحققين، وهو الحق، خلافا لما قاله قطرب والفراء وثعلب وأبو عمر والزاهد وهشام والشافعي من أنها تفيد الترتيب لكثرة استعمالها فيه، وقد أنكر السيرافي ثبوت هذا القول عن الفراء وقال: لم أجده في كتابه. وقال ولي الدين: أنكر أصحابنا نسبة هذا القول إلى الشافعي، حكاه عنه صاحب (الضياء اللامع) وقوله صلى الله عليه وسلم:"أبدأ بما بدأ الله به"يعني الصفا، لا دليل عليه على اقتضائها الترتيب، وبيان ذلك هو ما قاله الفهري كما ذكر عنه صاحب الضياء اللامع وهو أنها كما أنها لا تقتضي الترتيب ولا المعية، فكذلك لا تقتضي المنع منهما فقد يكون العطف بها مع قصد الاهتمام بالأول كقوله:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية بدليل الحديث المتقدم. وقد يكون المعطوف بها مرتبا كقول حسان: (هجوت محمد وأجبت عنه) على رواية الواو، وقد يراد بها المعية كقوله:{فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} ، وقوله:{وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} ، ولكن لا تحمل على الترتيب ولا على المعية إلا بدليل منفصل.
الوجه الثاني: أنّ معنى {مُتَوَفِّيكَ} أي منيمك ورافعك إليّ أي في تلك النومة، وقد جاء في القرآن إطلاق الوفاة على النوم في قوله:{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} ، وقوله:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} ، وعزا ابن كثير هذا القول للأكثرين، واستدل بالآيتين المذكورتين وقوله صلى الله عليه وسلم:"الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا.."الحديث.
الوجه الثالث: أنّ {مُتَوَفِّيكَ} اسم فاعل توفاه إذا قبضه وحازه إليه ومنه قولهم: "توفّى فلان دينه" إذا قبضه إليه.. فيكون معنى {مُتَوَفِّيكَ} على هذا قابضك منهم إلي حيا، وهذا القول هو اختيار بن جرير. وأما الجمع بأنه توفّاه ساعات أو أياما ثم أحياه فالظاهر أنه من الإسرائليات، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن تصديقها وتكذيبها.
قوله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} الآية.
هذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن تدل على أن إبراهيم - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - لم يكن مشركاً يوما؛ لأن نفي الكون الماضي في قوله: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} يدل على استغراق النفي لجميع الزمن الماضي كما دل عليه قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ..} الآية، وقد جاء في موضع آخر ما يوهم خلاف ذلك وهو قوله: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي.. فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي
…
فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ..} الآية، ومن ظنّ ربوبية غير الله فهو مشرك بالله كما دل عليه قول الله تعالى عن الكفار:{وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ} ، والجواب عن هذا من وجهين:
أحدهما: أنه مناظر لا ناظر ومقصوده التسليم الجدلي: أي هذا ربي على زعمكم الباطل، والمناظر قد يسلم المقدمة الباطلة تسليما جدليا ليفحم بذلك خصمه، فلو قال لهم إبراهيم في أول الأمر: الكوكب مخلوق لا يمكن أن يكون ربا، لقالوا له: كذبت، بل الكوكب ربّ، ومما يدل لكونه مناظرا لا ناظر قوله تعالى:{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ..} استدل به بن جرير على أنه غير مناظر من قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} لا دليل فيه على التحقيق؛ لأن الرسل يقولون مثل ذلك تواضعا وإظهارا لإلتجائهم إلى الله كقول إبراهيم: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} ، وقوله هو وإسماعيل:{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} الآية.
الوجه الثاني: أنّ الكلام على حذف همزة الاستفهام أي: أهذا ربي؟ وقد تقرر في علم النحو أن حذف همزة الاستفهام إذا دلّ المقام عليها جائز، وهو قياسي عند الأخفش مع (أم) ودونها، ذُكِر الجواب أم لا، فمن أمثلته دون (أم) ودون ذكر الجواب قول الكميت:
طربت وما شوقا إلى البيض أطرب
ولا لعبا مني وذو شيب يلعب
يعني أو ذو الشيب يلعب؟ ، وقول أبي خراش الهذلي واسمه بن خويلد
رفوني وقالوا يا خويلد لم ترع
فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
بعني أهم هم كما هو الصحيح، وجزم به الألوسي في تفسيره، وذكره ابن جرير عن جماعة، ويدل له قوله:"وأنكرت الوجوه"، ومن أمثلته دون (أم) مع ذكر الجواب قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
ثم قالوا تحبها قلت بهرا
عدد النجم والحصى والتراب
يعني: أتحبُّها على القول الصحيح، وهو مع (أم) كثير جداً، ومن أمثلته قول الأسود بن يعفر التميمي وأنشده سيبويه لذلك:
لعمرك ما أدري وإن كنت داريا
شعيث بن سهم أو شعيث بن منقر
يعني أشعيث بن سهم؟ وقول بن أبي ربيعة المخزومي:
بدا لي منها معصم يوم جمرت
وكف خضيب زينت ببنان
فوالله ما أدري وإني لحاسب
بسبع رميت الجمر أم بثمان
يعني أبسبع؟ وقول الأخطل:
كذبتك عينك أم رأيت بواسط
غلس الظلام من الرباب خيالا
يعني أكذبتك عينك؟ كما نصّ سيبويه على جواز ذلك في بيت الأخطل، هذا وإن خالف الخليل زاعما أنّ (كذبتك) صيغة خبرية، وأنّ (أم) بمعنى (بل) ففي البيت على قول الخليل نوع من أنواع البديع المعنوي يسمى بالرجوع عند البلاغيين، وقول الخنساء:
قذى بعينيك أم بالعين عوار
أم خلت إذا أقفرت من أهلها الدار
تعني أقذى بعينيك؟ وقول أحيحة بن الجلاح الأنصاري:
وما تدري وإن ذمرت سقبا
لغيرك أم يكون لك الفصيل
يعني ألغيرك؟ وقول أمرئ القيس:
تروح من الحي أم تبتكر
وماذا عليك بأن تنتظر
يعني أتروح؟
وعلى هذا القول فقرينة الاستفهام المحذوف علو مقام إبراهيم عن ظن ربوبية غير الله، وشهادة القرآن له بالبراءة من ذلك، والآية على هذا القول تشبه قراءة بن محيصن:(سواء عليهم أنذرتهم)، ونظيرها على هذا القول قوله تعالى:{أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} ، وقوله تعالى:{وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا} على أحد القولين، وقوله:{فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} على أحد القولين.
وما ذكره بعض العلماء غير هذين الوجهين فهو راجع إليهما كالقول بإضمار القول أي يقول الكفار: هذا ربي، فإنه راجع إلى الوجه الأول، وما ذكره عن ابن إسحاق واختاره ابن جرير الطبري ونقله عن ابن عباس من أنّ إبراهيم كان ناظراً يظنُّ ربوبية الكوكب فهو ظاهر الضعف؛ لأن نصوص القرآن ترده كقوله:{وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، وقوله تعالى:{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، وقوله:{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ} ، وقد بيّن المحقق ابن كثير في تفسيره رد ما ذكره بن جرير بهذه النصوص القرآنية وأمثالها، والأحاديث الدالة على مقتضاها كقوله صلى الله عليه وسلم:"كل مولود يولد على الفطرة"الحديث.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} هذه الآية الكريمة تدل على أن المرتدين بعد إيمانهم المزدادين كفرا لا يقبل الله توبتهم إذا تابوا؛ لأنه عبّر بـ (لن) الدالة على نفي الفعل في المستقبل، مع أنه جاءت آيات أخر دالة على أن الله يقبل توبة كل تائب قبل حضور الموت، وقبل طلوع الشمس من مغربها، كقوله تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} ، وقوله:{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} ، وقوله:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} ، فإنه يدل بمفهومه على أن التوبة قبل إتيان بعض الآيات مقبولة من كل تائب، وصرّح تعالى بدخول المرتدين في قبول التوبة قبل هذه الآية مباشرة في قوله تعالى:{كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حقٌّ..} إلى قوله: {إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم} فالاستثناء في قوله: {إلا الذين تابوا} راجع إلى المرتدين بعد الإيمان المستحقين للعذاب واللعنة إن لم يتوبوا، ويدل له قوله تعالى:{ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر} الآية؛ لأنّ مفهومه أنه إذا تاب قبل الموت قبلت توبته مطلقا.
والجواب من أربعة أوجه:
الأول: وهو اختيار ابن جرير ونقله عن رفيع بن العالية أن المعنى: إنّ الذين كفروا من اليهود بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم به قبل مبعثه ثم ازداوا كفرا بما أصابوا من الذنوب في كفرهم لن تقبل توبتهم من الذنوب التي أصابوها في كفرهم، ويدل على هذا الوجه قوله تعالى:{وأولئك هم الضالون} ؛ لأنه يدل على أن توبتهم مع بقائهم على ارتكاب الضلال وعدم قبولها حينئذ ظاهر.
الثاني: وهو أقربها عندي أن قوله تعالى: {لن تقبل توبتهم} يعني إذا تابوا عند حضور الموت، ويدل لهذا الوجه أمران:
الأول: أنّه تعالى بيّن في مواضع أخرى أنّ الكافر الذي لا تقبل توبته هو الذي يصر على الكفر حتى يحضره الموت في ذلك الوقت كقوله تعالى: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال: إني تبت الآن، ولا الذين يموتون وهم كفار} ، فجعل التائب عند حضور الموت والميت على كفره سواء، وقوله تعالى:{فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا} الآية، وقوله في فرعون:{الآن وقد عصَيْتَ قبلُ وكنت من المفسدين} . فالإطلاق الذي في هذه الآية يقيّد بقيد تأخير التوبة إلى حضور الموت لوجوب حمل المطلق على المقيد كما تقرر في الأصول.
الثاني: أنه تعالى أشار إلى ذلك بقوله: {ثم ازدادوا كفرا} فإنه يدل على عدم توبتهم في وقت نفعها، ونقل ابن جرير هذا الوجه الثاني - الذي هو التقيد بحضور الموت - عن الحسن وقتادة وعطاء الخراساني والسدي.
الثالث: أن المعنى {لن تقبل توبتهم} أي إيمانهم الأول لبطلانه بالردة بعد، وهذا القول خرجه ابن جرير عن ابن جريج، ولا يخفى ضعف هذا القول وبعده عن ظاهر القرآن.
الرابع: أن المراد بقوله: {لن تقبل توبتهم} أنهم لم يوفقوا للتوبة النصوح حتى تقبل منهم، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى:{إنّ الذين آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكُنِ اللهُ ليغفر لهم ولا ليهدِيَهُم سبيلا} ، فإنّ قوله تعالى:{ولا ليهديهم سبيلا} يدل على {إنّ الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم} ، وكقوله:{إن الذين حقّت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون} الآية، ونظير الآية على هذا القول قوله تعالى:{فما تنفعهم شفاعة الشافعين} أي لا شفاعة لهم أصلا حتى تنفعهم، وقوله تعالى:{ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به} الآية؛ لأن الإله الآخر لا يمكن وجوده أصلا حتى يقوم عليه برهان أو لا يوم عليه.
قال مقيده - عفا الله عنه -: مثل هذا الوجه الأخير هو المعروف عند النظار بقولهم: "السالبة لا تقتضي وجود الموضوع"وإيضاحه أن القضية السالبة عندهم صادقة في صورتين؛ لأن المقصود منها عدم اتصاف الموضوع بالمحمول، وعدم اتصافه به يتحقق في صورتين: االأولى: أن يكون الموضوع موجودا إلا أن المحمول منتف عنه، كقولك:"ليس الإنسان بحجر"فالإنسان موجود والحجرية منتفية عنه.
والثانية: أن يكون الموضوع من أصله معدوما؛ لأنه إذا عدم تحقق عدم اتصافه بالمحمول الوجودي - لأن العدم لا يتصف بالوجود كقولك لا نظير لله يستحق العبادة - فإن الموضوع الذي هو نظير لله مستحيل من أصله، وإذا تحقق عدمه تحقق انتفاء اتصافه باستحقاق العبادة ضرورة. وهذا النوع من أساليب اللغة العربية، ومن شواهده قول امرؤ القيس:
على لا حب لا يهتدي بمناره
إذا سافه العود النباطي جرجرا
لأن المعنى: على لا حب لا منار له أصلا حتى يهتدى به، وقول الآخر:
لا تفزع الأرنب أهوالها
ولا ترى الضب بها ينجحر
لأنه يصف فلاة بأنها ليس فيها أرانب ولا ضباب حتى تفزع أهوالها أو ينجحر فيها الضب أي يدخل الجحر أو يتخذه. وقد أوضحت مسألة (أن السالبة لا تقتضي وجود الموضوع) في أرجوزتي في المنطق، في مبحث (انحراف السور)، وأوضحت فيها أيضا في مبحث (التحصيل والعدول) أن من الموجبات ما لا يقتضي وجود الموضوع نحو:(بحر من زئبق) ممكن والمستحيل معدوم؛ فإنها موجبتان، وموضوع كل منهما معدوم. وحررنا هناك التفصيل فيما يقتضي وجود الموضوع وما لا يقتضيه.
وهذا الذي قررنا من أن المرتد إذا تاب قبلت توبته ولو بعد تكرر الردة ثلاث مرات أو أكثر، لا منافاة بينه وبين ما قاله جماعة من العلماء من الأربعة وغيرهم، وهو مروي عن علي وبن عباس رضي الله عنهما من أن المرتد إذا تكرر منه ذلك يقتل ولا تقبل توبته، واستدل بعضهم على ذلك بهذه الآية؛ لأن هذا الخلاف في تحقيق المناط لا في نفس المناط، والمتناظران قد يختلفان في تحقيق المناط مع اتفاقهما على أصل المناط، وإيضاحه أن المناط مكان النوط وهو التعليق، ومنه قول حسان رضي الله عنه:
وأنت زتيم نيط في آل هاشم
كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
والمراد به: مكان تعليق الحكم وهو العلة، فالمناط والعلة مترادفان إصطلاحا، إلا أنه غلب التعبير بلفظ المناط في المسلك الخامس من مسالك العلة الذي هو المناسبة والإخالة؛ فإنه يسمى تخريج المناط، وكذلك في المسك التاسع الذي هو تنقيح المناط، فتخريج المناط: هو استخراج العلة بمسلك المناسبة والاخالة، وتنقيح المناط: هو تصفية العلة وتهذيبها حتى لا يخرج شيء غير صالح لها، ولا يدخل شيء غير صالح لها كما هو معلوم في محله، وأما تحقيق المناط - وهو الغرض هنا – فهو: أن يكون مناط الحكم متفق عليه بين الخصمين، إلا أن أحدهما يقول: هو موجود في هذا الفرع، والثاني: يقول: لا، ومثاله: الاختلاف في قطع النباش؛ فإن أبا حنيفة رحمه الله تعالى يوافق الجمهور على أن السرقة مناط القطع، ولكنه يقول: لم يتحقق المناط في النباش؛ لأنه غير سارق، بل هو آخذ مال عارض للضياع كالملتقط من غير حرز.
فإذا حققت ذلك، فاعلم أن مراد القائلين: لا تقبل توبته أن أفعاله دالة على خبث نيته وفساد عقيدته، وأنه ليس تائبا في الباطن توبة نصوح، فهم موافقون على أن التوبة النصوح مناط القبول كما ذكرنا، ولكن يقولون: أفعال هذا الخبيث دلّت على عدم تحقيق المناط فيه، ومن هنا اختلفت العلماء في توبة الزنديق المستتر بالكفر، فمن قائل: لا تقبل توبته، ومن قائل: تقبل، ومن مفرق بين إتيانه تائبا قبل الإطلاع عليه وبين الإطلاع على نفاقه قبل التوبة، كما هو معروف في فروع المذاهب الأربعة؛ لأن الذين يقولون: يقتل ولا تقبل توبته يرون أن نفاقه الباطن دليل على أن توبته تقية لا حقيقة، واستدلوا بقوله تعالى:{إلا الذين تابوا وأصلحوا} ، فقالوا: الإصلاح شرط والزنديق لا يُطَّلَعُ على إصلاحه؛ لأن الفساد أتى مما أسرَّهُ، فإذا اطلع عليه وأظهر الإقلاع لم يزل في الباطن على ما كان عليه.
والذي يظهر أن أدلة القائلين بقبول توبته مطلقا أظهر وأقوى كقوله صلى الله عليه وسلم لأسامة رضي الله عنه: "هلاّ شققت على قلبه"، وقوله للذي ساره في قتل رجل قال:"أليس يصلي؟ "قال: "بلى"، قال:"أولئك الذين نهيت عن قتلهم"، وقوله - لخالد لما استأذنه في قتل الذي أنكر القسمة -:"إني لم أؤمر أن أنقِّبَ عن قلوب الناس"، وهذه الأحاديث في الصحيح، ويدل لذلك أيضا: إجماعهم على أن أحكام الدنيا على الظاهر والله يتولى السرائر، وقد نصّ تعالى على أن الأَيْمان الكاذبة جُنّةٌ للمنافقين في الأحكام الدنيوية بقوله:{اتخذوا أيمانهم جنة} ، وقوله:{سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتُعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم فإنهم رجس} ، وقوله:{ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم} الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
وما استدل به بعضهم من قتل ابن مسعود لابن النواحة صاحب مسيلمة، فيجاب عنه: بأنه قتله لقول النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه رسولا لمسيلمة -: "لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتك"، فقتله ابن مسعود تحقيقا لقوله صلى الله عليه وسلم، فقد روي أنه قتله لذلك، فإن قيل: إن هذه الآية الدالة على عدم قبول توبتهم أخص من غيرها؛ لأن فيها القيد بالردة وازدياد الكفر، فالذي تكررت منه الردة أخص من مطلق المرتد، والدليل على الأعم ليس دليلا على الأخص؛ لأن وجود الأعم لا يلزم وجود الأخص، فالجواب: أن القرآن دل على توبة من تكرر منه الكفر إذا أخلص في الإنابة إلى الله، ووجه الدلالة على ذلك قوله تعالى:{إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا} ، ثم بيّن أن المنافقين داخلون فيهم بقوله تعالى:{بشِّر المنافقين بأنّ لهم عذابا أليما} الآية، ودلالة الاقتران وإن ضعفها بعض الأصوليين فقد صححتها جماعة من المحققين، ولا سيما إذا اعتضدت بدلالة القرينة عليها كما هنا؛ لأن قوله تعالى:{لم يكنِ الله ليغفرَ لهم ولا ليهديَهم سبيلا، بشّر المنافقين بأن لهم عذابا أليما} فيه الدلالة الواضحة على دخولهم في المراد بالآية، بل كونها في خصوصهم قال به جماعة من العلماء.
فإذا حققت ذلك فاعلم أن الله تعالى نصّ على أن من أخلص التوبة من المنافقين تاب الله عليه بقوله: {إنّ المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا، إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرا عظيما، ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم، وكان الله شاكراً عليما} ، وقد كان مخشي بن حمير رضي الله عنه من المنافقين الذين أنزل الله فيهم قوله تعالى:{ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} فتاب إلى الله بإخلاص، فتاب الله عليه، وأنزل الله فيه:{إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة} الآية، فتحصّل أن القائلين بعدم قبول توبة من تكررت منه الردة يعنون الأحكام الدنيوية ولا يخالفون في أنه أخلص التوبة إلى الله قبلها منه؛ لان اختلافهم في تحقيق المناط كما تقدم، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته} الآية هذه الآية تدل على التشديد البالغ في تقوى الله تعالى، وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك وهي قوله تعالى:{فاتقوا الله ما استطعتم} ، والجواب بأمرين:
الأول: أن آية {فاتقوا الله ما استطعتم} ناسخة لقوله: {اتقوا الله حق تقاته} ، وذهب إلى هذا القول سعيد بن جبير وأبو العالية والربيع بن أنس وقتادة ومقاتل بن حيان وزيد بن أسلم والسدي وغيرهم، قاله بن كثير.
الثاني: أنها مبيِّنةٌ للمقصود بها. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها} هذه الآية الكريمة تدل على أن الأنصار ما كان بينهم وبين النار إلا أن يموتوا مع أنهم كانوا أهل فترة، والله تعالى يقول:{وماكنا معذّّبين إلا أن نبعث رسولا} ، ويقول:{رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} الآية، وقد بين الله هذه الحجة بقوله في سورة طه:{ولو أنا أهلكناهم بعذابٍ من قبله لقالوا: ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى} ، والآيات بمثل هذا كثيرة.
والذي يظهر في الجواب: - والله تعالى أعلم - أنه برسالة محمد صلى الله عليه وسلم لم يبق عذر لأحد، فكل من لم يؤمن به فليس بينه وبين النار إلا أن يموت، كما بينه تعالى بقوله:{ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده} الآية.
وما أجاب به بعضهم من أن عندهم بقية من إنذار الرسل الماضين تلزمهم بها الحجة، فهو جواب باطل؛ لأن نصوص القرآن مصرِّحة بأنهم لم يأتهم نذير كقوله تعالى:{لتنذر قوما ما أُنذر أباؤهم} ، وقوله:{أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك} الآية، وقوله:{وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك} ، وقوله:{يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير} الآية، وقوله تعالى:{وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير} .
قوله تعالى: {ولقد نصركم الله ببدرٍ وأنتم أذلة} وصف الله المؤمنين في هذه الآية بكونهم أذلة حال نصره لهم ببدر، وقد جاء في آية أخرى وصفه تعالى لهم بأن لهم العزة، وهي قوله تعالى:{ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} ، ولا يخفى ما بين العزة والذلة من التنافي والتضاد. والجواب ظاهر وهو أنّ معنى وصفهم بالذلة هو قلة عَددهم وعُددهم يوم بدر، وقوله تعالى:{ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} نزل في غزوة المريسيع، وهي غزوة بني المصطلق، وذلك بعد أن قويت شوكة المسلمين، وكثر عَددهم، مع أن العزة والذلة يمكن الجمع بينهما باعتبار آخر وهو أن الذلة باعتبار حال المسلمين من قلة العَدد والعُدد، والعزة باعتبار نصر الله وتأييده، كما يشير إلى هذا قوله تعالى:{واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيّدكم بنصره ورزقكم من الطيبات} ، وقوله:{ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة} ، فإنّ زمن الحال هو زمن عاملها، فزمان النصر هو زمان كونهم أذلة، فظهر أنّ وصف الذلة باعتبار، ووصف العزة والنصر باعتبار آخر، فانفكت الجهة، والعلم عند الله.
قوله تعالى: {إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيَكم أن يُمدَّكُم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة} الآية ، هذه الآية تدل على أنّ المدد يوم بدر من الملائكة من ثلاثة آلاف إلى خمسة آلاف، وقد ذكر تعالى في سورة الأنفال أنّ هذا المدد ألف بقوله:{إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنِّي ممدكم بألف من الملائكة} الآية.
والجواب عن هذا من وجهين:
الأول: أنه وعدهم بألف ثم صارت ثلاثة آلاف ثم صارت خمسة كما في هذه الآية.
الثاني: أن آية الأنفال لم تقتصر على الألف، بل أشارت إلى الزيادة المذكورة في آل عمران، ولا سيما في قراءة نافع:{بألف من الملائكة مردَفين} بفتح الدال على صيغة اسم المفعول، لأن معنى (مردفين) : متبوعين بغيرهم، وهذا هو الحق، وأما على قول من قال:"إن المدد المذكور في آل عمران في يوم أحد، والمذكور في الأنفال في يوم بدر"فلا إشكال على قوله، إلا أن غزوة أحد لم يأت فيها مدد الملائكة. والجواب: أن إتيان المدد فيها على القول به مشروط بالصبر والتقوى في قوله: {بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم} الآية، ولمّا لم يصبروا ولم يتقوا لم يأت المدد، وهذا قول مجاهد وعكرمة والضحاك والزهري وموسى بن عقبة وغيرهم، قاله بن كثير.
قوله تعالى: {فأثابكم غمّاً بغمّ لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم} الآية قوله تعالى: {فأثابكم غمّاً بغمّ} أي غمّا على غمّ، أي حزنا على حزن، أو أثابكم غما بسبب غمكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعصيان أمره، والمناسب لهذا الغم بحسب ما يسبق إلى الذهن أن يقول: لكي تحزنوا، أما قوله:{لكيلا تحزنوا} فهو مشكل؛ لأن الغم سبب للحزن لا لعدمه.
والجواب عن هذا من أوجه:
الأول: أنّ قوله: {لكيلا تحزنوا} متعلق بقوله تعالى: {ولقد عفا عنكم} فالمعنى: أنّ الله تعالى عفا عنكم لتكون حلاوة عفوه تزيل عنكم ما نالكم من غم القتل، والجرح.،وفوت الغنيمة، والظفر، والجزع من إشاعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قتله المشركون.
الوجه الثاني: أن معنى الآية: أنه تعالى غمّكم هذا الغم لكي تتمرنوا على نوائب الدهر، فلا يحصل لكم الحزن في المستقبل؛ لأن من اعتاد الحوادث لا تؤثّر عليه.
الوجه الثالث: أنّ (لا) صلة، وسيأتي الكلام على زيادتها بشواهده العربية إن شاء الله تعالى في الجمع بين قوله تعالى:{لا أقسم بهذا البلد} ، وقوله:{وهذا البلد الأمين} .
من الأدب النبوي
سئل العباس رضي الله عنه: أنت أكبر أم رسول الله؟
فقال: رسول الله أكبر مني وولدت قبله.
رسائل لم يحملها البريد
للشيخ عبد الرؤوف اللبدي المدرس بالجامعة
أخي الكريم المسجد الحرام:
لست أدري كيف أكتب إليك بعد بلاء حزيران، إن الأسى ليتغشاني من كل جانب، وتفيض به من حولي جبال وأودية، يتحدث الناس أنني لا أزال قائماً على وجه الأرض، آخذاً بأسباب الحياة، فيالله من هؤلاء الناس، ويالله من هذا الحديث! مئذنتي تكاد تخنقها العبرات وهي ترسل كلمات الأذان جشاء تختلج، وجنباتي الفسيحة في سبات عميق قلما تستيقظ منه على ذكر الله، ومنبري يكاد ينقض بخطيبه وهو يستمع إليه يقول، ويقول ثم لا يصدع بالحق، أما محرابي فقابع حزين يتساءل في لهفة وألم: أين القرآن الفجر المشهود!؟.
منذ آماد بعيدة وأنا أشكو إليك فقري في المصلين، وهوان الدين على الناس، وزهدهم في حضور الجماعة، بيد أني كنت أجد شيئاً من عزاء في أوقات مسماة من كل عام، كنت أحس الحياة وأذوق طعم العبادة في شهر رمضان، فالناس يأتون إليّ بقلوب خاشعة ونفوس ضارعة، وجنباتي تفيض بالمصلين كلما نادى المنادي: حي على الصلاة، حي على الصلاة، والواعظون منبثون في أرجاء الفسيحة، يشرحون آيات الله، ويحدّثون بحديث رسول الله، فتنيت إلى الله أنفس كانت ضائعة، وتبسط أيدي كانت مغلولة، وتتواصل أرحام مزقها الحسد، وتتآخى نفوس أفسد ما بينها الهوى، وتبتلّ حلوق كانت ظامئة، وتمتلئ بطون كانت تبيت على الطوى، وتريش أجنحة كانت عاجزة عن الطيران.
ثم يمضي ذلك الشهر المضيء فينساني من كان ذاكراً، وينأى بجانبه من كان حاضراً، ويلم بأرجائي صمت الموتى، وسنة النائمين كان لرمضان وحده إلها يعبد، ولبقية الأشهر آلهة لا تستحق العبادة، لا أدري كيف يفعل هذا كثير من الناس وهم يعلمون أنّ إِلَهَ رمضان هو إله كل شيء، وأن عبادة الله حق في كل زمان ومكان.
ثم تأتي أيام الحج، على فترة من الخمول والسكينة، وتأتي معها إليّ الحياة، وتستيقظ أرجائي مرة ثانية، وتميس أعمدتي إعجاباً ومخيلة، واسمح لي أيها الأخ الكريم أن أقول: إنّ سروري بهؤلاء الحجيج لا يقل عن سرورك وأنت تستقبلهم من فجاج قاصية ودانية، وأن أحناء صدري لتفيض بالحنو على هؤلاء الناس كما تفيض حناياك.
ولكن
…
ولكن
…
وماذا بعد لكن
…
!؟.
أشياء تتلجلج في الصدر، ويتمتم بها اللسان، وأستشعر الخوف أن يفضي بها القلم، أخشى ما أخشاه أن ترمي بك الظنون مراميها البعيدة، وأن يوسوس إليك الشيطان أني ألمز حجيجك وأتهمهم بالتقصير في أداء المناسك، وما أنا من هذا ولا ذاك في شيء قل أو كثر.
ما أكثر ما أسمعهم يتحدثون في أروقتي وتحت سمائي الدنيا والقاصية، يتحدثون عما لاقوه من شدة الزحام في الطواف، وشق الطريق إلى الحجر الأسود، والعراك المرير في جمرة العقبة، وكثرة الضحايا في المنحر، ما أكثر ما أسمعهم يتحدثون هذه الأحاديث فتمور الدموع في عيني وأنا أقول: يا بديع السموات والأرض! متى أسمع إلى جانب هذه الأحاديث عن أحاديث أخرى عن شدة الزحام في طريق المعركة، وعن كثرة ضحايا الأعداء وهم يولون الأدبار ثم لا ينصرون.
أخي الكريم:
كثير من الذين يحجون إليك على جهل بالكثير من أمور الدين، والمكايد التي تحيق بالمسلمين، لم لا يكون هناك توعية إسلامية بكل لغة تدخل على الحاج في خيمته إذا كان في خيمة، وتماشيه في الشارع إذا ما مشى في الشارع، وتصطاده في المسجد إذا ما أقبل على حضور الجماعة، فيعود الحجاج إلى أقوامهم مصابيح هداية، ومعالم طريق، ويعلِّمونهم ما لا يعلمون، ويصلحون بنياناً تصدعت جدرانه والقواعد.
إنه ليحزنني أن يحج إليك كثير من الناس فيعودوا كما جاءوا، نعم إنهم يعودون بثياب قشيبة للابسين، وتمور لذيذة للآكلين، وهدايا نفيسة لذوي المودة والقربى، وأحاديث عذبة شائقة عما تتمتع به من صحة بنيان، وطلاقة وجه، وأثواب سابغة من الرخام، وأروقة واسعة لساعات الزحام، ومعاملة طيبة للطائفين والساعين والركع السجود، لم لا يحملون إلى جانب هذا أفكاراً هادية، تبصر المستقبلين ما لا يبصرون، وتكشف لهم ما كانوا يجهلون، فتعمر قلوب، وتضيء صدور، ويلتئم شمل، وتتعارف شعوب تمزقت قدداً.
أخي الكريم:
ذاك زفير أزفره، ولواعج هم أنفثها، بعد أن لبست ثياب الذل والخوف، وخذلني القريب والبعيد، وأضرّ بي الأسار والقيد، ونزل بي من البلاء ما تعلم وما لا تعلم، وتوالت عليّ المصائب كقطع الليل المظلم، إنما أشكو بثي وحزني إلى الله، فالله خير ناصراً وخير أملاً.
كنت فيما مضى أجد الفرحة في أيام الجمع، إذ يؤمّني الناس من قريب وبعيد، وتسيل بالوافدين إليّ دروب وشوارع، أما اليوم فأواه! أواه لو تنفع المكروب أواه!! لقد أصبحت في أيام السبت ملعب الغيد، ومرتع الصبا والجمال، كأنما ضاقت الأرض بما رحبت على شبان اليهود وشاباتهم، فلم تتسع لهم إلا ساحتي، يتناجون فيها بالإثم، ويتساقون فيها كؤوس الهوى، ويبثون الفتنة والفسوق هنا وهناك، فيا حسرة عليّ! ويا حسرة على ما فرّط المسلمون في جنب الله!!.
لم يعد هناك معنى لوجودي فوق هذه الأرض، لقد أسستُ على التقوى، وليُذكر في اسم الله، فبيعت التقوى بالفسوق والعصيان، واشتريت الضلالة بالهدى، ولم أعد أسمع إلا ألحان شهوة، ورطانات عجمة، لم أعد أرى إلا سياحاً وسائحات، يستمتعون بالنظر إليّ، ويعجبون بتطاول الحقب عليّ، ويقلبون البصر في آياتي وزخارفي، ويأخذون الصور على أبوابي، وأمام صخرتي، ثم يخرجون بجر الحقائب بالذكريات الجميلة، دون أن تريق عيونهم قطرة من الدمع، أو تنفث صدورهم آهة من الأسى.
لا يستطيع أحد من الناس أن يتصور آلامي وأنا أرى جنود العدو يمشون ذهاباً وجيئة في كبرياء، وأسمع قهقهات الفتيان والفتيات عبثاً واستهزاء، وأحس أطرافي تنقطع عضواً فعضواً، فأصيح - من ألم ونفاد صبر -: ويحكم يا مسلمون! أين أنتم؟! وأين توليتم؟! وأين ذهبت ريحكم؟! لو كانت فيكم قلة المال لأمهلت، ولكن ضاع من صدوركم الإيمان، فهل إلى رجوع من سبيل؟.
في الفينة بعد الفينة، ومن يوم إلى يوم، أسمع دوي قنابل وأزير رصاص، فأهب من نومي مسروراً وأنا أقول: لعلها نذر الحرب وطلائع المعركة، وبشرى اليوم الموعود، ثم يمضي من الوقت ما يطول أو يقصر، وإذا بالحياة اليومية تعودسيرتها الأولى، والناس يغدون ويروحون في أمن وطمأنينة، كأن لم يكن هناك صرعى ودماء غصّت بها بقعة من الأرض، وكأنّ القوم لم تمر بهم ساعة ذعر مجنونه سلبتهم عقولهم وولت، ثم يؤوب إليّ ما كان قد غاب: فتيات تسير الفتنة على آثارهم، وفتيان يلبسون ثياب المجون والعبث، وطوائف شتى من هؤلاء الزائرين والزائرات، فأؤثر إغماض العيون على القذى، وأسلّم نفسي إلى ذهول عميق لا أفيق منه إلا على هزة جديدة.
تمر بي الليالي نابغية، لا يكاد يغمض لي فيها جفن، ولا يطمئن بجنبي مضجع، أدعوا النوم فلا يجيب، وأنشد السلوى فلا أجد إليها سبيلاً، فأقلّب بصري في السماء لعلي أجد في آفاقها العزاء، فأجد القمر قمراً منيراً يتهادى في مهرجان الليل وعرائس الزينة، ويرسل ابتساماته الفضية على الأرض، فتملأ السهل والجبل والوادي، فتهيج بي الذكريات، ذكريات ليال كنت فيها كوكباً وهاجاً مثل هذا الكوكب، وكانت في سمائي نجوم مثل هذه النجوم، ليالي احتفالات حاشدة، ومؤتمرات وافدة، ليال كانت فيها القصائد تجلجل، وكانت فيها الخطب تصلصل، ليال كان فيها وعيد يزفر زفير جهنم، وكانت فيها حماسة تشتعل اشتعال الحريق المستطير، وما أنسى لا أنسى تصفيق جماهير يدوي دوي الطائرات المقاتلة.
أيتها السماء! لقد كانت لي زينة مثل هذه الزينة، وكانت لي احتفالات مثل هذه الاحتفالات، ولكن زينتي، واحتفالاتي كانت ميناً وزوراً، وأما أنت فما أنت فيه من عند الله.
لست أبالي أن يتهدم بنياني الراسي، وأن تتناثر أحجاري المرصوصة، وأن أصبح كومة من تراب، إذا كان ذلك سبيلاً إلى صون حرمتي من الدنس، وحفظ كرامتي من الهوان، ماذا أفادتني هذه الزخارف التي أنفقت في سبيلها الأموال والسنون؟! وأي طائل نلنه من ترميمات جاد بأمواله المسلمون؟!.
أيظنني الناس دمية يتلهى بها فعليّ أن أكون جميل المنظر؟! أيراني الناس مزاراً سياحياً فيجدر بي أن أكون جذاب الرؤية؟! خابت الظنون!! وفالت الآراء! أنا إيمان يملأ القلوب قبل أن أكون بناءً يملأ الأعين، وعمارة في الصدور قبل أن أكون عمارة على الأرض، فإذا حرصت على حياة، وخفت سوء مصير فما ذلك حرصاً على حجارة قائمة، وإنما هو الخوف على الإسلام أن يلحق به الذل، وعلى الكرامة أن تدس في الرغام.
مما يحزنني أيها الأخ الكريم أن ليس لدي ذكريات حديثة أتعزى بها في هذا الفراغ الذي طال عليه الأمد، تمنيت أن يكون على جدراني وأعمدتي بقع من الدماء، أن يكون منبري قد أشرف على معركة، أن يكون بعض جوانبي قد تهدم بالقنابل، ليت شيئاً من ذلك قد كان، إذن لوجدت غذاء أطعمه في نهاري الطويل وليلي الأطول، ولكنزت بطولات أتأسى بها في هذه السنوات العجاف، ولكن واحسرتاه! لست أجد شيئاً من ذلك، فلا عجب أن أقطع العمر هذه الأيام أحرق الأرم، ويأكل بعضي بعضاً، وتغشاني من حين إلى حين لحظات يأس وظلمات خيبة، فأوثر الموت على الحياة، وأكاد أنادي سقفي أن يخر، وجدراني أن تنقض، وأعمدتي أن تتهاوى، ولكن رحمة الله قريب، تدركني فتجلو الغشاوة عن عيني، وتفتح أمامي غداً ملوءاً برجال صدقوا العزم والعهد، وأخلصوا النية والقصد، ليسوا خطباء منابر ولا فراش حفلات، فيثوب إلى عازب رأيي وأقول للنفس تأساء وتعزية: عسى الله أن يأتي بالفرج القريب.
أخوك الحزين المسجد الأقصى.
سياسة
إني أيقظت رأيي وأنمت هواي، فأدنيت السيد المطاع في قومه، ووليت المجرَّب الحازم في أمره، وقلدت الخراج الموفر لأمانته، وقسمت لكل من نفسي قسماً، أعطيه حظاً من لطيف عنايتي ونظري، وصرفت السيف إلى النطف المسيء، والثواب إلى المحسن البريء فخاف المريب صولة العقاب وتمسك المحسن بحظه من الثواب.
الحجاج بن يوسف الثقفي.
صوت التضامن
بقلم الأستاذ محمد المجذوب المدرس بالجامعة
يا تراث العزّ من خيرِ الجدودِ
وبقايا النور في هذا الوجود
قد أتيناك لتجديد العهود
وتسابقنا لتحطيم القيود
في دمنا من عبير (القادسية)
وشذى (بدر) و (حطّين) بقيّه
قد دعتنا فتخطينا المنيّة
جحفلا للحق خفاق البنود
شبّ هذا الدهر في ظل علانا
واستنار الكون قِدْماً بضيان
ولقد عُدنا ومازالت مُنانا
أن نردّ الخلق للنهج الرشيد
مثلا للحب كنا والتعاون
ثم صرنا للتجافي والتطاحن
فاستجيببي أمتي صوت التضامن
عاليا يطلقه الشعب السعودي
من رحاب الوحي في الببيت العتيق
وسنا طيبة والماضي العريق
قد طلعنا كتباشير الشروق
نتحدى بالهدى ليل الجحود
ضاقت الأرض بلغو المفسدينا
وانحرافات الهداة الجاهلينا
فانبرينا نحمل الحق المبينا
خالصا من منبع الذكر المجيد
دعوة الله رفعناها لواء
من نداها نملأ الدنيا عطاء
وسنقضي في هواها شهداء
أو تعم الأرض بالفجر الجديد
عوامل نجاح الأمم.. في الدنيا والآخرة
للشيخ عبد الله خالد قادري المدرس بمعهد الجامعة
أيها الأخ المسلم الكريم يجب أن تعلم أن نجاح أي أمة من الأمم في الدنيا والآخرة يرتكز على دعائم، باجتماعها تصل الأمة إلى ذروة من النجاح، وبانعدامها ووجود أضدادها تصل إلى التحضيض من الفشل والخسران والتخلف، وبقدر ما يوجد منها أو ينقص تكون نسبة النجاح والخسران.
ولقد اتضح لي من بعد قراءة ما كتبه بعض علماء الإسلام الأجلاء الذين فهموه على حقيقته، وبعد التأمل - قدر الاستطاعة - في أحوال الأمم رقيا وانحطاطا أنّ أركان النجاح ثلاثة:
الأول: العلم، أي الخبرة بما يحتاج إليه الجماعات والأفراد في شؤون الحياتين؛ الدنيا والآخرة.
الثاني: القوة أي قدرة الأفراد والجماعات على القيام بما يسند إليهم من أمور دينهم ودنياهم.
الثالث: الأمانة وهي أداء كل حق إلى مستحقه دون مماطلة ولا نقص سواء كان الحق لله أم لخلقه.
أهمية العلم:
لا أظنّ أحداً من الناس مطلقا يستطيع أن يجحد أهمية العلم في الجملة، وأقول في الجملة؛ لأن كل طائفة ترى أهمية أنواع من العلوم دون غيرها، كيف يجحد أحد أهمية العلم والنفوس مفطورة على الإطلاع، ومعرفة الجديد؟ وقد أشاد الإسلام بالعلم في نصوص الكتاب والسنة، بل كل الأديان السماوية السابقة أبدت اهتمامها بالعلم والعلماء.
وهذا آدم أبو البشر يخبرنا الله تعالى أنه علمه الأسماء كلها، وأنّ فضله ظهر للملائكة في علمه بما جهلوا.
وهذه أول سورة يكون محمد صلى الله عليه وسلم نبيا بنزولها، يذكر الله فيها امتنانه على خلقه بالعلم حيث يقول:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} .
فامتن الله تعالى على الإنسان بنعمة تعليمه، بعد امتنانه عليه بنعمة خلقه، كما أشار تعالى في سورة الرحمن إلى أهمية تعليم الإنسان علم الدين، حيث قدمه على نعمة الخلق فقال:{الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإنْسَانَ} .
ونفى الله تعالى عن طريق الاستفهام الإنكاري أن يستوي العالم والجاهل فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} .
وخص الله تعالى العلماء بخشيته فقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} .
وجعل بعض صغار مخلوقاته يتمدح أمام بعض أنبيائه بما حصل عليه من العلم الجغرافي والسياسي والديني، ألا وهو الهدهد الذي توعّده سليمان بالعذاب وبالذبح، عندما غاب ولم يجده بين الطير المسخرة لها، إلا أن يأتيه بحجة مقنعة بسبب غيابه قال تعالى:{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ، لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ} إلى قوله: {لَا يَهْتِدُونَ} .
بل فرّق بين نوع واحد من أنواع الحيوان بسبب العلم وعدمه، فجعل للمعلّم حكما نفاه عما عداه؛ فأجاز سبحانه أكل صيد الكلب المدرب على الاصطياد وحرّم أكل صيد الكلب الذي لم يدرب فقال:{يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} .
والتنويه بشأن العلم والعلماء في الكتاب والسنة لا يحصره المتتبع، والسبب في ذلك أن المتصف بالعلم يأتي بعمله متقنا لا خلل فيه؛ لأنه يدخل في العمل وهو يعرف السبيل التي يجب سلوكها للوصول إلى المطلوب، والطرق التي يجب اجتنابها ليأمن الخطأ المحظور.
وإليك أيها القارئ الكريم مثالا محسوسا لأهمية العلم، وفائدته، وخطورة الجهل، ومضرته، يدلك هذا المثال على غيره من الأمثلة محسوسة كانت أو معقولة:
دخل شخصان ماءاً يظنان أنه قريب القعر ليغتسلا فيه فوجداه عميقا لا يجوزه إلا من يجيد السباحة، وكان أحدهما سبَّاحاً، والآخر لا يعرف عن السباحة شيئا، فلما غمرهما الماء أخذ المتعلم يسبح حتى نجا من الغرق، وأخذ الآخر يصعد ويهبط، حتى لفظ أنفاسه وهو ينظر إلى شاطئ الماء فما الفرق بين الرجلين؟
إنه العلم نجا به الأول، وهلك بعدمه الثاني.
أهمية القوة:
وأهمية القوة واضحة؛ لأنّ القوي يقدر على فعل مراده بدون عجز ولا تقصير، بخلاف الضعيف العاجز، ولهذا كانت درجة القوي هي السابقة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: "المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير} .
وإذا كان المسؤول عن أمر ما قادراً على تنفيد مراده، ولاينفذه وهو يعلم أن في تنفيده ذلك مصلحة خالصة، أو راجحة في نفس الأمر، فقد أنزل نفسه - مختارا - منزلا غير لائق بها، وذلك من العيب الذي لا يرضاه العقلاء لأنفسهم قال الشاعر:
ولم أر في عيوب الناس شيئا كنقص القادرين على التمام
وتأمّل كيف يتمنى أحد أنبياء الله أن يكون قادرا الانتصار لدعوته حيث يقول: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} .
أهمية الأمانة:
للأمانة أهميتها العظمى؛ لأن فاقدها لا يؤتمن على أي حق من الحقوق سواء كان من حقوق الله أو من حقوق عباده، وما من حق يمكن تأديته إلى مستحقه كما ينبغي إلا بالأمانة.
فتوحيد الله في عبادته وربوبيته وأسمائه وصفاته أمانة من قام به كما يريد الله منه فقد أدى الأمانة، ومن أخلّ به بأن أشرك بالله في ألوهيته أو ربوبيته أو ألحد في أسمائه وصفاته بأي نوع من أنواع الإلحاد فقد خان الأمانة.
وأوامر الله كلها أمانة، من قام بها كما طلب الله منه فقد أدى الأمانة، ومن أخل بها أو ببعضها وهو قادر على عدم الإخلال فقد خان الأمانة، وما نهى الله عنه من المحرمات أمانة، من ترك ذلك فقد أدى الأمانة، ومن ارتكب شيئا من ذلك فقد خان الأمانة.
والقضاء بين الناس بالعدل أمانة، من حكم بالعدل على القريب والبعيد فقد أدى الأمانة، ومن جار في حكمه لأي سبب من الأسباب فقد خان الأمانة.
والإمارة أمانة من قام بحقوقها دون ميل وحيف فقد أدى الأمانة، ومن داهن في إمارته فقد خان الأمانة.
والقيادة العسكرية الحربية أمانة، من أعطاها حقها دون غش لجنده وإمامه وأهل بلده على ما يرضي الله فقد أدى الأمانة، ومن غشّ فيها فقد خان الأمانة.
وبالجملة فالأمانة هي التكاليف المطلوبة شرعا من العبد سلبا أو إيجابا، فيدخل في ذلك كل مسئول في أي مسئولية، ومن ذلك الإذاعة والصحافة والإدارات على اختلاف أنواعها.
من أجل ذلك كان لهذه الصفة حظها العظيم في نصوص الوحيين وغيرهما من الكتب السابقة وإليك بعضا من ذلك:
1 – يوسف عليه السلام عندما علم أنه ذو مكانة وائتمان عند ملك مصر ورأى أن المسئولين عن أموال الدولة لا يحسنون تصريفها، انتدب نفسه للإشراف عليها، وطلب من الملك أن يسند إليه السلطة المالية؛ معللا ذلك الطلب بأنه متصف بالصفات المطلوبة لتلك الوظيفة وهي: الأمانة والحفظ والخبرة، كما قال تعالى:{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ، قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} .
2-
وابنة الرجل الصالح - شيخ مدين الذي يقال إنه شعيب - تطلب من أبيها أن يستأجر موسى عليه السلام لرعاية أغنامه؛ معللة ذلك الطلب بصفتين عظيمتين: الأولى القوة، والثانية: الأمانة كما قال تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} .
3-
ونوح عليه السلام يمدح نفسه بالأمانة لقومه في سياق إخبارهم بأنه رسول من ربه، كما قال تعالى:{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} .
4-
وهود عليه السلام كذلك يقول عنه الله: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} .
5-
وصالح عليه السلام يقول الله عنه: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} .
6-
ولوط عليه السلام يقول الله عنه: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} .
7-
وشعيب عليه السلام يقول الله عنه: {كَذَّبَ أَصْحَابُ لأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} .
وقد أمر الله عباده عن طريق الإخبار المؤكد بأداء كل الأمانات إلى مستحقيها كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} .
وذكر تعالى أن الأجرام العظيمة السماوية والأرضية التي لا يعد الإنسان إلا ذرة من ذراتها تبرَّأْنَ من حمل الأمانة؛ لما أودعه الله فيها من معرفة ثقل الأمانة، وعدم القدرة على القيام بها كما ينبغي، وأن الإنسان وحده هو الذي أعلن تحمله المسؤولية وعبأها الثقيل كما قال تعالى:{إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} .
وقسم الله أهل الكتاب قسمين: قسم ممدوح بسبب أداء ما أؤتمن عليه ولو كان ثمينا مغريا، وقسم مذموم بسبب خيانته ما أؤتمن عليه ولوكان قليلا، كما قال تعالى:{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} .
وهذه أمثلة قرآنية تصور أهمية الأمانة في جميع الأديان السماوية، وأما السنة النبوية فهي مفعمة بالحث على أدائها، والنهي عن الخيانة، وذم الخائن، ومدح الأمين، فقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم تضييع الأمانة من علامات الساعة، وما أكثر الخونة في هذا العصر كما قال صلى الله عليه وسلم:"إذا ضيِّعت الأمانة فانتظر الساعة"، قيل: يا رسول الله وما إضاعتها؟ قال: "إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة" أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة.
وقال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر في شأن الإمارة -: "إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدّى الذي عليه فيها"، وجعل صلى الله عليه وسلم من أبرز صفات المنافقين الخيانة، التي هي ضد الأمانة، قال صلى الله عليه وسلم:"أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر" متفق عليه.
ومن الأحاديث الجامعة لكل تلك الصفات: العلم، والقوة، والأمانة، وغيرها من الصفات الحميدة قوله صلى الله عليه وسلم:"المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإنّ لو تفتح عمل الشيطان"، فديننا دين الحرص، وبذل الجهد في تحصيل النافع للجماعات والأفراد في الدنيا والآخرة، لا كما يزعمه أعداؤه - الصرحاء والمنافقون – من أنه دين خمول وتأخر، وتاريخ العصور الإسلامية - المتمسك أهلها بالإسلام - شاهد بذلك، وإذا كان المنتسبون الآن إلى الإسلام متأخرين في مجال الدنيا والحياة والآخرة بسبب ضعف إيمانهم، فالذنب ذنبهم، وما للإسلام من ذنب، وما على أعداء الإسلام إلا أن يدرسوا الإسلام في مصدريه: كتاب الله وفي سنة رسوله الصحيحة، عقيدة وحكماً، وسياسة داخلية، وخارجية، واقتصادا، وسلما، وحربا، متجردين عن التعصب الذي أعماهم عن الحق ليعرفوا الإسلام من حيث هو إسلام عمل به أهله أم تركوه، ليعرفوا أنه كما قال الله:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} .
واجب المسلمين نحو هذه الصفات:
أخي المسلم الغيور لقد عرفت مما مضى أهمية هذه الصفات الثلاث - القوة والأمانة والعلم والأمانة - والعلم بالشيء لا يفيد إلا إذا طبق عمليا، فالواجب على كل مسؤول أن يختار الوظائف والأعمال التي له التصرف فيها من يعلم أنه اكثر اتصافا من غيره بهذه الصفات، كل واحد يعطي ما يناسبه من الوظائف في الإمارة والقضاء والإدارة والقيادة والتعليم والصحافة والإذاعة والكتابة والخدمة والحراسة وغيرها من الوظائف الكبيرة والصغيرة.
وإنني لأدعوك أن تقف معي قليلا متأملا موقف تلك المرأة الصالحة من رعاية غنمها حيث تشترط لتلك الرعاية هاتين الصفتين العظيمتين: القوة والأمانة {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} ، لقد أدركت أن رعاية الغنم يجب أن تتوفر في صاحبها القوة ليستطيع بها القيام بواجب الأغنام، والأمانة ليؤدي عمله على خير ما يرام، وليحفظ مال مستأجره، ولا يفرط فيه. إنها لحكيمة تدعوا إلى الحكمة التي هي وضع الأمور في مواضعها، وإسناد الأمور إلى مستحقيها، وإذا كان هذا الاهتمام بالنسبة لرعاية الأغنام فما بالك برعاية البشر، أليست أهم بكثير من رعاية الأغنام؟.
ومن أجل ذلك جاء النص النبوي الشامل، محمّلا كل فرد مسئوليته، ولم يدع مجالا لإمام أو وزير أو زوجة أو ابن أو خادم بأن يخون في مسئوليته، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم:"كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالإمام راع ومسئول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها والولد راع في مال أبيه وهو مسئول عن رعيته، والعبد راع في مال سيده وهو مسئول عن رعيته، ألا كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته" متفق عليه، فالناس كلهم أمام هذا النص النبوي - الذي هو من جوامع الكلم - كلهم رعا ة، وكلهم مرعيون، وكلهم محمل مسئولية رعيته، فليتق الله كل مسئول فيما ولاه الله، وليعمل قدر استطاعته لصالح رعيته؛ لئلا يموت وهو غاش لهم فيستحق وعيد الله، الذي أجراه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم حيث يقول:"ما من راع يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه رائحة الجنة" رواه مسلم.
كيف ينجو الراعي؟:
تتلخص سبيل سلامة الراعي في أمرين:
الأول: أن يؤدي كل حق إلى مستحقه، وينصر كل مظلوم على ظالمه - ولو كان هو الظالم - في الأمور التي يباشرها بنفسه.
الثاني: أن يختار لكل وظيفة من يستحقها من رعينه، دون مجاملة لأحد قريبا كان أو بعيدا، بل ينظر إلى أحسن رجل يتوسم فيه القيام بالواجب في تلك الوظيفة، ويسندها إليه، فإن حصل تقصير ممن ولاه بعد ذلك فلا إثم عليه، بل هو مأجور؛ لأنه بذل جهده في الاختيار، سواء كبرت الولاية أم صغرت، وكل موظف في تلك الولاية يجب عليه ما وجب على الوالي العام، فمن قام بذلك فقد سلك سبيل النجاة، وبقدر توفيقه في الاختيار يكون نجاح عمله وثمرته في الدنيا والآخرة، ومن عكس فحابى القريب لقرابته، والصاحب لصحبته، وهو غير كفء أو كفاءته ناقصة، وترك من هو خير منه فقد سلك طرق الهلاك، وبقدر اختياره السيئ يكون فشل عمله، فالأول فائز في الدارين، والثاني خسر فيهما.
مواقف المسئولين من تطبيق هذه الصفات عمليا ونتائجها:
أخي المسلم إنك إذا ألقيت نظرة على موقف المسئول الأول عن هذه الأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدته رسم منهجا واضحا كاملا لأمته في تطبيق هذه الصفات، باختيار الأكثر إنصافا بها للوظيفة المراد إسنادها، في السلم والحرب، والسفر والحضر، والإمارة، والقضاء، والصلاة، والجباية، وغيرها، وكتب السير والجهاد شاهدة بذلك في متناول يد كل قارئ، وفي إمكانك الرجوع إليها في الصحيحين وغيرهما من كتب السنة.
وتبعه على ذلك خلفاؤه الراشدون رضي الله عنهم، كل واحد منهم على قدر استطاعته، وبما أداه إليه اجتهاده، وكانت الأمور في عصرهم على خير ما يرام، وكان المسلمون سادة الدنيا وحكامها وقتا غير قليل بعدهم بسبب نهجهم الذي سلكوه، وإن كانت هناك بعض فوارق بين الخليفتين الأوليين أبي بكر وعمر رضي الله عنه، وعهد الخليفتين بعدهما، يعرف ذلك من اطلع على تاريخهم جميعا رضي الله عنهم وأرضاهم.
ثم جاء بعد الخلفاء من مال عن جادتهم بعض الميل، فأسندت بعض الأمور إلى غير أهلها، وترك من هو أهل لذلك تبعا للأهواء والأغراض، وتتابعت عل ذلك الأجيال، كل جيل يفوق من قبله في الفساد وسوء الاختيار، إلا من رحم الله، وهم قليل، فكانت النتائج وخيمة، والأحوال مضطربة، والفشل حليفا لأغلب الأمم الإسلامية يكثر ويقل في كل أمة بقدر كثرة الغش وقلته، وأصبح المسلمون أتباعا بعد أن كانوا متبوعين، أذلاء بعد أن كانوا أعزاء، فقراء بعد أن كانوا أغنياء؛ والسبب في ذلك كله إسناد الأمور إلى غير أهلها.
نصيحة:
أيها المسلمون إني أدعوكم جميعا إلى مراقبة الله الذي يعلم ما تسرون وما تعلنون، بأن تسندوا كل وظيفة كبرت أم صغرت إلى من يستحقها، ولو كنتم غير راضين عنه لأغراض شخصية، ولا تولوا من لا يستحق الولاية ولو كان أقرب قريب، فإن الله تعالى يقول:{وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ، ويقول:{الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ} ، فقرابة القريب وصداقة الصديق الذين تحابونه لقرابته أو صداقته لا تنفعكم شيئا، بل قد تكون سببا لفشلكم في الدنيا، وعذابكم في الآخرة، والآجال النافع الباقي خير من العاجل الضار الفاني. وليعلم كل مسئول ولى من لا يستحق الولاية وهو يعرف أن غيره أحق منه أنه خائن لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولعباده، وأنّ حبه لشهوات نفسه تغلب على حبه لله ولرسوله، فإن اختيار الأصلح اللاحق من محبوبات الله ورسوله، واختيار الأسوأ مما يبغضه الله ورسوله، وتارك الأول قد ترك ما يحب الله، ومختار الثاني قد اختار ما يبغض الله، وهذا يدل على خبث النية، وسوء القصد، نسأل العافية.
وليكن الختام بهذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .
كل شعب قام يبني نهضة
وأرى بنيانكم منقسما
في قديم الدهر كنتم أمة
لهف نفسي كيف صرتم أمما
كل من أنكر ذاتيته
فهو أولى الناس طرا بالفناء
لن يرى في الدهر قوميته
كل من قلد عيش الغرباء
إقبال
عودة قائد
لسعادة الدكتور محمد ناصر
قد يعود قائد رافع الرأس.. مكللا بالنجاح والنصر.. حاملا نتائج جهاده المتواصل..
وقد يعود قائد من المعركة رافع الرأس.. ولكن قيدا حديديا قد زين يديه.. لينزج في مجاهل السجون ومعسكرات التعذيب.. ومع ذلك.. فإن قصة جهاده ستكون قدوة مقتادة، وتربة خصبة في أرض الجهاد.. للمجاهدين القادمين بعده..
وقد يعود قائد.. ولكن لا يعود إلا اسمه.. أما جسده فقد تركه في أرض الجهاد.. وفي الوقت ذاته فإن روحه حية خالدة.. توقظ روح الأمة جيلا بعد جيل.. وتلهم القادة الناشئين في ميدان الجهاد بعده.
وقد يعود قائد رافع اليدين حاسر الرأس.. متذللا مستسلما لعدو يعادي الله ورسوله
…
فقد عاد جسمه.. ولا بد يوما أن يلاقي ربه
…
فروحه قد أماتت روح جهاد الأمة آمادا بعيدة
…
ولربما يبدل الله بها أمة غيرها
…
أمة خير من سابقتها..
وأين من قائد سفينته معاكسا لاتجاه الرياح والأمواج، ولكنه أبى أن يتنحنح ويتزعزع ويعود من حيث أتى
…
فإنه هو القائد بمعنى الكلمة.
ولم يعد القائد..
كتبها وهو في غابة على رأس حركة ثورية ضد الشيوعية والدكتاتورية أغسطس سنة 1961م.
ترجمة محمد تجاني جوهري
الإدارة العامة في الإسلام
إبراهيم مبارك الأعظمي بكالوريوس في الإدارة العامة جامعة بغداد
المدخل:
قبل البدء في الدخول في صلب الموضوع أودّ أن أُبيِّن شيئا مبسطّاً عن الأوضاع الإدارية السائدة وحالة المسلمين بالنسبة إلى الإسلام العظيم الصحيح الكامل أولاًّ والإدارة العامة ثانيا.
فممّا لاشك فيه أنّ المسلمين اليوم وفي جميع أقطار العالم بصورة عامة قد جهلوا الإسلام العظيم، وانحرفوا عن طريقه الواضح الجلي؛ طريق الكتاب الكريم والسنة النبوية الشريفة؛ وسبب ذلك الحرب العدوانية التقليدية النشيطة على الإسلام الحق وأهله من قبل الأعداء بمختلف منظماتهم العلنية والسرية الفردية والجماعية مع جميع مغرياتهم ومكانتهم التعبوية المتنوعة التخطيط [1] التي تكيد للإسلام والمسلمين بعد أن غفل أهله عنه، ومالوا إلى غيره من المبادئ والنظم، مما سبب إلى ضعفهم وتأخرهم واستهانة عدوهم بهم.
وقد أعلم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك الأمم تداعى عليكم كما تدعى الأكلة إلى قصعتها"،فقال قائل:"ومن قلة نحن يومئذ؟ "قال: "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنّكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنّ الله من صدور عدوِّكم المهابة منكم، وليقذفنّ في قلوبكم الوهن"،قال قائل:"يا رسول الله وما الوهن؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت" [2] .
ومما يتصل بهذا أيضا قول الله تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاً وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ.. لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاً وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} التوبة: 8-10، فصفة الاعتداء أصيلة قديمة فيهم قدم التاريخ البشرى، تبدأ من نقطة كرههم للإيمان ذاته وصدودهم عنه، وتنتهي بالوقوف في وجهه، وتربصهم بالمؤمنين، وعدم مراعاتهم لعهد معهم ولا صلة، إذا هم ظهروا عليهم، وأمنوا بأسهم وقوتهم. وعندئذ يفعلون بهم الأفاعيل غير مراعين لعهد قائم ولا متحرجين، ولا متذممين من منكر يأتونه معهم..وهم آمنون.. إنّ المسلمين يواجهون أعداء متربصين بهم، ولا يقعد هؤلاء الأعداء عن الفتك بالمسلمين بلا شفقة ولا رحمة إلا عجزهم عن ذلك.. ووراء هذا التقرير تاريخ طويل.. [3]
وحقيقة المعركة الطويلة الأمد لم تكن بين الإسلام والشرك بقدر ما كانت بين المسلمين وأهل الكتاب من اليهود والنصارى، وما الحروب الصليبية سابقا والحروب في فلسطين حاليا ببعيدة عنا. وفي الأرض اليوم أنظمة ومناهج وأوضاع من صنع العبيد، لا يأمن فيها من خالفها من البشر على نفسه، ولا على ماله، ولا على عرضه، ولا على حرمة واحد من حرمات الإنسان، ثم يقف ناس يرون هذا في واقع البشر وهم يتمتعون ويجمجمون لدفع الاتهام الكاذب عن منهج الله بتشويه هذا المنهج وإحالته إلى محاولة هازلة قوامها الكلام في وجه السيف والمدفع في هذا الزمان، وفي كل زمان وعلى رأس كل وضع من هذه الأوضاع تقوم الأجهزة الإدارية لتؤدي دورها وفعلها المهم بكل نشاط، لذلك فإن وضع المسلمين اليوم وحالتهم مما هم عليه من التخلف والتأخر ونزع المهابة من صدور الأعداء وغير ذلك من وسائل الضعف بالرغم من وجود الثروات الطبيعية والخيرات النافعة النامية في بلادهم كل ذلك سببه يعود إلى فساد الأنظمة التي بدلوها بالإسلام العظيم الصالح وقيمه، إذ هي التي خسرتهم، وحالت دون تقدمهم وازدهارهم، بل وإن شئت فقل إن هذه الأنظمة المستوردة الفاسدة هي التي وقفت بهم هذه الوقفة الجامدة المتحجرة، وقيدتهم بقيود استمداد الإيحاءات ممن اشتروها، وهم بطبيعة الحال أعداء، والعدو لا يرحم عدوه، بالإضافة إلى نقص في العقلية والتفكير؛ لأنهم بشر وهيهات وهيهات أن يرو التقدم والازدهار مالم يأخذوا بنظام الإسلام الأوحد. وهذه المشاكل العالمية الكبرى لأكبر دليل شاهد على ما نقول بالنسبة للعالم بصورة عامة، والبلاد الإسلامية خاصة، إذ ليس الإسلام العظيم أراد بهم هذا، بل إن المسلمين أنفسهم ضعفوا وتخلفوا وتقلصوا عندما تركوا مصدر عزهم ونصرهم الأساسي المتين الجبار وهو الإسلام العظيم قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا
مُهْتَدِينَ} (البقرة: 7)[4] .
تنبيه:
وتأييدا لما ذكرنا فقد صرح أحد تلاميذ المستشرقين وممن يدعى كذبا من أبناء الإسلام قال: "إنّ جميع الذين درسوا الإسلام عن طريق البحث العلمي الغربي هم بلا استثناء تلاميذ المستشرقين وخدمهم، فعليهم أن يجددوا فهم الإسلام كما تعلّموه من الغرب، لا كما جاء من الله والرسول".
وقد ذكر اللورد كرومر قائلا: "إنّ بريطانيا عزمت أن لا تمنح استقلالا، ولا تعطي الحرية لأي مستعمرة من مستعمراتها مالم تُربِّي جيلاً من أبناء تلك المستعمرة ليقوموا بخدمتها"[5] .
ولقد كانت هذه الكلمة حقيقة واقعة مشاهدة إلى الآن، هذه التي ذكرها كورمر إذ أنجبت بالفعل جيلا وفيّاً لخدمة بريطانيا، ومنهم نماذج كثيرة، وللقراء الكرام نموذجا على ذلك وهو الشيخ.. صاحب كتاب:(الإسلام وأصول الحكم)، وقد جاء فيه ما يلي:"إنه من الملاحظ البيِّن في تاريخ الحركة العلمية عند المسلمين أنّ حظ العلوم السياسية فيهم كان بالنسبة لغيرها من العلوم الأخرى أسوأ حظا، وأنّ وجودها بينهم كان أضعف وجودا، فلسنا نعرف لهم مؤلفا في السياسة، ولا مترجما، ولا نعرف لهم بحثا في أنظمة الحكم، ولا أصول السياسة، اللهم إلاّ قليلا لا يقام له وزناً إزاء حركتهم العلمية في غير السياسة من الفنون"، ثم يضيف إلى ذلك قوله:"فما لهم قد وقفوا حيارى أمام ذلك العلم، وارتدوا دون مباحثه خاسرين؟ مالهم أهملوا النظر في كتاب الجمهورية لأفلاطون، وكتاب السياسة لأرسطو، وهم الذين بلغ من إعجابهم بأرسطو أن لقّبوه بالمعلم الأول؟ مالهم رضوا أن يتركوا المسلمين في جهالة مطبقة بمبادئ السياسة، وأنواع الحكومات عند اليونان، وهم الذين ارتضوا أن ينهجوا بالمسلمين مناهج السريان في علم النحو، وأن يروِّضوهم برياضة بيدبا الهندي في كتاب كليلة ودمنة، بل رضوا أن يمزجوا لهم علوم دينهم بما في فلسفة اليونان من خير وشر، وإيمان وكفر؟ "[6] .
عظمة الإسلام:
والعجب العجاب والعظمة البالغة من الإكبار والاحترام لقوة الإسلام العظيم الرهيبة، والمؤيد بالقوة العلمية الخارقة؛ إذ أنّ الله تعالى - وهو أحكم الحاكمين حقا - يؤيِّد هذا الدين بالرجل الفاجر قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر"[7] .
فقد برهنت الوقائع المتناهية والأدلة الثابتة بصدق ما ذكرنا آنفا، إذ وقف بوجه هذا الشيخ.. ومن دار بفلكه رجل نصراني من أتباع الصليب يرده بعنف، ويفنّد مزاعمه وأباطيله ويجهله بنفس المؤلف هو الأستاذ بطرس بطرس غالي، وهذا ما يكفيه خزيا، وردّه هذا يقع في عشرين صفحة من 171-191، وفي فصل كامل ونحن لا نستطيع أن نسطِّر هذا التفنيد كله لافتراءات الشيخ.. على الإسلام وجهله به إلا أننا نقتبس منه بعض الشيء ليستنير القارئ المسلم الكريم والباحث المنصف بعظمة الإسلام وقوته الحركية المولدة الدافعة نحو التقدم والازدهار، وهذه حقيقة عظمة الإسلام في كل زمان ومكان، (والفضل ما شهدت له الأعداء)، قال الدكتور بطرس بطرس غالي: "وآراء الأستاذ.. في رأينا تنطوي على كثير من المبالغة؛ فقد أثبتت الدراسات التي قام بها العلماء أخيراً، أنّ هناك مفكّرين سياسيين في الإسلام لا يقلون شأنا عن المفكرين السياسيين في الأمم الأخرى فهناك عشرات [8] من العلماء ألّفوا في علم السياسة ممن سنعرض لبعضهم بالإيجاز ولبعضهم بشيء من التفصيل:
4-
بعض رجال الفكر السياسي الإسلامي:
1-
ومن هؤلاء المؤلفين (أبو بكر الطرطوشي) من رجال القرن الثاني عشر وكان تلميذ لابن حزم، من أكبر علماء الأندلس في إشبيلية، ثم رحل إلى المشرق، ودرس في بغداد، وله كتاب في علم السياسة اسمه (سراج الملوك) قدمه للوزير المأمون بفسطاط.. وهو يتناول فيه نصائح للملوك ويحلّل صفات الولاة، والقضاة، والعلاقة بين الحاكم الأعلى ورعيته ونظام الدولة، وصفات الوزراء، والجلساء، والشروط الواجب توافرها في حاشية السلطان، وعلاقة السلطان ببيت المال وموظفيه، وكيف يعامل أهل الذمة ونحو ذلك. وقد ذكره ابن خلدون في مقدمته وأثنى عليه.
2-
ومنهم عبد الرحمن بن عبد الله كان معاصرا للسلطان صلاح الدين الأيوبي، وألف له كتابا أسماه (المنهج المسلوك في سياسة الملوك) .
3-
ومنهم ابن حماتي المصري كان قبطيا ثم أسلم، وله كتاب (قوانين الدواوين) وثانيهم كتاب (الفاشوش في أحكام قراقوش) عرف باسم قراقوش وهو وزير صلاح الدين الأيوبي.
4-
ومنهم عثمان بن إبراهيم النابلسي الذي كان يشرف على الدواوين المصرية في القرن الثالث عشر، وألّف كتابا اسمه (لمع القوانين المضيئة) .
هؤلاء وكثير غيرهم من المذكورين في مؤلف الدكتور بطرس وغيرهم من الذين نعرفهم نحن من أعلام الإسلام القدامى والمعاصرين لفيه الكفاية على افتراءات وجهل الشيخ مما دعا الدكتور يقول أيضا: "هذه مما تبيح لنا أن نعدهم من قادت الفكر السياسي، إلا أن كتبهم تدل على أنّ الأستاذ [9] قد بالغ في قوله: إن الحركة العلمية عند المسلمين لم يكن للعلوم السياسية حظ فيها". ثم يستطرد الدكتور بطرس في ردّه على أكاذيب وجهل الشيخ.. "وهناك مؤلفون آخرون لا نتجاوز الحق إذا عددناهم من قادة الفكر السياسي في العالم، وسنعرض لبعضهم بشيء من التفصيل"نذكر هنا الأسماء فقط:
أولا: أبوا النصر الفارابي (870-950م) .
ثانيا: ابن أبي الربيع (القرن التاسع الميلادي) .
ثالثا: أبو حامد الغزالي (1058 – 1902 م) .
رابعا: ابن خلدون (1332 – 1406 م) .
خامسا: عبد الرحمن الكواكبي (1848 –1902 م) . [10]
وناهيك عن ذكر العلم الفذ الذكي البارع المجاهد العلامة شيخ الإسلام ابن تيمية (661- 278هـ ، 1262- 1328م) ، وتلميذه النجيب ابن قيم الجوزية، ثم الشيخ الورع العالم المجاهد وقائد النهضة الإسلامية ومحارب البدع والضلال الشيخ محمد بن عبد الوهاب السعودي، ولد في (1115- 1206 م) ،وله من العمر 92عاماً. ومؤلفاتهم في السياسة والإدارة وفي جميع المجالات ومقاومتهم ووقوفهم بصلابة في وجه الأعداء.
5-
قاعدة:
عندما ينحرف أو يتخلى عن الإسلام أهله فإنّ الله تعالى يهيئ من أعدائه أناسا ليدافعوا عنه سواء شعروا أم لم يشعروا، وهذا سر من أسرار بقائه وديمومته، كما هيأ الدكتور بطرس للرد على افتراء وجهل الشيخ.. والأدلة على هذا كثيرة قال الله عز وجل:{وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} الأنعام 129. وقال في تأييده للرسول صلى الله عليه وسلم يوم الهجرة: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} التوبة:40
6-
الإدارة العامة والسياسة:
وبما أنّ الإدارة العامة تعد تارة فرعا مهما من فروع العلوم السياسية [11] ، وتارة تعد السياسة فرعا منها، وتارة تعتبر الإدارة العامة علما وفنا مستقلا قائما بذاته [12] ، وإن كان هذا العلم لشديد الصلة مع غيره من العلوم، وهذا هو ما سنقوم بتبيانه وشرحه وتوضيحه لمن يجهل بالإسلام العظيم من تلاميذ المستشرقين الحاقدين، وغيرهم ممن يخبط فيه خبط عشواء لم تصب. والمسلمون اليوم أحوج ما يكونون إلى معرفة حقائق الإسلام العظيم في جميع المجالات، وبالأخص في هذا الزمان بالذات الذي تكالب الأعداء عليهم من جميع الجهات وتزيّن لهم الأنظمة البشرية الفاسدة بدعايتها المسمومة، وليعلموا أن لا ملجأ لهم ولا عاصم من غارات الأعداء الهمجية الوحشية إلا الإسلام العظيم، وأنه لا يحقق لهم العدالة والحرية والمساواة في بلادهم إلا الإسلام بكليته وتمامه، لذا فمن أوجب الواجبات عليّ أن أبيّن ما خفي على المسلمين من التعريف بالإسلام العظيم عامة، والإدارة العامة فيه خاصة، وكيف تناولها بأسلوبه السلس الرصين، وتشكيلاته وتنظيماته السليمة الرشيدة، لا كما عرفته البيروقراطية [13] الضالة العاجزة التي تعج وتعصف بمشكلاتها المستعصية دون حل إلا اللهم الظلم والاستبداد، والرجوع بالإنسان إلى الوحشية وسيادة الغاب في التعامل الوظيفي، وهذا هو الفساد والدمار.
7-
الإدارة العامة:
فالإدارة العامة الناجحة لأكبر دليل عل تقدم البلاد وازدهارها، والرديئة لأكبر دليل عل تأخر البلاد وتخلّفها، وهي المحرّر الوحيد الذي يعرف بها مقياس درجة الارتفاع والانخفاض بالنسبة للتقدم والتخلف؛ ولأنها تهتم بالتنظيم والتخطيط والتنسيق والقيادة والعلاقات الإنسانية مع مراعاة التوازن بين المادة والقيم، لذلك كان إعادة النظر دائما في الإصلاح الإداري بالنسبة للأمم المتمدنة والشعوب الراقية أمر لابد منه بين فترة وفترة أخرى معينة ومحدودة ومستمرة وفق قواعد مرسومة ثابتة.
8-
الشذرة:
وشذرة كل ما تقدم أن الإسلام العظيم نظام كامل شامل للحية الطيبة السعيدة، له أعداء كثر قديما وحديثا، لذا فمن المفروض عليّ أن أبيِّن حقائق الإسلام في علم وفن (الإدارة العامة) ، وإني لأرجو أن قد وفقت لما قلت، وما سأقوله عن الإدارة العامة سابقا ولاحقا، والله تعالى أسأل أن يجمع كلمتنا على الإسلام وحده فقط.
- انتهى المدخل -
للبحث صلة
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
إذا المسلم الغيور يرغب بالمزيد للتوسع عليه أن يدرس كتاب (أسرار الماسونية) للجنرال المسلم التركي جواد رفعت آتلخان ترجمة الأستاذ نور الدين الواعظ. وكتابا (هل نحن مسلمون) صفحة 132وما بعدها، ومقدمة (شبهات حول الإسلام) تأليف الأستاذ محمد قطب.
[2]
رواه أبو داود والبيهقي في دلائل النبوة، خرّج هذا الحديث من كتاب (مشكاة المصابيح) بهذا اللفظ الجزء الثاني تحقيق الالباني، وقال عنه: حديث صحيح.
[3]
مقتطفات من كتاب ظلال القرآن لسيد قطب (المجلد الرابع) تفسير سورة التوبة.
[4]
عن مقال باللغة الإنجلزية للسيدة (مريم جميلة) من مجلة المسلم الصادرة من قبل الطلبة المسلمين في لندن.
[5]
من كتاب (المؤامرة الصهيونية والعالم الإسلامي) باللغة الإنجليزية للفاروقي.
[6]
المدخل في علم السياسة ص 171 في 28/10/1967 حررنا مقالا بعنوان (الإسلام علاجنا) نشر في جريدة (الرافدان) البغدادية لو رجع الشيخ.. إليه بالتأكيد فسينبذ كل ما يستوحيه من أسياده.
[7]
السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية للشيخ تقي الدين ابن تيمية ص14.
[8]
يذكر الدكتور بطرس بأنه هناك العشرات من العلماء ألّفوا في علم السياسة، وهذا طبعا لاطلاعه المحدود، ولكن علماء المسلمين الذين ألّفوا في علم السياسة هم مئات بل الألوف، ونحن على استعداد بأن نقدم الإحصائية إن أراد الدكتور؛ لأن الحكم جزء مهم من الإسلام والحرية فريضة من فرائضه.
[9]
إنيّ لم أذكر اسم الشيخ لأعرفه للقراء، ولكن من يريد اسمه يرجع إلى الكتاب الذي ذكرناه سلفا.
[10]
المدخل إلى علم السياسة للدكتور بطرس مع الاشتراك تشاهد التفصيل من صفح ة 1 7 1 إلى 191 في المبحث الرابع.
[11]
العلوم السياسية ترجمة مهيبة مالكي الدسوقي 192.
[12]
دراسة في الإدارة العامة دوايت والدو صفحة 22 وما بعدها.
[13]
تعني البيروقراطية: التبذير والفساد وعدم التقيد، ولكن المفهوم الفني لهذا اللفظ هو (حكومة المكتب) أو (الإدارة عن طريق المكاتب) راجع كتاب (البيروقراطية والمجتمع في مصر) صفحة 1 تأليف مورو بيرجر ترجمة وتقديم الدكتور محمد توفيق رمزي.
متى
عبد العزيز القارئ
(متى؟) إنها علامة استفهام كبيرة؟ قد يمليها الواقع من حولك؟ الواقع البعيد البعيد عما تريده وتحلم به، ويخيل إليك أنه لا يزال يتباعد حلمك عنك حتى تتحول هذه العلامة إلى علامة يأس.
يا بدرُ فاسمع ما حوى صدري
بحر المنى سلَّّمتُهُ أمري
سارت بلُجَّته مراكبُنا
الشوقُ يدفعها ولا تدري
لما رأت في الأُفْقِ مُنْيَتَها
كالآل يُشرِقُ في دجى القفر
وتنازعتها الريح في صلَفٍ
لكنها طارت بلا صبر
حتى إذا طالت مسيرتها
ومضى بها دهرٌ إلى دهر
والأفق يضحك من تشوُفِها
متماديا في البعد والهجر
ضاعت بذلك الليل وُجهتَها
وتخبطت في مَهْمهٍ مرِّ وتلفتت
وتلفتَتْ تبغي سلامتها
وقيادُها في قبضة السحر
لكنها أعْيَت وفارقها
ماكان تعهده من الصبر
حتّام هذا الموج يحملنا
أتراه يصحبنا إلى الحش
وإلام هذا الشوق نحمله
ونزيده جمرا على جمر
الشوق زاد تأجُّجاً ولظىً
هل مُزنةٌ تُرويه بالقطر
والأفْقُ ذاك متى سندركه
والبدر، هل ندنو من البدر؟
والليل طال أليس بارقةٌ
فيه أما للّيل من فَجرِ؟
عبد العزيز القارئ
من أخبار الجامعة
تقرير إداري عن سير الدراسة في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة يقدم إلى المجلس الأعلى الاستشاري للجامعة الإسلامية في دورته الخامسة.
نحمد الله تعالى ونشكره ونصلي ونسلم على خير خلقه وخاتم أنبيائه محمد وعلى آله وصحبه.
وبعد: أصحاب السماحة والفضيلة ورئيس وأعضاء المجلس الأعلى الاستشاري للجامعة الإسلامية: إنه ليسرّنا أن نقدم إليكم تقريرنا الخامس عن سير الدراسة في الجامعة الإسلامية، وتنفيذ نظامها والسعي إلى تحقيق أهدافها، إنفاذاً لما جاء في المادة (11) من نظام الجامعة الإسلامية الصادر بالمرسوم الملكي الكريم رقم م/18 وتاريخ 18/5/86هـ وقبل ذلك نود أن نقدم شكرنا وتقديرنا لحضراتكم على ما تجشمتموه من عناء السفر وما تحملتموه من وعثائه لكي تلبوا دعوة الجامعة الإسلامية وتشاركوا في هذا الاجتماع لتساهموا من طريقه بالعمل على مساعدة الجامعة الإسلامية لبلوغ أهدافها النبيلة، وغاياتها الدينية السامية، ونسأل الله تعالى أن يجزل لكم المثوبة، ويجزيكم على ذلك أفضل جزاء وأعظمه. وإننا إذ نرفع إليكم هذا التقرير نرجو أن تتكرموا مشكورين بدراسته وإبداء آرائكم وملاحظاتكم القيمة على ما جاء فيه.
لقد عقد مجلسكم الموقر دورته السابقة وهي الدور الرابعة له خلال شهر شعبان من عام 1386هـ الموافق لشهر تشرين الثاني (نوفمبر) 1966م.
وقد كان نظام المجلس الذي كان قائما إلى ما قبل ذلك التاريخ بقليل قد حدد انعقاد دورات المجلس مرة كل عام، ولكن صدر نظام الجامعة الجديد معدلا للنظام السابق، فنص في المادة (16) منه على أن يكون انعقاد المجلس الاستشاري بناء على دعوة من رئيسه أوبناء على يقدم من ثلث أعضائه.
وذلك بناء على ما اقترحته مجلسكم الموقر عند صياغة مشروع ذلك النظام.
ونظرا لوجود بعض المواضيع التي تتطلب الاستنارة بآرائكم، والاستفادة من علمكم وخبرتكم، فقد رأت رئاسة الجامعة توجيه الدعوة لحضرتكم إلى عقد الدورة الخامسة للمجلس الاستشاري للجامعة في هذا الاجتماع المبارك. وأهم ما نقدمه إلى مجلسكم في هذه الدورة موضوعان:
· أولهما: موضوع إنشاء قسم للتخصص في الجامعة، والبحث في مشروع نظامه، وأوراقه مرفقة بهذا تحت عنوان ملحق رقم واحد (1) .
وقد رأت رئاسة الجامعة أن الحاجة تدعو إلى إنشاء هذا القسم تمشيا مع ما جاء في المادة رقم (23) من نظام الجامعة؛ ولأنه قد تخرج حتى الآن من القسم الجامعي أربعة أفواج، ويوشك الفوج الخامس على التخرج إن شاء الله.
ولا شك أن إيجاد التخصص في دراسة الشريعة الإسلامية في هذه الجامعة المباركة لطلبتها الذين ينتسبون من الناحية الرسمية الدولية إلى دول متعددة وبلاد متباعدة، فرصة ينبغي أن تنتهز، بل هدف جليل ينبغي أن يتحقق لذلك تعرض رئاسة الجامعة على حضراتكم مشروع نظام التخصص المذكور الذي أعده مجلس الجامعة بغية إبداء الرأي فيه.
· ثانيهما: مشروع إنشاء كلية ثالثة في الجامعة باسم (كلية اللغة العربية) تعني بتسهيل دراسة علوم اللغة العربية وآدابها لأبناء المسلمين في هذه الجامعة، ونشفع لحضراتكم بهذا صورة قرار مجلس الجامعة بهذا الصدد تحت عنوان ملحق رقم (2) .
وبعد فإننا نجمل بعض ما حققت الجامعة من تقدم، وما قطعت من مراحل خلال الفترة الواقعة بين انعقاد الدورة الرابعة لمجلسكم الموقر وانعقاد هذه الدورة.
لقد سارت الدراسة في الجامعة سيراً حسناً ولله الحمد، وقد زاد عدد المدرسيين زيادة تتناسب مع زيادة الطلاب، وكان كل شهر يمر يزيد المدرسين والعاملين في الجامعة خبرة في التعليم الجامعي على خبرتهم وتجارب نافعة إلى تجاربهم.
وقد كانت الجامعة تعاني نقصا في السنوات السابقة لبعض الوقت من تأخر العام الدراسي بسبب عدم وصول بعض المدرسين المتعاقدين في الوقت المحدد لعودتهم لأمور خارجة عن إرادتهم، مثل مسائل جوزات السفر، وسمات الدخول، أما الآن فقد أمكن تلاقي ذلك وأصبحت الدراسة تبدأ من الوقت المحدد لبدئها دراسة متكاملة.
كما أن المقررات الدراسية أصبحت متوفرة بأيدي الطلبة أول العام الدراسي.
وقد قام نفر من أصحاب الفضيلة أعضاء هيئة التدريس بالجامعة بتكليف من رئاسة الجامعة بتأليف كتب ومذكرات لبعض المواد التي لم يقرر لها كتاب معين، وقامت الجامعة بطبع بعض الكتب المذكورة وبعضها طبعته على الآلة الناسخة.
كما أنه قد تم الآن معادلة الشهادات الصادرة من عدد كبير من المعاهد والمدارس الإسلامية في الخارج من قبل لجنة المعادلات المختصة في المملكة، وبذلك تم قبول عدد من الطلاب من خريجي المعاهد والمدارس الإسلامية المذكورة ووضعهم بالكان اللائق بهم بطريقة ميسرة.
وشيء آخر له أهمية قد تم منذ سنتين: وهو الإشراف الاجتماعي على الطلبة، فقد عينت الجامعة أحد أساتذتها الأفاضل في وظيفة المشرف الاجتماعي وشملت اختصاصاته كل ما يتعلق بأمور الطلبة بعد انتهاء الدوام الرسمي مثل الإشراف على قضاء أوقاتهم وذلك بتنظيم اجتماعات التعارف، والتمرين على الخطابة، وما أشبه ذلك إلى جانب حل مشاكل الطلاب التي قد تعرض لهم. وقد استمرت الجامعة في سيرها إلى أهدافها النبيلة وتحقيق الغرض السامي الذي أنشئت من أجله، وذلك بتوفيق الله سبحانه وتعالى ثم بدعم من جلالة الملك المعظم فيصل بن عبد العزيز - رعاه الله - وحكومته السنية، حتى وصلت الآن إلى ما ترونه بأعينكم وتلمسونه بأيديكم، ويكفي للتدليل عليه أن نعقد بعض المقارنات السريعة بين ما كانت عليه الجامعة في أول إنشائها وبين ما أصبحت عليه الآن:
· أ- كان عدد طلابها عند انتهاء السنة الأولى 255 طالبا ينتمون إلى 27 جنسية وقد أصبح عدد طلابها الآن 963 طالبا ينتمون إلى 72 جنسية هي:
1 -
المملكة العربية السعودية
2 -
اليمن
3 -
الجنوب العربي
4 -
بيحان
5 -
حضر موت
6 -
إريتريا
7 -
الحبشة
8 -
الصومال
9 -
كينيا
10-
غيانا (أمريكا الجنوبية)
11-
قطر
12-
البحرين
13-
العراق
14-
سوريا
15-
لبنان
16-
الأردن
17-
فلسطين
18-
السودان
19-
مصر
20-
ليبيا
21-
تونس
22-
الجزائر
23-
غانا
24-
نيجيريا
25-
عمان
26-
النيجير
27-
موريتانيا
28-
تركيا
29-
إيران
30-
أفغانستان
31-
الباكستان
32-
الهند
33-
الفلبين
34-
أندونيسيا
35-
تايلند
36-
مالي
37-
ماليزيا
38-
السنغال
39-
سيلان
40-
بورما
41-
تركستان
42-
جنوب إفريقيا
43-
أستراليا
44-
ألمانيا
45-
الكنغو
46-
توجو
47-
محلديب
48-
جزائر القمر
49-
غينيا
50-
فولتا العليا
51-
نيبال
52-
اليونان
53-
تشاد
54-
ساحل العاج
55-
الولايات المتحدة الإمريكية
56-
مدغشقر
57-
فرنسا
58-
مورشوس
59-
ليبيريا
60-
اليابان
61-
روديسيا
62-
سنغفورة
64-
رأس الخيمة
65-
زنجبار
66-
بورندي
67-
أوغندة
68-
الصين
69-
البرتغال
70-
داهومي
71-
سيراليون
72-
الكمرون.
هذا بالإضافة إلى طلاب مدرسة دار الحديث التابعة للجامعة والذين يبلغ عددهم 312) طالبا وبذلك يبلغ مجموع عدد الطلاب المنضمين تحت لواء الجامعة الإسلامية (1275) طالبا لا تزيد نسبة السعوديين فيهم على 20% ويضاف إلى ذلك (120) طالبا يدرسون في معهد التضامن الإسلامي الثانوي في مقديشوالذي تشرف عليه الجامعة الإسلامية.
· ب- كانت موازنة الجامعة 3 ملايين ريال وأصبحت الآن أكثر من 9 ملايين ريال.
· ج- كان عدد الكتب في مكتبة الجامعة (870) كتابا أصبحت الآن سبعة عشر ألفا وثلاثمائة وخمسين كتابا تزيد باستمرار.
· د- كانت في الجامعة كلية واحدة ومعهد ثانوي، واليوم يوجد فيها كليتان ومعهد للدراسة المتوسطة وشعبة لتعليم اللغة العربية لغير العرب، هذا بالإضافة إلى دار الحديث بالمدينة المنورة ومعهد التضامن الإسلامي مقديشو.
· هـ- كان عدد غرف الجامعة 87 غرفة وأصبح عددها الآن 266 غرفة.
· و كان عدد المنح التي وزعت على العالم الإسلامي عام انعقاد الدورة الرابعة للمجلس 117منحة وفي هذا العام الدراسي اعتمدت الحكومة السعودية مشكورة 280 منحة.
· ز- كان عدد المدرسين فيها 26 مدرسا هذا بالإضافة إلى عدد من وظائف التدريس المعتمد في الجامعة والتي لم يتم ملؤها حتى الآن.
كانت مباني الجامعة في الساب لا تفي بمتطلبات الجامعة المتجددة فأصبحت الآن ولله الحمد على ما تشاهدونه من حسن البناء ومتانته واتساعه حتى أن مباني المكتبة العامة وقاعة المحضرات وكلية الشريعة تعد الآن مضرب المثل في جمال التصميم وقوته وكمال ملاءمته لأغراض التعليم، وأصبحت الأنموذج لمباني التعليم الإسلامي في طول العالم الإسلامي وعرضه.
ولا ينقصها إلا تشجيرها تشجيرا كاملا بسبب وقوعها في منطقة ليس فيها مياه جوفية، ولكن حكومة صاحب الجلالة الملك فيصل المعظم حفظه الله قد رصدت مبلغ (ربع مليون ريال) لتمويل لمرحلة الأولى من مشروع مد أنابيب المياه إلى الجامعة من مسافة 9 كيلومترات.
ونرجوأن يتم ذلك في المستقبل القريب وحينئذ يتم تشجيرها ويكمل جمالها بحول الله وقوته. وقد تمت مباني الجامعة القائمة الآن بالفعل على مراحل ثلاث، كان آخرها المشروع رقم (3) الذي بلغت تكاليفه (خمسة ملايين ومائتين وأربعة عشر ريالا)، ويتكون مما يلي:
أ- مستودعات كبيرة واسعة للجامعة.
ب- قاعة واسعة للمحاضرات تشتمل على مدرج يحتوي على (1157) كرسيا عدى الساحات الإضافية وغرف للمحاضرين والمنصة الواسعة لهم وغرف المترجمين.
ج- مبنى المكتبة العامة للجامعة ويشتمل على غرف وخزائن الكتب وقاعات المطالعة وغرف الإدارة وقدرت المكتبة بأنها تتسع لنصف مليون كتاب.
د - مبنى رئاسة الجامعة يشتمل على مكتب الرئيس ومكتب الأمين العام ومكاتب لكبار موظفي الأقسام في الجامعة.
هـ- مبنى كلية الشريعة وهوأحدث طراز في فن المعمار ويشتمل على قاعات للمحاضرات وفصول واسعة للدراسة يبلغ مجموع اتساعها حوالي 1700 طالبا بالإضافة إلى أقسام إدارة الكلية والباحات والحدائق التي يقضي فيها الطلبة أوقاتهم في أثناء الفسح.
أما المباني التي تم إنجازها واستلمتها إدارة الجامعة قبل عامين وتعتبر المرحلة الثانية فبيانها كالتالي:
أ - مبنى لكلية الدعوة وأصول الدين يشتمل على اثنتي عشرة قاعة للمحاضرات عدى الإدارة ومكتبة الكلية.. الخ.
ب - فصول للمعهد الثانوي.
ت - ثلاث وحدات سكنية للطلبة تتكون كل وحدة منها من (22) غرفة إلى جانب قاعة واسعة للاستقبالات والمرافق اللازمة.
ث - مطعم فسيح للطلاب.
ج - حظائر لسيارات الجامعة ومباني للورشة الخاصة بإصلاحها.
وليس هذا فحسب بل إن الجامعة وضعت مخططا عاما لمشروعاتها العمرانية خلال عشرين عاما تقدر تكاليفه (بخمسين مليوناً من الريالات السعودية) . ويأخذ بعين الاعتبار نموالجامعة في المستقبل وما يمكن أن يزاد فيها من كليات وما يلحق بها من معاهد ويشتمل على ما يلي:
أ - مسجد جامع كبير.
ب - مبنى معهد الدراسة المتوسطة.
ت - مبنى المعهد الثانوي.
ث - مبنى مجلة الجامعة ومطابعها المزمع إنشائها في المستقبل.
ج - مبنى قسم التخصص.
ح - مبنى قسم الدعوة والبحوث الإسلامية.
خ - مهاجع للطلبة عددها (8) يتسع كل منها لأربعمائة طالب.
د - مبنى المطعم المركزي، ويضم أربع قاعات كبيرة
ذ - مبنى مستشفى يتسع لمائة سرير مع العيادات المختلفة وأماكن الكشف اللازمة.
ر - مبان سكنية إفرادية للموظفين الذين تقضي طبيعة عملهم السكنى في الجامعة.
ز - مبان سكنية صغيرة للمراقبين والفراشين الذين يسكنون في الجامعة.
س - ملاعب عامة مكشوفة لكرة القدم وميادين للمسابقة وحمام للسباحة.
ش - ملاعب مغطاة لألعاب القوى.
وكان المشروع رقم (3) الذي أوضحناه سابقا هوالمرحلة الأولى منه.
أما المرحلة الثانية فهي بناء مهاجع للطلبة، انتهت مصلحة الأشغال العامة - مشكورة- من إعداد التصاميم والدراسات العامة لها وتكلف مع خزانات المياه العلوية والسفلية حوالي (ستة ملاين ريال) .
ولا حاجة التذكير حضراتكم أنه لولا الله سبحانه وتعالى ثم العناية الفاقة التي يوليها جلالة الملك المعظم فيصل بن عبد العزيز حفظه الله وحكومته الموقرة وأنها لم تبخل على الجامعة الإسلامية أن تقوم بما قامت به وكان أبرز مثال على ذلك أن مشروع مباني الجامعة الذي يوشك على الانتهاء والذي تبلغ تكاليفه حتى الآن (خمسة ملايين ومائتي ألف ريال) صادف الظروف التي صاحبت إعداد ميزانية الدولة السعودية في عام 1387هـ، ومنها تأثير الحرب الناتجة عن العدوان اليهودي وانخفاض الواردات الرئيسية للملكة، وما تحمله ميزانية المملكة من معونة الدعم العربي الذي تقرر في المؤتمر الخرطوم فلم تكن هذه الأمور على وجاهتها سببا لتأجيل أو نقص المبالغ المالية المخصصة لمشاريع الجامعة الإسلامية.
شعبة اللغة العربية:
كان مما ارتأه مجلسكم الموقر في دورته الثالثة إنشاء شعبة لتعليم اللغة العربية لغير العرب، وقد تمّ بالفعل تنفيذ ذلك فأنشئت شعبة لتدريس اللغة العربية، مدة الدراسة فيها سنة واحدة، إن لم ينجح فيها الطالب درس سنة أخرى. وقد رأت رئاسة الجامعة أن يكون القبول فيها مقتصرا على البلاد التي لا يوجد فيها تعليم اللغة العربية والعلوم الدينية مثل جنوب كوريا واليابان والولايات المتحدة الإمريكية. وقد تخرج من الشعبة المذكورة عدد من الطلبة من بينهم طلاب من النمسا وأمريكا الجنوبية وجنوب إفريقية وروديسيا واليونان والصين وليبيريا وجزائر ومحلديب.
المكتبات:
غنى عن القول أن نشير إلى أن المكتبة في الكليات والمعاهد العلمية النظرية هي بمثابة المعمل للكليات والمعاهد العلمية، بل إن من الأقوال الشائعة أن أركان الدراسة في الجامعة هي ثلاثة: أستاذ، وطالب، وكتاب، ولذلك حرصت رئاسة الجامعة على أن تدعم المكتبة العامة أوالمركزية - كما يعبر بعضهم - وتوسعها بحيث تضم كتبا في جميع فروع المعرفة.
وإلى جانب ذلك قامت رئاسة الجامعة بإنشاء مكتبات فرعية لكل كلية ومعهد تابع لها.
وقد تم إنشاء مكتبة لكلية الشريعة للمعهد الثانوي ،كما يجري العمل في إنشاء مكتبة لكلية الدعوة وأصول الدين، هذا إلى جانب مكتبة دار الحديث التي تقوم الجامعة في الوقت الحاضر بتزويدها بنسخ من الكتب التي تزود بها المكتبات الأخرى.
الطلاب المتخرجون:
لقد تخرج في الجامعة بعد انعقاد مجلسكم الموقر فوجان من الطلاب الجامعيين نرفق بهذا بيانا بإعدادهم وجنسياتهم تحت عنوان ملحق رقم (3) ، وبذلك يبلغ مجموع عدد الطلاب الجامعين المتخرجين (286) من الطلاب، كما أنّ المعهد الثانوي التابع للجامعة قد تخرج منه أيضا فوجان حصلوا على شهادة إتمام الدراسة الثانوية، ومعظمهم فضلوا الاستمرار في الدراسة إلى إكمال المرحلة الجامعية. وقد أوضحنا عددهم وبيان جنسياتهم في قائمة مرفقة بهذا تحت عنوان ملحق رقم (4) . وجميع الطلاب الذين أتموا دراستهم في الجامعة أخذوا أماكنهم في الوظائف الدينية وفي الدعوة الإسلامية ما بين قاض ومفت ومدرّس وداعية ومرشد إلى الله، وقد تعاقدت دار الإفتاء في المملكة العربية السعودية مع طائفة منهم للعمل في الدعوة والإرشاد وتوجيه المسلمين في أقطار إفريقية شرقها وغربها وجنوبها ووسطها حتى بلغ عدد الأقطار التي وجه إليها الدعاة المذكورون أكثر من عشرين قطرا، وأنه لمما يبشر بالخير أن صلتهم بالجامعة الإسلامية لا تزال تتجدد كل حين، فهم يبعثون إليها بالتقارير عن أعمالهم ويلتمسون منها ما قد يحتاجون إليه مما يزيدهم مضيا في عملهم ونشاطا في أداء مهمتهم، والجامعة لا تألو جهدا في إمدادهم بما يعينهم على مهمتهم.
الرعاية الصحية لطلبة الجامعة:
إن توسيع الجامعة لم يقتصر على ميدان التعليم بل شمل الميادين الأخرى.
فقد تم توسيع مستوصف الجامعة فدعم بزيادة طبيبين، باشر أحدهما العمل قبل سنة، ويجري العمل على التعاقد مع الآخر ، هذا من جانب تزويده بمختبرات التحليل وغرف الأشعة وتوسيع صيدليته.
وكل الخدمات الصحية تؤدى بالمجان للطلبة ة الأساتذة والموظفين وغيرهم ممن لهم صلة بالجامعة، وذلك إلى جانب الوسائل الأخرى التي توفرها الجامعة لطلبتها مثل: صرف تذاكر استقدامهم على حسابها، وترحيلهم على حسابهم - أيضا - بعد التخرج، وفي أثناء الدراسة تدفع لهم مكافآت مالية شهرية قدرها (300) ريال لكل طالب يدرس في القسم الجامعي، و (250) ريال لكل طالب يدرس فيما دون القسم الجامعي.
هذا بالإضافة إلى توفير المساكن الصحية المزودة بالماء والكهرباء والأثاث اللازم بالمجان، كما ننقلهم سياراتها بعد صلاة العصر يوميا إلى المدينة لأداء الصلوات في المسجد النبوي وتعود بهم إلى الجامعة بعد العشاء. وأيضا توفر لهم الكتب الدراسية الكبيرة بالمجان.
مجلة الجامعة:
كان مما أوصى مجلسكم الموقر بالسعي إلى تحقيق إصدار مجلة قوية للجامعة، وإن تكون الخطوة الأولى لذلك. وإصدار مجلة للطلبة تتبعها مجلة الجامعة.
توزيع الكتب والنشرات:
لقد توسعت الجامعة في العامين الآخرين في توزيع المصاحف الكريمة وتفسيرها باللغة الإنجليزية، وتوزيع الكتب والنشرات الإسلامية في خارج المملكة مما تصدره الجامعة ومما تشتري من المؤلفين الآخرين. وقد أحدثت مكتبا خاصا لهذا الغرض وهو يعمل جادا في هذا الأمر. كما تقوم بمبادلة الجامعات والكليات الأخرى بمطبوعاتها ومنشوراتها، وبخاصة المحضرات التي يلقيها أساتذتها في المواسم الثقافية التي تقيمها ومجلة الجامعة.
بعثات الجامعة:
استمرت الجامعة في إرسال البعثات إلى بلاد الإسلامية النائية وبخاصة قارة إفريقية؛ وذلك للاطّلاع على أحوال المسلمين، والتعرف على أوضاعهم، وتكوين فكرة واضحة عن مشاكلهم، ولاختيار بعض الطلبة الذين يلتحقون بالجامعة من البلاد الإفريقية البعيدة عن الجامعة والتي لا يتوفر فيها التعليم الإسلامي. ولمساعدة الهيئات الإسلامية ماديا ومعنويا. وهذا بيان بالبعثات التي أوفدتها الجامعة حتى الآن.
أ - في عام 1384هـ بعثة مكونة من ثلاث أشخاص برئاسة الأمين العام للجامعة.
ب - في عام 1385هـ بعثة مكونة من ثلاثة مشائخ برئاسة فضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي كبير المدرسين في الجامعة.
ت - في عام 1386هـ بعثتان، إحداهما إلى غرب إفريقيا، والأخرى إلى شرقها ووسطها لاختيار الطلبة.
ث - في عام 1387هـ بعثت الجامعة مدرّسين، أحدهما إلى معهد التضامن الإسلامي في مقديشو والأخر إلى أقطار شمالي إفريقية.
ج - هـ في عام 1388هـ بعثة واحدة إلى جامعة أهل الحديث المركزية في بنارس بالهند.
ح - في مطلع عام 1389هـ بعثة مكونة من أستاذين للتدريس في جامعة أهل الحديث بالهند لمدة سنة دراسية قابلة للتجديد.
وقد كانت البعثات السابقة تعود إلى الجامعة بتقارير ومعلومات مفصلة عن أحوال المسلمين هناك.
معهد التضامن الإسلامي في مقديشو:
حسب الإرشادات السامية التي تفضل بإصدارها جلالة الملك المعظم فيصل بن عبد العزيز - حفظه الله - فقد أسست المملكة العربية السعودية في مدينة مقديشو عاصمة الصومال معهدا إسلاميا ثانويا باسم: معهد التضامن الإسلامي. تشرف رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة عليه من الناحية الإدارية والمالية، وتشرف الجامعة الإسلامية عليه من ناحية المناهج وتعيين المدرسين. وقد انتدبت الجامعة أحد مدرسيها لإدارته كما تعين للتدريس فيه بعض خريجيها.
هذا ما أحببنا بسطه لحضراتكم في هذا التقرير تاركين إيضاح بعض الأشياء لأننا أوضحناها لكم في تقارير سابقة.
وإننا في الختام لنكرر شكرنا لحضراتكم ونسأل الله تعالى أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويزيد جلالة الملك فيصل - حفظه الله - توفيقا إلى خدمة الإسلام والمسلمين، وأن يجمع كلمة المسلمين على طاعته، ويوفق قادتهم إلى ما يحبه ويرضاه إنه سميع قريب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
رئيس مجلس الجامعة الإسلامية
· غادر المدينة كل من فضيلة الشيخ عمر محمد مساعد الأمين العام للجامعة وفضيلة الشيخ عبد المحسن العباد المدرس بالجامعة متوجهين إلى كل من الأردن وسوريا ومصر وذلك للتعاقد مع مدرسين للعمل في كليات الجامعة.
· انتقلت أقسام الإدارة بالجامعة إلى المباني الجديدة التي تم استلامها مؤخرا من شركة بخيت للمقاولات. والجدير بالذكر أن هذه المباني أقيمت على أحدث طراز.
· تتلقى إدارة التعليم بالجامعة سيلا من طلبات الالتحاق وقد تجاوز عددها الألفين من أكثر من ستين دولة.
· قامت الجامعة بتزويد المكتبات التي أنشأتها وزارة الصحة في بعض مستشفيات المملكة بكمية من الكتب، وقد تلقت خطاب شكر على ذلك من الوزارة. كما قامت بتزويد المركز الصيفي بالمدينة التابع لوزارة المعارف بكميات أخرى.
من الأخبار العالمية:
عقد في مدينة (آخن) بألمانيا الغربية مؤتمر ضم ممثلين عن عدد من المنظمات الطلابية الإسلامية في (أندونيسيا والباكستان والكويت والسودان وأوربا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة وكندا)، وتمخض المؤتمر عن تكوين (الاتحاد العالمي الإسلامي للمنظمات الطلابية) .. وانتخب المؤتمرون أعضاء الأمانة العامة للإتحاد كما يلي:
- أحمد توتونجي أمينا عاما.
- نور خالص مجيد أمينا عاما مساعدا.
- مصطفى محمد أمينا للشؤون المالية.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً} . (الفرقان/46،45) .
ندوة الطلبة
لمحات تاريخية من حياة ابن تيمية
بقلم:صالح بن سعيد بن هلابي
هذه لمحات خاطفة ونظرات عابرة عن حياة إمام جليل وعبقري حكيم أقام الدنيا وأقعدها في عهده بالعلم والفكر والجهاد طول حياته، وأحيا تراثا عظيما للأمة الإسلامية كاد أن يذهب وينطمس بين الفلسفة وحذلقة علم الكلام، وبين الشعوذة والفرق الباطنية القتالة.
في هذه اللمحات العابرة نحاول أن نضع أيدينا على مفتاح هذه الشخصية العظيمة وكنه حقيقتها وبعض خصائصها وجهادها العظيم المتواصل ضد أعداء الإسلام بكل أصنافهم وأشكالهم..
نشأته وطلبه للعلم:
ولد ابن تيمية بحران من أعمال أورفه في تركيا سنة 661 هـ وهاجر أبواه به وبإخوانه إلى دمشق تخلصا وفرارا من ظلم التتار، وقد لاقوا في هجرتهم متاعب ومصاعب كثيرة لولا عناية الله عز وجل أن وصّلهم بالسلامة. وصل بن تيمية إلى دمشق وهو طفل صغير وكان والده من كبار علماء الحنابلة، فسارع إلى حفظ القرآن الكريم وطلب العلوم الشرعية على اختلاف أنواعها من كبار الشيوخ والمحدثين الذين أدهشهم بقوة ذهنه وفرط ذكائه، ولم يكد يبلغ من العمر بضعة عشر عاما حتى أتقن معظم فنون الشريعة، وحاز قصب السبق فيها، قرأ مسند الإمام أحمد بن حنبل مرات عديدة، وسمع الكتب الستة الكبار، ومن مسموعاته:(معجم الطبراني الكبير) . وأفتى وله من العمر بضعة عشر عاما. ولم يكتف بالفنون الإسلامية بل تعدى إلى غيرها من الفنون التي كانت سائدة في ذلك العصر، فدرس الفلسفة وعلم الكلام وتعمق فيهما وردّ على أصحابها، والديانات المسيحية واليهودية وكتب فيها كتبا عظيمة، ومن أروع كتبه في المسيحية كتابه العظيم:(الجواب الصحيح على من بدل دين المسيح) في أربع مجلدات الذي نقض فيه عقائد المسيحية من أساسها، هذه العقلية الجبارة التي أوتيت هذا الذكاء الخارق كان ورائها سر عظيم وهي مراقبة الله في السر والعلانية، والوقوف عند حدوده مع الجد والنشاط والرغبة المخلصة في طلب العلم وإظهاره للأمة على حقيقته.
وهذا ما يعبر عنه ابن تيمية عن بنفسه بقوله: "إنه ليقف خاطري في المسألة أو الشيء أو الحالة التي تشكل عليّ فأستغفر الله تعالى ألف مرة أو أكثر أو أقل حتى ينشرح الصدر، وينحل إشكال ما أشكل، وقد أكون إذ ذاك في السوق أو المسجد أو المدرسة لا يمنعني ذلك من الذكر والاستغفار إلى أن أنال مطلوبي".
وهكذا أمضى ابن تيمية حياته في طلبه للعلم حتى أصبح من كبار العلماء يشار إليه بالبنان.
ثناء العلماء عليه:
كان موضع الإعجاب والإجلال من المنصفين وبمن اجتمع بهم، ويشهد له كبار علماء عصره بالعلم والفضل والجهاد.
قال المحدث ابن دقيق العيد - حين رآه واجتمع به وقد كان حجة عصره في الحديث - قال: "رأيت رجلا جميع العلوم كلها بين عينيه يأخذ منها ما يريد ويدع مما يريد".
وقال الحافظ أبوالحجاج يوسف المزي المتوفى سنة 742 هـ: "ما رأيت مثله ولا رأى هو مثل نفسه، وما رأيت أحداً أعلم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أتبع لهما منه".
وقال الحافظ كمال الدين الزملكاني - قاضي قضاة الشافعية المتوفى بالقاهرة سنة 727هـ-: "كان ابن تيمية إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه لايعرف غير ذلك الفن وحكم أن أحدا لا يعرف مثله، وكان من سائر الطوائف إذا جلسوا معه استفادوا من مذاهبهم منه ما لم يكونوا عرفوه قبل ذلك، ولا يعرف أنه ناظر أحدا فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم سواء أكان من علوم الشرع أم غيرها إلا فاق فيه أهله والمنسوبين إليه، وكانت له اليد الطولى في حسن التصنيف وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتبيين، وقد ألان الله له العلوم كما ألان لداود الحديد"إلى أن قال فيه:
وصفاته جلت عن الحصر
ماذا يقول الواصفون له
هو بيننا أعجوبة الدهر
هو حجة الله قاهرة
أنوارها أَرْبَتْ على الفجر [1]
هو آية في الخلق ظاهرة
وقال فيه شيخ النحاة أبوحيان حين اجتمع به:
داع إلى الله فرد ماله وزر
لما أتانا تقي الدين لاح لنا
خير البرية نور دونه القمر
على محياه من سيما الآل صحبوا
بحر تقاذف من أمواجه الدرر
حبر تسربل منه دهرنا جسرا
مقام سيد تيم إذ عصت مضر
قام ابن تيمية في نصر شرعتنا
وأخمد الشر إذ طارت له شرر
وأظهر إذ أثاره درست
أنت الإمام الذي قد كان ينتظر
كم ذا تحدث عن حبر يجيء فها
وقد أثنى عليه معظم أهل عصره أعظم الثناء والذين ظهر لهم الحق على يديه وحسبنا ما ذكرنا، ولولا ضيق المجال لطال بنا الكلام، ومن أراد التوسع والوقوف على ترجمة هذا الإمام الجليل المجدد العظيم فعليه أن يقف على بعض من ترجم له من معاصريه مثل ابن الوردي في تاريخه، وابن كثير في تاريخه (البداية والنهاية) ، وابن الألوسي في (جلاء العينين) ، وابن رجب في (طبقاته) ، ومحمد بن شاكر الكتبي في (فوات الوافيات) ، وابن العماد الحنبلي في (شذرات الذهب) ، والحافظ الذهبي في كتبه العديدة التي أفاض فيها عن حياته وجهاده والذي وصف مصنفاته بأنها بلغت إلى خمسمائة مجلد.
دراسات عن ابن تيمية:
وفي القرن الأخير ظهرت دراسات مستقلة وكتب مستفيضة عن هذا الإمام الجليل، بعضها تتناول نواحي معينة من حياته، وبعضها تلم جميع حياته وسيرته وآرائه الفقهية وفتاويه، وممن كتب على سبيل المثال لا الحصر:
- العلامة الشيخ رشيد رضا.
- الشيخ طاهر الجزائري.
- الشيخ منير الدمشقي.
- الشيخ حامد الفقي.
- الشيخ محب الدين الخطيب.
- الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة.
- الشيخ محمد نصيف.
- الشيخ عبد الصمد شرف الدين.
- الشيخ سليمان الصنيع.
- الشيخ محمد أبوزهرة.
- الشيخ عبد العزيز الراعي.
- الشيخ محمد خليل هراس.
- الشيخ محمد بهجة البيطار.
- الشيخ عبد المالك بن إبراهيم.
- الأستاذ الدكتور علي سامي النشار.
- الدكتور محمد يوسف موسى.
- الأستاذ محمود مهدي الإستانبول.
وحتى المستشرفين قد اعتنوا به عناية كبيرة وفي مقدمتهم المستشرق الفرنسي (هنري لاوست) الذي خصه بعناية كبيرة، والذي جعل آرائه السياسية والاجتماعية موضوعاً لإحدى الرسالتين اللتين حصل بهما على الدكتوراه من باريس، كما ترجم بعض مؤلفاته إلى اللغة الفرنسية مع دراسة وتقديم لها، كما تحصل على الدكتوراه من جامعة كمبردج بإنجلترا الدكتور محمد رشاد سالم برسالته التي كان بعنوان (موافقة العقل للنقل عند ابن تيمية) ، وقد سافر الدكتور رشاد سالم إلى هولندا وفرنسا وألمانيا وإنجلترا والهند واطلع على ما أمكنه الإطلاع عليه من مخطوطات ابن تيمية هناك، وصوّر كثيرا من هذه المخطوطات، ولقي عناءا كبيرا في رحلاته وبحوثه هذه، كما مكث مدة طويلة في دمشق نقل كثيرا من مخطوطات ابن تيمية، وهو عازم على نشر تراث ابن تيمية إن مد الله في أجله وأعانه على مهمته أن يقف جزءا كبيرا من جهده على نشر هذه المؤلفات بعد تحقيقيها وإخراجها في أحسن صورة، وتكون مقسّمة على ثلاثة أقسام - حسب تقسيمه -:
o القسم الأول: مؤلفات ابن تيمية وهو المخصص لنشر كل ما ألفه، وهو ينقسم إلى فرعين:
- الأول: لنشر الكتب الكبيرة.
- والثاني: لنشر الرسائل والقواعد المختلفة.
o القسم الثاني: تراجم ابن تيمية ويحاول في هذا القسم نشر كل ما كتب عن سيرة شيخ الإسلام.
o القسم الثالث: دراسات عن ابن تيمية وفي هذا القسم يتناول آراه المختلفة بالدراسة والتحليل ويهتم بوجه خاص بما يتعلق بالعقيدة والرد على المتكلمين والفلاسفة والفرق المختلفة والصوفية على اختلافها [2] .
فتسأله تعالى أن يعين الدكتور على هذا المشروع العظيم، ويبارك في جهوده حتى يخرجه في أحسن صورة، ولا يفوتني هنا أن الحكومة السعودية - وفقها الله - طبعت مؤخرا (فتاوى ابن تيمية) في ثلاثين مجلدا بمطابع الرياض وهذا مشروع عظيم لا يستهان به.
صفات المؤمن
هيهات هيهات أهلك الناس الأماني، قول بلا عمل، ومعرفة بغير صبر، وإيمان بلا يقين، مالي أرى رجالا ولا أرى عقولا، وأسمع حسيسا ولا أرى أنيسا، دخل القوم والله ثم خرجوا، وعرفوا ثم أنكروا، إنما دين أحدكم لعقه على لسانه، إذا سئل: أمؤمن أنت؟ قال: نعم، كذب ومالك يوم الدين، إنّ من أخلاق المؤمن قوة في الدين، وحزما في لين، وإيمانا في يقين، وعلما في حلم، وحلما بعلم، وكيسا في رفق، وتجملا في فاقة، وقصدا في غنى، وشفقة في نفقة، ورحمة لمجهود، وعطاء في الحقوق، وإنصافا في استقامة، قانع بالرزق، حامد على الرخاء، صابر على البلاء.
الحسن البصري
--------------------------------------------------------------------------------
العقود الدرية من مناقب بن تيمية للحافظ أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي المتوفى سنة 744هـ.
[1]
انظر مقدمة كتاب (منهاج السنة) لابن تيمية تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم ص10.
[2]
نظرات تحليلية في القصة القرآنية
عرض وتحليل بقلم: الشيخ محمود فكري المدرس بالجامعة
(قصص وعبر) آخر كتاب صدر للأديب الإسلامي والقصّاص الكبير الأستاذ محمد المجذوب، وهو حلقة في سلسلة مباركة يعزم الأستاذ على إصدارها من مجموعة مؤلفات في موضوعات شتى، وقد كان وقوفي على هذا الكتاب مناسبة طيبة للتحدث عن الأستاذ الفاضل وأدبه، وقصصه، وعن كتابه الأخير بالذات، ولعلّ معرفتي الوثيقة والقديمة بالأستاذ الكريم تجعلني أقدر على الكتابة من غيري في هذا الموضوع.
الأستاذ المجذوب من أبرز أدباء سورية، وممن لهم الشهرة الذائعة في الأوساط الأدبية، في العالم العربي، وله العشرات المؤلفات في مختلف الموضوعات، كلٌّ منها له مكانته في مكتبة القارئ العربي. ومؤلّفات الأستاذ تعالج مختلف القضايا الأدبية، والفكرية، والاجتماعية في محيط الأمة الإسلامية، وكل ذلك بأسلوب أدبي رائع، وبيان بارع، وفكرة نيرة، وبصيرة نافذة.
والأستاذ شاعر مطبوع وهو في مصاف شعراء الطبقة الأولى في العالم العربي اليوم، فهو على هذا فارس حلبتي النثر والنظم، وللأستاذ ديوان مطبوع وأخرى في طريقها إلى الطبع، والخيط الذي يجمع بين سائر ما كتبه الأستاذ وما قاله من شعر ونثر هو نبل المقصد، وسمو الفكرة، وجمال الغاية إلى سحر اللفظ، وروعة البيان، وجودة الأسلوب. فمؤلفات الأستاذ على اختلاف مناحيها من قبيل الأدب الموجه الذي تفرض فيه الغاية نفسها على القارئ فرضا، وتبدو حية بارزة خلف كل عبارة من عبارات الأستاذ، ولا يرد على الأستاذ وطريقته في الكتابة ما يقوله أهل الأدب من أن التقيد في الأدب من عيوب هذا الفن، وأن الأديب لا يعطيك ما عنده من روائع إلا إذا أطلقت له العنان وتركته على سجيته، وأزحت الحدود والقيود من أمامه. وهذا الكلام صحيح من جهة وفاسد من جهة أخرى، أو صحيح من فئة وفاسد من فئة أخرى، صحيح أنّ الفكرة إذا فرضت على الأديب فرضا وألزم الكتابة فيها تكون قيداً له، وعيبا في إنتاجه، ولكن الأديب إذا كان مستهاما بفكرته التي يكتب لها، مؤمنا بها، بل لا يملك إلا أن يكتب عنها، فحينئذ لا تكون الفكرة والغاية عيبا في الأديب، وقيدا في طاقته، بل يكون الخروج عن هذه الفكرة الأثيرة لدي الكاتب عيبا فيه وفي إنتاجه؛ لأنه حينئذ يكلّف الكتابة فيما لا يريد. وعلى هذا فالأستاذ المجذوب حينما يلتزم الفكرة الإسلامية في كتاباته كلها، ويعالج جميع القضايا التي يتطرق لها من وجهة النظر الإسلامية، وحينما يصرُّ على الكتابة في الموضوعات الأخلاقية النافعة، فإنّ هذا الالتزام ليس عيبا في الأستاذ وإنتاجه الأدبي، بل هو ميزته على سائر الأدباء من كتاب عصره، لأن الفكرة التي يلتزم بها الأستاذ في كتاباته لم تفرض عليه فرضا من سلطة عليا تريد له أن يحب هذه الفكرة ويدندن حولها في الوقت الذي لا يحبها هو أو لا يؤمن بها. بل إن الفكرة الإسلامية التي يتقيد بها الأستاذ في
كتاباته - بمعنى أن لا تخرج كتاباته عن الخلق الإسلامي، والأدب الإسلامي والقيم الإسلامية - هي (ليلاه) التي هام بها، وخالط حبها بشاشة قلبه، وسرى روحها في روحه، وآمن بها عقله، وقلبه، ولبّه، ولو حاول الانفكاك عنها لما استطاع إلى ذلك سبيلا؛ لأنه لا يرى معنى للحياة بدونها، وإذا كان الأمر كل شيء في حياة الإنسان فمن العبث الاشتغال بغيره. ولعل أعداء الأدب الموجه صنف من أولئك التافهين الذين يريدون للأدب أن يبقى في وهدته التي تردى فيها على أيديهم، ألا وهي وهدة الجنس وحفرة الشهوة والرذيلة، فكل أدب لا يدغدغ غرائز الساقطين من الناس ويداعب شهواتهم الدنيئة، ويستثير فيهم الغرائز الحيوانية، والمعاني البهيمة الهابطة، يجعلونه أدبا موجها مقيدا قاصرا. فعلى الأدب عند هؤلاء أن يلزم الفراش فراش الرذيلة حتى يكون أدبا حرا طليقا مبدعا، ولكن إن حاول السمو حول فكرة علوية تفتح أمام الإنسان آفاق الحياة الصحيحة، وتربأ بإنسانيته عن هذا السقوط والتردي المشين، فهو يتهم بالقصور والتقيد وتتلمس له العيوب.
وبعد هذا نقول: فإن أدب الشيخ المجذوب موجه ومقيد، وجماله في توجهه وتقيّده، موجه نحو الإسلام وبالإسلام، ومقيد بنظرته للحياة والكون والإنسان. ولأن يعيش الإنسان لخصائص الخير التي فيه، ولأن يستجيب للمعاني العلوية التي في فطرته، ولأن يلبي أشواق النفحة الربانية في روحه خيرٌ من أن يسقط في حفرة الطين، وأن ينقلب في الحمأ المسنون. وقد يكون من الغريب ومما يتنافى مع اتجاه أدباء هذا العصر - وخاصة كتاب القصة فيه - أن يتجه الأستاذ المجذوب إلى القصة الإسلامية التي يعتبر رائدها بلا منازع..، من الغريب في منطق أدباء اليوم أن يتجه الأستاذ إلى القصة الهادفة التي لا ينكر دورها بين وسائل التربية والتوجيه، في الوقت الذي يعكف فيه كتاب القصة على وثن الجنس، ويقصرون كل جهودهم لإثارة الغرائز الأرضية الدنيئة المستكنة في الجيل الساقط الذي يخاطبونه، ويستدرون بمثل ذلك الأدب الرخيص السحت الذي يقتاتون به، ولكن الأستاذ المجذوب نكب عن هذه الطريقة الشائنة واختط لنفسه طريقا رشدا آثر فيه الفضيلة على الرذيلة، وقدم فيه المال الحلال على المال الحرام، وفضّل أن يسلك طريق الحق، ولا يصده عنه قلة السالكين، وازور عن طريق الباطل دون أن تغريه كثرة الهالكين، وخاطب في الإنسان عنصر الخير والسمو في فطرته التي عملت قوى الشر مجتمعة على تلويثها، وإطفاء نورها وطمس معالم الحق فيها.
فأدب الأستاذ بجملته - وقصصه بالأخص- نوع من الأدب البنّاء والهادف، الذي يؤدي دوره في إنارة سبيل القارئ العربي في معترك الحياة في هذه الحقبة العصيبة من حياته. وقصص الأستاذ المجذوب كسائر أدبه تجمع عناصر الجمال التي نراها تنحصر في المعنى الجميل، والمبنى الجميل. ولعل آخر كتب الأستاذ وهو (قصص وعبر) بجمع بين هذين العنصرين على الوجه الأكمل بالنسبة إلى قصصه، وذلك لأن موضوع الكتاب هو القصص القرآني الذي يعتبر بدون ريب ذروة ما دون باللغة العربية من قصص، وهذا يضمن للكتاب جمال المعنى في أروع صوره، وأما أسلوب الكتاب فهو خلاصة وحصيلة نصف قرن تقريبا من الثروة الأدبية التي جمعها الأستاذ، وهذا يضمن له جمال المبنى.
وقد تناول الأستاذ في كتابه هذا جملة كبيرة من قصص القرآن الكريم، وعالجها على الشكل التالي:
أولا: عرض القصة القرآنية عرضا إجماليا يبرز أهم معالمها دون الخوض في التفاصيل والجزئيات.
ثانيا: استنباط العبر والعظات ومحاولة استخراج المغزى والمرمى والغاية التي سيقت لأجلها القصة.
ثالثا: تحليل لأسلوب النص القرآني، ونظرات في العبارات التي حملت تلك المعاني الكريمة.
وقد استفاد الأستاذ الكريم من القرآن العظيم كثيرا في لفظه ومعناه، وهو الذي لازم القرآن وعاش بأجوائه طيلة حياته. وأعانته ملازمة القرآن هذه على أن يغوص في أعماق القصة القرآنية ليستخرج درّاتها الغالية، وجواهرها الثمينة، وحكمها البالغة، كما أن ترطب لسانه المستمر بالقرآن صقل ذلك اللسان، وصبغه بصبغة القرآن، فجرى عليه البيان ينساب غضا طريا، وكذلك تدبر قلبه المستمر له جعل الحكمة تتفجر في جوانبه، والعبرة تسبق إلى فكره، والنور يشرق في بصيرته.
ولقد صاحب التوفيق صاحب الكتاب في خطواته الثلاث في عرض القصة، واستنباط عبرها، وتحليل أسلوبها، وعيب هذا الكتاب هو أن الأستاذ كان مقيدا بوقت معين محدد يناقش خلاله القصة، وذلك في حلقات إذاعية، الأمر الذي كان كثيراً ما يجعل الأستاذ يكبح جماح القلم حتى لا يسترسل، وقد اعتذر الأستاذ عن هذا بأن قال: "إن الكتاب هو نموذج لعمل أكبر منه سيتناول القصة القرآنية بالتفصيل الأوفى في الخطوات الثلاث التي ذكرناها
…
"
وبعد فإن لدي نماذج كثيرة من الكتاب تبيّن صورا من الجمال الذي يعلو صفحاته، ويبدو من خلال عباراته وعبره، ولكنّي لم أرد أن أقتطع تلك النماذج من موضعها التي سكبت فيها، داعيا القارئ إلى الوقوف عليها في أماكنها الكثيرة من الكتاب، ولأني أُومِنُ بأن الزهر في الروض أجمل منه في الآنية.
الرفق بالحيوان
"بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئرا فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي، فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له.
قالوا: يا رسول الله وإن لنا في البهائم أجرا؟
فقال:"نعم، في كل كبد رطبة أجر".
(البخاري)
هذه إسلاميتنا
بقلم الشيخ: أبو بكر جابر الجزائري المدرس بالجامعة
العمل الصالح:
حقا إن العمل الصالح هو أحد مبادئ إسلاميتنا المحببة إلى نفوسنا. والمراد بالعمل الصالح: ما كان محققا لسعادة المسلم الدنيوية والآخروية على السواء، أو عاملا على تحقيقها معا، ولا يكون العمل الصالح كذلك إلا إذا وصف بالصلاح، ووسم به من قبل الشارع الحكيم، فلا يوصف عمل بالصلاح ولا يوسم به ما لم يكن قد أمر الله تعالى به، أوأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، أو أرشد إليه، أو أذن فيه. ومن هنا كنا نحن أبناء الإسلام نعمل ولا نكل، ونواصل العمل في غير سآمة ولا كلل؛ لأن العمل من مبادئ إسلاميتنا، وسبب رئيسي من أسباب سعادتنا. ومن الأعمال الصالحة التي تعتبر دعائم إسلاميتنا، ومن أقوى عوامل الفوز والنجاح فيها ما يلي: العلم، الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج، حسن الخلق، الجهاد.
1 – العلم:
أول عمل يقوم به المسلم في حياته طلب العلم والمعرفة؛ لأن ذاك واجب كل فرد من أفراد الأمة المسلمة ذكرا كان أو أنثى [1] .
وتنقسم المعرفة في إسلاميتنا إلى قسمين:
أ - ما يجب على كل فرد بعينه الحصول عليه، وذلك معرفة الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، ومعرفة رسله، وخاصة نبي الإسلام محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وما يجب لله عز وجل، ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم من طاعة وتعظيم، وكيفية عبادة الله تعالى فيما تعبّد المؤمنين به؛ من اعتقاد ونية وقول وعمل، مما شأنه تهذيب النفوس وتزكيتها، وتقويم الأخلاق وإصلاحها.
ب - ما يجب على مجموع الأمة المسلمة دون جميعها، وذلك كمعرفة العلوم المادية من طب وصناعة، وكل ما من شأنه أن يحفظ كيان الأمة، ويحقق لها عزتها وقوتها، حتى تؤدي رسالتها في الحياة كاملة، رسالة العدل في الأرض، وتحقيق الخير، حيث رشحها الله تعالى لذلك في قوله:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} ، وفي قوله:{هُوَ اجْتَبَاكُمْ} ، والاجتباء: الاختيار لنشر كلمة الحق: (لا إله إلا الله) ، والعدل والمساواة بين بني الإنسان {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ، "لا فضل لعربي على عجمي، ولا أبيض ولا أسود إلا التقوى".
ومن هنا كانت إسلاميتنا التي نعيش لها، وندعو إليها، ونوالي لها، ونعادي من أجلها، كانت تفرض في مبدأ العمل: طلب العلم، قال الله تعالى - شارعها وواضع مبادئها وتعاليمها -:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} . وقال: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} ، وقال صلى الله عليه وسلم حامل راية إسلاميتنا -:"طلب العلم فريضة على كل مسلم".
2 – الصلاة:
إن إقامة الصلاة في مجتمعنا الإسلامي الطاهر الحر لهو أكبر مظهر من مظاهر القوة والنظام والوحدة واحترام الواجب، فإنه بمجرد أن يعلن عن دخول وقت الصلاة: حي على الصلاة، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، تتوقف الحركة، ويسكن العمل، ويهرع أفراد الشعب إلى المساجد القائمة هنا وهناك، في كل شارع من شوارع المدينة، وساحة من ساحاتها، يهرع الكل لأداء أكبر طاعة لله المعبود الحق، تكسبهم شحنة جديدة من الإيمان، يقوون بها على العمل المثمر النافع، ويترفعون بها عن الدنايا والرذائل، وعن كل سلوك شائن يحفظ المجتمع الإسلامي بطابعه الخاص من الطهر والصفاء والقوة والنشاط والوحدة والنظام. ومن هنا كانت إسلاميتنا تعتبر الفرد الذي يترك الصلاة عضوا فاسدا في المجتمع الإسلامي، يعالج فورا فيبرأ وإلا يبتر؛ خشية سرايا الفساد لبقية الأعضاء الصالحة، وذلك حفاظا على طهارة المجتمع وقوته ونظامه..
3-
الزكاة:
مبدأ الزكاة في إسلاميتنا قائم على تحقيق هدفين عظيمين:
أولهما: تطهير نفس المؤمن من رذيلة الشح والبخل وداء الشره والحرص والطمع وعبادة المادة ،وهي أدواء خطيرة متى تأصّلت في الفرد سلبته كل معاني الإنسانية الكريمة، وصيرته حيواناً تافها، لا يرجى منه خير لنفسه، ولا لأفراد مجتمعه.
ثانيهما: مقاومة التضخم المالي لدى الأفراد، وتوزيع الخير بين أفراد المجتمع الإسلامي، وإشاعة الرحمة فيه حتى لا يشعر فرد منه بالحرمان، أو أن يد الجوع تقوى على أن تغتاله في يوم من الأيام، كما أن الزكاة تكون سهما كبيرا في خزانة الدولة، إذ نسبة اثنين ونصف في المائة من كل الأموال المتداولة بين الناس، والمختزنة في المصارف، والصناديق الخاصة تعود سنويا إلى خزانة الدولة، نسبة لا يستهان بها في تدعيم مالية الدولة، وتقوية مركزها المالي، ومن هنا كانت إسلاميتنا تفرض الزكاة فرضا في أموال الأفراد، وتطالب بها، وتأخذها بالرضا أو الكره، وتنظم جبايتها، وتحسن صرفها في أوجهها المخصصة لها، تحقيقا لهدف سعادة المسلم في حياته الدنيا والآخرة!.
4-
الصوم:
يعتبر الصوم في إسلاميتنا أكبر عامل في تقوية أفراد مجتمعنا الإسلامي، وتهذيب شعورهم، وترقية أرواحهم، وإرهاف إحساساتهم، وتنمية عواطف الخير فيهم، وإعداد كل فرد منهم لأن يكون قويا في إرادته، وعزمه، وتصميمه، لا تشوبه المغريات، ولا تستميله الشهوات، صبورا عند الشدائد، لا تضعفه الأهوال، ولا تثنيه عن عزمه الويلات والمخاوف. كما أنّ مبدأ الصوم في إسلاميتنا يساعد على رفع مستوى الصحة العام في الأمة، أو صوم شهر في السنة تقاوم به سائر الفضلات والرواسب في البطن، والتي تنتج عادة عن استمرار عملية الأكل والهضم. كما أن الصوم مقاوم لتضخم السمن وامتلاء البطن بالشحم؛ الذي من شأنه أن يقلل من نشاط الفرد، ويضعف من سرعة حركته عند مزاولة أعماله، والقيام بواجباته في الحياة، مثل ما أن الصوم من الناحية الاجتماعية من أهم عوامل تعويد الأمة الاتحاد والنظام وتحقيق مبدأ المساواة، يتجلى ذلك في إمساك الأمة في لحظة واحدة من أول النهار، وإفطارها في لحظة واحدة من آخر النهار، لا فرق بين غنيها وفقيرها، ولا بين شريفها ووضيعها، أو قويها وضعيفها؛ إذ الكل أمام هذا الواجب متساوون، لا ميزة لأحد منهم على الآخر.
5-
الحج:
إنّ ما يحققه الحج إلى بيت الله الحرام من مكاسب كبيرة، ومنافع عديدة للأمة المسلمة لا يمكن حصره، وإنما يمكن الإشارة إلى بعض مكاسبه ومنافعه فيما يلي:
1-
مغفرة ذنب المؤمن وتكفير ما ألم به من سيئات، تحت تأثير ضعفه وعجزه الأصيل، وإخفائه أحيانا في مقاومة قوى الشر المختلفة، والمحدقة به من كل جانب، وفي كل زمان ومكان، قال نبي الله صلى الله عليه وسلم:"من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه".
2-
إجتماع العديد من المسلمين في مكة المكرمة على اختلاف أجناسهم، وتباعد ديارهم، وتعرف بعضهم أحوال بعض، وتبادل الآراء في الإصلاح، والعمل المثمر المفيد للمسلمين، والمحقق لهم الخير والسعادة، إذ الحج يمثل أكبر مؤتمر سنوي يعقد في العالم على أكمل حال وأحسن وجه.
3-
رياضة نفس الفرد المسلم على البذل والعمل والاغتراب والتضحية، بما يكسب المسلم طاقة كبيرة من الإيمان والنشاط العضلي والعقلي. ومحاسن الأخلاق لا يحصل عليها بغير أداء عبادة الحج المقدسة بحال من الأحوال.
6-
حسن الخلق:
إذا كانت المذاهب المادية اليوم من إشتراكية ورأسمالية وغيرهما تقوم على أساس غير أخلاقي، فتبيح الظلم والغش والكذب والنفاق والتضليل والخداع والباطل والمغالطة والتمويه في سبيل الوصول إلى أهدافها المادية الخسيسة، فإن إسلاميتنا قائمة على دعائم الأخلاق الفاضلة، ومرتكزة على أصول القيم الروحية الكريمة، من صدق ووفاء وعفة وحياء وعدل وخير ورحمة وتبشير، وتحرم على معتنقي مبادئها الظلمَ والجور والاعتداء والغش والخداع والكذب والنفاق والفحش والبذاء وكل أنواع الشر والفساد، وفي أي صورة من الصور، أوشكل من الأشكال، ولم تكتف بمجرد الحظر والتحريم، بل تدعوا أبناءها إلى محاربة الجريمة ومطاردتها حيث ما كانت، حتى يخلص المجتمع الإسلامي لأبنائه طاهراً طهارة الأرواح المؤمنة، ونقيا نقاء السماء قال تعالى- في كتاب إسلاميتنا-:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
ولذا نحن إذ ندعو الشرق والغرب معا إلى إسلاميتنا فإننا ندعوهم إلى الخروج من حياة المادة المدمرة إلى حياة السمو الروحي والكمال النفسي، ندعوهم إلى الخروج من الصراع لأجل الباطل والشر للصراع من أجل الخير والحق، بالرغم من إعراض العالم اليوم عن إسلاميتنا المخالفة لما ألفه من حب الاستعلاء والظلم والطغيان، ولما اعتاده من عيشة الشر والفساد، فإننا لا نزال ندعو إلى إسلاميتنا، ونجاهد من أجلها، حتى يقيض الله تعالى لها من يحتضنها، وينقذ بها البشرية من وهدة الشر والفساد التي تردت فيها، وحتى يتخلص العالم الإنساني من حيرته التي عاشها لعدة قرون وما وجد لها من مخرج إلى اليوم.
7 -
الجهاد:
تعد إسلاميتنا الجهاد بأنواعه الأربعة من أفضل الأعمال الصالحة، وتعتبره فريضة كل مسلم في الحياة؛ لأنه قوامها وذروة سنامها وحارس مبادئها وحافظ مكاسبها، فلذا هي تلزم أبناءها ومعتنقي مبادئها القيام بما يلي:
1-
توطين النفس على الجهاد إذ تقول تعاليمنا: "من مات ولم يغزُ ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق".
2-
إعداد العدة له لقول الله تعالى – واضعها -: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} . ويستلزم هذا الأمور التالية:
· أ _ تدريب كل شاب مسلم بلغ الثامنة عشرة من عمره على فنون الحرب المختلفة ووسائل الدفاع الضرورية بصورة إجبارية أداء لفريضة الجهاد.
· ب _ إمتلاك الأسلحة المختلفة، وكل ما يجد في العلم من أسلحة وبناء المصانع والمعامل المنتجة في داخل البلاد.
· ج _ تقوية الجيوش المرابطة والغازية وتدعيمها بكل وسائل التدعيم والتقوية بما يضمن لها الانتصار قي كل معركة تخوضها ضد الباطل والشر، وبما يمكنها من دفع كل معتد ظالم.
· د _ إبعاد الجيش عن أسباب الفشل والضعف ومن أخطرها معاصي الله تعالى بالفسق عن أمره والخروج عن طاعته.
· ي _ إصلاح نفس الجندي وتزكية روحه بوسائل الإصلاح والتهذيب المختلفة حتى يحتفظ في كل وقت باستعداده للفداء والتضحية والاستشهاد في سبيل الله تعالى.
هذا في الجهاد الخاص وهو جهاد المحاربين لدعوة الله تعالى والصادين الناس عنها، وأما في الجهاد العام فإن إسلاميتنا تلزم كل مسلم أن يجاهد نفسه في ذات الله تعالى بأن يحملها على أن تتعلم أمور الدين وتعمل بها وتعلمها ويصرفها عن هواها ويقاوم رعوناتها،
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} ، ويجاهد الشيطان يدفع ما يأتي به من الشبهات، وترك ما يزينه من الشهوات {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} ، ويجاهد الفاسق بتغيير ما يأتون من المنكر ويحملهم على ما يتركون من معروف "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".
وصلى الله وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
انطلاق لا دفاع
الذي يدرك طبيعة هذا الدين، يدرك معها حتمية الانطلاق الحركي للإسلام في صورة الجهاد بالسيف إلى جانب الجهاد بالبيان، ويدرك أن ذلك لم يكن حركة دفاعية بالمعنى الضيِّق الذي يفهم اليوم من اصطلاح (الحرب الدفاعية) كما يريد المهزومون أمام ضغط الواقع الحاضر، أما هجوم المستشرقين الماكر أن يصوِّروا حركة الجهاد في الإسلام إنما كان حركة اندفاع وانطلاق لتحرير الإنسان في الأرض بوسائل مكافئة لكل جوانب الواقع البشري، وفي مراحل محددة، لكل مرحلة منها وسائلها المتجددة.
(سيد قطب)
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
من أراد الوقوف على تفاصيل تعليم المرأة المسلمة فليراجع رسالة (حقوق المرأة) لكاتب المقال.
الإسلام دين الفطرة.. صالح لكل زمان ومكان
للشيخ محمد مريسي محمد المدرس بالجامع ة
أيها الأخ المسلم: تعالى بنا نستعرض تشريعات الإسلام في كل نواحيه، من عقيدة وعبادة، ومعاملة، وأخلاق، واجتماع، لنرى أنها سايرت الفطر السليمة النظيفة، التي لم تتدنس بتقاليد أفقدتها الإحساس الواعي الفاهم، الذي يستطيع أن يدرك الغث من السمين، والجيد من الزيف، فاختلط عليها الأمر، وانقلبت عليها الأوضاع، فظنت الحسن قبيحا، والقبيح حسنا، وسارت في متاهات الشهوات والأهواء، حتى أصبحت كما قال الشاعر الحكيم:
حتى يرى بالحسن ما ليس بالحسن
يقضي على المرء في أيام محنته
نعم، تعال بنا نستعرض مسائل الإسلام، ولتكن أول المسائل: العقيدة؛ دعاك الإسلام إلى عبادة الله وحده، ونهاك عن عبادة غيره أيا كان هذا الغير، وبيّن لك أنّ الله خص بالعبادة دون سواه؛ لأنه مالك الأمر كله، ليس لأحد معه من عمل، فهو الخالق، الرازق، المعطي، المانع، المحيي، المميت، يعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده وحده الخير {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، ثم برهن في الآية نفسها على قدرته على ذلك فقال:{تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . وإذن فمن العبث أن يستمد الإنسان العون من غير ربه، وأن يطلب تحقيق آماله من غير خالقه، فهو المسؤول وحده، ولا يملك أحد لأحد شيئا، مهما أوتي من جاه، أو سلطان، فالجاه والسلطان مستمدان من الله سبحانه، ولو شاء أن يسلبهما لسلبهما. ودروس الأيام عبرة وذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين، ألم ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، رفعت الأقلام وجفت الصحف". وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن إذ يقول: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . من هذا كله نستطيع أن ندرك فساد فطر هؤلاء الذين وكلوا أمورهم إلى غير الله، وظنوا أنهم واصلون إلى
أغراضهم ماداموا في أحضان من اتخذوهم درعا واقية من دون الله، ولهذا عاشوا أذلاء، وسيموتون كذلك، وها هو ذا الحديث القائل:"من استعز بالله عزّ، ومن استعز بغير الله ذلّ"، وها هو القرآن يقول:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ}
المسألة الثانية: العبادة والمعاملة: وهي في تنوّعها عامل هام من عوامل تكوين الشخصية الإسلامية الحقة، التي تعرف لله حقه، وللناس حقوقهم، فتكون أسلوباً من الهداية، وعنواناً على الخير الجامع الشامل، قل بربك: ما هذا الإنسان الذي يقف بين يدي ربه، وفي محرابه، يركع له ويسجد له، ويؤدي عبادة الصلاة في خشوع، إن دل على شيء فإنما يدل على عبودية خالصة لله، هي التطبيق العملي الذي يتجاوب مع العقيدة، عقيدة الإخلاص لله والاستعانة به، إنه المسلم الذي يعد عنوانا واضحا على الإسلام الحق، والإيمان الحق {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، وجميل من القرآن أن يعقب هذا بطلب الهداية إلى طريق الله المستقيم {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}
أيها الأخ المسلم: ما أروع أن ترى المسلمين صفوفا متراصة، منتظمة متحدة في حركتها وسكونها، في ركوعها وسجودها، تأتم بإمام واحد، يسبق إلى فعل الأركان، فيتبعه جميع المؤتمين به، وهكذا تراهم يركعون بركوعه، ويسجدون بسجوده، ويستمعون لقراءته، ويؤمنون على دعائه، ولا ينتهون من صلاتهم إلا بانتهائه، وما هذا كله إلا الوحدة والنظام، واتباع الأمر، وحسن الإقتداء في رغبة وحب، لا في إكراه وبغض. ولو استعرضت جميع الشرائع الوضعية الموجودة، مهما كان نظامها، ومهما كان وضعها، لا تراها تخلق في الجماعة هذا النظام المحكم، ولا هذه الطاعة التي تنبع من القلب، فكانت كما قدمنا حبا ورغبة، لا كراهية وبغضا. وهكذا لو استعرضت جميع العبادات من صيام وزكاة وحج، وما إلى ذلك من تبيان الحلال والحرام في كل شيء، لبان لك أن تشريع الله ما بني إلا على أساس المصلحة، التي تحقق السعادة الجامعة الشاملة للفرد والمجموع. هذا التشريع السماوي ذو الحكمة العالية السامية صالح لكل جماعة، في كل مكان، وفي كل زمان، ومهما تغيرت الأيام، واختلفت السنون، بأحداثها ومسائلها، فإن هذا التشريع لا يتغير بتغيرها، ولا يتبدل بتبدلها، بل هو صالح لها على جميع أوضاعها، ضامن لكل أهل زمان السعادة إذا ما عملوا بأحكامه، واستمسكوا بآدابه، وهاهم أولاء المسلمون الأولون، استطاعوا بإيمانهم واستمساكهم بدينهم أن يملكوا العالم من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب ،استطاعوا أن يهزوا عروش الأكاسرة والقياصرة، ويجلسوا على عرش الدنيا ملوكا حكاما، وأئمة أعلاما، وقد حقق الله لهم وعده في قرآنه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ
بِي شَيْئاً} .
أيها الأخ المسلم: إذا قلت لك: إن تشريع السماء صالح لكل زمان ومكان، أستطيع أن أقول لك: إن تشريع الأرض غير صالح لهما، ولذلك نراه دائما في تغيير أو تبديل، وما يشرع اليوم ينقض غدا، وما يصلح لهذه الجماعة لا يصلح للجماعة الأخرى، ولذلك نرى لكل طائفة من طوائف العالم تشريعها ودستورها الملائم لحال أهلها؛ لأن الشرائع تتطور بتطور الأمم، وتتغير بتغير أحوالها، فتوضع الشرائع الوضعية موافقة لحال العصر، الذي وضعت فيه، والبيئة التي سنت من أجلها، وكثير ما يظهر نقص التشريع، وتتكشف نواحي الضعف فيه، فيستنون شرائع أخرى، وهكذا دواليك، لا استقرار لتشريع وضعي مهما كان واضعوه؛ لأن العقل البشري مهما أوتي من قدرة على الفهم وتقدير الأوضاع، لا يسلم من الأخطاء، ولهذا لم يترك الله الناس لعقولهم، بل أرسل إليهم رسلا مبشرين ومنذرين، يرشدونهم إلى الحق، ويوجهونهم إلى صراط الله المستقيم، الذي قال فيه –سبحانه-:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .
نعم، تشريع الله لا يتغير أبدا ولا يتبدل؛ لأن واضعه حكيم عليم بأحوال الأمم وأوضاعها، فوضع لها التشريع الذي يحمل في طياته سعادة البشرية جمعاء، مهما كانت أحوالها، ولهذا اعترف كثير من مستشرقي الغرب بدين الإسلام كسبيل إلى الإصلاح العام الشامل للفرد والمجموع، ودستورٌ ينقذ البشرية من دوافع الشر وعوامل الفساد، وها هو ذا رجل إنجليزي مستشرق يقول في إحدى المجلات الإنجليزية:"لو بعث محمد بن عبد الله يحمل كتابه في يديه لأمكن أن ينقذ سفينة العالم من الغرق"، وسئل الكاتب الإنجليزي المعروف بأدبه وفلسفته (برنارد شو) : ما رأيك في الإسلام؟ قال: "الإسلام حسن، ولكن أين المسلمون!) .
للحديث بقية.
الجماهير:
قال الله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ} . وقال الشاعر:
بألف رأس حمار عقل إنسان؟
اتبع حكيما ودع جمهورهم أترى
الإسلام والحياة
بقلم: أحمد عبد الرحيم السايح من علماء الأزهر
1 -
القرآن الكريم.. والحياة
القرآن الكريم: كتاب الله الخالد الذي أُحكمت آياته ثم فُصِّلت من لدن حكيم خبير، نزل به الروح الأمين، على رسول الإنسانية محمد عليه الصلاة والسلام، منجما حسب الوقائع والمناسبات، من ليلة السابع عشر من رمضان، للسنة الحادية والأربعين من ميلاد الرسول، حيث أوحى إليه في غار حراء، الذي كان يتحنّث فيه، أول آية وهي:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} .
وكان في هذا الابتداء إشعار بالدعوة الإسلامية إلى العلم، والتنويه بشأنه، وأنّ شعار هذا الدين العلم الذي يرفع الله به الأمم، ويعز به الجماعات.
واستمر نزول القرآن حتى التاسع من ذي الحجة، للسنة العاشرة من الهجرة، والثالثة والستين من ميلاد الرسول، حيث أوحى إليه {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} .
وبتمام نزول القرآن الكريم كملت شريعة الإسلام، وأتم الله على أمته نعمته، والقرآن بهذا التمام والكمال صار دستور المسلمين في حياتهم الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية والروحية، ومرجع العقائد، والعبادات، والمعاملات.
أحكمه رب العزة، فأتقن إحكامه، وفصله فأحسن تفصيله، فبه من الآداب الفاضلة والأخلاق الحميدة، والتوجيهات السديدة، والقيم السامية، ما هو كفيل برقي الأمم العاملة به، المتمسكة بتعاليمه.
وهو روح الإسلام الذي يشع فيه الكينونة والوجود، وقلبه الذي ينبض بالحيات والحركة، والدفع والتدفق، وعقله الذي تلألأت به شهب المنى، ودرت أثداء الأمل.
وهو الجامعة الإسلامية العالمية، التي ترسمت معالم الإخاء، وشعت بقواعد المساواة، وخفقت بأعلام الحق، وعلائم الكمال.
والمعنى الذي يفهم من لفظ (القرآن) كبير جدا، لا يدانيه معنى في القوة والتأثير، وإنّ المؤمن الذي يتلوه لتنثال على خاطره منه دلالات وطيوف، تملا النفس خشوعا وروعة وجلالا.
وفي كلمة القرآن معنى الجامعة، التي احتوت على جميع العناصر الصلاحية، لكل الأزمنة، والأمكنة، والبيئات، والمجتمعات والعصور.
والقرآن الكريم: وعي، ووحي، وإشعاع، وكتاب تربية، وبرهان قاطع، وآية ساطعة، وتشريع روحي، وقانون واف، وسياسة أخاذة، ونظام دولي، وإصلاح اجتماعي، ومجمع علمي، ودائرة معارف يرجع إليها أهل الفكر، ويعتمد عليها أرباب النظر.
والقرآن فوق هذا وذاك: القاعدة الروحية التي تنطلق منها الإمدادات الإلهية، والفيوضات السماوية. وإذا كان الإنسان ذلك الكائن الحي لا وجود له ولا حياة بغير الروح والقلب والعقل، فإن المسلمين لا كيان لهم ولا حياة بغير القرآن، فهو لهم الروح والعقل والقلب، وهولهم: الضياء والشفاء والغذاء والجرس الذي لا ينتهي له مدى، ولا ينضب له معين. تنشده الأمة فتجد فيه مبتغاها من التشريعات الفردية، والعلائق الأسرية، والمعاملات الاقتصادية، والاجتماعية، والحربية، والقوانين المدنية، والأنظمة الدولية، وبعبارة أدق وأوجز: تجد فيه الأمة كل ما تحتاج إليه في حياتها العامة والخاصة، والدين والدنيا.
نادى الناس بنداءات إلهية، أججت العواطف، وحركت العقول من ركدتها، وبعثت في النفوس ثورة رائعة، كان لها المدى البعيد في تحويل مجرى الإنسانية.
ولقد وعى التاريخ عن الثورية في القرآن ما لم يعه لأي حدث آخر في هذا الكون، سواء في معارك التهذيب النفسي، حينما وجد الناس يسودهم الهوى، ويسوسهم الجهل، فأصبحوا بهديه مثالا يحتذى.
أو في معارك السلام يوم تدفقت سيول العرب من منابعها، وخاض جنود الحق بفتحاتهم أرجاء الدنيا. وما أصدق رسول الله إذ يقول في حديث يرويه الترمذي:"كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم".
وما أبلغ ما قاله الدكتور موريس الفرنسي في وصف القرآن "إنه بمثابة ندوة علمية للعلماء، ومعجم اللغة للغويين، ومعلم النحو لمن أراد تقويم لسانه، وكتاب عروض لمحب الشعر، وتهذيب العواطف، ودائرة معارف للشرائع والقوانين"[1] .
ولقد اشتمل القرآن الكريم على ستة آلاف ومائتين وستة وثلاثين آية، منها حوالي سبعمائة وخمسون آية كونية وعلمية، احتوت أصول وحقائق تتصل بعلوم الفلك والطبيعة، وما وراء الطبيعة، والأحياء، والنبات، والحيوان، وطبقات الأرض، والأجنة، والوراثة، والصحة، والصحة النفسية، والوقائية، والتعدين، والصناعة، والتجارة، والمال، والاقتصاد،.. الخ. واحتوت باقي الآيات على الأصول والأحكام في المعاملات، وعلاقات الأمم والشعوب في السلم والحرب، وفي سياسة الحكم، وإقامة العدل، والعدالة الاجتماعية، والتضامن الاجتماعي، وكل ما يتصل ببناء المجتمع. وفي رسم شخصية المسلم الكامل؛ خلقا، وأدبا، وعلما، وفيما يجب أن يحتذيه من المثل العليا، وما يتحلى به من مكارم الأخلاق.
وهذا كله بخلاف العبادات، والعقائد، والتكاليف، وبخلاف القصص، وما احتواه من مواعظ، وأمثال، وغير ذلك من شتى أمور الدين والدنيا، مما كان محلا للدراسة، والاستنتاج، والتخريج، والتأصيل، والبحث، والتنقيب. وكان أساساً لعلوم الفقه، والتفسير، والحديث، والأصول، والأخلاق، والاجتماع، والبلاغة، والأدب، وغيرها، سواء كانت عقلية أم نقلية.
وكانت معانيه دائما كالماء الصافي الزلال في بلور الإناء، ومهما تشكل الماء بلون الإناء بحسب الزمان والمكان فهو نفس الماء الذي لا يتغير لونه، ولا ينضب معينه، ولا يتسنه طعمه، ويظل هو نفس القرآن الذي لا تبلى مع الزمان جدته، ولا تنقضي عجائبه، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، ذلك أنه من العمق والاتساع، ومن العموم والشمول، بما يقبل تفهم البشر له، أيا كان مبلغهم من العلم، وبما يفي بحاجاتهم في كل عصر، ويتجاوب في يسر مع أهل البداوة؛ لأنه لا يلتوي على الأفهام، ويبهر في عمق أهل المدنية، الذين صعدوا في سلم الرقى، وبرعوا في فنون العلم والمعرفة؛ لأنه يزخر كما يزخر البحر، في قاعه الدرر واللآلئ، لمن استطاع الغوص إليها في الأعماق [2] .
ويضيق المقام عن الإفاضة في هذه المجالات الواسعة العميقة، فلا مندوحة من الاجتزاء والاكتفاء، وإيراد بعض الأصول والحقائق وإلى اللقاء.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
انظر كتاب التربية في كتاب الله ص 6 للشيخ محمود خالد مطبعة الاعتصام القاهرة 1388هـ.
[2]
راجع المحاضرات العامة للأزهر ص 20سنة 1378هـ مطبعة الأزهر.
الأعداء الثلاثة
للشيخ حسين محمد مخلوف
محاضرة ألقاها على طلبة الجامعة الإسلامية بالمدينة فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف، مفتي الديار المصرية سابقاً، وعضو جماعة كبار العلماء، وعضو رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، وأحد أعضاء المجلس الاستشاري للجامعة.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه المجاهدين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد: فقد أتاح الله تعالى لي في هذه المرة زيارة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة التي أنشئت في عام 1381هـ، كما زرتها في أعوام سابقة، فرأيتها نامية ذاخرة بطلاب العلم والدين من نيف وستين جنسية من مختلف الأقطار الإسلامية، وفدوا إليها بعزائم قوية، ورغبات صادقة وقلوب مؤمنة مخلصة للتغذي بعلومها، والنهل من معينها، على يد أساتذة فضلاء، فألفوا من المملكة وعلمائها، ومديري الجامعة صدوراً رحبة وعناية فائقة، ومساكن جميلة، ومرافق كاملة، وفوق ذلك وجدوا مدداً سخياً، كريماً وافياً، وجواً صالحاً، وبيئة سليمة، وحياة شريفة، يظلها الإسلام الحنيف، والأدب الرفيع، ويسبغ عليها التقى والصلاح، ذلك الجوار الكريم للرسول العظيم صلى الله عليه وسلم.
ولهذه الجامعة الإسلامية ميزة كبرى على نظائرها في بعض الأقطار الإسلامية لا تزاحمها فيها، وهي مزيد العناية بالعلوم الإسلامية وتعليمها، وبالأخلاق والآداب، وحسن السيرة، ووسائل الدعوة إلى الإسلام، والسخاء في الإنفاق على طلابها، وتوفير أسباب إقامتهم في رحابها، وشدة الحرص على تحقيق أهدافها وغاياتها.
كيف وهي متوجة بهذه النسبة الكريمة، مشرفة بهذا الشرف الرفيع الذي لا يدانيه شرف، وحسبها أنها في دار الهجرة، وفي رحاب أفضل الرسل، وأكرم الخلق على الله سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومما بهرني في هذه الزيارة منشئات جديدة على أحسن طراز وأجمل رواء، وأضخم بناء منها مساكن للطلاب، وقاعات للدراسة في الكليتين، كلية الشريعة وكلية الدعوة وأصول الدين، وصالة فخمة للمحاضرات يندر مثلها في جامعات أخرى، وغير ذلك مما عنيت به المملكة في هذه الجامعة المثالية، وأنفقت فيه الأموال الوفيرة بسخاء، وعما قريب بمشيئة الله تعالى يفتتح البناء الجديد في ثوبه القشيب وجلاله الرائع، فرجوت من الله تعالى تحقيق الأمل، وإتمام العمل على أحسن حال وأكمله، والمثوبة للقائمين به بإخلاص نية، وحسن قصد لوجه الله تعالى، وخدمة الإسلام.
وفي الجامعة عدا هاتين الكليتين قسم إعدادي يؤهل الطلاب للانتظام في السلك الجامعي، وشعبة تعليمية تعلم اللغة العربية لمن لا يحسنها من الوافدين للجامعة من الأقطار الأخرى، ولكل من الكليتين منهج دراسي خاص لما يدرس من العلوم والمواد واف بالغرض المنشود.
وقد تخرج إلى الآن من الكليتين مائة وثمانية وعشرون جامعياً في أربع سنوات منذ افتتاحها، ينتمون إلى اثنين وعشرين جنسية.
وعاد أكثرهم إلى البلاد التي وفدوا منها يحملون رسالة الإسلام، وعلوم الإسلام أصولاً وفروعاً، ويدعون إلى التوحيد الصافي من الشوائب، الخالص من البدع والأهواء، في صدق وإخلاص وعزم وقوى، ونقاء من الشبه وتزييف للباطل، والتحريف الذي روجه أعداء الإسلام من الفرق الضالة المعروفة.
ولا شك أن في ذلك نوع من الجهاد في سبيل الله، له أثره المحمود في إصلاح القلوب، وتطهير العقول وصلاح الأعمال، ونشر العلم والعرفان، ونقاء المجتمع الإسلامي من الأدران.
وهناك مرض خطير أصاب المسلمين فأوهن قواهم، وأذهب ريحهم، وأغرى بهم أعداءهم، وجرّ إليهم الويلات، ذلك هو مرض التفرق والاختلاف بين جماعات المسلمين والتنابذ والتعادي، وهو مرض وبيل، وداء خطير يجب أن ينال من عناية الدعاة إلى الله والعلماء التقاة ما يزول به الداء ويشفى هذا السقام.
فقد أوجب الله عليهم في هذا الموقف أن يبصروا المسلمين بمغبة التنازع والتفرق، وأنه محرم عليهم، وأنه يجب عليهم الآن بعد نزول البلاء وتحقق النذر أن تتصافى قلوبهم وتطهر من الضغائن والأحقاد صدورهم، وتقلع عن الهواجس والأهواء جماعاتهم وتتراحم وتتواد، وتتعاطف، وتلتقي على كلمة سواء في جهاد الأعداء واستعادة العزة والكرامة، ودفع الأسواء.
والله تعالى يقول:} وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُم} ، ويقول:} وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا {، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"والمسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً"، ويقول:"مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"، إلى كثير من الآيات والأحاديث في هذا المقام الناهية عن التفرق، الحاثة على الاجتماع والوئام والتعاون والتناصر.
فمن أهم الواجبات على الدعاة إلى الله، وعلى سائر العلماء أن ينصحوا ويفصحوا ويبصروا، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وعلى من يعصي تدور الدوائر.
ولقد حلت بالمسلمين الكارثة الماثلة الآن بسبب هذا التفرق الممقوت والإعراض عن الاعتصام بحبل الله المتين، وهو كلام رب العالمين وعن أحاديث سيد المرسلين، فعلينا أن ندعو إلى الرجوع إليهما والائتمام بهما في كل شؤوننا {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} .
وهذا كتاب ربنا وشريعة نبينا نور وهدى وبصائر لمن استمع إليهما، وفيهما كل الخير والفلاح في كل زمان وأمة ومكان، فلنأخذ بهما، ولننبذ كل ما يخالفهما، والله تعالى كفيل بنصرنا على أعدائنا} وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ {،} إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} .
ذلك هو العدو الداخلي، وهذا طريق الخلاص منه، والانتصار عليه، فهل نحن سالكون هذا الطريق المشروع الآمن؟ نرجو من الله التوفيق له.
أما العدو الخارجي، فاعلموا أيها الإخوان أن أعداء الإسلام كثيرون، قد أجمعوا مع تفرقهم في النحل والمذاهب والآراء على الكيد للإسلام، وكتابه ورسوله، ودعوته، وبلاده، وحاضره، ومستقبله بمختلف الوسائل بحنق وغيظ وتدبير وخطط مرسومة.
فهناك الصهاينة الباغون يدبرون للإسلام منذ قرون أسوأ التدبير وأخفاه سعياً وراء تفتيت الجماعة الإسلامية، وإشعال نار الفتن بين المسلمين، والفرقة والاختلاف في كل مهامهم، بأساليب شتى لا يتسع هذا المقام لشرح تفصيلها.
وإنما أذكر وسيلة واحدة خفيت حقيقتها على كثير هي (الإخاء الماسوني) فقد أنشئوا نظام الماسونية، وأقاموا له فروعاً في أكثر الدول، وشكلوا جمعياته فيها، ووضعوا له نظماً، واصطلاحات ورسوماً، يتعارف بها الأعضاء المنتسبون له من كل دولة، وأهم مبادئه الإخاء بين جميع الأعضاء مهما اختلفت دياناتهم وجنسياتهم وبلادهم، فيصبح الماسوني أخاً للماسوني، يضحي في سبيله بكل غال، ويعاونه بكل وسيلة، ويحقق أغراضه مهما تعارضت مع دينه أو وطنه أو أخلاقه، فاليهودي يتآخى مع المسلم، والمسلم يتآخى مع المسيحي، والمسيحي يتآخى مع الملحد، وكلهم إخوة متناصرون، يُضحُّون في سبيل هذه الأخوة بكل شيء، وبذلك تحل الرابطة بين المسلم وأخيه المسلم إذا تعرضت مع الأخوة الماسونية، ويحل محل رابطة الإسلام وأخوته التي شرعها الله تعالى رابطة الماسونية الأثيمة.
وقد اغتر بهذه الدسسية بعض القدامى، فانخرطوا في سلك الماسونية ومجامعها الدولية بسلامة نية، وحسبوها أخوة بريئة بين الإنسان وأخيه الإنسان، وتورَّطوا فيها كثيراً، والحمد لله قد خفّت وطأتها نوعاً حيث ظهرت العداوة أخيراً في وضح النهار، وقد كانت في أول الأمر خفية متوارية أبان الضعف والتدبير.
هذه إحدى مكائد الصهيونية العقائدية والاجتماعية.
واليهود كما تعلمون قوم بهتٌ يأكلون السحت، ولا يعيشون إلا بالحرام، ولا يبالون في سبيل المال بشيء من الدين أو الأخلاق أو حرمة الأعراض، فهم عبّاد المال أينما وجد، وبأي طريقة اكتسب، وهم يساكنون المسلمين في بلادهم منذ القدم قبل أن يحتلون فلسطين ويكوِّنوا لهم دولة، فنشروا الربا بين المسلمين، وأغروهم بمكاسبه الهائلة، فتبعهم من ضعُفَ إيمانُه وخلقُه من المسلمين. واليهود في كل العالم ملوك المال، القابضون بأيديهم على زمام الاقتصاد، حتى في أميركا فبه يتحكمون، ويملون سياستهم على كثير من الدول والبلاد والأشخاص ما في ذلك شك، ذلك بعض خطر اليهود، والاحتياط منه ودرؤه عن المسلمين أن يأخذوا بكتاب الله في تحريم الربا بجميع صوره وأشكاله، وفي آداء حق المال لمن يستحقه كما أمر الله تعالى.
وبذلك تنقطع مادة من أعظم مواد الشر والفتنة التي يقيمها اليهود وأقاموها من قديم في بلاد الإسلام.
وهذا كتاب ربنا بين أيدينا في هذا المجال صريح فيه وعلاج شاف لمن يبغيه.
أما المسيحيون وهم العدو الثاني فقد مثلوا دورهم في الكيد للإسلام، وإيذاء المسلمين بصور شتى، منها فتنة التبشير في البلاد الإسلامية (كما يسمونه) لإدخال المسيحية فيها وإبعاد الراغبين في الإسلام عن الإسلام.
يقيمون لتحقيق أغراضهم المستشفيات المجانية وينفقون الأموال الطائلة في الترغيب في المسيحية بمختلف الطرق، وفي الطعن في الإسلام بكل افتراء، ولهم في إفريقيا وخاصة في وسطها ومجاهلها مجال فسيح، وقد ساعدهم في مهمتهم الاستعمار الخبيث الذي منيت به تلك الأصقاع، فلم يكن استعماراً إقليمياً سياسياً اقتصادياً فحسب وإنما كان مع كل ذلك استعماراً دينياً فظيعاً.
وقد بقي ولا يزال أهل تلك الأصقاع يعانون آثاره حتى بعد الاستقلال وخلع نير الاستعمار، ولدينا من ذلك صادق الأخبار.
هذه دسيسة مسيحية ظاهرة.
وهناك دسيسة أخرى جميلة الظاهر، قبيحة الباطن هي دسيسة الدعوى العامة إلى تحديد النسل أو تنظيمه كما يقولون في البلاد الإسلامية، وقد دعا إليها كثير، وخاضت فيها الصحف مراراً، ولا تزال موضع الحديث ومحاولة التنفيذ، وإليكم طرفاً من تاريخها.
نبتت هذه الفكرة بادئ بدء من المسيحيين حتى خافوا كثرة النسل في المسلمين بسبب جواز تعدد الزوجات، وشريعة الإسلام على خلاف ما هو عند المسيحيين في تحريمه، وحسبوا لكثرة المسلمين حسابها لما فيها من القوة والعزة والغلبة، وقديماً قيل:"إنما العزة للكاثر"؛ ولأنها سبب العمل لرفع نير الاستعمار والتخلص من استغلال الأجنبي لموارد الرزق في البلاد، وبقاء البلاد لأهلها أرضاً وغلة وثمرات، فأشاعوا في طول البلاد وعرضها أن كثرة التناسل ستؤدي بالشعوب وتسبب القحط الماحق عما قريب، وبالتالي الهلاك والفناء بعد الفناء، بحجة أن حاصلات البلاد لا تكفي لمؤن أهلها، والعلاج لذلك تحديد النسل أو تنظيمه حتى لا يتزايد وينمو، وبدأوا وأعادوا في ذلك، وانتحلوا إحصاءات وبينات في ذلك لا تحمل في ظاهرها إلا الوجه الاقتصادي.
واغتر بذلك بعض المسلمين فرسموا خططهم وأخذوا يكتبون في ذلك، وألقى بعض المتعلمين بدلالهم فيه حتى قاسه بعضهم على العزل المعروف، وقال بجوازه شرعاً، فجوّز التحديد أيضاً قياساً عليه.
وقد خضنا عباب هذا الموضوع منذ سنين، وكتبنا فيه في الصحف وغيرها، وكشفنا عن الباعث على إثارته، وأنّ حكم العزل مختلف فيه بين الأئمة كما ذكره الإمام ابن القيم في زاد المعاد؛ فمنعه فريق كثير، وأجازه بعضهم بشرط رضا الزوجة الحرة به، وقلنا إنه ضرر اجتماعي؛ لأن مصلحة المسلمين في كثرتهم لمقاومة الاستغلال والاحتلال، وللجهاد في سبيل الله، وفي سبيل إنقاذ البلاد، وهاهي الحروب الطاحنة تفني العديد من الأنفس فما لم تكن في الأمة عوض عنهم تذل وتخضع.
على أن الأرزاق بيد الخلاق، وليس الرزق مقصوراً على الزراعة ولا على الإنتاج، وهناك الصناعات والتجارات والعالم كله رقعة واحدة يستفيد بعضهم من بعض، وكلٌّ ينتفع بما عند الآخر بطريق التبادل، والدعوى العامة لتحديد النسل خطر على المسلمين، ولا تجوز شرعاً، فقد ورد أنّ الشارع يباهي بأمته وكثرتها الأمم الأخرى يوم القيامة، وأثبتنا ذلك في فتاوينا المطبوعة بمصر، وأهبنا بالمسلمين أن يكفوا عن هذه الدعوة العامة والدعاية الخطيرة.
وأخيراً حذّرنا ونحذر من هذه الدسيسة الخبيثة الأجنبية، والله المستعان.
والدول المسيحية بأسرها لا تحمل للإسلام والمسلمين إلا أشد البغض، وتدبر لهم أسوأ التدبير، علم ذلك من علمه وجهله من جهله.
وبهذه المناسبة نقول: إن على المسلمين العمل الجدي على الاكتفاء الذاتي، في كل أمورهم عما بأيدي تلك الدول، من صناعات وعلوم وغيرها، حتى يقفوا معهم موقف الند للند، وبذلك يخشون بأس المسلمين ويحسبون لهم ألف حساب.
ولنقتصر في القول في الصهيونية والمسيحية على ما قدمنا كأمثلة ظاهرة على ما يحبكون للمسلمين من تدبير وسوء.
ونقول: إنّ أمامنا الآن عدواً شديد الخطر، واسع الحيلة والمكيدة، وهو الشيوعية الملحدة الضالة التي تناهض الأديان كلها وخاصة الإسلام، ولذلك نراها تناهض اليهودية والمسيحية بهوادة ورفق، ولكنها تناهض الإسلام بقسوة وجبروت وطغيان وحنق، وترى في تعاليم الإسلام أعظم عقبة وألد عدو لها، تعمل جاهدة للقضاء عليه.
انظروا إلى ما فعلت الصين، وما فعلت روسيا في الأمم المسلمة الشرقية كالتركستان، أبادت أكثرهم واستلبت بلادهم وأموالهم، وحرمتهم من شعائر دينهم، حتى أصبح الجهر بالصلاة جريمة فظيعة يعاقب عليها بالحديد والنار، ولقد سمعت أن قبر الإمام البخاري أصبح مزبلة تجمع فيه القمامات، وكلكم يعرف ما يفعله الشيوعيون في أندونيسيا وباكستان وغيرهما ضد المسلمين، وطغيانهم أشبه، بل أكثر وأطم من طغيان المغول في الزمن الغابر، بل هم خلفاؤهم في هذه الفظائع.
الشيوعية شرّ مستطير، وقد زحفت إلى كثير من البلاد الإسلامية، وكلكم تعرفون أنباءها من الصحف وغيرها ولا تتوقف في زحفها، وذلك لضعف المسلمين في الأقطار التي منيت بها وتفرق كلمتهم، وتمزق جامعتهم ومجافاتهم لتعاليم دينهم.
إنّ خطة الشيوعية الاستحواذ على أقطار الإسلام، وصرف الشباب الناشئ عن الإسلام إلى ما يريدون، وتصوير مبادئهم بصور خلابة كاذبة حتى يقبل الناس عليها ويرون فيها المنقذ للفقراء، ذلك هو الخطر الداهم، وسيتفاقم لو ظللنا في عجابة وجهالة وتفرق وتمزق ومقاطعة لأحكام الإسلام الحنيف، فهل آن للمسلمين أن يفيقوا من غفلتهم، وأن يجمعوا ما تشتّت من أمرهم، وأن يقفوا صفاً واحداً ضد هذا الهجوم الباغي الأثيم؟.
هل آن للمسلمين أن يعرفوا أنّ الشيوعية لا تبقي منهم باقية، لا على أرواح، ولا على أعراض، ولا على أموال، ولا على جماعة، ولا على تعليم إذا انتصرت، وأخيراً تمحو الإسلام والعياذ بالله في أقطار الإسلام، وأن يعرفوا أن العاصم لهم من هذا الشر المستطير هو الرجوع إلى دينهم الحنيف والاتحاد والتعاون.
أيها المجاهدون، أيها الطلاب، أيها العلماء، أيها القادة أيقظوا قومكم من غفلاتهم، ودقوا أجراس الانتباه فوق رؤوس نيامهم، وأفهموهم أن الخطر يحدق بهم، وأن الإسلام يناديهم من أعلى منابره، ومن الحرمين الشريفين، ومن حرم أولى القبلتين أن يدفعوا عنه هذا الخطر ويردوا البغاة على أعقابهم.
تلك هي كلمتكم الآن قبل كل كلام تريدونه؛ لأن العدو ليس على الأبواب، وإنما هو في داخل الأرجاء جاثم على الصدور.
أنقذوا الشباب من فتنته وجهالته وغرامه بتقليد الأجنبي.
علّموهم حكم الله ورسوله في هذا الموقف الخطر.
نادوا كل مقتدر على حمل لواء المعارضة للعدو للخروج للميدان للجهاد.
نادوا الجميع بالوحدة الشاملة، وتطهير القلوب من المحن والأضغان والوقوف صفاً واحداً كالبنيان المرصوص في درء هذه الفتنة.
علّموهم أن الإسلام دين الوحدة دين الاجتماع، دين الوئام، دين الألفة، دين السلام ما سلم دين الجهاد إذا هيض جناحه، هو الدين العاصم من كل الشرور والمحقق للخير كله ولسعادة الأولى والآخرة.
ذكّروهم بالتاريخ الماضي وكيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاهدون على قتلهم وكثرة عدوهم وعتاده، ولكنهم كانوا أقوياء بالحق والصدق والإيمان والعمل الصالح، ولذلك نصرهم الله على أعدائهم وأذل الشرك والطغيان في بلاده.
علم الله أني أشعر بالخطر العظيم على الإسلام والمسلمين من الشيوعية ودعاتها شعوراً قوياً، وأسأل الله أن يحفظنا منها، وأن يوفّق المسلمين لما فيه صلاح أمرهم وجمع شملهم وتوحيد كلمتهم، وينصرهم على أعدائهم، وأن يذلّ أعداء الإسلام على اختلاف أساليبهم وهو القادر على ذلك والمستعان في كل أمر، والقوي المتين القاهر ولا مرجع في كشف الضر سواه سبحانه.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
للشيخ عبد العزيز بن باز
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد:
فإنّ من أهم الواجبات الإسلامية التي يترتب عليها صلاح المجتمع وسلامته ونجاته في الدنيا والآخرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك هو سفينة النجاة كما ثبت في صحيح البخاري عن النعمان بن بشير رضي الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها؛ كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا"، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا"، فتأمل أيها المسلم هذا المثل العظيم من سيد ولد آدم ورسول رب العالمين، وأعلم الخلق بأحوال المجتمع، وأسباب صلاحه وفساده، تجده واضح الدلالة على عظم شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه سبيل النجاة، وطريق صلاح المجتمع، ويتضح من ذلك أيضاً أنه واجب على المسلمين، وفرض عليهم القيام به؛ لأنه هو الوسيلة إلى سلامتهم من أسباب الهلاك. وقد أكثر الله سبحانه في كتابه الكريم من ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذكر أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي خير الأمم، بسبب صفاتها الحميدة التي من أهمها: قيامها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال عز وجل:} كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ {، وتأمل أيها المسلم الذي يهمه دينه وصلاح مجتمعه كيف بدأ الله سبحانه في هذه الآية بذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قبل الإيمان، مع كون الإيمان شرطاً لصحة جميع العبادات، يتبين لك عظم شأن
هذا الواجب، وأنه سبحانه إنما قدم ذكره لما يترتب عليه من الصلاح العام. وقال عز وجل {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ، فانظر يا أخي كيف بدأ في هذه الآية بذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قبل الصلاة والزكاة، وما ذاك إلا لما تقدم بيانه من عظم شأنه وعموم منفعته وتأثيره في المجتمع، وتدل الآية أيضاً على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أخص أخلاق المؤمنين والمؤمنات، وصفاتهم الواجبة التي لا يجوز لهم التخلي عنها، أو التساهل بها، والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقد ذم الله سبحانه من ترك هذا الواجب من كفار بني إسرائيل، ولعنهم على ذلك، فقال سبحانه في كتابه المبين من سورة المائدة} لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ؛ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ {، وفي هذه الآية إرشاد من الله سبحانه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى أنّ سبب لعن كفار بني إسرائيل وذمهم هو عصيانهم واعتداؤهم، وأنّ من ذلك عدم تناهيهم عن المنكر فيما بينهم، لتحذر هذه الأمة سبيلهم الوخيم، ويبتعدوا عن هذا الخلق الذميم، ويتضح من ذلك أن هذه الأمة متى تخلقت بأخلاق كفار بني إسرائيل المذمومة استحقت ما استحقه أولئك من الذم واللعن؛ لأنه لا صلة بين العباد وبين ربهم إلا صلة العبادة والطاعة، فمن استقام على عبادة الله وحده وامتثال أوامره، وترك نواهيه استحق من الله الكرامة فضلاً منه وإحساناً، وفاز بالثناء الحسن والعاقبة الحميدة، ومن حاد عن سبيل الحق استحق
الذم واللعن، وباء بالخيبة والخسران، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" رواه مسلم رحمه الله في صحيحه.
وروى مسلم أيضاً عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".
فاتق الله أيها المسلم في نفسك وجاهدها لله، واستقم على أمره، وجاهد من تحت يديك من الأهل والذرية وغيرهم، وأْمُرْ بالمعروف وانْهَ عن المنكر حسب طاقتك في كل مكان وزمان، عملاً بهذه الأدلة الشرعية التي ذكرتها لك آنفاً، وتخلّق بأخلاق المؤمنين، واحذر من أخلاق الكافرين والمجرمين، واحرص جهدك على نجاتك، ونجاة أهلك وإخوانك المسلمين، كما قال عز وجل:} وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا {، وقال سبحانه:} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وقال:"يا أيها الناس إنّ الله يقول لكم: مروا بالمعروف وانهَوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أجيبكم، وتسألونني فلا أطيعكم، وتستنصروني فلا أنصركم" خرجه ابن ماجه وابن حبان في صحيحه وهذا لفظ ابن حبان.
والمعروف يا أخي هو كل ما أمر الله به ورسوله، والمنكر هو كل ما نهى عنه ورسوله، فيدخل في المعروف جميع الطاعات القولية والفعلية، ويدخل في المنكر جميع المعاصي القولية والفعلية، ثم اعلم يا أخي أنّ كل مسلم راع على من تحت يديه، ومسئول عن رعيته، كما ثبت في صحيح البخاري رحمه الله عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهل بيته ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والعبد راع في مال سيده ومسئول عن رعيته"، ثم قال صلى الله عليه وسلم:" ألا فكلكم راع ومسئول عن رعيته".
فاتق الله يا عبد الله، وأعد جواباً لهذا السؤال، قبل أن ينزل بك من أمر الله ما لا قبل لك به، والله المسئول أن يهدينا جميعاً صراطه المستقيم، وأن يوفقنا وسائر المسلمين للقيام بأمره، والثبات على دينه، والتآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر والتواصي بالحق، والصبر عليه بصدق وإخلاص، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
نائب رئيس الجامعة الإسلامية
بالمدينة المنورة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مع الصحافة
الصحفي الذي أنشأ حزبا شيوعيا ثم تحول إلى الفكر الإسلامي
نقلا عن جريدة الميثاق
نشرت جريدة الميثاق الإسلامي في عددها (996) تحقيقا صحفيا مع الكاتب المشهور محمد جلال كشك.
في بيروت على موعد سابق التقيت بالكاتب الإسلامي المجاهد الأستاذ: محمد جلال كشك. وعلى امتداد ما يقارب الثلاث الساعات كنت أناقشه وأستمع إليه وهو يتحدث بانطلاق وسلاسة حديث الإنسان المدرك لقضيته، العامل لها، المتفاني في عمله.
الأستاذ جلال كشك مثال حي لشاب يعيش آلام وطنه الصغير مصر، ووطنه الكبير العلم الإسلامي، فقد جعله تفاعله الدائم مع الأحداث السياسية التي مر بها الوطن العربي يبحث عن المنقذ، عن الفكر الذي يبني الأمة، ويواجه بها تحديات العصر.. ولعل أولى تحديات عصرنا التي تصفع العالم العربي والإسلامي بعنف هي إسرائيل. وفي بحثه عن الفكر القائد اعتنق الشيوعية عام 1946م، وعمره آنذاك 17سنة. وكان من مؤسسي الحزب الشيوعي المصري (تعاليم الراية) .
والحديث عن الحزب الشيوعي المصري يقودنا بالضرورة إلى توضيح هام، وهو أنه لم يكن في مصر حزب شيوعي واحد، أو حزبان باعتبار التقسيم الدولي بقيادة الحركة الشيوعية بين موسكو وبكين، كلا، كان في مصر ما يقارب العشرين حزبا شيوعيا: منهم (تنظيم الراية) الذي شارك في تأسيسه الأستاذ جلال، ومنها (الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني) ، ومنها (الحركة الديمقراطية الشعبية- د. ش-) ، ومنها (أسكرا) ، ومنها (المنظمة الشيوعية المصرية) .. الخ.
وبعد خمس سنوات من الانتظام في الحركة الشيوعية المصرية اعتزل الأستاذ جلال الحزب الشيوعي عام 1950م على أثر خلاف حول الكفاح المسلح في القتال والموقف من حكومة الوفد.
يقول الأستاذ جلال: "هنالك فترة مرّ بها كل ماركسي في أطوار تخليه الرسمي عن العمل في الحزب، يقول فيها: إن الماركسية فلسفة عظيمة
…
إلا أن الماركسين العرب انحرفوا عنها، وهذا في الواقع بسبب فساد الماركسية نفسها".
وعاش الأستاذ بين عدم الانتماء حتى عام 1958م حيث تبيّن له بصورة واضحة (خيانة الشيوعين للفكر العربي حينما عارضوا الوحدة العربية) .
وفي عام 1962م كتب سلسلة مقالات بعنوان (خلافنا مع الشيوعين) .. فردت البرافدا لأول مرة تهاجم صحفيا مصريا باسمه وقالت: "إنّ استمرار جلال كشك في الصحافة المصرية يسيء للاتحاد السوفيتي"، فأخرج من حقل الصحافة عام 1964م إلى عام 1967م، حيث قضى ثلاث سنوات حرم فيها حق العمل - أي عمل -، ثم أعيد للعمل في مؤسسة (أخبار اليوم) .
والأستاذ جلال كشك كاتب إسلامي غزير الإنتاج، فله الآن 13 مؤلفا إسلاميا، وخمس كتب كتبها في المرحلة الشيوعية "ولا أحب ذكرها الآن"كما يقول، والجدير بالذكر أن أحد كتبه الشيوعية (الجبهة الشعبية) كان يدرس في مناهج الأحزاب الشيوعية المصرية للأعضاء المنتظمين.
والأستاذ جلال متزوج وله ثلاث أولاد: أحمد وخالد وعمر، ويقيم وأسرته الآن بيروت في هجرة لا يدري هل تطول أم تقصر.
ماذا بقي للماركسية:
قلت للأستاذ جلال كشك: نعرف أنك كنت شيوعيا ثم انتقلت للفكر الإسلامي.. فما هي أسباب ذلك؟ وكيف حدث اعتناقك للشيوعية؟ .. وكيف عدلت عن ذلك؟.
في الحقيقة كثيرا ما أسأل هذا السؤال، وإن كنت أعتقد أن السؤال الجدير بالبحث الآن هو: لماذا يبقى الإنسان ماركسيا بعد أن فقدت الماركسية كل مبرراتها؟ فقد اعتنقت الماركسية في الأربعينيات للبحث عن حل لمشاكل مجتمعنا، وكان من المفروض أن تقود الأحزاب الشيوعية الثورة العربية في المغرب العربي ضد الاستعمار الفرنسي، وفي الشرق ضد الاستعمار البريطاني، ثم ضد الصهيونية التي تركزت فيها كل متناقضات الإمبريالية العالمية، ولكن الذي حدث أنّ حربنا ضد إسرائيل، والحرب الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي في المغرب، لم تقم فقط خارج نطاق الأحزاب الشيوعية بل وضد هذه الأحزاب.
الأحزاب الشيوعية في المغرب العربي رفضت الثورة ضد فرنسا، والأدلة على ذلك واضحة في تاريخ الحزب الشيوعي الفرنسي، وفي مذكرات بن بركة عن الحزب الشيوعي المغربي.
وفي الشرق العربي قاتلت وشنق بعض قادتها دفاعاً عن حق إسرائيل في البقاء. فقد أصدر مثلا الشيوعيون العراقيون عام 1953م بيانا نشرته جريدة (القاعدة) الناطقة باسم الشيوعيين العراقيين كتبت الجريدة:
"إن الشعب العراقي يرفض بإباء أن يحارب الشعب الإسرائيلي الشقيق"، وأضافت "..لا مصلحة في الحرب للكادحين العرب واليهود بل للبرجوازية العربية العفنة"، نلاحظ أنها لم تساو حتى في الرجعيات بل نصت على البرجوازية العربية.
والحزب الشيوعي المصري وصف حرب فلسطين بأنها "دبرها الاستعمار وإرادتها الرجعية"كما جاء في تقرير الرفيق (خالد) !.
ويواصل الأستاذ جلال يقول: "وفي اعتقادي أن هناك سببا ذاتيا لخيانة الشيوعية العربية وهو خضوعهم في المغرب العربي لتوجيهات الحزب الشيوعي الفرنسي الذي كان يصوّت في الجمعية الوطنية الفرنسية على ميزانية الحرب ضد الجزائر، ويوجه الأحزاب الشيوعية في المغرب العربي ضد الثورة البرجوازية بزعم أن الحركة التقدمية عليها أن تنتظر الثورة البروليتارية في فرنسا.
وفي المشرق العربي كان زعماء الأحزاب الشيوعية كلهم يهود، مثلا (الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني) كان يتزعمها هنري كورييل وهو يهودي، و (الديمقراطية الشعبية) كان يرأسها يوسف درويش وريمون دويك وهما يهوديان، و (أسكرا) يرأسها إيللى شيورتز وهو يهودي، و (المنظمة الشيوعية المصرية – م. ش.م -) ترأسها أوديت وزوجها سلمون وهما يهوديان، المحرر وسكرتير الحزب الشيوعي العراقي عام 1947م السيد شلمون دلال يهودي، وسكرتير الحزب الشيوعي السوري اللبناني قبل انتخاب خالد بكداش جكوب تيير يهودي، وبعد انتخاب خالد بكداش أرسلوا فرج الله الحلولتل أبييب لتنظيم العمل واستخدموا نخمان ليفنسكي مستشار للحزب.
كان من البلاهة - إذن - أن نتوقع من هؤلاء اليهود أن يقودوا حربا ضد إسرائيل، بل وكان وجودهم وكفاحهم جزء من المخطط الصهيوني لإقامة إسرائيل، هذا هو السبب الذاتي لإفلاس الماركسية في الوطن العربي.
لكن هناك سبب موضوعي وهو: إفلاس الماركسية كنظرية عالمية.
ونلاحظ أنه منذ انتصار ثورة الصين لم تقم ثورة واحدة بقيادة حزب شيوعي، بل إن الثورات الناجحة كلها كانت ضد الحزب الشيوعي. وأرجوا من الشباب المتحمسين الذين يصرخون باسم جيفارا أن يقرأوا مذكراته ليعرفوا إن كان يقاتل ضد الحزب الشيوعي البوليفي..
الماركسية خدمة لمصالح روسيا:
إن الماركسية قد تحولت إلى سياسة تخدم المصالح القومية للاتحاد السوفياتي، ومن ثم أصبح على الثوريين أن يفتشوا على الحل خارجها.. فكانت الخطوة الثانية وهي الاعتزاز بالقومية.. قوميتنا التي تتعرض لخطر الإبادة الصهيونية. فكان الالتفات إلى التراث والتاريخ والتعرف على الينابيع الثورية في الإسلام.. وفي اعتقادي أن نسبة كبيرة ممن يعتنقون الماركسية إنما يرجع ذلك إلى جهلهم بالإسلام.
أين موقف الشيوعيين الثوري من الاستعمار الصهيوني لبلادنا؟
أين كتائبهم المسلحة؟ ما موقفهم من المشروع السوفياتي الذي يطالب بحدود آمنة وقوات دولية تضمن هذه الحدود.. أي الاعتراف ببقاء إسرائيل، وتصفية الحركة الفدائية؟
كنا نتوقع أن يكون الشيوعيون عند خط النار ضد إسرائيل ولوبوصفها قاعدة للأمبريالية الإمريكية.. ولكن العكس هوما نراه.
الحزب الشيوعي الأردني يرفض رسميا الكفاح المسلح ضد إسرائيل.
الحزب الشيوعي العراقي يشن الحرب في مؤخرة الجيش العراقي..
إن الشيوعية قد انحازت وبصفة نهائية في العالم العربي إلى المعسكر المعادي للثورة العربية.
لو أن الشيوعيين عارضوا المشروع السوفياتي الآن لاستطعنا أن نحصل على تدعيم أكبر من (صديقنا) الاتحاد السوفياتي..
إني أسألك: ما هي الثورية إن لم تكن الحرب ضد إسرائيل الآن؟ وهل الذي يرفض الحرب ضد إسرائيل ويؤيد الرقص التوقيعي في الجامعة تقدمي؟ أم الشيخ الذي يستشهد في سيناء والجولان والضفة الغربية حتى لوكان يبقي امرأته في الحجاب؟
إن التقدمية هي موقف من حركة التاريخ.. وفي اعتقادي أن الصراع ضد الغزو الصهيوني يجب أن يكون الآن الخط الفاصل الذي تنقسم فيه كل القوى في الوطن العربي.
هم ودينهم:
يا أستاذ جلال ما هي صلة الإسلام بالصراع ضد الصهيونية؟
ما من قضية زيّفت باتفاق مثل قضية الوجود الإسرائيلي في قلب بلادنا، تقوم دولة تحمل اسم نبي من التوراة ليس لها دستور؛ لأن الأحزاب الدينية تصر على أن التوراة هي الدستور، محرم فيها العمل يوم السبت ولم نر في ذلك أيّ إخلال باقتصادها وارتباطاتها بالبنوك العالمية التي تتعطل يوم الأحد، بل يحرصون على أن تكون الجلسة الأسبوعية للكنيست يوم الأحد، ومحرم فيها على الجيش طبخ الطعام يوم السبت..تقول يائيل دايان في (مذكرات جندي) : "أكلنا طعاما مطهوا يوم السبت 3 يونيو بتصريح خاص من (الحاخام الأكبر) . جيش إسرائيل الذي يوشك أن يمتلك القنبلة الذرية يمتنع عن طبخ الطعام يوم السبت. وبنقوريون وشازار يسيران ميلا ونصف على الأقدام في جنازة شرشيل؛ لأنها صادفت يوم السبت، ومحرم في التوراة ركوب وسائل النقل يوم السبت! ، وعمر بنقوريون 78سنة، وعمر شازار 76سنة في وقت الجنازة، ولم تجد الصحافة العالمية ولا الرأي العام الإنجليزي في ذلك مدعاة للسخرية، ولكنها تجد في ذلك مدعاة للإعجاب. نصف المصلين في مسجد الخليل من العسكريين اليهود نفخوا في البوق إيذانا بانتهاء الصوم. وجميع طائرات شركة (العال) الإسرائيلية وسفن شركة (زيم) لا تقدم لحم الخنزير. في إسرائيل أحزاب دينية معترف بها ولها وزنها. الزواج المدني غير معترف به لحد أنهم رفضوا إعطاء الجنسية لحفيد بنقوريون؛ لأنه من أم غير يهودية. اللغة العبرية لغة رسمية: درسوا بها الصواريخ، وإفساد الرادار! وضرب الطائرات على المدرجات! وألّفوا بها أدباً نالوا به جائزة نوبل العالمية. في نفس الوقت ولأجل أن تقوم إسرائيل صدروا إلينا عملاء يجعلون لب كفاحهم فصل الدين عن الدولة.. ويصابون بالفالج عندما يسمعون بأن الدستور سينص على أن دين الدولة الإسلام. ويسودون الصحائف في أضرار رمضان على الإنتاج - ونحن أمة مستهلكة والحمد لله-، والذين ألغو شعار الهجوم (الله أكبر) من الجيش ولم يعيدوه إلا بعد النكسة
بخمسة عشر شهرا، بينما أول دبابة إسرائيلية دخلت سيناء مكتوب عليها آية من التوراة.. ونصاب بالذين تشغلهم صعوبة اللغة العربية، ويبحثون عن حروف أخرى لها أو عزلها عن مجال العلم بزعم أنها لغة متخلفة.. والعبرية التي انقرضت منذ ألفي سنة أصبحت لغة العلم؛ لأنه لا توجد لغة متخلفة ولغة متقدمة..إنما توجد أمم متخلفة وأمم متقدمة.. وتوجد أمم عاجزة تفقد الثقة في كل مقوماتها.
من هنا فإن الوضع الصحيح بقضية فلسطين هي أنها قضية فلسطينية عربية إسلامية، ولن يقهر التعصب الباطل للتوراة إلا الإيمان الحق بالقرآن، ولن يقهر التآمر العالمي اليهودي إلا حركة بعث إسلامي تحرر فلسطين، وتبدأ في نفس الوقت من خلال وحدة الدم، ومن خلال وضع المبدأ الإسلامي العظيم وهو الجهاد، موضع التطبيق، تتشكل عوامل وحدة الأمة الإسلامية واستكمال مقومات الحضارة الإسلامية.
التعايش السِّلمي معناه سيطرة إسرائيل:
يا أستاذ جلال.. العالم العربي خلال عام ونصف بعد هزيمة حزيران يتحدث عن الحل السلمي والحل السياسي لقضية فلسطين، فما رأيك في هذا الحل السياسي والسلمي؟
أعتقد أننا يجب أن نتكلم بصراحة، فما من أمة تواجه لحظة مصيرية مثل التي تواجهنا الآن، إنّ الاعتراف بإسرائيل، وقبول التعايش السلمي معها يعني بكل وضوح قبول السيطرة الإسرائيلية على المصير العربي. والذين يطالبون بالحل لا يريدون إلا الاستمرار في التسلط على الشعوب العربية في ظل الحماية الإسرائيلية. وكلما طالت حكاية الحل السلمي كلما زاد التفوق الإسرائيلي.
الزمن ليس معنا
ألا يمكن أن يكون الحل السلمي مناورة لكسب الوقت لاستكمال التسلح، كما يقول دعاته؟
هذا ما يروجه أنصار الحل السلمي، وهو استمرار للتفكير التضليلي الذي يزعم أن الحرب تكسب خلال سباق التسلح مع أنه ليس فيهم من يدّعي أن العرب سيحصلون على سلاح لا يمكن لإسرائيل أن تحصل عليه، وواضح من سباق التسلّح أن إسرائيل تتفوُّق دائما مع ظهور احتمال الوصول لتسوية دولية تفرض حضراً على تصدير الأسلحة للشرق الأوسط. ومن ذلك يتضح أننا نخسر عسكريا كلما مر الوقت؛ لأن قوات إسرائيل تصبح أكثر دراية بالأرض المحتلة، وتستكمل معدات أحدث من إمريكا، وفي كل يوم يتضح أنه لا سبيل إلى النصر إلا بأن ندخل عنصرا لا تستطيع إسرائيل استيراده وهو الشعب والأرض، فنقاتل بكل الشعب وعلى كل الأرض. ولكن سياسة الحل السلمي تهدف إلى منع الشعب من خوض المعركة؛ لأنه بصراحة توجد نظم تخشى شعوبها أكثر مما تخشى جيش إسرائيل.
إذن هل تعتقد أن العمل الفدائي هو الطريق السليم لتحطيم استسلامية الحل السياسي، وإدخال كل الشعب وكل الأرض في المعركة؟ وهل في إمكان الفدائيين أن يزيلوا إسرائيل من الوجود؟
مؤكد أن العدوان الإسرائيلي الآن قد أصبح من الوضوح بحيث لا يمكن حصره داخل نطاق الحدود الفلسطينية فمصر محتلة..وسوريا محتلة..وعندما نتحدث عن العمل الفدائي فإننا نتصوره (فلسطينيا وسوريا ومصريا) ، ولكن لأنه ليس للفلسطينيين حكومة ولا يتمتعون بنظام ثوري فقد كانوا السابقين إلى حمل السلاح لتحرير أوطانهم. والخطر الحقيقي الذي تخشاه القوى الاستعمارية من نشاط الفدائيين يكمن في حتمية امتداده ليفجر الثورة المسلحة في الوطن العربي ضد الاعتداء الإسرائيلي، وضد الذين يحمون هذا الاعتداء بمنعهم الشعب بمقاتلته. وإن تصوري للمستقبل هو أنّ الحركة الفدائية الفلسطينية ستفجِّرُ الثورة العربية التي بدورها ستحرك البركان الإسلامي القادر على أن يدكّ إسرائيل، ويحرق كل عناصر الضعف والانهيار والهزيمة.
لذلك أرى أن واجب كل مسلم الآن، وكل ثوري وكل عربي، وكل فلسطيني، وكل شريف، مهما كان جنسه أو دينه أن يجنّد كل إمكانياته لدعم (منظمة فتح) التنظيم الشرعي والثوري للثورة الفلسطينية. وأن نسحق مؤامرات التعدد والانشقاق والعمليات الصبيانية التي تحركها أسماء ذات تاريخ مريب في بذر الشقاق والانقسام في العراق وسوريا والجنوب العربي.
رأيك في الإخوان:
لنتحول إلى مجال آخر ونسألك عن رأيك في الحركة الإسلامية في مصر؟
أولاً يجب أن أقول: إنني لم أكن يوماً ما منتميا إلى حركة الإخوان المسلمين ولا أزال غير منتميا، ولا شك أن لي بعض التحفظات على ما مر من أحداث..غير أن هنالك أمور تستدعي التأمل: مصرع حسن البنا، وضرب الإخوان عام 1948م أي في المرحلة الأولى من إنشاء إسرائيل.. ثم ضرب الإخوان عام 1954م إلى حد اعتقال 18 ألف إنسان في يوم واحد كما قال الرئيس جمال عبد الناصر أمام المؤتمر القومي قبل عامين من غزو إسرائيل لمصر عام 1956م.. ثم اعتقال الإخوان وإعدام سيد قطب عام 1965م أي قبل عامين من الغزو الإسرائيلي التالي لمصر.. هذه كلها حقائق تستدعي التأمل.
ولا شك أنّ شباب الإخوان كانوا القوة الوحيدة المدربة على القتال بين المدنيين المصريين كما شهد بذالك الرئيس أمام المؤتمر القومي.
ولا شك أنهم (متعصبون!!) إسلاميا، أي أنهم سيستخدمون خبرتهم العسكرية بدافع من (تعصبهم الديني) لمقاتلة التعصب الإسرائيلي كما حدث في فلسطين عام 1948م.
هذه الظواهر يجب أن نعيد فيها النظر، وأن نفكر كيف تدبر هذه المؤامرات قبيل كل غزوة إسرائيلية. وكل يوم يتأكد أنه بغير حركة إسلامية لا يمكن مواجهة التحديات التي تواجه أمتنا، وفي نفس الوقت نجد أن كتابات الغرب اليمينية واليسارية تصب حقدها على الحركات الإسلامية.
كل هذا يدفعنا إلى أن نقدر الجهود المخلصة التي كانت تدفع الشباب إلى البحث عن حل إسلامي. وإذا لم يكن قد استطاع الوصول إلى الحل الذي يخلص أمتنا فيجب أن ندرك خطورة وصعوبة المهمة التي تصدى لها، فالحلول ليست جاهزة يمكن استيرادها كما هو الحال في الماركسية. والقوى العالمية المتفوقة بغير حد تتربص بكل محاولة إسلامية.. وشرطة العدو الصليبي سرعان ما تنقض على كل تجمع، ويجب أن نذكر أنه إلى يونيو عام 1967م لم يشنق في العالم العربي غير المسلمين.. بينما إيللي كوهين قبض عليه في مصر عام 1954م وأفرج عنه لعدم ثبوت الأدلة في القضية المعروفة بفضيحة (لاقون) ، في نفس الوقت الذي كانت فيه المخابرات (صلاح نصر) تعتقل 18 ألف شخص في اليوم الواحد كإجراء وقائي.
كل هذا يؤكد صعوبة المهمة التي وهب البعض نفسه لها، ولكن أعتقد أنها لم تذهب هباء.. فلولا جهادهم ومعاركهم لما اهتدى الكثيرون إلى الفكر الإسلامي.
نداء للرفاق القدامى:
وفي ختام حديثنا يا أستاذ جلال، هل تحب أن تقول شيئا إلى أهل السودان؟
أحب أن أوجه كلمة لزملائي في الحزب الشيوعي السوداني الذين عشنا معهم سنوات الجامعة، والذين أعتقد أنهم أفضل الشيوعيين في المنطقة نظرا لثقافتهم العربية وللمناخ الإسلامي الذي يعيشون فيه في السودان..
أرجو من كل منهم أن يسأل نفسه: هل يناضل من أجل تلك الأهداف التي آمن بها في الأربعينيات؟؟ هل انحصرت التقدمية والكفاح في منع إقرار الإسلام كدين للدولة؟؟ إنني أتمنى أن نلتقي مرة أخرى في ميدان القتال ضد إسرائيل.. فهناك في المعركة ستمتحن كل المبادئ وكل الشعرات. فالذي يؤمن أن المستقبل له في هذا الوطن هو الذي سيقاتل من أجل حرية هذا الوطن.
وبالنسبة للجنوب.. إنني أسألهم: هل إفريقيا مسلمة متضامنة مع العرب أو إفريقيا غير مسلمة؟ ومع بيافرا، ومع الصهيونية ضد العرب؟؟.
حرب الطبقات
من أشهر شعارات الشيوعيين: "حرب الطبقات"، وبهذه المناسبة قسم أحد الكتاب الروس الشعب الروسي بعد ثورة 1917م فقال:
"يتكون شعب الإتحاد السوفياتي من ثلاث طبقات:
أ- طبقة موجودة في معسكرات الاعتقال في سبيريا.
ب- وطبقة سبق لها أن نفيت إلى هناك.
ج- وطبقة ستنفى قريبا".
الفتاوى
لفضيلة نائب رئيس الجامعة الشيخ عبد العزيز بن باز
كتب (ف. ت) من ألمانيا يسأل عن مسألتين:
الأولى: يقول فيها: إن المجازر المسيحية في معظم البلاد الأوروبية والأمريكية درجت على ذبح الخرفان بواسطة الصرع الكهربائي، وعلى ذبح الدجاج بواسطة قصف الرقبة. فما حكم ذلك؟.
والثانية: يسأل فيها عن حكم شحم الخنزير؟ وأنه بلغه عن بعض علماء العصر حل ذلك؟.
الجواب عن المسألة الأولى أن يقال: قد دل كتاب الله العزيز والسنة المطهرة وإجماع المسلمين على حل طعام أهل الكتاب بقول الله سبحانه: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُم} الآية من سورة المائدة، هذه الآية الكريمة قد دلت على حل طعام أهل الكتاب، والمراد من ذلك ذبائحهم، وبذلك ليسوا أعلى من المسلمين، بل هم في هذا الباب كالمسلمين، فإذا علم أنهم يذبحون ذبحا يجعل البهيمة في حكم الميتة حرمت كما لو فعل ذلك مسلم لقول الله عز وجل:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ} الآية. فكل ذبح من مسلم أو كتابي يجعل الذبيحة في حكم المنخنقة، أو الموقوذة، أو المتردية، أو النطيحة، فهو ذبح يحرِّم البهيمة، ويجعلها في عداد الميتات لهذه الآية الكريمة، وهذه الآية يخص بها عموم قوله سبحانه:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} كما يخص بها الأدلة الدالة على حل ذبيحة المسلم إذا وقع منه على وجه يجعل ذبيحته في حكم الميتة.
أما قولكم: إن المجازر المسيحية درجت على ذبح الخرفان بواسطة الصرع الكهربائي وفي ذبح الدجاج بواسطة قصف الرقبة فقد سألت بعض أهل الخبرة عن معنى الصرع والقصف؛ لأنكم لم توضحوا معناهما، فأجابنا المسؤول: بأن الصرع هو إزهاق الروح بواسطة الكهرباء من غير ذبح شرعي، وأما القصف: فهو قطع الرقبة مرة واحدة، فإن كان هذا هو المراد من الصرع والقصف فالذبيحة بالصرع ميتة؛ لكونها لم تذبح الذبح الشرعي الذي يتضمن قطع الحلقوم والمريء وإسالة الدم، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكُلْ، ليس السن والظفر". وأما القصف بالمعنى المتقدم فهو يحل الذبيحة لأنه مشتمل على الذبح الشرعي، وهو قطع الحلقوم والمريء والودجين، وفي ذلك إنهار الدم مع قطع ما ينبغي قطعه، أما إن كان المراد بالصرع والقصف لديكم غير ما ذكرنا فنرجو الإفادة عنه حتى يكون الجواب على ضوء ذلك. ووفق الله الجميع لإصابة الحق.
المسألة الثانية: وهي شحم الخنزير، فالجواب عن ذلك: أنّ الذي عليه الأئمة الأربعة وعامة أهل العلم هو تحريم شحمه تبعا للحمه، وحكى الإمام القرطبي والعلامة الشوكاني إجماع الأمة الإسلامية؛ لأنه إذا نص على تحريم الأشرف فالأدنى أولى بالتحريم؛ ولأن الشحم تابع للّحم عند الإطلاق، فيعمه النهي والتحريم؛ ولأنه متصل به اتصال خلقه فيحصل به من الضرر ما يحصل بملاصقته وهو اللحم؛ ولأنه قد ورد في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه سلم ما يدل على تحريم الخنزير بجميع أجزائه، والسنة تفسر القرآن وتوضح معناه، ولم يخالف في هذا الباب أحد فيما نعلم، ولو فرضنا وجود خلاف لبعض الناس فهو خلاف شاذ مخالف للأدلة والإجماع الذي قبله فلا يلتفت إليه. ومما ورد من السنة في ذلك ما رواه الشيخان البخاري ومسلم في الصحيحين عن جابر رصي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم الفتح فقال:"إن الله ورسوله حرّما بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام.." الحديث، فجعل الخنزير قرين الخمر والميتة، ولم يستثن شحمه بل أطلق تحريم بيعه، كما أطلق تحريم الخمر والميتة، وذلك نص ظاهر في تحريمه، والأحاديث في ذلك كثيرة.
الأخ عبد الباقي بن عبد الرزاق الفلبيني الطالب بالجامعة الإسلامية يسأل عن القول المختار في العدد الذي تنعقد به الجمعة؟.
قد اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة على أقوال كثيرة:
1-
أشهرها: أن العدد الذي تنعقد به الجمعة أربعون رجلا، وبه قال الإمامان مالك والشافعي رحمهما الله وجماعة، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، واحتجوا على ذلك بما روي أن أول جمعة جمعت في المدينة كانت بهذا العدد.
2-
وقيل: تنعقد باثني عشر رجلاً، وهو قول ربيعة ابن أبي عبد الرحمن شيخ الإمام مالك بن آنس رحمة الله عليهم.
3-
وقيل: تنعقد بأربعة، وهو مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله.
4-
وقيل: تنعقد بثلاثة، وهذا القول هو قول الأوزاعي إمام أهل الشام في عصره رحمه الله، وهو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ذكرها عنه جماعة من أصحابه، منهم الموفّق في المقنع، وصاحب الفروع وغيرهما، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
5-
وقيل: تنعقد باثنين.
وفي المسألة أقوال أخرى سوى ما ذكرنا ذكرها أبو محمد بن حزم وغيره.
وأصح الأقوال في هذه المسألة قول من قال: تنعقد بثلاثة لوجوه، منها:
- أن الأصل وجوب إقامة الجمعة على أهل القرى والأمصار، فلا يجوز لهم تركها إلا بحجة، ولا حجة في تركها لمن بلغ هذا العدد.
- ومنها أن الثلاثة أقل الجمع في اللغة العربية، وإطلاق الجمع على الاثنين خلاف الأغلب المشهور في اللغة، فحمل الأدلة الشرعية على ما هو الأغلب أولى وأحوط في الدين.
- ومنها أن بقية الأقوال لا حجة عليها واضحة توجب الأخذ بها والتعويل عليها، فوجب العدول عنها، والأخذ بالقول الذي يجمع الأدلة، ويبرر الذمة وتحصل به الحيطة لطالب الحق. ولو كان العدد فوق الثلاثة شرطا في إقامة الجمعة لنبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأرشد إليه الأمة، فلما لم يوجد شيء من ذلك دل ذلك على أنه ليس بشرط لإقامتها. أما الثلاثة فلا حاجة إلى التنبيه على وجوب إقامتها عليهم؛ لأنهم أقل الجمع، وقد دل النص والإجماع على أنها لا تقام إلا في جماعة، والثلاثة أقل الجماعة كما تقدم.
(غ. غ) يسأل عن: حكم من ترك طواف الوداع من الحجاج؟
الجواب: قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا ينفر أحد منكم حتى يكون آخر عهده بالبيت" أخرجه مسلم في صحيحه من حديث بن عباس رضي الله عنه، وخرّجه الشيخان من حديثه أيضا قال:"أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن الحائض" وقد ودع عليه الصلاة والسلام البيت حين فرغ من أعماله في حجة الوداع وأراد السفر وقال: "خذوا عني مناسككم".
هذه الأحاديث كلها تدل على وجوب طواف الوداع إلا على الحائض والنفساء، فمن تركه من الحجاج فعليه دم لكونه خالف السنة وترك نسكا واجبا، هذا هو الصحيح من أقوال العلماء، وقد صح عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال:"من ترك نسكا أو نسيه فليُهرِق دماً"، وهذا قول أكثر العلماء. أما الحائض والنفساء فليس عليها وداع لحديث ابن عباس المذكور وما جاء في معناه.
(غ. غ) أيضا يسأل عن: حكم النيص الحيوان المعروف؟
الجواب: قد اختلف العلماء رحمهم الله في حكمه؛ فمنهم من أحله، ومنهم من حرّمه، وأصح القولين أنه حلال؛ لأن الأصل في الحيوانات الحل، فلا يحرم منها إلا ما حرمه الشرع، ولم يرد في الشرع ما يدل على تحريم هذا الحيوان، وهو يتغدى بالنبات كالأرنب والغزال، وليس من ذوات النبات المفترسة فلم يبق وجه لتحريمه، والحيوان المذكور نوع من القنافذ ويسمى الدلدل ويعلو جلده شوك طويل، وقد سئل ابن عمر رضي الله عنه عن القنفذ فقرأ قوله تعالى:{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} الآية، فقال شيخ عنده: إن أبا هريرة روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنه خبيثة من الخبائث" فقال ابن عمر: "إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك فهو كما قال".
فاتضح من كلامه رضي الله عنه أنه لا يعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في شأن القنفذ شيئا، كما اتضح من كلامه أيضا عدم تصديقه الشيخ المذكور، والحديث المذكور ضعّفه البيهقي وغيره من أهل العلم بجهالة الشيخ المذكور، فعلم مما ذكرنا صحة القول بحله وضعف القول بتحريمه. والله سبحانه وتعالى أعلم.
المدرسة الأولى
من لي بتربية النساء فإنها
في الشرق علة ذلك الإخفاق
الأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعبا طيب الأعراق
الأم روض أن تعهده الحيا
بالري أورق أيُّما إيراق
حافظ إبراهيم
القدوة المتمثلة!
للشيخ صالح رضا المدرس بالجامعة
وتظل (المدينة الفاضلة) قابعة في زوايا المكتبات، يتراكم عليها غبار الأزمان المتعاقبة، وهي تنظر إلى الفلاسفة الذين رأوها بعين الازدراء؛ لأنهم لم يستطيعوا أن يقيموها على أرض الواقع في عالم الحقيقة وتنظر إلى الناس من حولها نظرة إشفاق ورحمة؛ لأنهم لا يستطيعون بطبيعتهم وجبلتهم أن يتمثلوا الحقائق المجردة، ويتبعوا النظم الأخلاقية ما لم تكن ماثلة أمامهم في رجال يتحلون بها، ويقيمونها في أنفسهم، ثم في مجتمعهم، فإن لم تقم التعاليم والأخلاق في الرجال ظلّت حروفا تسود الكتب، وأشباحا يتصورها الخيال في عالمه، وتستبعدها الحقيقة من عالمها.
ولئن شاركت الفاسفة الأديان في دعوتها إلى الأخلاق، فقد فارقتها، وقصرت عنها، بأن كانت الفلسفة تصوراً لما يجب أن يكون عليه الإنسان، وكان هذا التصور من نتاج الإنسان نفسه، فظلّت نظم الفلسفة خاصة ببعض من يطابق عقله عقل الفيلسوف واضع النظام، وبقي عامة الناس في منأى عن تلك الفلسفة.
وأما الأديان فقد غايرت الفلسفة في منشئها ومنهاجها، حيث كانت منزلة من خالق الإنسان، ومبدع الحياة، العالم بجبلة الإنسانية، وما يصلح لها، وما يصلحها، فكانت في منهاجها وسبيل دعوتها مسايرة لجبلة الإنسان، ومن أكبر مظاهر تلك الموافقة أن أرسل الله عز وجل رجل من جنس البشر الذين يعيشون على وجه الأرض؛ ليكون لهم قدوة يتبعونه، ويقتفون أثره، إذ من جبلة الناس أن لا يقلدوا إلا من كان من جنسهم، وأشار الله عز وجل إلى ذلك في قوله:{قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً} (95- الإسراء)، وقال:{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} (9- الأنعام) . فلما كان على الأرض بشر كان الرسول بشرا، وكانت مهمة هذا الرسول أن يكون صورة صادقة لدعوته، في أوامرها ونواهيها، في خلقها وآدابها، ولذلك كانوا يقولون:{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} (88- هود)، ولذلك أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نقتدي ونتأسى بالرسول صلى الله عليه وسلم فقال:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} .
فالأوامر والنواهي قد بينت ووضحت، ولكن القدوة التي تمثلت الإسلام كاملا والتي يجب أن نتبعها في ذلك، ونقتفي أثرها، ونمضي معها، هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من جنسنا فما عمله يمكننا أن نعمله، فلذا اتبعه السلف الصالح من الصحابة فنجحت دعوة الإسلام، وانتشرت في أنحاء المعمورة، تنقذ البشرية من العبودية لغير الله تعالى.
وإنّ الله عز وجل عندما أراد أن يزيل خلقا من أخلاق الجاهلية، لا يرضاه الإسلام، خلقا راسخا في النفوس، متمكِّناً منها، لا تتصور خلافه، ولا تقدر على تركه، قد سار عليه آباؤها، ومضى الأولون على تقريره والعمل به، وعندما أراد أن يرفع ذلك، جعل رسوله يفعل كفعلهم، فيتبنى زيدا، ويدعى زيد بن محمد، فينزل الله سبحانه آيات تبطل هذا التبني، وأنه كلام لا حقيقة له، فيقول سبحانه:{وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ، ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} (4 - 5 الأحزاب) .
ولا يقف الأبطال عند هذا، بل يجعل الله - عزّ ثناؤه - رسوله يخالف هذه العادة من قواعدها وأسسها، فيزوِّجُه مطلقة من كان متبنيا له، وكانت العرب لا تجيز ذلك بناء على قواعد البنوة والأبوة المزعومتين، ويقول الله - جل وعز -:{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} (37- الأحزاب) .
وهكذا يعلمنا الله عز وجل تأثير القدوة حين تتمثل ما تعلم في انتشال الناس من وهدات الجاهلية، ولقد علم الصحابة هذا التأثير للعمل في الإقتداء والإتباع، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفرغ من صلح الحديبية مع أهل مكة فيأمر أصحابه أن ينحروا ثم يحلقوا رؤوسهم، ولكن الصلح كان في نظر كثير منهم ذلاًّ وهوانا لا يليق بالمسلم، فكانوا في ذلك في غم شديد، فأبطأوا في تنفيذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعمل رجل واحد، مع تكرار الأمر ثلاث مرات، ويدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم حزينا، لما لقيه من الناس، فها هو يأمرهم ولا يأتمروا، وتلهم أم سلمة رضي الله عنها إلى الحل الذي يحل هذه الأزمة، فإذا بالحل هو (القدوة المتمثلة)، فتقول للنبي صلى الله عليه وسلم:"اخرج ثم لا تكلم أحدا كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو خالقك".
فما كاد الصحابة يرون النبي صلى الله عليه وسلم ينحر ويحلق حتى قاموا جميعا ينحرون ويحلقون، وهكذا كان للعمل أكبر تأثير في الاستجابة للأوامر، وعرفت أم سلمة هذا لما تلقنته من بيت النبوة.
ولمن يريد أن يأخذ صورا عن تأثير القدوة المتمثلة في النفوس، فما عليه إلا أن يمر على السيرة النبوية فيستقي من كل حادثة فيها صورة كاملة للتأثير الفعال للأسوة الحقة، فهذا علي رضي الله عنه يحدثنا عن شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم فيقول:"كنا إذا حمى الوطيس واحمرّت الحدق لذنا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما أحد أقرب من العدو منه"
لو حدثك إنسان عن الشجاعة طيلة اليوم لما استطاع أن يعطيك الصورة الحقيقية لها كما يعطينا إياها هذا الحديث، فليست الشجاعة جعجعة فارغة، وكلاما أجوفا، وخطبا رنانة؟ ، وإنما عمل فعال، ونزال يكون صاحبه أقرب ما يكون إلى العدو، حتى يحتمي به الأبطال، كعلي بن أبي طالب، هذه صورته صلى الله عليه وسلم في الجهاد في ساح الوغى وصورته في الوقوف أمام قومه، يخالفهم يشتم آلهتهم، لا تخفى على أحد، وأنها من أكبر صور الشجاعة الحقة.
وكذلك في (الكَرَمِ) تحدثنا السيرة عن كرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه كان أكرم الناس، وكان أجود بالخير من الريح المرسلة، ويأتي الوصف الدقيق لكرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك عندما أعطى غنماً بين جبلين، فعاد الرجل إلى قومه ليقول:"يا قوم أسلموا؛ فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر".
هذا الوصف الدقيق المعبر عن الكرم الحقيقي، والدافع الصحيح له، فالمانع للعبد من الإنفاق، والحافز له على البخل، ما هو إلا خشية الفقر، وخوفه من مستقبل حياته، أو مستقبل أهله وأولاده، فيأتي وصف كرمه صلى الله عليه وسلم بأنه يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، معتمدا بذلك على خزائن الرحمن، فيعطي بذلك المثل الأعلى للكرام المثل الذي احتذاه الصحابة، فقدم أبو بكر ماله، وعمر نصفه، وعثمان جهز جيش العسرة، وكانوا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وينسون أنفسهم عند الإنفاق، فلا يبقى معهم ما يشترون به ما يطعمون، كما فعلت عائشة رضي الله عنهم أجمعين.
وقل مثل هذا في الوفاء بالعهد، وذلك بعد صلح الحديبية، عندما جاء أبو جندل يرسف في قيده فيرده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وذلك لأن الصلح ابتنى على رد كل مسلم يأتيه.
وكذلك في عبوديته لله عز وجل حينما يترك الأمر للناقة عند دخول المدينة المنورة، ويقول لأصحابه:"دعوها فإنها مأمورة".
وصورة الثقة بالله ونصره عندما قال له أبو بكر رضي الله عنه الصديق - وهما في طريق الهجرة -: "لو أنّ أحدهم نظر إلى موضع قدمه لرآنا"، فيقول له - بيقين الواثق ثقة المتوكل -:"ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إنّ الله معنا".
إلى غير ذلك من الصور التي كانت للصحابة الأسوة الكاملة، والقدوة العاملة، فكانوا يرون الأخلاق العظيمة متجسدة في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يدفعهم إلى الإتباع، ويحفزهم إلى التخلق بأخلاق المصطفى صلى اله عليه وسلم، وبذلك تخرّجوا من مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، وكل منهم يحمل الإسلام في عمله وأخلاقه قبل خطابه وكلماته، فكانوا صورة صادقة للإسلام، وأسوة مطبقة لما يدعون الناس إليه، فدخل الناس في دين الله أفواجا، وانهارت الممالك أمامهم ذليلة خاضعة أمام قوتهم، مكبرة لأخلاقهم وآدابهم.
هذا ما كان، وأما ما صار الأمر إليه في هذه العصور، فقد غدا الدعاة يتكلمون ولا يعملون، فإذا سألت أحدهم عن ذلك قال:"خذوا أقوالنا ولا تقلدون في أعمالنا".
وبهذا أصبحت دعوة الإسلام -كأي دعوة أرضية - كلاما يحمل، وفكرة تتبنى، ليس لها في عالم الواقع حقيقة ومثالا، ولا رصيد في سماء التطبيق، فلهذا لم تعد الاستجابة للدعاة كاملة، إذ ترك الداعية لبعض ما يدعوا الناس إليه يشككهم في دعوته، قائلين:"لو كان خيرا لسبقنا إليه".
فنسأله تعالى أن يجعلنا ممن يعمل بما يعلم، ويكون قدوة صالحة للمجتمع الإسلامي الكامل. والله الموفق.
حبّ السلامة
حب السلامة يثني هم صاحبه
عن المعالي ويغري المرء بالكس
فإن جنحت إليه فاتخذ نفقا
في الأرض أو سلما في الجو واعتزل
ودع غمار العلى للمقدمين على
ركوبها واقتنع منهن بالبلل
الطغرائي