الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 5
فهرس المحتويات
1-
أخبار الجامعة
2-
التراويح أكثر من ألف عام: بقلم الشيخ عطية محمد سالم
3-
التقدم والرجعية: بقلم الدكتور تقي الدين الهلالي
4-
الغزو الفكري: بقلم الشيخ ممدوح فخري
5-
الإسلام والحياة: بقلم أحمد عبد الرحيم السايح
6-
القرآن ومعركة المصطلحات: بقلم الشيخ أحمد حسن
7-
المدلسون (3) : بقلم الشيخ حماد الأنصاري
8-
المسجون: عبد العزيز القارئ
9-
الوصول إلى القمر: لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز نائب رئيس الجامعة الإسلامية
10-
دراسات أدبية: أبو العتاهية (بقلم الشيخ محمد شريف الزيبق)
11-
رسائل لم يحملها البريد: بقلم الشيخ عبد الرءوف اللبدي
12-
قصة في الاتجاه الآخر: بقلم أبي صفوان
13-
لمحات تاريخية من حياة ابن تيمية: بقلم الطالب: صالح بن سعيد بن هلابي
14-
مؤتمر القمة الإسلامي: لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز نائب رئيس الجامعة الإسلامية
15-
مع الصحافة: نقلا عن مجلة الحضارة الإسلامية
16-
مقتطفات من كتاب الثقلاء: للشيخ محمد العبودي
17-
من تاريخ المذاهب الهدامة - كتاب أسرار الباطنية لمحمد بن مالك (2)
بقلم: محمد بن مالك اليماني
18-
ندوة الطلبة - من ظلمات الوثنية إلى ضياء الإسلام: بقلم الطالب: محمد ضياء الرحمن الأعظمي
19-
نعمة الأمن: بقلم الشيخ عبد القادر شيبة الحمد
20-
يستفتونك: يتولى الرد على أسئلة القراء فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز نائب رئيس الجامعة الإسلامية
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م
أخبار الجامعة
تم انتقال كلية الشريعة إلى المباني الجديدة الواقعة في غرب الجامعة وبذلك انفصلت إدارتها عن كلية الدعوة وأصول الدين. والجدير بالذكر أن المباني الجديدة أقيمت على أحدث طراز حيث تحتوي على المزايا المناسبة للجو الدراسي للكلية.
بدأت الدراسة في جميع أقسام الجامعة يوم الأربعاء الموافق 20 رجب للعام الدراسي 89/90 هـ.
وصل إلى المدينة المنورة الأساتذة الآتية أسمائهم حيث انضموا إلى هيئة التدريس بالجامعة:
- الأستاذ محمد الصادق عرجون المصري الجنسية عميد كلية أصول الدين بالأزهر سابقا. من مؤلفاته: (خالد بن الوليد، عثمان بن عفان الخليفة المفترى عليه، التصوف في الإسلام، نظام الحكم في الإسلام، النقد الأدبي عند العرب - رسالة نال بها الدكتوراه -، حرية الفكر في الإسلام أبو حامد الغزالي) .
- الشيخ محمود وفاء إبراهيم هاشم المصري الجنسية (العالمية مع الإجازة في التدريس في جامعة الأزهر) .
- الشيخ حسن السيد متولي المصري الجنسية (العالمية مع الإجازة مع التدريس في جامعة الأزهر) .
- الشيخ محمد المهدي محمود علي المصري الجنسية (العالمية مع الإجازة في التدريس) .
- الشيخ عبد الجواد السيد البنا المصري الجنسية (شهادة التخصص من شعبة الفقه الحنفي والأصول من جامعة الأزهر) .
- الشيخ محمد سعيد مولوي السوري الجنسية (ماجستير في اللغة العربية وآدابها من جامعة القاهرة) .
- الشيخ ناجي محمد شفيق عجم السوري الجنسية (ماجستير في أصول الفقه من جامعة الأزهر) .
كما وصل إلى المدينة الأستاذ ف. عبد الرحيم عبد السبحان الهندي الجنسية (ماجستير في أصول اللغة في جامعة الأزهر وماجستير في اللغة العربية من جامعة الإسلامية بعليكرة بالهند وبكالريوس في اللغة الإنجليزية وآدابها من جامعة مدراس) حيث انضم إلى هيئة التدريس بشعبة اللغة العربية بالجامعة.
تم تعين الأساتذة السعوديين الآتية أسماءهم للتدريس في المعهد الثانوي التابع للجامعة وهم:
الأستاذ حامد عبد القادر الأحمدي
الأستاذ علي بن مشرف العمري
الأستاذ رويعي بن راجح
الأستاذ عبد العزيز القارئ
والجدير بالذكر أن المذكورين من خرجي الجامعة لهذا العام.
- استلمت مكتبة العامة للجامعة دفعة جديدة من الكتب بلغت 1700 كتاب وبذلك يصل عدد الكتب التي وصلت إلى المكتبة 17886كتابا ولا تزال رئاسة الجامعة تعمل جاهدة على أن تكون مكتبة الجامعة في القريب العاجل من أكبر المكتبات الموجودة في المملكة.
- تم أخيرا طبع كتاب (في إفريقيا الخضراء) بمطابع دار الثقافة ببيروت وهو من تأليف محمد العبودي الأمين العام للجامعة والكتاب يحتوي على معلومات هامة وقيِّمة عن أقطار إفريقيا الغربية والوسطى وذلك بعد أن قام المؤلف برحلتين إلى هناك رئيسا لوفد الجامعة وقد شرع في توزيع الكتاب على الكليات والمعاهد الإسلامية في الخارج.
- من زوار الجامعة في الأسبوع الأخير من رجب زار الجامعة الأستاذ عبد البديع صقر.
- كما قام بزيارة الجامعة أيضا الشيخ أحمد المحايري وهو خرجي الجامعة ويعمل حاليا لحساب دار الإفتاء السعودية في سيراليون وله جهود مشكورة في الدعوة الإسلامية هناك وقد قام بالاتصال بالمسئولين في الجامعة حيث لقي كل تفهم وترحيب.
دراسات أدبية
أبو العتاهية
بقلم الشيخ محمد شريف الزيبق المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين
هو إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان أبو إسحاق من الموالي وولاؤه في قبيلة عنزة فهو عنزي بالولاء وكان جده كيسان من سبي عين التمر وهو أول سبي دخل المدينة سباهم خالد بن الوليد وقدم بهم على أبي بكر رضي الله عنه وأم أبي العتاهية وتكنى أم زيد كانت أيضا مولاة لبني زهرة.
وقد اشتهر بلقب أبي العتاهية - وليس هذا كنيته فكنيته أبو إسحاق كما سبق - وعتاهية كلمة تدل على معان كثيرة يقول بن منظور في لسان العرب: "عته في العلم: أولع به وحرص عليه والعتاهة والعتاهية مصدر عته مثل الرفاهة والرفاهية، والعتاهية ضلال الناس من التجنن والدهش والتعته المبالغة في الملبس والمأكل ورجل عتاهية أحمق وتعته تنظف وأبو العتاهية الشاعر المعروف ذكر أنه كان له ولد يقال له عتاهية وقيل: لو كان الأمر كذالك لقيل أبو عتاهية بغير تعريف".
والسبب في تلقيبه به أن الخليفة المهدي قال له يوما: "أنت إنسان متحذلق - أي متظرف – متعته، فاستوى له من ذلك لقب غلب عليه دون اسمه وكنيته [1] .
ويقول بن منظور: "لقب بذلك لأن المهدي قال له: أراك متخلطا متعتها، وكان قد نعته بجارية للمهدي واعتقل بسببها وعرض عليها المهدي أن يزوجها له فأبت، واسم الجارية عتبة. وقيل: لقب بذلك لأنه كان طويلا مضطربا. وقيل: لأنه يرمى بالزندقة ولأنه كان يحب المجون والتعته".
وقد أصاب المهدي في إطلاق هذا اللقب أبي العتاهية على الشاعر لدلالته أبلغ دلالة على صفاته الجسمية والخلقية فدل على اختلاطه واضطرابه ومجونه وطوله وتعتهه بحب عتبة.
وكانت ولادة الشاعر في عين التمر وهي قرية قرب الأنبار غربي الكوفة سنة 130 وانتقل مع أبيه صغيرا إلى الكوفة وكانت الكوفة مدينة العلماء والمحدثين والعباد والزهاد، وقد عاصر فيها الشاعر أمثال علقمة بن قيس وعمرو بن عتبة بن فرقد والربيع بن خيثم وأويس القرني والنخعي والشعبي وسفيان الثوري وشريك القاضي وابن أبي ليلى وأبي حنيفة والكسائي والفراء.
ومع اتساع الكوفة وانتشار الرخاء نشأت فيها طوائف من المُجَّان يقولون الشعر، متنقلين على معاهد اللهو، وموغلين في حمأة المفاسد، يفسقون ويتهتكون ويتزندقون وينعتون أنفسهم بالظرف، وأنهم حلية الأرض ونقش الزمان. . أمثال حماد عجرد ووالبة ابن الحباب ومطيع بن إياس ويحي بن زياد وشراعة بن زندبود [2] .
فيحي بن زياد مثلا كان زنديقا وكان يتصنع الظرف وحسن المظهر، يقول فيه الخطيب البغدادي:"كان شاعرا أديبا ماجنا نسب إلى الزندقة وكان صديقا لمطيع، وحماد، ووابلة وغيرهم من ظرفاء الكوفيين"[3] .
في هذه البيئة نشأ أبو العتاهية وكان يخالط هؤلاء الشعراء المجان، ويختلف إلى حلقات العلماء ومجالس العباد، وقد كان فقيرا فكان يعمل مع أبيه في بيع الفخار بالكوفة، وقال الشعر وبرع فيه وهو حدث، وظهر نبوغه في وقت مبكر.
روي أنه اجتاز بفتيان جلوس يتناشدون الشعر، وكان يحمل قفص فخار ويدور به ويبيع منه، فسلم ووضع القفص عن ظهره ثم قال للفتيان:"أراكم تتذاكرون الشعر وتقولونه أفأقول شيئا منه فتجيزونه؟ فإن فعلتم فلكم علي عشر دراهم وإن لم تفعلوا فعليكم عشرة دراهم؟ ". فهزئوا منه وسخروا وقالوا: "نعم لا بد أن نشتري بأحد القمارين رطبا يؤكل، فإنه قمار حاصل". وجعل رهنه على يد أحدهم، ففعلوا فقال: أجيزوا
ساكني الأجداث أنتم
وجعل بينه وبينهم وقتا وعلامة في ذلك الموضع إذا بلغته الشمس ولم يجزوا البيت وجب القمار عليهم فلم يأتوا بشيء، فأخذ الدراهم وجعل يهزأ منهم وتمم الشعر:
مثلنا بالأمس كنتم
ليت شعري ما صنعتم أربحتم أم خسرتم
ومع أن أبا العتاهية بدأ حياته مع المجان والمتخنثين وفساق الشعراء، وكان في أول أمره يتخنث ويحمل زاملة المخنثين، فإن بواكير شعره كانت في الزهد ووصف الموت وأحواله ونزل (الحيرة) وهي قريبة من الكوفة فهوى امرأة نائحة من أهل الحيرة لها حسن وجمال وتدعى سعدى وكان ينظم لها الشعر الذي تنوح به على الموتى، وكانت سعدى مولاة لبني معن ابن زائدة وقد أدت صلته بها إلى خلاف ومهاجاة بينه وبين عبد الله ابن معن بن زائدة [4] .
انتقاله إلى بغداد:
وفد أبو العتاهية إلى بغداد في خلافة المهدي (158- 169) في نحو الثلاثين من عمره وكانت بغداد - التي أنشأها أبو جعفر المنصور سنة 149هـ - قد أخذت في الازدهار فانتقل النشاط العلمي من الكوفة والبصرة إليها بعد أن أصبحت دار الخلافة ودار الإسلام. وكان أبو العتاهية حين وصل إلى بغداد يجتهد في الوصول إلى قصر الخلافة، فأقبل يمدح المهدي، ويفكر في الوسائل التي تدنيه منه. يقول ابنه محمد:"فلما تطاولت أيامه أحب أن يشهر نفسه بأمر يصل به إليه، فلما بصر بعتبة راكبة في جمع من الخدم تتصرف في حوائج الخلافة تعرض لها، وأمل أن يكون تولعه بها هو السبب الموصل إلى حاجته، وانهمك في التشبيب والتعرض في كل مكان لها، والتغرد بذكرها وإظهار شدة عشقها"[5] .
وله مع عتبة حوادث عديدة منها ما رواه المبرد أن أبا العتاهية أهدى إلى المهدي برنية صينية فيها ثوب ممسك فيه سطران مكتوبا عليه بالغالية:
نفسي بشيء من الدنيا معلقة
لله والقائم المهدي يكفيها
إني لأيأس منها ثم يطمعني
فيها احتقارك للدنيا وما فيها
قال: فهم أن يدفع إليه عتبة. فقالت له: "يا أمير المؤمنين مع حرمتي وخدمتي تدفعني إلى بائع جرار متكسب بالشعر؟ ". فبعث إليه: "أما عتبة فلا سبيل لك إليها وقد أمرنا لك بملء برنية مالا"[6] .
وكان يتجاسر على التشبيب بها في مقدمة مدائحه للمهدي فقد روى الحافظ بن عبد البر في مقدمته لديوان شعر أبو العتاهية أن الشعراء حضروا يوما عند المهدي فقدم أبو العتاهية في الإنشاد فقال بشار بن برد لأشجع السلمي: "يا أخا سليم من هذا الذي قدم للإنشاد علينا؟ أهو ذلك الكوفي الملقب؟ ". قال: "نعم". فقال بشار: "لا جزى الله خيرا من جمعنا به أيستنشد قبلنا؟ ". فقال له أشجع: "هو ما ترى". . فأنشد أبو العتاهية:
تدل فأحمل إدلالها
ألا ما لسيدتي ما لها
جنيت سقى الله أطلالها
وإلا ففيما تجنت وما
م قد أسكن الحب سربالها
ألا إن جارية للإما
تجاذب في المشي أكفالها
مشت بين حور قصار الخطا
وأتعب باللوم عذابها
وقد أتعب الله نفسي بها
فقال بشار: "أبهذا الشعر يقدم علينا؟ ". فلما أتى على قوله:
إليه تجرر أذيالها
أتته الخلافة منقادة
ولم يك يصلح إلا لها
فلم تك تصلح إلا له
لزلزلت الأرض زلزالها
ولو رامها أحد غيره
لما قبل الله أعمالها
ولو لم تعطه نيات القلوب
إليه ليبغض من قالها
وإن الخليفة من قول لا
فاهتز بشار طربا، وقال:"يا أخا سليم أترى الخليفة لم يطر طربا عن فراشه لما يأتي به هذا الكوفي؟ ".
وقضى أبو العتاهية مدة طويلة يتغزل بعتبة حتى شاع فيها شعره، فأمر المهدي بجلده وإدخاله السجن، ولم يعف عنه إلا بشفاعة خاله يزيد بن منصور الحميري [7] .
وفي أيام الرشيد عاد الشاعر يتغزل بعتبة والسعي للزواج منها. حدث أبو العباس يحي بن ثعلب قال: "كان أبو العتاهية قد أكثر في مسألة الرشيد في عتبة فوعده بتزويجها وأنه يسألها في ذلك. ثم دعا به وقال: "ضمنت لك يا أبا العتاهية، وفي غد تقضى حاجتك إن شاء الله". وبعث إلى عتبة:"إن لي إليك حاجة فانتظرني الليلة في منزلك". فأكبرت ذلك وأعظمته وصارت إليه تستعفيه، فحلف أن لا يذكر لها حاجته إلا في منزلها. فلما كان الليل سار إليها ومعه جماعة من خواص خدمه فقال لها:"لست أذكر حاجتي أو تضمنين قضاءها". قالت: "أنا أمتك وأمرك نافذ فيما خلا أمر أبي العتاهية، فإني حلفت لأبيك رضي الله عنه بكل يمين يحلف بها بر وفاجر، وبالمشي إلى بيت الله الحرام حافية، كلما انقضت عني حجة وجبت علي أخرى لا أقتصر على الكفارة، وكلما أفدت شيئا تصدقت به إلا ما أصلي فيه". وبكت بين يديه فرق لها ورحمها وانصرف عنها. وغدا عليه أبو العتاهية فقال له الرشيد: "والله ما قصرت في أمرك ومسرور وحسين ورشيد وغيرهم شهود لي بذلك"، وشرح له الخبر. قال أبو العتاهية:"فلما أخبرني بذلك مكثت مليا لا أدري أين أنا قائم أو قاعد، وقلت: الآن يئست منها إذ ردتك وعلمت أنها لا تجيب أحدا بعدك". فلبس أبو العتاهية الصوف وقال في ذلك من أبيات [8] :
قطعت منك حبائل الآمال
وحططت عن ظهر المطي رحالي
ووجدت برد اليأس بين جوانحي
وأرحت من حلي وترحالي
هي قصيدة طويلة تعتبر من أروع قصائده ومنها:
يا دار كل تشتت وزوال
الآن يا دنيا عرفتك فاذهبي
فغدا علي وراح بالأمثال
والآن صار لي الزمان مؤدبا
وتفرغت هممي عن الأشغال
والآن أبصرت السبيل إلى الهدى
يفضي إلي بمفرق وقذال
ولقد أقام لي المشيب نعاته
ومنها:
نسبا يقاس بصالح الأعمال
وإذا تناسبت الرجال فما أرى
رجل يصدق قوله بفعال
وإذا بحثت عن التقي وجدته
فتراه بين مكارم ومعال
وإذا اتقى الله امرؤ وأطاعه
تاجان تاج سكينة وجلال
وعلى التقي إذا ترسخ في التقى
ومنها:
في قبره متفرق الأوصال
يا أيها البطر الذي هو في غد
وأرى مُناك طويلة الأذيال
حذف المنى عنه المشمر في الهدى
من لاعب قرح بها مختال
ولقلما تلقى أغر بنفسه
حتى متى بالغي أنت تغالي
يا تاجر الغي المضر نفسه
خسرت ولم تربح يد البطال
الحمد لله الحميد بمنه
وتشيب منه ذوائب الأطفال
لله يوم تقشعر جلودهم
مل فيه إذ يقذفن بالأحمال
يوم النوازل والزلازل والحوا
زن والأمور عظيمة الأهوال
يوم التغابن والتباين والتوا
بمقطعات النار والأغلال
يوم ينادي فيه كل مضلل
علت الوجوه بنضرة وجمال
للمتقين هناك نزل كرامة
فلها بريق عنده وتلالي
زمر أضاءت للحساب وجوهها
خمص البطون خفيفة الأثقال
وسوابق عز محجلة جرت
خلق الرداء مرقع السربال
من كل أشعث كان أغبرنا حلا
في دار ملك جلالة وظلال
نزلوا بأكرم سيد فأظلهم
ومنها:
والموت يقطع حيلة المحتال
حيل ابن آدم في الأمور كثيرة
حرك الخطى وطلوع كل هلال
ومن النعاة إلى ابن آدم نفسه
أخلقت يا دنيا وجوه رجال
مالي أراك لحر وجهك مخلقا
من كل عارفة أتت بسؤال
قست السؤال فكان أعظم قيمة
ممن يضن عليك بالأموال
كن بالسؤال أشد عقد ضنانة
في الوزن ترجح بذل كل نوال
وصن المحامد ما استطعت فإنها
نسي المثمر زينة الإقلال
ولقد عجبت من المثمر ما له
فابذله للمتكرم المفضال
فإذا ابتليت ببذل وجهك سائلا
فاشدد يديك بعاجل الترحال
وإذا خشيت تعذرا في بلدة
فرج الشدائد مثل حل عقال
واصبر على غِيَر الزمان فإنما
وهكذا نجد في هذه القصيدة ملامح فن أبي العتاهية في الزهد الممزوج بالحكمة والمرصع والاقتباسات البديعة من كتاب الله عز وجلو كلام السلف الصالح، وقد أبدى بن الأعرابي إعجابه البالغ بهذه القصيدة وقال:"ما رأيت قط شاعر أطبع ولا أقدر على البيت من أبي العتاهية وما أحسب مذهبه إلا ضربا من السحر"، وثار برجل كان في مجلسه لأنه قال:"إن أبا العتاهية ضعيف الشعر". فقال له: "الضعيف والله عقلك، لأبي العتاهية تقول ضعيف الشعر؟! "[9] .
ونذكر أخيرا في سبب توبة أبي العتاهية من مصاحبة المجان وقرض الشعر في الغزل والهجاء والمديح، وقصر شعره على الزهد والحكمة، ما روي عن أبي سلمة الغنوي أنه سأل أبا العتاهية:"ما الذي صرفك عن قول الغزل إلى قول الزهد؟ ". فأجابه:"إذن والله أخبرك. إني لما قلت:
أهدت لي الصد والملالات
الله بيني وبين مولاتي
فكان هجرانها مكافاتي
منحتها مهجتي وخالصتي
أحدوثة في جميع جاراتي
هيَّمني حبها وصيرني
رأيت في المنام في تلك الليلة كأن آتيا أتاني فقال: "ما أصبت أحدا تدخله بينك وبين عتبة يحكم علينا بالمعصية إلا الله تعالى؟ ". فانتبهت مذعورا وتبت إلى الله تعالى من ساعتي من قول الغزل" [10] .
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
الأغاني 4/4
[2]
ثمار القلوب للثعالبي 407
[3]
تاريخ بغداد 14/104
[4]
الأغاني 14/53.
[5]
تاريخ بغداد 6/256.
[6]
مروج الذهب 3/240
[7]
الأغاني 4/42
[8]
مروج الذهب3/274
[9]
ابن عبد البر في المقدمة.
[10]
تاريخ بغداد 6/258.
رسائل لم يحملها البريد
بقلم الشيخ عبد الرءوف اللبدي المدرس بكلية الشريعة
تلميذي القديم وزميلي الجديد:
كتبت إلي أنك قد انتهيت من دراساتك العليا، وأنك على وشك أن تصبح زميلا جديدا في ميدان التعليم، هنيئا لك ذاك النجاح! ومرحبا بهذه الزمالة الجديدة!.
سألتني أن أمدك بشيء من النصح، وأن أزودك ببعض التجارب تجارب الآخرين قلما تفيد أيها الزميل الجديد، ومع ذلك فلن تراني عليك ضنينا غير أني أحب أن أقول شيئا قبل أن أمضي بعيد في هذه الرسالة، أحب أن أقول لك: ابحث عن عمل آخر إذا كنت لا تحب التعليم، ولا تجد فيه ري ظمأ، ولا قرة عين.
أنت مقبل على عمل شاق يرهق الجسم والعقل، يشغلك النهار وزلفا من الليل، فإذا لم تكن لديك رغبة صادقة فيه ظلمت نفسك، وظلمت كثيرا من طلاب العلم معك.
إن إخفاق كثير من الناس في أعمالهم والوظائف، مرده في كثير من الأحوال إلى أنهم لم ينالوها عن رغبة واقتدار، وإنما هي أشياء عثروا بها في ظلمات الليل، أو عثرت بهم وهم عنها غافلون.
سرني أيها الزميل الكريم ما نلته من نجاح وسرني أن تصبح من ذوي الشهادات العالية، ولعلك نشرت هذا في الصحف، وعلقت وثائقه على جدران غرفة الاستقبال، ليراه الزائرون، وليذيعوا به في المجالس.
ليس بالغريب أن يشعر الإنسان بالزهو حين يصبح شيئا مذكورا بعد أن لم يكن، غير أني لا أحب أن تزهو بهذا على عباد الله، وأن تقف أمام طلابك نفاشا تفتح به فاك، وتجحظ له عيناك، وتميل برأسك ذات اليمن تارة وذات اليسار تارة أخرى.
قد تجلب عليك الوظيفة أموالا ما كنت لتجدها أيام كنت طالبا، فتزين لك نفسك أن تظهر شخصيتك عن طريق البزة الأنيقة، والحذاء اللامع، والملابس الفارهة، وأن تخرج على الناس يوما بعد يوم في حلة جديدة، تميس فيها كأنك في ليلة الزفاف. إلا ما تزين لك نفسك! وبئست طريقة تلك الطريق!.
لا يخدعنك ما حصلته في الجامعة من العلم عن مواصلة الإطلاع والقراءة، فأنت لم تحصل من العلم إلا قليلا، وهذه الشهادات التي حملتها بعد سنوات طويلة لا تغنيك شيئا أمام طلابك إذا دارت رحى النقاش، وناشتك أسئلتهم من كل جانب، فيفلت الزمام من بين يديك، وتتخلف عن مركز القيادة، وهيهات أن تجد المقيل من هذا العثار!.
أرجو أن لا تسلك سبيل الفرار في غرف التدريس، والفرار أيها الزميل الجديد ألوان شتى، وطرق مختلفة، لا أريد أن أقصها جميعا عليك، ولا أريد أن أعددها لك.
يشق بعض المدرسين أحيانا أن يمضي قدما في مناقشة الموضوع وبسط ما فيه من مسائل، فيتسلل على حين غفلة من الطلاب، أو على حين يقظة، ويعطف بعنان لسانه إلى موضوع آخر يلذ لكثير من الطلاب سماعه، فيحدثهم عن ذكرياته: ذكريات الطفولة، وذكريات المدرسة، وذكريات الجامعة، وذكريات الحياة وما وقع له فيها من طرائف، وما شاهده فيها من أعاجيب.
ولعلك سمعت أو رأيت في أثناء جلوسك على مقاعد الدراسة، وأنت تودع مدرسا وتستقبل آخر، لعلك سمعت أو رأيت من يحدث تلاميذه أخبارا خاصة عن أسرته وأبنائه وذوي قرباه، كأنما الفصل صديق حميم، فهو يفضي إليه ببنات صدره وأفراح قلبه.
لا أريد أن أذهب أبعد من هذا خشاة أن أنسى شيئا أنا حريص على أن أحذرك منه، وأخاف أن تقع فيه، ذلك أن يجرك الطلاب إلى الحديث عن السياسة، أو تجرهم أنت إلى الحديث عنها، فتشب في الفصل (حرائق) لا تستطيع إطفاءها حنى آخر العام، ويفسد عليك من الأمر مالا تجد إلى إصلاحه سبيلا.
أحب أن تلتزم موضوع الدرس، وألا تحيد عنه، وإذا دهمتك ضرورة عابرة، أو غلبتك مناسبة طارئة، وقفت عندها قليلا وقوف العابر العجلان.
الحذر الحذر أن تتصيد المناسبات لتلقي عن كاهلك أثقال الدرس، وتخرج عن الجادة إلى الشعاب والأودية!!.
أقبل على طلابك كما يقبل الصباح، يحمل النشاط والحياة والنور، فيقبلوا عليك مستيقظين واعين، ويسيروا معك على الطريق شوطا بعيدا، دون أن يدركهم فتور، أو يغشاهم النعاس، يسألون فتجيب، وتسأل فيجيبون، وتكون من وراء ذلك حركة ذهنية دائبة، لكم فيها غنم كبير ومنافع.
لا تقبل عليهم كما يقبل الليل، ثقيل الوطأة، بطيء الخطا، تمشي كأنما رجلاك شدتا بالسلاسل، يقرؤون في وجهك الخذلان والفتور والتكلف، وتكلمهم بلسان عاثر، وفكر مشرَّد، غير آبه لما يجري من حولك، فيعقد الطلاب الندوات الصغيرة في فصلك على غير موعد، ويتخذون القرارات وأنت لا تدري، ويقع فريق منهم في نوم عميق يحملون فيه أن قد مرضت، وأخذت إجازة طويلة للأمد.
كن جريئا واسع الصدر، وتقبل أسئلة الطلاب العلمية، ومناقشاتهم في موضوع البحث، بنفس راضية، وقلب مطمئن، وإذا رأيت في غمرة الحوار والنقاش رأيا من الآراء على الصواب، ولكنه مخالف لرأيك، فلا تسفهه، ولا تحاول التقليل من شأنه، غرورا منك، وتفردا بالصواب، قابل ذلك بالاعتراف والثناء والتشجيع، ولا يغلبنك على نفسك الهوى.
لست معصوما من الخطأ، فلا يعظمن على نفسك الرجوع إلى حق إذا نبهك أحد إليه، أو تبين لك الأمر فيما بعد، ولا حاجة إلى أن يحمر وجهك من خجل، أو يصفر من خوف، أو تضطرب ساقك من تحتك، وطن النفس على هذا منذ يومك الأول، فإنه لا بد ملاقيك.
لا يحملنك خلاف الرأي بينك وبين طلابك، ونقاشهم لك على الحقد والثأر، إنهم طلاب علم، قد يوسوس لك الشيطان أن أحدا منهم يريد أن تزل بك القدم، فلا تستجيب إلى تلك الوساوس، وظن بهم خيرا، وكن لهم رائد علم، لا قائد كتيبة.
لا ترفع بينك وبين طلابك جدارا من الكبرياء والتعاظم، لتحول بينهم وبين أن يسألوك عن غامض المسائل، كن أخا لهم، ودعهم يشعرون بهده الأخوة، فلا يتجافون عن سؤال، ولا يمسكهم الحياء عن المناقشة.
إياك أن يتولاك الكذب والغرور!! فتجيب عما تعلم وما لا تعلم، كن صريحا في شجاعة، وقل لا أعلم فيما لا تعلم، إنك إن تجبهم عن جهالة فسوف يتكشّف أمرك ذات يوم، ويبرح الخفاء، وتضيع الثقة بينك وبين طلابك، وتفقد أعز ما يملكه المدرس في دنيا التعليم.
الطلاب في غرف التدريس سواسية، فليس فيهم صديق تواده وتحابيه، ولا عدو تحاده وتجافيه، أقبل بوجهك على القريب والبعيد، وتقبل سؤال الغبي والفطن، وكن شجرة دانية القطوف، طيبة الجنى.
ماذا سيكون نصبك هذا العام؟! وما الذي ستكون عليه غرفة المدرسين في معهدك؟! أتراها تكون كنافخ الكير؟! أم تراها تكون كبائع العطر؟! ومهما يكن من أمر، فأفضل مكان تأوي إليه في حصص الفراغ هو المكتبة، هنالك تنجو من الأحياء، وتخلص إلى جماعة من الموتى، ماتت معهم الأحقاد والأطماع وتفاهات دنياهم، وتركوا وراءهم علما ينفع الناس.
أنت لا تزال في ربيع العمر وشرخ الشباب، فلا تذهبن ساعات فراغك أباديد، وظف شيئا من الفراغ لعمل أدبي، أو دراسة علمية، واترك في عالم الأدب ودنيا العلماء شيئا ذا بال.
لا تنتظر إلى أن تعضك الشيخوخة بأنيابها، ويتقوس الظهر من هرم، فليست الحياة ساعة تديرها في المعصم، ولا ثوبا تلبسه إذا شئت، وتخلعه حينما تريد..
يؤسفني أيها الزميل الجديد أني لم أبلغ بعد ما أردت! إني مشفق عليك، وأخشى أن أفت في عضدك، فتخلد إلى أرض الخمول، وتبقى على الشاطئ نفاية بحر، وأنا الذي أريد أن تحلق في الأجواء البعيدة، وأن تركب الأمواج غير خائف.
ولقد عهدتك ذا قلب سليم، وعزيمة تفري، وغايات تريد بها وجه الله، فدعني إذن أكتب إليك ما تبقى من هذه الرسالة:
الحساب في الدنيا ليس كحساب الآخرة، حساب الآخرة {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} ، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} ، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أما الدنيا فلها حسابات أخرى لم يكتبها رقيب عتيد، لا أريد أن أقدمها إليك، فسوف تراها رأي العين وتلمسها بالأصابع، ستطعمها فتذوقها مرة، وتشمها فتنشقها كريهة، وتسمعها فتصك الآذان.
لا تحزن أيها الزميل الجديد إن خفت بك الموازين في الدنيا وخفت بإخوانك المدرسين، وثقلت موازين ذوي الجهالة في بعض الميادين، وإذا رأيت الناس من حولك أسرعوا وقد أبطأت، فلا تقلب كفيك على ما أنفقت من سنوات طويلة وجهد جاهد في سبيل العلم، فعند الله الجزاء الأوفى! ثروتك في هذه الدنيا ما يضيء في رأسك وصدرك، وهذا المال الذي ما يكاد ينزل في جيبك حتى ينوي الرحيل.
اصبر! اصبر صبرا جميلا! اصبر كما صبر أولو العزم من المدرسين! طريقك وعر طويل، وزادك ذو غصة وقليل! فاستعن بالله وتوكل عليه، وإنه نعم المولى ونعم النصير.
عبد الرؤوف البلدي
في الاتجاه الآخر
بقلم أبي صفوان
كان (أبو جميل) في الخامسة والستين يوم صدر قرار إحالته على التقاعد. وهي السن التي طالما حجبها عن الناس وعن رؤسائه بوجه خاص، خشية استعجال هذه النتيجة التي ظل خمس سنوات يدافعها بكل ما أوتي من حيلة وما بذل من رجاء.. ولكن لكل شيء نهايته، ولم يكن بد لمثله من أن يصير إلى هذه النهاية يوما ما شاء أو أبى. لذلك كان عليه أن يوطن نفسه لاحتمال هذه الحياة الجديدة، حياة ما بعد الوظيفة، بكل ما فيها من فراغ ووحدة. ولشدة ما فكر في أيامه القابلة هذه حين يجد نفسه خارج العمل فلا يدري كيف يزجي أعباءها، ولا كيف يملأ فراغها!..
ولا غرابة في ذلك فإن امرأ كأبي جميل بسيط طيب القلب، لا حظَّ له في خبرة الحياة خارج نطاق عمله النمطي في ديوان المالية، يتعذر إليه أن يغير بسهولة طريقة حياته التي جثم في قالبها قرابة نصف قرن حتى أصبح كالمنفي عن دنيا الناس، لا يكاد يفهم ما يشغلهم من شئونها. وكان بادي الرأي شديد التعويل على دنانيره المئتين التي استطاع أن يحتفظ بها من بقايا مرتباته خلال هذا الزمن عملا بالمثل الذي يقول:(قرشك الأبيض ليومك الأسود) وقد جاء اليوم الأسود بهذه البطالة التي ترهقه، فجدير به أن يفيد منها باتخاذ عمل يشغل به الفراغ.. على أن (حساب القرايا لا ينطبق على حساب السرايا) فما أن غادر قيود الوظيفة حتى ألفى نفسه عاجزا عن أي تفكير في الموضوع، أشبه بمملوك قضى أيام نشاطه في أغلال الرق، ثم فوجئ بإطلاق حريته على غير إعداد سابق فكانت حريته نفسها أشد الأعباء عليه..
ولقد يظن بعض الذين يعرفون الرجل أن له ولدا باسم (جميل) . والحق أنه لم يلد قط، ولم يفكر أن يعرف ما إذا كان السبب في هذا العقم هو أو زوجته وإنما هو اسم أبيه كني به منذ الطفولة على عادة بلده، تيمنا بأن يكون له في قابل الأيام ولد يحي له اسم ذلك الوالد. وقد مر به زمن جاش به شوقه إلى الولد، فراح يطوف بزوجته مقابر الأولياء ومقامات الصالحين حاملا إليها النذور النفسية رجاء أن تعطف عليه فتتوسط بحاجته لدى الله!.. ولكن هؤلاء صموا عنه فلم تُجْدِه نذوره.. ثم ما لبثت الأيام أن عملت عملها في إطفاء ذلك الشوق، حتى ألف وزوجته وضعهما ورضيا، بنصيبهما من قدر الله.. وبات عليهما أن يوجها كل همهما إلى العبادة التي لا عزاء مثلها في مثل وحشتهما تلك..
ولم تكن العبادة شيئا طارئا على أبي جميل - كشأن كثير من الناس - وبخاصة في أوساط أولئك الموظفين الذين تشغلهم دنياهم عن ربهم فلا يذكرونه إلا بعد التقاعد. وعندئذ يهبون المساجد بقية عمرهم.. كلا فقد كان صاحبنا قديم الاتصال بالصلاة غير قليل التردد على بيوت العبادة.. بل كان من أبناء (الطريقة) الذين لا يكتفون بالعبادة المكتوبة حتى يضيفوا إليها الأذكار التي يكفلهم بها المشايخ وقد بلغ من ورعه أنه لا يفارق (دلائل الخيرات) وورد (ابن سلطان) فهما رفيقاه أينما حل.. يراجع تلاوتهما كلما وجد إلى ذلك سبيلا!.. وقد أعطى القرآن من نفسه حظا أسبوعيا يعاوده صباح كل جمعة، حيث يتلو سورة الكهف عدة مرات..
وهو إنما انخرط في سلك الطريقة عملا بإشارة المرحوم والده الذي علمه منذ الطفولة أن لابد للإنسان من الشيخ فمن لا شيخ له فالشيطان شيخه!..
وطبيعي أن يفر من الشيطان ما وسعه الجهد.. ولم يكن في حاجة إلى طويل تردد في اختيار شيخه.. أنه ليس خيرا من جاره أبي سعيد، وخاله أبي فتوح.. للذين اتخذا من الشيخ (فويضل) إماما وقدوة.. فليسلك طريقهما هو وزوجته وشقيقته.. وهم مجموع الأسرة.. ومنذ ذلك اليوم بدأ تعلقه بالشيخ وأخذ نفسه بالتردد على دروسه وحضور حلقاته مساء كل اثنين وجمعة..
ومن قبل طالما سمع أخبار الشيخ (فويضل) على ألسنة دعاته، يعرضون على الناس كمالاته، ويقصون كراماته.. ولم يكن من أهل الشكوك ولله الحمد فلم يجد مانعا من تصديقهما؟ والتطوع بنقلها إلى من لم تبلغه. ولما باشر الاتصال بالشيخ كان على أتم الاستعداد للاندماج في جوه.. وهاهو ذا اليوم قد قطع شوطا بعيدا في تقاليد الطريق التي تفرض على المريد أن يكون أطوع للشيخ من بنائه، وأشد احتراما له من أبيه وأمه.. فهو إذا دخل عليه مجلسا دب على قوائمه حتى ينتهي إليه، فيقبل يديه وركبتيه، ثم يتراجع إلى الخلف حتى يأخذ مكانه في الحلقة. وإذا دخل الشيخ الجامع نهض له مع الجميع، ثم لا يقعد حنى يستقر في موضعه الذي يجب أن يظل محجوزا له إلى أن يحتله!!. وإذا جلس الشيخ للوعظ أطرق إلى الأرض في خشوع عميق مجاهدا نفسه لكي يجعل قلبه هو الذي يتلقى النفحات..
وكان ذوبانه السريع في هذا الجو جد الطبيعي، إذا وجد فيه متعة سرعان ما عوضته عن مشاغل العمل الذي فقده، وردت إليه ما حرمه من الأُنْس الذي كان ينعم به في ظل رؤسائه وزملائه أثناء عمله الماضي..
لقد مضى سني الوظيفة كلها كاتبا صغيرا، يتلقى تعليمات رؤسائه في تنظيم الجداول، أو نسخ القوائم بدقة، كأنه الآلة الحاسبة لا يعتريها الخطأ إلا بمقدار ما تخطئ يد العامل في تحريك أرقامها. فطبيعي إذن أن يجد في مجتمع الطريقة وفي ظل الشيخ ذاته ما ينقذه من الخلل الذي كاد يستولي على وجوده عقيب انتزاعه من عمله المألوف.. ومن هنا جعل أنسه يزداد اطرادا بنسبة اندماجه في ذلك الجو، وباتت ثقته بكرمات الشيخ تتضاعف على أساس تصاعدي من النسبة نفسها..
وكان في مبدأ الأمر يحاول أن يثبت نظره في وجه الشيخ طلبا للثواب الذي تقرره المحكمة المتداولة بين المريدين: (النظر إلى وجه الشيخ عبادة) .. فيجد في ذلك غبطة سعيدة لا يعرف لها مثيلا في غير هذا الموقف.. ولكن هيبة الشيخ صارت به أخيرا إلى الأعضاء، فيكتفي بإحضار الشيخ في قلبه وهو يردد ورده من الذكر أو يستمع إلى مواعظه الشافية!. وهو مع ذلك ينفذ بهذا تعاليم الشيخ الذي كثيرا ما سمعه يقول لمريديه:(من أول واجبات المريد أن يتصور شيخه في فؤاده كلما خلا إلى أوراده أو أصغى إلى إرشاده..) وقد مرن على ذلك حتى أصبح له عادة ثابتة.. يجلس بين الشيخ كاسر البصر ويكلمه إذا كلمه في هدوء وخفوت بالغين وهو كاسر البصر أيضا حتى إنه ليحاول تفسير ذلك لنفسه فلا يجد إلا هذه العبارة التي أصبحت من كلماته المألوفة: إن عيني لتعجزان عن مواجهة نور الشيخ! والحق أن في وجه الشيخ (فويضل) لسرا غريبا.. فهو منسجم التقاطيع إلى حد يمكن وصفه بالجمال وفي بشرته بياض نقي يأتلف مع تلك اللحية السوداء الأنيقة، التي توحي للناظر بإنه في أواسط العقد الرابع قمة الشباب. ولا شك أن لشكل عمته الملتفة في أنحناء لولبي حول تلك القلنسوة البيضاء الذاهبة إلى الأعلى على شكل صنوبري أثرا ما في ذلك الإيحاء الغامض الذي يستشعره الناظر إليه. بيد أن أكبر أسرار شخصيته كامن في عينيه.. إن لعينيه هاتين لشكلا خاصة ذا تأثير عميق.. فهما متوسطتا الفتحتين وبياضهما تمازجه حمرة من نوع يكاد يكون خاصا وفي سواد إنسانيهما تحدث دقيق يبعث إلى عين الرائي بإشعاع حاد أشبه بمحرق شديد التركيز.. وإذا نظرت إلى الشيخ كله وهو منتصب في جبنه القصيرة خيل إليك أنك تنظر إلى ممثل غير ناجح يعرض دور شيخ على المسرح!.
ومهما يكن فقد وجد أبو جميل في الشيخ فويضل ضالته التي لم يحلم بأسعد منها، وهو في ظله مطمئن الضمير يملؤه اليقين أنه قد استقر على الطريق الموصل إلى الله. ولم يكن هذا شعوره وحده فقط، بل إنه كذا شعور زوجنه وشقيقته اللتين سبقتاه مراحل في التسامي الروحي، فلم يشغلهما شاغل عن دروس الشيخ، ولا يصرفهما شيء عن حلقات الذكر التي يخصصها عادة للنساء..
ومن أجل هذا كان سرور الأسرة بالغا عندما جاء الشيخ يطلب يد فاطمة شقيقة أبي جميل لأخيه.. فقد اعتبر هذا الطلب منه لفتة كريمة.. ولم يكتم أبو جميل تقديره لهذه النعمة الإلهية، فراح يؤكد لزوجته وشقيقته.. أنها لفرصة ليس أسعد منها الزيادة القرب من سيدنا الشيخ!.
.. وكان أبو جميل يعالج في نفسه فكرة لم يستقر منها على وجه منذ عشاء أمس.. وذلك حين سمع الشيخ يحض على الإنفاق في سبيل الله.. ويذكر الناس أن أحب الصدقة عند الله ما يقدم عن طريق الشيخ.. وأن عليه تبعات كثيرة لا سيبل إلى النهوض بها إلا بمعونة المريدين.. ولقد رأى الكثيرين يستجيبون لهذه الدعوة فيقدمون تبرعاتهم السخية لأمين الشيخ، إلا هو فقد أخر تبرعه ريثما يقطع بالمبلغ الذي يجب أن يدفعه. أما الآن فقد اهتدى إلى أفضل الوجوه. أليست دنانيره المائتان ذخرا ليوم الحاجة!! وأي مكان أصلح للادخار من سبيل الله..
فليدفع بدنانيره جميعا إلى يد الشيخ الذي لا عمل له إلى القيام بحقوق الله.. وحسبه وزوجته ما يجري عليه من مرتبه التقاعدي الذي يربو على مائتي ليرة سورية.. وهو مبلغ يكفيهما ويزيد.. ما دامت فاطمة ستكون زوجة لشقيق الشيخ، تعيش في بحبوحة من البركة التي لا خير يضاهيها..
وما هو إلا أن أحرز موافقة زوجته وشقيقته على الأمر، حتى عمد إلى تنفيذه عملا بالحكمة المأثورة:(خير البر عاجله..)
وهكذا، وفي اليوم نفسه حقق أبو جميل رغبته الخيرة، فقدم إلى الشيخ مائتي ذهب، ليضعها حيث يشاء من وجوه الخير، وأبلغه موافقة شقيقته على أن تكون زوجة لأخيه.. بل خادما في المطبخ..
-2-
كانت مباركة حقا تلك الصلة التي ربطت بين أسرتي الشيخ وأبي جميل عن طريق المصاهرة، إذ أتاحت للفريقين فرصا للتزاور لم تكن من قبل.. وقد تلطف الشيخ فأعطى فاطمة من قربه فوق المنتظر، فهو قلما ينقطع يوما واحدا عن زيارتها في بيت أخيه الذي قليلا ما يأوي إليه في أوقات متباعدة بسبب غيابه أكثر الأيام خارج المدينة.. وهذه دون ريب نعمة كبيرة من حق فاطمة التي يحسدها عليها الكثيرات من مريدات الشيخ.. وليس حظ أبي جميل وزوجته منها دون ذلك إذ أصبح يعيرهما من الاهتمام أضعاف ما ألفياه قبلا.. وقد خصص لزيارتهما حصة من يوم الجمعة الذي وقف زياراته على أولي الأرحام.. فهو بذلك يعتبرهما منهم وهذا ضرب من التكريم أكبر مما يستحقان.
على أن ثمة ظاهرة جعلت تقلق خاطر أبي جميل وزوجته وقد بدأت بعد أسابيع قليلة من زواج فاطمة.. هذه التي نشأت في حجرهما ومنحاها كل ما في قلبيهما من حنان الأبوة..
إنهما يألمان أشد الألم إذ يرينها فريسة لهزال شديد يكاد يذهب بكل نضارتها المعهودة! لقد نزلت دار الحاج سليم شقيق الشيخ وهي كالزهرة في ذروة التفتح فما تلمحها عين امرأة إلا ضربت أنفها إعحابا بجمالها، وراحت تعيذها من السوء بألف صلاة على النبي.. أما الآن فقد اعترى الزهرة ذبول مفاجئ أوشك أن يطفئ وهج الصبا في ذلك الجسد الذي لم يتجاوز الثامنة عشرة إلا أياما قليلة!
ولم يكن يسيرا معرفة السبب في هذا التغيير السريع.. ذلك أن فاطمة تجاهلت ما يقولونه في هذا الصدد وحاولت التأكيد أنها غاية ما يرام في عشها الجديد!..
وكان على أم جميل أن تخلو بها تستكشف أمرها، لعل ثمة سببا نسويا تستطيع أن تعالجه أو ترشدها إلى علاجه.. ولكن عبثا، فلم تزد فاطمة على جوابها الأول شيئا!
وأخيرا كان التفسير الوحيد الذي استقرت عليه خواطر أبي جميل وزوجته في شأن فاطمة هو أنها تسرف على نفسها في التهجد وقيام الليل وفي الصوم.. وكل هذا من شأنه أن يصير بصاحبه إلى مثل هذا الشحوب.. لذلك جعلا يذكرانها بما يجب على المرأة في حق زوجها من حيث العمل بمرضاته، فلا تأتي من نوافل العبادات إلا ما يوافقه عليه. ولا شك أن المجاهدة إلى هذا الحد ضارة بجسدها الذي لا يجوز لها أن تفرط به، إلا في الحدود التي لا تزعج نظر الزوج..
وكانا يحسبان أن الأمر سينتهي بمجرد هذا التذكير.. ولذلك تضاعف قلقهما إذا استمرت صحة فاطمة بالتدهور، وبدا عليها بعد أيام وجوم صرفها إلى صمت طويل، لا تكاد تخرج عنه إلا لضرورة قصوى!..
وكان هذا كافيا لحمل أخيها وزوجته على الإلحاح في استكشاف أمرها، إلحاحا لم تستطع المقاومة له فإذا هي تنفجر بالبكاء ثم تقول في صوت مرتجف:"إنني سأموت قريبا إذا ظللت في هذا البيت! "على أن هذه الكلمة لم تزد الأمر إلا تعمية.. فزادها استيضاحا واستمر في إلحاحهما، فلم تتمالك أن تقول في شبه ذهول:"إنه الشيخ..يراودني على نفسي..! "
وفرك أبو جميل عينيه ومسح جبهته، بينما كانت امرأته فخذيها بقوة، وخرج صوتهما معا يرددان: الشيخ!! الشيخ..
وأتم أبو جميل عبارته: هذا مستحيل.. مستحيل يا فاطمة
واستأنفت زوجته تقول: لا بد أنك رأيت هذا في الحلم!..
ولكن فاطمة لم تعد تطيق هذا التردد فأجابت في إصرار وهي تشد على كل حرف: "بل يقظة.. لقد بدأ يعبث بصدري يزعم رقيتي.. فتمالكت وأحست به الظن.. حتى راح يسمعني من الكلام ما يزلزل الأرض.. ولا يزال حتى اليوم يحاول محاولته القذرة!.."
وصمتت قليلا لتسترد أنفاسها.. ثم رفعت عينيها إلى السماء ضارعة: "يا إلهي!.. لا أحد يصدقني فأنقذني.. أنقذني أنت..! "
-3-
لم يغمض لأبي جميل جفن طوال ليلته وقد اختلط عليه الأمر بادي الرأي فما يدري أفي يقظة هو أم في حلم متصل..
لقد شلت الخواطر القلقة قواه الواعية فشغلته حتى عن أوراده المنظمة، وهاهي مسبحته ذات ألف حبة مكومة لم تمسها يد وهي المرة الأولى التي يهجرها منذ عدة أشهر!.
إنه ليطلق العنان لتصوراته فيستعيد ما سمعه من فاطمة ثم يحاول أن يحاكمه أو يناقشه فلا ينتهي إلى قرار.. وكيف يستطيع القطع بصحة ما سمع وفي ذلك القضاء على أعز أمانيه وأحب ملذاته الروحية..
ذلك البناء الضخم من الثقة والحب والكرامات، تريد فاطمة أن تحطمه بل تريد أن تمحه بكلمة!. إنه لأمر فوق قدرته.. إنه لا يستطيع الاستسلام في سهولة لهذه التهم التي ربما لا تتجاوز الأوهام ولكن فاطمة.. إنها فاضلة بل آية في الفضل والتقوى.. فكيف يعقل أن ترمي شيخها جزافا بمثل هذه الكبائر؟!.. وإنها لكبائر لو صحت لا سمح الله لطعنت سمعتها هي أيضا!..
مستحيل.. مستحيل أن يفعل الشيخ ذلك!.. مستحيل أن تتهم فاطمة نفسها وشيخها بشيء لم يقع!.. إذن فلا بد أن تكون على توهم.. على خطأ في فهم ما حدث!.
وأطرق قليلا.. وجعلت أصابعه تعبث على غير هدى في أسفل لحيته التي بلغ عمرها اليوم ستة أشهر وجعل يحدث نفسه: لماذا نسرع في قبول التأويلات الظاهرية لتصرفات هؤلاء السادة!.. إنهم بطبيعة مسلكهم غرباء عن دنيا الناس فلا غرو أن يسيئوا تفسير أحوالهم.. وهذه كتبهم المعتبرة تفيض بأخبار أولياء.. كانوا عجبا في مخالفتهم لظواهر الشريعة والآداب العامة!.. كما طالعه بذلك أمس كتاب (القطب الصمداني) الذي يسميه (الطبقات الكبرى) !.. حتى ليذكر بوضوح أنه قرأ ما قرأ من هذه الغرائب في الصفحة الخامسة والثلاثين بعد المئة ثم الخمسين بعد المئة من جزئه الثاني.. كأنما يطالعها الساعة!..
أجل.. إنها لصور عجيبة من كرامات أهل الله.. يتنكر لها الجاهلون من أهل الظاهر، ولكن أصحاب الباطن هم وحدهم الذين يعرفون، فلا تصرفهم مفارقات الشريعة عن موافقات الحقيقة!..
والشيخ - قدس الله سره - أليس واحد من أولئك الأشخاص الذين اصطفاهم الله من الأمكنة والأزمنة والأشخاص.. فلماذا نجيز لأنفسنا محاسبته على بوادر من كلمات وحركات لا بد أن تكون معانيها فوق مستوى أفهامنا..!
أن من (أدب الطريق) متابعة الشيخ دون التفات.. لأن كل انصرف عنه نزعة من عمل الشيطان.. ولا ريب أن حوادث الشيخ اليوم مع فاطمة لا تعدو أن تكون ضربا من هذه الأحوال الغامضة على أمثالنا، وكل تشكك في شأنها إنما هو ضرب من الوسواس، يطلقه الشيطان في طريقنا لينغص علينا صفاء الاستسلام!.
ولقد سمع الشيخ قبل أيام وفي إحدى حلقاته الخاصة يحدث تلاميذه - وهو أحدهم -عن أهمية هذه المتابعة في تربية المريد. ومن الأمثلة التي قصها آنئذ عليهم خبر ذلك المريد.. الذي أنبأه شيخه أن أمه تضطجع مع رجل، فعليه أن يذهب حالا ليأتيه برأسه.. فلم يلبث أن مضى إلى الدار وعلى الرغم من أنه وجد أباه هو المضطجع مع أمه لم يتردد من تنفيذ أمر الشيخ فاحتز رأسه وجاء به ليضعه بين يديه وهو يقول:"هاهو الرأس يا سيد الشيخ.. ولكن لا تنس أنه أبي!..". وهنا أمره الشيخ أن يعيد النظر إلى الرأس فإذا هو رأس رجل آخر وإنما كان تمثيله شكل أبيه من عمل الشيطان الذي اتخذ من ذلك وسيلة لدفع المريد إلى معصية الشيخ. فكان المريد بطاعته لشيخه أقوى من الشيطان!
ولقد كان لهذه القصة وقعها العميق في قلوب سامعيها.. أزالت منها كل أثر للتردد في وجوب الطاعة. ولعل أبا جميل نفسه كان أشد تأثرا بها واعتزاما لتحقيقها في سلوكه مع شيخه.. فما له الآن يسمح لوسواس الشيطان أن يراوده فيسمع في شيخه مثل هذه الريب المستحيلة ومن ثم يسمح للشك أن يتطرق إلى ثقته في وقت هو أحوج ما يكون إلى التشبث به!!
كلا.. كلا.. إنها من عمل الشيطان.. وليست مهمة المريد إلا مجاهدة النفس بإعدادها للانتصار على نزعات الشيطان..
ولكن.. فاطمة.. إنها والله لفاضلة.. وهي تقول: إنه عبث بصدرها وأنه فاتحها بطلب السوء!! نعوذ بالله. أفتكذب فاطمة في ذلك؟..ولماذا؟..
-4-
وتفتقت ذاكرة أبي جميل عن أشياء وأشياء.. وتذكر فيما تذكر تلك الاتهامات الخبيثة التي طالما سمعها من أعداء الشيخ، يروجونها عنه ليفسدوا ثقة الناس به سمعهم يتهمونه باستنزاف أموال مريديه ليشتري بها المزيد من المتاع والعقار.. حتى إنهم لم يتورعوا عن اتهامه بسحب السجادة التبريزية الكبيرة من المسجد ليزين بها منزله.. بل لقد جاوزوا ذلك إلى ميدان السياسة.. قاتل الله السياسة ومن يشتغل فيها.. فرموه بتأييد الملاحدة، وإطراء الشيوعية ومساندة الطغاة من الحكام، مقابل سكوتهم على مفاسده.. وإغضائهم عن سلبه أموال المساكين والمخدوعين..!
ولم يستطع الاستسلام طويلا لهذه التصورات.. وامتلأت نفسه بالاشمئزاز من هؤلاء الأعداء وراح يهمس: ألا قبحا لهؤلاء المفترين!.. لقد سمموا الجو من حول الشيخ.. وهاهم أولاء الآن يكادون يسممون نفسي بهذه المفتريات.. التي لا وجود لها إلا في مخيلاتهم!..
ولم يستطع - وهو يعلن هؤلاء الخصوم - إلا أن تعجب من براعتهم في اختلاق العيوب للشيخ حتى اسمه نفسه لم يسلم من هؤلاء الخبثاء، فراحوا ينسجون حوله الأقاصيص زاعمين أن أباه سماه فاضلا ولكن الناس الذين رأوا مناقبه فيما بعد نقلوه إلى فويضل!! استصغارا لشأنه واستنكارا لمسلكه. ولكنهم بدون ريب كاذبون.. كاذبون.. ولعن الله الكاذبين!
وهنا وجد نفسه يتساءل: ولكن أحقا لا وجود لهذه الأشياء خارج مخيلات هؤلاء!؟ ألا يحسن بالإنسان أن يفكر ويبحث! وهل مجرد التفكير في مثل ذلك يعد من عمل الشيطان..
ومرة أخرى تتفتق ذاكرته.. ويتذكر ويتذكر.. يتذكر أن الشيخ قد سافر فعلا إلى موسكو.. وعاد ليحدثهم عن الإسلام الظافر هناك وعن سعادة المسلمين في ظل الشيوعية.. أفكان يصف الواقع أم كان - كما زعم مبغضوه - تاجرا يؤدي ما قبض ثمنه..
ثم يذكر أن الشيخ قد أيد أحد الطغاة الملاحدة.. إذ كان يتصيد ذكره تصيدا أثناء الحلقات ليدعوا له ويسمع مريديه يدعون له.. لأنه في رأيه الرجل الذي ينهض الإسلام على يديه.. فلما هزم الطاغي انصرف إلى تمجيد خالعيه.. ثم لم يدع بعد غاصبا إلا بالغ في إطراء فضله ونشر الطيب من ذكره.. والناس - هؤلاء المفترين - مع ذلك يقولون: إن الشيخ يداهن القوم للمنفعة وأن كل ما تعانيه البلاد من البلاء إنما يعود إلى جرائم أولئك الذين كان الشيخ يروج لهم الدعاية في أوساط المغفلين من هؤلاء المريدين!!
ولقد رأى بعينه تلك السجادة الهائلة التي طال حديث الدساسين عنها رآها في دار الشيخ تغطي أرض البهو جميعا.. ولا شك أنها جلبت من المسجد نفسه.. ولكن.. لم يحسبون ذلك سيئة للشيخ وهو إنما وضعها هناك لاستقبال المصلين أنفسهم.. أليس مريدوه كلهم من ذلك المسجد.. وبالتالي أليست داره بمثابة الجامع وأكثر.. فأي فرق إذن بين أن تكون هذه السجادة هنا أو هناك. إنها من بيت الله لبيت الله والحكم في الحالين واحد.. وقبح الله المضللين..
وحسب أبو جميل أنه قد تغلب على كل ريبة في صاحبه.. ولم يدر أنه قد أطلق لشكوكه العنان، تهدم في نفسه وتبني كما يشاء..
إنه لواقع تحت شعور غريب يشبه ما يحسه الغريق عندما يرتفع رأسه فوق الماء.. وخيل إليه أن في الحياة أشياء كثيرة فاته النظر إليها من قبل على كثرة ما مر بها ورآها.. فهو الآن كسالك الصحراء يتطلع إلى البعيد فيرى السفن والقوافل والفرسان والنخيل.. وعشرات المرئيات الجميلة.. بيد أنه كلما دنا من موقع الرؤية أخذت هذه المنظورات بالتلاشي حتى لا يبقى منها شيء.. ومن الناحية الأخرى هو كالمحدق في أبعاد الأفق.. يلمح نقاط سواد خلال طبقات الغمام فلا يعيرها التفاتا ولكنها لا تلبث أن تتضح كلما صفا الأفق فإذا هي أخيرا سرب عريض من قاذفات القنابل تملأ بأحجامها وهديرها الفضاء..
وهنا فوجئ أبو جميل بصوت المؤذن يدعو الناس إلى صلاة الفجر.. فنهض من مقعده على الشرفة ليردد معه أنشودته الحية في تأثر بالغ ثم ما لبث أن غادر مع زوجته البيت متجهين نحو المسجد القريب.
وبدلا من أن يعودا إلى بيتهما عقيب الصلاة أخذ طريقهما في الاتجاه الآخر.. وعلى مدخل بيت فاطمة خاطب أبو جميل زوجته قائلا: ستعودين بها إلى البيت حالا.. أما أنا فسأدخل على فويضل ولن أعود حتى أسترد أموالي..
لمحات تاريخية من حياة ابن تيمية
بقلم الطالب: صالح بن سعيد بن هلابي
لا بد للدارس لحياة ابن تيمية من معرفة الأحوال الفكرية والاجتماعية والسياسية في عصره حتى يأخذ وينظر من خلال تلك الحالة إلى حياة ذلك الإمام العظيم، فقد كان عصره وهو القرن السابع والثامن الهجري يموج موجا بالأفكار الدخيلة على الأمة الإسلامية حيث تشعبت الأفكار واختلفت الآراء في كثير من المسائل الشرعية وخاصة مسائل العقيدة التي يبنى عليها أساس كل شيء.
فقد عاصر بن تيمية فرقا كثيرة من الفرق الإسلامية التي شطحت وابتعدت عن الحق ونابذت أهل الحق في كثير من المسائل الأصولية.
وأكثرها امتدت جذورها إلى دينات أخرى من نصرانية ويهودية ووثنية جاء الإسلام على إنقاذها أو إبطالها من أساسها فمن شيعة إمامية على اختلاف مشاربها وتباعد ديارها، ومن رافضة غلاة أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي ومن معتزلة فلسفية حكمت العقل وحده، ومن جبرية مستسلمة يقولون إن الإنسان لا إرادة له وأنه كالريشة في مهب الرياح تصرفه كيف يشاء..
ومن منتسبة للأشعري آمنت ببعض الصفات وأنكرت بعضها أو أولتها ونصبت نفسها الفرقة الوحيدة التي تمثل أهل السنة والجماعة.
كل هذه الأفكار والفرق عاش ابن تيمية كل حياته في خضمها يجاهد بقلمه ولسانه ويدافع عن جوهر العقيدة الإسلامية دفاع المستميت المتفاني في سبيلها، فقد كتب عن الشيعة والروافض كتابا ضخما عظيما في أربع مجلدات سماه ((منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية)) وهو رد على كتاب ((منهاج الكرامة)) لمؤلفه ابن مطهر الحلي الشيعي المتوفى سنة 726هـ وقد كتب ابن مطهر كتابه هذا بصفة خاصة إلى الملك (الجايتو خدابنده) وهو أحد الملوك الإيلخانية ومن أحفاد الملك ((جنكير خان)) يدعوه فيه إلى مذهب الشيعة الإمامية.
وقد تناول ابن تيمية فيه أصول مذهبهم وتصدى للتفصيل والبسط فيه بعقلية جبارة مؤمنة يعرف كيف يضع النقاط على الحروف ويضرب على المحز من حيث لا يشعرون فرد مذهبهم إلى جذوره الأصيلة التي يبنون عليها فقد كان بحق نقض كلامهم وتهافتهم في كل باب يفتحونه على أنفسهم ولا يستطيعون إغلاقه..
ابن تيمية والصوفية الفلسفية:
تطورت فكرة التصوف والصوفية في عهد ابن تيمية إلى أفكار خبيثة تهدم الإسلام هدما صريحا وتقيم وثنية فلسفية باسم الزهد والولاية والكرامة فقد تحول مفهوم التصوف الدال على الصفاء وتزكية النفس - وإن كان أصل الاسم من أساسه خطأ - تحول هذا مفهوم إلى المفهوم آخر وهو القول بوحدة الوجود أو بمعنى آخر حلول الله في بعض مخلوقاته - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا - وقد تزعم هذا القول وأعلنه في كتبه العديدة ومن أشهرها كتاباه ((الفتوحات المكية)) و ((فصوص الحكم)) ذلك الملحد الخبيث أبو بكر محي الدين بن عربي الطائي الأندلسي ومن أقواله الكافرة:
الرب حق والعبد حق
يا ليت شعري من المكلف؟؟
إن قلت عبد فذلك رب
أو قلت رب أنى يكلف؟؟
فسر هذا الكلام عند أتباعه الذين يتبعونه وهم لا يدركون حقيقته بأن فيه رموزا وإشارات لا يدركها أهل الشرع، وإنما هي للخواص وخواص الخواص، وأصبح له أتباع في ذلك العصر وهم الذين لا يدركون حقيقة هذا الكفر، ثم جاء من بعده ابن الفارض يفلسف مذهب الحلول على رأيه ويدعي الألوهية في بعض الأحيان.
ومن أقواله الكافرة:
لها صلواتي في المقام أقيمها
وأشهد فيها أنها لي صلت
كلانا مصل واحد ناظر إلى
حقيقته بالجمع في كل سجدة
وما كان لي صلى سواي ولم تكن
صلاتي لغيري في أداء كل ركعة
رأى ابن تيمية هذا الكفر البواح ودعوى الألوهية والتفكير الفلسفي الوثني الذي ما كان خطر ببال أحد من المشركين والوثنيين الجاهليين في الجاهلية الأولى بل كانوا مع عبادتهم لغير الله تعالى يؤمنون بأن الله رب السماوات والأرض وأنه هو الرزاق الخالق فهذا زهير بن أبي سلمى الشاعر الجاهلي يقول:
فلا تكتمن الله ما في نفوسكم
ليخفى ومهما يكتم يعلم
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر
ليوم الحساب أو يعجل فينقم
وهو القائل:
وأعلم علم اليوم والأمس قبله
ولكنني عن علم ما في غد عم
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب
تمته ومن تخطي يعمر فيهرم
فأين هذا القول من قول ابن عربي وابن الفارض وغيره من الملاحدة في ذلك العصر. رأى بن تيمية هذا الانحطاط في الفكر حيث أخذ يسري في الأمة وأصبح يشار إلى هؤلاء بالبنان تارة التصوف والزهد وتارة باسم الكرامة والولاية. فثار ثورته وانقض عليهم كالأسد يردُّ على أقولهم الباطلة وأخذ يردها إلى أصولها الوثنية القديمة ويشهرها في الناس حتى يكونوا على بينة من أمرهم. والواقع لم يكن ابن تيمية وحده الذي كفَّر ابن عربي وغيره من هؤلاء بل هناك من كبار علماء من أهل السنة وغيرهم من كفر ابن عربي وألفوا فيه الرسائل العديدة أو ذكروه في تراجم كتبهم مثل الحافظ بن حجر العسقلاني في لسان الميزان وأبي حيان المفسر في تفسيريه ((البحر والنهر)) قال شيخ الإسلام بن دقيق العيد: "لي أربعون سنة ما تكلمت كلمة إلا وأعددت لها جوابا بين يدي الله تعالى، وقد سألت شيخنا سلطان العلماء عبد العزيز بن عبد السلام عن ابن عربي فقال: "شيخ السوء كذاب يقول بقدم العالم ولا يحرم فرجا". وقد بالغ ابن المقري فحكم بكفر من شك في كفر طائفة ابن عربي. فهؤلاء أئمة الصوفية الحلولية وَجَدَ ابن تيمية أقوالهم منتشرة في العامة والخاصة إلا من عصم الله وقليل ما هم.
مناظراته ودفاعه عن العقيدة:
اشتهر أمر ابن تيمية وذاع صيته في العامة والخاصة وأصبح يشار إليه بالبنان وتعقد له المناظرات فلا يستطيع أحد أن يقف أمامه أو يناظره إلا أفحمه وقطع لسانه ومن هنا دب الحسد والحقد إلى قلوب مخالفيه وأعدائه وفي هذه الفترة بالذات وفي سنة 698 هـ يأتيه سؤال في العقيدة من حماة في مسألة صفات الله عز وجل فأجاب السائل في عدة كراريس وهي المعروفة اليوم بالرسالة ((الحموية)) جاء في أولها: "قولنا في الصفات ما قال الله ورسوله صلى الله عليه وسلم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وما قاله أئمة الهدى بعد هؤلاء الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم.."إلى أن قال: "ثم كيف يكون خير قرون الأمة أنقص في العلم والحكمة لا سيما العلم بالله وأحكام أسمائه وصفاته من هؤلاء الأصاغر أم كيف يكون أفراخ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان وورثة المجوس والمشركين وضلال اليهود والنصارى والصابئين وأشكالهم وأشباههم أعلم بالله من ورثة الأنبياء وأهل لقرآن والإيمان؟؟ ". وقد شنع عليهم في هذه الرسالة أعظم تشنيع وبين سقطاتهم وتهالكهم في هذا الباب فحين انتشرت هذه الفتاوى بيت العامة والخاصة ومضى عليهم زمن طويل لم يسمعوا هذا الكلام قام عليه الحساد من أهل الطوائف ومن جعل علم الكلام والفلسفة يفضل كلام الله ورسوله في الاستدلال ورموه بما هو منه بريء كبراءة الذئب من دم يوسف ولكن الذي يلفت النظر أن أحدا منهم لم يستطع أن يرد عليه أو يناظره إنما شكوه إلى القاضي جلال الدين الحنفي وهو أشعري المذهب أو ماتريدي وأرسل القاضي في طلب الشيخ ابن تيمية فلم يحضر إنما رد عليه في رسالة قائلا: "إن العقائد أمرها ليست إليك وإن السلطان إنما ولاك لتحكم بين الناس وإن إنكار المنكرات ليس مما يختص به القاضي وحده". وفي يوم الجمعة اجتمع القاضي وبعض فقهاء المذاهب بالشيخ وناقشوه في عقيدته وحصلت لهم مناظرة أمام الناس فأجابهم شجاعة وبسالة
ولم يستطع أحد أن ينال منه في هذه المرة.
وفي السنة 705 هـ في شهر رجب قامت محنة أخرى على هذا الإمام الجليل من قبل الطوائف المعادية وبعض الفقهاء وذلك بسبب انتشار فتوى في العقيدة على أثر سؤال جاءه من أرض واسط وبين فيها مذهب السلف في الصفات ورد على المتكلمين والمؤولين والمحرفين والمشبهين فقامت قومتهم واشتكوه في هذه المرة إلى السلطان وإلى قصر السلطان جاء شنكير وأحضر الأمير نائب السلطان بالشام الفقهاء ة العلماء وأحضر الشيخ ابن تيمية إلى مجلس نائب السلطان على أن يعقد لهم مناظرة ويسأله عن اعتقاده وحين بدأ الشيخ يجيب ويدافع عن عقيدة الحق ويشرح الذي دفعه إلى كتابتها كان يقاطع أثناء كلامه لئلا يتمكن من إيضاحها للحاضرين هو يقول لنائب السلطان: "لو أن يهوديا طلب من السلطان الإنصاف لوجب عليه أن ينصفه وأنا قد أعفو عن حقي وقد لا أعفو بل قد أطلب الإنصاف منه وأن يحضر هؤلاء الذين يكذبون علي ليحاكموا على افترائهم
…
" إلخ ما قاله رضي الله عنه ولولا ضيق المجال لسقنا المجادلة بكاملها.
وفي نفس السنة ثارت ثورة طائفة تسمى بالأحمدية ثارت على الشيخ ابن تيمية وحضر جماعة منهم يشتكون الشيخ إلى نائب السلطان وأن يكف عنهم ويتركهم وشأنهم وما هم عليه وخالصة أعمالهم أنهم يستعملون السحر ويتعاطون بعض الأشياء الشيطانية ويدخلون النار أمام الناس بزعمهم أن هذه الأعمال ولاية أكرمهم الله بها، فانبرى لهم ابن تيمية في المجلس وقال:"إن هذه أحوال شيطانية باطلة وأكثر أحوالكم من باب الحيل والبهتان ومن أراد منكم أن يدخل النار فليدخل أولا إلى الحمام ويغسل جسده غسلا جيدا ثم يدلكه بالخل والإشناق ثم يدخل بعد ذلك إلى النار إن كان صادقا ولو فرض أن أحدا من أهل البدع دخل النار بعد أن يغتسل فإن ذلك لا يدل على صلاحه ولا على كرامته بل هي حالة من أحوال الدجاجلة المخالفين للشريعة".
فقال شيخ منهم: "نحن أحوالنا إنما تنفق عند التتر ليست تنفق عند الشرع". قال ابن كثير: "فضبط عليهم الحاضرون تلك الكلمة وكثر الإنكار عليهم من كل أحد". وألف ابن تيمية بعد هذا المجلس فيهم كتابا سماه شيوخ الأحمدية أو الطريقة الأحمدية بيَّن فيه مذاهبهم ومن أين أخذوا هذا السحر وأظهر حكم الإسلام فيهم وفي أمثالهم من المشعوذين، ولقد عاصر ابن تيمية هذه الفرق وأعطى كل قسم حقه ولم يدخر وسعا في كشف حقائقهم وأباطيلهم ولم يعرف عنه التواني أو المداهنة أو المراوغة بل كان سيفا مسلولا على هذه الفرق الضالة التي أفسدت عقيدة الأمة الإسلامية وكادت أن تذهب بها أدراج الرياح..
مؤتمر القمة الإسلامي
نائب رئيس الجامعة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه أما بعد:
فإن من تأمل القرآن الكريم الذي أنزله الله تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين يجد فيه بيانا شافيا لعوامل النصر وأسباب التمكين في الأرض والقضاء على العدو مهما كانت قوته ويتضح له أن تلك الأسباب والعوامل ترجع كلها على عاملين أساسيين وهما: الإيمان الصادق بالله وبرسوله والجهاد الصادق في سبيله ومعلوم أن الإيمان الشرعي الذي علق الله به النصر وحسن العاقبة يتضمن الإخلاص لله في العمل والقيام بأوامره وترك نواهيه كما يتضمن وجوب تحكيم الشريعة في كل أمور المجتمع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورد ما تنازع فيه الناس إلى كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما يتضمن أيضا وجوب إعداد ما يستطاع من القوة للدفاع عن الدين والحوزة ولجهاد من خرج عن الحق حتى يرجع إليه.
أما العامل الثاني وهو الجهاد الصادق فهو أيضا من موجبات الإيمان ولكن الله سبحانه نبه عليه وخصه بالذكر في مواضيع كثيرة من كتابه وهكذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر به الأمة ورغبها فيه لعظم شأنه ومسيس الحاجة إليه لأن كثير من الخلق لا يردعه عن الباطل مجرد الوعد والوعيد بل لابد في حقه من وازع سلطاني يلزمه بالحق ويردعه عن الباطل ومتى توفر هذان العاملان الأساسيان وهما:
الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله لأي أمة أو دولة كان النصر حليفها وكتب الله لها التمكين في الأرض والاستخلاف فيها وعد الله الذي لا يخلف وسنته التي لا تبدل وقد وقع لصدر هذه الأمة من العز والتمكين والنصر على الأعداء ما يدل على صحة ما دل عليه القرآن الكريم وجاءت به سنة الرسول الأمين عليه الصلاة والسلام وكل من له أدنى إلمام بالتاريخ الإسلامي يعرف صحة ما ذكرناه وأنه أمر واقع لا يمكن تجاهله وليس له سبب إلا ما ذكرنا آنفا من صدق ذلك الرعيل الأول في إيمانهم بالله ورسوله والجهاد في سبيله قولا وعملا وعقيدة وإليك أيها الأخ الكريم بعض الآيات الدالة على ما ذكرنا لتكون على بينة وبصيرة ولتقوم بما تستطيعه من الدعوة إلى سبيل ربك وتنبيه إخوانك المسلمين على أسباب النصر وعوامل الخذلان ولأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم كما صح بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} . وقد أجمع أهل التفسير على أن نصر الله سبحانه وتعالى هو نصر دينه بالعمل به والدعوة إليه وجهاد من خالفه ويدل على هذا المعنى الآية الأخرى من سورة الحج وهي قوله سبحانه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَر} . وقال تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} . ولا ريب أن المؤمن هو القائم بأمر الله المصدق بأخباره المنتهي عن نواهيه المحكم لشريعته وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} وقال عز وجل في بيان صفات المؤمنين
المتقين: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّاب ِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} تأمل يا أخي هذه الصفات الحميدة والأخلاق الكريمة ثم حاسب نفسك بتطبيقها حتى تكون من المؤمنين الصادقين والمتقين الفائزين ولا ريب أن الواجب على كل من ينتسب إلى الإسلام من ملك أو زعيم أو أمير أو غيرهم أن يحاسب نفسه وأن يجاهدها على التخلق بهذه الأخلاق الكريمة والعمل بهذه الأعمال الصالحة وأن يلزم من تحته من الشعوب بهذه الأخلاق والأعمال التي أوجبها الله على المسلمين وأن يصدق في ذلك ويستعين بالله عليه وأن يولي الأخيار الذين يعينونه على تنفيد أمر الله ورسوله حسب الإمكان وأن يعضدهم حسب الإمكان وأن يتعاون مع غيره من الملوك والزعماء والأعيان في هذا الأمر الجليل الذي به عزتهم ونصرهم وتمكنهم في الأرض كما قال عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وقال سبحانه في سورة الأنفال آمرا لعباده بإعداد القوة: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ
قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} . وأمرهم بالحذر من الأعداء ومكائدهم فقال تعالى في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} وقال سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} فانظر يا أخي هذا التعليم العظيم والتوجيه البليغ من فاطر الأرض والسموات وعالم السرائر والخفيات الذي بيده تصريف قلوب الجميع وبيده أزمة الأمور يتضح لك من ذلك عناية الإسلام بالأسباب وحثه عليها وتحذيره من إهمالها أو الغفلة عنها ويتبن لك من ذلك أنه لا يجوز للمسلم أن يعرض عن الأسباب أو يتهاون بشأنها كما أنه لا يجوز له الاعتماد عليها بل يجب أن يكون اعتماده على الله وحده موقنا بأنه سبحانه هو الذي بيده النصر وهذا هو حقيقة التوكل الشرعي وهو الأخذ بالأسباب والعناية بها مع الاعتماد على الله والتوكل عليه وقد نبه الله سبحانه على هذا المعنى في عدة آيات منها قوله سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ
اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} فذكر التقوى أولا وهي أول الأسباب لأن حقيقتها طاعة الله ورسوله في كل شيء وإن ذلك الأخذ بالأسباب الحسية والمعنوية والسياسية والعسكرية ثم ذكر التوكل فقال عز وجل: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} أي كافيه وقال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَاّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إلَاّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . أما الجهاد الصادق فذكره سبحانه في عدة آيات وذكر ما يترتب عليه من النصر في الدنيا والسعادة في الآخرة وبيَّن صفات المجاهدين الصادقين ليتميزوا من غيرهم فقال تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} فتأمل أيها المؤمن هذه الصفات العظيمة للمجاهد الصادق حتى يتضح لك حال المسلمين اليوم وحال المجاهدين السابقين وحتى تعرف سر نجاح أولئك وخذلان من بعدهم وأنه لا سبيل إلى إدراك النصر في الدنيا والسعادة في الآخرة إلا بالتخلق بالأخلاق التي أمر الله بها ودعا إليها وعلق بها النصر وقد
أوضحها الله سبحانه في كتابه المبين في هذه الآيات التي ذكرناها وغيرها وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} وقد جمع الله سبحانه في هذه الآيات أسباب النصر وردها إلى عاملين أساسيين وهما الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله ورتب على ذلك مغفرة الذنوب والفوز بالجنة في الآخرة والنصر في الدنيا والفتح القريب وأخبر سبحانه أن المسلمين يحبون النصر والفتح ولهذا قال: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} فإذا كان ملوكنا وزعمائنا في مؤتمرهم هذا يرغبون رغبة صادقة في النصر والفتح القريب والسعادة في الدنيا والآخرة فقد أوضح الله لهم السبيل وأبان لهم العوامل والأسباب المفضية إلى ذلك فما عليهم إلا أن يتوبوا إلى الله توبة صادقة مما سلف من تقصيرهم وعدم قيامهم بما يجب عليهم من حق الله وحق عباده وأن يتعاهدوا صادقين على الإيمان بالله ورسوله وتحكيم شريعته والاعتصام بحبله وجهاد الأعداء صفا واحدا بكل ما أعطاهم الله من قوة وأن ينبذوا المبادئ المخالفة لشريعة الله وحقيقة دينه وأن يعتمدوا عليه سبحانه دون غيره من المعسكر الشرقي أو الغربي وأن يأخذوا بالأسباب ويعدوا ما استطاعوا من قوة بكل وسيلة أباحها الشرع وأن يكونوا مستقلين ومنحازين عن سائر الكتل الكافرة من شرقية وغربية متميزين بإيمانهم بالله ورسوله واعتصامهم بدينه وتمسكهم
بشريعته..
أما السلاح وأصناف العدة فلا بأس بتأمينها من كل طريق ومن كل وسيلة لا تخالف الشرع المطهر والله المسؤول بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل هذا المؤتمر مباركا وأن ينفع به عباده وأن يجمع به شمل المسلمين ويصلح قادتهم ويوفق المجتمعين فيه لما فيه رضاه وعز دينه وذل أعدائه ورد الحق المسلوب إلى مستحقه ونبذ ما خالف دين الإسلام من مبادئ وأخلاق إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وأتباعه بإحسان.
نائب رئيس الجامعة
مع الصحافة
نقلا عن مجلة الحضارة الإسلامية
نشرت مجلة حضارة الإسلام التي تصدر من دمشق المقال التالي وذلك في العدد الرابع آب/أيول 1969م:
أحشفا وسوء كيلة
هذا مثل تضرب به العرب لمن يجمع بين خصلتين مكروهتين، فمثل من يكون كذلك مثل من لا يكتفي ببيع أردأ أنواع التمر - وهو الحشف - وإنما يجمع إلى ذلك سوء الكيل أيضا. والذي أعنيه كائن وراء هذا الذي أقول، فأنت واجد إذا أنعمت النظر أن هناك صنفين من البشر تبدو في سلوكهم صلة القربى مع هذا المثل الواضح المستبين.
أما الصنف الأول: فهو أولئك الناس الذين يقعدهم جهلهم أو عجزهم عن تحمل تبعات الإسلام في صفاته ودعوته إلى استقامة العمل والوقوف عند حدود الله عز وجل.. فيُحَمِّلُون الإسلام نفسه حصيلة جهلهم أو عجزهم عن الاستقامة على الطريق التي قد تكون من الوعورة بحيث يهابها ضعاف النفوس، ويرهبها الذين يثقلهم حب الشهوات والعافية والطمع في العاجلة والغرض والقريب. فبدلا من التنقيب عن المرض الذي به قعدوا عن مسايرة ركب الإسلام والأمانة في التزام حدوده، تراهم ينعون على الإسلام أنه غير صالح للحياة، أو أنه لا يساير ركب التطور..أو..أو.. وقد يذهلك التعداد بشعبه الشيطانية وألوانه المخزية.
ولو أن هؤلاء النفر من الناس استطاعوا أن يتحرروا - ولو بعض الشيء - من عبوديتهم لغير الله جل وعز، وتزودوا بشيء من المعرفة، وأضاءت نفوسهم بقبس من نور التقوى والهداية لسلم لهم وضوح الرؤية وأبصروا الأمور على حقيقتها وأدركوا أن العلة لا تكمن في هذا الدين الذي أكمله الله وأتم به النعمة ورضيه لعباده أجمعين. وإنما تكمن في أنفسهم هم ولأيقنوا أنهم في موطن العلة التي باضت وفرَّخت في عقولهم وحولت طاقاتهم إلى نزوات وشهوات.
فهؤلاء الصنف من البشر بدل أن يستأنفوا الطريق لإصلاح الخطأ يجمعون إلى جهلهم أو عجزهم اتهام الإسلام تبرئة لنفوسهم الجاهلة العاجزة المريضة وتسويغا لما يكون من انحرافهم عن جادة الصواب والعياذ بالذي قال في كتابه - وهو أصدق القائلين -: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَاّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} .
أما الصنف الثاني فهو أولئك الذين يمثلون ظاهرة التخلف عن طريق الإسلام في دعوته إلى العلم والمعرفة، والالتزام النفسي أمام انتصارات أولئك الذين يمسكون اليوم بزمام الحضارة الحديثة وقد جمعوا العلوم المادية من أطرافها، وباتوا يطالعون العالم كل يوم بحديد.
فهؤلاء لا يحملون جهلهم وانهزامهم ويسكتون، بل يحاولون أن يتمسحوا بأذيال الإسلام فيفترون عليه الكذب بما يكون من قالتهم:"الدين لا يرضى بالصعود إلى القمر - مثلا - وهذا أمر يجوز، وذلك في نظر الإسلام لا يجوز.."إلى آخر ما ترى وتسمع من الجود بالفتاوى وطرح الأحكام.
ويا عجبا لأمر الجهل ماذا يصنع بصاحبه، يورده موارد الهلكة ويسلكه في قطيع التائهين.. ولو أن الأمر في تصرف الجاهل يقتصر على دائرة شخصية ضيقة لهان الخطب ونفعت الحيلة، ولكن الأمر يتعدى إلى دائرة أوسع وأشمل هي دائرة الجماعة، والطامة الكبرى في أولئك الذين يلصقون بالدين زورا وبهتانا ما ليس منه ويفترون عليه ما هو منه براء، الدين الذين قام عليه كيان الأمة وغذى تاريخها الحضاري - بل تاريخ الإنسانية -عبر قرون وقرون هذا الدين.. يحاول بعض الناس أن يكسوه لباسا نسيجه جهلهم وبلاهتهم ليبنوا للجهالة صرحا الذي يضمن استمرارهم على ما هم عليه وليسوغوا ذلك الانحراف الذي يتسربلونه، حين باتت العودة إلى مفهومات الإسلام الصحيحة والتزود بشيء من العلم والمعرفة من الأمور التي يتجافون عنها، وكأنما ضرب بينهم وبينها بسور لا يقضى عليه حتى يَلْفَظُوا أنفاسهم فيستريحوا ويريحوا، وتبارك الذي أنزل فيما أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم:{فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} .
وأود - بجانب ذلك - أن أؤكد على التنبه إلى الالتزام النفسي الذي أشرت إليه من قريب؛ لأنه أمر في غاية الخطورة على حياة الأمة حين ننظر إلى الأمد البعيد ونحاول أن نضع القضية في إطارها الطبيعي.
ولعل ذلك كله هو السر الذي يكمن وراء الغثاء الذي تلقيه بعض الأفواه باسم الدين وتلقيه بعض الحناجر على منابر المسلمين في موضوعات تعرض - فيما تعرض - لأحدث مرحلة علمية وصل إليها فكر هذا الإنسان المخلوق حين استطاع - بعد أن زحف مئات ومئات الألوف من السنين - أن يصعد إلى القمر الذي قدره الله منازل والذي تفصله عن كوكبنا الأرضي مسافة تبلغ أربعمائة كيلومتر أو تزيد. والذي يحز في النفس أن هذا الغثاء يتمثل في قول بعضهم: "الصعود إلى القمر حرام". وقول آخرين من قبل: "هذا أمر لا يمكن أن يكون". وأمر ثالث بعد هذا كلِّه هو ما أصاب بعض النفوس الجاهلة أو المريضة من تعب حيال القضية الإيمانية الكبرى في وجود الله وقدرته سبحانه وتعالى، ناسين أنه عز وجل هو القاهر فوق عباده وأنه هو بكل شيء محيط وأنه هو الذي أودع في الكون ما أودع من خصائص وسخر ذلك للإنسان.
إلا أن القول بهذا كلِّه أو بشيء منه جهل بالعلم والإسلام معا، ولو ذكرنا أن الإسلام بدأ رسالته على الأرض بقوله تعالى:{اقْرَأ} ، وأن الآيات التي تكرم العلم وتحث عليه بلغت الحد الوافر في كتاب الله تعالى وأن رسول الله كان من وظيفته في هداية الناس كونه يعلمهم الكتاب والحكمة ويخرجهم من الظلمات إلى النور وأن في أحاديثه عليه الصلاة والسلام الكثير الكثير من النصوص التي تكرم العلم العلماء وأن ما وراء فرض العين من العلوم هو فرض كفاية ويشمل كثيرا من العلوم التجريبية التي تلمس آثارها اليوم عند أعدائنا الذين أمسكوا بزمام الحضارة الحديثة بلا أخلاق وسخروا شعوب العالم لأهوائهم وسلطانهم وما يبتغون.
وأن القرآن جعل طريقا واسعة رحبة من طريق الإيمان بالله التدبر والتفكر في السموات والأرض والنظر فيهما وفي هذا الخلق العجيب الذي تنزه عن التفاوت والعيب، كما أراد له الله أن يكون.. نعم لو ذكرنا ذلك - واليسير منه يكفي - لما كان هذا الذي نشكو منه اليوم.
فياليت شعري كيف يمكن أن يكون النظر إن لم يكن هنالك علم؟ وكيف يمكن أن يكون هناك تدبر إن لم يكن هنالك معرفة تساعد على هذا التدبر؟ إن القرآن دل العربي في الماضي على ما يمكن أن يدركه كما نرى مثلا في قوله تعالى جَاعِلاً النظر طريق الإيمان: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} باعتبار أن الناقة لها ما لها من أثر في حياة العربي في مطعمه ومشربه وسفره وراحته وما إلى ذلك، وظلت أمور كثيرة وكثيرة لا يظهر إعجاز القرآن فيها إلا العلم الذي يصل إليه العقل البشري مرحلة بعد مرحلة.
فأنى لنا أن نقول: "هذا يجوز وهذا لا يجوز". مع أن التدبر في آلاء الله مرتبط بالإيمان أتم ارتباط. والمفروض بالمؤمن العاقل أن يزيد إيمانه ويقوى يقينه بمثل هذا.. إن اكتشافنا لجانب صغير صغير من مخلوقات الله تبارك وتعالى لا يحملنا في الشك في وجود الله وإنما يزيد يقيننا بوجوده وعظمته سبحانه والاعتراف بأن هذا النظام في المجموعة الشمسية وغيرها لا يمكن أن يصدر إلا من خالق عليم حكيم مبدع له الخلق والأمر.
إلا أن الإسلام لا يهاب العلم لأنه دعا بحرارة إليه ولا يرهب ما يصل إليه العقل البشري من اكتشاف لكوكب أو كواكب من هذا الخلق البديع الذي لا ترى فيه من تفاوت، لأنه جعل النظر والتدبر والتفكر طريق الإيمان - والحمد لله - وهذه خاصية تميز بها الإسلام.
وأكثر من هذا لقد كان المفروض أن تصل أمتنا إلى هذه المرحلة قبل هؤلاء الناس بعدة قرون أن لو ظللنا مع الإسلام وسلم لنا خطنا البياني في صعود صاعد بما يشرق عليه من ضياء هذا الدين الذي تربّى في ظله آلاف الرجال الذين كانوا يتقربون إلى الله تعالى بما يخطون للأمة من معالم المعرفة. وعلى ما ضاع من تراثنا على أيدي التتار الصليبيين والفتن والحروب ما تزال الآثار في المخطوط والمطبوع شاهدة على هذا الذي نقول ولن تعدم الدنيا منصفا - ولو مع الأعداء - يعترف بذلك.
فبدلا من الانهزام والتوكؤ الجاهل على الدين وتلبيسه الثوب المفترى لا بد من الشعور بمزيد من المسؤولية والمحاولة الجادة لاستئناف الطريق الواعية التي تعي كل شيء قدره في ظل الإسلام ولن ترضى الأمة أن يكون فينا أناس يحاولون باسم الدين أن يضمنوا الاستمرار على حساب جهل الأمة بدينها وبناء قصور من الأوهام والخيالات والخرافات باسم الدين، والدين من هذا كال براء.
إن التاريخ ما يزال ينعى على أولئك الذين كانوا ينتسبون إلى غير الإسلام في أوروبا ويحاولون أن يحاربوا العلم باسم الدين لأن بقائهم فيما هم عليه بسلطانهم وسيطرتهم على الناس مرهون بأن يظل هؤلاء الناس يغطون في سبات عميق من الجهل والخرافة والانحراف. كان ذلك يوم كانت يد الإسلام العالمة العارفة الحكيمة القوية في مشرق عالمنا الكبير ومغربه تشق جيوب الظلام في العالم كله.
مرة ثانية نقول لهؤلاء وأولئك: أحشفا وسوء كيلة!! ألا لا يجمعن الجاهل إلى جهله بالإسلام والعاجز إلى عجزه عن متابعة طريق الإسلام إلقاء التبعة على الإسلام. ألا يضمن أولئك الجهلة والمنهزمون في أعماقهم إلى هذا البلاء أن يستخدموا الافتراء وسيلة لاستمرار وجودهم وكيانهم والإسلام دين العلم والمعرفة والنور.
ألا وليعلم الرواد الذين أكرمهم الله بوافر من الإيمان والهدى أن جانبا كبيرا من التوعية يقع على عواتقهم في مثل هذه الأمور فدعوة الإسلام لا يتجزأ وبناء متكامل كما أراد الله أن يكون.
ومعقد الأمانة في هذا الباب أن من المنكر أن تقبله نفس مؤمن أن ينضم إلى بلاء هذه الأمة في ديارها وأرضها بلاء تأصيل الجهالة واعتبارها من الإسلام باسم الحفاظ على الدين وتقوى الله عز وجل ليكون للأعداء ما يريدون من بقاء الأمة في الوهدة التي عليها اليوم.
إنه لا بد أن تمسك الأمة بالزمام من جديد وذلك بموالاتها حقائق الإسلام في العلم والمعرفة والإفادة بوعي وأمانة مما عند الآخرين وجعل العلم والمعرفة في طاعة الله وتحقيق رسالة الإنسان، كيما يستأنف مسلم اليوم طريق مسلم الأمس فلا تتقطع الجسور بين مسلم الغد وبين الذين حملوا رسالة طريق المعرفة - معتزين بإسلامهم - إلى العالمين. وجل الذي قدَّر فهدى وتبارك الذي علَّم الإنسان ما لم يعلم وسبحان الذي أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقّ} وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
مقتطفات [1] من كتاب الثقلاء
للشيخ محمد العبودي
للشيخ محمد بن ناصر العبودي الأمين العام للجامعة
كان أبو هريرة رضي الله عنه إذا استثقل رجلا يقول: "اللهم اغفر له وأرحنا منه"وكان الإمام الأعمش - واسمه سليمان بن مهران - إذا رأى ثقيلا قال: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} .
وقيل للأعمش: "لما عمشت عيناك؟ " قال: "من نظري إِلى الثقلاء! ".
وذكر اليوسي أن بعض الثقلاء استأذن على ابن المبارك فلم يأذن له فكتب إليه ذلك الثقيل:
هل لذي حاجة إليك سبيل
لا طويل قعوده بل قليل
فأجابه ابن المبارك:
أنت يا صاحب الكتاب ثقيل
وقليل من الثقيل طويل
وقال سفيان بن عيينة: قلت لأيوب السختياني: "ما لك لا تكتب على طاووس؟ "قال: "أتيته فوجدته بين ثقيلين".
ونقل عن السدي المفسر أنه قال: "لقد ذكر الله الثقل في القرآن في قوله تعالى: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} ! ".
وكان لابن سيرين رحمه الله خاتم مكتوب عليه: أبرمت فقم. . فإذا استثقل إنسانا دفعه إليه!.
وذكر الزمخشري أن الشعبي رحمه الله عاده ثقيل، فأطال الجلوس ثم قال:"ما أشد ما مر عليك في مرضك؟ "فقال الشعبي: "قعودك عندي! ".
وقال ابن القيم رحمه الله في تفسير المعوذتين: "ومنهم من مخالطهم حمى الروح، وهو الثقيل البغيض الذي لا يحسن أن يتكلم فيفيدك، ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك، ولا يعرف نفسه فيضعها في منزلتها، بل إنه إن تكلم فكلامه كالعصا تنزل على قلوب السامعين، مع إعجابه بكلامه وفرحه به. فهو يحدث من فيه كلما تحدث. ويظن أنه مسك يطيب به المجلس، وإن سكت فأثقل من نصف الرحا العظيمة التي لا يطاق حملها ولا جرها على الأرض". ثم قال ابن القيم:
"ويذكر عن الشافعي رحمه الله أنه قال: ما جلس إلى جانبي ثقيل، إلا وجدت الجانب الذي هو فيه أنزل من الجانب الآخر. ورأيت يوما عند شيخنا - يقصد شيخ الإسلام ابن تيمية - رجلا من هذا الضرب، والشيخ يتحمله، وقد ضعفت القوى عن حمله، فالتفت إلي وقال: مجالسة الثقيل حمى الربع. ثم قال: لكن قد أدمنت أرواحنا على الحمى فصارت لها عادة أو كما قال".
وحدث العباس بن بنان قال: "كنا عند أبي بكر بن عياش يقرأ علينا كتاب مغيرة، فغمض عينيه، فحركه أحدنا وقال له: "تنام يا أبا بكر؟ ". فقال: "لا، ولكن مر ثقيل فغمضت عيني! "
وأنشد الخفاجي عن الزاهد بن عمران:
إلمام كلَّ ثقيل قد أضر بنا
نريد نَقْصَهُمُ والشر يزداد
ومن يخف علينا لا يُلمّ بنا
وللثقيل على الساعات ترداد
وروى عن محمد بن خلف بن الززبان عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "من أمن الثقيل فهو الثقيل".
وروى بسنده أيضا عن علي بن الحسن قال: كان أبو أسامة إذا أبصر ثقيلا قال: "قد تغميت السماء! "
وعن ابن سنان القطان قال: "كان وكيع إذا جلس إليه ثقيل، غمض عينيه، وقام عنه! ".
وعن عبد الله بن شبرمة، قال: سمعت الشعبي ينشد:
ومن الناس من يخفّ ومنهم
كرحى البزر ركبت فوق ظهري
وذكر عبيد الله بن عمر أن يحيى بن سعيد رحمه الله جاءه مرة رجل يستثقله، فقال لي: من بالباب؟ فقلت: فلان، فصك رأسه بأصابع يديه كلها، وقال: يا أبا سعيد، جبل، جبل! فلما انصرفت مررت بالرجل وهو جالس على الباب فلا أدرى أذن له أم لا.
وروى سلمة بن شبيب قال: سمعت أبا أسامة يقول: إيتوني بمستمل خفيف على اللسان، خفيف على الفؤاد، إياي والثقلاء، إياي والثقلاء!
كلمة بليغة
يحكى أن الفيلسوف الإغريقي (ديوجيتر) ارتفع فوق هضبة عالية وصاح: "يا أيها الناس. فلما سارعوا إليه واجتمعوا حوله، هز رأسه وقال: لما أنادكم..إنما أنادي الناس".
كتاب: يا أيها الإنسان
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
ذكرنا تخريج المقتطفات مع نسبتها إلى مصادرها المطبوعة والمحفوظة في مكانها من الكتاب الذي لا يزال محفوظا.
من تاريخ المذاهب الهدامة
كتاب أسرار الباطنية (2)
بقلم محمد بن مالك اليماني
وقد رأيت أيها الناس وفقنا الله وإياكم للصواب وجنبنا وإياكم طرق الكفر والارتياب أن أذكر أحبال هذه الدعوة الملعونة لئلا يميل إلى مذهبهم مائل ولا يصيبو إلى مقالتهم لبيب عاقل ويكون في هذا القدر من الكلام في هذا الكتاب إنذار لمن نظره، وأعذار لمن وقف عليه واعتبره.
باب: اعلموا يا إخواني في الإسلام أن لكل شيء من أسباب الخير والشر والنفع والضر والداء والدواء أصولا، وللأصول فروعا، وأصل هذه الدعوة الملعونة التي استهوى بها الشيطان أهل الكفر والشقوة ظهور (عبد الله [1] بن ميمون القداح) في الكوفة، وما كان له من الأخبار المعروفة والمنكرات المشهورة الموصوفة، ودخوله في طرق الفلسفة واستعماله الكتب المزخرفة، وتمشيته إياها على الطغام ومكيدته لأهل الإسلام.
وكان ظهوره في سنة ست وسبعين ومائتين من التاريخ للهجرة النبوية، فنصب للمسلمين الحبائل وبغى لهم الغوائل ولبس الحق بالباطل {وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} ، وجعل لكل آية من كتاب الله تفسيرا ولكل حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تأويلا، وزخرف الأقوال وضرب المثال، وجعل لآي القرآن شكلا يوازيه ومثلا يضاهيه. وكان الملعون عارفا بالنجوم معطلا لجميع العلوم {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} . فجعل أصل دعوته التي دعاها وأساس بِنْيَتِه التي بناها الدعاء إلى الله وإلى الرسول ويحتج بكتاب الله ومعرفة مثله وممثوله والاختصاص لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه بالتقديم والإمامة والطعن على جميع الصحابة بالسب والأذى، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لعن الله من سب أصحابي"[2] . وقال عليه السلام: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"[3] . وقال صلى الله عليه وسلم: "من سب أصحابي [4] فقد سبني ومن سبني فقد سب الله ومن سب الله كبه الله على وجهه في النار". فأفسد بتمويهه قلوب الجهال وزين لهم الكفر والضلال وله شرح يطول فيه الخطاب غير أني أختصر. وفيما أشرحه كفاية واعتبار لأولي الألباب والأبصار. وكان هذا الملعون يعتقد اليهودية ويظهر الإسلام، وهو من اليهود من ولد الشلعلع من مدينة بالشام يقال لها سلمية [5] ، وكان من أحبار اليهود وأهل والفلسفة الذين عرفوا جميع المذاهب وكان صائغا يخدم (شيعة) إسماعيل بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن زين العابدين بن الحسين بن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه. وكان حريصا على هدم الشريعة المحمدية لما ركب الله في اليهود من عداوة الإسلام وأهله والبغضاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يروجها يدخل به على الناس حتى يردهم عن الإسلام ألطف من دعوته إلى أهل بيت الرسول صلى الله عليه
وسلم وكان قد خرج في أيام قرمط [6] البقار - وكان اسمه أو لقبه لأنه كان يقرمط في سيره إذا مشى [7]- ولذلك نسب أهل مذهبه ومذهب بن ميمون إلى قرمط لأنهما اجتمعا وعملا ناموسا يدعوان إليه وكانا يعرفان النجوم وأحكام الزمان فدلهما الوقت على تأسيس ما عملاه فخرج ميمون إلى الكوفة وأقام بها مدة وله أخبار يطول شرحها مما كان منه ومن علي بن فضل والمنصور صاحب مسور وأبي سعيد الجنابي وأنا أشرح ذلك عند انتهائي إليه إن شاء الله تعالى وأما قرمط البقار فإنه خرج إلى بغداد وقتل هناك لا رحمه الله.
باب ذكر ما كان من القداح وعقبه لعنه الله وتعلق بسببه ودخل ضلالته ومذهبه:
وكان أول أولاده "عبيد"[8] وهو "المهدي"ثم "محمد"وهو "القائم"ثم "الطاهر"إسماعيل المنصور ثم "المعز"ثم "العزيز"ثم "الحاكم"ثم "الظاهر"ثم "معد المستنصر"[9] هؤلاء الذين ينسبون إليه إلى عصرنا هذا فانتسبوا إلى ولد الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وانتحالهم انتحال كاذب وليس لهم في ذلك برهان وأهل الشرف ينكرون ذلك فإنهم لم يجدوا لهم في الشرف أصلا مذكورا ولا عرفوا لهم في كتاب الشجرة نسبا مشهورا بل الكل يقصيهم عن الشرف وينفيهم عن النسب إلا من دخل معهم في كفرهم وضلالتهم فإنه يشهد لهم بالزور ويساعدهم في جميع الأمور وقد زعموا أنهم ولد محمد إسماعيل بن جعفر الصادق وحاش لله ما كان لمحمد إسماعيل من ولد ولا عرف ذلك من الناس أحد بل هم {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} .
الدليل على ذلك وعلى بطلان ما ذكروه أنهم يقولون معد المستنصر بن الظاهر ابن الحاكم بن العزيز بن المعز بن المنصور بن القائم بن المهدي وهو عبيد [10] بن ميمون ثم يقولون ابن الأئمة المستورين من ولد إسماعيل بن جعفر الصادق فإذا سألهم سائل عن هؤلاء المستورين حادوا عن الجواب [11] وكان للسائل لهم الارتياب. وقالوا هم أئمة قهروا فتستروا ولم يؤمروا بإظهارهم ولا ذكرهم لأحد وهذا من أعظم الشواهد على بطلان ما ذكروه وانتسبوا إليه.
والدليل على أنهم من أولاد اليهود استعمالهم اليهود في الوزارة والرياسة وتفويضهم إليهم تدبير السياسة ما زالوا يحكِّمون اليهود في دماء المسلمين وأموالهم وذلك مشهور عنهم يشهد بذلك كل أحد.
باب خروج ميمون القداح من سلمية إلى الكوفة:
وقد ولد له عبيد وهو الذي يسمونه عبيد الله المهدي فأقاما بالكوفة مدة طويلة حتى تهيأ لهما ما كانا يطلبان وإلى أن أجابهما إلى ذلك تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون منهم علي بن فضل الجدني اليماني، وأبو القاسم ابن زاذان الكوفي المسمى المنصور عند كونه باليمن في مسور وأبو سعيد الجنابي صاحب الأحساء والبحرين وأبو عبد الله الشيعي صاحب كتامة في المغرب والحسن [12] بن مهران المسمى بالمقنع الخارج فيما وراء النهر من خرسان ومحمد بن زكريا الخارج في الكوفة ولا بد أن أذكر أصح خبر كل منهم مختصرا إن شاء الله تعالى:
باب في ذكر أبي سعيد الجنابي لعنه الله:
كان فيلسوفا ملعونا ملك البحرين واليمامة والأحساء وادعى فيها أنه المهدي القائم بدين الله فاستفتح
…
[13] ودخل مكة وقتل الناس في المسجد الحرام ومنع الناس من الحج واقتلع الركن وراح به إلى الأحساء وقال في ذلك شعرا:
ولو كان هذا البيت لله ربنا
لصب علينا النار من فوقنا صبا
لأنا حججنا حجة جاهلية
مجللة لم نبق شرقا ولا غربا
وإنا تركنا بين زمزم والصفا
جنائز لا تبغي سوى ربها ربا
وله لعنه الله أشعار في ذلك تركتها اختصارا وكان دخوله مكة سنة سبع عشرة وثلاثمائة وقتل فيها ثلاث عشر ألفا عليه لعنة الله.
باب ذكر الحسن بن مهران المعروف بالمقنع:
خرج فيما وراء النهر وله أخبار شنيعة وكان حكيما فيلسوفا ملعونا ذكروا أنه عمل قمرا بالطلسم يطلع في السنة أربعين ليلة ولقد كنت أكذب ذلك حتى صححه لي جماعة من أهل خراسان وذكروا أنه بنى حصنا وعمل فيه لولبا فكان المسلمون إذا أتوا لقتاله قذفوا بالحجارة ولا يدرون من أين يقذفون فمال إليه خلق كثير حتى بعث الله عليهم بغلام حكيم فأمر المسلمين أن يحفروا حول الحصن فوقعوا على اللوالب فأخرجوها ودخلوا عليه فقتلوه وقيل إنه أحرق نفسه قبل دخولهم عليه فأمكن الله سبحانه وتعالى منه.
باب ذكر محمد بن زكريا لعنه الله:
أحسب أن اسمه زكرويه بن مهرويه القرمطي وكان قد خرج بالكوفة فخرج إليه المكتفي أمير المؤمنين من بني العباس فقتله لعنه الله ولا رحمه.
صدقة مقبولة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال رجل: لأتصدقن بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على سارق. فقال: الهم لك الحمد على سارق؟. لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية. فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على زانية. فقال: اللهم لك الحمد على زانية؟. لأتصدقن بصدقة. فخرج بصدقته فوضعها في يد غني. فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على غني. فقال: اللهم لك الحمد على سارق وزانية وغني؟؟. فأتي فقيل له: أمَّا صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته، وأمَّا الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأمَّا الغني فلعله أن يعتبر فينفق مما أعطاه الله".
متفق عليه..
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
المصنف يذكر ميمونا مرة وابنه أخرى كما هنا وقد جارينا على الأصل في ذلك، وفيما يسوقه من أنبائهما هنا بعض المخالفة لما ذكره عبد القهار في (الفرق) وابن النديم في (الفهرست) والمقريزي في (الخطط) وغيرهم فكل منهم دوَّن ما بلغه من الأنباء وفي تمحيص ذلك كله طول.
[2]
ولفظ الطبراني عن ابن عباس مرفوعا: "من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين". وفي سنن الترمذي: "إذا رأيتم الذين يسبون أصحابي فقالوا: لعنة الله على شركم". وفي الباب أحاديث يعضد بعضها بعضا.
[3]
أخرجه رزين وله طرق ضعيفة.
[4]
ولفظ أم سلمة عند أحمد: "من سب عليا فقد سبني".
[5]
سلمية: بليدة بالشام من أعمال حمص.
[6]
قرمط: وهو حمدان بن الأشعث وكان خروجه سنة 264 كما يذكره بن المهذب. وكان ظهور الجنابي بالبحرين سنة 286.
[7]
يعني يقارب بين خطواته. ومنهم من يقول إنه كان أحمر البشرة فلقب بقرمط و (كرمت) الآجر في اللغة الرومية فعرب وقيل قرمد ثم قرمط.
[8]
إليه تنسب دولتهم فيقال الدولة العبيدية بمصر ويتورع أهل التحري من تلقيب دولتهم بالفاطميين حيث لم يثبت نسبهم المزعوم كما حققه أهل التحري من ثقات المؤرخين.
[9]
والمستنصر هذا توفي سنة 487هـ فيكون المؤلف من أواسط القرن الخامس.
[10]
لم أر من جعل عبيد بن ميمون مباشرة والمشهور أنه سعيد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن ميمون، خرج سعيد هذا متنكرا إلى مصر ثم إلى المغرب فادعى هناك أنه علوي فاطمي بعد أن ادعى قبل ذلك أنه عقيلي وتسمى هناك أيضا عبيد الله وتلقب بالمهدي حتى تم له ما هو مشروح في التواريخ.
[11]
ومن المعروف عند المؤرخين أن المعز العبيدي لما قرب إلى مصر بعد فتحها بمعرفة قائده وخرج الناس تلقائه اجتمع به جماعة من الأشراف فقال له أحدهم: "إلى من ينتسب مولانا؟ ". فقال له المعز: "سنعقد مجلسا ونجمعكم ونسرد عليكم نسبنا". فلما استقر المعز بالقصر جمع الناس في مجلس عام وجلس لهم وقال لهم: "هل بقي من رؤسائكم أحد؟ ". فقالوا: "لم يبقى معتبر". فسل عند ذلك نصف سيفه وقال: "هذا نسبي". ونثر عليهم ذهبا كثيرا وقال: "هذا حسبي". فقالوا جميعا: "سمعنا وأطعنا". وفي المحضر الذي أصدره أهل العلم ببغداد سنة 402هـ "
…
أنهم أدعياء لا نسب لهم في ولد علي رضي الله عنه.."ومن جملة من وقَّع عليه الشريفان الرضي والمرتضى وأبو محمد الأكفاني القاضي أبو محمد الإسفرايني، وأبو حسين القدوري وغيرهم من كبار الأئمة. وهذا حكم شرعي يجب أن يخضع له ولو أعطي أحد هؤلاء الدنيا بحذافيرها لما حكم بما يخالف الحق والصدق عندهم كما لا يخفى على من درس سيرهم، والشعر المنسوب إلى الشريف الرضي غير متصور ثبوته عنه، ولم يكن القادر بالله بقادر على إكراههم على خلاف ما يرونه، وكلمة بن خلدون عن هوى خاص وكذا توهم المقريزي كما هو مبسوط في ((الإعلان بالتوبيخ)) للسخاوي.
[12]
وله عدة أسماء عطاء وحكيم.
[13]
هنا بالأصل نقص ولعل الناقص (ثم قتله خادم له صقلبي راوده في الحمام سنة 301هـ وتولى بعده ابنه الأكبر سعيد فغلبه أخوه الأصغر أبو طاهر سليمان بن الحسن بن بدان الجنابي حنى استفحل أمره.
ندوة الطلبة
من ظلمات الوثنية إلى ضياء الإسلام
بقلم الطالب: محمد ضياء الرحمن الأعظمي
حينما كنت طالبا في كلية شبلي بمدينة أعظم كده منذ تسع سنوات تقريبا وقعت يدي على بعض الكتب التي تتعلق بقواعد الإسلام، فأقبلت على دراستها بكل رغبة واجتهاد، وأول كتاب قرأته هو ((الدين الحق)) المترجم باللغة الهندية لفضيلة الشيخ أبي الأعلى المودودي حفظه الله. وبدأ هذا الكتاب بقول الله عز وجل:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} وكنت جاهلا بمعاني القرآن الكريم ومع ذلك فقد أثّرت ترجمة الآية في نفسي تأثيرا شديدا؛ لأني كنت أعتقد دين آبائي اعتقادا جازما أنه الحق والعداوة للإسلام كانت راسخة في قلوبنا نتيجة الاتهامات الكاذبة الشائعة لملوك المسلمين من قبل المؤرخين الهندكييين الذين كنا ندرس كتبهم في المدارس الحكومية، ويزعم هؤلاء المؤرخون إن المسلمين قد حكموا البلاد بالظلم والعدوان.
وهذا يتركز في أذهان الطلاب الهندكيين لأجل ذلك يجد الطالب نفسه مضطرا لمعاداة المسلمين وبغضهم.. وازدادت تلك العداوة حتى عمَّت البلوى وكنت ممن يكن البغضاء للمسلمين، فجعلت أبحث في الكتب الإسلامية عن الإسلام ليلا ونهارا لعلي أستطيع بذلك الطعن فيه، ولكن الأمر قد انعكس حينما أثَّرَت هذه الكتب في نفسي تأثيرا ألجأني إلى هجر الكتب الدراسية التي كنت أدرس في ذلك الوقت.
ومن المعلوم أن الدين الهندكي كان منذ آلاف السنين هو المصدر الوحيد للحضارة الهندية وأساس قوانينها، لذلك كنت في قلق واضطراب من ((ويدك وهرم)) وقد بقيت بضع سنين في هذه العصبة الجاهلية.
والمؤرخون الهندكيين يكنون للمسلمين عداوة شديدة في صدورهم ويكشفون عنها الحجب في كتبهم التاريخية. أحيانا يطعنون في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم الطاهرة بقولهم إنه كان راغبا في الحياة الدنيا ولذاتها وهذا الجهل المركب تركز في عقول الشباب الهندكيين.
ومهما يكن فإن عداوة الإسلام كانت من تراث آبائنا، فإذا نظرت إلى أحوال المسلمين لم أجد فيها ما يرغبني، فإنهم متخلفون من الوجهة الاقتصادية والوجهة الخلقية، لذلك كان معظم الناس يقولون أن الإنسان اليوم في أشد الحاجة إلى الهدى والرشاد ممن يهديه إليهما بعد أن ضل ضلالا بعيدا.
وبالجملة فإن جميع الأسباب لمعاداة المسلمين والإسلام كانت متوفرة لدى الطالب الهندكي، ولا يستطيع الطالب بمعلوماته القليلة الضيقة يبحث مباحث توصله إلى دين الحق، ويكشف عنه ظلمات اللبس وسحب الجهل إذ؛ ليس من المعقول أن تعتبر هذه المعلومات الضئيلة كافية لحل مسائل الحياة الإنسانية، فوجدت نفسي مضطرا للرجوع إلى (ويدك وهرم) ليطمئن قلبي بما أختار وأسير على الطرق القويم، لكن ما وجدت فيه إلا أساطير الأولين من عبادة النار والبحر والأشجار والأحجار وغيرها من الجمادات والبهائم التي لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا فكيف بغيرها.
وأحيانا يعلل خلق الكون بصورة شنيعة قبيحة فيها رائحة منتنة يفر منها الإنسان اللبيب وهاأنذا أسوق إليك أيها القارئ الكريم بعضها:
يقول الدكتور تاراجند الفيلسوف الهندكي في كتابه: (فكرة ويد) : إن الأضحية (أي ذبح الحيوان) آية لصلاح العالم، وهي وسيلة القوة للخالق إذا تعب من الخلق وذهبت قوته فالملائكة يستردون هذه القوة بالأضحية فينزل بها المطر وتطلع بها الشمس ويأتي بها الطوفان لأن هذه هي السبب الوحيد الذي تتم به إرادة الخالق (ص30) .
(وشو) : هو الإله الثالث في اعتقادهم، وهو خالق السماوات والأرض وما بينهما وهو على كل شيء حفيظ، له أعين في جميع الجهات كلها، وله وجه في جميع الجهات، له أيد وأرجل كثيرة وهو وحده لا شريك له. (ريتي ويد 10-81-2-4)
وهو ذات واحدة يسمى برم برش - أفضل الناس - له آلاف الرؤوس وآلاف الأعين وآلاف الأرجل وهو محيط بجميع العالم ومنفصل عنه وكل ما كان وما يكون فهو صادر منه وهو مالك الحياة الأبدية ولا يعاقب على أي عمل يعمله لأن أعماله كلها خير.
(فكرة ويدانت) : يقول المفكر الهندوكي وويكانند في كتابه HINDUISM))
خرج هذا العالم من العدم إلى الوجود بإرادة الخالق، المادة والروح والخالق كل منها أزلي وقديم لا يجري عليها زمان ولا يأتي عليها حدوث تدوم الحياة كما يدوم الخالق وكذلك تدوم الفطرة ولكنها تتغير بتغير الزمن. أما الخالق فهو موجود في كل زمان ومكان عالم بكل شيء ليس له صورة حسية ولن يستطيع أحد أن يصل إلى رفعته إذا ادعى أحد لنفسه أنه الله فقد كفر به. (ص64-61)
(فكرة منو السمرتي) : إن هذا الكتاب هو المأخذ الأساسي لقانون الهنادك ودونك الباب الأول الذي يبحث فيه عن الخلق:
إن هذه الدنيا كانت غامضة لا توجد لها علامة ولا وسيلة يتوسل إليها ثم ظهر - برميشور - (إله الآلهة) بمادة التكوين وأراد أن يخلق خلقا من ذاته فخلق الماء وألقى فيه النطفة وأصبحت هذه النطفة بيضة فإذا - ببرهما - الخالق يخرج منها وكسر البيضة نصفين فخلق من أحدهما الجنة ومن الثاني الأرض والسماء وما بينهما والجنات الثمانية والبحور الهادئة، ثم خرج من فمه (براهمن) ومن عضده (جهري) ومن فخذه (ويسن) ومن رجله (شودر) فما دام براهما مستيقظا فالدنيا باقية وإذا أخذه النوم تقوم القيامة - من باب الأول إلى الخامس ثم العاشر -.
(فكرة بران) يعد بران عند الهندكيين من الكتب المقدسة أسفاره أكثر من أن تحصى ولكن كله ينسب إلى ويدوياسي فاختلف أصحاب بران في خلق العالم وجاءوا بالقصص الماجنة البذيئة ودونك بعضعها:
يقول صحاب بران ((ديوي بهكوت)) الخالق لهذا العالم هو امرأة من شرى بور اسمها - شرى - وهي التي خلقت الآلهة الثلاثة المعروفين لديهم ((برهما)) (خالق الحياة)((وشنو)) (الرازق) و ((مهيش)) (قابض الأرواح) .
لما أرادت هذه المرأة أن تخلق العالم وضعت إحدى يديها على الأخرى فإذا ببرهما خرج منها وأمرته أن يتزوجها فأبى لأنه اعتقد أنه ولدها فغضبت المرأة غضبا شديدا فأحرقته ثم أعادت عملها فخرج منها ((وشنو)) فأمرته أن يتزوج بها فأبى فأحرقته أيضا ثم أعادت العمل فخرج ((مهيش)) فأمرته أن يتزوجها فامتنع إلا بشرط وهو أن تغير صورتها وتأتي بصورة غيرها ففعلت ما طلب منها ثم طلب ((مهيش)) أن تحي أخويه اللذين أحرقتهما، فأحيتهما ثم طلب أن تخلق امرأتين يتزوج كل واحد منهما بواحدة ففعلت وتزوج كل واحد منهم بواحدة فهؤلاء الآلهة الثلاثة هم الذين خلقوا العالم ويديرونه (ستيسارتق بركاش الباب 11) .
وفي هذه الكتب المقدسة عندهم أفعال ينسبونها إلى الخالق لا يرضى أحد من الناس أن ينسب إليه - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا - فكان مثلي بعد الدراسة ((ويدك وهرم)) كمثل رجل فر من المطر خوفا من البلل ووقف تحت الميزاب أو كما قال الشاعر العربي:
المستجير بعمرو عند كربته
كالمستجير من الرمضاء بالنار
وبعد ذلك انشرح صدري للخروج من دين آبائي وطرح العقيدة الجاهلية والدخول في الإسلام وسجدت شكرا لله القائل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلام} .
الأمور التي حملتني على الدخول في الإسلام:
1-
أن الإسلام ليس دينا موروثا عن الآباء بل هو لكل من يفتح له صدره.
2-
ليس في الإسلام فوارق جنسية ولا عصبيات جاهلية فقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} . (الحجرات)
3-
أن الأخوة الإسلامية في الإسلام مقدم على جميع علاقات النسب والوطن كما بين الله تعالى في قوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} . (سورة التوبة)
4-
أن الحديث العهد بالإسلام يصبح كواحد من عشيرة المسلم المولود في الإسلام قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة} وإن العالم الإسلامي يعبر له وطنا حقيقيا مصدقا لقوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} (العنكبوت)
5-
أن الإسلام قانون لجميع شؤون الحياة الإنسانية وهو يقدم أحسن حل في المشاكل الفردية والاجتماعية وقد أخطأ الذين يحصرون الإسلام في المساجد والخانقاهات والأربطة.
هذه الأمور المهمة الثابتة التي أدركت حقيقتها قبل تسع سنوات في الأيام الجاهلية وكنت على دين آبائي فاهتديت بحمد الله لتركه واتجهت إلى الإسلام بكل وجودي وهو حق لا يرتاب فيه عاقل فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام.
ولما دخلت في الإسلام أصابني مصائب شتى {سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} وصدق الله: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} .
المرحلة الأولى: أن والدي حرمني من التعليم العالي وأخرجني من ((مدينة أعظم كره)) وبعثني إلى ((كلكتا)) حيث صرت غريبا لا أجد فيها أحدا من المسلمين أعرفه ويعرفني ولكن الله يسر لي في غربتي من أرشدني وأعارني ما كنت في حاجة إليه من الكتب ولولا ذلك لكان إسلامي في خطر عظيم، والحقيقة أن هذه المرحلة كانت على أشد ما يتصور وبعد الوصول إلى كلكتا مباشرة بحثت عن مركز الجماعة الإسلامية فوجدته وحصلت على بعض الكتب الهندية المترجمة وبدأت أطالعها لأستعد للمرحلة الآتية. وقد اطمأنت نفسي بمصاحبة الشيخ عبد التواب حفظه الله في هذه المرحلة فأحمد الله الذي يسر لي الأمور إلى هذا الحد وأيضا أشكر المخلصين الذين ساعدوني كل المساعدة في اللحظات الخطيرة والله لا يضيع أجر المحسنين.
المرحلة الثانية: هذه المرحلة كانت مرحلة البحث والمناظرة مع النساك الهندكيين مع صغر سني وقلة علمي وبعدي عن المسلمين وكلما فكرة في البحث والمناظرة التي جرت بيني وبين النساك الهندكيين تعجبت كيف انتصرت عليهم وقد كانت القوى الكافرة متألبة على إسلامي على اختلاف مسالكها ومذاهبها.
لا أذكر من أسألتهم إلا سؤالا واحد وهو قولهم: "لم تختارون الإسلام مع أن المسلمين في شدة وضيق وتفرق وفقر وبعد عن الأخلاق الفاضلة والسيرة الحسنة؟ "فأجبتهم قائلا: "ما اخترت الإسلام إلا بعد مطالعة قواعد الإسلام لا بدراسة أحوال المسلمين اليوم وإن كنتم في ريب منه فأعرضوا علي ما أشكل عليكم من أصل الإسلام وعقيدته". ولكن جهودهم ذهبت أدراج الرياح فبهتوا وسكتوا وانقلبوا خائبين يلومون أنفسهم كما هي عادة المعاندين عند المحاولة فصدق عليهم قول الله عز وجل: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} . فما كنت أرجع إلى بيتي إلا وقلبي مطمئن بالإيمان واستمر هذا البحث والنقد خمسة عشر يوما متوالية.
المرحلة الثالثة: ثم جاءت مرحلة الأذى والتعذيب التي كنت أنتظرها بفارغ الصبر فمن أذاهم حبسهم الماء والطعام عني وانقضوا علي ضربا بالعصا والنعال فاستمروا بجهودهم شهرين متتابعين وبعد ما يئسوا من رجوعي إلى دينهم تآمروا على قتلي ولولا أن الله أنجاني منهم بلطفه الخفي لقتلوني شر قتلة، فيسر الله لي طريق الهجرة وهاجرت إلى مكان هادئ تاركا والدي والرفقاء والأصدقاء والكثير من العشيرة الأقربين لأحافظ على ديني وإيماني كل المحافظة بفرح وسرور، كما هاجر أبونا إبراهيم عليه السلام قائلا:{وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
المرحلة الرابعة: فلما خرجت من وطني مهاجرا إلى ربي ووصلت إلى بعد 400 كيلومتر غربا إلى بلدة بدايون أردت أن أقرأ القرآن وأتعلم اللغة الأردية فعينت مدرسا للغة الهندية والإنجليزية والتاريخ والرياضيات في مدرسة إسلامية صغيرة، وفي أوقات الفراغ كنت أتعلم القرآن. ولكن الهندكيين علموا بذلك سنتين ولم يرضوا بهذا فجاءت المؤامرات الأخرى. ووجدت نفسي مضطرا إلى الخروج من هذه الناحية إلى ناحية أخرى بعيدة عنها وهي مدارس في جنوب الهند وتبعد عنها بدالون ألفي ميل.
ولما وصلت إلى مدارس التحقت بمدرسة دينية معروفة تسمى ((بجامعة دار السلام)) وهي محاطة بالجبال والأشجار ذات بهجة ومنظر ممتع يسر الناظرين، ثم أصبحت طالبا رسميا في تلك المدرسة وهذه المدرسة تهتم بالتعليم والتربية متمسكة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فبذلك حفظني الله من التعصب للمذاهب واتباع الأهواء والفرق المبتدعة والطرائق الخرافية.
فطفقت أتعلم اللغة العربية وآدابها وعلومها والعلوم الدينية من تفسير وحديث وفقه، وتعلمت شيئا من المنطق والفلسفة. واستمرت دراستي ست سنين، ثم بعد التخرج في المدرسة قدّمت طلبا للالتحاق بالجامعة الإسلامية إلى صاحب الفضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة كي أنهل العلوم الشرعية من مناهلها الصافية فقبل الشيخ طلبي فسافرت من بلاد الهند إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم سائلا الله تعالى أن يجعلني من الحنفاء المخلصين له الدين ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين.
الحرية
حين تكون الحاكمية العليا في مجتمع لله وحده متمثلة في سيادة الشريعة الإلهية تكون هذه هي الصورة الوحيدة التي يتحرر فيها البشر تحررا كاملا وحقيقيا من العبودية للبشر.
ولا حرية في الحقيقة ولا كرامة للإنسان في مجتمع بعضه أرباب يشرعون وبعضه عبيد.
المعالم / سيد قطب
نعمة الأمن
بقلم الشيخ عبد القادر شيبة الحمد المدرس بكلية الشريعة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين..أما بعد:
فقد روى الترمذي وقال حسن غريب: من طريق سلمة بن عبيد الله بن محصن الخطمي عن أبيه وكانت له صحبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا".
إن من أعظم نعم الله على عباده أن يصبح الإنسان آمنا على نفسه مطمئنا على عرضه، لا يخاف ظلم ظالم ولا جور جائر، وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن من اجتمع له الأمن في وطنه والصحة في بدنه مع وجود قوت يومه فقد جمعت له الدنيا ولم يفته منها شيء حيث يقول فيما جاء من الأثر:"من أصبح منكم في آمنا في سربه، معفى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا"أي اجتمعت لديه أسباب النعيم العاجل، ولم يفته من مسرات الحياة شيء. والأمن في البلاد مع الصحة في الأبدان نعمة يجب أن تشكر فإن من فاتته هذه النعمة لم يسعد من الحياة من شيء ولذلك جاء في الحكم:"نعمتان مجحودتان الأمن في الأوطان والصحة في الأبدان".
وقد امتن الله تبارك وتعالى على أهل مكة في مواضع كثيرة في كتابه بنعمة الأمن ليلفت الناس إلى شكرها وينبههم إلى خطرها، وجعل ذلك آية من آياته وبرهانا من براهين عظمته وقدرته وألوهيته وربوبيته حيث يقول:{لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} وكما قال عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُون} . وكما قال عز وجل: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} . وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى أسباب الأمن، وأن أساسها الإيمان بالله وعدم الظلم ولذلك قال في قصة إبراهيم عليه السلام حينما هدده قومه بأن أصنامهم ستسلبه الأمن:{وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ثم بيَّن أصول الأمن وأعظم أسبابه فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} فإن العبد إذا آمن بالله عز وجل والتجأ إليه وامتنع عن المظالم كان حريا بوقاية الله من شرور أعدائه على حد قول الشاعر:
وقاية الله أغنت عن مضاعفة
من الدروع وعن عال من الأطم
وكما قال الشاعر:
وإذا العناية لاحظتك عيونها
نم فالمخاوف كلهن آمان
وقد وعد الله تبارك وتعالى أهل الأديان والعمل الصالح أن يمكن لهم في الأرض وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمنا وفي ذلك يقول عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . كما وعد الله تبارك وتعالى كل من عمل صالحا من ذكر أو أنثى بالحياة الطيبة والتي يكون الأمن من أبرز مظاهرها حيث يقول: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
وقد نبه إبراهيم عليه السلام إلى خطر نعمة الأمن في البلاد فدعا الله تبارك وتعالى أن يجعل دار ولده إسماعيل آمنة حيث يقول عز وجل في دعوته: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر} وكما قال عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} .
وقد استجاب الله تبارك وتعالى دعاء إبراهيم عليه السلام فجعل دار إسماعيل عليه السلام حرما آمنا وجعل البيت الحرام مثابة للناس وأمنا وفي ذلك يقول: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} ، ووصفت مكة بأنها البلد الأمين حيث يقول:{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} ، ما أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن تطبيق شريعة الإسلام، والعمل بأحكامه وتحليل حلاله وتحريم حرامه مما يورث البلاد أمنا، ويهبها استقرارا، فقد صح الخبر أن عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه لما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وكانت أخت عدي قد أوصته أن يلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت له:"أرى أن تلحق بمحمد فإن يكن نبيا فالسابق إليه فضل وإن يكن ملكا فأنت أنت". فلما قدم عدي رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عدي ما يمنعك من الدخول في الإسلام؟ "ثم قال له: "والله ليتمن هذا الأمر حتى تسير الظعينة من صنعاء إلى الحيرة فلا تخاف من نفسها إلا الذئب"، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولقد بين الله تبارك وتعالى في محكم كتابه الأسباب السالبة للأمن الجالبة للخوف، فجعل منها محاربة دين الله وفي ذلك يقول:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .
كما تهدد تبارك وتعالى من كفر بنعمة الله أن يبدله من بعد أمنه خوفا وأن يلبسه لباس الجوع وفي ذلك يقول: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} .
ولقد أشار نبي الله صالح صلى الله عليه وسلم إلى عظيم نعمة الأمن وطلب من قومه أن يشكروا الله عز وجل عليها، وأنذرهم بأنها ستسلب منهم إن لم يعترفوا لله عز وجل بها وفي ذلك يقول الله عز وجل حاكيا مقالة نبي الله صالح صلى الله عليه وسلم لقومه:{أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ، فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ، وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ، الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ، قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ، مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ، وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ، فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ، فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} . ولقد ضرب الله تبارك وتعالى مثلا كذلك بلاد سبأ إذ كانوا يعيشون آمنين في بلاد لهم فيها آية جنتان عن يمين وشمال، فلما أعرضوا عن دين الله مزقهم كل ممزق وجعلهم أحاديث وفي ذلك يقول عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ، فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ. ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَاّ الْكَفُورَ. وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا
قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ، فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} .
عبد القادر شيبة الحمد
إني تذكرت والذكرى مؤرقة
مجدا تليدا بأيدينا أضعناه
أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد
تجده كالطير مقصوصا جناحاه
محمود غنيم
التراويح أكثر من ألف عام
الحلقة الأولى
بقلم الشيخ عطية محمد سالم القاضي بالمحكمة الكبرى بالمدينة
بحث تاريخي يحمل روح الفقهاء يقدمه فضيلة الكاتب للقراء. والموضوع في الحقيقة حساس يتقبل كثيرا من المناقشة ولا يزال يحتاج إلى كثيرا من البحث والتنقيب ولذلك فإن فضيلة المؤلف ببحثه هذا الجديد يثير الفرصة مرة أخرى لإيفاء (التراويح) حقها والهدف الأول والأخير هو الحق ولذلك فإنه ينتظر بفارغ الصبر آراء القراء وملاحظاتهم وفوائدهم حول الموضوع الذي سيستمر في حلقات متتابعة إن شاء الله.
(المجلة)
أولا: العهد النبوي:
لا شك أن ميدان التشريع وأصله إنما هو ما يكون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن العصر النبوي هو عصر التشريع لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، ولقوله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} إلى غير ذلك من النصوص ويلحق بذلك عصر الخلفاء الراشدين لقوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي".
والتراويح وإن اختصت برمضان فإنها داخلة في عموم قيام الليل، وقد جاءت النصوص في عموم قيام الليل، وفي خصوص تراويح رمضان.
فمن عموم التهجد بالليل قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَك} ، {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَاّ قَلِيلاً} .
أما خصوص قيام رمضان فالواقع أنها وإن كانت أخص من قيام الليل من حيث الزمن، فهي أعم منه من جهة الطلب.
التدرج في مشروعية التراويح:
وبالتأمل في نصوص التراويح يظهر أنها أخذت سبيل التدرج والتطور التصاعدي وذلك كالآتي:
أ - الترغيب المطلق: كما في حديث أبي هريرة عند مسلم وساقه البيهقي ج2ص492 ما نصه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه". قال البيهقي: "رواه مسلم في الصحيح عن يحي بن يحي، ورواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك". ومثله عن أبي هريرة عند البيهقي، وقال:"رواه البخاري عن يحي بن بكير". فهذا ترغيب من غير تحديد بعدد ولا إلزام بفعل ولهذا قال أبو هريرة في سنن البيهقي: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرغبهم في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيها بعزيمة فيقول: "من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه".
ب- ثم جاء التنصيص على أن قيامه سنة مفروضة بفرضية صيامه كما في حديث عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه ذكر شهر رمضان فقال: "إن رمضان شهر افترض الله صيامه وإني سننت للمسلمين قيامه فمن صامه وقامه إيمانا واحتسابا خرج من الذنوب كيوم ولدته أمه". ففي هذا النص تدرج من مطلق الطلب إلى أنه سنة وزاد في قوتها اقتران سنية قيامه بفرضية صيامه كما تفيده دلالة الاقتران المعروفة في الأصول.
نتيجة هذا الترغيب:
كانت نتيجة هذا الترغيب أن بادر الناس إلى قيامه أفرادا وجماعات يأتمون بمن معهم شيء من القرآن لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كان الناس يصلون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان بالليل أوزاعا يكون مع الرجل شيء من القرآن فيكون معه النفر الخمسة أو الستة أو أقل من ذلك أو أكثر يصلون بصلاته"، قالت: فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من ذاك أن أنصب له حصيرا على باب حجرتي ففعلت فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن صلى العشاء الآخرة فاجتمع إليه من في المسجد فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا طويلا، ثم انصرف فدخل وتركت الحصير على حاله، فلما أصبح النهار تحدثوا بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن كان بالمسجد تلك الليلة، فأمسى المسجد زاخا بالناس فصلى بهم صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء الآخرة ثم دخل بيته، وثبت الناس فقال لي:"ما شأن الناس"فقلت له: "سمع الناس بصلاتك البارحة بمن كان في المسجد فحشدوا لذلك لتصلي بهم". قال: "اطو عنا حصيرك يا عائشة". ففعلت، فبات رسول الله صلى الله عليه وسلم غير غافل وثبت الناس مكانهم حتى خرج إليهم إلى الصبح فقال:"أيها الناس أما والله ما بت والحمد لله ليلتي غافلا ما خفي عليَّ مكانكم ولكني تخوفت أن يفرض عليكم اكفلوا من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا". رواه المروزي بهذا اللفظ ورواه البيهقي وذكر الليالي ثلاثا أو أربعا. وفي مجمع الزوائد عن جابر قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ثمان ركعات وأوتر فلما كان القابلة اجتمعنا في المسجد ورجونا أن يخرج إلينا فلم نزل فيه حتى أصبحنا ثم دخلنا.." الحديث. وأصل الحديث في البخاري ومسلم. وفيه وفي السنن للبيهقي أن رسول الله عليه الصلاة والسلام صلى في رمضان عشرين ركعة ولكنه ضعيف بأبي شيبة.
ففي هذا الحديث على رواية المروزي قيام الناس مع من معه شيء من القرآن فهو تدرج من الترغيب إلى الاستناد المقرون بفرضية الصيام، إلى القيام بالفعل في المسجد مع من معه شيء من القرآن ثم خطوة أخرى وهي القيام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاته وإن كان لم يشعر بهم على الصحيح كما في سؤاله عائشة:"ما شأن الناس" وقوله: "اطو عنا حصيرك".
وأصرح من هذا حديث أنس عند المروزي: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في رمضان فجئت فقمت إلى جنبه ثم جاء آخر ثم جاء آخر حتى كنا رهطا، فلما أحس رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا خلفه تجوز في صلاته، ثم دخل منزله، فلما دخل منزله صلى صلاة لم يصلها عندنا فلما أصبحنا قلنا يا رسول الله: أو فطنت لنا البارحة"، فقال:"نعم، وذلك الذي حملني على ما صنعت". ففي هذا الحديث ما يفيد أنه صلى الله عليه وسلم لم يشعر بهم في أول صلاته لقول أنس: "فلما أحس رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا خلفه"، كما أن فيه ما يشعر أنه صلى الله عليه وسلم بدأ صلاته تلك في المسجد بدليل قوله:"تجوز في الصلاة ثم دخل منزله". وكما يشعر بأنه صلى الله عليه وسلم علم بصلاتهم خلفه ولم ينكر عليهم، وأصرح من ذلك دلالة على صلاته صلى الله عليه وسلم في المسجد حديث عائشة عند البيهقي عن عروة بن الزبير رضي الله عنه عن عائشة رضي الله عنها أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة من جوف الليل يصلي في المسجد فصلى رجال يصلون بصلاته، فأصبح الناس يتحدثون بذلك. وساقت قصة صلاته اليالي إلى الليلة الرابعة. قالت:"عجز المسجد عن أهله فلم يخرج إليهم". ففيه دلالة صريحة أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصلاة في المسجد، وفيه دلالة على امتلاء المسجد بالمصلين.
وهده خطوة أخرى وهي امتلاء المسجد بعد أن كانوا أوزاعا فقد عجز المسجد عن أهله ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يخرج إليهم خشية أن تفرض عليهم.
إذن فقد كان من الممكن أن يخرج إليهم لولا تلك العلة التي هي خشية أن تفرض عليهم. وكأن الصلاة بهم والاجتماع إليها أمر جائز لولا الشفقة عليهم وخشية تكليفهم بها ثم يعجزون ولقد أقر صلاة غيره بجماعة من الناس سواء في البيوت أو في المسجد.
أما في البيوت فلحديث أبي بن كعب عند المروزي قال عن جابر رضي الله عنه جاء أبي بن كعب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فقال: "يا رسول الله كان معي الليلة شيء". قال: "وما ذاك؟ "قال: "نسوة داري قلن إنا لا نقرأ القرآن فنصلي خلفك بصلاتك فصليت بهن ثمان ركعات فسكت عنه، وكان شبه الرضاء".
وأما في المسجد فحديث أبي هريرة عند المروزي أيضا قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا أناس في رمضان يصلون في ناحية المسجد"فقال: "ما هؤلاء؟ "قيل: "هؤلاء أناس ليس معهم قرآن، وأبي بن كعب يصلي بهم فهم يصلون بصلاته". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أصابوا"أو "نعم ما صنعوا".
ثم كانت المرحلة قبل الأخيرة وهي ما جاء في حديث أنس. وحديث أنس عند المروزي "كان النبي صلى الله عليه يجمع أهله ليلة إحدى وعشرين، ويصلي بهم إلى ثلث الليل، ثم يجمعهم ليلة اثنين وعشرين فيصلي بهم إلى نصف الليل، ثم يجمعهم ليلة الثالث والعشرين فيصلي بهم إلى ثلثي الليل. ثم يأمرهم ليلة الرابع والعشرين أن يغتسلوا ويصلي بهم حتى يصبح ثم لا يجمعهم". فهذا الحديث نص في أنه صلى الله عليه وسلم قام بأهل بيته ثلاث ليال مددا متفاوتة. ويتدرج الأولى إلى الثلث الليل والثانية إلى نصفه والثالثة إلى ثلثيه.
وليس ببعيد أن يوحي هذا العمل بين الرغبة في الخير وبين الخوف من أن تفرض، لما يفهم من أنه كان في العشر الأواخر وهي محل الرغبة أكثر وكذلك التدرج في إطالة المدة استجابة لتلك الرغبة. كما يفهم من عدم المواصلة إلى آخر الشهر خشية أن يفرض.
ثم جاءت المرحلة الأخيرة في التدرج من حديث أبي ذر قال في المنتقى: "رواه الخمسة وصححه الترمذي"ورواه أيضا البيهقي ونصه في السنن: "صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان فلم يقم بنا من الشهر شيئا حتى كانت ليلة ثلاث وعشرين قام بنا حتى ذهب نحو ثلث الليل ثم لم يقم بنا من الليلة الرابعة وقام بنا من الليلة الخامسة حتى ذهب نحو من نصف الليل، فقلنا: "يا رسول الله لو نفلتنا بقية الليل". فقال: "إن الإنسان إذا قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له بقية ليلته"، ثم لم يقم بنا ليلة السادسة وقام السابعة وبعث إلى أهله، واجتمع الناس حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح".
قال البيهقي: "ورواه مهيب عن داود قال: "ليلة الرابع وعشرين والسابع مما يبقي، وقال ليلة ست وعشرين الخامس مما يبقي وليلة ثمان وعشرين الثالث مما يبقى".
ففي هذا الحديث وصول بصلاة التراوح إلى حد التجمع والتقرير عليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل قولهم له: "لو نفلتتا بقية الليلة". وفي هذا دلائل على أمرين:
أ- الأول: أنه صلى الله عليه وسلم علم بهم وأقرهم على تجمعهم في المسجد كما أنه في السابعة وعشرين بعث إلى أهله ويشهد لهذا الجزء ما في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم إذا كان العشر الأواخر شد المئزر وطوى فراشه وأيقظ أهله.
ب- الأمر الثاني: أنه وإن لم يحدد صلى الله عليه وسلم عددا من الركعات إلا أنه أقرهم على طلبهم الزيادة عما كان وإلى بقية ليلتهم. فلم ينكر عليهم طلب الزيادة ولكنه أرشدهم إلى ما يعوض عنها وهو قيامهم مع الإمام حتى ينصرف. وهذا مثل قصة (زينب) لما مر عليها صلى الله عليه وسلم وهي تسبح على حصى أو نوى حتى رجع فوجدها على تلك الحالة فقال لها: "لقد قلت كلمات تعدل كل ما قلت سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه". فلم ينكر عملها وأرشدها إلى ما هو خير منه وهكذا هنا لم ينكر طلبهم الزيادة وأرشدهم إلى ما هو خير منه بل إلى ما يساويه فحسب.
وعليه فهنا صلاة في جماعة بإمام ومأمومين في المسجد وهذا غاية الإثبات لصلاة التراوح في المسجد جماعة وبإمامته صلى الله عليه وسلم.
ثم جاءت الليلة السابعة والعشرون فكانت عامة شاملة شملت أهله صلى الله عليه وسلم مع عامة الناس.
عدد الركعات في ذلك العصر:
1-
جاء عن جابر أربع ركعات
2-
جاء في بعض النصوص أنه صلى الله عليه وسلم صلى ثمان ركعات.
3-
وجاء في نص ضعيف عشرين ركعة.
4-
وجاء الإطلاق بدون تحديد مع التقرير على طلب الزيادة إلى بقية ليلتهم.
5-
وجاء التدرج من ثلث الليل ثم نصف الليل ثم ثلثي الليل. وهل كان ذلك بزيادة في عدد الركعات أم بإطالة في القراءة مع عدم الزيادة في عدد الركعات طيلة الليالي الثلاث وإلى أي حد كانت إطالة القراءة والقيام.
كيفية صلاتها: جاء عن حذيفة رضي الله عنه أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في رمضان فركع فقال في ركوعه: "سبحان ربي العظيم مثل ما كان قائما، ثم سجد فقال في سجوده: سبحان ربي الأعلى مثل ما كان قائما، ثم جلس يقول: ربي اغفر لي، ربي اغفر لي مثل ما كان قائما، ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى مثل ما كان قائما، فما صلى إلا أربع ركعات حتى جاء بلال إلى الغداة". فهذا نص في بيان تطويل الصلاة في أربع ركعات في رمضان خاصة.
أما عموم قيام الليل: فقد عقد البخاري بابا بعنوان: كيف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وكم كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل وساق حديث عبد الله بن عمر أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم "يا رسول الله كيف صلاة الليل؟ "قال: "مثنى مثنى فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة". (البقية على صفحة 78) .
مقابلة شخصية:
قال الربيع بن زياد الحارثي: "كنت عاملا لأبي موسى الأشعري على البحرين فكتب إليه عمر بن الخطاب يأمره بالقدوم عليه هو وعامله، فلما قدمنا المدينة أتيت (يرفأ) فقلت: يا يرفأ ابن سبيل مسترشد أخبرني أي الهيئات أحب إلى أمير المؤمنين أن يرى فيها عماله؟ فأومأ إلى الخشونة. فأخذت خفين مطرقين ولبست جبة صوف ولثت رأسي بعمامة دكناء. ثم دخلنا على عمر فصفنا بين يديه وصعد فينا نظره وصوب فلم تأخذ عينه أحد غيري فدعاني فقال: من أنت؟ قلت: الربيع بن زياد الحارثي. قال: وما تتولى من أعمالنا؟ قلت: البحرين. قال: فكم ترزق؟ قلت: خمسة دراهم كل يوم. قال: كثير فما تصنع بها؟ قلت: أتقوت منها شيئا وأعود بباقيها على أقارب لي فما فضل منها على فقراء المسلمين. فقال: لا بأس ارجع موضعك. فرجعت إلى موضعي من الصف. ثم صعد فينا وصوب فلم تقع عيناه إلا علي فدعاني فقال: كم سنوك؟ فقلت: ثلاث أربعون سنة. قال: الآن حين استحكمت. ثم دعا بالطعام وأصحابي حديثو عهد بلين العيش وقد تجوعت له فأتى بخبز يابس وأكسار بعير، فجعل أصحابي يعافون ذلك وجعلت آكل فأجيد الأكل فنظرت فإذا به يلحظني من بينهم. ثم سبقت مني كلمة تمنيت أني سخت في الأرض ولم ألفظ بها فقلت: يا أمير المؤمنين إن الناس يحتاجون إلى صلاحك فلو عمدت إلى طعام ألين من هذا؟. فزجرني وقال: كيف قلت؟ قلت: أقول لو نظرت يا أمير المؤمنين إلى قوتك من الطحين فيخبز لك قبل إرادتك له بيوم ويطبخ لك اللحم كذلك فتؤتى بالخبز لينا وباللحم غريضا. فسكن من غضبه وقال: هذا قصدت؟ قلت: نعم. قال: يا ربيع إنا لو نشاء لملأنا هذه الرحاب من صلائق ورقائق وصناب ولكني رأيت الله تعالى نعى على قوم شهواتهم فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا..} ثم أمر أبا موسى أن يقرني وأن يستبدل أصحابي.
العقد الفريد - ج1
(تتمة التراويح)
فهذا نص لا حد فيه وأنه يصلي مثنى مثنى إلى أن يخشى الصبح.
وساقه البخاري أيضا عن ابن عباس رضي الله عنه كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشر ركعة يعني بالليل.
وحديث مسروق عن عائشة أنه سألها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل فقالت: "سبع وتسع وإحدى عشرة سوى ركعتين الفجر".
ثم بوب البخاري أيضا باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالليل في رمضان وغيره.
وساق بسنده إلى عائشة رضي الله عنها: "ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشر ركعة يصلي أربعا فلا تسل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعا فلا تسل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثا"، قالت عائشة: فقلت: "يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ "فقال: "يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي".
ولئن كانت عائشة وصفت صلاته صلى الله عليه وسلم بالطول والحسن وحددتها بإحدى عشرة ركعة فقد جاء حديث حذيفة عند مسلم "أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فقرأ البقرة وآل عمران والنساء في ركعة، وكان إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبّح، أو سؤال سأل، أو تعوذ تعوذ، ثم ركع نحوا مما قام ثم قام نحوا مما ركع ثم سجد نحوا مما قام". قال ابن حجر بعد أن أورد هذا الحديث: "وهذا إنما يتأتى في نحو ساعتين، فلعله أحيا تلك الليلة كلها".
فهذا مما يدل على طول القيام إلى حد أن تستغرق الركعة الواحدة ساعتين.
وقد جاء عند البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فلم يزل قائما حنى هممت بأمر سوء"قلنا: "وما هممت؟ "قال: "هممت أن أقعد وأذر النبي صلى الله عليه وسلم". فتحصل لنا من هذا كله أن صلاة التراويح كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأنها مشروعة عنه صلى الله عليه وسلم ابتداء وأنها أخذت تتطور على عدة مراحل فكانت كالآتي:
تطورها في العصر النبوي:
1-
أولا: بدأت بالترغيب فيها دون أن يعزم عليهم.
2-
ثانيا: انتقلت إلى السنة والندب مقرونة بفرضية الصيام.
3-
ثالثا: أديت بالفعل أداها أوزاع من الناس.
4-
رابعا: تسلل الناس إلى مصلاه صلى الله عليه وسلم فأتموا به صلى الله عليه وسلم وهو لا يشعر بهم وهو لا يقر على باطل.
5-
خامسا: تقريره صلوات الله وسلامه عليه لمن يصلى بالناس سواء في المسجد أو في البيت.
6-
سادسا: صلاته هو صلى الله عليه وسلم بالفعل بأهل بيته.
7-
سابعا: صلاته هو صلى الله عليه وسلم بالفعل بأهل بيته وبالناس عدة ليال متفرقة.
أما العدد أي عدد الركعات:
أ- فقد صلى أربع ركعات استغرقت الليل كله.
ب- وصلى ثمان ركعات.
جـ- وصلى إحدى عشر ركعة لا تسل عن حسنهن وطولهن.
د- وصلى ثلاث عشرة ركعة.
وهذا ما يقتصر عليه بعض المتأخرين ولكن:
1-
جاء الإطلاق بدون حد من قام رمضان إيمانا واحتسابا.
2-
جاء تقريره على طلب الزيادة لو نفلتنا بقية ليلتنا؟
3-
وهناك مبحث لم يتطرق إليه أحد فيما أعلم وهو:
أن عائشة رضي الله عتها قالت: "ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء قط ودخل بيتي إلا وصلى أربعا أو ستا". وجاء عنها أنه كان يفتتح صلاة الليل بركعتين خفيفتين.
فلو جمعنا حديث ابن عباس (13) ركعة مع حديث عائشة (6) ركعات بعد العشاء مع (2) ركعتين يفتتح بهما صلاة الليل لكان مجموع ذلك كله (13 + 6 = 19 +2= 21) إحدى وعشرون ركعة. وهو العدد الذي جمع عمر رضي الله عنه الناس عليه مع أُبَي ابن كعب ويكون هذا العدد مستندا إلى سنة لا مجرد اختيار عمر رضي الله عته والله أعلم.
وبعد هذا فلا يحق لأحد أن يمنع الزيادة على ثمان ركعات وقوفا عند حديث مسروق عن عائشة رضي الله عنها أو يعيب فعل عمر متهما إياه بمخالفة السنة حاشاه رضي الله عنه.
عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه:
كان عهد الصديق رضي الله عنه غير طويل، وكان الناس حدثاء عهد بعهد النبوة فلم تتكون عوامل تغيير تذكر بالنسبة للتراويح. ولهذا لم يذكر أحد أن التراويح في عهد الصديق رضي الله عنه طرأ عليها جديد مستدلين بحديث أبي هريرة رضي الله عنه:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُرَغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة فيقول: "من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه"، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك وكان الأمر على ذلك". قال البيهقي: "زاد أحمد بن منصور الرمادي في روايته في خلافة أبي بكر وصدر من خلافة عمر رواه مسلم في الصحيح. ورواه مالك بسنده إلى ابن شهاب وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك في صدر خلافة أبي بكر وصدر من خلافة عمر رضي الله عنهما".
ولكن حديث عائشة عند البيهقي قالت: "كنا نأخذ الصبيان من الكُتَّاب ليقوموا بنا في شهر رمضان فنعمل لهم (القلية) و (الخشكنانج) "وعند المروزي: "فنعمل لهم (القلية) و (الخشكار) وهو خبز سمراء".
فهو نص على إقامة التراويح بإمامة الصبيان. وقطعا لم يكن ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فهل كان في عهد الصديق فيكون تطويرا جديدا أم في عهد عمر؟ والذي يظهر أنه كان في عهد الصديق رضي الله عنه لأنه كان في عهد عمر كما سيأتي ترتيب أئمة للرجال وإمام للنساء وعلى كل ففيه تطوير جديد، فإن كان في عهد الصديق فهو جديد عما كان من قبل وهو الراجح وإن كان في عهد عمر فيغلب على الظن أن ذلك كان في البيوت لأنهن لن يأخذن الصبيان من الكتاب وعمر جاعل إمام لهن، ولا سيما عائشة رضي الله عنها فأحرى بها رضي الله عنها أن تصلي في بيتها وقد يجتمع لها من النساء.
القراءة زمن الصديق:
وقد ظلت القراءة طويلة في زمن الصديق رضي الله عنه لما في حديث عبد الله ولد الصديق، فعن مالك عن عبد الله بن أبي بكر سمعت أبي يقول:"كنا ننصرف في رمضان من القيام فنستعجل الخدم بالطعام مخافة الفجر".
وقد طرأ في هذا العصر أيضا نوع مقارنة بين القراء. فكان الناس يميلون إلى من كان حسن الصوت بالقراءة كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله في عهد عمر رضي الله عنه.
في عهد عمر رضي الله عنه:
جاء عهد عمر رضي الله عنه والحال كما كان عليه من قبل يصلون أوزاعا فُرادى وجماعات في البيوت وفي المسجد يصور ذلك أكمل تصوير أثران هما: أثر إياس الهذلي، وأثر عبد الرحمن بن عبد.
أ - الأثر الأول: عن نوفل قال إياس الهذلي: كان الناس يقومون في رمضان في المسجد وكانوا إذا سمعوا قارئا حسن القراءة مالوا إليه. فقال عمر رضي الله تعالى عنه: "قد اتخذوا القرآن أغاني والله لئن استطعت لأغيرن هذا"، فلم تمر ثلاث حتى جمع الناس على أبي ابن كعب. وقال عمر:"إن كانت هذه بدعة فنعمت البدعة". رواه المروزي.
ب - الأثر الثاني: وهو أثر عبد الرحمن بن عبيد - بالتنوين - (القارّي) خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاعا متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط فقال عمر: "إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل"ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم: "نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون"يعني آخر الليل وكان الناس يقومون أوله. رواه البخاري.
التطور الجديد:
نجد في الأثرين السابقين تطويرا جديدا على يد عمر رضي الله عنه وهو جمع الأوزاع والأشتات على قارئ واحد. وهذا التطور وإن تعددت أسبابه فقد جمع عدة مصالح.
فالأثر الأول يشير إلى أن السبب له صلة بحسن القراءة وفي هذا مجال فسيح لمنافسة القراء وتسابق المصلين، وهو أمر لو طال به المدى لابتعدت الشقة بسببه بين المصلين، فوحد القارئ لتتوحد القراءة. وقد يؤخذ منها درء المفسدة على جلب المصلحة؛ لأن تتبع المصلين لمن هو أحسن صوتا مجال لتحسين الصوت بالقراءة وهو أمر مرغوب فيه غير أنه قد يكون مدعاة إلى التغالي حتى يصل إلى التغني كما أشار عمر رضي الله عنه من قبل فجمعهم على قارئ واحد سدا للذريعة ودرءا للمفسدة.
والأثر الثاني يشير إلى وجود جماعات وأفراد لا تربطهم عوامل موحدة، ولو طال بهم المدى أيضا لافتقدوا عامل الائتلاف والاتحاد وضاعت ثمرة الجماعة فوحد الإمام ليجتمع المأموم وكانت نعمة البدعة في كلا الأمرين. وإلى هنا تم توحيد المصلين للتراويح على إمام واحد وهو أبي بن كعب.
تعدد الأئمة:
وقد جاء عنه رضي الله عنه أنه جعل إمامين للرجال وهما أبي بن كعب وتميم الداري، وكانا يقومان في الليلة الوحدة يتناوبان. يبتدئ الثاني حيث ينتهي الأول كما جاء في رواية السائب بن يزيد قال: أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب وتميم الداري رضي الله عنهما أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، وذلك مع المحافظة على طول القراءة كما في الرواية الأخرى له: كنا نصلي زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رمضان ثلاث عشرة ركعة، ولكن والله ما كنا نخرج إلا وجاه الصبح كان القارئ يقرأ في كل ركعة بخمسين، آية ستين آية. وكما في رواية السائب أيضا أنهم كانوا يقرؤون بالمئين من القرآن وأنهم كانوا يعتمدون على العصا في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
فالذي تحدد في هذين الأثرين هو:
أ – تعدد الأئمة بعد إمام واحد. وهو أُبَي، وسواء كان ذلك رفقا بالإمام الأول فجعل معه آخر يساعده، أو كان ترويحا للمأمومين وتنشيطا للمصلين ولا سيما وقد كانوا حدثاء عهد بتعدد الأئمة حينما كانوا يصلون أوزاعا.
وقد مضى عمر رضي الله عنه إلى أبعد من هذا فجعل إماما للنساء، وانتخب أكثر من إمام للتراويح، أما إمام النساء فهو سليمان بن أبي حتمة. فكما جاء عند المروزي قال: وعن هشام بن عروة عن أبيه: جعل عمر بن الخطاب للناس قارئين فكان أبي بن كعب يصلي بالرجال وكان بن أبي حتمة يصلي بالنساء. فهذا الأثر يفيد أن إمامة سليمان ابن أبي حتمة بالنساء كانت أثناء إمامة أبي للرجال، أي أنهما كانا يصليان في وقت. هذا لهؤلاء وهذا لؤلائي.
وقد كان ذلك أقصى ما وصلت إليه التراويح من حيث النشاط والصبر وطول القيام وكثرة القراءة.
ثم أخذت قي التدرج إلى الأسهل فتعددت الأئمة وخففت القراءة وكثرت الركعات.
أما تعدد الأئمة أكثر من ذلك فهو كما في رواية عاصم عن أبي عثمان رحمه الله أن عمر رضي الله عنه جمع القرآن في رمضان فأمر أخفهم قراءة أن يقرأ ثلاثين آية وأوسطهم خمسا وعشرين وأثقلهم قراءة عشرين.
فنرى هنا تعدد الأئمة وهو أكثر ترويحا وتخفيفا على نفس الإمام وعلى المأمومين، ثم نرى أيضا تخفيف القراءة فأقصاها ثلاثون بعد أن كانت تصل إلى الستين والمئين. بل نجد أثرا آخر وهو أن عمر رضي الله عنه أمر أبيا فأمهم في رمضان فكانوا ينامون ربع الليل ويقومون ربعه وينصرفون بربع لسحورهم وحوائجهم. وكان يقرأ بهم خمس آيات ست آيات في كل ركعة ويصلي بهم ثمان عشر ركعة شفعا يسلم في كل ركعتين، ويروحهم قدر ما يتوضأ المتوضئ ويقضي حاجته، بهذا يتضح إلى أي مدى حدث تغيير وتجفيف في الكيفية والقراءة.
أما عدد الركعات فكالآتي:
1-
فتقدم أن أول ما أمر عمر أُبَيًّا أن يقوم بالناس أنه أمره بثمان ركعات. وكان يقرأ فيها بالمئين، وكانوا لا ينصرفون إلا ي وجه الفجر.
2-
وتقدم أن عمر أمر أُبَيًّا وتَمِيماً أن يقوما للناس ثلاث عشرة ركعة. وهذا بالنسبة إلى ما جاء من ثمان ركعات يكون معها ثلاث وترا. وقد جاءت رواية محمد بن سرين أن معاذا أبا حليمة القاري كان يصلي بالناس إحدى وأربعون ركعة. ومعاذ أبو حليمة هذا، قال في التقريب: "هو معاذ بن الحارث الأنصاري البخاري القاري أحد من أقامه عمر بمصلى التراويح. وقيل هو آخر يكنى أبا الحارث صحابي صغير استشهد بالحرة
…
"اهـ.
والحرة كانت سنة 63 يؤيد هذا العدد ويفصله رواية أبي زيد عن صالح مولى التوأمة قال: "أدركت الناس قبل الحرة يقومون بإحدى وأربعين ركعة يوترون فيها بخمسة، فكانت الترويح إحدى وأربعون ينقصها أي ستة وثلاثون ركعة.
وصالح هذا قال في التقريب: "هو صالح بن نبهان المدني مولى التوأمة بفتح المشناة وسكون الواو وبعدها همزة مفتوحة، صدوق اختلط في أخر أمره".
قال بن عدي: "لا بأس برواية القدماء عنه كابن أبي زيد وابن جرير، من الرابعة مات سنة 125. والرواية هنا عنه من رواية الأقدمين. وهو ابن أبي ذئب كما مثل ابن عدي لما لا بأس به عنه. فهو هنا يقول: أدركت الناس قبل الحرة يقومون بإحدى وأربعون ركعة ويوترون منها بخمسة. وهذا موافق لما قاله محمد بن سرين أن معاذا بن حليمة القاري كان يصلي بالناس إحدى وأربعين ركعة أي ستا وثلاثين قياما وخمسة وترا.
أ - فتكون التراويح زمن عمر رضي الله عنه بدأت بثلاث عشرة ركعة أي بما فيها الوتر.
ب - ثم إلى ثلاث وعشرين بما فيها الوتر ثلاث.
ج - ثم بست وثلاثين ومعها خمس ركعات وترا. والمجموع إحدى وأربعين ركعة إلا أننا نلاحظ أن كثرة الركعات معها تخفيف القراءة لأنه:
أولا: ثمان ركعات، أو ثمان عشرة ركعة، يقرؤون بالمئين. وكانوا لا ينصرفون إلا على وجه الفجر. وعليه قلنا تكون القراءة لست وثلاثين ركعة كالقراءة لثمان أو لست عشرة ركعة.
بل وجدنا عمليا أن عمر رضي الله عنه جمع القراء فأمر من كان أخف قراءة أن يقرأ بثلاثين بينما كانت القراءة بخمسين بستين كما تقدم.
وعليه لا يكون تعارض بين الروايات الواردة وعدد الركعات للتراويح زمن عمر رضي الله عنه. كما قال الباجي رحمه الله في شرح الموطأ ج1ص208 ما ملخصه: قد اختلفت الروايات فيما كان يصلى به في رمضان في زمان عمر رضي الله عنه. فروى السائب بن يزيد إحدى عشرة ركعة، وروى يزيد بن رومان ثلاثا وعشرين ركعة، وروى نافع مولى ابن عمر أنه أدرك الناس يصلون بتسع وثلاثين ركعة يوترون فيها بثلاث.
فيحتمل أن يكون عمر رضي الله عنه بدأ بثمان على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أفاده حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم: "ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا في غيره على ثمان ركعات". وأمرهم مع ذلك بطول القراءة يقرأ القارئ بالمئين في الركعة فلما ضعف الناس عن ذلك أمرهم بثلاث وعشرين ركعة على وجه التخفيف عنهم من طول القيام، واستدرك بعض الفضيلة بزيادة الركعات وكان يقرأ البقرة في ثمان ركعات أو اثني عشرة ركعة، وقد قيل: إنه كان يقرأ من ثلاثين آية إلى عشرين آية. وكان الأمر على ذلك إلى يوم الحرة، فثقل عليهم القيام فنقصوا في القراءة وزادوا في عدد الركعات فجاءت ستة وثلاثين ركعة والوتر بثلاث فمضى الأمر على ذلك ولعل التخفيف إلى ستة وثلاثين وقع قبل الحرة كما جاء في رواية محمد بن سرين أن معاذ أبا حليمة كان يقوم بهم إحدى وأربعين ركعة. وهو ما مات إلا في وقعة الحرة.
والذي يهمنا ما ظهر من التدرج في التراويح في زمن عمر رضي الله عنه بالتخفيف من القراءة وزيادة عدد الركعات فكانت قلة الركعات معها كثرة القراءة وكثرة القراءة معها قلة الركعات.
مناقشة "نعمة البدعة":
وقبل أن ننتقل من عهد عمر إلى عهد عثمان رضي الله عنهما يحسن إيراد الجواب على قول عمر رضي الله عنه: "نعمت البدعة"لجمعه الناس على قارئ واحد وصلاتهم إياها في جماعة. فما مراده بقوله هذا وما الجمع بين قوله: "نعمت"وبين كونها بدعة؟
وخير ما نسوق في ذلك هو كلام شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله في كتابه (اقتضاء صراط المستقيم) ص 275 ما نصه قال: "فأما صلاة التراويح فليست بدعة في الشريعة، بل هي سنة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله، فإنه قال: "إن الله فرض عليكم صيام رمضان وسننت لكم قيامه". ولا صلاتها جماعة بدعة بل هي سنة في الشريعة بل قد صلها رسول الله صلى الله عليه وسلم في جماعة في أول شهر رمضان ليلتين، بل ثلاثا. وصلاها كذلك في العشر الأواخر في جماعة مرات. وقال: "إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة". لما قام بهم حتى خشوا أن يفوتهم الفلاح. رواه أهل السنن.
وبهذا الحديث احتج أحمد وغيره على أن فعلها في الجماعة أفضل من فعلها على حال الانفراد. وفي قوله هذا ترغيب في قيام شهر رمضان خلف الإمام وذلك أوكد من أن يكون سنة مطلقة.
وكان الناس يصلون جماعة في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقرهم وإقراره سنة منه صلى الله عليه وسلم وأما قول عمر رضي الله عنه: "نعمت البدعة هذه"فأكثر المحتجين بهذا لو أردنا أن نثبت حكما بقول عمر الذي لم يخالف فيه لقالوا: "الصاحب ليس بحجة".
فكيف يكون حجة لهم في خلاف قول الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ومن اعتقد أن قول الصاحب حجة فلا يعتقده إذا خالف الحديث.
فعلى التقديرين لا تصلح معارضة الحديث بقول الصاحب. نعم يجوز تخصيص عموم الحديث بقول الصاحب الذي لم يخالف على إحدى الروايتين فيفيدهم هذا (حسن تلك البدعة) أما غيرها فلا.
ثم نقول أكثر ما في هذا تسمية عمر تلك بدعة مع حسنها، وهذه تسمية لغوية لا تسمية شرعية، وذلك أن البدعة في اللغة تعم كل ما فعل ابتداء من غير مثال سابق وأما البدعة الشرعية فكل ما لم يدل عليه دليل شرعي.
فإذا كان نص رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دل على استحباب فعل أو إيجابه بعد موته أو دل عليه مطلقا ولم يعمل به إلا بعد موته ككتاب الصدقة الذي أخرجه أبو بكر الصديق رضي الله عنه فإذا عمل أحد ذلك العمل بعد موته صح أن يسمى ((بدعة)) في اللغة لأنه عمل مبتدأ كما أن نفس الدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم يسمى بدعة ويسمى محدثا في اللغة. كما قالت رسل قريش للنجاشي عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرون إلى الحبشة "وإن هؤلاء خرجوا من دين آبائهم ولم يدخلوا في دين الملك وجاءوا بدين محدث لا يعرف".
ثم ذلك العمل الذي يدل عليه الكتاب والسنة ليس بدعة في الشريعة وإن سمي بدعة في اللغة أعم من لفظ البدعة في الشريعة، وإن سمي بدعة في اللغة. فلفظ "البدعة"في اللغة أعم من لفظ "البدعة"في الشريعة.
وقد علم أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة" لم يُرِد به كل عمل مبتدأ، فإن دين الإسلام بل كل دين جاءت به الرسل فهو عمل مبتدأ. وإنما أراد ما ابتدئ من الأعمال التي لم يشرعها هو صلى الله عليه وسلم. وإذا كان كذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم قد كانوا يصلون قيام رمضان على عهده جماعة وفرادى. وقد قال لهم في الليلة الثالثة أو الرابعة لما اجتمعوا:"إنه لم يمنعني أن أخرج إليكم إلا كراهة أن يفرض عليكم فصلوا في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة".
فعلل النبي صلى الله عليه وسلم عدم الخروج بخشية الافتراض، وخوف الافتراض قد زال بموته صلى الله عليه وسلم فانتفى المعارض".
وساق بعد ذلك أدلة أخرى كجمع القرآن ونفى عمر ليهود خيبر، وقتال أبي بكر لمانعي الزكاة. ثم قال مبينا ضابط البدعة الحسنة من السيئة بما نصه: "والضابط في هذا والله أعلم أن يقال: إن الناس لا يحدثون شيئا إلا لأنهم يرونه مصلحة، إذ لو اعتقدوه مفسدة لم يحدثوه. فإنه لا يدعو إليه عقل ولا دين فما رآه المسلمون مصلحة نظر في السبب المحوج إليه، فإن كان السبب المحوج إليه أمرا حدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم فهنا قد يجوز إحداث ما تدعوا إليه الحاجة إليه - قال رحمه الله عبارة مفادها أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر من غير تفريط -.
وكذلك إن كان المقتضى لفعله قائما على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن تركه النبي صلى الله عليه وسلم لمعارض وقد زال بموته".أهـ
هذا هو كلام شيخ الإسلام بن تيمية بنصه في بيان كلمة عمر رضي الله عنه "نعمت البدعة". وأعتقد أنه واضح في الرد على من يحتج بها على أن صلاة التراويح جماعة بدعة أو أن العدد الذي ورد عن عمر فيها 21 ركعة بدعة.
غير أن البحث في إثبات ذلك العدد عنه أو عدم إثباته ويكفي في ذلك روايات مالك في الموطأ والله تعالى أعلم.
يستفتونك
يتولى الرد على أسئلة القراء فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز
نائب رئيس الجامعة الإسلامية
وردت من الأخ إبراهيم. م.ض. الأسئلة التالية:
البنوك
إذا احتاج الرجل إلى شيء من المال لمؤنة البيت أو تسديد أجرة الدار أو نحو ذلك ولم يجد من يقرضه ولا من يستدين منه فهل يجوز له أن يستدين من البنك؟
والجواب: إن كانت الاستدانة من البنك على طريقة شرعية كأن يأخذ منه قرضا بمثله من دون زيادة أو يشتري منه سلعة إلى أجل معلوم ولو بأكثر من ثمنها الحاضر فلا بأس، أما إذا اقترض منه على وجه الربا فهذا لا يجوز لأن الله سبحانه حرم الربا في كتابه العظيم وسنة رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام وورد فيه من الوعيد ما لم يرد في أكل الميتة ونحوها قال الله سبحانه:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إلَاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} . قال أهل التفسير معنى ذلك أنه يقوم من قبره يوم القيامة كالمجنون. ثم قال الله سبحانه بعد ذلك: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} .
وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء. رواه مسلم في صحيحه.
والآيات والأحاديث في تحريم الربا والوعيد عليه كثيرة مشهورة وليس عَدْمُ المحتاج من يقرضه أو يبيع عليه يجعله في حكم المضطر الذي تبيح له الميتة أو الربا، هذا قول لا وجه له من الشرع لأن في إمكان المحتاج أن يعمل بيده حتى يحصل ما يسد حاجته أو يسافر إلى بلاد أخرى حتى يجد من يقرضه أو يبيع عليه بالدين إلى أجل. والمضطر هو الذي يخشى على نفسه الموت إذا لن يأكل من الميتة ونحوها بسبب شدة المجاعة وعدم قدرته على ما يسد رمقه بالكسب ولا بغيره وليست حاجة هؤلاء الذين يعاملون البنوك بالربا في حكم الضرورة التي تبيح الميتة ونحوها وكثير من الناس سهل عليهم أمر الربا حتى صار يعامل فيه ويفتي الناس به بأدنى شبهة وما ذاك إلا لقلة العلم وضعف الإيمان وغلبة حب المال على النفوس نسأل الله السلامة والعافية مما يغضبه، ومهما أمكن عدم التعامل مع البنك وعدم الاقتراض منه ولو بالطرق الشرعية التي ذكرنا آنفا فهو أولى وأحوط لأن أموال البنك لا تخلو من الحرام غالبا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه" والله المستعان.
كشف الوجه واليدين
قال الله سبحانه: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ؛ زعم بعض الناس أن معنى قوله سبحانه: {إِلَاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} هو الوجه والكفان وأنه يباح للمرأة كشف وجهها وكفَّيْها في البيت وخارجه واحتج على ذلك بأن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها وقال لها: "إن المرأة إذا بلغت المحيض لا يجوز أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلا كفيه ووجهه".؟
والجواب: الذي دلت عليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية أن المرأة كلها عورة وليس لها أن تكشف شيئا من جسدها للأجنبي لا الوجه ولا غيره ومما ورد في ذلك قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} .
وروي عن جماعة من السلف منهم ابن عباس رضي الله عنهما أن الجلباب ما تلقيه المرأة على رأسها ووجهها وتبدي عينا واحدة. وقال تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَاّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنّ} الآية. والوجه والكفان من أعظم الزينة. وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} . ولم يستثن شيئا لا الوجه ولا غيره. وهذه الآية وإن كانت في أمهات المؤمنين فالحكم يعمهن ويعم غيرهن وليس هناك دليل فيما نعلم على تخصيصهن بالحكم والعلة التي ذكرها الله وهي قوله سبحانه: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنّ} تعم الجميع لأن الطهارة مطلوبة لجميع المسلمين والمسلمات. وأما قوله سبحانه في آية النور: {إِلَاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} فعنه جوابان:
أحدهما: أن المراد من ذلك ما ظهر من الملابس لأنه لا يمكن ستره ولا يجب عليها لبس الخلقان من الملابس التي تزري بها فأباح الله سبحانه إظهار الملابس المعتادة البعيدة عن الفتنة وهذا معنى ما قاله الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في تفسير هذه الآية الكريمة.
والجواب الثاني أن المراد بقوله: {إِلَاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} الوجه والكفان كما قال بن عباس رضي الله عنهما وجماعة من السلف ولكن ذلك كان قبل نزول آية الحجاب ثم أمرن بستر الوجه والكفين بعد نزول آية الحجاب وهي آية الأحزاب المتقدمة وممن نص على ذلك شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله ويدل على هذا المعنى ما صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت حين تخلفت عن الجيش في غزوة الإفك وسمعت استرجاع صفوان بن المعطل: "فخمرت وجهي لما سمعت صوته، وكان قد عرفني قبل الحجاب". فدل ذلك على أن النساء بعد نزول آية الحجاب صرن يخمرن وجوههن. وصح عن أختها أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها قالت: "كنا نخمر وجوهنا إذا دنا منا الركب". وروي عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أنهما قالتا: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع إذا دنا منا الرجال سدلت إحدانا خمارها على وجهها". والأحاديث والآثار في هذا المعنى كثيرة أما حديث أسماء الذي ذكرتم في السؤال وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يحل أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه" فهو حديث ضعيف الإسناد ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم لانقطاعه وضعف بعض رواته.
أما انقطاعه فلأن خالد بن دريك الذي رواه عن عائشة لم يلقها ولم يسمع منها وهذه علة تضعف الحديث وتسقط العمل به كما نبه إلى ذلك أبو داود رحمه الله لما أخرج الحديث المذكور. وأما ضعف بعض رواته فلأن في إسناده سعيد بن بشير الأزدي وهو ضعيف لا يحتج بروايته فاتضح بهذا أن الحديث المذكور لا يجوز الإحتجاج به على إباحة كشف المرأة وجهها وكفيها عند الأجانب لما عرفت من ضعفه بسبب انقطاعه وضعف بعض رواته والله ولي التوفيق.
احتفالات المولد
أحدث بعض المشايخ احتفالات لا أعرف لها وجها في الشرع كالاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم وبليلة الإسراء والمعرج والهجرة النبوية. نرجو أن توضحوا لنا ما دل عليه الشرع في هذه المسائل حتى نكون على بيِّنة؟
الجواب: لا ريب أن الله سبحانه قد أكمل لهذه الأمة دينها وأتم عليها النعمة كما قال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} الآية. وقد توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعد ما بلَّغ البلاغ المبين وأكمل الله به شرائع الدين، وقال صلى الله عليه وسلم:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" متفق على صحته من حديث عائشة رضي الله عنها. وأخرج مسلم في صحيحه عنها رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد". ومعنى قوله: "فهو رد"أي مردود لا يجوز العمل به لأنه زيادة في الدين لم يأذن الله بها، وقد أنكر الله سبحانه في كتابه المبين على من فعل ذلك فقال عز وجل في سورة الشورى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} . وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبة الجمعة: "أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثتها وكل بدعة ضلالة".
والأحاديث والآثار في إنكار البدع والتحذير منها كثيرة لا يسع هذا الجواب لذكرها. وهذه الاحتفالات التي ذكرت في السؤال لم يفعلها الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أنصح الناس وأعلمهم بشرع الله وأحرصهم على هداية الأمة وإرشادها إلى ما ينفعها ويرضي مولاها سبحانه ولم يفعلها أصحابه رضي الله عنهم وهم خير الناس وأعلمهم بعد الأنبياء وأحرصهم على كل خير ولم يفعلها أئمة الهدى في القرون المفضلة وإنما أحدثها بعض المتأخرين بعضهم عن اجتهاد واستحسان من غير حجة وأغلبهم عن تقليد لمن سبقهم في هذه الاحتفالات. والواجب على جميع المسلمين هو السير على ما درج عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم والحذر مما أحدثه الناس في دين الله بعدهم فذلك هو الصراط المستقيم والمنهج القويم كما قال عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . وثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا على أصحابه هذه الآية ثم خط خطا مستطيلا فقال: "هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه وشماله، وقال: "هذه السبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه". وقال الله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ومما ذكرنا من الأدلة يتضح لك أن هذه الاحتفالات كلها بدعة يجب على المسلمين تركها والحذر منها والمشروع للمسلمين هو العناية بدراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والعمل بها في جميع الزمان لا في وقت المولد خاصة وفيما شرع الله غنية وكفاية عما أحدث من البدع.
أما ليلة الإسراء فالصحيح من أقول أهل العلم أنها لا تعرف، وما ورد في تعيينها من الأحاديث فكلها أحاديث ضعيفة لا تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قال أنها ليلة 27 من رجب فقد غلط؛ لأنه ليس معه حجة شرعية تؤيد ذلك. ولو فرضنا أنها معلومة فالاحتفال بها بدعة؛ لأنه زيادة في الدين لم يأذن الله بها. ولو كان ذلك مشروعا لكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أسبق إليه وأحرص عليه ممن بعدهم. وهكذا زمن الهجرة لو كان الاحتفال به مشروعا لفعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولو فعلوه لنقل، فلما لم ينقل دل ذلك على أنه بدعة.
وأسأل الله عز وجل أن يصلح أحوال المسلمين ويمنحهم الفقه في الدين. وأن يعيذنا وإياكم وإياهم من جميع البدع والمحدثات. وأن يسلك بالجميع صراطه المستقيم إنه على كل شيء قدير. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
التقدم والرجعية
(1)
بقلم الدكتور تقي الدين الهلالي
محاضرة ألقاها فضيلة الدكتور على طلبة الجامعة الإسلامية
هاتان الكلمتان لم تكن تستعملهما العرب بهذا المعنى الذي يقصده بهما كتاب العصر الحاضر لأنهما مما ترجمه المترجمون باللغة العربية ناقلين له من اللغات الأوروبية فتلقاه كتاب العربية واستعملوه في كلامهم وكتبهم.
والرجعية نسبة إلى الرجع وهو مصدر رجع يرجع رجعا أي عاد إلى مكانه الذي كان فيه أو إلى حال كان فيها وفعله بهذا المعنى اللازم.
قال ابن منظور في لسان العرب: "ومصدره لازما الرجوع ومصدره واقعا الرجع يقال رجعته رجعا فرجع رجوعا". اهـ.
والرجعية عند المعاصرين صفة الرجعي الذي يرجع في أفكاره وعقائده إلى الزمان الماضي وهو زمن الانحطاط والظلم والجهل والاستئثار والإصرار على الخرافات والأوهام التي انقشع الظلام فيها عن بصائر المتقدمين والمتمدنين السائرين حثيثا في ركب الحضارة الطالبين للحقيقة ولا يمنعهم منها مانع من العقيدة أو عادة يتعصب الرجعيون لها فهم - أعني المتقدمين - دائما في طليعة هذا الركب أغنياء أقوياء سعداء علماء سائرون إلى الأمام متعاونون مع الشعوب التقدمية ينظرون إلى آبائهم وأسلافهم نظرة ازدراء أو رحمة وشفقة ويسخرون منهم كلما ذكروا أحوالهم.
بداية عصر النهضة والتقدم عند الأوروبيين وكيف كانت الحالة قبل ذلك:
ينبغي أن نذكر هنا كيف كانت الحال قبل النهضة ليعرف فضلها، ويتبين لكل ذي عينين الفرق الشاسع بين التقدميين والرجعيين الذين يصرون على تقديس العصور المظلمة على حد تعبير خصومهم.
قال جوزيف مكيب في كتابه (مدنية العرب في الأندلس) وقد ترجمته وعلقت عليه وطبع في بغداد سنة 1369 هـ 1950 م وسبب ترجمتي له أني كنت في غرناطة أثناء الحرب العالمية الأخيرة لأن الفرنسين نفوني من الأراضي التي كانت تحت أيديهم وهي القسم الأكبر، والقسم الذي كان بيد الأسبانيين كان ممتدا على شاطئ البحر الأبيض لا يزيد عرضه على (50ميلا) وكنت ولا أزال مصابا بداء الربو أحتاج إلى البعد عن البحر.
وكان الطلبة المغاربة الذين يدرسون في جامعة غرناطة ملتفين حولي، مترددين على زيارتي وكان الأساتذة الإسبانيون الذين يعلمونهم لا ذمة لهم ولا أمانة وذلك شأن أكثر الأساتذة في البلاد التي تنعدم فيها الحرية ويسود فيها الاستبداد، فكانوا يفترون على التاريخ ويزعمون أن المسلمين الفاتحين للأندلس من الشرقيين والمغربيين كانوا سيئ الأخلاق جهالا عتاة وكان حكمهم جائرا قاسيا، فمحوا كل خلق كريم من الشعب الإسباني وعلموه مساوئ الأخلاق فكل خلق سيء مرذول يوجد في الشعب الإسباني هو من آثار الحكام المسلمين، وكنت قد اطلعت على كتابين ألفهما في تاريخ المسلمين في إسبانيا المؤلف الإنكليزي الشهير الذائع الصيب (جوزيف مكيب) أحدهما كبير والآخر صغير فعمدت إلى الصغير فترجمته بالعربية ليكون سلاحا بيد الطلبة المغاربة وغيرهم من المسلمين يواجهون به كل عدو جاحد مكابر.
وهذا المؤلف عدو للأديان كلها وقد ذكرت له ترجمة واسعة في أول الكتاب إلا أن طعنه في الإسلام أقل وأخف من طعنه في النصرانية، لأن علماء شعبه الذين يرد عليهم من الإنكليزيين وسائر الأوروبيين كلهم نصارى وقد أستثقل تفاحش قوله وشتائمه للنصارى ولكني أضطر إلى نقلها إذا كانت ممزوجة مع اعترافه بفضل المسلمين وسبب هذا الاستثقال حب الإقتداء بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإنه لم يكن طعانا ولا لعانا ولا فاحشا ولا متفحشا ولما طبع هذا الكتاب ووصلت نسخ منه إلى تطوان في زمن الاستعمار الإسباني صادر الحكام الإسبانيون تلك النسخ وزجوا بالكتبي الذي كان يبيعها في السجن وليس ذلك بعيدا من أخلاقهم وقد حبسوني أنا بنفسي قبل أن ينشر الكتاب وقبل أن يعلموا بوجوده وكان ذلك تهورا منهم وطغيانا لوساوس كان شيطانهم يوسوس لهم بها ولمقالات كنت بعثتها في البريد الإنكليزي بتطوان إلى الأستاذ المجاهد الشهيد الشيخ حسن البنا رحمة الله عليه فقد اطلعوا عليها بواسطة بعض الموظفين المغاربة في البريد الإنكليزي ثم أنقذني الله منهم وأنقذ ذلك الجزء من المغرب من حكمهم ونسأله سبحانه أن ينقذ الباقي وهو (سبتة، ومليلية ووادي الذهب والصحراء المغربية والساقية الحمراء) ويوفق المغاربة لغسل هذا العار إنه على كل شيء قدير.
قال جوزيف مكيب في كتابه مدنية العرب في الأندلس:
الفصل الأول
لقد أطلقت لفظ العصور المظلمة كسائر المؤرخين في (تويليفي) هذا على أكثر عصور الممالك النصرانية انحطاطا على العموم وخصوصا القرن العاشر المسيحي تنصرت الممالك الأوروبية قبل ذلك بخمس قرون أو ستة قرون تقريبا مضت من يوم تغلب البوابي - جمع بابا - والأساقفة على إرادة الملوك وحثوهم على إبادة كل مصدر من مصادر الإلهام يخالفهم فأغلقوا المدارس والمعاهد وقضوا على العلم والأدب.
وإذا استثنينا بعض المواضع في أوروبا كالبندقية إذ كان فيها بقية تافهة إصطلاحية من علم اليونانيين تخفف من شرهم وهمجيتهم فإن أوروبا كلها كانت في تباب وخراب اقتصاديا واجتماعيا وعقليا وكان ذلك العهد أشد سواد وظلمة وانحطاطا من سائر العصور البابوية وفي ذلك الزمان أطلق الأساقفة والقسيسون والرهبان والراهبات الأعنة في الدعارة والشهوات البهيمية ولم يكونوا في ذلك الزمان يستترون حتى بجلباب النفاق ولو أن غنيا مليونيا من أهل هذا العصر كان في ذلك الزمان لقدر أن يشتري مملكة بأسرها وكان تسعة وتسعون في المائة خدما يعاملون بأقسى ما يعامل به العبيد ولم يكن ولا واحد في المائة من الرجال ولا واحد في الألف من النساء تقدر على القراءة وكان الضعيف مضطهدا مقهورا مسحوقا تحت الأقدام مغموسا في الطين والدم بل حتى القوي كان مهددا بالأوبئة الوافدة والسيوف اللامعة على الدوام والنجوم ذوات الأذناب في السماء وجنود العفاريت الهائلة في الهواء كذلك إن أردت أن تعرف أفكار النصرانية الاجتماعية فادرس القرن العاشر فلا زخارف أقوال الواعظين ولا كذب المعتذرين ولا الإذعان السياسي من المؤرخين يقدر أن يخفي عن ذوي الألباب عظم تبعة الكنيسة ولا سيما البابوية في ذلك الزمان الذي بلغ فيه الانحطاط إلى دركة لا نظير لها وإنه لفصل من أشد فصول البشرية شقاء وحزنا من الفصول التي استشهدت فيها الإنسانية وأنه لأفضع فصول من فصول غضب الله. حقا لقد حطم "بولوس"من ناحية و"أوكستين"من ناحية أخرى مدنية الإنسان فهل هذا الذي سمياه - بعيدين عن اتباع الهوى - (مدينة الله) .
يقصد المؤلف بهذا الكلام رجلين على يديهما انتشرت النصرانية المحرفة التي يعزو إليها المؤلف كل ما أصاب الناس من الشقاء وينبغي أن أذكر للمستمعين الكرام ترجمتي هذين الرجلين باختصار:
أما "بولوس"ويسميه الأوروبيون (بول الرسول) وتعده الكنيسة من الرسل الإثني عشر من أصحاب عيسى عليه السلام وكان "بولس"يهوديا يونانيا ولد في "طرسوس"ولا يعرف بالتحقيق تاريخ ولادته وقد خمن المؤرخون أن يكون قد ولد سنة عشر للميلاد وكان عالما بعلوم اليهود واليونان وكان يعد من فقهاء اليهود وكان شديد العداوة لكل من آمن بالمسيح محرضا على قتلهم ولما كان في نحو الثلاثين من عمره ادعى أنه رأى رؤيا تدل على أن النصرانية حق فصار نصرانيا متعصبا وبعد ما قضى "بولوس"بقية عمره أي خمسا وثلاثين سنة في حل وترحال مطوفا في أقطار آسيا الصغرى وأوروبا في البر والبحر يدعو الناس إلى النصرانية ويخبرهم بأن الله أمره بذلك ويبني الكنائس ويؤسس الجماعات ويركب الأخطار وأعداؤه من اليهود الحاقدين عليه والنصارى الحاسدين له ينصبون له الشباك ويكيدون له المكائد وقد سجن مرارا وقتل في رومية سنة 65بتاريخ النصارى وله مؤلفات كثيرة معروفة مقدسة عند النصارى.
وأما "أوكستين"ويسمى باللاتينية (أغسطونيوس) فقد ولد في "تاغستة"وهي بليدة من توميديا في إفريقيا غير بعيدة عن قرطجنة وهي في هذه الأيام من أعمال تونس في 13من تشرين الثاني سنة 354وتوفي في 18 آب سنة 430 بتاريخ النصارى وكان أبوه وثنيا وأمه نصرانية متعصبة وكان في أول أمره بعيد على التدين والصلاح ثم اشتغل بدراسة الفلسفة ولما بلغ من عمره 29 سنة انتقل إلى إيطاليا فاجتمع بالعلماء ثم دخل في النصرانية بإلحاح من أمه وألف كتاب سماه (الاعترافات) ذكر فيه سيرته قبل التدين بالنصرانية وبعده ثم رجع إلى بلده "تاغستة"ثم أخذ يعظ في الكنيسة إلى أن صار أسقفا وبقي فيها 35 سنة وألف تآليف كثيرة في الديانة النصرانية منها تفسير الزبور ومنها حواش على الأناجيل الأربعة وله كتابان آخران أحدهما كتاب (الاعترافات) وقد تقدم ذكره والثاني (مدينة الله) وإليه أشار "جوزيف مكيب"الذي ترجمت كتابه وسميته "مدنية العرب في الأندلس"ومقصوده بهذا الكتاب الرد على الوثانيين الذين يعبدون الأوثان والأصنام ودعوتهم إلى الدخول في مدينة الله بإيمانهم بدين النصارى الذي يقصر العبادة على ثلاث أقانيم فقط أولها الأب وثانيها الإبن وهو عيسى عليه السلام وثالثها روح القدس وهو قد يظهر في بعض الأحيان على شكل حمامة أو غيرها يقول كاتب هذه المحاضرة وليت شعري ما الفرق بين عبادة الأوثان والأصنام وبين عبادة الأقانيم الثلاثة؟ صدق الله العظيم {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إلَاّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ
كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} سورة المائدة.
ثم قال "جوزيف مكيب"في وصف انحطاط الأوروبيين قبل فتح المسلمين الأندلس وبعده بزمن طويل:
"اعلم أن أمهات المدن الأوروبية لم توجد فيها قنوات لصرف المياه القذرة حتى بعد مضي ستمائة سنة من ذلك التاريخ أي من سنة 756-1356م فكانت المياه المنتنة النجسة تجري في طول شوارع باريس ولندن ويضاف إلى ذلك أنها لم تكن مبلطة أو تجتمع فيتكون منها برك حتى بعدما علمت النهضة في أوروبا عملها قرونا طوالا أما في مدن المور فكانت الشوارع مبلطة منورة قد سويت فيها مجاري المياه أحسن تسوية في أواسط القرن العاشر قال "سكوت": بعض القنوات التي كانت تحت الشوارع لصرف المياه القذرة في "بلنسية"تقدر أن تكتسح سيارة وأصغر قناة منهن تقدر أن تكتسح حمار وكانت الشوارع مجهزة أحسن تجهيز بالشرطة وهذا النظام الصحي السامي كانت تعضده النظافة العامة التي يراها الأمريكيون في هذه العصور شيئا واجبا ولكنها في ذلك الزمن كانت في نظر الأوروبيين أعجوبة من أعاجيب الرقي التام فكان في قرطبة وحدها تسعمائة حمام عام وكانت الحمامات الخاصة كثيرة في كل مكان أما في بقية بلاد أوروبا فلم يكن فيها ولا حمام واحد وكان أشراف أوروبا ورؤساء الإقطاع منهمكين في الرذائل إلى حد يحجم الإنسان عن وصفه ولم يكن لبس الكتان معروفا في أوروبا حتى أخذت (موضة) - أي طراز - لبس الكتان النظيف من المحمديين ولم تكن الزاربي أيضا تصنع هناك وكان الحشيش يغطي قصور الأمراء ومصطبات الخطابة في المدارس وكان الناس والكلاب ينجسون المحلات إلى حد يعجز عنه الوصف ولم يكن لأحد منهم منديل في جيبه وفي ذلك الوقت لم تكن الحدائق تخطر ببال أحد من أهل الممالك النصرانية ولكن في إسبانيا
العربية كان الناس من جميع الطبقات يبذلون الجهود والأموال في تجميل حدائقهم العطرة البهية وكانت الفسقيات تترقرق مياهها صعودا في صحون الدور والقصور والأماكن العامة ولا يزال في صحن الجامع الكبير في قرطبة حوضان كبيران جميلان من مرمر يزينان ذلك الصحن حيث كان كل مصلي يتوضأ قبل أن يدخل إلى المسجد ووصفهما "سكوت"في هذا الزمان فقال هذان الحوضان اللذان كانا من قبل متوضأ للمسلمين الغيورين من جميع الآفاق والآن يمدان بالماء سكان قرطبة النصارى ذوي المناظر القذرة والأخلاق السبعية والجهل العظيم بمزايا الشعب الطاهر العاقل المهذب الذي تنتمي إليه الذكريات الفاخرة من الفن والصناعة هذان الحوضان يشهدان شهادة مرضية بأن لا دوام للمدنية العليا وأن الإنسان دائما يميل بطبعه إلى التقهقر والرجوع إلى أحوال الهمجية ويشهدان بما لسلطة القسيسين من المقدرة على فعل الشر وأن سياستهم التي لن تجد لها تبديلا أسست على قاعدة احتقار مواهب عبيدهم العقلية وهذه العدد التي أعدها الخلفاء بفرط ذكائهم ظهر أثرها في زيادة خارقة للعادة في السكان على حين كانت جميع بلاد أوروبا لا يتضاعف سكانها إلا بعد مضي أربعة أو خمسة قرون ولم تنحصر عنايتهم الأبوية في حفظ الصحة والحياة فقط فمع كثرة النفوس المفرطة كانوا لا يرون أحد يصاب بمصيبة إلا نفسوا عنه الكرب وواسوه وهذا فيما لم يمكن اتقاؤه منها.
وكان يساعدهم على اتقاء النكبات اتخاذهم نظاما حسنا في استخدام البطالين في إصلاح الطرق والأشغال العامة وكان "عبد الرحمن الثاني"قد أعلن أن كل من يريد العمل يمنحه ودوائر العدل التي خلفتها محاكم التفتيش وغرف التعذيب كما أثبته المحققون كانت منزهة عن كل ريبة أو فساد وكانت المعارف والتعليم أحسن مما كانت فيه ممالك الروم ولم يكن يضاهيها إلا ما بلغه اليونانيون من المعارف العلية في أرقى أيامهم والخلفاء أنفسهم شيدوا المشافي (جمع مستشفى) ودور الأيتام كما كان يفعل ملوك اليونانيين ومنذ زال ملكهم زالت هذه المؤسسات في أوروبا وكان الأعيان والتجار لا يألون جهدا ما اقتفوا آثار الخلفاء في العمل بهدي القرآن في مثل هذه الخيرات وكان الخلفاء أنفسهم يعودون المرضى ويبحثون عن المكروبين لينفسوا كربهم والنساء اللائي كن نزلنا إلى دركة الخدم في بلاد أوروبا لكراهية القسيسين للزواج وإيثارهم العزوبة كن على خلاف ذلك عند المور مكرمات مالكات حريتهن والكرم إن لم نقل البذخ والسرف اللذان حلا محل التقشف والتعصب في دمشق انتقلا إلى الأندلس فكانا كافيين لحفظ مركز المرأة والعشرة الخشنة التي يعشر بها المسلمون المرأة كما هو مشهور عندنا لم توجد في الأندلس والنساء في القصر الملكي بقرطبة كن يساعدن الخلفاء في تدبير الأمور وكان طلب العلم مباحا لهن بكل حرية وكثير منهن كان لهن ولع شديد بالعلوم الرائجة في ذلك الزمن من فلك وفلسفة وطب وغيرها وكانت النساء يتبرقعن في خارج بيوتهن ولكنهن كن مكرمات وفي منازلهن كن مشرفات ومحترمات ولا حاجة إلى أن أتكلم في ظرف المور ولطفهم وشهامتهم لأنهم هم الذين طبعوا الشعب الإسباني طبعا لا يمحى أبدا على الاحترام الشخصي واللطف الذي لا يزال من خواصه المستميلة حتى في الصناع والفلاحين وهناك مزية أخرى يمتاز بها المور وهي التسامح الديني.
في أول الأمر كان هناك بلا شك شهداء يعني مقتولين لمخالفتهم الدين ولكن لا مناسبة بين ذلك وبين المذبحة التي عملها الإسبانيون أخيرا في ذرية المور.
وأما بعد استقلال المملكة العربية في الأندلس فإذا استثنينا معاملتهم لطوائف الثوار من النصارى كأهل طليطلة الذين كانوا على الدوام ينتظرون الخلاص من ناحية الشمال فقد كان أهل الأديان جميعا يعاملون بالحسنى وكانت على اليهود والنصارى فريضة مالية قليلة تخصم وكانوا يتمتعون بحماية حقوقهم فكثر عددهم وعظم بذلك الخرج الذي يؤخذ منهم.
وقد رخصوا لنصارى طليطلة في المحافظة على كنائسهم الكبرى ورخص لهم أن يبنوا عددا كثيرا من الكنائس وكانت لهم في طليطلة ست كنائس وكانوا مستمسكين بالعلاقات الودية مع جيرانهم حتى أثار فيهم القسيسون الضغينة الدينية وأما ما يخص اليهود الذين كانوا يتمتعون بعصرهم الذهبي حينئذ وارتقوا إلى أعلى درجة في العلوم ونالوا أعلى المناصب في دولة مور فسأتكلم عليه في فصل آخر.
وهذه النبذة المجملة في ذكر مدينة المور ستزداد وضوحا وتفصيلا عند الكلام على وصف حياة قرطبة وغرناطة ولا بد أن القارئ علم مما ذكرناه آنفا تفوق المدنية التي يزعمون أنها وثنية تفوقا خارقا للعادة ولا بد رأى أثرها في أوروبا المتوحشة وهذا صحيح لا يمتري فيه أحد من المؤرخين.
والمؤرخون لا يقابلون بين المور والنصارى لأنهم لو فعلوا ذلك لكانوا كالذي يقيس أهل "بوستون"- مدينة في إمريكا - بقبائل "إسكيمو"وذلك عجب عجيب.
قال "ستنلي لين بول"في شأن النصارى الذين فتحوا شمال إسبانيا كانت غزوات النصارى لعنة عظيمة على من يكون لهم فريسة وكانوا خشنا جاهلين أميين لا يقدر على القراءة إلا قليل منهم جدا ولم يكن لهم من الأخلاق إلا مثل ما لهم من المعارف يعني لم يكن لهم منها شيء وأما تعصبهم وقسوتهم فهو ما يمكن نتوقعه من الهمج البرابرة" ا-هـ.
ونكتفي بهذا القدر من صفة حال أهل أوروبا قبل فتح المسلمين لجنوب بلادهم وإقامة مدنية عظيمة أدهشت العالم وفتحت لأهله بابا ليخرجوا من ظلمات الهمجية والجهل إلى نور المدنية والعلم وقد اقتبس الأوروبيون من المسلمين الفاتحين المعلمين المهذبين قبسة من علومهم وآدابهم وكانت أساسا لنهضتهم ولا شك أن العلم والمدنية اللذين سبق إليهما المسلمون في الحجاز أولا حيث نزل القرآن وأشرق نور الإسلام ثم في دمشق والأندلس وبغداد ثانيا هما أعظم تقدم شهده العالم قبل نهضة الأوروبيين فالمسلمون أئمة العلم والحضارة والأخلاق لو تركوا ذلك التقدم ورجعوا إلى ما كانوا عليه قبل الإسلام لكانوا رجعيين مذمومين منتكسين خاسرين وكذلك الأوروبيون لو رجعوا من نهضتهم وتقدمهم إلى ما كانوا عليه في زمن نهضة المسلمين لكانوا رجعيين أشقياء مخذولين خاسرين ولكن الأوروبيين استمروا في نهضتهم من الوجهة المادية وقلت عنايتهم بالوجه الخلقية وقد بلغوا اليوم أوج المدنية والسعادة المادية ولا يزالون دائبين في طلب الكمال وإذا التفتوا إلى الوراء وشهدوا ما كانوا فيه من الجهل والظلمة اغتبطوا واستعاذوا بالله من ذلك العهد ولهم الحق في ذلك ولو أراد بعضهم الرجوع إلى تلك العصور المظلمة كما يسمونها هم أنفسهم لحكم عليه عقلاؤهم بالجنون وسفهوا رأيه واحتقروه وهو بذلك جدير أما المسلمون ومنهم العرب فإن معظمهم مسلمون وغير المسلمين منهم قليلون والحكم للغالب فقد أخذت علومهم ومدنيتهم في الجزر بعد ذلك المد العظيم منذ مئات السنين ولم يزالوا يرجعون إلى الوراء وينحطون من عليائهم حتى بلغوا أسفل سافلين وكانوا بالنسبة للأوروبيين كدلوين اختلفا صعودا وهبوطا فكلما تقدم الأوروبيون في العلم والمدنية اللذين اقتبسوها من المسلمين ازداد المسلمون توغلا وهبوطا في الجهل والتأخر اللذين اقتبسوهما من الأوروبيين ولا شك أن استمرارهم في هذه الحال لا يزيدهم إلا خبالا فماذا ينبغي لهم
أن يعلموا لاستعادة علمهم ونورهم ومجدهم؟ أيعودون إلى جهاليتهم الأولى يطلبون منها الخلاص ولا خلاص فيها؟ أم يعودون إلى جاهلية الأوربيين؟.
قال قائل لا هذا ولا هذا ولكن يقتبسون من الأوروبيين مدنيتهم الحاضرة ويعتبرون أنفسهم كأنهم خلقوا خلقا جديدا ويقطعون النظر عن الماضي خيره وشره قلنا لهم هذا تقليد ومحاكاة لا ثمرة لهما أبدا ولابد لكل بناء من أساس ولو أرادوا أن يفعلوا ذلك ما استطاعوا إليه سبيلا فإن الأوروبيين حين اقتبسوا العلم والمدنية من المسلمين لم ينسلخوا من تاريخهم وعاداتهم وعقائدهم ولو فعلوا ذلك لصاروا مسلمين وإنما أخذوا من أساتذتهم المسلمين ما كانوا في حاجة إليه حسبما بدا لهم ولم يتركوا شخصيتهم ولا جنسيتهم وبذلك بلغوا من الرقي ما هم فيه إلا أنهم أغفلوا جانبا من علوم الإسلام وهو ما يتعلق بالنفس وتزكيتها والصعود بها من دركات المادة الصماء إلى أوج السعادة الروحية.
وهذا الجانب الذي أغفلوه هو الذي سبب لهم ما هم فيه اليوم من الشقاء بالتخاصم والتنازع والتحاسد والتحارب وسعى كل فريق منهم إلى الاستئثار بأطايب الحياة وشهواتها وملذاتها وحرمان من سواهم من البشر وإذا كان آباؤنا قد سبقوا إلى العلم والنور والمدنية والأخلاق الفاضلة ورجعنا حن إلى اقتفاء آثارهم وإحياء علومهم لم نكن راجعين وإنما نحن متقدمون أحسن التقدم إلا إذا قلنا إن العلوم المدنية والحضارة قد وقفت في الحد الذي وصل إليه أسلافنا فيجب أن نقف عندما وصلوا إليه ولا نقتبس شيئا جديدا نافعا أبدا وحينئذ نكون جامدين ولا نستحق الحياة فبعض الكتاب من المسلمين المتهورين الذين لا يَزِنُونَ أفكارهم بل يهرفون بما لا يعرفون إذا سمعوا الأوروبيين يستنكرون عصورهم المظلمة ويسمونها رجعية ويستعذون بالله منها يقلدونهم في أقوالهم كالببغاءات ويحاكونهم في أفعالهم كالقردة ولا يعلمون الفرق بين ماضينا وماضيهم فإن ماضيهم كما قال علماؤهم ظلمات مدلهمة لا نور فيها أما نحن فبالعكس ماضينا علم ونور وحضارة مزدهرة وقوة وعز وسعادة فرجوعنا إليه هو عين التقدم ولا يتنافى ذلك مع اقتباس ما جد من العلوم والأعمال النافعة.
والحكمة ضالة المؤمن أما حاضرنا فهو كماضيهم ظلمات بعضها فوق بعض ولنا مثال آخر مع فرق سننبه عليه وهو الشعب الياباني فإنه اقتبس الحضارة الأوروبية وبلغ فيها شأوى يفوق أساتذته أو فاقهم مع المحافظة على مقوماته ومعنوياته ولا يتنازل عن شيء منها فماذا نقول في هذا الشعب أهو تقدمي أم رجعي؟ لا يستطيع أحد أن يقول هو رجعي فإنه في طليعة الشعوب المتقدمة وقد أصيب بهزيمة عظيمة في الحرب العالمية الأخيرة فلم تقضي عليه ولم توقف تقدمه ولا يزال هذا الشعب يقدس ملكه ويعتقد أنه ابن الشمس ويقوم بخدمته بطقوس لا تعقل ولم يضره ذلك ولا نقص تقدمه لأنه لا يخطو خطوة في طلب التقدم إلا بعقل ووعي ولا يحب التقليد أبدا.
لما كنت مقيما في برلين كنت أتردد على مطعم صيني أحيانا وكنت أراه مع اختلاف أطعمته عن المطاعم الجرمانية يشابهها في التأنق والزخرفة ويؤمه دائما الأغنياء من الأوروبيين الذين عاشوا مدة في الشرق وألفوا أطعمته بنسائهم وبناتهم وأولادهم وكثير منهم كانوا يأكلون الرز بالعيدان كعادة الصينيين إلا أنهم يشربون الحساء بدون صوت سواء منهم الشرقيون والغربيون كعادة الأوروبيين فإنهم يستنكرون الشرب بصوت وكان في ذلك الوقت في برلين ثلاثة مطاعم صينية وسمعت بمطعم ياباني فذهبت إليه لأوازن بينه وبين المطاعم الصينية فلم أر فيه شيئا من التأنق وكان صغيرا رأيت فيه نحو خمسة وعشرين آكلا كلهم رجال يابانيون ولا يوجد فيه إلا امرأتان اثنتان عجوز في المطبخ وأخرى توزع الطعام والذي استرعى نظري فيه وتعجبت منه هو شرب الحساء بأصوات منكرة تتجاوب أصداؤها فقلت في نفسي هؤلاء اليابانيون كلهم يقيمون في بلاد الجرمانية ويعرفون عادات الجرمانيين حق المعرفة وأنهم يستقبحون الشرب بصوت فقد رغبوا عن عاداتهم وتباروا في الشرب بأصوات عالية فما مقصودهم بذلك؟ أظن أن مقصودهم بذلك الاعتزاز بعادتهم مهما كانت لأنهم لم يسافروا إلى أوروبا بقصد تعلم آداب الأكل وأدب الشرب وأدب الرقص وأدب الغناء وما أشبه ذلك لأنهم يرون آدابهم أكمل الآداب ولا يبغون بها بديلا ولكنهم جاءوا لأغراض لا يمكن أن تحصل في بلادهم وفي ذلك عبرة للمقلدين.
هذا اليابانيون وثنيون يعبدون غير الله وهو نقص كبير في معنوياتهم وإهمال لتزكية أنفسهم وتوجيهها لما خلقت له ولما يرفعها ويسمو بها إلى الملأ الأعلى ويبلغ بها أعلى مراتب الكمال الإنساني ولكنهم لما تجنبوا التقليد في اقتباسهم علوم الأوروبيين وأخذوا منهم العلم على بصيرة واستقلال وبعقل وروية كما فعل الأوروبيون مع المسلمين أدركوا الثمرة نفسها التي أدركها الأوروبيين وهي السعادة المادية المنغصة بسبب إهمال النفس ولو أن اليابانيين هموا بالرجوع إلى ما كانوا عليه قبل مائة عام لكانوا سفهاء رجعيين ولزيادة الإيضاح أقول كيف كان العرب وسائر الشعوب التي أسلمت وحسن إسلامها قبل الإسلام وكيف صاروا بعد الإسلام؟.
الجواب أنهم كانوا قبل الإسلام من الوجهة الخلقية في أسفل الدركات يقتلون أولادهم من الفقر أو خوف الفقر والمراد من قتلهم من الفقر أن يكونوا فقراء فيقتلون من يولد لهم لعجزهم عن إعاشته بالتغذية وسائر ما يحتاج إليه والمراد بقتلهم خوف الإملاق أن يقتلوا الولد مخافة أن تفضي بهم حياته إلى الفقر في المستقبل ولذلك جاء في القرآن الكريم في سورة الأنعام151 {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} وفي سورة الإسراء 31 {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} وكانوا يئدون بناتهم أي يدفنونهم حيات وكانوا يعبدون التماثيل من الحجارة كما يعبدها كثير من البشر في هذا الزمان وكانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله وكانوا يستقسمون بالأزلام يضعون عيدانا في كيس قد كتب على بعضها أمرني ربي أن أفعل وعلى بعضها نهاني ربي أن أفعل وبعضها غفل لا كتابة عليه فيدخل الواحد منهم يده فإذا صادفت العود الذي فيه الأمر أقدم على عمله وإذا صادفت العود الذي فيه النهي أحجم عن عمله وإذا صادفت العود المهمل أعاد الاستقسام وكانوا يتيمنون ويتشاءمون بالطير يزجرون الطائر فإن طار إلى اليمين استبشروا وإن طار إلى الشمال تطيروا وخافوا.
وكانوا يخافون من الجن ويعوذون برؤسائهم أي يطلبوا الحماية منهم وكانوا يأكلون الميتة والدم ولا يورثون امرأة ولا صبيا بل كانوا يرثون النساء أنفسهن باعتبارهن أموالا وكان بعضهم يقتل بعضا على أتفه الأمور ويضيعون أموالهم في القمار والمنافرة وهي أن يتنافر اثنان للتفاخر فيعقر هذا بعيرا من إبله وينحر ويعقر الآخر مثله حتى تفنى إبل كل منهما وكانوا أشتاتا كل قبيلة لوحدها لا كلمة تجمعهم ولا عقيدة ولا دين ولا شريعة وكانوا أذلاء سكان القسم الشرقي تحت حكم الفرس وسكان القسم الغربي تحت حكم اليونان وسكان وسط الجزيرة كانوا فوضى ولم يحفظ التاريخ لوسط الجزيرة وغربها وشرقها حضارة تذكر أما أهل الجنوب فقد كانت لهم حضارة قضى عليها جيرانهم من الحبشة وأهل فارس فكيف صارت حالهم بعد الإسلام؟.
كل أهل العلم يعلمون أنهم صاروا أسعد الناس صاروا أئمة أهل الدنيا في الدين والدنيا وصاروا حكام العلم وقد رأيتم في هذا المقال شهادة العلماء الأوروبيين المنصفين لطائفة منهم وهذا أمر واضح لا يحتاج إلى إقامة دليل فهل الاعتزاز بهذا المجد والبناء عليه والتمسك به يعد رجعية؟ إن كان الأمر كذلك عند هؤلاء السفهاء فحيا الله الرجعية وحي عليها وأهلا وسهلا بها ألا ساء ما يحكمون.
ويقال لهؤلاء التقدميين المخدوعين أين تذهبون؟ أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ اهبطوا فقرا وذلة وشتاتا وجهلا وحزنا وشقاء فإن لكم ما سألتم وستضرب عليكم الذلة والمسكنة وتبوءون بغضب من الله زيادة على ما أنتم عليه ذلكم بأنكم تقتلون المصلين في المساجد وتشردون علماء الإسلام المصلحين فريقا حبستم وفريقا تقتلون والله عزيز ذو انتقام.
وما ظالم إلا سيبلى بأظلم
وما من يد إلا يد الله فوقها
الرجعية والتقدم في نظر الإسلام:
تقدم أن العقل الصحيح يرى التقدم في العلم والعدل وسائر الأخلاق الكريمة فكل أمة اتصفت بالعلم والأخلاق فهي متقدمة وإن كان قبل مليون سنة وكل أمة اتصفت بالجهل ومساوئ الأخلاق فهي متأخرة ساقطة مذمومة ملعونة وإن كانت ستجيء بعد خمسمائة سنة والإسلام دين العقل يوافق هذا ولا يخالفه أبدا فلا عبرة بالزمان ولا بالمكان قال الله تعالى في سورة النساء {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} .
تتمة التقدم والرجعية
قال الحافظ بن كثير: روى العوفي عن ابن عباس أنه قال: في هذه الآية تخاصم أهل الأديان فقال أهل التوراة: كتابنا خير الكتب ونبينا خير الأنبياء، وقال أهل الإنجيل مثل ذلك، وقال أهل الإسلام لا دين إلا الإسلام وكتابنا ينسخ كل كتاب ونبينا خاتم النبيين وأمرتم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم ونعمل بكتابنا، فقضى الله بينهم وقال:{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} وخير بين الأديان فقال: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِن} إلى قوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} .
وقد تبين لك أن الإسلام الصحيح الذي لم تخالطه العصبية والعقائد الخرافية يبني التقدم كله - روحيا كان أم ماديا - على أساس العمل النافع والاعتقاد الصحيح وإذا سمعت القرآن يقول: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} ويقول: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} .
ومثل ذلك فيه كثير فإنه لا يريد البتة أن تكون أمة متمسكة بالإسلام شقية في هذه الدنيا محرومة من جميع حقوقها مدوسة تحت الأقدام مخذولة في جميع تصرفاتها مهزومة في جميع حروبها مكبلة مخذولة خاضعة ذليلة تتكفف غيرها من الأمم طول حياتها ثم هي في الدار الآخرة سعيدة عالية الدرجة عند الله وافرة الحظ في دار الكرامة تدخل الجنة وتسعد برضوان الله فإن ذلك وهم وخيال قال تعالى في سورة الإسراء: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} قال القاسمي في تفسيره:
"ومن كان في هذه الحياة الدنيا أعمى عن الإهتداء إلى الحق فهو في الآخرة أعمى لا يرى طريق النجاة وأضل سبيله في الدنيا لأن له في هذه الحياة آلات وأدوات وأسبابا يمكنه الإهتداء بها وهو في مكان الكسب باقي الاستعداد ولم يبق هناك شيء من ذلك. قيل الأعمى حقيقة فيمن لا يدرك المبصرات لفساد حاسته ومجاز في أعمى البصيرة وهو عدم الإهتداء إلى طريق النجاة وقيل حقيقة فيهما فالأمة العمياء التي لا تبصر طريق النجاة والسعادة في الدنيا مع إمكان رؤيتها بالعقل الذي أعطيته وبإرشاد الله لها بالآيات البينات التي تدلها وتهديها طريق السعادة وتحذرها من طريق الشقاء فهي في الآخرة التي لا تملك وسائل للتوبة والتبصر والرجوع إلى الحق أشد عمى وأضل سبيلا لأنها في دار الجزاء وكانت من قبل في دار العمل فلم تزرع شيئا نافعا يمكنها أن تحصده في آخرتها وإنما زرعت أسباب الشقاء والشر فهي في الآخرة تحصد الندامة وبعبارة أخرى قد وعدها الله السعادة في الداريين إن أطاعته وعملت ما أمرت به وتركت ما نهيت عنه واتبعت رضوانه وأوعدها بالشقاء في الدارين إن عصت أمره وفعلت ما نهاها عنه واتبعت ما أسخطه والواقع في هذا الزمن أنها عصت الله وارتكبت ما نهيت عنه وعميت عن أسباب النجاة مع وضوحها فعاقبها الله في هذه الدنيا بالحرمان والخذلان والذلة والهوان وسيعاقبها في الآخرة عقابا أشد وستكون في الآخرة أشد أعمى وأبعد عن النجاة كما قال الله تعالى في سورة الرعد: {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} . وقال تعالى في سورة الطلاق: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ
يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رسولا يتلوا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً} .
المراد بالقرية هنا الأمة قال الحافظ بن كثير: "يقول تعالى متوعدا لمن خالف أمره وكذب رسله وسلك غير ما شرع مخبرا عما حل بالأمم السالفة بسبب ذلك فقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِه} .أي تمردت وطغت واستكبرت عن اتباع أمر الله ومتابعة رسله {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً} . أي منكرا فظيعا {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} . أي غب مخالفتها وندموا حيث لا ينفع الندم {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً} . أي أعد لهم عذابا شديدا أي في الدار الآخرة مع ما عجل لهم من العذاب في الدنيا.
ثم قال تعالى بعد ما قص من خبر هؤلاء: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَاب} . أي الأفاهام المستقيمة لا تكونوا مثلهم فيصيبكم ما أصابهم {يَا أُولِي الأَلْبَاب} ، {الَّذِينَ آمَنُوا} . أي صدقوا بالله ورسله قد أنزل إليكم ذكرا يعني القرآن كقوله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . وقوله تعالى: {رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ} قال بعضهم: {رَسُولاً} منصوب على أنه بدل اشتمال وملابسة لأن الرسول هو الذي بلغ الذكر، وقال بن جرير: الصواب أن الرسول ترجمة عن الذكر يعني تفسيرا له ولهذا قال: {رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات} أي في حال كونها بيِّنة واضحة جلية {لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} كقوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} .وقال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} . أي من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم.
وقد سمَّى الله تعالى الوحي الذي أنزله نورا لما يحصل به من الهدى كما سماه روحا لما يحصل به من حياة القلوب فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً} . قد تقدم تفسير مثل هذا غير مرة بما أغنى عن إعادته هاهنا ولله الحمد والمنة.
وقال تعالى في سورة النحل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . فأنت ترى أن الله تعالى وعد الذين يعملون الصالحات ويتمسكون بالإيمان أن يحيهم حياة طيبة في الدنيا ويجزيهم جزاء حسنا في الآخرة فإذا أحياهم حياة سيئة بالشقاء والحرمان فذلك دليل قاطع على أنهم عملوا السيئات وأن الله سيعذبهم أكثر مما عذبهم في الدنيا إذا عرف المسلمون ومنهم العرب هذه الحقيقة وجب عليهم أن يكونوا على يقين أن كل حركاتهم في هذه الأزمنة الأخيرة لا يزيدهم إلا خبالا ولا تكون عليهم إلا وبالا فيجب عليهم أن يبحثوا عن طريق جديد وجهة جديدة ولن يجدوها إلا في الرجوع إلى القرآن وقد تحديناهم نحن وأساتذتنا مئة سنة أن يجدوا سبيلا أخرى للخلاص فلم يجدها ولن يجدوها أبدا.
ومن ذلك تعلم علم اليقين أن السفهاء الذين يسمون الرجوع إلى القرآن والتمسك بالإسلام رجعية. هم شر رجعيين في العالم ولا تجد لرجعيتهم نظرا بين الرجعيات في هذه الدنيا وإذا تجرؤا وزعموا أنهم تقدميون فإن جميع أهل الأرض يلعنونهم ويسخرون منهم وذلتهم وفقرهم وجهلهم وحقارتهم شهودا عدول على كذبهم، أضف إلى ذلك طيشهم واستبدادهم وفقدان العدل والمساواة بينهم وإنهم فوضى يخبطون خبط عشواء في ليلة ظلماء، لا استقرار عندهم ولا أمن يثور بعضهم على بعض ويفني بعضهم بعضا كل ثائر يريد أن ينعم بالاستبداد والطغيان ولو مدة قصيرة ومع ذلك يمدحون الثورة ويجعلونها من القواعد المرغوب فيها لذاتها وإن لم يترتب إلا زيادة الشقاء والشتات والدموع والدماء لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون.
مقصود الأوروبيين والنصارى بالرجعية:
يرى الأوربيون النصارى أن التمسك بالأساليب التي أكل عليها الدهر وشرب وأقام الدليل على أنها خطأ رجعية مذمومة محالفة للشقاء الذي يزول حتى تزول تلك الأساليب، فمن ذلك الاستمرار على الجهر بما ينفع الناس في دينهم وأخلاقهم ومعاشهم وأرزاقهم، ومن ذلك التعصب للعقائد والأنظمة، فكل أمة تكون متفرقة فرقا عديدة لكل فرقة عقيدتها وكل فرقة تبغض من يخالفها في العقيدة من مواطنيها بغضا يحملها على عداوتهم والكيد لهم وآذاهم فهي فرقة رجعية، وإن كانت فرق الأمة كلها كذلك فالأمة كلها رجعية بعيدة عن التقدم والسير في طريق الفلاح لأنه ثبت بالبرهان القاطع عندهم أن الأمة لا تستطيع التعاون على ما فيه خيرها وسعادتها إلا إذا نبذت التعصب وساد فيها التسامح بين الفرق.
ومن ذلك التعصب للنظام كالجمهورية والملكية مثلا فكل شعب يتعصب لنظامه ويبغض كل من خالفه ولا يكفيه ذلك حتى يعاديه ويكيد له ولا يتعاون معه ولا يتبادل معه المصالح فهو شعب رجعي مذموم عندهم ولذلك تجد الشعوب المتقدمة الملكية كبريطانيا والدانمارك والسويد والنرويج وبلجيكا ولوكسمبورج وهولندا لا تبغض الدول الجمهورية لكونها جمهورية كالولايات المتحدة الأمريكية أو فرنسة أو سويسرة وجرمانية وإيطالية بل تتواد معها وتتعاون معها وتتبادل معها المصالح وكل فريق يترك للفريق الآخر الحرية فيما اختره لنفسه، ومن الأمثلة العجيبة في ذلك أن إيرلندة المستقلة اختارت النظام الجمهوري وخرجت على أمتها البريطانية، وكلهم يسكنون بلادا متصلة وينتسبون نسبا واحدا ولوشاءت بريطانية أن تتعصب وتكيد لإيرلندة كما يفعل الرجعيون لسحقتها في يوم واحد وأجبرتها على الانضمام لها ولكنهما تعيشان في سلام.
ومن ذلك التعصب للأساليب القديمة في الفلاحة والملاحة والصناعات، فلو وجد شعب يحرث على الدواب وعرضت عليه الجرارات العصرية فمنعه التعصب من قبولها لكان رجعيا مذموما محروما، ولو وجدت قرية تستضيء بالقناديل والزيت والفتل وعرضت عليها الكهرباء فرفضتها لكان أهلها رجعيين مذمومين.
وهكذا يقال في قرية يطحن أهلها بالأيدي فعرضت عليهم طاحونة بالكهرباء فرفضوها، وفي قوم يسافرون في البحر بسفن شراعية فعرضت عليهم البواخر التي تمخر البحار كأنها الأعلام وقس على ذلك فهذا هو الفرق بين الرجعية والتقدم عند نصارى أوروبا.
أما دراسة الدين في الجامعات وتخصيص كل جامعة عظيمة كلية عظيمة محترمة مكرمة لتعلم اللاهوت (ثيولوجي) وإقامة الصلوات في كنيسة الكلية وإيجاد أعمال دينية محترمة لهم في شعبهم وامتلاء الكنائس يوم الأحد بالمصلين والمصليات من التلاميذ والطلبة والأساتذة وعامة الشعب وحضور أساتذة الجامعة ومشاركتهم في الصلوات والاحتفال بتخرج عدد كبير من الأطباء كل سنة في تلك الكليات، وتبرع بملاين من الدولارات والجنيه لنشر النصرانية خارج أوروبا وأمريكا وبناء المستشفيات والمدارس والكنائس والإرساليات في آسيا وإفريقيا فلا يعدون شيئا من ذلك رجعية، ومن ذلك الحكم الاستبدادي الذي لا يستند إلى انتخاب ولا برلمان ولا مجلس شيوخ فإنهم يعدونه رجعية ولذلك ترى أكثر دول أوروبا وأمريكا تبغض نظام الحكم في إسبانيا وتشمئز منه، على أنهم ليسوا سالمين من التعصب الديني وإن كانوا يذمونه وقد عاشرتهم وخبرتهم فرأيت فيهم من التعصب الديني أشد التعصب حتى فيما بينهم كالبرتستانين والكاثوليكين وفيهم من يبغض الإسلام بلا سبب تعصبا للنصرانية، ولي على ذلك أدلة لو ذكرتها لطال الكلام.
(البقية في العدد القادم)
مثل قرآني
{
…
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأََمْثَالَ} .
الرعد /19
فدائيون
كان كعب بن الأشرف رجلا من طي وأمه من بني النفير وهو من زعماء اليهود بالمدينة آذى المسلمين وشبَّب بنسائهم وحاك المؤامرات لحربهم والقضاء عليهم، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اللهم اكفيني ابن الأشرف بما شئت"ثم قال: "من لي بابن الأشرف فقد آذاني"، فقال محمد بن مسلمة رضي الله عنه:"أنا لك به يا رسول الله". وفي ليلة الرابع عشر من ربيع الأول من السنة الثالثة من الهجرة توجهت السرية بقيادته واشتراك أبي نائلة سلكان بن سلامة وعباد بن بشر إلى قلعة بن الأشرف في ديار بني النضير حسب اتفاق سابق معه على رهن بعض السلاح عنده مقابل كمية من الطعام وكان قد طالبهم عدو الله برهن نسائهم وأبنائهم فرفضوا.
وعند القلعة استنزلوه إلى شعب العجوز (ويقع في غرب منها) وقتلوه فصاح صيحة سمعها أهل الحصون المجاورة من اليهود فأوقدوا المشاعل ليكشفوا عن العملية دون جدوى، ورجعت السرية من ديار بني أمية وحرة العريض ولما بلغوا بقيع الغرقد كبروا فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرهم وعرف أنهم قتلوا عدو الله فلما انتهوا إليه قال:"أفلحت الوجوه". قالوا: "ووجهك يا رسول الله". ورموا برأس كعب بين يديه.
ابن إسحاق| طبقات بن سعد |نهاية الأدب باختصار
الغزو الفكري
بقلم الشيخ ممدوح فخري
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية
لقد كان سقوط الخلافة الإسلامية وزوال الدولة العثمانية من أكبر الكوارث التي تعرض لها المسلمون في العصر الحديث وذلك أن هذه الدولة كانت تمثل المظهر الأخير من مظاهر قوة المسلمين وسيادتهم، وقد تضافر لذلك السقوط أسباب عديدة وعوامل شتى منها ما هو خارجي ومنها ما هو داخلي ومنها ما هو ذاتي، ولسنا بصدد تعداد هذه العوامل أو مناقشتها ولكنا نركز على عاملين مهمين منها كان لهما الدور الأكبر في انهيار الخلافة والنصيب الأوفر من تركتها وهما الكيد اليهودي من الداخل والغزو الصليبي من الخارج. أجل لقد التقى الدس اليهودي مع المكر الصليبي على تحطيم القوة السياسية والعسكرية للمسلمين والتي كانت متمثلة في الدولة العثمانية. ونحن نستدرك قبل كل شيء ونقول:
إن الخلافة العثمانية لم تكن خلافة راشدة بل لها عيوبها الكثير ولكن مع ذلك فإن إصلاح الخلافة خير من إسقاطها. وعلى أية حال فقد زالت الخلافة واختفى هذا المنصب من حياة المسلمين للمرة الأولى، وزال بذلك رأس هذه الأمة عن جسدها وبقيت بعده جثة هامدة لا تبدي حراكا وهان بالتالي على الكلاب أن تنهشها وعلى الأفاعي أن تنفث سمومها فيها. ولقد كان دور اليهود في هذا الصراع دور دابة الأرض التي أكلت منسأة سليمان وذلك باندساسهم في مراكز الدولة الحساسة بواسطة منظماتهم السرية وخلاياهم الماسونية ففتوا في عضدها ونخروا في عودها إلى أن أقوت، فلما جوبهت بعد ذلك بالغزو الصليبي لم تلبث أن انهارت وخرت. وفرح المجرمون يومئذ بنصرهم وفازوا بأمنية من أعز أمانيهم ألا وهو قطع الخيط الذي كان ينتظم المسلمين على اختلاف أجناسهم وألوانهم كما ينتظم الخيط حبات العقد وألسنتهم كما ينتظم الخيط حبات العقد ألا وهو خيط الخلافة المنسوج من روح الإيمان والأخوة الإسلامية. وبانقطاع ذلك الخيط تناثرت فرائد العقد وانتهبتها اللصوص وبترت أوصال الأمة الواحدة فأصبحت أمما، وقسمت أجزاء الوطن الواحد فأصبح أوطانا وتقاسيم القتلة تركة المقتول. وكان هذا كما قلنا من أكبر الكوارث التي ألمت بالمسلمين وذلك لما ترتب عليه من آثار بعيدة المدى كما سنرى شيئا منه في هذه الكلمة. وأما التخطيط والإحكام اللذين عمل على أساسهما أعداء الإسلام بعد هدم الخلافة فقد أعظم خطرا مما قبله وذلك ما أن دالت دولة الإسلام وزالت شوكته حتى سارع الأعداء إلى الأخذ بالأسباب البعيدة التي تحول دون عودة الإسلام إلى الحياة من جديد، هذا الدين العملاق الذي كان ظهوره خطر على الكافرين على اختلاف أنواعهم والذي أجلاهم عن الجزيرة العربية كلها واستخلص من أيديهم أجزاء شاسعة من آسيا وإفريقيا واقتحم عليهم ديارهم في أوروبا وراحت خيوله تنطلق برسالة التوحيد من المحيط إلى المحيط في فترة لا تزيد
على ربع قرن.
أجل لقد سارع أعداء هذا الدين إلى الأخذ بجميع الأسباب التي تبقيه صريعا وتضمن لهم السيطرة الدائمة على المسلمين وعلى بلادهم، ووضعوا لذلك مخططا رهيبا وسهروا على تنفيذه بدقة وإحكام إلى أن أتى جميع الثمار المرجوة منه. وسنحاول في هذه العجالة أن نلم بأبرز خطوط تلك المؤامرة الرهيبة التي استهدفت وجود المسلمين باعتبارهم أمة وأرضا وحضارة.
أولا: فكرة فصل الدين عن الدولة:
وهذا يعني باختصار إقصاء الدين عن الحياة والحيلولة بينه وبين أداء مهمته التي جاء لأجلها وسجنه في المعابد والأديرة والكهوف مع منعه من التدخل في شؤون الحكم والسياسة والاقتصاد والتعليم وسائر مرافق الحياة الحية وتفويض كل ذلك إلى مردة من الطواغيت الذين يتألهون على العباد ويستكبرون في الأرض ويسعون فيها فسادا ويستذلون الرقاب ويقيمون للناس شريعة الهوى والشيطان بدلا من شريعة الرحمن وهداية القرآن وينصبون من أنفسهم سدنة للدين الجديد الذي أتوا به. وقد كانت هذه الفكرة من أخطر ما جلبه الغزو الفكري إلى بلاد المسلمين فقد جاء الغزاة إلى الشرق المسلم وهم حديثو عهد بالتحرير من الطغيان البابوي الذي رزحوا تحت نيره زمنا طويلا وعانوا منه ما عانوا باسم الدين، واستطاعوا بعد صراع مرير إقصاء البابا ودينه من حياتهم ثم انطلقوا في الأرض وهم يحملون فكرة فصل الدين عن الدولة بمعنى أن الدولة سلوكها كله وفي جميع شؤونها الخاصة والعامة لا تسترشد بمبادئ الدين ومعتقداته ورجال الحكم والسياسة أحرار في تصرفاتهم بغير وازع أو رقيب من الدين والدين بحد ذاته لا يعدو أن يكون علاقة خاصة بين العبد وربه. وجاءوا إلى الشرق مزودين بهذه الفكرة ليجدوا في الشرق دينا عظيما يلبي جميع حاجات الإنسان في حياته الخاصة والعامة وينظم علاقته بربه وعلاقته بأخيه الإنسان. فكان هذا الدين بشموله وواقعيته وتكامل نظرته إلى الوجود أعظم عدو جابهوه لذلك
ولتستقر أقدامهم في أرض الإسلام لا بد من الحيلولة بين الإسلام والحياة وذلك بتشويه فكرة أبنائه عنه ومسخ مفهوم الدين في نفوس المسلمين وجعله رهبانية سجين الصوامع. وقد أشار إلى هذا المعنى رئيس وزراء بريطانيا (غلاديستون) في مجلس العموم البريطاني حيث قال وهو يشير إلى القرآن الكريم: "لا قرار لكم في مصر ما دام هذا الكتاب في أيدي المصريين". وفعلا نجحت مخططاتهم واستطاعوا أن يزيحوا الإسلام تلك العقبة العظيمة عن طريقهم وذلك بإيجاد أجيال من المسلمين يؤمنون كما أراد لهم أسيادهم بضرورة فصل الدين عن الدولة، ويطلقون بين الحين والآخر تلك الكلمة الخبيثة:"الدين لله والوطن للجميع"، والواقع أن الدين لله والوطن لله والكون كله لله فلا يجوز أن يكون فيه ما لا يرضي الله وهكذا أصبح أبناء المسلمين عونا على دينهم مع أعدائهم وحملوا عن الأعداء عبئا كبيرا في محاربة الدين حتى يتفرغ الأعداء للإفساد في مجالات أخر.
فكرة القوميات والعصبيات الجاهلية:
لقد أدرك أعداء الإسلام بأن قوة المسلمين تكمن في هذا الدين وفي اجتماعهم حول مبادئ هذا الدين وتمسكهم برابطة الأخوة الإسلامية التي تنتظمهم على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولذلك كان لابد من فصم عُرى هذه الأخوة التي تشد المسلم إلى أخيه وتكون منهم قوة رهيبة يحسب لها الأعداء ألف حساب على ما جاء في الحديث الشريف "مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر". وكانت فكرة القوميات هي البديل الجديد للأخوة الإسلامية، فانطلق أعداء الإسلام مع أُجَرَائِهم لإحياء العصبيات النتنة من قبورها وجمع رفاتها وبعث الحياة فيها من جديد بعد أن أماتها الإسلام من قرون. واستطاعوا أن يذكِّروا الناس بماضيهم الذي كانوا عليه قبل الإسلام وعملوا على بعث الحضارات الجاهلية البائدة وإحياء مظاهرها وتعظيم تلك المظاهر وعرضها عرضا مغريا يوحي بأصالتها وعراقتها، ونفخوا في الناس روح التقديس لتلك الرسوم البالية فانتسب الناس لآبائهم بدلا من الانتساب لدينهم ونسوا مفهوم قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ونسوا قوله تعالى في الحديث القدسي المأثور: "جعلت نسبا وجعلتم نسبا فقلت إن أكرمكم عند الله أتقاكم وقلتم فلان بن فلان، فاليوم أرفع نسبي وأضع نسبكم". ونسوا قوله صلى الله عليه وسلم: "الناس لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي ولا أبيض على أحمر إلا بالتقوى".
وهكذا وبهذه القوميات النتنة تفتت وحدة المسلمين وعادت الأمة الواحدة أمما شتى لا تربطها بأخواتها رابطة سوى الانتماء الاسمي إلى الإسلام، وفَقَدَ المسلمون بذلك أعظم سلاح في أيديهم بعد إيمانهم بالله، وهان على عدوِّهم بعد ذلك أن يفترس كل جماعة على حدة دون أن تنتصر لها الجماعة الأخرى.
فكرة الوطنية:
لا شك أن وحدة الوطن من عوامل وحدة الأمة وتماسكها ومن عناصر قوتها لذلك خطط الأعداء لتجزئة الوطن الإسلامي الواحد ولجعله أوطانا تفصل بينها الحدود والسدود المنيعة التي تحول دون التقاء الإخوة على غاية واحدة وتحت لواء واحد. وكان لهم ذلك، ووجدت دويلات وممالك وإمارات زائفة أراد لها الأعداء أن تكون فكانت. ولكن الأمر لم ينته عند التجزئة بل لا بد من التبرير والإبقاء على هذه التجزئة وذلك بربط الناس وشدهم إلى الأرض بعد أن قطعوا صلتهم بالسماء فكان لذلك هذا التغني بالأوطان وكان هذا التمجيد للأوطان وكان هذا التفاني في سبيل الأوطان، وغدا حب الوطن وسيلة لمرضاة الشيطان فالمسلم يحب وطنه ولا شك ويعتبر الدفاع عنه جزء من الدفاع عن دينه وكيانه وسيادته على أساس أن الوطن هو الأرض التي تقام عليها شعائر دينه ولا بد للدين من أرض ليستقر عليها وتطبق أحكامه ومبادئه فيها لهذا المعنى كان المسلم الذي يموت دون أرضه شهيدا وكان الدفاع عن الوطن حتما لازما. فالوطن لا يحب لذاته وإنما لأنه قد يكون وسيلة لمرضاة الله وذلك بإقامة الدين فوق أرضه، وأما إذا كان الدين غريبا في الوطن ما فالتعلق بذلك الوطن لمجرد كونه وطنا مظهر من مظاهر الوثنية والعصبية فالوطن بغير دين وثن. ولا يفهم من هذا بأن المسلم يتنازل عن وطنه بيسر وسهولة، بل يفهم منه أن المسلم لا يتمسك بوطنه إلا ليعبد الله على أرضه، وأنه يجاهد ليكون الدين كله لله في كل أرض الله في وطنه وغير وطنه.
فكرة العلمانية:
جاء الغزاة إلى الشرق المسلم ولما ينفضوا أيديهم بعد من ركام الكنيسة التي دمروها في أوروبا لتوهم وتحرروا بذلك من سلطان رجال الدين وأباطيلهم وأضاليلهم وخرافاتهم التي كانت تفرض عليهم باسم الدين والدين منها بريء فلما أثبتت التجارب والتقدم الفكري الهائل مناقضة آراء الكنيسة وأهوائها لحقائق العلم، وانجلى ذلك الصراع المرير بين الدين والعلم بهزيمة مروعة لدين الكنيسة صنف رواد النهضة العلمية أن الكنيسة في عداد الخرافات والخزعبلات والأوهام والأساطير التي لا تمت إلا الحقائق العلمية بصلة أخرجوها بذلك من مجال اليقينيات إلى مجال الشك والظنيات والتخيلات، وأفقدوها بذلك قداستها وجدارتها ومكانتها وهذا كله حق لا ريب فيه بالنسبة لجل آراء الكنيسة وأهواء رجالها، ولكنه بالنسبة للإسلام وهو وحده الدين الحق المحفوظ بحفظ الله باطل كله. وهذه مبادئ الإسلام جملة تثبت أمام التحدي العلمي الهائل مدى أربعة عشر قرنا ثبوتا رائعا مذهلا، بل لا يزيد التحدي والتقدم العلميان إلا رسوخا في قلوب المؤمنين به ولا تكون الكشوف العلمية إلا من جملة البراهين على عظمة هذا الدين. ولكن الغزاة وهم في غمرة انتصارهم على دين الكنيسة لم يكن لديهم استعداد للتمييز بين دين ودين، بل التهموا جملة الأديان وحاربوها جميعا، وكان على الإسلام الذي بارك العلم وأكبر العلماء وتعهد أكبر حركة علمية في التاريخ القديم ووضع أسس الحركة العلمية الحديثة، كان على الإسلام هذا أن يتحمل خرق رجال الدين لا من أبنائه أو في بلاده بل في أوروبا. ويتهم بما اتهمت به الكنيسة من محاربة العلم ومصادمة العقل. وكما أن النهضة العلمية والفكرية نشأت في أوروبا في ظلال الإلحاد فكذلك امتدت جذورها وفروعها إلى سائر البلاد وهي تحمل سمة الإلحاد والتنكر القاطع لكل ما لا يقع تحت التجربة ويخضع للحواس، ولا مجال هنا لمناقشة الملاحدة في تنكرهم لحقائق الدين الكبرى، ولكنها الإشارة إلى أن
الإلحاد هو السمة البارزة لحضارة اليوم وهو مظهر من أكبر مظاهر الغزو الفكري لبلادنا.
شعارات المدنية والحضارة والتقدم:
وكذلك من مظاهر الغزو الفكري لبلادنا وشبابنا التغني بالشعارات الجوفاء التي لا مدلول لها، وإطلاق الاصطلاحات الضبابية الفارغة والكلمات القاتمة الموهمة وجعل ذلك كله مبررا للتخلص من كل قديم مهما كان ذلك القديم خيرا نافعا. فكل قديم مناف للمدنية والتقدم وكل جديد هو الحضارة، وبناء على هذا المقياس فقد ترك الدين وهجرت الأخلاق ونبذت الفضائل، وتخلى الناس عن الأعراف والتقاليد الأصلية لأمتنا واستغني عن كل ذلك لأنه قديم وكل قديم ينافي المدنية والرقى، ولله در الرافعي حيث كتب على غلاف كتابه:((تحت راية القرآن)) وهو كتاب يبحث في المعركة بين القديم والحديث: إلى الذين يريدون تجديد اللغة والدين والتاريخ والشمس والقمر. يريد الرافعي أن يقول: لا يمكن التخلص من كل قديم. وليس كل قديم ضارا بدليل أن الشمس والقمر قديمان ولا يمكن الاستغناء عنهما وغيرهما كثير جدا. فإيجاد هذا النوع من التعرض بين القديم والمدنية والرقى ودون تمييز بين الضار والنافع أصبح مفهوما مركوزا في نفوس الخاضعين للغزو الجديد كمظهر من مظاهر هذا الغزو. مع أن جميع الفضائل قديمة.
الحركة النسائية وفكرة تحرير المرأة:
لم يكن يخفى على الغزاة ومريديهم أمر المرأة ودورها في الهدم والتدمير لذلك أولوها اهتمامهم الزائد وعنايتهم البالغة وبحّت حناجرهم وهم ينادون بتحريرها واسودت صحفهم وهم يطالبون بحقوقها وكأن الديانات ما جاءت إلا لترشد الناس إلى ظلم المرأة وهضم حقوقها، وجاءوا هم ليرفعوا عنها هذا الحيف الذي عانت منه أجيالا طوالا. وإذا أردت أن تكون موضوعيا ومحددا في مناقشة أحدهم ترى أن خلاصة شغبهم وصراخهم وعويلهم حول هذا الأمر لا يتجاوز تجريد المرأة من دينها وخلقها ثم من حجابها وثيابها. فالظلم كله هو أن تبقى المرأة متمسكة بدينها وخلقها وعفتها وطهارتها، مسبغة عليها حجاب الصون والعفة، والعدل كله أن تتحرر من كل ذلك. وكنتيجة طبيعية لانهزام المسلمين انهزموا أيضا في هذا الميدان وحقق الغزاة انتصارا مذهلا مروعا، وجردت المرأة من حليها في الظاهر والباطن فأبدت عورتها للناس وتبرجت تبرجا أشد من تبرج الجاهلية الأولى وانطلقت في الشوارع كاسية عارية مائلة مميلة تغري الناس بزينتها وتحرضهم على الرذيلة وتدمر كل شيء بإذن أسيادها وأساتذتها من الغزاة وعملائهم. فتحطمت الأسر وهدمت البيوت وشاعت الفاحشة في الذين آمنوا وقوضت أركان المجتمع الإسلامي وسرى الانحلال والانهيار في كل جوانبه، وكان للأعداء ما أرادوا.
تلك أبرز مظاهر الغزو الفكري في نظرنا وأما أهم وسائل هذا الغزو فهي ما يلي:
برامج التعليم: بعد أن استقر الغزاة في بلادنا رأوا أنهم لا قرار لهم في أرضنا ما لم يتبعوا غزوهم هذا بانقلاب فكري وغزو ثقافي فإن سيوف الغزو الثقافي أمضى بكثير من سيوف الغزو العسكري ولتحقيق هذه الغاية أحدثوا انقلابا جذريا في برامج التعليم ومناهج دور العلم ووضعوا مخططا جديدا يكفل لهم إيجاد أجيال من المسلمين تدين بدينهم وتقول بقولهم وتفعل بفعلهم ولا تَمُتُّ إلى الإسلام إلا بصلة الانتماء الاسمي في الوقت الذي تتنكر فيه للإسلام في العقيدة والسلوك. وكانت المدارس التي طبقت هذه المناهج نوعين: مدارس المبشرين التي تدار بواسطة الغزاة مباشرة ومدارس تدار بواسطة أذناب الغزاة تحت ألقاب إسلامية خادعة. وآتت هذه المدارس أكلها وأنبتت نابتة من المسلمين على أعين الغزاة وتحت سمعهم وبصرهم، فكانت كما أريد لها أن تكون متنكرة لكل تراثها الفكري والروحي والحضاري مكبرة ومجلة للغازي وحضارته وتراثه ورسالته. وبعبارة أخرى كانت هذه الأجيال الجديدة هي الهجين الذي أدخل على الأمة الإسلامية وليس منها. أجيال هي غربية عن هذه الأمة وعن عقيدتها وعن حضارتها وعن فكرتها وعن نظرتها للحياة والكون والإنسان. وزيادة في إحكام الخطة وحرصا على استمرار الحرب ضد الإسلام، فقد عهد المستعمرون الغزاة إلى هذا الجيل الذي رُبِّي في محاضنهم وغذي بلبانهم وأشرب قلبه حبهم وتقديسهم عهدوا إليه بإدارة البلاد ووضعوا مقدرات المسلمين وبلادهم تحت تصرف هؤلاء فكان منهم القادة والسادة ومنهم الوزير والأمير وتسرب الغزاة إلى دماء هؤلاء وعقولهم وأفكارهم وأصبحوا يحاربون المسلمين بهم ومن خلفهم، وتكفل هؤلاء المستعمرون الجدد من أبناء البلاد بتنفيذ مخطط أسيادهم وآبائهم الروحيين والسهر على تعاليمهم وأفكارهم في بلاد المسلمين وأصبحوا وسيلة لكل شر يريد الأعداء إلحاقه بالمسلمين وبعد خروج الغزاة الظاهرين المكشوفين من أكثر بلاد المسلمين أصبح هؤلاء الغزاة المقنعون
والمستترون من أبناء المسلمين هم العدو الأكبر لهذه الأمة لأنهم يقومون بدور العدو بمحاربة الإسلام وزيادة ويتفننون في ذلك بما لا يستطيع العدو الظاهر أن يفعله فجميع مظاهر الغزو الفكري تتمثل فيهم وجميع وسائله في أيديهم، بل حماة ذلك الغزو وحملته وطلائعه في بلاد المسلمين وعلى أيديهم يتوالى خروج المسلمين عن دينهم وارتداد أبنائهم، وتنشأ الأجيال الجديدة التي لا تعرف الإسلام إلا تاريخا مشوها. وينفذ مخطط الأعداء بحذافيره والذين درسوا في مدارس المبشرين والمستعمرين ونشأوا على مناهجهم، يضعون للمسلمين برامج ومناهج على غرار مدارس المبشرين والمستعمرين والحلقة متصلة هكذا. وانسلاخ المسلمين عن دينهم وخروجهم عن عقيدتهم وتنكرهم لحضارتهم مستمر هكذا أيضا.
وسائل الإعلام: ومما يلي برامج التعليم في كونها وسيلة من أكبر وسائل الغزو الفكري أجهزة الإعلام على اختلاف أنواعها من صحافة وإذاعة وتلفزة ودور عرض (السينما) . فإن الأيدي الخبيثة الأثيمة من أعداء الإسلام قد وضعت هذه الأجهزة في أيدي ربائبها وغلمانهما وصنايعها ممن لا يقلون حربا للإسلام عن أسيادهم، وهكذا أصبحت أجهزة الإعلام في معظم بلاد المسلمين كمخدر دائم يستعمل لصد الناس عن دينهم ولا دور لها إلا تحطيم المثل والقيم والأخلاق والتحريض المستمر ليلا نهارا على الفاحشة، وعلى مخالفة الآداب، وعلى ازدراء الفضائل والخروج على كل عرف صالح تعارفه الناس. والصنم الذي تعبده أجهزة الإعلام في معظم بلاد المسلمين وتدندن حوله وتسبحه وتقدسه، هو صنم الجنس فقلما تنشر كلمة أو تعرض صورة أو تذاع أغنية إلا وهي عن الجنس وللجنس وحول الجنس، والإلحاح المستمر حول هذا الموضوع في كل وقت ومناسبة وبكل وسيلة قد سد على الناس الطرق وألجأهم إلى الانغماس فيه إلجاء فإذا تناولت مجلة فصورها وأحاديثها تنطق بالفحشاء وتتحدث عن الحب وإذا فتحت المذياع فالأغاني الماجنة المائعة تصك آذانك بالعهر المذاب وتصلي للحب، وإذا نظرت إلى الرائي (التلفزيون) فهناك الحياة الحب والحب الحياة وكل شيء عن الحب شاخص أمامك وماثل بين يديك هذه هي الحقيقة والواقع بالنسبة لمعظم بلاد المسلمين التي وقعت فريسة في أيدي المرتدين من أبنائها والذين يستوردون المبادئ والعقائد والشرائع والتعليمات من الأعداء ثم ينفذونها بدقة وأمانة.
تنظيم القوى الكافرة والغازية والاهتمام بمراكز القوة: حتى يستمر تيار الغزو الفكري في اجتياحه لابد من الأخذ بالأسباب التي تبقي عليه وتضمن له النمو والازدهار وذلك باحتلال مراكز القوة كالجيش والحرص على أن لا تتسرب إليه روح مؤمنة والسهر الدائم على أن يكون حارسا أمينا للأفكار الدخيلة المناقضة للإسلام أو لثمار الغزو الفكري ثم تنظيم جنود الغزو عملائه في المنظمات حزبية تعمل على أسس مدروسة ومنسقة وتغزو جميع مرافق الدولة المهمة وتضمن بذلك الإشراف المباشر على سير الغزو وتطمئن على سلامة الخطة وحسن سير العمل وتنفذ تعاليمها بطريقة منظمة دقيقة يعرف فيها كل دوره في المعركة ومسؤوليته في العمل فلا تضيع التابعات ولا تفقد المسؤوليات.
هذه باختصار أهم مظاهر الغزو الفكري ووسائله، وقد عملت هذه الوسائل مجتمعة على إيجاد جيل الردة الذي قدِّر لنا أن نشاهده. أجل لقد تضافرت جهود هذه الوسائل على اقتلاع الإسلام من قلب أبنائه وعلى قتل روح الجد والرجولة والعمل في جموع شباب هذا الجيل، الذي يشكو من تمزق في ضميره واضطراب في تفكيره وصراع في نفسه وقلق قاتل في حياته كلها. شباب هذا الجيل تربة خصبة ألقيت فيها بذرة خبيثة فكان هذا النبات النكد وكان هذا الفصام وهذا الإزدواج في الشخصية بين الآثار الإسلامية في النفس وفي البيئة وبين بريق الغزو الجديد وزخارفه ومغرياته ومعطياته للنفس والهوى والشباب.
إن روح الحضارة الجديدة الخبيثة قد تلوثت فطرة الشباب المسلم وطمست معلمها النظيفة وانتزعت من قلبه مثله العليا وتعشقه للتسامي وأشواقه للخلود لتعطيه الإخلاد إلى الأرض والنزوع إلى سفاسف الأمور والركون إلى الشهوات والملذات والإنكباب على مراتع الرذيلة ومباذل الأخلاق، إن هذا الأفيون الذي جاء به الغزاة والمغلف بغلاف المدنية والحضارة جرد شبابنا من كل مقوماته وبنى له معبدا ضخما هائلا في تنميقه وتزيينه أمهر المهرة من الخبراء والفنيين ألا وهو معبد الجنس ووضع في داخله صنم يعبد وهو الحب، وراح يدعو إلى الدخول في الدين الجديد بكل ما أوتي من قوة وبكل ما يملك من وسائل جبارة حتى جعل الجنس كل شيء في حياة شباب هذا الجيل، هذا الشباب الذي يعاني ظمأ روحيا وسغبا نفسيا واختلالا كبيرا في السلوك بين متطلبات روحه وجسده. وبإفساد هذا الجيل على هذه الشاكلة ووضع المخطط لإفساد الأجيال المقبلة نال العدو منا كل ما يريد. وأكبر دليل على ذلك أن هذا الشباب المنخور المهزوز المتهالك على الملذات والأسير للشهوات حينما وضعه موجهوه وأسياده في مراكز القيادة والتوجيه عبث بمقدرات البلاد والعباد وأهلك الحرث والنسل، وأهدر الكرامات وانتهك الأعراض وصادر الحريات، وكان وجوده وصمة على الإنسانية، والحيف الذي تعرضت له البلاد على أيدي هؤلاء كان أعظم مما تعرضت له أيدي الصليبين والتتار.
تلك هي أهم مظاهر الغزو الفكري ووسائله، فعلى الذين لا يزالون على إيمانهم بالإسلام وولائهم له وانتمائهم الحقيقي إليه أن ينتزعوا هذه الوسائل من أيدي الغزاة الجدد ويجردوهم بذلك من سلاحهم الذي به يدمرون ويقضوا بالتالي على مظاهر هذا الغزو قبل أن تجتاحهم فلوله.
موكب
لما قدم عمر بن الخطاب الشام قدم على حمار ومعه عبد الرحمن بن عوف، فتلقاهما معاوية في موكب عظيم فجاوز عمر حتى أخبر به فرجع إليه فلما قرب منه نزل إليه فأعرض عنه عمر، فجعل يمشي إلى جنبه راجلا، فقال عبد الرحمن بن عوف لعمر:"لقد اتبعت الرجل"، فأقبل عليه فقال:"يا معاوية أنت صاحب الموكب آنفا مع ما بلغني من وقوف ذوي الحاجات ببابك"، قال:"نعم يا أمير المؤمنين". قال: "ولم ذاك؟ "، قال:"لأننا في بلد لا نتمنع فيه من جواسيس العدو ولابد لهم مما يرهبهم من هيبة السلطان فإن أمرتني بذلك أقمت عليه وإن نهيتني عنه انتهيت". فقال: "لئن كان الذي تقول حقا إنه رأي أريب وإن كان باطلا فإنه خدعة أديب وما آمرك به ولا أنهاك عنه". فقال عبد الرحمن بن عوف: لحسن ما صدر هذا الفتى عما أوردته فيه". فقال: "لحسن موارده جشمناه". العقد الفريد/ ح1
الإسلام والحياة
بقلم أحمد عبد الرحيم السايح من علماء الأزهر
2 -
القرآن والعقل:
من أوضح سمات القرآن الكريم، التي لفتت نظر الباحثين في القرآن من المسلمين وغير المسلمين، إشادة القرآن بالعقل وتوجيه النظر إلى استخدامه للوصول إلى الحقيقة، فقد دعا القرآن بطريق مباشر وغير مباشر، وصراحة وضمنا، وجملة وتفصيلا، إلى تعظيم العقل والرجوع إليه.
ويحرص القرآن على تأكيد هذا المعنى، حتى أنه ليكرر هذه الدعوة بشكل يلفت النظر ويثير الاهتمام.
ويشير القرآن إلى العقل بمعانيه المختلفة، مستخدما لذلك كل الألفاظ التي تدل عليه أو تشير إليه من قريب أو بعيد، من التفكر والقلب والفؤاد واللب والنظر والعلم والتذكر والرشد والحكمة والفقه والرأي، إلى غير ذلك من الألفاظ التي تدور حول الوظائف العقلية على اختلاف معانيها وخصائصها وظلالها، مما يعتبر إيحاءات قوية بدور العقل الإنساني وأهميته في الحياة. وهذه الألفاظ في مجموعها تكوّن دائرة واحدة يتصل معناها جميعا بالعقل ووظائفه في أوسع معانيه.
هذا وكلمة العلم التي وردت في القرآن في أربعين وخمسمائة آية ليس المقصود بها في القرآن علم الدين وحسب، وإنما يقصد بها كل علم نافع يرفع من قدر الإنسان وينمي مواهبه العقلية، ويجعله أكثر خبرة ومعرفة بأمور الدنيا واستفادة منها وإفادة بها.
أثر القرآن في تنمية القوى العقلية:
نزل القرآن بين العرب وباللغة العربية، وكان العرب عند نزول القرآن مختلفين في عقائدهم ومعتقداتهم اختلافا كبيرا، منهم المشركون عبدة الأصنام، ومنهم من كان يعتنق النصرانية أو اليهودية، ومنهم الأحناف الذين ترجع عقيدتهم إلى ملة سيدنا إبراهيم عليه السلام، ومن هؤلاء وأولئك من كان يتطلع إلى دين جديد ونبي جديد، ولكن لا يدرون من أي قبيلة سيكون ذلك النبي وبأي دين سيأتي.
غير أن رأيا عاما كان منتشرا بينهم وهو قرب مقدم النبي الذي تحدثت عنه الكتب السماوية وملأ خبره أرجاء الجزيرة العربية.
وقد حدثنا القرآن عن هذه الأنماط المختلفة من العرب وذوي العقائد المتباينة وخاطبهم جميعا ومنهم من كان ينكر الخالق ويقول: {مَا هِيَ إلَاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَاّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَاّ يَظُنُّونَ} .
ومنهم من كان يعترف بوجود الخالق ولكنه ينكر البعث ويقول: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} . وكان معتنقو الأديان الكتابية على خلاف فيما بينهم {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} .
وعلى الرغم من وجود هذه المعتقدات والآراء، إلا أن التاريخ لم يثبت أن هذه المعتقدات والآراء كانت تقوم على منهج عقلي أو فلسفي واضح ولم يتح للعرب أن يبلوروا هذه المعتقدات في فلسفة فكرية ذات قواعد ومنهج محددين، بل كانت قاعدتهم الفكرية هي قولهم:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} . وهذه القاعدة من شأنها أن تحجر على الفكر: النظر والبحث والتأمل، وبالتالي توقف النمو العقلي عن الوصول إلى الحقائق المتصلة بالإنسان والكون والحياة ماديا وروحيا.
ويمكن أن نقول: إن العالم الإنساني كان مغمورا بموجة طاغية من فساد الاعتقاد. بعضه يهيم في عماء الجهل والتقليد الأعمى، وعبادة الأهواء؛ لأن الوثنية التي كانت من مواريث الجهل والتبعية العمياء استحوذت على العقول والأفهام وبعضه يرسف في أغلال الحجر العقلي ومضلته، ويقي هذا الفساد مستحكما في هؤلاء وهؤلاء، حتى جاء الإسلام لإصلاح هذه الأوضاع الفاسدة، وتحرير الإنسان من هذه الأغلال الجاثمة على عقله وفكره. كانت مهمة القرآن هي العمل على إبطال القاعدة الخاطئة {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} . وتحرير الإنسان من أغلال الحجر العقلي، وسيطرة التبعية العمياء، وتربيته على حرية الفكر واستقلال الإرادة، ليكمل بذلك عقله ويستقيم تفكيره وتتهذب قواه.
فوجَّه القرآن الفكر إلى كل ما من شأنه أن يدعو إلى استعمال العقل والتدبر والتأمل حتى تزول تلك الحجب الكثيفة التي تحول بين العقل والرؤيا الصحيحة للأشياء، وليخلق أمة جديدة هي أمة القرآن العاقلة المفكرة الباحثة الدارسة التي تعلي من شأن العقل وتستخدمه في مختلف شؤونها، وتفتح أمامه آفاقا غير محدودة لاستكناه حقائق الوجود في هذا العالم الكبير.
ولقد اشتملت توجيهات القرآن العقلية على أصول ومبادئ عامة صلحت لأن تكون منهجا فكريا سليما حدد المسلمون موقفهم من مشاكل الكون والحياة، وبالتالي مكنت هذه المبادئ والتوجيهات المسلمين من الاستفادة من تلك الدرة الإلهية التي منحها الله للإنسان وهي:(العقل) فنمته وجعلته يمارس الوظيفة الأساسية التي خلق من أجلها.
طالَب القرآن كل ذي عقل بالنظر في عوالم السموات والأرض وما فيهما من الدلائل الواضحة كما في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَ رْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّه} ، {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض} ، {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} ، {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} ، {وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون} .
واستنهض العقول، ووجه الأفهام، وأيقظ الحواس، ونبه المشاعر، بالتعقيب على بيان الآيات الكونية والتشريعية بمثل قوله تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لأُولِي النُّهَى} ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} ، {وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ، {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} ، وبشر الذين يستمعون القول فينظرون إليه نظر البصير ويتبعون منه ما يدل على الحق ويرشد إلى طريق العلم والقوة.
ولم يكتف القرآن بهذا، بل ذم الغافلين، ونعى عليهم غفلتهم وإعراضهم عن الآيات الكونية التي يشاهدونها في كل لحظة وتطالعهم بدلائلها في كل آونة كما في قوله تعالى:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} ، {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأََنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} ، {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} .
وعاب القرآن على أسرى التقليد إعراضهم عن الحق وجمودهم على ما وجدوا عليه آباءهم كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} .
فالتقليد الأعمى من شر ما تبتلى به الأفراد والجماعات لأنه يميت مواهب الفكر والنظر ويوجب ركودها وجمودها.
والقرآن الكريم فوق هذا وذاك قرر حق الإنسان في حرية الفكر واستقلال الإرادة، وحرية الفكر التي جعلها الإسلام رائد للتفكير ونبراسا للعقول والأفهام؛ هي الحرية التي تطلق العقول الأفهام من أغلال الحجر العقلي والكبت الفكري، وتحررها من سيطرة التقليد والتبعية العمياء، وتجلي لها معالم الحقائق، وتجعل قيادة التوجيه قيادة بناء وإصلاح.
وزاد الإنسان ذلك بأن قرر تحرير الإنسان من أصفاد الجهل وظلمته؛ لأن الجهل يقتل مواهب الفكر والنظر، ويطفئ نور القلوب، ويعمي البصائر، ويميت عناصر الحياة والحركة والقوة في الأمم، ويفسد على الناس مناهج حياتهم.
فذم الجهل والجاهلين في مواطن كثيرة كما في قوله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّة} ، {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ، {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} ، {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} ، {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} .
وعاب الذين يتبعون الظنون والأوهام كما في قوله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنّاً إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} ، {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} ، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إلَاّ يَخْرُصُونَ} .
وعظم شأن العلم وحثَّ على طلبه والسعي إليه كما في قوله تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} ، {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} ، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"من سلك طرقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة"، "طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة".
ونوه بفضل الحكمة وما فيها من السمو والتألق والارتفاع كما في قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} ، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"لا حسد إلا في اثنتين: رجل أتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل أتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس".
ورفع منزلة العلماء وجعلهم أهل خشيته وقرن شهادتهم بشهادته تعالى وشهادة الملائكة كما في قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} ، {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} ، {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} .
وجعلهم ينابيع العلم وموارد المعرفة ورواد الحق كما في قوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ، {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إلَاّ الْعَالِمُونَ} .
القرآن ومعركة المصطلحات
بقلم الشيخ أحمد حسن المدرس بالعهد الثانوي
تخوض أمتنا معركة حاسمة في جميع مجالات الحياة، ولا سيما في ميدان الفكر والثقافة، حيث تستعمل في هذه المعركة كل أنواع الأسلحة الفتاكة، التي تهدف إلى بلبلة الأفكار، وإشاعة الفوضى والانحلال، والانسلاخ من العقيدة والتراث والتاريخ، والإتيان على بنيان هذه الأمة من القواعد..
ومن أخطر هذه الأسلحة، سلاح المصطلحات والشعارات، الذي طرحه الغرب [1] للتداول في عالمنا الإسلامي مع بدء الغزو الفكري، ولم يمضي كبير وقت، حتى شاعت هذه المصطلحات وذاعت بعد أن رددتها وسائل الإعلام، وعممتها الصحف والمجلات، وأقحمت في صلب المناهج والكتب الدراسية وأصبحت اليوم عملة دارجة، تطالعك بها الأغاني الشعبية، وأحاديث الدهماء، فضلا عن أنصاف المتعلمين والمثقفين، الذين يلهجون بذكرها - حين يستريحون وحين يسرحون - ليثبتوا للناس أنهم بلغوا الحلم، وآنسوا من أنفسهم الرشد! وتأتي خطورة هذه المصطلحات والشعارات، من أن كل مصطلح أو شعار، مرتبط ارتباطا وثيقا بشجرته الفكرية التي يمثلها، ويتغذى منها، ويعيش عليها، وبالتالي فهو حينما يطرح للتداول في مجتمع جديد، لا بد أن يحمل معه رصيده وفلسفته وتاريخه ولا بد أن يلقي بظلاله وإيحاءاته وقيمه في هذا المجتمع الذي يحسن استقبال الوافد الجديد - بحكم تقاليد الضيافة العربية - ويخلي له البيت، ويرفع من طريقه العقبات، وإيثارا لمبدأ التسامح الديني الذي عرفنا به!! ونتنازل - بسماحة حاتم - عن مصطلحاتنا وشعاراتنا، ليخلوا الجو لضيف الثقيل، الذي يبيض ويفرخ، ويستوطن ويستعرب، وعلى المصطلح الإسلامي أن يغادر أرضه وبلاده، ليعيش لاجئا ذميا في بلد آخر، أو يكتفي أن يعيش في زاوية ميتة من زوايا التاريخ علما بأنهم يلاحقونه حتى في مثل هذه الزاوية، ويلبسونه لباسا جديدا، ويفسرونه تفسيرا مشوها حتى
يفقد حرارته، ويخبو ضوءه، وتسكن إشعاعاته، ثم يضربون حوله ستارا حديديا يمنع الناس من الوصول إليه ويمنعه من أن يلقي إليهم بشهاب قبس أو جذوة من نار..
وتقوم المعركة داخل المجتمع، إذا شعر العقلاء بخطورة هذا المصطلح، حيث ينبهون الناس إلى حقيقته وأهدافه وأنه ليس صديقا زائرا، وإنما هو غازٍ، فاتح وعدو فاتك..
ويستنجد بالمصطلح بالطابور الفكري الخامس، الذي يهب للوقوف إلى جانبه، ويشهر سلاحا آخر من المصطلحات والشعارات، فهؤلاء الذين يحاربون المصطلح الجديد: رجعيون!! برجوازيون!! خونة!! عملاء!! رأسماليون!! ديمانموجيون!! ثيوقراطيون!! إمبرياليون!! ..إلى هذا المسلسل الأجنبي..!!
ويحفظ العوام والدهماء، و (البروليتاريا) هذه المصطلحات، من كثرة ترديدها، على مسامعهم، ويظنون أنهم إذا ما رددوها، قد صاروا في عداد العلماء، واجتازوا بذلك مرحلة الأمية، وأصبح بإمكانهم أن يتحدثوا للناس ويخطبوا في المجالس والاحتفالات، ويناقشوا في المراكز والمنتديات، ويقدموا لنا نظريات في بناء الدولة والمجتمع، ويقدوا الأمة بمفكريها وعقلائها إلى هذا الدرك الهابط والمستنقع الآسن، حيث يسود الجهل وينزوي العلم، وتنقلب القيم، وتختلط المفاهيم، فتضيع الحقائق وتنتشر الفوضى وينحل المجتمع، فيقتل الناس بعضهم بعضا، وتسود شريعة الغاب، فتطل الذئاب، وتنبح الكلاب وينعق البوم، ويسود الوجوم، ويسجل التاريخ نهاية أمة..
.. ومن هنا كان علينا أن ننتبه لخطر هذه المصطلحات فهي بمثابة الجسم الغريب الذي يدخل جسم الإنسان، فإما أن يطرحه على هذا الجسم، وإما أن يقتل هذا الجسم، أو يضعفه ويمرضه، وليس هناك حل وسط، ولا نستطيع نحن أن نقف في وجه هذه المصطلحات موقفا سلبيا فقط بل لابد من موقف إيجابي أيضا، بل هو الأصل الذي نعوِّل عليه، وهذا الموقف الإيجابي يعني أن نطرح مصطلحاتنا الإسلامية بقوة للتداول، ويفضل أن تكون المصطلحات مصطلحات قرآنية أولا قبل كل شيء، ذلك أن المصطلح القرآني، هو المصطلح الرباني الذي لا يوازيه أي مصطلح آخر من حيث الصياغة والمحتوى، أو من حيث الدقة والتحديد، أو من حيث الشيوع والذيوع، والاقتصار على المصطلح القرآني - إن وجد - يوفر علينا كثيرا من المشاكل التي تنتج عن المصطلحات الاجتهادية التي تختلف باختلاف المجتهدين والتي تؤدي إلى تعدد المصطلحات لمفهوم واحد، مما يضعف هذه المصطلحات، ويسلبها القوة والقدرة على الصمود في وجه المصطلحات الغربية، كما يؤدي إلى نوع من بلبلة في الأفكار واختلاط المفاهيم بين المسلمين أنفسهم..
ولا تزال أمتنا تعاني من كثير من المصطلحات - التاريخية - التي دخلت إلى تراثنا، ولم تكن مصطلحات قرآنية، مما أثار الخصومات والمعارك الكلامية التي قتلت وقت المسلمين، وشغلتهم عن الجهاد، وفرقتهم شيعا وطوائف، {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} .
وإذا أخذنا على سبيل المثال مصطلح (التصوف) .. هذا المصطلح الذي ليس قرآنيا والذي بدأ في العصر العباسي حينما أطلق على جماعة من الناس قاموا يحاربون الترف والنعيم الذي ساد الدولة العباسية، ويدعون إلى الزهد في هذه الدنيا الفانية.. ثم تطور ليعني طريقة في السلوك والتربية والأخلاق، ثم دخلته مفاهيم وأفكار هندية ونصرانية وأعجمية تخالف عقيدة الإسلام وأفكاره، ثم ليصبح بعد ذلك نظريات فلسفية تقول بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود.. ثم ليصبح طرقا متعددة لها أول وليس لها آخر، تملأ العالم الإسلامي، وكل واحدة منها تعتقد أنها الفرقة الناجية، وأن الحق لا يجاوزها، وتتهم غيرها بالانحراف والفسوق.. وعاش المسلمون فترة طويلة من تاريخها يتنابزون بالألقاب، ويأكل بعضهم لحم بعض وما تزال أثار هذه الحياة تلوِّن بعض أنحاء العالم الإسلامي..
فلو أننا عمدنا إلى مصطلح قرآني، لنطلقه على الحالة الأولى التي بدأت في العصر العباسي، وهي دعوة الناس إلى إيثار الآخرة على الدنيا، وتحذيرهم من الترف والنعيم، لم نصل إلى ما وصلنا إليه من نتائج وآثار، ما نزال نعاني منها حتى يومنا هذا.. ولو فتشنا في القرآن الكريم عن مصطلح لمثل هذه الحالة لوجدنا - مثلا - كلمة (الإحسان) يمكن أن تؤدي هذا المدلول، دون أن تدخل تلك الأفكار الغربية التي دخلت تحت كلمة (تصوف) .. ذلك أن الكلمات القرآنية يحدد معناها اللغة ويعطيها مفهومها القرآن، فلا مجال في ذلك للزيادة والنقصان، ولو حاولنا أن نتبيَّن مفهوم القرآن لهذا المصطلح (الإحسان) لوجدناه كما يلي: