المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 55-56 فهرس المحتويات 1- كلمة التحرير: للشيخ سعد ندا 2- افتتاحية العدد: - مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - جـ ٢٥

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌ ‌العدد 55-56 فهرس المحتويات 1- كلمة التحرير: للشيخ سعد ندا 2- افتتاحية العدد:

‌العدد 55-56

فهرس المحتويات

1-

كلمة التحرير: للشيخ سعد ندا

2-

افتتاحية العدد: لفضيلة الدكتور عبد الله بن عبد الله الزايد

3-

ملف خاص عن وفاة الملك خالد وتوليه جلالة الملك فهد

4-

{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} : للشيخ أبي بكر الجزائري

5-

والذين لايشهدون الزور: للدكتور جمعة علي الخولي

6-

النهي عن التطوع بعد الإقامة: للدكتور محمد ضياء الرحمن الأعظمي

7-

دراسة حول قول أبي زرعة الرازي ت 264هـ في سنن ابن ماجه: للدكتور سعدي الهاشمي

8-

مسلك القرآن الكريم في الاستدلال على وجود الله: للدكتور علي بن محمد بن ناصر الفقيهي

9-

مفهوم الأسماء والصفات: سعد ندا

10-

التحذير من المعاملات الربوية: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز

11-

دراسات في أصول الفقه إرساء أصل للاجتهاد في عهد النبوة (4) : للدكتور علي أحمد محمد بابكر

12-

خصائص العمران في المدن الإسلامية: للدكتور عبد المنعم حسنين

13-

مُقوِّمات الأمة: للشيخ محمد الراوي

14-

معجزات القرآن العلمية: للشيخ حامد حسين قدير

15-

الرسائل الحربية في عصر الدولة الأيوبية (1) : للدكتور محمد نغش

16-

نصيحة: للشيخ إبراهيم الراشد الحديثي

17-

فتح الإسكندرية: للدكتور محمد السيد الوكيل

18-

الحملات الحربية في عهد سليمان القانوني: للدكتور محمد حرب

19-

رسائل لم يحملها البريد: للشيخ عبد الرؤوف اللبدي

20-

صفحة لغة قل.. ولا تقل: للشيخ ضياء الدين الصابوني

21-

رثاء أهل البصرة في نكبة الزنج عام 257 هـ (وما أشبه الليلة بالبارحة) :

22-

الحكم على الشيء فرع عن تصوره: للشيخ محمد أمان بن علي الجامي

23-

حقيقة العبادة بين شريعة الله وشطط التصوف: للدكتور عبد الفتاح إبراهيم سلامة

24-

حُقوُقُ الإنسان بين مزاعم الحكام وشريعة القرآن: للشيخ محمد المجذوب

25-

الوصية المنسوبة للشيخ أحمد خادم الحرم النبوي الشريف: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز

26-

رابطة العلم الإسلامي تدعو إلى الوقوف في وجه الحملات التنصيرية عن طريق المراسلة:

جريدة المدينة

27-

170 ألف طالب يحفظون القرآن الكريم بالخلاوي السودانية

28-

أحداث الأرض المحتلة

29-

أخبار الجامعة: إعداد الشيخ محمود محمد سالم

عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م

ص: 379

كلمة التحرير

للشيخ سعد ندا

هكذا شأن الأمة المؤمنة: إن رزئت تذرعت بالصبر وضرعت إلى ربها ليربط به على قلبها، وإن أعطيت سارعت إلى الشكر ولجأت إلى ربها تسأله به من فضله أن يزيدها.

وهذا ما وصف الرسول صلى الله عليه وسلم به المؤمن، فعن أبي يحيى صهيب بن سنان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجباً لأمْرِ المؤمن، إن أمَرهً كلّه له خير، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن: إن أصابتة سرَّاء شكَرَ فكان خيراً له، وإنْ أصَابَته ضَرَّاءً صبَرَ فكانَ خيراً له" رواه مسلم.

وحين فجعت أمتنا المؤمنة بوفاة إمامها (خالد بن عبد العزيز) ، لم تسخط، ولم تقنط، رغم أنها حزنت وجزعت، بل استمسكت بالصبر وتشبثت به، وسألت ربها أن يربط على قلبها في فجيعتها، وابتهلت إليه أن يفسح لفقيدها في نعيم الجنات، وأن يرفعه فيها عالي الدرجات، لقاء ما قدم من جهود وتضحيات سخية بها نفسه، في ربوع الدنيا إلى الإسلام والمسلمين. فقد كانت حياته سجلا حافلا بالخير لأمته العربية خاصة وللأمة الإسلامية عامة بما لو سطر لحوى مجلدات. فجزاه الله عما بذل خير ما يجزي به المخلصين الصادقين.

وحين استجاب الله لهذه الأمة فأعطاها عوض الخير بجلالة الملك (فهد ابن عبد العزيز) ليكون- إن شاء الله- خير خلف لخير سلف. بادرت بحمد الله عز وجل وشكره على ما أولاها وأعطاها، وضرعت إلى ربها أن يبارك لها فيمن قيضه لقيادتها، وأن يلهمه أمر الرشد الذي يعز في ظله أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، وأن يسدد له - وولي عهده الأمين ومعاونيهم الصادقين- خير الخطى على هدى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ص: 380

وكم أسعدنا كثيرا أن نسمع ونقرأ في كل ما جرى في بيعة الملك فهد - أعزه الله بعزة الإسلام- أن تكون من المبايعين على الكتاب والسنة، إقتداء ببيعات الصدر الأول من الإسلام خير القرون. نسأل الله أن يجعل عهد الفهد عهد خير وبركة ومجد للإسلام والمسلمين في ربوع العالمين، وأن يكون ممن قال الله تبارك وتعالى فيهم:{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلله عَاقِبَةُ الأُمُورِ}

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله الكريم محمد وعلى آله وصحبه.

ص: 381

التحذير من المعاملات الربوية

لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز

الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن سار على نهجهم واهتدى بهداهم إلى يوم الدين- وبعد:

فقد كثرت الدعايات للمساهمة في البنوك الربوية في الصحف والمجلات المحلية والأجنبية وإغراء الناس بإيداع أموالهم فيها مقابل فوائد ربوية صريحة معلنة كل بحسب الفترة الزمنية التي يبقى فيها ما له مودعاً في ذلك البنك، ومن المعلوم من الدين بالضرورة أن الفوائد التي يأخذها أرباب الأموال مقابل مساهمتهم أو إيداعهم في تلك البنوك حرام سحت وهي عين الربا الذي حرمه الله ورسوله ومن كبائر الذنوب، ومما يمحق البركة ويفسد المال على صاحبه إذا خالطه ويسبب عدم قبول عمله، وقد صح عن رسول الله أنه قال:"إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَ اكُمْ} ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له"رواه مسلم.

وليعلم كل مسلم أنه مسئول أمام ربه عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه. ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن شبابه فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن ماله من أين جمعه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به".

ص: 382

واعلم أيها المسلم وفقك الله أن الربا كبيرة عظيمة من كبائر الذنوب التي جاء تحريمها في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بجميع أشكاله وأنواعه ومسمياته قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وقال تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ الله} وقال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى الله وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ الله الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَالله لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ الله وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} .

ص: 383

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول الله وما هن قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات"ومعنى الموبقات المهلكات. وقد عد الربا منهن. وقال صلى الله عليه وسلم: "الربا ثلاثة وسبعون حوبا أيسرها مثل أن يأتي الرجل أمه"وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: "هم سواء" وقال صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والتمر بالتمر والشعير بالشعير والملح بالملح مثلاً بمثل يداً بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء" رواه مسلم.

فهذه بعض الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تبين تحريم الربا وخطره على الفرد والأمة وإن من تعامل به وتعاطاه فقد أصبح محارباً لله ورسوله.

فنصيحتي لكل مسلم أن يكتفي بما أباح الله ورسوله وأن يكف عما حرمه الله ورسوله، ففيما أباح الله كفاية وغنى عما حرم وألاّ يغتر بكثرة بنوك الربا وانتشار معاملاتها في كل مكان فإن كثيراً من الناس أصبح لا يهتم بأحكام الإسلام وإنما يهتم بما يدر عليه المال من أي طريق كان وما ذلك إلا لضعف الإيمان وقلة الخوف من الله عز وجل وغلبة حب الدنيا على القلوب نسأل الله السلامة.

ص: 384

وهذا الواقع المؤلم من الكثير من المسلمين يوجب على المؤسسات الخاصة والجهات الرسمية وخواص التجار بأن يتعاونوا جميعاً على تعزيز المصارف الإسلامية التي بدأت تظهر في بلاد المسلمين وثبت نجاحها ولله الحمد وأن يعمل الجميع على تحويل البنوك القائمة اليوم إلى بنوك إسلامية تكون معاملاتها متمشية مع الشريعة الإسلامية وخالية من الربا بجميع أشكاله وصوره كما أني أَوجه نصيحتي إلى المسئولين في الصحف المحلية خاصة وفي صحف البلاد الإسلامية عامة أن يطهروا صحافتهم من نشر كل ما يخالف شرع الله في أي مجال من مجالات الحياة، كما آمل من الجهات المسئولة التأكيد على رؤساء الصحف بأن لا ينشروا شيئاً فيه مخالفة لدين الله وشرعه.

والله المسئول أن يوفق المسلمين عامة وولاة أمورهم خاصة للتمسك بشرعه وتحكيم شريعته وأن يأخذ بنواصيهم إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم وأن يجنبنا جميعاً طريق المغضوب عليهم والضالين إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

والسبب في ذلك

في حين أن عدد المسلمين في بدء الفتوحات الإسلامية لم يتجاوز عدد سكان بلد صغير من بلداننا الحاضرة، نرى المسلمين اليوم يقاربون المليار.

وأن أرضهم تحتل سرة العالم إذ تمتد من الصين إلى الأطلسي وتتمتع بمناخ معتدل صالح لجميع الفلاحات وتتحكم في جميع خطوط المواصلات العالمية براً وبحراً وجواً وتشتمل على معظم الأجناس البشرية وتحتوي على أنواع المعادن والمحروقات الضرورية لكل تصنيع.

ولكن هذه الكتلة الهائلة من الطاقات المدخرة ينقصها النضج والتبصير وتمزقها الأطماع الداخلية والخارجية والنزعات العرقية والنعرات القبلية والتكالب على السلطان، فإذا بها قوة متآكلة وبركان يغلي في مرجله وطاقات تحترق في الهواء وتذهب بخاراً ودخاناً.

ص: 385

والسبب الأساسي في ذلك التشتت الرهيب هو انحراف العقيدة وحب الدنيا والبعد كل البعد عن روح الإسلام والتعصب الأعمى للمذاهب واندساس المخربين العاملين ليل نهار على تحريف المعاني الصحيحة وتهديم الأركان الثابتة وزرع الشك والبلبلة في الأفكار. (جوهرة الإسلام)

ص: 386

دراسات في أصول الفقه

إرساء أصل للاجتهاد في عهد النبوة (4)

للدكتور علي أحمد محمد بابكر

أستاذ مساعد بكلية الشريعة

في حياة الرسول صلى الله عديه وسلم أقر مبدأ الاجتهاد الذي تندرج تحته الأصول الاجتهادية المتعددة، هذا المبدأ أقره القرآن وأقرته السنة ثم تبعهما بعد ذلك إجماع الصحابة رضوان الله عنهم في إقراره. فأمر الاجتهاد لم يكن أمراً مستحدثاً ابتدعته عقول الفقهاء، وإن كانوا قد بينوه وفصّلوا قواعده ومهدوا طريقه ودونوه في الكتب كعلم له معالمه وحدوده.

فالرسالة السماوية التي اشتمل عليها القرآن والسنة، والتي هي لصلاح الناس كافَّة كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (سبأ:28)

هذه الرسالة لابد وأن تشتمل على المبادئ والأسس التي عليها صلاح الناس في كل الأزمنة وكل الأمكنة.

وبما أن أحداث الحياة كثيرة ومتنوعة ومتجددة فلا بد من وضع مبادئ تستوعبها. فالنص على جزئيات حياة الإنسان في كل الأزمنة والأمكنة، في كتاب الله وسنة رسوله - وإن كان ممكناً من جهة الشارع- فإنه يصعب بل يستحيل استيعابه على الناس إن نص الشارع عليه، فالأجيال الحاضرة لا تستطيع استيعاب ما يستجد في مقبل الأيام مما لا يعنيها في حياتها لأنه لم يظهر في زمانها، كما وأن الأجيال التي مضت ربما يصعب عليها استيعاب كثير مما استجد في الأزمان التي تلتها. ولا يخفى أن الفائدة تقل إن لم تنعدم في اشتغال الناس بأمور وتفصيلات لا تعنيهم ولا تفيدهم، وكذلك لا تخفى صعوبة تكليف الناس بإدراك تفصيلات حالات أفراد البشر وأسمائهم وما يتعلق بتصرفاتهم كلها من أحكام على سبيل التفصيل لا على سبيل الإجمال، إذا شاء الله أن ينص عليها جميعها.

ص: 387

من أجل ذلك وضع الشارع عن طريق الوحي السماوي أسس ومبادئ وحدود الاجتهاد العقلي المستند على النصوص وروح الشريعة ليستنبط علماء الأمة أحكاماً شرعية للأحوال المستجدة في الأزمان المختلفة، تلك الأحوال التي لم ينص عليها رحمة بالناس ولطفاً.

وبتقريرنا أن القرآن والسنة قد وضعا أسس الاجتهاد العقلي وحدوده فإنه يصبح لا مجال لاستحداث أصول جديدة للفقه كما يتوهم البعض- فأصول الفقه كلها قد وضعت منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعن طريق الوحي- أما الاختلاف الذي وقع بين الأصوليين حول بعض وجوه الاجتهاد العقلي فقد وقع حول مدى احترام هذا الاجتهاد بعد تطبيقه على أفراد الحوادث، ومدى الإلتزام به بالنظر للجهة التي طبقت هذا المبدأ. وأيضا وقع ذلك الخلاف بين الأصوليين حول تسميات بعض وجوه الاجتهاد وما تشمله تلك التسميات كذلك وقع بعض الاختلاف عندما أَراد بعض الحائدين عن الجادة أن يتجاوزوا بالاجتهاد حدوده الشرعية، فوقع مع هؤلاء حوار ونقاش.

فلا يستطيع قائل أن يقول: بأن التفكير العقلي المجرد من اعتبار القرآن والسنة يمكن أن يكون أصلاً من أصول الشريعة. ولا يستطيع أخر أن يقول: إن رأي الشعب- أي عامة الناس ممن يجهلون الشريعة- يمكن أن يعتبر أصلاً من أصول الشريعة. اللهم إلا إذا كانت شريعة أرضية وضعية وليست شريعة سماوية، فلا ينبغي أن يؤخذ بقول الذين يدركون أطرافاً من الشريعة ثم يجهرون بأقوال دون الشريعة وأصولها هي في واقع الأمر أقوال تخرج عن دوافع المسلم الحادب على نقاء شريعة الإسلام من غير خلط لها بأخلاط القصور عن فهمها وفهم أسسها وقواعدها، أو خلط لها بأخلاط التقُّرب من الملل الأخرى التي تهدف لتذويب الإسلام وشريعته بين تضارب القوانين الوضعية.

دليل إرساء أسس الاجتهاد العقلي منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم:

ص: 388

فيما- يلي نورد بعضاً من الأدلة على أن الاجتهاد العقلي في الشريعة قد أقر مبدؤه وأرسيت قواعده وتبيَّنت حدوده واتضحت صورته في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن طريق الوحي وحده. وأنه لا زيادة على ما ثبت في عهد النبوة في أمر الاجتهاد. والأدلة التي سنوردها ستكون من القرآن الكريم ومن السنة النبوية. ثم نردف ذلك ببيان موافقة دليل العقل لذلك، ثم موافقة إجماع الصحابة بعد عهد النبوة على العمل بأصل الاجتهاد الذي ثبتت مشروعيته في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

دليل القران الكريم:

يقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (سورة النساء 59) . ويقول تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلاً} (النساء:83)

هاتان الآيتان من سورة النساء هما من أوضح الأدلة من القرآن الكريم في هذا المقام، وإن كان العلماء قد أوردوا آيات أخر للاستدلال على مشروعية الاجتهاد العقلي في شريعة الإسلام، لكن نكتفي بهاتين الآيتين لما أشرنا من وضوحهما في الدلالة ولتطابق بقية الآيات معهما فيما قصد الاستدلال بهما عليه.

ونورد فيما يلي نقاطا مستخلصة من هاتين الآيتين نخلص منها إلى بيان وجه الاستدلال:

ص: 389

أولا: يؤخذ من هاتين الآيتين أن المؤمنين مأمورون- في كشف تصرفاتهم- بطاعة الله تعالى بأن يتبعوا الأحكام المنزلة في كتابه الكريم، ومأمورون بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يتبعوا ما جاء في سنته المطهرة، ثم إنهم مأمورون أيضا باتباع أولي الأمر من المؤمنين مادام أولو الأمر يستمدون آرائهم وتوجيهاتهم وتصرفاتهم من الكتاب والسنة.

ثانيا: أن معنى أولي الأمر من المؤمنين يشمل أهل العلم والفقه في الدين وولاة المسلمين ما أطاعوا الله في الناس واتبعوا شريعته عن علم وورع.

وممن قال بأن المراد أهل العلم والفقه في الدين: جابر بن عبد الله ومجاهد وعطاء ومالك والضحاك وابن كيسان وغيرهم.

وممن قال بأن المراد بأولي الأمر الولاة أبو هريرة وعلماء آخرون [1] .

ثالثا: أن الأمر برد الأمور المتنازع فيها إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم هو أمر للمسلمين جميعا على مر العصور وليس أمرا خاصا بالمسلمين في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فحسب، وهذا يعني مشروعية الاجتهاد العقلي لرد الأمور المختلف فيها والتي لا نص فيها إلى القرآن والسنة بمعنى أن يحكم فيها بما يتفق مع الأهداف التي قررها المصدران. وليس المقصود بالرد استخدام الأحكام المنصوصة، لأن الأحَكام المنصوصة قد سبق الأمر بتطبيقها في قوله تعالى:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول} وبعد تطبيق النصوص إذا واجه الناس أمر غير منصوص على حكمه وتنازعوا عليه فعليهم رده على النصوص بقياسه عليها والحكم عليه بما يتفق مع مبادئ وأهداف الشريعة وإذا فسرنا المأمور به بأن يتبع الناس الأحكام المنصوص عليها لكان هنالك تكرار في الآية الأولى، حيث أن الأمر بطاعة الله وَرسوله- كما أشرنا- هو أمر باتباع نصوص القرآن والسنة فلو كان الرد أيضا باتباع نصوص القرآن والسنة لا القياس عليها لكان الأمر مكررا بصورة لا تستقيم مع بيان القرآن الكريم [2] .

ص: 390

ويؤيد هذا المعنى ما جاء في الآية الثانية: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} والاستنباط هو استخراج الحكم وبيانه بعد أن لم يكن موجوداً، والنصوص عليه موجود أصلا ولا يحتاج إلى استنباط أما غير المنصوص فهو الذي يحتاج إلى الاستنباط والقياس على ما نص عليه.

رابعا: أن الاجتهاد العقلي في الأحكام الشرعية مقصور على العلماء (الذين يستنبطونه) فيجب أن لا يمارسه الذين يجهلون الشريعة، وقد شنع بنفسه من قال: إن رأي الشعب يكون أصلا، من أصول الشرع ولعلنا نعقد فصلا خاصا بهذه المسألة.

خامسا: أن هنالك صفات وشروطا خاصة يجب أن تتوفر في العلماء الذين يقومون باستنباط الأحكام. لذلك لم يقل القرآن الكريم (لعلمه العلماء) ولكن قال: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} وهذا يعني الذين يجوز لهم الاستنباط هم أصحاب علم دقيق بالشريعة، ولقد لخص علماء الأصول هذه الصفات والشروط الخاصة، وسنذكرها في مكانها إن شاء الله مبينين مواطن الإتفاق والاختلاف فيها.

فليس أمر الاجتهاد سهلا يخوضه من شاء من غير تسلح بأدواته ولا استعداد ببلوغ درجته. وإن كان الأمر في قوله تعالى (فردوه) شامل لكل المكَلفين إلا أن الرد لابد من أن يكون عن طريق العلماء الذين تتوفر فيهم المعرفة الكافية بالشرع وتفصيلاته ومبادئه وأهدافه. وقد بينت هذا المعنى بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، كما بين ذلك تطبيق الصحابة رضي الله عنهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 391

والخلاصة أن هاتين الآيتين وأمثالهما من الآيات تدل على وجوب رد الأمور المتنازع فيها مما لم يرد في فيه نص إلى نصوص القرآن والسنة. وذلك الرد يكون عن طريق الاجتهاد العقلي بقياس ما لا نص فيه على ما ورد فيه نص، إما على حالات معينة مخصوصة أو على روح الشريعة التي بينتها النصوص. وبذلك تتعدد وجوه الاجتهاد وتتعدد تسميات هذه الوجوه من قياس ومصالحِ.. الخ، وهذا العمل الاجتهادي لا يقوم به إلا العلماء من ذوي المستويات العلمية الخاصة. ثم على عامة المسلمين أن يرجعوا في أمورهم إلى علمائهم الثقات.

ولقد كان لبعض علماء الأصول رأي آخر في الاستدلال بهذه النصوص القرآنية الكريمة على جواز الاجتهاد العقلي في الشرع، ويتلخص هذا الرأي في أن هذه النصوص القرآنية التي أوردناها وأمثالها مما أورده بعض علماء الأصول للاستدلال في هذا المقام لا تدل دلالة صريحة قاطعة على هذا المعنى. وكذلك رأوا أن الأحاديث النبوية المروية في هذا المقام - والتي سنورد بعضا منها في الفقرات التالية- هي أحاديث آحاد وأنها معارضة بأحاديث أخرى تمنع الاجتهاد العقلي وعليه فدلالتها على جواز الاجتهاد في الشريعة ليست قاطعة، لذلك لجأوا إلى اعتماد إجماع الصحابة وحده ليدل على جواز الاجتهاد العقلي في الشريعة، ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم اعتمدوا على مستندات كثيرة، منها ما اندرس ولم ينقل إلينا اكتفاء بما علموه ضرورة، ومنها ما نقل ولكنه كان نقل آحاد، ومنها ما نقل تواتراً لكن ألفاظه تحتمل التأويل، ومنها قرائن أحوال يصعب وصفها ونقلها فلم تنقل إلينا، فكان تطبيقهم الاجماعي للاجتهاد دليلا قاطعا في جوازه [3] .

دليل السنة على إرساء أصول الاجتهاد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ص: 392

لقد رويت أحاديث عديدة أوردها علماء الأصول لإثبات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه الصحابة رضوان الله عنهم أن يجتهدوا رأيهم متى لم يجدوا نصا من قرآن أو سنة يوضح حكم الحادثة. وأنه صلى الله عليه وسلم ذكر تعليلات لأحكام شرعية عديدة مشيرا بذلك إلى أن أحكام الشريعة تشتمل على علل وحكم (جمع حكمة) هي بواعث التشريع وأهدافه. فما انكشف للعقل من تلك البواعث يمكن أن تقاس عليه الحالات التي لم ترد فيها نصوص. وفيما يلي نورد بعضا من تلك الشواهد السنية، ثم نبين وجوه دلالاتها، ونبدي الملاحظات المتعلقة بها.

أولاً: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاذ بن جبل حين بعثه قاضيا على اليمن: "بم تحكم؟ " قال: بكتاب الله. قال "فإن لم تجد؟ " قال: فبسنة رسول الله قال: "فإن لم تجد؟ " قال: أجتهد رأيي ولا آلو. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله ورسوله".

ثانيا: روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن مسعود: "اقض بالكتاب والسنة إذا وجدتهما فإن لم تجد الحكم فيهما أجتهد رأيك".

ثالثاً: روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تعليله لأحكام عديدة. وهذا التعليل يشير إلى أن بعض الأحكام معقول المعنى من أجل فهم مقاصد الشرع والاسترشاد بذلك لإيجاد أحكام للحالات التي لم ترد فيها نصوص.

ومما ورد فيه تعليل رسول الله صلى الله عليه وسلم للحكم إباحته صلى الله عليه وسلم ادخار لحوم الأضاحي بعد أن كان قد نهى عن ذلك فقال: "كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة فادخروها".

وهناك نصوص كثيرة وردت من السنة تدل على إباحة استعمال العقل أو الرأي في الشريعة لاستنباط الأحكام عندما لا يوجد نص يحدد حكم الحالة المعنية.

ص: 393

ولا يقدح في دلالة هذه النصوص السنيَّة أن نصوصا سنيَّة أخرى عارضتها في ظاهرها حيث جاءت تمنع استعمال الرأي في الشرع، فالتوفيق بين النصوص المبيحة لاستعمال الرأي والمانعة لاستعماله ممكن بحيث تقبل جميع هذه النصوص المبيحة والمانعة، هذا إذا لم نتعرض لتضعيف بعضها.

وجملة الملاحظات التي يمكن أن نبديها حول هذه النصوص السنيّة المجيزة لاستعمال العقل في الشرع تنحصر فيما يلي:

أولاً: أن ما أوردناه من شواهد من السنة النبوية وإن كانت من أخبار الآحاد إلا أنها تضافرت كثير من الشواهد الأخرى من السنة فأكدت تجويز السنة استعمال الرأي في الشريعة عند الضرورة، أي عند عدم وجود النص في الحادثة وقد تلقى أكثر العلماء هذه الأحاديث بالقبول واستشهدوا بها في هذا المقام.

ثانياً: الأحاديث التي أوردها المعارضون لاستعمال الرأي في الشريعة- على افتراض صحتها- لا تنهض دليلا على منع استعمال الرأي في الشريعة، وذلك أن هذه الأحاديث وردت في ذم استعمال الرأي القائم على الهوى أو المعارض للنصوص أو القائم على الجهل. وهذا النوع من الرأي مرفوض عند الجميع، فالذين جوزوا استعمال الرأي في الشرع لم يجوزوه على إطلاقه بل جوزوه بقيود حيث لا نص ولا تعارض مع النص ولا هوى ولا جهل هذا بجانب وجود الضرورة الداعية لإيجاد الحكم.

ثالثاً: هذه الأحاديث النبوية التي أوردناها وما ورد في معناها تجيز استعمال الرأي بوجوهه المختلفة المشروعة التي تعرض لبيانها علماء الأصول في كتبهم من قياس ومصالح وغيرها.

ونحن لا نرى ما يرى بعض العلماء من أن الأولى عدم الاستدلال بهذه الأحاديث على جواز الرأي طالما أنها معارضة بأحاديث أخرى تنهي عن استعمال الرأي في الشرع، بحجة أن جميعها أخبار آحاد ولا يمكن ترجيح طرف على الآخر. فكما أوضحنا في السطور السابقة فإن التوفيق بين النوعين من الأحاديث ممكن، فلا معنى لاطراحها وترك الاستدلال بها.

ص: 394

لا يتعارض الاجتهاد مع تمام الدين وشمول الكتاب:

بحث المعارضون للاجتهاد في الشريعة عن كل دليل نصيّ أو عقلي للبرهنة على صحة قولهم، ولقد أشرنا إلى ما أوردوه من نصوص السنة المعارضة وأوضحنا كيفية التوفيق بينها وبين النصوص المجيزة.

ونود هنا أن نتحدث عن بعض الآيات التي أوردها المعارضون للاجتهاد لدعم رأيهم، فمن هذه الآيات التي أوردوها [4] والتي تعتبر من أقوى استدلالاتهم القرآنية قوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} (المائدة:3) وقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل: من الآية89)

أما الآية الأولى، وهي آية المائدة، ففي تاريخ نزولها قولان:

القول الأول: أنها آخر آية نزلت من القرآن الكريم. وعلى هذا القول فكمال الدين يعني ورود تمام مبادئه في الكتاب والسنة- والكتاب والسنة قد اشتملا على جواز الاجتهاد العقلي. فلا تناقض بين هذا المعنى وجواز الاجتهاد في الشرع.

القول الثاني: في تاريخ نزول الآية هو: أنها لم تكن آخر آية نزلت من القرآن، بل نزلت بعدها آيات وشرعت أحكام مثل آيات الكلالة والربا [5] . وعلى هذا القول فإن كمال الدين قطعاً لا يعني ورود كل تفاصيل الدين في القرآن والسنة بدليل ورود أحكام بعد نزول تلك الآية. وعليه فتفسير الآية هو أن كمال الدين يعني نزول معظم الأحكام الشرعية التفصيلية ونزول أصول الأحكام ومبادئها- حتى إذا نزلت أحكام بعد ذلك تكون مبنيّة على تلك الأصول.

فعلى كلا الرأيين في تاريخ نزول الآية فإن المقصود من كمال الدين هو تضمن القرآن والسنة لأصول الشرع ومبادئه ودلالتهما على جواز الاجتهاد العقلي في ميدان الشرع، وتوجيههما لوسائل الاجتهاد وشروطه.

ص: 395

أما الآية الثانية وهي آية النحل وهي قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} فإن هذه الآية والآيات الأخرى التي تحمل نفس المعنى مثل قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء} (الأنعام:38) ، فإنها تدل على أن ما جاء في الكتاب الكريم هو بيان شامل للأحكام ولطريق الشرع، لكن هذا البيان قد حدث بأكثر من أسلوب. وهذه الأساليب تتلخص فيما يلي:

أولاً: في دلالة ألفاظ القرآن دلالة مباشرة على الأحكام، مثل قوله تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (المزمل:20) . وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (المائدة:90) . ففي هاتين الآيتين دلالة مباشرة على وجوب الصلاة والزكاة وتحريم الخمر والميسر والأنصاب والأزلام.

ثانياً: دلالة ألفاظ القرآن الكريم دلالة غير مباشرة على الأحكام وذلك بواسطة الاستنباط والاجتهاد العقلي القائم على مبادئ الشرع والمندرج تحت أهدافه. وهذا الاجتهاد العقلي قد دل على شرعيته القرآن الكريم نفسه. وكانت دلالة القرآن الكريم على مشروعية الاجتهاد بطريقين:

الطريق الأول: دلالة القرآن الكريم على مشروعية الاجتهاد والاستنباط بألفاظ تعطي هذا المعنى مباشرة، مثل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول} (النساء: 59) . وقوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم} (النساء: 83) .

ص: 396

فقد فهم العلماء من هاتين الآيتين ومثيلاتهما أن القرآن يوجه إلى رد مسائل التنازع التي لا نص على حكمها -ردها- إلى القرآن والسنة عن طريق استنباط علل الأحكام التي نص عليها في المصدرين ثم القياس بواسطة هذه العلل المستخرجة على الأحكام المنصوصة.

الطريق الثاني: لدلالة القرآن على مشروعية الاجتهاد العقلي هو أمره باتباع السنة النبوية واتباع إجماع المسلمين، والسنة النبوية وإجماع الصحابة رضوان الله عنهم قد دلا على جواز الاجتهاد في الشرع، فآية سورة النساء المذكورة في السطور السابقة والتي ورد فيها:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} . وقوله تعالى في آية أخرى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء:115) .

ص: 397

فهاتان الآيتان وما شابههما من آيات في القرآن الكريم تدل على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يكون ذلك إِلا باتباع ما جاء به من سنة، وتدل هذه الآيات أيضا على وجوب اتباع سبيل المؤمنين والذي فسّره كثير من العلماء بأنه طريق إجماع المسلمين. وإذا لم يسلم بعض العلماء هذا التفسير فإن السنة التي دل على وجوب اتباعها القرآن الكريم دلت على وجوب اتباع الإجماع فالرسول عليه السلام يقول:"أمتي لا تجتمع على الخطأ" ويقول صلى الله عليه وسلم : "أمتي لا تجتمع على الضلالة"، ويقول:"من سره بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة". وقد وردت أحاديث أخرى كثيرة موافقة لهذه الأحاديث في معناها توضح تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم لرأي جماعة المسلمين وتوجيهه للمسلمين بأن يلتزموا رأي إجماعهم وإجماع المسلمين هو إجماع علمائهم الذين يعرفون نصوص الشريعة ويفهمون مراميها. وهم الذين أشار إليهم القرآن الكريم في الآية المذكورة في الأسطر السابقة {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} .

وهذه الأحاديث الكثيرة ذات المعاني المتطابقة رواها جماعة من كبار الصحابة مثل: عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وأبي سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وعبد الله ابن عمر، وحذيفة بن اليمان. وهي وإن كانت أخبار آحاد لكنها كانت مشهورة بين الصحابة رضوان الله عنهم معمولاً بها، لم ينكرها أحد. فحدث بها علم ضروري بأن أمة المسلمين لا تجتمع على ضلال.

ثم إن الصحابة رضي الله عنهم قد أجمعوا على اتباع الإجماع متى ما وجد وتحقق، حيث إن كبارهم أمثال أبي بكر وعمر كانوا لا يحيدون عما اجتمع عليه علماؤهم، أما قبل اجتماع علمائهم وانعقاد إجماعهم على حكم فلكل منهم أن يبدي رأيه وأن يتمسك به كما تمسك أبو بكر بقتال أهل الردة.

ص: 398

فالسنة النبوية وإجماع المسلمين الذين دل على وجوب اتباعهما القرآن الكريم، قد دلا بدورهما على جواز الاجتهاد العقلي في الشرع فيما لم يرد فيه نص فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما أرسل معاذاً إلى اليمن قاضياً أقره على أن يجتهد رأيه إذا لم يجد نصاً. وكذلك وجه صلى الله عليه وسلم ابن مسعود بأن يجتهد رأيه إذا لم يجد الحكم في الكتاب والسنة كما أوضحنا ذلك في الصفحات السابقة [6] .

أما الصحابة رضوان الله عنهم فقد نقل عنهم الإجماع على العمل بمبدأ الاجتهاد العقلي. ونقلت عن كثير من أفرادهم أحكام شرعية متعددة اعتمدوا فيها على الاجتهاد. فقد نقل عنْهم عدم إنكارهم على من اجتهد منهم برأيه فيما لم يرد فيه نص. أما الاجتهاد الذي أنكروه فهو الاجتهاد المتعارض مع النصوص الثابتة أو الاجتهاد الصادر عن الجهل من الذين لا يفرقون بين ما ورد في حكمه نص وما لم يرد فيه نص.

ومن أمثلة عمل الصحابة رضي الله عنهم بالاجتهاد العقلي المبني على مبادئ الشريعة وأهدافها، اجتهادهم في تحديد مدلول قول من قال لزوجته:(أنت عليّ حرام) فقد قال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما : إن مدلول هذا القول يمين تجب فيه كفارة اليمين. وقال علي وزيد رضي الله عنهما : هو طلاق ثلاث. وقال ابن مسعود رضي الله عنه هو طلقة واحدة. وقال ابن عباس وبعض من الصحابة: هو ظهار، وقالوا تجب فيه كفارة الظهار وتلزم فيه أحكامه.

وقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم على عدم إنكار النظر في هذه المسألة بالاجتهاد لعدم ورود نص فيها.

ص: 399

ومن أمثلة اجتهادات الصحابة رضي الله عنهم العقلية ثم إجماعهم على الحكم الذي توصلوا إليه باجتهادهم التشريك بين الجدتين أم الأم وأم الأب في الميراث بعد أن كان أبو بكر قد ورث أم الأم وحدها وحرم أم الأب. فقال له بعض الأنصار لقد ورثت امرأة من ميت لو كانت هي الميتة لم يرثها، وتركت امرأة لو كانت هي الميتة ورث جميع ما تركت، فرجع أبو بكر عن اجتهاده وشرك بين الجدتين في السدس [7] .

فهذه الأدلة التي أوردناها من السنة وإجماع الصحابة والتي تدل على جواز العمل بالاجتهاد العقلي في الشريعة، هي في الواقع دلالة من القرآن الكريم نفسه على جواز العمل بالاجتهاد. فالقرآن الكريم دل على وجوب اتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى وجوب اتباع إجماع المسلمين، كما دلت السنة أيضا على وجوب اتباع الإجماع، وبناء على ذلك فما ثبت من أحكام شرعية عن طريق القياس ووجوه الاجتهاد الصحيحة الأخرى تعتبر أحكاما شرعية لا تخرج عن مضمون ما ورد في الكتاب الكريم. وبذلك يتضمن قوله تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} وقوله تعالى: {تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} وقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} يتضمن ذلك ما توصل إليه بالاجتهاد السليم من أحكام فقهيه. ولا يكون الاجتهاد القائم على الأسس الشرعية أمراً مخالفاً لكتاب الله كما زعم الزاعمون.

ص: 400

ولكن هنالك ملاحظة مهمة نشير إليها هنا إجمالاً وربما نعود عليها بالتفصيل إن شاء الله في مكان آخر من هذا البحث، تلك هي أن الاجتهاد العقلي في أحكام الشرع ليس وردا مشاعاً يرده كل من هب ودب. وليس ميداناً يستنسر فيه من يشاء ويطل من على جداره من يحبو على عتبات العلوم الشرعية. وليس قناة تلقين لمن يتطاولون بنتف العلوم ومختصرات الكتب. وليس الاجتهاد ميسراً لمن يعجز عن فهم كتب التراث فيصفها بالتعقيد والركة والغموض وقلة الفائدة ويصف المكتبة الإسلامية بأنها خالية! فمن لم يفهم القديم فلا جديد له. ولا يقوم البناء من غير أساس. وليس الاجتهاد في الشريعة من الأمور التي يمكن أن يقوم بها من يحمل ثقافة عامة أو تخصصاً في العلوم التطبيقية فحسب أو تخصصاً في القوانين الوضعية فحسب أو يحمل ثقافة إعلامية فحسب كما يظن البعض.

إنما الاجتهاد في الشرع أمر شرعي يتطلب عقيدة سليمة وأمانة إسلامية ومعرفة بالقرآن والسنة وبلغة القرآن ومعرفة بالتراث الأصولي والفقهي وما يتصل بهما ذلك التراث الذي خلفه لنا السلف الذين نقلوا لنا القرآن والسنة ونقلوا لنا تفسيراتهما. والاجتهاد يتطلب إدراكا لمبادئ الشرع وأهدافه ويتطلب وعْيا تاما حتى لا تفوت عليه شاردة كما يتطلب الاجتهاد إحاطة بوسائل وأدوات لابد منها لممارسته فليس الاجتهاد أمراً عقلياً مطلقاً كما يظن بعض من لا يعلمون.

ص: 401

ولقد رأينا في هذا العصر، كما سمعنا عن ذلك في العصور الغابرة، وربما يحدث ذلك في مقبل الأيام، أن كثيراً ممن لا أمل لهم في بلغ مرتبة الاجتهاد وممن ينتفون من أطراف العلوم التي يجدونها في بعض الكتيبات المعاصرة رأيناهم يرسلون مزاعم ويتجرأون على الاجتهاد، ويزعمون أنهم لم يسَبقوا على فهم أصول الشرع وأهدافه ويصمون أئمة الفقه الذين أجمعت الأجيال الإسلامية على الاعتراف بفضلهم في حفظ هذا الشرع وتفسيره يصفونهم بالفراغ، ثم يدعون بعد ذلك للتجديد في أصول الشريعة لينفتح الباب أمام الاجتهاد العقلي غير المقيد.

وهذا مبدأ أخذت به فرق معروفة في تاريخ الإسلام لا اعتداد برأيها عند أهل السنة، فإذا تبنى اليوم بعض المتعالمين تلك الأفكار ظانين أنهم يأتون بالجديد فليعلموا أن تلك الأفكار لم تقو في الماضي على الثبات في وجه سيل الحق الجارف ولن تقوى إن شاء الله اليوم ولا غدا.

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

انظر: الشوكاني، فتح القدير، تفسير الآية 59 من سورة النساء.

[2]

انظر: أبو الحسين البصري، المعتمد، جـ 2، ص 739.

[3]

انظر: الغزالي، المستصفى. جـ 2، ص 241_242، 253_256.

[4]

انظر: ابن حزم / الأحكام / جـ 8 / ص 1_2 وما بعدهما.

[5]

انظر فتح القدير للشوكاني في تفسير هذه الآية.

[6]

انظر أبو الحسين البصري / المعتمدة جـ / ص 735.

[7]

انظر: المرجع السابق/جـ 2/ص 726_735 وانظر: الآمدي/ الأحكام/جـ 4/ص 35_38 الخ.

ص: 402

خصائص العمران في المدن الإسلامية

للدكتور عبد المنعم حسنين

أستاذ بالدراسات العليا بالجامعة ورئيس شعبة الدعوة بها

تمهيد

كان شروق شمس الإسلام نقطة تحول في تاريخ المسلمين بخاصة، وفي تاريخ البشرية بعامة، لما أحدثه من تغيير جذري في حياة المسلمين، وفي مظاهر حضارتهم، ثم ما أحدثه في الحضارة الإنسانية في القرون التي تلت ذلك الحدث العظيم، وهو تغيير ستظل آثاره باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

وكانت هجرة خاتم الأنبياء والمرسلين- صلى الله عليه وسلم من مكة إلى يثرب بداية لقيام دولة المسلمين، بقيادة النبي الأمين في هذه المدينة الطيبة التي أصبحت القلب النابض في الدولة الإسلامية وصارت مركز إشعاع للدعوة الإسلامية، وسميت المدينة المنورة، وانتشرت منها أشعة شمس الإسلام، دين الله الحق، فاستضاء بنور الإسلام أَهل الأرض في كثير من أنحائها، فخرجوا من الظلمات إلى النور، وهدوا إلى سواء السبيل.

وكان من نتيجة ذلك التحول العظيم في مظاهر الحياة في المدينة المنورة، قاعدة الدولة الإِسلامية، بعد استقرار الرسول –صلى الله عليه وسلم فيها، أَن أصبح للعمران في المدن الإسلامية بعد ذلك خصائص واضحة مميزة جديرة بأن يدرسها، ويهتم بها المشتغلون بتخطيط المدن، ويتبينوا آثارها في الحضارة الإسلامية.

وسأحاول في هذا البحث أن أبين أهم خصائص العمران في المدينة المنورة في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي الخصائص التي ظهرت بوضوح في المدن الإسلامية الأخرى، بعد عصر الرسول في أنحاء العالم الإسلامي الكبير، حين اتسعت دولة الإسلام، وغلبت صبغته على مظاهر الحياة، عند كثير من شعوب العالم على اختلاف أماكن هذه الشعوب، وأجناسها وألوانها وألسنتها وبالله التوفيق.

أولا- المدينة قبل الإسلام:

ص: 403

كانت مدينة يثرب- التي تعد النموذج الأول والكامل للمدن الإسلامية- قبل الإسلام تقع في واحة خصيبة كثيرة العيون على الطريق التجاري بين اليمن والشام على بعد أكثر من أربعمائة كيلومتر من جهة الشمال من مكة المكرمة، وكانت تسكنها قبائل عربية قبل شروق شمس الإسلام.

وتفيد الأخبار التي وصلت إلى الدارسين أن قبائل العماليق سكنت مدينة يثرب واستقرت فيها، وهي قبائل تنتمي إلى العرب البائدة، وتدل الأخبار كذلك على حدوث هجرات يهودية إلى يثرب، وأن اليهود استطاعوا الانتصار على العماليق، مما مكنهم من النزول بيثرب والاستقرار فيها.

وقد ذكرت كتب التاريخ أن الهجرات اليهودية إلى يثرب حدثت منذ عصر نبي الله موسى عليه السلام، ثم تتابعت في أوقات الغزو البابلي لفلسطين، ثم في أثناء احتلال الرومان لبيت المقدس، وبطشهم باليهود، وتدميرهم لهيكل نبي الله سليمان عليه السلام.

ومن المسلم به بين الدارسين أن اليهود سكنوا يثرب قبل الإسلام، فكان عدد من القبائل اليهودية يعيش في يثرب في الوقت الذي أشرقت فيه شمس الإسلام، وحين هاجر رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم إلى هذه المدينة وأسس فيها دولة الإسلام، فأصبحت تسمى المدينة المنورة وظهرت فيها الخصائص المميزة للمدن الإسلامية في شتى أنحاء العالم.

ومن القبائل اليهودية التي كانت تسكن يثرب -وقت ظهور الإسلام- بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة، إلى جانب القبائل العربية الساكنة فيها، وكان أشهر هذه القبائل العربية الأوس والخزرج.

ومن المرجح أن اليهود سكنوا مدينة يثرب قبل أن يسكنها الأوس والخزرج، وأن اليهود كانوا يشتغلون بالزراعة ويملكون جزءاً من أراضي المدينة، ويقيمون الحصون والأطم ليحتموا بها، وليحفظوا بها حاصلاتهم الزراعية.

ص: 404

أما الأوس والخزرج فهم من قبائل الأزد اليمنية التي هاجرت من اليمن بعد تهدم سد مأرب واتجهت شمالاً، فأقام جزء منها في بادية العراق، وأقام جزء آخر في مكة، وواصل جزء ثالث منها سيره حتى بلغ بادية الشام فأقام فيها، ووصل جزء رابع إلى منطقة يثرب فأقام فيها، وكانت مضاربه بجوار اليهود، وكان الأوس والخزرج يشكلون أفراد ذلك الجزء الرابع من قبائل الأزد اليمنية الأصل، وكانوا يعرفون مدينة يثرب جيداً، لأنها تقع على الطريق التجاري بين اليمن والشام.

وكان اليهود ينظرون باستعلاء إلى الأوس والخزرج في بداية الأمر، ثم ما لبثوا أن حالفوهم، غير أن الأحوال تغيرت بعد ذلك، فقويت شوكة الأوس والخزرج، ورجحت كفتهم، بعد أن تغلبوا على اليهود، فأخذوا يملكون جزءاً من الأراضي الزراعية، ويبنون الحصون، فصارت لهم الكلمة العليا في المدينة وأخذ نفوذ اليهود في الضعف.

وتنافس الأوس والخزرج على السلطان، فظهر الشقاق بين صفوفهم، مما أدى إلى اشتعال نيران الحروب بين الطرفين، واستمرت هذه الحروب زمناً، وتبادل الطرفان النصر والهزيمة، واضطربت -في أثنائها- الأحوال في المدينة، فاستغل اليهود تمزق الصف العربي، وحالف بعضهم الأوس، بينما حالف بعضهم الآخر الخزرج، ليزيدوا الصف العربي تمزقاً وضعفاً، وليزيدوا الأحوال في المدينة اضطراباً، وظلت الأحوال مضطربة إلى وقت شروق شمس الإسلام في أوائل القرن السابع الميلادي.

وتفيد الأخبار المروية أن الصراع بين الأوس والخزرج ظل قائماً إلى وقت قريب من هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى مدينة يثرب، وأن يوم بعاث كان آخر مظاهر الصراع بين الطرفين، وكان ذلك قبل الهجرة النبوية بخمسة أعوام.

ص: 405

وكانت طبيعة مدينة يثرب الجغرافية تيسر الحياة فيها، حيث المياه وفيرة، والعيون كثيرة، والأرض خصبة، تجود فيها الزروع المختلفة، ويكثر فيها النخيل مما يجعل العيش فيها أكثر يسراً من العيش في مكة الشديدة الجفاف، لوجودها في واد غير ذي زرع، تحاصره الجبال، وتقل فيها المياه.

غير أن التكوين السكاني في مدينة يثرب قبل الإسلام لم يساعد على إيجاد تجانس بين سكانها الذين كانوا من اليهود والعرب، فلم يكن الوئام سائداً بين الطائفتين، كما أن العرب أنفسهم كانوا متخاصمين تكثر بينهم الحروب -كما ذكرنا- فانعدم الاستقرار في المدينة قبل الإسلام، وافتقدت التنظيم الإداري الصحيح الذي يجعل الطمأنينة تسود ربوعها، مما أثر في النواحي العمرانية فيها قبل هجرة الرسول –صلى الله عليه وسلم إليها.

وهكذا أثر انعدام التجانس السكاني في المدينة قبل الهجرة النبوية في شكل العمران فيها، فكان سكانها يعيشون في وحدات منفصلة، وفي قبائل متنافرة تخشى كل منها الأخرى، وتبني الحصون لتحتمي بها إذا هوجمت، فلم تستطع المدينة قبل الإسلام منافسة مكة في التقدم والزعامة، برغم تيسر الحياة في المدينة لوجود الزراعة فيها، ووفرة المياه، لأن مكة كانت ذات تكوين سكاني يساعد على الاستقرار والتقدم، فكان أكثر سكانها من العرب تحب زعامة قريش، مما ساعد على تنظيم أمور الإدارة والحكم، كما ساعد وجود البيت الحرام بمكة على جعلها مهوى لنفوس العرب ومحل احترامهم جميعاً، مما أدى إلى نمو التجارة بهذه المدينة المقدسة، فقامت الأسواق فيها، للتعامل مع الوافدين إليها لزيارة الكعبة، فارتفع شأن مكة، وصارت لها الزعامة في شبه الجزيرة العربية بينما قل شأن مدينة يثرب لانعدام التجانس بين سكانها، وفقدانها التنظيم في الحكم والإدارة، وعدم وجود أماكن مقدسة فكانت لا تقوى على منافسة مكة في أهميتها وزعامتها.

ص: 406

وقد تغير هذا كله بعد هجرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وتأسيس دولة الإسلام فيها، فأصبح للعمران فيها خصائص ظاهرة مميزة، وصارت هذه الخصائص واضحة في جميع المدن الإسلامية بعد عصر الرسول مما سنبينه فيما يلي:

ثانياً- المدينة بعد الإسلام:

كانت هجرة خاتم الأنبياء والمرسلين- صلوات الله وسلامه عليه- من مكة إلى مدينة يثرب أهم أحداث التاريخ الإِسلامي، لما كان لها من نتائج كثيرة في حياة المسلمين وتاريخهم ومظاهر حضارتهم بعامة، وفي المدينة وسائر المدن الإسلامية بخاصة، فقد ظهرت آثارها في التنظيم السكاني، وفي التنظيم العمراني، وفي جميع مظاهر الحياة بعد تأسيس الدولة الإسلامية في تلك المدينة المنورة.

فصارت مقراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومركزاً لإشعاع الإسلام، دين الله ودين الحق الذي يزهق أمامه كل باطل، دين التوحيد، الذي يدعو إلى عبادة إله واحد لا شريك له، ويحارب الشرك والوثنية، دين المساواة، الذي لا يفرق بين الناس جميعاً، على اختلاف أجناسهم وألوانهم وألسنتهم وأمكنتهم ولا يفضل عربياً على أعجمي ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى، لأن الناس جميعاً سواسية كأسنان المشط، فكلهم لآدم، وآدم من تراب، ولأنهم جميعاً مخلوقون من نفس واحدة كما قال الله الخالق سبحانه في أَول سورة النساء:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} وقد جعل الله بحكمته الناس شعوباً وقبائل ليتعارفوا.

ص: 407

قال تعالى في سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} .

وعلى هذا الأساس تبدو أهمية هجرة الرسول -صلى الله عدية وسلم- إلى المدينة واتخاذها قاعدة لدولة الإسلام، فقد أدى هذا الأمر إلى إيجاد تغيرات جوهرية في هذه المدينة بعد أن هاجر الرسول إليها وهاجرت معه فئة قليلة، أخرج أَفرادها من ديارهم وأموالهم، فراراً بدينهم الحق، فأصبح على هؤلاء المهاجرين أَن يدبروا أمر معاشهم، في مقرهم الجديد بالمدينة، بعد أن تركوا ما يملكون في مكة ولم يلبثوا أن ظفروا برعاية الله وتوفيقه فارتفع شأنهم، وأَصابوا توفيقاً لم يصيبوا مثله في مكة وصارت لهم الغلبة والعزة لاتباعهم ما جاء في كتاب الله الكريم، وهدي الرسول ذي الخّلق العظيم، صلوات الله وسلامه عليه.

ص: 408

وكان اليهود في المدينة قبل الهجرة قد أعلنوا ما وجدوه في التوراة والإنجيل دالاً على بعثة رسول جديد، يدعو إلى التوحيد، ويختم به الأنبياء والمرسلون لأن اليهود كانوا أهل كتاب، فكانوا على يقين من بعثة رسول الإسلام، أما الأوس والخزرج فكانوا وثنيين، وكان اليهود يعيرونهم بوثنيتهم، فلما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم ودعا الناس إلى الدخول في الإسلام، حتى يسعدوا في الدنيا والآخرة، كان الأوس والخزرج الوثنيون أكثر استعدادا لتقبله من اليهود الذين أعماهم الحقد عن رؤية الحق وأصم آذانهم الكره فلم يستمعوا إلى نداء رسول الهدى بل ناصبوه العداء، وكان الأوس والخزرج في وقت شروق شمس الإسلام أصحاب الكلمة العليا في المدينة برغم تناحرهم، فكانت استجابتهم لنداء الحق ودخولهم في الإسلام من العوامل الميسرة للرسول وللذين آمنوا معه أَن يهاجروا إلى المدينة دون أن يخشوا عداوة اليهود لهم، وكان وصول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، واتخاذها مقاماً ومقراً لدولة الإسلام إيذاناً ببدء تنظيم عمراني جديد ظهرت فيه صبغة الإسلام، وأصبحت له خصائص مميزة صارت واضحة ظاهرة في المدن الإسلامية بعد ذلك، وما زالت واضحة ظاهرة إلى يومنا هذا.

ص: 409

وكان المسلمون على قلة عددهم -وقت الهجرة- أقوياء بإيمانهم بالله، وثقتهم في نصره، وفي أنهم سيهزمون أعداء الله مهما كثروا، بعد أَن باعوا أنفسهم وأموالهم لله عز وجل وأصبحوا يتوقون إلى الظفر بإحدى الحسنيين النصر أو الشهادة وهكذا أخذ مجتمع المدينة بعد الهجرة النبوية يتشكل على أَساس جديد من العقيدة يختلف اختلافاً جوهرياً عن مجتمعها قبل الهجرة، الأمر الذي ظهرت آثاره بوضوح في العمران في هذه المدينة المنورة الطيبة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وقد أخذ الرسول الكريم بعد استقراره في المدينة يقيم دولة إسلامية تضم طوائف المدينة المختلفة دون تمييز بينها، فكان نظام الدولة من نوع جديد، لم يشهد له التاريخ مثيلا لأنه يقوم على أساس من الدين، الذي يقرر المساواة بين الناس جميعا ويكفل لهم حق الحياة الكريمة تحت ظله، ولا يكره أحداً على الدخول في الإسلام.

وهكذا طبقت الدولة الإسلامية منذ قيامها مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع أفراد الدولة على اختلاف أَجناسهم وألوانهم وعقائدهم، وأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم ينظم الحياة في المدينة، وفقاً لمبادئ الإسلام القويمة. وكان سكان المدينة من الأوس والخزرج واليهود في حاجة إلى التوفيق بينهم، حتى تستقر الأحوال، ويختفي الاضطراب ويصفو الجو في المجتمع الجديد.

وكان نفر من الأوس والخزرج قد أسلموا قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ووصف الذين لقوا الرسول منهم قومهم بأنهم في حالة فرقة وشقاق، مما أورده ابن هشام في سيرته، وذكر أنهم قالوا للنبي:"فإن يجمعهم الله عليه- أي على الإسلام- فلا رجل أعز منك".

ص: 410

ثم جاء المهاجرون من مكة إلى المدينة، فانضافوا إلى سكانها من الأوس والخزرج واليهود، مما جعل المدينة في حاجة إلى تنظيم سكاني جديد، وتخطيط عمراني، يهيئ لدولة الإسلام السبيل إلى التقدم، لهداية الضالين إلى صراط الله المستقيم، وحمل نعمة الإسلام إلى العالمين.

وقد نظم الرسول الكريم -بتوفيق من رب العالميين- الحياة في المجتمع الجديد في المدينة المنورة، وثبت قواعد العمران فيها بعد أن أصبح -صلوات الله وسلامه عليه- الإمام والقائد يبلغ الوحي، ويغرس الثبات والصبر واليقين في قلوب المؤمنين وهو في الوقت نفسه ينظم الحياة في مجتمع الدولة الإسلامية ويحكم في كل خلاف يشجر بين أفراد هذا المجتمع، وييسر أسباب الحياة للمهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم ابتغاء مرضاة الله، ونصرة لدين الحق الذي ارتضاه لعباده، وبعث به خاتم أنبيائه ورسله.

ومن الثابت أن المهاجرين استقبلوا استقبالاً حسناً من إخوانهم المسلمين في المدينة، غير أن إقامتهم واستقرارهم وتدبير معيشتهم، كانت من الأمور التي تحتاج إلى تنظيم في مدينة يشكل اليهود جزءاً من سكانها، ويضمرون للمسلمين الحقد والكره والشر، مما يجعل من المتوقع أن يظهر غدر اليهود بالمسلمين في وقت من الأوقات، ويدعو إلى أخذ الحيطة والحذر، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك وراءه في مكة عدواً لدوداً من المشركين المنكرين لدين الله الحق، وكان هذا العدو يتربص بالمسلمين الدوائر ويبيت في نفسه العدوان، فكانت حماية المسلمين في المدينة من عدوانه تحتاج إلى تثبيت الجبهة الداخلية في المدينة، وبنائها بناءً قوياً يستطيع الصمود في وجه الخطر الخارجي المتوقع.

ص: 411

وقد عالج الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الأمور جميعاً- بعد استقراره في المدينة- معالجة حكيمة، فنظم الحياة بين سكان المدينة تنظيماً يكفل لهم الاستقرار والتعاون فيما بينهم لصد الخطر الخارجي، وأرسى قواعد دولة إسلامية عظيمة لا مثيل لها في التاريخ، فأصبح للعمران في المدينة المنورة خصائص مميزة سنعرضها فيما يلي:

ثالثاً- خصائص العمران في المدينة:

نستطيع التعرف على خصائص العمران في المدينة المنورة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم إذا درسنا أَعمال الرسول الكريم بعد هجرته واستقراره في المدينة، وإقامته دولة الإسلام فيها.

وكان مجتمع المدينة يتكون من طائفتين واضحتين بعد الهجرة النبوية، طائفة المسلمين وطائفة غير المسلمين، وكانت طائفة المسلمين تتكون من المهاجرين الذين هاجروا مع الرسول من مكة إلى المدينة، ومن الذين أسلموا من أَهل المدينة من الأوس والخزرج، ومن الذين أسلموا من اليهود وهم قلة.

أما طائفة غير المسلمين فكان أكثر أفرادها من اليهود ثم من الذين لم يسلموا من الأوس والخزرج.

وقد حرص الرسول الكريم -صلوات الله وسلامه عليه- على توفير أسباب الحياة الآمنة المريحة لجميع سكان المدينة المنورة من مسلمين وغير مسلمين مع صبغ المجتمع بالصبغة الإسلامية، فجعل للعمران خصائص أهمها:

1-

المسجد مركز تجمع المسلمين:

ص: 412

كان أول عمل قام به الرسول صلى الله عليه وسلم بعد استقراره في المدينة بناء المسجد، ليكون مكاناً يجتمع فيه المسلمون، وكان هذا العمل من جانب الرسول دليلا على أن بناء المسجد هو أول سمة من سمات المدن الإسلامية، وأول شيء يجب أن يبنى فيها، فهو أول خصيصة من خصائص العمران في ظل الإسلام، ولذلك بدأ الرسول الإمام القائد صلى الله عليه وسلم به في المدينة المنورة حين صارت مقراً له، وقاعدة للدولة الإسلامية، وقد صار هذا العمل أهم خصائص العمران في المدن الإسلامية في أنحاء العالم المختلفة، فكان أول عمل يقوم به قائد المسلمين المجاهدين بعد النصر والفتح بناء مسجد في المدينة المفتوحة، وقد فعل المسلمون هذا في كل مدينة يسر الله لهم فتحها سواء في بلاد الفرس أو في بلاد الهند أو في أي مكان آخر من العالم، تمكن المجاهدون المسلمون بفضل الله من الوصول إليه، وكان المسجد مركز تجمع المسلمين في العبادات، وفي الدراسة والتعلم، وفي المعاملات، كما كان المسجد مركز إشعاع، يشع منه نور الإسلام في المنطقة التي أشرقت عليها شمس الدين الحنيف.

لقد كان ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم بعد استقراره في المدينة المنورة بقليل سنة، اتبعها ولاة المسلمين وقادتهم بعد عصر الرسول الكريم، فقاموا ببناء المساجد في المدن الإسلامية وجعلوا بناء المسجد أول عمل يقومون به.

ص: 413

وكان المسجد هو المقر الذي اتخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، وهو إمام المسلمين وقائدهم، لأنه المكان الذي تؤدى فيه جماعة المسلمين الصلوات والشعائر الدينية، وتتشاور فيه في شؤونها المختلفة، من حرب وسلم ومعاملات، وتستقبل فيه الوفود، فهو المكان الذي تتحد فيه القلوب، ويشعر فيه الجميع بأنهم في ضيافة الله سواسية لا فرق بين حاكم ومحكوم وغني وفقير وقوي وضعيف وعالم وجاهل، فالكل عبيد الله يرجون رحمته، ويخشون عقابه، ويدعونه ضارعين طالبين مغفرته ورضوانه، وهكذا تبدو أهمية البدء ببناء المسجد في المدينة الإسلامية وجعله الخصيصة الأولى من خصائص العمران في المدن الإسلامية.

2-

إقامة ولي الأمر بجوار المسجد:

أما الخصيصة الثانية من خصائص العمران في المدن الإسلامية، فهي إقامة ولي الأمر بجوار المسجد، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر بعد استقراره في المدينة المنورة، فقد اتخذ مسكنه بجوار المسجد بعد بنائه، وكان صلوات الله وسلامه عليه يخرج من بيته إلى المسجد رأساً- كما ذكر ابن هشام في سيرته- فأصبح هذا الأمر تخطيطاً عمرانياً طبق في المدن الإسلامية بعد عصر الرسول صلى الله عليه وسلم اقتداءً به، وتطبيقا لسنته، فكان ولاة المسلمين يقومون ببناء المساجد أولاً ثم يبنون بيوتهم ودواوينهم بجوار المساجد، فكان مسكن الوالي في عاصمة ولايته بجوار المسجد.

ص: 414

وقد حقق هذا الأمر فائدة كبرى فقوى الصلة بين الراعي والرعية، ووثق الرابطة بين أفراد الجماعة الإسلامية، وزاد الألفة بينهم، فصار المؤمنون جسداً واحداً، يشعر كل عضو فيه بما يصيب العضو الآخر، وقوى بذلك بناء المجتمع الإسلامي، وأصبح مجتمعاً فريداً، لم يشهد له التاريخ مثيلاً في سمو الخلق، وصلة الرحم، وانتشار التراحم والتعاطف والود بين أفراد المجتمع بحيث يحب الواحد منهم لأخيه ما يحبه لنفسه، بل قد يؤثر أخاه على نفسه لأنه يراقب الله في كل أعماله، ويرجو بها ثواب الله ويخشى عقابه.

2-

العقيدة تحدد مكان الإقامة:

والخصيصة الثالثة من خصائص العمران الإسلامية هي تحديد مكان الإقامة في المدينة الإسلامية على أساس العقيدة، وقد اتضح هذا الأمر منذ استقرار الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، واتخاذها قاعدة لدولة الإسلام.

وكان المسلمون في المدينة يتكونون من المهاجرين الوافدين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن الذين أسلموا من سكان المدينة الأصليين من الأوس والخزرج وبعض اليهود وهم الذين سموا الأنصار، لأنهم هم الذين آووا المهاجرين من مكة ونصروهم.، بعد أن تركوا ديارهم وأموالهم وأصبحوا في حاجة إلى ضمان معيشتهم في المدينة المنورة.

وقد أحسن المسلمون من سكان المدينة الأصليين استقبال إخوانهم المهاجرين وأعطوهم شيئاً من المال، كما سمحوا لهم بالتجارة والزراعة، فعمل بعض المهاجرين في مزارع إخوانهم الأنصار مزارعة، واستطاع المهاجرون بذلك أن ينظموا أمور معيشتهم.

ص: 415

وهكذا أصبحت العقيدة هي الأساس الذي قام عليه التنظيم العمراني في المدينة المنورة في عصر الرسول – صلى الله عليه وسلم – وصار مبدأ الأخوة الإسلامية هو السائد في المجتمع الإسلامي وهو المبدأ الذي قرره الله جل وعلا في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وقرره الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم في قوله "المسلم أخو المسلم" وبهذا أصبحت رابطة العقيدة أقوى من رابطة الدم، لأن لحمة الدم فشلت – قبل الإسلام في التأليف بين قلوب سكان المدينة الأصليين - كما ذكرنا - فأحل الإسلام محلها رابطة العقيدة، وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الرابطة خصيصة من خصائص التنظيم العمراني في قاعدة دولة الإسلام، ثم أصبحت خصيصة من خصائص العمران في المدن الإسلامية بعد عصر الرسول.

وكانت رابطة العقيدة هي التي أصلح بها الرسول صلى الله عليه وسلم – بين الأوس والخزرج، وجمعهم في اسم واحد هو الأنصار، فبعدت عنهم روح العصبية، وتآلفوا لنصرة دين الله الحق الذي أنعم الله به عليهم، وصار ذلك الاسم علماً عليهم، فعرفوا جميعاً به.

كما ألف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم برابطة العقيدة بين المهاجرين والأنصار، وجعل المؤاخاة هي الأساس الذي يبنى عليه التآلف، فجعل كل رجل من المهاجرين يؤاخي رجلاً من الأنصار، فيصير الرجلان أخوين، تربط بينهما المؤاخاة برباط كرباط الدم.

وقد حققت المؤاخاة الهدف المنشود، فألفت بين قلوب المسلمين جميعاً في المدينة المنورة من مهاجرين وأنصار، فكان رباط العقيدة أقوى أسس التنظيم العمراني في المدن الإسلامية في مختلف العصور.

4-

تنظيم العمران والحياة وفقاً لدستور:

ص: 416

وكانت الخصيصة الرابعة من خصائص العمران في المدن الإسلامية تنظيم العمران والحياة على أسس قويمة وفقاً لدستور، يستمد مبادئه من كتاب الله جل وعلا، ومن هدى الرسول صلى الله عليه وسلم كما حدث في المدينة المنورة، بعد الهجرة النبوية، واستقرار المسلمين فيها، واتخاذها قاعدة لدولة الإسلام فقد آخى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بين المسلمين على اختلاف قبائلهم ثم حدد العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين من سكان المدينة المنورة من ناحية، وبين سكان المدينة من مسلمين وغير مسلمين وسكان شبه الجزيرة العربية خارج المدينة المنورة من ناحية أخرى، وكتب الرسول صلى الله عليه وسلم صحيفة لتحديد هذه العلاقات وتوضيحها وتنظيم العمران والحياة، في قاعدة دولة الإسلام، ثم في المدن الإسلامية بعد ذلك.

وكانت هذه الصحيفة دستوراً مكتوباً، يقوم على أساس من العلم بأحوال الناس والفهم الدقيق لظروفهم، ويقرر العلاج الناجع لاستمرار حياتهم واستقرارها.

وقد كتبت الصحيفة بعد استقرار الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة وحدد الرسول الكريم فيها العلاقات بين سكان المدينة من المهاجرين والأنصار واليهود، وبينهم وبين الذين يحيطون بهم من سكان العالم حينذاك، وكانت كتابتها بعد العام الأول من الهجرة النبوية، أي بعد إقامة الدولة الإسلامية فأصبحت من الوثائق ذات الأهمية البالغة، اللازمة لفهم الأحداث التي وقعت بعد كتابتها، ولتوضيح خصائص العمران في المدينة المنورة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وفي المدن الإسلامية جميعها بعد ذلك.

ص: 417

أما سكان المدينة المنورة في عصر الرسول الكريم فكانوا طائفتين طائفة المسلمين الذين دخلوا في دين الله الحق واستجابوا لدعوة الرسول- صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار الذين ربطت كلمة التوحيد بين قلوبهم فصاروا يكونون أمة الإسلام، التي تحمل أَمانة الدعوة إلى دين الله الحق، وتجاهد في الله حق جهاده، حتى تصير كلمة الله هي العليا فتنتشر أشعة شمس الإسلام في أرجاء العالم المختلفة، وقد حددت الصحيفة الصلات بين المسلم وأخيه المسلم والعلاقات بين المسلمين وغير المسلمين من سكان المدينة الذين هم أَفراد الطائفة الثانية، وبينت الحقوق والواجبات بالنسبة للجميع.

وقد أورد ابن إسحاق في سيرته نص هذه الصحيفة، وسجل هذه الوثيقة القيمة المنظمة للعمران والحياة في المدينة فهي تكفل للسكان من غير المسلمين- وأكثرهم من اليهود- حقوقهم وتبين ما عليهم من واجبات، فقد وادع الرسول الكريم في تلك الصحيفة اليهود وأقرهم على دينهم وأموالهم كما جعل عليهم الاشتراك مع المسلمين في مواجهة الظروف الإقتصادية الصعبة إذا وجدت، وفي صد العدو الخارجي إذا هاجم المدينة، غير أن اليهود غدروا وتآمروا على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى جماعة المسلمين، فكان إخراجهم من المدينة في عصر الرسول الكريم جزاءً وفاقاً لهم، وكان لهذا الأمر أثره في المدينة المنورة منذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا.

وكانت نصوص الصحيفة مستمدة مما جاء في القرآن الكريم، فنصت على أن المسلمين أمة واحدة، وأن هذه الأمة خير أَمة أخرجت للناس، لقول الله تعالى في سورة آل عمران:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه} .

ص: 418

وحثت الصحيفة المسلمين على التراحم والتعاون بينهم مصداقاً لقول الله عز وجل في سورة الأنفال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض} .

وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} كما دعت الصحيفة إلى مراعاة حقوق القربى والصحبة والجوار تطبيقاً لقول الله سبحانه في سورة النساء: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ..} .

ودعت الصحيفة كذلك إلى التمسك برباط الولاء ومراعاة حقوق الموالاة، امتثالاً لأمر الله عز وجل في سورة النساء:{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً} .

كما دعت إلى مراقبة الله في كل عمل، لأن الإنسان سيحاسب على الصغيرة والكبيرة، كما قال الله عز وجل في سورة الزلزلة:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} ولا يخفى ما لهذا من أثر في الحياة والعمران.

ص: 419

ودعت الصحيفة كذلك إلى ترك عادات الجاهلية، ورد الأمور إلى الله ورسوله والإلتزام بحكم الله ورسوله في كل أمر، امتثالاً لأمر الله سبحانه في قوله في سورة النساء:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} .

وهكذا قام المجتمع الإسلامي في المدينة المنورة – التي أسست فيها دولة الإسلام- على أسس ثابتة من تقوى الله، ومن المبادئ القويمة التي جاء بها الإسلام في كتاب الله الكريم.

وفي قول الرسول وعمله، وكان لهذأ أثر واضح في طبيعة العمران وخصائصه في المدينة المنورة، وفي سائر المدن الإسلامية في عصور قوة المسلمين، والتزامهم بمبادئ دينهم الحق القويم.

وواضح أن خصائص العمران في ظل الإسلام، قد تغيرت تغيراً جوهرياً عن خصائصه قبل الإسلام، فقد جعل الإسلام المسلمين جميعا أمة واحدة يتساوى أفرادها في الحقوق والواجبات، وبذلك أصبح الإسلام يجب ما قبله، وصار الشعار والدثار لسائر المسلمين.

وكانت أمة الإسلام في المدينة المنورة أمة فاضلة، تراقب الله في أعمالها فلا تبدأ بالعدوان، بل تحب السلام، وتحمي الجار وتنصر المظلوم، وتلتزم بالعهد، وتفي بالوعد، وكانت تضم المسلمين وغير المسلمين الذين أدمجوا في الأمة بنص صريح في الصحيفة، وكان المسلمون بقيادة الرسول- صلى الله عليه وسلم هم قلب هذه الأمة النابض بالحياة والحركة وكانت الأمة تزداد قوة، كلما أزداد الدين انتشاراً.

ص: 420

وقد حرصت الأمة الإسلامية على استقرار الحياة والعمران في المدينة المنورة، ومنع نشوب الحروب الداخلية، وأوجبت تحكيم الرسول في كل ما يشجر من خلاف، والتسليم بما يقضى به، وتطبيق مبدأ العقاب بالمثل فالنفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص تنفيذاً لأمر الله عز وجل الذي جاء في سورة المائدة، مما ساعد على أستتاب الأمن والسلام في منطقة المدينة المنورة.

كما أوجبت الصحيفة على أهل المدينة جميعاً أن يتحدوا لصد أي عدوان يتهدد المدينة من خارجها، فتكامل بذلك نظام الأمة، وصارت الهجرة إلى المدينة شرطاً للحصول على رعاية الدولة الإسلامية، تطبيقاً لقول الله تعالى في سورة الأنفال:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} .

5-

حماية المدينة من الغزو الخارجي والتمرد الداخلي:

أما الخصيصة الخامسة من خصائص العمران في المدن الإسلامية فهي حمايتها من الغزو الخارجي والتمرد الداخلي. وقد ظهرت هذه الخصيصة في الدولة الإسلامية منذ قيامها في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن وجدت فيها أداة للحكم وضم إليها ما حولها من القبائل ومن المناطق الزراعية التي تمدها بالمؤن، فقد وجه الرسول – صلى الله عليه وسلم سرايا عديدة من المدينة إلى ما حولها، وكانت السرايا حملات حربية صغيرة تهدف إلى تأمين الحدود واستكشاف ما حول المدينة، ورد أي عدو مجاور، وكان عدد هذه السرايا ثماني سرايا، أرسلت قبل غزوة بدر، وقاد الرسول صلى الله عليه وسلم بعضها بنفسه، وقاد أَصحابه البعض الآخر.

ص: 421

وكان من نتيجتها عقد أحلاف مع القبائل المجاورة، لتأمين المدينة من غارات البدو عليها ومنع أي غزو خارجي عنها، حتى تستقر الحياة والعمران فيها، فتقوى الجبهة الداخلية على صد أي هجوم يأتي من خارج المدينة وبخاصة من جانب قريش التي منعت السرايا مرور تجارتها في أراضي الدولة الإسلامية، وأَظهرت أن حدود الدولة محروسة كما أصلح الرسول في تلك الأثناء بين الأوس والخزرج حين دب النزاع بينهم بتحريض من اليهود، حتى يكون الإخاء والتماسك بين المسلمين عوناً لهم على الانتصار على أعدائهم في الدين.

وهكذا قام العمران في المدينة المنورة ثم في سائر المدن الإسلامية على مبادئ قويمة من الأخوة في الدين والسلام بين المقيمين داخل حدود دولة المسلمين، والضرب على أيدي الخائنين والمعتدين، ونشر الدين بالإقناع لا بالإكراه، والجهاد في سبيل الله للدفاع عن دينه الحق ولإعزاز أَمة الإسلام التي جعلها الله خير أمة أخرجت للناس حتى تواصل حمل نعمة الإسلام - التي أنعم الله بها عليها- لإيصالها إلى الحيارى الضالين من أفراد البشر في سائر أنحاء العالم، أداء لزكاة النعمة التي أنعم الله بها على هؤلاء المؤمنين.

خاتمة:

هذه دراسة سريعة موجزة لخصائص العمران في المدينة المنورة في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي القاعدة الأولى لدولة الإسلام ومركز الإشعاع الذي انتشرت منه أَشعة شمس الإسلام إلى أرجاء العالم المختلفة فهدت شعوباً كثيرة إلى صراط الله المستقيم ودخل الناس في دين الله الحق على اختلاف ألوانهم وأجناسهم وألسنتهم فنعموا بنعمة الإسلام، الذي لا يقبل من أَحد دين غيره لقوله تعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .

ونستطيع من هذه الدراسة أن نتبين أَبرز خصائص العمران في المدن الإسلامية على مر العصور وهي خمس خصائص:

ص: 422

أولها: بناء المسجد وجعله مركزاً للحياة الإسلامية، تؤدى فيه الصلوات والشعائر الدينية، ويتلقى فيه المسلمون العلم، ويتدارسون أمورهم.

وثانيها: إقامة ولي الأمر بجوار المسجد وبناء بيوت الولاة ودواوينهم حوله لتقوية الرابطة بين الراعي والرعية ومراقبتهم جميعاً لله في كل عمل.

وثالثها: إقامة التنظيم العمراني على أساس العقيدة، والتأليف بين المسلمين جميعاً على هذا الأساس، وإزالة الفوارق بينهم بالمؤاخاة بينهم لإبعاد روح العصبية والإتحاد صفاً واحداً لنصرة دين الله الحق..

ورابعها: تنظيم الحياة وفقاً لدستور يحدد العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين من سكان دولة الإسلام وبين هؤلاء السكان وبين جيرانهم خارج حدود الدولة على أن يكون هذا الدستور مكتوبا ومستمداً من كتاب الله، وعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإخراج الخائنين للعهد من بلاد المسلمين.

وخامسها: حماية بلاد المسلمين من التمرد الداخلي والغزو الخارجي بالإصلاح بين المتنازعين، وقتال المعتدين، والجهاد في سبيل الله، لنصرة دينه الحق، ونشره في الآفاق.

وإن أَوضح دليل على التمسك بمبادئ الإسلام هو الحفاظ على هذه الخصائص في المدن الإسلامية، بحيث تظهر في تخطيطها وتنظيمها وتبقى واضحة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.

والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته واهتدى بهديه إلى يوم الدين.

حينما كان الزمام إسلاميا

الإسلام دين حضاري، نشر الحضارة والإيمان في صالح الإنسان أينما كان.

ص: 423

إن الغرب استعمل العلم من أجل استغلال الإنسان.. واخترع السلاح ليفتك بالشعوب.. وتطور التكنولوجيا كان للسيطرة على مقدرات الإنسان. أي أنه تطور في كل شيء بهدف تحطيم العالم وقد فقد إنسانيته نهائيا.. في حين أن الإسلام هو الآخر تطور في أحقاب طويلة من الزمن وكان العلم بيد المسلمين والطب بيد المسلمين والقوة بيد المسلمين.. فماذا حدث؟. لا شيء إلا ما هو في صالح الإنسان وإنسانية الإنسان.

الفيلسوف الفرنسي روجي جارودي

ص: 424

مُقوِّمات الأمة

للشيخ محمد الراوي

رئيس قسم التفسير بكلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

فإن الأمة الإسلامية ليست حدثا عارضاً في حياة الإنسانية، وليست نبتا بلا قرار، إنها – وفيها التوحيد – شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء.

إنها- وفيها الحق- ليست زبداً طافياً يذهب جفاء وإنما هي معدن أصيل ينفع الناس فيمكث في الأرض.

إنها- وفيها القرآن وبيانه - لن ينتهي مدها ولن يطفأ نورها ولن يخمد ذكرها بفضل من الله ورحمته.

إنها أمة الرسل والأنبياء جميعاً. تآخت فطرتها مع فطرة الكون الذي أسلم كل من فيه لله طوعاً وكرهاً.

إنها ذات أصل ثابت وفرع ممتد في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، غيرها من أهل الباطل له في الزمن ساعة وهي بفضل الله إلى قيام الساعة.

تأتى إليها الريح فتميل بها ولا تقتلعها، وتهب عليها العواصف فتسقط من ورقها ما صار هشيماً، وتظل تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

ولئن مرت عليها فترات فتور أو خمول يراها أهل الكفر مواتاً ويرون حماها بواحاً فإن لها من مقوماتها ما يبعث الحركة فيها ويجدد الحياة.

ومهما طال الليل فإن فجراً صادقاً يأتي عليه فيطوى ظلامه ونجماً رائداً متألقاً مجددا يؤذن بطلوع الفجر، فتتحول الحياة- وهي تسمع الآذان- من حال إلى حال، فيصحو الغافل ويستيقظ النائم ويصبح نشيطاً طيب النفس.

فما مقومات هذه الأمة؟ وما أَسباب النهوض بها؟

ذاك ما سنحاول في هذا اللقاء أَن نتحدث عنه أو نشير إليه.

إن المقومات تمثل الثابت في تاريخ هذه الأمة ولذا فإنها لا تتغير بتغير الزمان والمكان، وبها يرتبط ما هو متغير من أسباب النهوض في كل عصر.

ص: 425

ولكي تبقى الأمة قائمة برسالتها لابد أن تحافظ على الثابت من مقوماتها وألاّ تفرط في شيء منه، فهو مصدر عزها وقوتها وبه تتميز أخلاقها وتتحقق إمامتها.

وهذا الجانب هو صمام الأمن للمجتمع الإنساني كله بل صمام الأمن لنتائج العلم - التي يخشى في غيبة الثابت من المقومات أو التفريط فيها- أن تدمر في لحظات عمر الإنسان في قرون وأن تسوق الفناء إلى ما شيد من بناء.

بالأصل الثابت من المقومات يسارع الإنسان إلى الخيرات ويسبق لها {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} والمسارعة إلى الخيرات عمل إجابي في محاربة الفساد ومقاومة شره وتأمين الناس من تسلطه وظلمه.

ومن هذا نستطيع أَن نقف عند الأصل الأول من هذه المقومات:

ص: 426

1-

عقيدة التوحيد: وهذه العقيدة كما دعا إليها الرسل جميعاً يتم بها التحول من حال إلى حال، من ظلمات وجمود وخمول وموات إلى نور وحركة حية واعية راشدة، والإيمان تصديق وقول وعمل، وجميع الرسل قد طلبوا من أقوامهم أَن يفعلوا أو يتركوا على أساس من عقيدة التوحيد فبدافع من هذه العقيدة يتم الفعل أو الترك. {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ الله مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} .

فعلى أساس من توحيد الألوهية يتم التحول من شر إلى خير، ومن إفساد إلى إصلاح، ومن ظلم وظلمات إلا عدل ونور، ومن صد وانحراف إلى استقامة واتباع. ويقترن الإيمان بالأعمال فعلا وكيفا فيزيد وينقص ويبقى ويذهب.

ص: 427

وبالتوحيد: يتحدد موقف الإنسان من الأشياء ومن الناس وتترتب النتائج {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً} {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} يتحدد موقف الإنسان من أقرب الناس إليه {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لله تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} .

لا تتميع المواقف ولا تختلط ولا تلتبس مع صدق الاعتقاد {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ الله أَلا إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الْمُفْلِحُونَ}

ص: 428

وبالتوحيد: يتميز سلوك الإنسان في العسر واليسر والشدة والرخاء ويتبين الصادق من الكاذب، ولذا كان الابتلاء سنة من سنن الله وكانت المحن والشدائد سبيلا للتنقية والتصفية يميز الله بها الخبيث من الطيب {مَا كَانَ الله لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّب} {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} . ولولا ذلك لاختلط الأمر على الناس والتبس ولم يتميز خبيث من أصيل وادعى بعض الناس لأنفسهم ما ليس لهم {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِالله فَإِذَا أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ الله وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ، وَلَيَعْلَمَنَّ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} .

وبالتوحيد: نقاتل ونسالم، ونصاحب ونعادي، ومن أجله نجد في الحقل والمصنع، والدكان والديوان والبر والبحر، والأعمال الصالحة تقترن بالإيمان فلا تدع مجالا في الحياة دون إصلاح وإحسان.

ومن الواجب على الأمة الموحدة أن تحسن ما تحتاج إليه في أي شيء ولا تكون عالة على غيرها في شيء، والأعداد الذي نرهب به عدو الله وعدونا والذي أمرنا الله به يستوجب شئون الحياة في ترابط واتساق فالضعف في جانب قد يؤدي إلى الضعف في غيره.

والحديد الذي أنزله الله فيه بأس شديد ومنافع للناس يقترن في ديننا بما أرسل الله من رسول وما أنزل من الكتاب.

ص: 429

وعقيدة التوحيد تفرض أن يطوع الحديد لإقامة العدل ونصرة الحق ومن وراء ذلك أعمال وأعمال تستوجب قيام المصنع، ووجود الغواص في البحر، والطيار في الجو، والباحث في المعمل، كما تطلب قلم الكاتب ودفتر المحاسب وفقه العالم، وتدبير الحاكم وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ففي سورة واحدة بل في آية واحدة نقرأ قول الله عز وجل {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ الله مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ} .

والقران الكريم عندما يتحدث عن آيات الله في الآفاق وفي الأنفس ويحث على النظر والتفكر فيها إنما يريد تفاصيل هذه العقيدة في النفس وجعلها مبنية على معرفة لا يعتريها شك ولا يحبط عمل صاحبها شرك.

{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} ، {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ الله مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .

{الله الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ الله رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

ص: 430

إن جميع ما يذكر من مقومات هذه الأمة يستند إلى هذا الأصل ويقوم عليه فما ندعى إليه من توثيق روابط الأخوة والمودة، وما نأمر به أو ننهى، لا يثمر ولا يغني ما لم يكن الدافع إليه والغاية منه القصد لله وابتغاء مرضاته.

وإذا تسرب الشرك إلى شيء من عمل أحبطه ودمره.

هذا الأصل ثابت مستقر في رسالة الرسل جميعا لا يتغير مع أي شرعة ومنهاج {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}

والحياة التي تقوم على التوحيد تصان فيها الفرائض وتؤدى الواجبات وهي متنوعة متعددة تحتاج إلى علم وجهد وكد يتساند فيها أهل التوحيد معتصمين بحبل الله غير متفرقين وتقوم نعم الله التي لا تحصى بين أيديهم لتكون عونا على إعلاء كلمة الله في إحقاق الحق وإبطال الباطل ونصر المظلوم بإنصافه وتأمينه والظالم بالأخذ على يده وبهذا تحافظ الأمة الإسلامية على خيريتها، وتعز بإيمانها وأداء رسالتها، وتفلح بالدعوة إلى سبيل ربها {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .

إنها أمة مجاهدة ذات رسالة خالدة، فرض عليها أن تحيا مرابطة في سبيل الله تجير المظلوم وإن كان من غيرها وتأخذ على يد الظالم وإن كان منها، وتعلي كلمة الله في كل شأن من شئونها.

والإسلام يعتبر المسلمين أمة واحدة تجمعها العقيدة ويشارك بعضها بعضا في الآلام والآمال.

وأي عدوان يقع على قطر من أقطارها أو على فرد من أبنائها فهو عدوان عليها جميعا، ولكي تستطيع هذه الأمة أن تنهض برسالتها وأن تؤدي ما أوجب الله عليها لابد أن تعمل دائما على تحقيق الأسباب التي تعينها على ذلك، وأن تحافظ على المقومات الأصيلة الثابتة التي تميز شخصيتها وتجعلها أمة دعوة ورسالة.

ص: 431

وواقع الأمة الإسلامية الآن لا يحتاج إلى بيان ولكن من الخطأ أن نظن أن ما وصلت إليه يستحيل علاجه ومن الخطيئة أن ندع اليأس يتسرب إلى النفوس، وأن نترك أولئك الذين لا يريدون لأمتنا إلا مزيداً من الفشل وذهاب الريح، أن يفرضوا عليها الرضى بالواقع أو يجعلوها تؤمن بالتبعية لغيرها في شرق أو غرب.

فإن أمتنا تملك- بفضل من الله- أن تبدأ البداية الصحيحة دون حاجة لشرق أو غرب وعليها أن تدرك أن ما سلط عليها من أعدائها بسبب معاصيها وقعودها عن أداء رسالتها {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} .

ورب قوم سلط عليهم شر منهم كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمعاصي الله كفار المجوس فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً.

فعلى أمتنا أن تبدأ بما أمر الله به {فَاتَّقُوا الله وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا الله وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، عليها أن تكف شرها عن نفسها وأن تأخذ على يد العابثين الذين يفسدون في الأرض ويقطعون الأرحام.

في الجاهلية تداعت قبائل من قريش إلى حلف قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم:

"لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ولو أدعى إليه في الإسلام لأجبت".

وكانت هذه القبائل قد تعاهدت على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول.

في الجاهلية تداعت قبائل من قريش لهذا الحلف الذي أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم عليه وقال لو أدعى إليه في الإسلام لأجبت.

ص: 432

أفلا يتداعى المسلمون- وكتاب الله يتلى عليهم وفيهم رسوله - لما ينقذ حياتهم ويرد كيد أعدائهم ويدفع الشر والبلاء عنهم، أفلا يتداعى المسلمون لتحقيق أمر الله فيما بينهم والأخذ على يد الظالم وإنصاف المظلوم، إن تحقيق معنى الأمة الإسلامية في أدنا صورة ممكنةٍ قد غاب كثيراً عن حياة المسلمين فغدت الأمة نهباً لكل طامع وتحقق ما حذر الرسول صلى الله عليه وسلم منه في قوله:"يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها".

أي والله لقد تحقق ما حذر الرسول صلى الله عليه وسلم منه وتداعى الأكلة من أمم الكفر في شراهة وضراوة لتمزيق الجسد الإسلامي وفصل أجزائه بعضها عن بعض.

ومنذ فترة قيل عن تركة الرجل المريض، وأخشى أن يكون الإصطلاح لديهم الآن تركة الرجل الميت، ولكنني أؤمن أن الأمة لن تموت مهما بدت مظاهر الضعف والسكون فيها.

وعلينا أن نبحث في غير يأس في وسائل النهوض بأمتنا الإسلامية فإنها أمة باقية بإذن الله إلى قيام الساعة.

أولاً: أسلوب التربية والثقافة والإعداد في عالمنا الإسلامي يحتاج إلى مراجعة وإصلاح فإنه فيه كثير متناقض ومتضارب ومختلف الإتجاهات والشعارات ولا يخفى ما يترتب على ذلك من صراع داخل الأمة الإسلامية نفسها وما يقع من شر بين أبنائها.

فكيف نخضع جميع وسائل التربية والإعداد والثقافة لتوحيد هذه الأمة وجمع كلمتها؟ وما السبيل لإعداد إنسان الغد بما يتناسب وأخطار الغد؟

ص: 433

إن أصحاب المذاهب في شرق أو غرب يعملون على صياغة الإنسان في أمتنا الإسلامية ليكون لهم لا لأمته وينفقون في سبيل ذلك من الجهد والمال ما لا يخفى على أحد، وكلنا يعرف ما تفعله الشيوعية في سبيل نشر مذهبها وما يفعله الغرب وما يقدمه لمؤسسات التبشير لتكون طلائع له في صياغة إنسان الغد لصالحه، وكل ما وقع من اغتصاب أرض المسلمين في أي مكان أو زمان قد مهد له من قبل الإستيلاء على الإنسان. ومن هنا كان الحرص شديداً على تقديم المنح الدراسية وإغراء الدول الإسلامية بالبعثات التعليمية وهي تحقق جانباً كبيراً مما يريده أصحاب المذاهب في شرق أو غرب من صياغة الإنسان لما يريدون.

الإنسان هو الأساس الذي تقوم به ومن أجله الحضارة والنهضة والعناية به هي السبيل للنهوض بأمتنا من كبوتها ولا تصلح الأشياء إلَاّ بإيجاد الإنسان الصحيح، من أجل هذا أرسل الله الرسل وأنزلت الكتب.

والنعم في أيدي الناس مسخرة من الله عز وجل وبالإنسان يتحدد اتجاهها إلى شكر أو كفر، ونتائج العلم أسلحة في يد الإنسان ينصر بها عدلاً وحقاً أو يبغي علواً وفساداً والسيف يمسك به لص يهدد أمن الناس ويحمله حارس أمين.

والأرض قد هبط إليها الإنسان بعد إصلاحها وما يقع فيها من إفساد هو مما كسبت أيدي الناس والله يعلم المفسد من المصلح.

ولكل شيء في الحياة وسائل وأسباب تحقق صلاحه، فإذا اتبعت الأسباب في كل شيء بما يناسبه استقام الإنسان وبرت النتائج، وكذلك فعل المصلحون في الأرض ومن أثنى القرآن عليهم وتلا على الناس ذكرهم {وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً

} .

ص: 434

وتراه وهو يعالج قضايا الناس يأخذ بجميع الأسباب التي تحقق الإصلاح ومن وراء الأخذ بالأسباب صدق النية وشكر النعمة فهو لا يطلب جزاءً إلَاّ من ربه، من وراء الأخذ بالأسباب نفس مؤمنة لا تستغل حاجة الناس ولا تعمل عملاً يمكن أهل الفساد من تحقيق فسادهم بل تعمل وتحسن وتضع أمام الفساد سداً منيعاً لا يستطيع الباطل أن ينفذ منه أَو يعلو عليه {فَأَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً} .

وأمتنا الإسلامية - وأمامها من التحديات - ما لا يخفى على أحد عليها أن تعد الإنسان بالإيمان الموجه للنفوس إلى الخير والإصلاح وبالعلم الذي تنشده النهضة في جميع شئون الحياة بحيث لا تكون الأمة الإسلامية في قبضة غيرها، فالأمة الإسلامية إذا احتاجت إلى مائة ألف طبيب عليها أن تعمل على إعداد هذا العدد بتخصصاته المتنوعة وأن تدرس في صبر وأناة وجد حاجتها في كل شأن وأن تعرف ما تملكه من طاقات وإمكانات قبل أن تطلب عوناً من أحد. وفي جميع الأحوال تكون مهمة الدين إعداد الإنسان لكي يصلح في الأرض ولا يفسد.

ص: 435

والمهمل في عمله والمقصر فيه مفسد غير مصلح، والقعود عن الأخذ بالأسباب معصية ومفسدة تتيح للغير أن يتفوق، تفوق جاد أَمام قاعد، وعامل أمام خامل، والتنافس قائم بين الخلق، وأهل الباطل لن يسكتوا أبداً عن إضعاف أهل الحق {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} .

ويا له من ضياع ويا لها من مفسدة حين تظل أمة الحق عالة على أهل الباطل، لا تسل عن الأتباع والطواعية، أتباع أهل الحق لأهل الباطل حتى لو دخلوا جحر ضب وطواعيتهم فيما يريدون لأهل الحق من ردهم بعد إيمانهم كافرين.

والأمة الإسلامية إن هي قصرت في أن تصنع الضروري من وسائل حياتها احتاجت إلى غيرها من دول الكفر وقد يؤثر ذلك في مقومات حياتها من عقيدة وسلوك. والذين يتصورون أن العمل للدين يقف عند تعليم الناس بعض الفرائض التي لا تأخذ من حياة المسلم إلا دقائق معدودات يخطئون في فهم الدين ويعزلونه عن الحياة وهم يحسبون أنهم محسنون صنعا.

إن العقيدة وهي أَصل الدين تتحرك بموجبها الحياة كلها لتكون في صلاتها وتشكلها ومحياها ومماتها لله رب العالمين. ومن أجل العقيدة طولِبنَا بالنظر في خلق السماوات والأرض، وفي أنفسنا لنظفر بثبات العقيدة ووسائل حمايتها لذا فإن الإعداد والتربية لا يفصل فيهما مصنع عن مسجد فيقال هذا للدين وذاك للدنيا، لا يفصل كد وجهد عن تسبيح وذكر. {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ الله وَاذْكُرُوا الله كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . وإعداد المسلم على هذا الفهم والعمل به يزيل من دنيانا نحن المسلمين كثيراً من التوتر الذي يقع بين الأفراد والجماعات ويقيم صراعاً في داخل الأمة الإسلامية يجني ثماره من يتربص بها ويضمر الشر لها.

ص: 436

الإسلام شامل كامل منظم لشئون الحياة كلها، باعث للنهضة في جميع أجزائها بلا تفرقة والدين ليس إتباعا لأهواء الناس وليس خاضعاً لما يرغبون إنه تكليف ومسئولية {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}

والذين يريدون الدين هوى لأنفسهم فيأخذون منه ما لا مشقة فيه ويدعون ما فيه كره ومشقة لم يحملوا ديناً وإنما حملوا عليه، وكم من ناس أفرزتهم المصالح والمشقات وألقت بهم في حظائر أهل النفاق {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا الله لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} .

وكم كان اللوم شديداً على من قيل لهم {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} .

وإعداد المسلم عملياً ليؤدي واجبه في الإصلاح في جميع شئون الحياة يحفظ للأمة دينها وكرامتها وعزتها ويجعلها في مأمن من تكالب الأعداء عليها.

ص: 437

وإذا اتسع فهم المسلم لما يطلبه إسلامه انشرح صدره لكل من رغب في الإسلام وأقبل عليه لأن الساحة تسع الناس جميعاً بل تسع الإنس والجن وساحة الإسلام أرحب من عالمنا الذي نعيش فيه، وإسلام الناس أحب إلينا، ونبينا صلى الله عليه وسلم بعث هادياً ورحمة.

وإذا ضاق الفهم لما يطلبه الإسلام وما ينشده للعالمين قصرت الجهود عن الوفاء بحقه وغدت عبئاً عليه مسيئة إليه وإن قنعت مع نفسها أنها تقوم بفرائضه وتفي بواجباته. إن الواجب قد ينشدك في لحظة لتركب البحر وتحلق في الفضاء وتقف أَمام نيران المصنع وطلقات المدفع فإذا أجبت هذا الواجب بمزيد من ركعات وسجدات غير ما فرض الله وسن رسوله وقعدت ولم تستجب قد يذهب مع القعود دينك وأنت تحسب أنك مستمسك به.

وهل ترك الثلاثة الذين خلفوا وتاب الله عليهم إحسان صلاتهم والقيام بها؟ إذن لماذا قاطعهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر بمقاطعتهم؟ لأنهم لم يكونوا في لحظة ما حيث طلبهم الواجب وحثه النداء، ولما عاد الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من أداء ما وجب جاءه من لم يخرج معه فمن اعتذر كذبا هلك ومن صدق أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بمقاطعته حتى جاءت توبة الله عليه ولولا هذه التوبة لهلكوا مع الهالكين.

إن المسلم يكون حيث يدعوه واجب دينه لا حيث يرغب هو أو يجب. والتفريط في أداء ما يجب له عواقبه ومخاطره. ولقد تحولت في زمننا هذا بعض فروض الكفاية إلى فرض عين لتفريط المسلمين وإذا أردت أن تحصر ذلك وجدت أَمتنا الإسلامية تحتاج إلى تخطيط شامل في حياتها كلها لتسد كل جانب بما يكفيه ليسقط الفرض عن الباقيين.

فإذا ظللنا جميعا نأكل مما تنتجه أَرض غيرنا وأرضنا أخصب وأرحب فإننا نأثم جميعا ما لم تتحرك الحياة في أرضنا وتؤتي ثمارها بإذن ربها ولو استثمرت كما يجب أن يكون لأغنت عالمنا الإسلامي كله وسدت حاجة غيره من المحتاجين.

ص: 438

قلت أولا: أسلوب التربية والثقافة والإعداد للإنسان في عالمنا الإسلامي يحتاج إلى مراجعة إصلاح بحيث تتوحد الغاية وتتسق الوسائل وتمضي لما يجب أن يكون.

إعداد الإنسان الصحيح هو الأصل فيما ننشده من نهضة وما نطلبه من إصلاح.

ثانيا: لابد من جهاز متخصص ذي إمكانات عصرية يقوم بمسح شامل لمعرفة الطاقات والإمكانات الهائلة في عالمنا الإسلامي، ويقدم الأسباب الصادقة لهجرة أبناء المسلمين من ديار الإسلام إلى غيرها وهي تمثل خطراً حقيقياً في تطوير عالمنا الإسلامي بما يتناسب وضرورات العصر.

وهؤلاء المهاجرون لم يهاجروا عقوقاً لأوطانهم وإنما هناك عوامل لا يجهلها كثير من الناس دفعتهم إلى الهجرة وأرغمتهم عليها وأكثر هذه العوامل تنتسب إلى الشعارات المنافية للإسلام التي رمي بها عالمنا الإسلامي في كثير من دياره والتي سحقت معها كرامة الإنسان وامتهنت آدميته وإنسانيته ووضع في غير موضعه باسم وضع الإنسان المناسب في المكان المناسب، وصعب التكامل أَو التفاهم في عالمنا الإسلامي لاختلاف الشعارات وتناقض الغايات، مع أن عالمنا الإسلامي يملك من التكامل فيما بينه ما يقنعه عن الحاجات إلى الغير ويملك من الطاقات البشرية المتخصصة ما يسد حاجته في كثير من ضروراته.

فهل من حصر لهذه الطاقات، وتهيئة الأسباب عودتها بل وتهيئة لأسباب الإستقرار في عالمنا الإسلامي بنبذ الشعارات المفرقة، والتمسك بالكلمة الطيبة الموحدة كلمة الإسلام الذي يجمعنا على إتباع صراط واحد ويجنبنا إتباع السبل المفرقة. {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .

ويخشى أن تستمر الهجرة من ديار الإسلام إذا ظلت الشعارات بشؤمها ولؤمها تأسر فريقا من أبناء المسلمين وتقتل فريقا وتعادي الإسلام في أَرض الإسلام.

ص: 439

لابد للإسلام أَن يحكم على أَرضه ليؤمن أبناءه ويفتح أمامهم أَسباب النهضة الشاملة الكاملة ويجمعهم على كلمة سواء يكونون بها هداة ودعاة للإنسانية جمعاء.

نحتاج في كثير من ديارنا الإسلامية إلى تأمين الإنسان المسلم على أرضه كما نحتاج إلى قيام الأخوة الإسلامية وهي -الأصل- مقام الشعارات الدخيلة المفرقة، إن عالمنا الإسلامي يحتاج إلى نهضة شاملة كاملة في الزراعة والصناعة وجميع مرافق الحياة، إن أمتنا تعيش مشلولة الحركة حين البأس إذا لم يكن على أرضها المصنع الذي يمدها بما تحتاج إليه، كما تعيش منكسة الرأس إذا لم تتعلم كيف تستغني بما أعطاها الله وتجاهد عدو الله وعدوها، وأسلافنا من قبل قد نهضوا بالقليل الذي في أيديهم لأنهم عرفوا أن الإيمان حركة حياة لا قعود معه ولا تواكل ولا يأس ولا قنوط.

والرسول صلى الله عليه وسلم لم يخش على أمته الفقر فيما استقبلت وتستقبل من أيامها فيقول فيما جاء في الحديث المتفق عليه "أبشروا وأملوا ما يسركم فوالله ما الفقر أَخشى عليكم ولكني أَخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم".

تنافسنا عليها وتقاتلنا وقتلنا بها أَنفسنا ولم نجاهد عدونا. بسطت الدنيا فهل استطعنا أن نحقق بها غنى حقيقيا لأنفسنا أم أَنها كثيرة في أيدينا ونحن معها فقراء، وديارنا الإسلامية مع كثرة ما سلب منها هي أوسط وأَخصب بلاد العالم ومعظمها يستورد ما يحتاج إليه من طعام وشراب ولباس وغير ذلك مما هو ضروري وغير ضروري.

ولقد وقع ما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم به وحذر منه فاستفاد غيرنا وخسرنا وانتصر بباطله وهزمنا وشغل بتمزيقنا وشغلنا بأنفسنا.

ص: 440

والرسول صلى الله عليه وسلم يحذرنا من ذلك في آخر فترة من حياته وفي الحديث المتفق عليه عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى قتلى أحد فصلى عليهم بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات ثم طلع إلى المنبر فقال: "إني بين أيديكم قرط وأنا شهيد عليكم، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مكاني هذا وإني لست أَخشى عليكم أن تشركوا ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها"، قال (فكانت آخر نظرة نظرها الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفي رواية "ولكني أَخشى عليكم الدنيا أَن تنافسوا فيها وتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم" قال عقبة (فكان آخر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر) .

كم فرقت الفرقة والتنازع على المسلمين من ايجابيات وجلبت عليه مع الشعارات المنافية للإسلام شعارات اللؤم والغدر والسلبيات المدمرة في أَخص شئونهم وفي علاقتهم بعضهم ببعض. ويخطئ من يظن أننا بغير الإسلام تجتمع لنا كلمة أَو يرتفع لنا بناء. إن ما صلح به ماضينا هو ما يصلح به حاضرنا ومستقبلنا، ولم تستطع القبيلة ولا روابط الجنس والدم أن تجمع الناس على رسالة خير إصلاح وإن جمعت فرقت. والعرب لماذا لم تجمعهم روابط الجنس من قبل؟. لماذا لم يجتمع الأوس والخزرج وبينهم من الصلة ما بينهم؟. إنها الحروب والدماء والقطيعة والبغضاء، أزيلت حين شع نور الإسلام على الديار فصفت النفوس والتقت القلوب وتعانقت الأرواح وأَصبحوا بنعمة الله إخوانا.

بالإسلام صاروا خير أمة أخرجت للناس وبالإسلام امتد نورهم وسما ذكرهم وعرف فضلهم وبالإسلام بطل كيد عدوهم الذي أراد أَن ينفذ إليهم عن طريق إعادتهم إلى عصبية الجاهلية وتناحرها، بالإسلام تتماسك الصفوف وتأتلف النفوس وتتحول الطاقات والإمكانات إلى بناء حضارة تصان فيها كرامة الإنسان.

بالإسلام تسقط جميع السلبيات التي حالت بيننا وبين التعاون على البر والتقوى.

ص: 441

قد تظن أن كل بلد يستطيع أن يبني نفسه ويستصلح أرضه ويوفر حاجة أبنائه ويختار لنفسه من المذاهب ما شاء ولا تدخل لأحد في شئون غيره. وهل يطلب أعداؤنا أكثر من ذلك؟ إنه السبيل لإبتلاع كل فريسة على حدة يؤكل الأبيض والأحمر والأسود وأي تفريط في ترابطنا وتماسكنا وتداعي بعضنا البعض سيجعلنا نقول في حسرة أكلت يوم أكل الثور الأبيض أكلت يوم أكل الأندلس المفقود ويوم ابتلعت جزر البحر الأبيض المتوسط ويوم استعمرت روسيا الشيوعية ديار الإسلام واغتصبت أرضه ويوم ويوم ويوم.

ص: 442

ولن يتوقف جشع الأكلة من الكفرة والفجرة ما لم تؤد أمتنا الإسلامية رسالتها مع نفسها ومع الناس وتحيا مرابطة في سبيل ربها قائمة بما أوجب الله عليها عندئذ تستطيع أن تجير المظلوم وإن كان من غيرها وأن تضرب على يد الظالم وإن كان منها، عندئذ تجيب نداء من قالت وامعتصماه بمائة ألف مقاتل لا بمائة ألف شكوى لمجلس الأمن وهيئة الأمم عندئذ تستطيع أن تصحح مفهوم السلام بإقامة الحق والعدل في الأرض. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} . عندئذ نستطيع أَن نتكلم بلغة ديننا لا في شعارات غيرنا وأن ننادي أهل الكتاب بما ناداهم الله به- {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . عندئذ نستطيع أن نقدم للإنسانية كلها أسباب الأمن والسلم وهي تعيش على بركان من النار يوشك أن يقضي عليها وعلى حضارتها، عندئذ نستطيع أَن نحافظ على أقوات الناس التي أخذت من أفواههم وحشرت في بطون المدافع في ظل حضارة صار فيها الإنسان أرخص شيء.

ص: 443

إن تجارة السلاح قد روجها المفسدون في الأرض وهي تجارة خاسرة مهلكة مدمرة وعندما نقوم نحن المسلمين برسالتنا نستطيع أن نعلم الناس وأن ندلهم على تجارة لن تبور تنجيهم من عذاب أليم، فنصون أَنفسنا ونعلم الإنسانية من حولنا وهذا حقها علينا وسنسأل عنه بين يدي ربنا، لقد انتقل تجار الفساد وموقدو نار الحرب إلى أرضنا ولن يطفئ نارهم ويقتلع فسادهم إلا صدق ولائنا لديننا واعتصامنا بحبل ربنا {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} .

فإن أمتنا الإسلامية تملك من المقومات ما يحفظ شخصيتها وتملك من الأسباب ما يحقق نهضتها من نعم الله التي لا تحصى.

والأمر يتوقف على مدى المحافظة على المقومات والأخذ بالأسباب، وسنة الله لا تجامل أحداً ولا تحابي، والله لا يغير ما بنا حتى نغير ما بأنفسنا.

إن الأخذ بالأسباب يرتبط بالمحافظة على المقومات فهل يتفاعل المسلمون بمقوماتهم مع الأسباب تفاعل شكر لا كفران له، فتنبت الأرض وينتج المصنع ويعمر المسجد ويشغل الفراغ وتذهب المفسدة.

إن الأمر جد لا هزل فيه وخطر محدق يحتاج إلى إعداد وحذر.

والميدان يتسع لكل جهد من كبير وصغير ورجل وامرأة وطالب وعامل.

ورجاؤنا في الله أن تكون الصحوة الإسلامية بارة راشدة، أن تكون على فقه بدينها ومعرفة لعصرها وحكمة وهي تدعو إلى سبيل ربها.

رجاؤنا في الله أَن تكون الصحوة على مستوى الأحداث التي تحيط بالأمة الإسلامية. وأن تعلم أن الأمور لا تدرك بالأماني ولا تطلب بالتمني.

وإنما هو الجد والكد والصدق والصبر والأخذ بالأسباب.

ص: 444

ولقد وصف الله من يختارهم لنصره ومن يؤتيهم فضله {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ}

نسأل الله أن يجعلنا منهم.

إذا ما كساك الله سربال صحة

إذا ما كساك الله سربال صحة

ولم تخل من قوت يحل ويغرُبُ

فلا تغبطن المترفين فإنهم

بمقدار ما يكسوهم الدهر يسلب

(ابن الرومي)

ص: 445

معجزات القرآن العلمية

للشيخ حامد حسين قدير

مكتبة كلية الحديث

وحدة الكون وسر الحياة..

قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} (الأنبياء آية 30) .

التفسير القرآني للآية:

يقول سبحانه منبهاً في هذه الآية على قدرته التامة وسلطانه العظيم في خلقه الأشياء وقهره لجميع المخلوقات وهو يخاطب الجاحدين لألوهيته العابدين معه غيره.

ألم يروا أن السماوات والأرض كانتا شيئاً واحداً متصلاً بعضها ببعض متلاحقاً متراكماً بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر، ففصل هذه من هذه فجعل السماوات سبعاً وجعل من الأرض مثلهن وفصل بين السماء الدنيا بالهواء فأمطرت السماء وأنبتت الأرض.

ثم يقول سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} فبواسطة هذا الماء وبسببه جعلنا كل شيء حي، جماداً كان أو نباتاً حيواناً أو إنساناً إذ لا حياة إطلاقاً بغير ماء ولذا فإن الكواكب التي تخلو منه كالقمر والزهرة لا يصلحان للحياة لانعدام الماء فيها.

وقد أشار سبحانه وتعالى هذه الإشارة الدقيقة بعد ذكر السماوات والأرض ليدل على انعدام الماء في كل السماوات أو بعضها وإذا ثبت في بعضها حياة: فإن وجود الماء في هذا البعض محقق أو لا حياة بدونه وكما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديث له عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:

قلت يا رسول الله إني إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني فأنبئني عن كل شيء فقال صلى الله عليه وسلم: "كل شيء خلق من ماء" الحديث.

ثم يختم سبحانه الآية بقوله {أَفَلا يُؤْمِنُونَ} أي أفلا يصدقون بما يشاهدون وإن ذلك لم يكن بنفسه بل لمكون كونه، ومدبر وحده ولا يجوز أن يكون ذلك الكون محدثا.

ص: 446

الشرح العلمي:

هذه معجزة من معجزات القرآن يؤيدها العلم الحديث الذي قرر أن الكون كان شيئا واحدا من غاز ثم أنقسم إلى سدائم، وعالمنا الشمسي كان نتيجة عن تلك الإنقسامات ومما يؤيد هذا القول أن العلماء استدلوا على أن في الشمس 67 عنصراً من عناصر الأرض البالغة نحوا من 93 عنصراً وسيزيد المستدل عليه من العناصر في الشمس إذا ما ذللت الصعوبات التي تقوم في هذا الشأن.

والعناصر الشهيرة في الشمس شهيرة بيننا نحن معشر أهل الأرض وهي: الهيدرجين. الهليوم. الكربون. الآزوت. الأوكسجين. الفسفور. الحديد

الخ استدل العلماء على كل ذلك بالتحليل الطبقي وهو الذي يستدل به الكيماويون اليوم في معاملهم على ما تحتويه المواد الأرضية من عناصر يكشفون عن نوعها ومقدارها.

والشمس نجم يتمثل فيه سائر النجوم، والنجوم هي الكون. وهذا يعني أن العناصر التي بني منها الكون على اختلافها عناصر واحدة.

ومن ناحية أخرى لاحظ العلماء أن النيازك والصخور والأتربة القمرية التي حصل عليها العلماء من الفضاء الخارجي تحتوي من العناصر ما هو مشائع في الأرض.

وأما الشطر الثاني من الآية {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} فهو من ابلغ ما جاء في القرآن في تقرير حقيقة علمية أدرك العلماء سرها فمعظم العمليات الكيماوية اللازمة للحياة والنمو تحتاج إلى الماء وهو العنصر الأساسي لاستمرار الحياة لجميع الكائنات والنباتات.

والماء يغطي نحو ثلاثة أرباع سطح الأرض وله درجة ذوبان مرتفعة ويبقى سائلا فترة طويلة من الزمن، وله حرارة تصعيد بالغة الارتفاع وهو بذلك يساعد على بقاء درجة الحرارة فوق سطح الأرض عند معدل ثابت ويصونها من التقلبات العنيفة ولولا كل ذلك لتضاءلت صلاحية الأرض للحياة إلى حد كبير.

ص: 447

وللماء خواص أخرى تدل على أن مبدع الكون قد صممه بما يحقق مصالح مخلوقاته فالماء هو المادة الوحيدة التي تقل كثافتها ويزيد حجمها عندما تتجمد، ولهذه الخاصية أهميتها الكبيرة بالنسبة لحياة الأحياء المائية إذ بسببها يطفو الجليد على سطح الماء عندما يشتد البرد بدلا من أن يغوص إلى قاع المحيطات والبحيرات والأنهار ويكون الثلج طبقة عازلة تحفظ الماء الذي تحتها في درجة حرارة فوق درجة التجمد، والماء يمتص كميات كبيرة من الأوكسجين عندما تكون درجة حرارته منخفضة وعندما يتجمد الماء تنطلق منه كميات كبيرة من الحرارة تساعد على صيانة حياة الأحياء التي تعيش في الماء من أسماك وغيرها.

فما أعجب حكمة القرآن الذي يبين بكلمات قليلة العدد سر الحياة على هذه الأرض [1] .

نشأة الكون:

قال الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت آية 11) .

التفسير القرآني للآية:

أي إن الله سبحانه وتعالى عمد إلى خلق السماء وقصد لتسويتها أو يعني صعد أمره إلى السماء وهي دخان والدخان هو كل ما ارتفع من لهب النار ويستعار لما يرق من بخار الأرض وقال أكثر المفسرين إن هذا الدخان هو بخار الماء المتصاعد منه حين خلقت الأرض والمراد إنها لم تكن شيئا مذكورا.

ثم خاطب سبحانه السماء والأرض بقوله ائتيا طوعا أو كرها أي جيئا بما خلقت فيكما من المنافع والمصالح وأخرجاها لخلقي.

فما كان جوابها إلا أن قالا أتينا طائعين.

الشرح العلمي:

إن لعلماء الفلك تفسيرات شتى في بدء تكوين هذا الكون، فالعالم الفلكي سير جيمس جينز يقول:(الراجح أن مادة الكون بدأت غازاً منتشراً خلال الفضاء بانتظام وأن السدائم خلقت من تكاثف هذا الغاز)[2]

ص: 448

كما صرح أستاذ الطبيعة النظرية بجامعة واشنطن في كتابه الشموس وهو الدكتور جورج جامو: (إن الكون في بدء نشأته كان مملوءاً بغاز وزع توزيعاً منتظماً إنه غاز يبلغ من الكثافة ودرجة الحرارة حداً لا يمكن تصوره، وفي هذا الغاز حدثت عمليات التحول النووي في مختلف العناصر وتحت تأثير الضغط الهائل لهذا الغاز الساخن المضغوط بدأ الكون ينبسط ويتمدد وأخذت كثافة المادة ودرجة حرارتها تهبطان في بطء وفي مرحلة معينة من مراحل التمدد تكثف الغاز المنتشر إلى سحب مفردة غير منتظمة في شكلها ولا متساوية في أحجامها مكونة نجوم منفردة.

وكما ذكرنا أن القرآن صور مصدر خلق هذا الكون (بالدخان) وهو الشيء الذي يفهمه العرب من الأشياء الملموسة.

والعلماء اليوم يصورون نشأة هذا الكون (بالغاز) المنتشر في الفضاء أيكون في قدرة أمي- منذ أربعة عشر قرنا - أن يدرك هذا في وقت كان الناس لا يعرفون شيئا عن هذا الكون وخفاياه؟

تمدد الكون وسعته:

قال الله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (الذاريات آية 47) .

التفسير القرآني للآية:

يقول سبحانه منبها على خلقه العالم العلوي {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا} أي جعلناها سقفا محفوظا رفيعا كما قال في آية أخرى {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً} {بِأَيْدٍ} أي بقوة وقدرة {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} أي قد وسعنا أرجاءها وجعلنا بينها وبين الأرض سعة ورفعناها بغير عمد استقلت كما هي بأي مدلول من مدلولات كلمة السماء سواء كانت تعني مدارات النجوم والكواكب، أم تعني مجموعة من المجموعات النجمية التي يطلق عليها اسم المجرة وتحوي مئات الملايين من النجوم، أم تعني طبقة من طبقات هذا الفضاء الذي تناثرت فيه النجوم والكواكب أم غير هذا من مدلولات كلمة السماء.

الشرح العلمي:

ص: 449

هل هذه الآية تطرح وتصف سعة الكون أو أن نظرية تمدد الكون تتوافق مع هذه الآية؟

من الناحية الأولى نرى أن (أينستين) يتخيل سعة هذا الكون بأنه يتسع لبلايين من السدم وكل سديم منها يحتوي على مئات من النجوم المكهربة.

أما نظرية تمدد الكون، فقد لاحظ علماء الفلك في أقصى ما يدركه المنظار علامات تدل على حركة السدم الخارجية حركات نظامية، واستدلوا منها على أن جميع السدم الخارجية أو (الجذر الكونية) تبدو على أنها تتباعد عن مجموعتنا الشمسية بل إنها تتباعد عن بعضها البعض، وعلى هذا الأساس فإن الكون ليس ساكنا إنما يتمدد كما تتمدد فقاعة الصابون أو كما يتمدد البالون ولكن الأجسام المادية هي تحافظ على أحجامها.

وقد تقدم عدد من العلماء الكونيين بنظريات تشرح لغز الكون المتمدد منهم الدكتور هابل رائد الباحثين في السدم فقد لاحظ أن هناك نزعة واحدة تسود هذه المجموعات النجمية الواسعة الشاسعة البعد، وهي أنها أميل إلى الإدبار منها إلى الإقبال كما لاحظ أن سرعة الإدبار تزيد بازدياد أبعاد هذه الجزر الكونية [3]

نقص الأوكسجين في الارتفاعات. أو (الضغط الجوي) :

قال الله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} (الأنعام آية 125) .

التفسير القرآني للآية:

يشير سبحانه وتعالى في معنى هذه الآية: أنه من يرد الله هدايته للحق يوسع صدره حتى يقبله بصدر منشرح أما من يرد الله إضلاله يجعل صدره ضيقاً أشد ما يكون الضيق ويتكلف مالا يطيقه مرة بعد مرة كما يتكلف من يريد الصعود إلى السماء [4]

الشرح العلمي:

للهواء ضغط؟

نعم إن له ضغطا مادام له وزن.

ص: 450

وكلما ازداد وزنه أزداد ضغطه إذا ارتفعت إلى أعلى قل وزن الهواء عن سطح الأرض فضغط الهواء على قمة جبل أقل بكثير من ضغط الهواء عند قاعدته وأول من أكتشف أن للهواء ضغطا هو العالم ((تورشيلي)) ولكن متى كان ذلك؟

كان ذلك في منتصف القرن السابع عشر تقريبا: كشف أن للهواء ضغطاً قاسه وقدره بما يساوي وزن ستة وسبعين سنتيمتر من الزئبق.

وكان كشف تورشيلي هذا خطوة تلتها خطوات، إذ عكف العلماء على دراسة الهواء وغازاته، ثم حاولوا قياس ارتفاعه ومعرفة مقدار تخلخله واستعانوا أخيراً بأحدث وسائلهم -الصواريخ- لمعرفة الحقيقة كاملة ولكن الحقيقة لم تتكشف بكامل صورتها حتى الآن أمام أعينهم حتى بعد هذه الجهود المتتالية إنهم حاولوا تذليل الجو وتعبيد مسالكه فوقفت دونهم صعاب تغلبوا عليها بالعلم ومن بين الصعاب مسألتان أشار إليهما كتاب الله الأعظم.

الأولى - صعود الإنسان في السماء.

الثانية - ما يحدث للإنسان في أثناء هذا الصعود.

ويصحب الصعود في الجو أربع ظواهر:

1-

قلة الضغط.

2-

قلة الأوكسجين.

3-

برودة الجو وتقلب درجة الحرارة.

4-

(انعدام) الوزن إذا تغلغل الإنسان في الفضاء

فكلما ارتفع الإنسان قل الضغط فتخلخل الهواء وهذا يسبب للإنسان ضيقاً في التنفس يمتد كلما زاد الارتفاع وقد يؤدي نقص الضغط إلى تمدد الغازات في معدة الطيار وأمعائه فيسبب له تقلصات عنيفة.

وهناك أيضاً حدوث انتفاخ يدفع الحجاب الحاجز إلى أعلى فيضغط على القلب والرئتين مما يسبب الإغماء للطيار أحيانا، وكذلك يكون الطيار معرضاً لنوبات حادة من السعال لأن الهواء في الارتفاع الشاهق تنقصه الكثافة الكافية لتنظيف قناة التنفس من المواد المهيجة لها وينتج عن قلة الضغط ظاهرة أخرى، فكلما ارتفع الإنسان إلى أعلى نقص الضغط الجوي، على حين يظل الضغط الداخل للجسم كما هو، فيختل التوازن بين الضغطين:

ص: 451

أ- الضغط الداخلي للجسم الذي يظل دون تغير.

ب- الضغط الخارجي للهواء الذي يأخذ في التناقص تدريجيا.

فإذا وصل الإنسان إلى ارتفاع عظيم لم يصبح في الإمكان حفظ التوازن بين هذين الضغطين فينبثق الدم من فتحات الأنف والفم وتنفجر طبلة الأذن إلى الخارج ويصحب ذلك اختناق ثم وفاة أكيدة.

هذا إذا لم تتخذ الاحتياطات اللازمة، ومن بين ما اهتدى إليه العلماء لتجنب هذا (رداء الضغط العالي) الذي دخل عليه باستمرار تحسينات جديدة.

وهذه الظواهر هي التي حدثت في تجربة (تيسانيبه) عند صعود اثنين من رفقائه في بالون سنة 1875 م- فقد ارتفع بهم إلى علو (

ر29) قدم أي تسعة آلاف متر تقريباً: توفي رفقاؤه أما هو فإنه فقد شعوره عندما وصل البالون إلى ارتفاع 25000 قدم ولم يشعر قط بما حدث بعد ذلك.

وأشد ما يصيب الإنسان عند الصعود فقد قوة التمييز والإرادة وهذه الظاهرة تأتي بغتة وبدون سابق إنذار.

أما الأوكسجين وهو الغاز الذي لا يمكن للإنسان أن يحيا بدونه - فهو- يختفي تماماً من الجو على بعد 67 ميلا وينتج من قلة الأكسجين عدم أكسدة الدم ومن ثم عدم حدوث حرارة في الجسم مما يسبب للجسم إعياء وضعفاً وتصيبه برودة ينقلص لها جسمه وتقشعر لها بدنه.

هذا فوق تقلب درجة الحرارة من برودة تفوق زمهرير المنطقة المتجمدة إلى في درجة حرارة أعلى بكثير جداً من درجة حرارة المدارين، ففي قمة طبقة التربوسفير تبلغ درجة الحرارة نحو 67 درجة تحت الصفر، وترتفع درجة الحرارة في الأزونوسفير إلى حدود 30 درجة فوق الصفر وتنخفض في ألايونوسفير إلى حدود 9 درجة تحت الصفر على ارتفاع 50 ميلاً إلا أنها ترتفع بعد ذلك بشكل غريب فهي على ارتفاع 100 ميل 549 فوق الصفر.

ص: 452

وهذه النظرية التي احتوتها الآية القرآنية لم يفطن إليها العلم إلا حينما جاب أجواء الفضاء ببالوناته وطائراته، ولذلك فالطائرات التي ترتفع إلى علو شاهق لابد أن تكون محكمة البناء يلبس طياروها ملابس مزدوجة بينها أجهزة كهربية لتدفئتهم فتدرأ عنهم برودة الجو كما لابد أن يلبس الطيار على فمه وأنفه قناعا ليمده بالأكسجين.

فكلمة العلم قد التقت هي والقرآن الكريم، نعم التقيا بعد أن ظل العلم تائها في بيدائه باحثا متقصيا يهتدي وقتا ويتعثر أوقاتاً حتى عرف الحق بعد أن قضى في تجاربه القرون الطوال [5] .

تفجير الذرة:

قال تعالى: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (سبأ آية 3) .

وقال الله تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (يونس آية 61) .

التفسير القرآني للآية:

يخبرنا الرب سبحانه وتعالى عن إحاطة علمه فيقول إنه لا يغيب عنه ولا يستتر عليه ولا يبعد عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر منه إلا وهو مثبت في اللوح المحفوظ الذي اشتمل على معلومات الله سبحانه أي الجميع مندرج تحت علمه فلا يخفى عليه فالعظام إن تلاشت وتفرقت وتمزقت فهو عالم أين ذهبت وأين تفرقت ثم يعيدها كما بدأها أول مرة فإنه بكل شيء عليم.

وقد لاحظت أن صاحب الفتح ومختصر ابن كثير قد توقفوا عن شرح معنى الذرة ولكن يورد القرطبي في تفسيره عن معنى الذرة فيقول هي نميلة حمراء صغيرة.

ص: 453

وأقول والله أعلم ربما كان أصغر شيء معروف في زمن القرطبي من ناحية الذرات هو النميلة الحمراء ولكن مع المكتشفات العلمية وتطور علم الكيمياء وجد أن الذرة جزء صغير من المادة لا يرى بالعين المجردة فيكون معنى الذرة هو الذرة هذه.

الشرح العلمي:

إن أصغر جزء يمكن أن يوجد في عنصر ما يسمى (الذرة) وقد ظل هذا الإعتقاد سائدا إلى القرن التاسع عشر أن الذرة غير قابلة للتجزئة حتى كشف العلماء في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين إن ذرات بعض المواد كالراديوم واليورانيوم تتجزأ من تلقاء ذاتها وتخرج منها جسيمات ذات كهرباء موجبة تسمى ((ألفا)) وجسيمات ذات كهرباء سالبة تسمى ((بيتا)) وأشعة تسمى ((جاما)) ووقف أخيرا بعد تجزئة الذرة أنها تحتوي على الدقائق الآتية:

البروتون – البيترون – الإلكترون.

ومما أرى أن كلمة (أصغر) من الذرة في الآية القرآنية تصريح جلي بإمكان تجزئتها وفي قوله تعالى: {فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} بيان صريح بأن خواص الذرات التي في الأرض هي نفس خواص الذرات الموجودة في الشمس والنجوم والكواكب.

كان ذلك الخبر الذي أخبر به القرآن في أوائل القرن السابع الميلادي حينما كان العالم يغط في جهله فهل درس محمد عليه الصلاة والسلام خواص الذرة وإمكان تجزئتها والوقوف على خواصها في الأرض والسماء؟

لا! إن هذه الآية دليل قوي على صدق نبوته وإن القرآن وحي إلهي.

الزوجية في كل شيء:

يقول جل من قائل: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الذاريات آية 49) .

التفسير القرآني للآية:

يخبرنا سبحانه في هذه الآية الكريمة على عظم قدرته فجعل جميع المخلوقات أزواجا أي من صنفين ونوعين مختلفين فمثلا:

ص: 454

ليل ونهار، ذكر وأنثى، سماء وأرض، شمس وقمر، بر وبحر، ضياء وظلام، كفر وإيمان، موت وحياة، شقاء وسعادة، جنة ونار، حلو ومر، جن وإنس، سهل وجبل، حتى الحيوانات والنباتات كل ذلك لكي تتذكر وتعلم بأن الخالق واحد.

الشرح العلمي:

مما كان معروفا سابقا وظاهرا للعيان أن الزوجية للمادة كانت جلية تماماً في النباتات والحيوانات من ناحية الذكورة والأنوثة والجمادات من حيث الإجمال.

فأين الزوجية في الجمادات بالتفصيل؟

إن الجمادات مكونة من ذرات وهذه الذرات مكونة زوجية فمثلا ذرة الأيدروجين أبسط الذرات تركيبا تتكون من نواة يدور حولها كهرب وأحد (الكترون) النواة تحمل شحنة كهربية موجبة. والكهرب يحمل شحنة كهربية سالبة. أليست تتمثل الزوجية في هذه الذرة.

أما بقية الذرات فإن كلا منها يتركب من نواة وكهارب تدور حولها وبينهما فراغ أما النواة فتتكون من جسيمات مكهربة تحمل شحنة موجبة تسمى (بروتونات) وجسيمات غير مكهربة أي لا تحمل شحنة كهربية تسمى (نيوترونات) .

أما الكهارب التي تدور حول النواة فتحمل شحنة كهربية سالبة [6] .

كل تلك الاكتشافات بعد مجيء القرآن بقرون كثيرة.

الأمواج الداخلية والسطحية:

قال تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} (سورة النور آية 40) .

التفسير القرآني للآية:

ص: 455

في هذه الآية الكريمة يضرب لنا سبحانه مثلا للكافر ولأعماله ولقلبه الذي لا يعي شيئا فيقول سبحانه أو كظلمات جمع ظلمة في بحر عميق لا يدرك له مقر ويعلو ذلك البحر اللجي موج ومن فوق الموج موج ثم بعد ذلك أي فوق الموج الثاني سحاب فيجتمع فوق الموج وفوق الريح وفوق السحاب ثم يقول سبحانه {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} والمراد بهذه الظلمات ظلمة السحاب وظلمة الموج وظلمة الليل وظلمة البحر فلا يبصر من كان في هذه الظلمات شيئا ولا كوكبا وإذا أخرج الناظر يده لم يكد يراها من شدة الظلمة.

ويختم سبحانه هذه الآية بقوله {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} أي من لم يجعل الله له نوراً يهتدي به إذا أظلمت عليه الأمور فما له من نور [7] .

الشرح العلمي:

ص: 456

في هذه الآية إشارة إلى الأمواج الداخلية والسطحية (فأضخم أمواج المحيط وأشدها رعبا هي أمواج غير منظورة تتحرك في خطوط سيرها الغامضة بعيدا في أعماق البحرِ وقد كان من المعروف منذ سنين كثيرة أن سفن البعثات إلى القطب الشمالي كانت تشق طريقها بكل صعوبة فيما كان يسمى ((بالماء الميت)) والذي عرف الآن أنه أمواج داخلية. وفى أوائل عام 1900 م لفت الأنظار كثيراً من مساحي البحار الاسكندنافيين إلى وجود أمواج تحت سطح الماء، والآن بالرغم من أن الغموض لا يزال يكتنف أسباب تكوين هذه الأمواج العظيمة التي ترتفع وتهبط بعيدا أسفل السطح فإن حدوثها على نطاق واسع في المحيط قد أصبح أمرا معروفا جدا فهي تقذف بالغواصات في المياه العميقة كما تعمل شقيقاتها السطحية على قذف السفن، ويظهر أن هذه الأمواج تنكسر عند التقائها بتيار الخليج وبتيارات أخرى قوية في بحر عميق فالآية القرآنية تقول {يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ} إشارة إلى الأمواج الداخلية والسطحية ويؤيد هذا ما وصفه القرآن للبحر بأنه (البحر) أي كثير الماء عميقة وفي هذا إشارة إلى المحيطات وليس الشواطئ والجدير بالذكر أن هذه المواضع يقل فيها وهيج الشمس فما بالك باجتماع السحاب الذي تكثر فيه الظلمة ويصبح الواقع.

{إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} . فهذه الآية لا علاقة لها بالوسط الجغرافي للبيئة التي نزل فيها القران فلو افترضنا أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى في شبابه منظر البحر الأحمر فلن يعدو رؤية شواطئ البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط وهي لا ينطبق عليها ما وصفه القرآن كل ذلك يعطينا دليلاً واضحا على أن القرآن وحي إلهي [8] .

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

نقلا عن كتاب روح الدين الإسلامي صفحة 49-50.

[2]

نقلا عن كتاب (النجوم في مسالكها) .

ص: 457

[3]

روح الدين الإسلامي.

[4]

كما أورده فتح القدير الشوكاني.

[5]

نقلا عن كتاب القرآن والطب صفحة 35-38.

[6]

كما أورده كتاب القرآن والطب صفحة 27-28.

[7]

القرطبي ج12 ص285

[8]

روح الدين الإسلامي ص 58.

ص: 458

الرسائل الحربية في عصر الدولة الأيوبية (1)

للدكتور محمد نغش

أستاذ مساعد بكلية الشريعة بالجامعة

الرسائل الحربية في عصر الدولة الأيوبية تلقي الضوء على تاريخ أمتنا الإسلامية في فترة من فترات كفاحها المجيد ضد الصليبيين المعتدين، وتلك الحقبة تماثل ما نعانيه في عصرنا الحالي من الاحتلال لأراضينا المقدسة، وما سوف نخوضه إن شاء الله تعالى من جهاد مقدس من أجل تحرير الأرض الإسلامية من أيدي هؤلاء الكفرة الفجرة.

وقد قسمت البحث إلى ثلاثة أبواب:

الباب الأول: عن الدواوين وثيقة الصلة بالجيش الأيوبي، وهي: ديوان الإنشاء، وديوان الجيش وديوان الأسطول. وديوان الأسرى، وديوان البريد.

وقد ذكرت السمات الواجب توافرها في رؤساء الدواوين، والأعمال التي يباشرونها.

والباب الثاني: عن الرسائل الحربية في عصر مؤسس الدولة الأيوبية الملك المظفر صلاح الدين الأيوبي وابنه الملك العزيز، ثم الملك المعظم توران شاه، ثم الملك الصالح نجم الدين أيوب.

وقد ذكرت الأسلوب الذي صيغت به تلك الرسائل في إيجاز، وطريقة إعداد الرسائل وتصديرها.

والباب الثالث: عقدت فيه موازنة بين الرسائل الحربية والشعر المعاصر لها، في تنافسهما في التعبير عن مشاعر المسلمين وفرحتهم بنصر الله المبين بفتح القدس وتطهيره من المغتصبين.

والله أسال أن يحقق النصر للمؤمنين، وأن يستردوا أرضهم السليبة من أيدي الصهاينة الآثمين.

الباب الأول

الدواوين وثيقة الصلة بالجيش الأيوبي

كانت الدولة الأيوبية دولة عسكرية، نشأت وترعرعت إبان الحروب الصليبية، وخاضت المعارك الحربية الواحدة تلو الأخرى في بسالة.

ص: 459

وبرز في هذه الدولة ديوانان كبيران هما ديوان الإنشاء وديوان الجيوش، وكان عليهما المعول الأكبر في سياسة الدولة كلها في الداخل والخارج، يساعدهما في التنفيذ باقي الدواوين، وكان يضم هذه الدواوين جميعا دار الوزارة.

ديوان الإنشاء:

ظل ديوان الإنشاء طول عصر الحروب الصليبية رفيع المكانة، معنياً به أشد العناية، فهو ديوان عظيم المقدار، وهو خزانة الأسرار، شريف بمراسلة السلطان [1] .

كان ديوان الإنشاء يومئذ رأس الدولة المفكر، ووسيلة اتصال الحكومة بفروعها في داخل البلاد، وبغيرها من الحكومات في خارج حدودها، وقد استطاع النثر أن يفي بحاجة الأمة وأن يعبر عن مشاعرها وإحساساتها [2] ، وقد أدرك صاحب صبح الأعشى قيمة ما يسجله ديوان الإنشاء، فقال:"إنه لو جمعت بعض دفاتره لاجتمع منها تاريخ كامل"[3] .

وكان العاملون في ديوان الإنشاء في غاية الصيانة والنزاهة وقلة الخلطة بالناس، وأتفق أن الصاحب زين الدين يعقوب بن الزبير كان من جملتهم، فسمع الملك الصالح نجم الدين أيوب عنه أنه يحضر في السماعات [4] ، فصرفه من ديوان لا يحتمل مثل هذا [5] .

ديوان الجيش:

أشرف ديوان الجيش في عهد الأيوبيين على شئون الجيش، من تجنيد وعتاد وخلافة، وكان يطلق عليه أيضا ديوان الإقطاع [6] وتسمية ديوان الجيش بديوان الإقطاع يدل في صورة

قاطعة على مبلغ اعتماد النظام الحربي الأيوبي أو معظمه على الأقل على التوزيع الإقطاعي [7] ، فمن الطبيعي أن ينقل صلاح الدين عن مخدومه نور الدين نظام الإقطاع الحربي الوراثي والشخصي إلى مصر، غداة أن استتب له الأمر فيها، بعد وفاة العاضد سنة (567 هـ= 1172 م)[8] .

وكتب ابن مماتي فصلا في المقرر عن ميرة الإقطاعات في دولة صلاح الدين، مرتبة قيمتها حسب درجات الأجناد وجنسياتهم.

ص: 460

فالأجناد من الأتراك والأكراد والتركمان دينارهم الإقطاعي دينار واحد كامل جنديا.. الكتابة والعاقلة من العربان ومن يجري مجراهم على عادة الأجناد المصريين، دينارهم نصف دينار

والغزاة والقواد ومن هم في معناهم، دينارهم ربع دينار.. السعر الناقص عن كل دينار جندي

والمأمور بالحوالة به عن كل دينار واحد جندي أردب واحد الثلثان قمح والثلث شعير، والحوالة علا بيت المال في مستحق الأجناد، كل جندي ربع دينار عنباً على سبيل المصالحة.

على أن المراجع الأيوبية - فيما يعلم الباحث - خلت من ذكر تفصيلات عن تقييم تلك الطوائف إلى أقسام أصغر منها، ليعرف كل أمير وجندي رتبته ومركزه في الجيش [9] .

وفي صبح الأعشى صورة لما كان عليه ديوان الجيش في عهد الفاطميين، وأعتقد أن الصورة العامة في عصر الأيوبيين لم تتغير كثيرا من الناحية الإدارية، فتقسيم هذا الديوان إلى ثلاثة أقسام أولها خاص بالشئون الحربية العامة، والثاني خاص بالرواتب. والثالث خاص بالإقطاعات.

فديوان الجيش مثلا في العصرين الفاطمي والأيوبي لا يكون صاحبه إلا مسلما، وله الرتبة الجليلة والمكانة الرفيعة، وبين يديه حاجب، وإليه عرض الأجناد وخيولهم، وذكر حلاهم ومعدات خيولهم. وكان من شرط هذا الديوان عندهم ألا يثبت لأحد من الأجناد إلا الفرس الجيد دون البغال والبراذين، وليس له تغيير أحد من الأجناد، ولا شيء من إقطاعهم إلا بمرسوم. وبين يدي صاحب هذا الديوان نقباء الأمراء، يعرفونه أحوال الأجناد من الحياة والموت والغيبة والحضور وغير ذلك، وكان قد فسح للأجناد في المقايضة بالإقطاعات لما لهم في ذلك من المصالح بتوقيعات من صاحب ديوان المجلس من غير علامة، ومن هذا الديوان كان يعمل أوراق أرباب الجرايات، وله خازنان.

ص: 461

وإدارة الرواتب تشتمل على اسم كل مرتزق في الدولة وجار وجراية، والتعريفات واردة عليه من كل عمل باستمرار من هو مستمر. ومباشرة من أستجد، وموت من مات، وأما إدارة الإقطاع فقد كانت مختصة عندهم بما هو مقطع للأجناد [10] .

ديوان الأسطول:

وشرع صلاح الدين بعد وصوله القاهرة في النظر في الشئون البحرية والأسطول، وربما كان سر اهتمامه بالأمور البحرية مباشرة بعد إزالة الدولة الفاطمية، أنه كان يخشى مجيء حملة بحرية من ناحية أفريقية من المغاربة أو من ناحية الصليبيين وأحلافهم من البيزنطيين والصقليين، كما حدث قبلا، بحجة التدخل لإعادة الدولة الفاطمية، أو أنه رأى البحرية الفاطمية ودور الصناعة في حال تدعو إلى العناية، بعد أن نزل بها ما نزلت بسبب إحراق شاور الفسطاط ودور الصناعة بها غداة وصول حملة أمورى الثالثة في سنة 563 هـ = 1168 م أو أنه أخذ في ترتيب شئونه الحربية عامة بمجرد أن صار صاحب الأمر في مصر بعد وفاة العاضد، وهذا الاحتمال الثالث هو الأرجح، بدليل اهتمامه بالجيش في السنة نفسها [11] .

وولى صلاح الدين نظر ذلك الديوان وقتذاك صديقا من أصدقائه، لم تذكر المراجع اسمه أو شيئا عنه ماعدا أن صلاح الدين أفرد له إقطاعاً مخصوصاً وديواناً مفرداً هو ديوان الأسطول، وأنه كتب إلى جميع الأعمال المصرية والشامية يؤكد عليهم وجوب تلبية طلبات صاحب الأسطول، كلما وصلت إليهم، من حيث جمع الرجال الذين يأخذهم ناظر ديوان الأسطول للخدمة في السفن الأيوبية [12] .

ص: 462

ويقول المقريزي: لما كان زوال الدولة الفاطمية على يد السلطان صلاح الدين يوسف ابن أيوب اعتنى أيضا بأمر الأسطول، وأفرد له ديوانا عرف بديوان الأسطول، وعين لهذا الديوان الفيوم بأعمالها والحبس الجيوش في البرين الشرقي والغربي، وهو من البر الشرقي بهتين والأميرية والمنية، ومن البر الغربي ناحية سفط ونهيا ووسيم والبساتين خارج القاهرة، وعين له أيضا الخراج، وهو أشجار من سنط لا تحصى كثرة البهناوية وسفط ريشين والأشمونين والأسيوطية والأخميمية والقوصية، لم تزل بهذه النواحي لا يقطع منها إلا ما تدعو الحاجة إليه، وكان فيها ما تبلغ قيمة العود الواحد منه مائة دينار.

وعين له أيضا النطرون وكان قد بلغ ضمانه ثمانية آلاف دينار، ثم أفرد لديوان الأسطول مع ذكر الزكاة التي كانت تجبى بمصر، وبلغت في سنة زيادة على خمسين ألف دينار، وأفرد له المراكب الديوانية وناحية أشناق وطنبوى، وسلم هذا الديوان لأخيه الملك العادل أبي بكر محمد بن أيوب [13] . فأقام في مباشرته وعمالته صفي الدين عبد الله بن شكر، وتقرر ديوان الأسطول الذي ينفق في رجاله نصف وربع دينار بعد ما كان نصف وثمن دينار، فلما مات السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب استمر الحال في الأسطول قليلا، ثم قل الاهتمام به وصار لا يفكر في أمره إلا عند الحاجة إليه، ثم لما انقرضت دولة بني أيوب وتملك الأتراك المماليك مصر أهملوا أمر الأسطول، إلى أن كانت أيام السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداوى فنظر فما أمر الشوافي الحربية، وأستدعى رجال الأسطول، وكان الأمراء قد استعملوها في الحراريق وغيرها، وندبهم للسفر، وأمر بمد الشوافي. وقطع الأخشاب لعمارتها وإقامتها على ما كانت عليه، في أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب [14] !

وأسماء المراكب الحربية في أسطول الدولة الأيوبية كما ذكرها ابن مماتي هي: (طريدة، حمالة، شيني، مسطح، حراقة، مركوس، شلندي، أعزازي)[15] .

ص: 463

وكان في مصر حتى آخر القرن السادس للهجرة ثلاث دور للصناعة مشهورة ذكرها ابن مماتي صاحب قوانين الدواوين فقال:

صناعة العمائر فيها تنشأ المراكب المذكورة، ولها مستخدمون يستدعون ما يحتاج إليه، ويطلق لهم المال والأصناف ويسترفع منهم الحسبانات وفيها يباع من حطام وغيره، وترد حساباتهم، والصناعات الآن ثلاثة، بمصر، والإسكندرية، ودمياط [16] .

ديوان الأسرى:

قال القاضي محي الدين عبد الله بن عبد الظاهر في كتاب الدر النظيم في أوصاف القاضي الفاضل عبد الرحيم، ومن جمله بنائه دار التمر بمصر المحروسة، ولها دخل عظيم يجمع ويشترى به الأسرى من بلاد الفرنج، وذلك مستمر إلى هذا الوقت، وفي كل وقت يحضر بالأسارى فيلبسون ويطوفون ويدعون له، وسمعتهم مرارا يقولون: يا الله يارحيم أرحم القاضي الفاضل عبد الرحيم. وقال القاضي جمال الدين بن شيث: كان للقاضي الفاضل ريع عظيم يؤجره بمبلغ كبير فلما عزم على الحج ركب ومر به ووقف عليه. وقال: اللهم إنك تعلم أن هذا الخان ليس شيء أحب إلي منه، أو قال أعز علىّ منه، اللهم فاشهد أني وقفته على فكاك الأسرى من بلاد الفرنج [17] .

ديوان البريد:

من الترتيبات العسكرية العامة التي قررها السلطان صلاح الدين سنة 567 هـ= 1171 م استخدم البريد الحربي، نقلا عن مخدومه نور الدين، ورتب لذلك في كل ثغر رجالا، ومعهم حمام المدينة التي تجاورهم، فإذا رأوا أو سمعوا أمراً كتبوه لوقته وعلقوه على الطائر وسرحوه إلى المدينة التي هو منها في ساعته، فتنتقل الرقعة من الطائر إلى طائر آخر من البلد الذي يجاورهم، وهكذا إلى أن تصل الأخبار إليه [18] .

ص: 464

ويشرح القاضي الفاضل في إحدى رسائله ما كان يؤديه به الحمام من دور فعال في هذا الشأن. ومما قاله في هذه الرسالة: "سرحت لإنزال أجنحتها محملة البطائق أجنحة، وتجهيز جيوش القاصد والأقلام أسلحة، وتحمل من الأخبار ما تحمله الضمائر، وتطوي الأرض إذا نشرت الجناح الطائر، وتزوي به الأرض ما يبلغه ملك هذه الأمة، وتضرب من السماء حتى ترى ما لا يبلغه ولا همه وقد أخذت عهود الأمانة في رقابها أطواقا، وصارت خوافي من وراء الخوافي، وغطت سرحها المودع بكتمان سحبت عليه ذيول ريشها الضوافي، ترغم أنف النوى بتقريب العهود، وتكاد العيون بملاحظتها تلاحظ أنجم السعود، وهي أنبياء الطير لكثرة ما تأتي به من الأنباء، وخطباؤها لأنها تقوم على الأغصان مقام الخطباء"[19] .

رؤساء الدواوين:

إذا كان التنظيم الإداري بمفهومه العلمي الحديث هو تحديد المسئوليات والسلطات والعلاقات بين الأفراد في الجهد الجماعي بقصد تحقيق أهداف محددة، فالدواوين الأيوبية كانت تنهج هذا السبيل في تحديد المسئوليات للعاملين، وتنظيم العلاقات بينهم وبين رؤسائهم.

وعندما نستعرض الهيكل الوظيفي في عصر الدولة الأيوبية، ندرك أنه يوجد نظام إداري يتسم بالإحكام والتخطيط السليم.

فالدولة يحكمها السلطان عن طريق وزير يمثل قمة السلطنة التنفيذية، ويلي الوزير في المرتبة رؤساء الدواوين المختلفة، وفي كل ديوان العاملون به، وهم على درجات عليا ودنيا، إذن فهم يتبعون التسلسل الإداري في السلطة. ولكل موظف اختصاصات محددة يسير على هداها، وصفات معينة يلزم توافرها فيه، وكانت هناك نظرية الإنابة في العمل فهذا الموظف يحل مكان فلان في وظيفته في حالة غيابه.

وإذا نظرنا للتقسيمات الوظيفية بالمصطلح الحديث من وظائف إدارية أو قيادية، ووظائف فنية أو كتابية، ودرجات عمالية، وجدنا هذا النمط معمولا به في تلك الحقبة من الزمن.

ص: 465

فنحن نعرف أن مصر بلد زراعي، وأن بها بعض الصناعات اللازمة لمواجهة الحروب الصليبية، وكانت بها دار الضرب المصرية لصك النقود.

إذن كانت الوظائف بها أغلبها خاص إما بالزراعة أو بالصناعات الحربية مثل بناء السفن وغيرها، أو بالعمل في صك النقود، وماعدا ذلك فيتعلق بالشئون الاجتماعية العامة.

الوزير:

لم يرد تعريف للوزير في الكتب التي أرخت للدولة الأيوبية على رغم أن هذه الوظيفة كانت موجودة ومسندة إلى رئيس ديوان الإنشاء كالقاضي الفاضل، أو إلى وزير كصفي الدين بن شكر، وبين أيدينا تعريف لهذه الوظيفة، والصفات الواجب توافرها فيمن تسند إليه، كما جاء ذلك في كتاب صدر في عصر الدولة الفاطمية، إذ يقول مؤلفه [20] :"يجب أن يكون الوزير قيما بجميع أنواع الكتابة وأقسامها، عالما بشروطها وأحكامها، لأن كل ناظر في فن من فنونها إليه يرفع ما ينظر فيه، فلا يجوز أن يكون جاهلا بشيء منه، وأن يكون نافذا في علوم الدين، لأن الدين أساس الملك الذي يبنى عليه أمره".

ويشترط أبن خلف أن يتحلى لوزير بحميد الأخلاق، وأن يتسم بنبيل الصفات، وأن يظهر في سعة المنزل والطعام، والفرش والثياب، وما إلى ذلك، مما يليق بمقامه الخطير.

ص: 466

كما يشترط أن يكون خبيرا محنكا في جميع ما يخص السلطان والرعية، فيقول:"يجب أن يكون الوزير متجنباً للغضب، قليل اللهو والطرب، مداوماً للتجارب، ملابساً للنوائب، عارفاً بتصرف الأحوال، عالماً بوجوه الأموال، ومصالح الأعمال، مستوفياً لحقوق السلطان، من غير حيف على معاملته ورعيته، معتمداً للإنصاف لهم والإنصاف منهم، مقدماً أهل الفضيلة والدين والغنى، مستكفياً للكفاة، عارفاً لذوي البيوتات والرتب أَقدارهم ومنازلهم، منزلاً لهم بحيث ما يستحقون منها، بصيراً بمكايد الحروب، ومعاجمة الخطوب، وتدبير الدولة، وسياسة الرعية، عارفاً بما يعتمد كل طبقة منها من عسف ولطف، وخشونة ولين، وما يصلح عليه من السير المتضادة، لا يشغله كبير أمر عن صغيره، مقدماً للحزم، عاملاً بالعزم، ناظراً في العواقب"[21] .

نظار الدواوين:

ونظار الدواوين في الدولة الأيوبية، كانوا يمثلون السلطة الإدارية العليا، وكانت تسند إليه من قبل الوزارة الأعمال الهامة الخاصة بشئون الدولة الداخلية والخارجية.

ويسمى الناظر أَحياناً بصاحب الديوان أو بوالي الديوان وكان يطلق على ناظر ديوان الإنشاء صاحب الدست، وفى هذه التسميات دلالة على مدى السلطات الممنوحة له في مجال اختصاصه.

ومن الصفات العامة لأعمال الناظر. أنه رأَس الديوان ويلزمه ضبط جميع جهات الديوان استخراجاً وخرجاً، وإقامة الجرائد بالجهات وخدمتها بما يستأدى منها لأنه يكتب على العمل الجامع لها، ويعين ما ينساق من الباقي في المعاملات [22] .

ويقول ابن مماتى: "ليس لأحد مستخدميه أَن ينفرد عنه بشيء من علم المنظور فيه، ومن لوازمه أن يكون علمه محوطا بضبطه، محفوظا بخطه، وإن كان ناظر مشارف، كتب خطه على ما يرفع من الحساب، ويخرج من الوصولات، وهو مخاطب على كل ما يتم في معاملته من خلل"[23] .

ناظر ديوان الإنشاء:

ص: 467

ونقرأ شروط النابلسي في ناظر ديوان الإنشاء نثراً وشعراً إذ يقول: "يشترط أن يكون الناظر فيه مضطلعاً من العلوم لاسيما الأدب، له قدرة على صعود ذروتي النظم والنثر بل على ارتقاء درج البلاغة، إلى طبقة حل المنظوم ونظم المنثور والإستشهاد بما يحتاج إليه من الكتاب العزيز بآيات في المعنى الذي رسم له.

وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وسير الخلفاء وأخبار الملوك، وتواريخ العجم، وأيام العرب، ووقائعها وأمثالها، إلى غير ذلك من الفنون التي يطول شرحها ووصفها، وهو باب متسع، وعر المسلك، عزيز الوجود جداً".

والظاهر أن وظيفة رئيس ديوان الإنشاء، وما ينبغي أن يكون حاصلاً عنده من العلوم والمعارف والأخلاق، قد حظيت بعناية كبيرة في العصر الفاطمي، وقد دون ابن منجب الصيرفي ذلك في كتابه قانون ديوان الرسائل، ولما كان كتاب الدواوين في العصر الأيوبي قد أشاروا إلى هذه الوظيفة في كلمات مقتضبة، إلا أنها تدل على خطورة مكانة صاحبها، وأهمية الدور الذي يؤديه في الجهاز الحكومي للدولة الأيوبية، فقد رأينا أن نذكر الشروط الأساسية الواجب توافرها في رئيس ديوان الإنشاء التي تعتبر من وجهة نظرنا قواعد عامة سارت عليها الدولة الأيوبية فيمن يتولون العمل بهذا الديوان، خاصة وأن القاضي الفاضل وزير السلطان صلاح الدين ورئيس ديوان الإنشاء في عصره، تربى في الدولة الفاطمية، وتولى رئاسة الديوان في أيام العاضد آخر خلفائها، واستمر في عمله حنى نهاية عمره في عهد الدولة الأيوبية.

ص: 468

فهو إذن امتداد طبيعي لهذه الوظيفة التي يقول عنها ابن منجب الصيرفي ما فحواه: "أن يكون ذا دين وورع وأمانة، ونزاهة نفس، ويجب أن يكون دينه الإسلام، لأنه من الملك بمنزلة الوزير، وأن يكون متمذهباً بالمذهب الذي عليه الملك، ويجب أن يكون من يختار لهذه المرتبة ممكنا من عقله، ويجب أن يكون أصيلاً في قومه، رفيعا في حسبه، ويجب أن يكون صبيح الوجه، فصيح الألفاظ، طلق اللسان، ويجب أن يكون وقورا حليما، مؤثرا للجد على الهزل، محبا للشغل أكثر من محبته للفراغ، مقسما للزمان على أشغاله، كثير الأناة، قليل العجلة والحذق، نزر الضحك، مهيب المجلس، ساكن الظل، وقور النادي، حسن اللقاء، لطيف الإجابة، شديد الذكاء، متوقد الفهم، حسن الكلام إذا حدث، حسن الإصغاء إذا حُدث، سريع الرضا، بطيء الغضب، رؤوفا بأهل الدين ساعيا في مصالحهم محبا لذوي العلم والأدب، راغبا في نفعهم، يغلب هوى الملك على هواه ورضاه على رضاه، ما لم ير في ذلك خللا على المملكة، فإنه يجب أن يهدي النصيحة للملك، من غير أن يوجد أن فيما تقدم من رأيه فسادا أو نقصا، ولكن يتحيل لنقص ذلك وتهجينه في نفسه، وإيضاح الواجب فيه بأحسن تأن وأفضل تلطف، ويكون من كتمان السر بمنزلة لا يدانيه فيها أحد"[24] .

ما ذكرناه هو مجمل الصفات الشخصية الواجب توافرها في متولي هذا الديوان، فما هو نوع الثقافة اللازمة له؟

نجد أن العناصر الأساسية لهذا العمل أن يكون صاحب الديوان مثقفا، وأول ما يجب أن يعتني به حفظ كتاب الله تعالى. فهو أحوج الناس إلى الإستشهاد به في أثناء محاوراته، وفصول مكاتباته، والتمثل بنواهيه وأوامره، والذكر لقوارعه وزواجره، ويجب أن يكون من البلاغة والفصاحة في أعلى مرتبة وأسنى منزلة، بحيث لا يوجد أحد في عصره يفوقه في هذا الفن، وينبغي أن يكون مظطلعا بفنون الكتابة، عالما بأصولها وفصولها، مستقلا بأعبائها، يفوق في النهضة جميع المستخدمين معه والمعينين له.

ص: 469

ويكون حافظا لأخبار الرسول والأئمة، راويا لأخبار الملوك وأيام العرب ووقائعهم، وأخبار العجم وسائر الأمم، وما جرى في أيام الملوك الماضين، وما حدث من وزرائهم وكتابهم وقوادهم وأخبارهم.

ويجب أن يكون لديه شيء من معرفة الحلال والحرام، ليكون واجدا له متى دفع إلى أن يسأل عنه، ويجب أن يكون حافظا للأشعار راويا للكثير منها، ويجب أن يكون قد قرأ من العربية والتصريف واللغة أكثرها [25] .

وأخيراً نتحدث عن مجمل صفاته السلوكية تجاه الملك كما جاء في كتاب قانون ديوان الرسائل، وهو أن ينحل الملك صائب الآراء، ولا ينتحلها عليه، ومهما حدث من رأي صائب أو فعل جميل، أو تدبير حميد أشاعه وأذاعه وعظمه وفخمه وكرر ذكره، وأوجب على الناس حمده وشكره، وإذا قال الملك قولا في مجلسه أو بحضرة جماعة ممن يخدمه، فلم يره موافقا للصواب فلا يجبهه بالرد عليه واستهجان ما أتى به، فإن ذلك خطأ كبير بل يصبر لحين الخلوة ويداخل في أثناء كلامه ما يوضح به نهج الصواب من غير تلق برد، ولا يتبجح بما عنده، ويكون متابعا للملك على أخلاقه الفاضلة وطباعه الشريفة.

وإن أحس منه بخلة تنافي هذه الخلال، وفعلة تخالف هذه الأفعال، نقله عنها بألطف سعي وأحسن تدريج، ولم يدع ممكنا في تبيين متجهها وإيضاح رداءة عاقبتها، وفضيلة مخالفتها إلا بينه وأوضحه، إلى أن يعيده إلى الفضائل، التي هي بالملوك النبلاء أليق.

ص: 470

ثم يعقد ابن منجب الصيرفي فصلا فيما يختص متولي ديوان الرسائل بالنظر فيه من الأعمال التي لا يقوم بها غيره، وهو: أن يلازم مجلس الملك ما كان جالساً ليتأس به سائر المستخدمين معه، ولا يجدوا رخصة في الغيبة عن الديوان، ثم تأمل الكتب الواردة على الملك وتسليمها إلى أوثق كتابه، وأمنهم في نفسه، ليخرجها في ظاهرها، ثم يعيدها إليه، فيقابل بها، فإن وجده أخل بشيء منها، أضافه بخطه، وأنكر عليه إهمالها ليتنبه في المستأنف، وإن لم يكن فيها خلل عرضها على الملك، واستخرج فيها أمره، وسطر تحت كل فصل منها، ما يجب أن يكون جوابا عنه، على أحسن الوجوه وأفضلها، ثم سلمها إلى من يكتب الجواب عنها، ممن يعرف اضطلاعه بذلك، ثم قابل الجواب بالتخريج، وما وقع تحته، فإن وجد فيها خللا سده، أو مهملا ذكره، أو سهواً أصلحه، وإن علم أنه قد كتبها على أفضل الوجوه وأسدها، وأنه لم يغادر معنى، ولم يزد إلا ألفاظاً، ينمق بها كتابته، ويؤكد بها قوله، عرضها على الملك ليعلم ما فيها، ثم استدعى من يتولى الإلصاق فألصقها بحضرته، وجعل على كل منها بطاقة، يشير فيها إلى مضمونه، لئلا يسأل عنه بعد إلصاقه، فلا يعلم ما هو، ثم يسلمها إلى من يتولى تنفيذها، إلى حيث أهلت له، ويأخذ خطه بعدتها، منسوبا كل منها إلى من كتب إليه، ومشاراً إلى مضمونه، ويسلم النسخ المخرجة الملخصة إلى من يؤهله لحفظها وترتيبها.

ويلزمه أن يتصفح ما يكتب من السجلات والمناشير والأمانات، وجميع ما يقع عليه اسم الإنشاء تصفحاً تاماً، يأمن معه أن يدخل على شيء مما يكتب من ديوانه زيغ ولا زلل ولا تحريف.

ويلزمه أن يقيم حاجباً لديوانه، لا يمكن أحداً من سائر الناس أن يدخل إليه، ما خلا المستخدمين فيه [26] .

ص: 471

ثم يفصل بعد ذلك كيفية مباشرته لأعماله بقوله: "يوقع فيما أمكنه التوقيع فيه من رقاع المتظلمين، مما جرت العادة بمثله، وما كان لابد له من عرضه على السلطان واستطلاع رأيه فيه، سلمه إلى متولي ديوانه ليحضر به المجلس، ويستخرج فيه الأمر، أو يحضر الكاتب نفسه فيقرأ المهمات منها، ويستأذن عليها، ويوقع بما يؤمر فيها، فقد تحدث فيها الرقعة المهمة التي تنتفع الدولة بها، ويستضر بتأخير النظر فيها، ويفهم من على هذه الرقاع من جور بعض الولاة والمستخدمين، وامتداد أيديهم ما توجب السياسة صرفهم عما ولوه منها، وما كان منها مما يسأل السلطان في صحته، ندب من يثق فيه لكشفه مع رافعه، فإن صح قوله أنصف من خصمه، وإن بان تمحله قوبل بما يردع أمثاله على الكذب والتخرص، فيكون ذلك كافاً لمن يهم بشكوى أحد على سبيل المحال وقول الزور فيه"[27] .

ناظر ديوان الجيوش:

ولما كانت الدولة الأيوبية تتبع نظام الإقطاع الحربي في توزيع الأرض على الأمراء والأجناد، فإنه نشأت وظيفة ناظر ديوان الجيوش لرعاية مصالح هذه الإقطاعات، ويوضح النابلسي الأعمال التي يباشرها صاحب هذا الديوان، فيقول:

"إنه يسترفع كل سنة نسخة قوانين ري البلاد، ليعلم ما نقص وما زاد، وكذلك نسخ السجلات من البلاد ليعلم ما ترجح من ارتفاعها، وما هي عليه من أوضاعها، وما انتقل من مدن العين إلى الغلة، ومن الغلة إلى العين، ومن صنف إلى صنف، وما عمر فيها من الخراب الذي لا يعلوه النيل وغير ذلك.

وترفع إليه أوراق زيادة النيل بعد انتهاء الزيادة، ليعلم بها قوانين الري ما روى من البلاد، ومن صفات الناظر في هذا الديوان، أن يكون كبير القدر في نفسه وعند سلطانه، له جلالة ووجاهة، فإن أمراء الدولة مع جلالة أقدارهم، يحتاجون إلى مخاطبته والتلطف لأجل إقطاعاتهم وأجنادهم وجلب مصالحهم، ودفع مضارهم" [28] .

ص: 472

وأما الصفات اللازمة له في أثناء الحرب، حتى يكون ناجحاً في تأدية مهمته القتالية على أحسن وجه، أن يأخذ لضعيفها من قويها، ويقيم الحدود فيها على من وجبت عليه، ويقوي يد ديوانها على استخراج الأموال، وتمشية الأشغال، وحفظ السبل إلى عمله من كل جهة، هي داخلة في حد عمله.

ويحتاج أيضاً إلى أن يكون ذا سياسة ورياسة، وعقل رصين ونزاهة، وعفة فرج ويد ولسان، وحسن تدبير، وصدق لهجة، ويقظة وعزم، وتحل بهمة وعزم [29] .

ولما كانت المهمة المنوطة بناظر ديوان الجيش ذات أهمية بالغة في عصر الحروب الصليبية، أردنا أن نستعين بالصورة التي رسمها علي بن خلف في عصر الدولة الفاطمية، ففيها شيء من التفصيل، بخلاف ما عثرنا عليه في كتب الدواوين الأيوبية، خاصة وأن ظروف العمل الحربي ضد الصليبيين في العصرين واحدة.

إذ يقول: "أن منزلته بمقتضى خطر ما ينظر فيه من أمور الرجال الذين هم أعضاء السلطان وأعوانه، وهو يحتاج إلى الإستقلال بجرد كثير من الحساب، وإلى معرفة صفات الخيل، والمعرفة بالأسلحة وأنواعها، والسيوف وجواهرها ومياهها، والرماح وأجناسها والمختار منها، والقسي والسهام والدروع وما يجاريها من الآلات وأن يطالب الأجناد بتحصيلها وعرضها في كل وقت، كما تعرض الخيول التي يثبت شياتها في ديوانه، ولا يفتح لأحد منهم في الإستبدال من جيد برديء، ولا من عيق بهجين، ولا من أسل بذقى [30] ، ومن غير شيئاً ألزمه بتعويض ما غيره، ولذلك أوقع حزمه الملوك الوسوم على الخيول والعلامات على الأسلحة، ولا بأس بأن يكون قد تأدب بالفروسية، وأخذ بطرف من العمل بالسلاح"[31] .

ص: 473

وكعادة كتاب الدواوين يذيل ابن خلف كتاباته بذكر الصفات الحميدة التي يجب أن يتحلى بها القائم بهذه الوظيفة الخطيرة، فيقول:"يجب أن يكون فيه حسن مداراة، وجميل ملقى، وصبر على أمر أخلاق من عامله، فإنه مدفوع إلى سياسة طوائف عدة من أهل الحمية وعزة النفس، وهو محتاج إلى رياضتهم، وحسن السيرة في معاملتهم، ليتمكن من حملهم على الحق، وأن يبني أمره على النزاهة عن الطمع، ليعتذر بذلك عما يرومه من تركهم منازلهم، وليحذر وضع الأعلى، ورفع الناقص وليأخذ بالحزم والأمانة"[32] .

صاحب ديوان الإقطاع:

أما صاحب ديوان الإقطاع، فمرتبته دون صاحب ديوان الجيش، وإن اشتركا في العمل، ويلزمه ما يلزم ذلك من أحوال الأجناد والإحاطة بهاء وأن يكون درباً بعبرة البلاد وحواصلها وأسمائها وأثقالها.

ويشترط فيه أن يكون حاضر الحس في الجمع درباً فيه، بحيث إذا سئل عن جملة مفصلة أجاب عنها في الزمن القريب.

وصاحب الجيش يكتب على يمنة الورقة ليثبت في ديوان النظر على الجيوش المنصورة إن شاء الله تعالى، ويقول صاحب ديوان الإقطاع في الجانب الآخر: في ديوان الإقطاع العمراني إن شاء الله [33] .

الباب الثاني

الرسائل الحربية

هذه الرسائل كانت تحرر بقلم رئيس ديوان الإنشاء، إما عن لسان السلطان أو الملك. أو تكتب تعبيرا عما يقصده رئيس الديوان لنفسه.

وقد ازدهرت وكثرت في عهد السلطان صلاح الدين، الذي أسس الدولة الأيوبية في مصر، ووصفت المعارك الحربية وصفا تفصيليا، في أسلوب يمتاز بالقوة والجزالة فيناسب المعارك وضراوتها، والإنتصارات والفرحة بها.

وهذه الرسائل تعد من الناحية التاريخية وثائق بالغة الأهمية، وتعد من الناحية الإعلامية سلاحا رادعا يساعد على النصر ويؤازره، كما أنه يبث الرعب في نفوس الأعداء ويرهبهم، بل هو من العوامل الهامة في قهرهم والإطاحة بهم.

ص: 474

فقد خاضت الجيوش العربية حروبا شرسة ضد الحشود الصليبية، وتم في هذه اللقاءات انتصارات حربية رائعة، توجتها معركة حطين، التي تطهر فيها بيت المقدس من دنس المغتصبين له.

وتقل الرسائل الحربية في الفترة التي تلى حكم السلطان صلاح الدين إلى نهاية الدولة الأيوبية، حيث قامت المنازعات ببن أفراد الأسرة الحاكمة، كما أنه لم يكن لأحد ممن خلف السلطان صلاح الدين في الملك قوة في الشخصية مثلما كان له، وبالاختصار يعد عصر السلطان صلاح الدين العصر الذهبي في حكم هذه الأسرة، وهو أطولها مدة، وأدعمها قوة.

منشور بخصوص كسر السلطان صلاح الدين عساكر حلب وحماة:

هذا المنشور بقلم القاضي الفاضل، يبدأه بشكر الله سبحانه وتعالى على نعمه السابغة هكذا:"لله سبحانه وتعالى عندنا عوائد نعم، قد صارت كالأمر المعروف والواقع المألوف، والضياء اللازم للصباح، والعرف المتضوع مع الرياح، لا تستغرب غرائبها وإن كانت بديعة. ولا تبهر عجائبها وإن كانت وسيعة وشيعة"[34] .

ثم يأتي مباشرة إلى هدفه، وهو أن الحلبيين قد صاروا بنيانا مرصوصا في الخلاف، وعقدا واحدا في واحدا في الانشقاق والانحراف فعندما علم السلطان صلاح الدين بمسير عسكر المواصلة والحلبيين لقصد حماة، وهو وقتذاك بحمص، بعث إليهم في طلب الصلح، يشترط أن يسلم لهم حمص وحماة وبعلبك وجميع الحصون التي فتحها، مقابل اعترافهم بجنوب الشام، فأبوا عليه ذلك تحت ضغط غازي الطامع أن يخلف نور الدين في الشام كله والجزيرة كذلك [35] .

ولذا لم يجد صلاح الدين بدا من السير إلى قرون حماة وهناك عاود الكتابة إليهم دون جدوى، فاستعد حينئذ للحرب، ولقيهم في يوم 19 رمضان سنة 570 هـ = 13 أبريل 1175 م [36] .

ص: 475

واستطاع السلطان صلاح الدين أن يحمل على العدو، ويزيلهم عن مواقفهم، ويجتاز معسكرهم، وهم يعدون أمامه صوب حلب، تاركين غنائم كبيرة وآلة وسلاحا عظيما، ودواب كثيرة، ولحق بهم السلطان صلاح الدين في حلب وحاصرها للمرة الثانية، وأشتد على الحلبيين الحصار وطال، فراسلوه في الصلح على أن يكون له ما بيده من بلاد الشام، مضافا إليه المعرة وكفر طاب، وبارين، ولهم ما بأيديهم منها، واشترطوا كذلك أن يكون الدعاء للسلطان الطفل في جميع منابر البلاد التي تحت يد السلطان صلاح الدين وولاية أصحابها، وأن تكون السكة باسمه، وأن ينجد السلطان صلاح الدين بنفسه وجيشه السلطان إسماعيل عسكريا إذا قصده العدو.

فأجابهم صلاح الدين إلى جميع ما طلبوه سياسيا وعسكريا، وأنتظم الصلح، ثم رحل السلطان صلاح الدين عائدا إلى حماة.

والجانب الإعلامي من إذاعة هذا المنشور، هو تفهيم الناس أن السلطان صلاح الدين، لم يقصد في محاربته أحدا من المسلمين ألبتة، بل أراد توحيد كلمتهم بالتفاهم الودي والإتفاق السياسي أولا، حتى إذا أخفق في الإتفاق بالمفاوضة عمد إلى القتال في غير هوادة.

وفيه يصف السلطان صلاح الدين هذا الفتح بأنه كان لفتوحه أميرا، وكان لبعده من سعادات الأيام بشيرا.

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

النابلسي: لمع القوانين ص18.

[2]

الدكتور أحمد بدوي، الحياة الأدبية في عصر الحروب الصليبية ص 334.

[3]

صبح الأعشى جـ 1ص135.

[4]

السماع: الغناء والسماعات هنا أي أماكن الطرب واللهو، والظاهر أن الملك الصالح نجم الدين أيوب كان لا يسمح للعاملين بديوان الإنشاء بالتردد على أماكن اللهو والمجون، حفاظا على مهابة هذا الديوان العظيم.

[5]

الخطط المقريزية جـ 3ص158.

[6]

ابن فضل الله، التعريف ص 89.

ص: 476

[7]

دكتور نظير حسان سعداوي: التاريخ الحربي ص 174.

[8]

دكتور نظير حسان سعداوي: التاريخ الحربي ص 27.

[9]

دكتور نظير حسان سعداوي: جيش مصر ص 29.

[10]

القلقشندي: صبح الأعشى جـ 3 ص 488:489.

[11]

الدكتور نظير حسان سعداوي: التاريخ الحربي ص 24.

[12]

دكتور حسنين محمد ربيع: النظم المالية في مصر ص 71.

[13]

ذكر المقريزي في السلوك جـ1 ق 1 ص 107 أن تسليم أمر الأسطول للملك العادل كان في عام 587هـ=1192م.

[14]

الخطط المقريزية جـ3 ص110،111

[15]

ابن مماتي: قوانين الدواوين ص 339.

[16]

ابن مماتي: قوانين الدواوين ص 340.

[17]

الخطط المقريزية جـ3 ص 11.

[18]

الدكتور نظير حسان سعداوي، نظام البريد في الدولة الإسلامية ص 112:115.

[19]

الدكتور نظير حسان سعداوي، نظام البريد في الدولة الإسلامية ص 112:115.

[20]

أبو الحسن علي بن خلف: مواد البيان ق 23.

[21]

مواد البيان ق 23.

[22]

ابن شيث: معالم الكتابة ص 29.

[23]

قوانين الدواوين ص 298.

[24]

ابن منجب الصيرفي: قانون ديوان الرسائل ص 104: 105.

[25]

ابن منجب الصيرفي: قانون ديوان الرسائل ص 95: 103.

[26]

ابن منجب الصيرفي: قانون ديوان الرسائل ص 106: 115.

[27]

ابن منجب الصيرفي: قانون ديوان الرسائل ص 153: 155.

[28]

لمع القوانين ق 17: 18.

[29]

النابلسي: لمع القوانين ق 17.

[30]

الأسل: تستحب في الفرس الأسالة، وهي دليل الكرم، والذقي: رخو الأذن والأنف، ولعل ذلك دليل على رداءته (اللسان) .

[31]

علي بن خلف: مواد البيان ق 26.

[32]

علي بن خلف: مواد البيان ق 26.

[33]

ابن شيث: معالم الكتابة ص 26: 27.

[34]

من ترسل القاضي الفاضل اللوحة 102.

[35]

الدكتور سعداوي: التاريخ الحربي ص 65.

[36]

أبو شامة: الروضتين جـ 1 ص 250.

ص: 477

نصيحة

للشيخ إبراهيم الراشد الحديثي

رئيس محاكم منطقة عسير

الحمد لله القائل {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد القائل من شهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وأن الجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل، والقائل إن الله حرم على النار من قال لا اله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال موسى:"يا ربي علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به، قال قل يا موسى لا اله إلا الله، قال يا رب كل عبادك يقولون هذا، قال يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا اله إلا الله في كفة مالت بهم لا اله إلا الله" ولا يسلم من الشرك إلا من حقق التوحيد وتحقيقه إنما هو بتصفيته وتخليصه من شوائب الشرك والبدع والمعاصي وذلك يقتضي كمال وما تقتضيه كلمة الإخلاص من العلم واليقين والصدق والإخلاص والمحبة والقبول والتوحيد هو تنزيه الباري تبارك وتعالى.

ومن المعلوم أن معرفة العبد لربه أسمى غايات المعرفة بما فيها من سعادة الدنيا والآخرة حيث يعبد ربه وحده ولا يشرك معه غيره وينزهه عن كل ما لا يليق بجلاله وعظمته، وقد دل القرآن العظيم المنزل على محمد رحمة للعالمين على انقسام التوحيد إلى ثلاثة أقسام وهي توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.

ص: 478

أما الأول فهو الاعتقاد الجازم بأن الله وحده هو رب كل شيء وخالق كل شيء ومدبره لا شريك له، وقد انطبعت على الإقرار بهذا القسم جميع المخلوقين {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه} . وأما الثاني فهو الاعتقاد أنه المعبود المقصود المختص وحده بجميع أنواع العبادات ولا يصرف منها شيء لغيره ولا يشرك معه أحد فيها وهو مضمون لا إله إلا الله وهذا القسم لازم للقسم الأول، وأما الثالث فهو إثبات جميع صفات الكمال والجلال والقدرة لله تبارك وتعالى وحده كما أثبت ذلك لنفسه في كتابه العزيز في قوله تبارك وتعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وأثبته له نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ونفى عنه رسوله كل ما لا يليق بجلاله وهذا مضمون قوله تبارك وتعالى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}

ولما منّ الله تعالى على أهل نجد بدعوة الشيخ العلامة محمد بن عبد الوهاب إلى التوحيد مقتفياً بذلك آثار السلف الصالح والرعيل الأول قيّض الله له الأمير محمد بن سعود فبايعه بتاريخ 1157 هـ على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم الناس التوحيد الخالص وترك الشرك والبدع والخرافات فانتشرت دعوته ولله الحمد حتى عمّت نجداً واتسعت إلى أطراف البلاد المجاورة، وقام بعده أبناؤه وأحفاده وأبناء الإمام محمد بن سعود وأحفاده الذين قيضهم الله لنصر هذا الدين لإنقاذ نجد والجزيرة العربية من الخرافات والبدع وذلك بفضل الله تبارك وتعالى ثم بفضل قيام الشيخ وأولاده وأحفاده ومناصرة آل سعود لهم. وألف الشيخ رحمه الله الكتب النافعة التي تهدف إلى تحقيق التوحيد وأنتفع بها أهل نجد والبلدان المجاورة لها وسرت سرى الليل ولازالت تتسع.

ص: 479

ففي وقت جلالة الملك عبد العزيز الذي وحد الجزيرة وناصر الدعوة أسكنه الله الجنة وجزاه عن الإسلام أحسن الجزاء، وكذا أنجاله من بعده وكافة أسرة آل سعود وقد غبط أعداء الإسلام ما تنعم به المملكة من التمسك بالتوحيد والعقيدة السلفية حيث يقول المستشرق (أستورس الأمريكاني) مؤلف كتاب حاضر العالم الإسلامي إذ يقول بعد أن كتب ما كتبه عن انتقال الدين الإسلامي عن حقائقه النازلة من السماء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم علم المسلمين بها لتغطية البدع والخرافات لها إلى أن قال: (ومن أراد أن ينظر إلى دين محمد صلى الله عليه وسلم على حقيقته كيوم نزوله فليذهب إلى هضبات نجد ووديانها فيرى هذا الدين غضا طريا كيوم نزوله على محمد صلى الله عليه وسلم .

ومنذ أول دعوة الشيخ إلى يومنا هذا وهي تزداد نموا ولله الحمد فلهم على جميع المسلمين السمع والطاعة والدعاء لهم بالعز والتمكين حيث قاموا بنصر دين الله وتحكيم شرعه في أرضه ولا سيما جلالة الملك وولي عهده وقد قيل إن السلطان ظل الله في أرضه يأوي إليه كل مظلوم ولهذا حث النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة لولاة الأمر بقوله "أطيعوا لمن ولاه الله عليكم..".

ص: 480

فتح الإسكندرية

للدكتور محمد السيد الوكيل

وكيل كلية الحديث الشريف

بعد أن تم لعمرو فتح حصن بابليون حمد الله بما هو أهله، وشكره - سبحانه - على منه وفضله، وتنفست الصعداء فقد طال حصار الحصن سبعة أشهر دون أن يرى في الأفق ما يبشر بالنصر والمسلمون وإن لم يكونوا في ضائقة تؤدي إلى تذمر، أو تصل إلى حد العنت، ولكنهم كانوا قد ملوا الوقوف، وخشي عمرو أن يدب الوهن في صفوفهم لتحصن عدوهم، وتوفر المئونات لدى خصمهم مما يوفر المناعة لدى المتحصنين، ويعطيهم فرصة أكبر للمقاومة والصمود.

ولعل هذا هو الذي جعل الزبير بن العوام رضي الله عنه يفكر في وسيلة يقتحم بها الحصن، ويقول لعمرو: لقد وهبت نفسي لله، تم يصعد أسوار الحصن المنيعة، ويكبر فيكبر المسلمون من ورائه ويفتح الله عليهم.

وبدا لعمرو أن يزحف إلى الإسكندرية، ولاسيما وقد استتب الأمن في ربوع البلاد التي فتحها، ودان أهلها بالولاء للغزاة الفاتحين، فمنهم من دخل طوعاً في الإسلام، ومنهم من صالح على الجزية راضيا مقتنعاً، ولكن عمراً لا يستطيع الزحف على الإسكندرية مهما أغراه النصر الذي أحرزه في بابليون، ومهما شجعه استسلام القبط ورضاهم عما أنجز من الفتوحات حتى يستأذن الخليفة ويأذن له.

فأرسل عمرو إلى أمير المؤمنين يبشره بفتح الحصن، ويستأذنه في الزحف على الإسكندرية [1] .

وانتظر عمرو جواب الخليفة وأذنه وهو مقيم في الفسطاط، وعلم عمرو بما كان يدور على ألسنة أهل مصر من استصغار شأن العرب، واحتقار ملابسهم ومعاشهم، واستغرابهم من انتصارهم عليهم، فخشي عمرو أن يجر ذلك إلى الإستهانة بالمسلمين، وتشجيع عدوهم على الدخول معهم في معارك لا يعلم نتائجه إلا الله – سبحانه - وفكر عمرو، كيف يرد المصريين عن هذا التفكير؟ وكيف يقنعهم بجدارة الفاتحين واستحقاقهم لما أحرزوا من نصر؟؟

ص: 481

وعزم عمرو على أن يرى قبط مصر ما يجعلهم يرهبون المسلمون، ويحذرون الدخول معهم في صراع جديد، فأمر بجزر فذبحت، وطبخت بالماء والملح، ودعا أمراء الجند فحضروا ومعهم الجنود، وأذن لأهل مصر بالدخول، وقدم الطعام للمسلمين، فأكلوا أكلا عربيا، ونهشوا اللحم واحتسوا المرق، وهم متدثرون بالعباء، وليس عليهم سلاح ورأى ذلك كله أهل مصر فازدادوا طمعاً وجرأةً بالمسلمين.

وفي اليوم التالي دعا أمراء الجنود وأصحابهم، وأمرهم أن يحضروا في ثياب أهل مصر وأحذيتهم ففعلوا، وحضر الأمراء والجنود في هيئة المصريين، وأذن لأهل مصر بالدخول، فلما دخلوا رأوا شيئاً غير الذي رأوه بالأمس، لقد رأوا بالأمس بدواً متلفحين بالعباء، ينهشون اللحم بأفواههم، تتطاير قطعه على من بجوارهم، واليوم رأوا قوماً كأنهم ولدوا في مصر، وتربوا على موائدها، فهذه الأطعمة مصرية لا يعرفها العرب، والقوام يقومون عليهم بألوان من الطعام فيتناولونه بطريقة أهل مصر، فخرج المصريون من مجلس عمرو وقد ارتابوا في أمرهم، وقال بعضهم لبعضهم: كدنا.

وأراد عمرو أن يرى المصريين قوته الحربية، فبعث إلى الأمراء أن يلبسوا السلاح وأن يستعدوا للعرض العسكري، فلبسوا وتأهبوا، وأذن للمصريين بالحضور، فحضروا، وأمر بالاستعراض فسار الأمراء على رؤوس الجند وهم جميعاً بالسلاح والعتاد [2] .

ورأى المصريون ذلك فانبهروا، إِنهم أمس الأول رأوا قوما يطمع فيهم من يراهم فهم من البداوة والسذاجة بحيث لا يرجى منهم نفع ولا ضر، وبالأمس رأوا قوما على جانب عظيم من الحضارة والذوق وحسن المصانعة حتى ليظن من يراهم أنه في قوم لهم ماض عريق في الحضارة والرقي، واليوم يرون جنوداً شاكي السلاح يرى فيهم من يراهم أسوداً كواسر لا تهاب الموت، ولا تخش المنون والقوم هم القوم لم يتغيروا ولم يستبدل بهم.

ص: 482

ورأى القائد المسلم الداهية المحنك في أعين المصريين حيرة وعجباً فقال: "إني قد علمت أنكم رأيتم في أنفسكم أنكم شيء حين رأيتم اقتصاد العرب وهون تزجيتهم فخشيت أن تهلكوا، فأحببت أن أَريكم حالهم، وكيف كانت في أرضهم، ثم حالهم في أرضكم، ثم حالهم في الحرب، فظفروا بكم وذلك عيشهم، وقد كلبوا على بلادكم قبل أن ينالوا منها مارأَيتم ما رأيتم في اليوم الثاني، فأحببت أن تعلموا أن من رأيتم في اليوم الثالث غير تارك عيش اليوم الثاني. وراجع إلى عيش اليوم الأول".

وبهذا الدرس العملي رأى المصريون العرب على حقيقتهم، فهم ليسوا العرب السذج الذين كانوا يعيشون على فتات الموائد قبل الإسلام، بل أصبحوا شيئا آخر حيث صاغهم الإسلام صياغة جديدة ففهموا الحياة على الشكل الذي ينبغي أن تفهم عليه، وعرفوا مكانتهم في العالم، فهم الأساتذة الموجهون، والساسة المدبرون، والقواد الفاتحون.

لقد أعزهم الله بالإسلام فلن يذلوا وهم متمسكون به أبدا، وسودهم على الأمم فكانوا خيرها بالعمل لنشر الدعوة، أدرك المسلمون هذه الحقائق وليسوا مستعدين لتركها والانتكاسة إلى الوراء مرة أخرى.

وضرب عمرو مثلا من الحياة التي يلمسها المصريون فكأنه يقول لهم: إن الذين تذوقوا طيب الحياة في مصر، وعاشوا أرغد العيش فيها، ليسوا مستعدين للعودة إلى حياة البداوة والتقشف بعد أن لمسوا الفرق بين الحياتين.

عندئذ نظر المصريون بعضهم إلى بعض وقالوا في دهشة وعجب: لقد رمتكم العرب برجلهم [3] .

وبلغ أمير المؤمنين - عمر – ما صنع عمرو مع قبط مصر، فقال لجلسائه:"والله أن حربه للينة ما لها سطوة ولا ثورة كثورات الحروب من غيره، إن عمرا لعضن"[4] .

وجاء رد الخليفة على عمرو يأمره بالزحف على الإسكندرية، فاستعد عمرو واستخلف على مصر خارجة بن حذافة بن غانم.

ص: 483

وعلم الروم القاطنون بين مصر والإسكندرية بتهيؤ المسلمين للزحف نحو الإسكندرية فأتمروا فيما بينهم، وعزموا على صد عمرو وجيشه عن وجهته وقدمت عليهم مراكب كثيرة من بلاد الروم تحمل الجنود والسلاح فقويت بذلك شوكتهم، وعظم أمرهم، وصاروا في منعة من قومهم.

وخرج عمرو بن العاص من الفسطاط متوجها إلى الإسكندرية، واستعان بجماعة من رؤساء القبط في إصلاح الطرق، وإقامة الجسور والأسواق ليسهل على المسلمين السير في هذا الطريق.

واختار ابن العاص الضفة الغربية للنيل، فعبر إليها وهي أهون في السير لقلة العوائق حيث تكثر في الدلتا فروع النيل الكثيرة التي تحول بين الجيش وبين غايته وتعوق مسيرته إلى الإسكندرية.

وعلم عمرو بأن الطريق إلى الإسكندرية ليس سهلا فحصون الروم منتشرة على طول الطريق، وجيوشهم مبثوثة في كل مكان، في نقيوس وسلطيس، وفي كريون.

وكان حصن نقيوس من أمنع حصونهم وأشدها رجالا، ورأى عمرو أنه إن تمكن من التغلب على نقيوس فسيفت ذلك في عضد الروم ويفل حدهم، ونقيوس تقع على الضفة الشرقية لفرع رشيد بالقرب من منوف، وبلغ الروم أن المسلمين يقصدون نقيوس فعزموا على ملاقاتهم قبل أن يعبروا إليها، وتصدى جنود الروم لجيش المسلمين عند (طرنوط) ودارت هناك معركة استبسل فيها الروم، ولكنه سرعان ما انهزموا وولوا مدبرين [5] .

معركة نقيوس.

وفكر عمرو في أمره كثيرا، ماذا يفعل؟ هل يترك نقيوس بحاميتها القوية وحصنها المنيع ويستمر في سيره نحو الإسكندرية؟ ولكن ما يمنع الروم إن هو فعل ذلك أن ينقضوا على مؤخرة جيشه ويعكروا عليه صفوه، ويفسدوا خطته؟

وبعد هذا التفكير عزم على أن يعبر النهر، ويهاجم الحصن ومن فيه، وفي الوقت نفسه عزم الروم على المقاومة والدفاع عن نقيوس فخرج قائد الروم (دومنتيانوس) بجنوده وركبوا السفن المعدة للدفاع عن المدينة استعدادا لملاقاة المسلمين.

ص: 484

كان المسلمون يعتقدون أن الروم لن يخرجوا إليهم، وسيدافعون عن نقيوس من داخل حصنها، ولكنهم فوجئوا بجموع الروم في السفن، فكانت الفرصة التي ينتظرها عمرو دائما، فأمر جنوده أن ينضحوهم بالنبل حتى ألجئوهم إلى ركوب السفن بعد أن تركوها ليواجهوا المسلمين، وظل المسلمون يرمونهم حتى اضطربت صفوفهم، ووهنت عزائمهم وظنوا أن المسلمين سيقتحمون عليهم، فسلموا أنفسهم، وفر القائد بسفينته إلى الإسكندرية لعله يجد فيها ما يمنعه من عدوه، واستولى المسلمون على نقيوس [6] .

وبعث عمرو شريك بن سمى مقدمة لجيشه ليتعقب الفارين، فالتقوا به، واشتبكوا معه، وألجئوه إلى مكان مرتفع من الأرض، فاعتصم به شريكا وأحاطت به الروم من كل جانب، فلما رأى شريك إحاطة الروم به أمر أبا ناعمة مالك بن ناعمة الصدفي - وكان له فرس يقال له أشقر صدف، وكان لا يجاري سرعة - أن يقتحم صفوف الروم وأن يذهب إلى عمرو فيخبره بموقف المسلمين وإحاطة العدو بهم.

وركب أبو ناعمة فرسه الأشقر، وأنحط على الروم كالسيل الجارف، وحاولوا صده فلم يستطيعوا، وأخبر مالك بن ناعمة عمرا، فأسرع لنجدة شريك، ولما سمع الروم بقدوم عمرو ولوا مدبرين [7] .وسمي المكان الذي اعتصم به شريك بعد ذلك باسمه وقيل له: كوم شريك، وهو الآن قرية من قرى مركز حماده.

وأنقذ عمرو شريكا وسار بقواته كلها نحو الإسكندرية، وفي الطريق علم بأن الروم قد أعدوا للقائه عند سلطيس، وسلطيس قرية كبيرة تقع في منتصف الطريق بين كوم شريك وبين كريون، وعلى بعد تسعة كيلو مترات من مدينة دمنهور عاصمة البحيرة، واتجه عمرو ليلقى عدوه عند سلطيس، وهناك دارت معركة عنيفة انتهت بهزيمة الروم، وفرارهم إلى كريون.

معركة كريون:

كريون مدينة قديمة، وصفها ابن حوقل بأنها مدينة عظيمة وجميلة، تقع على ضفتي ترعة الإسكندرية، وكان التجار يركبون منها القوارب إلى الفسطاط صيفا إذا أرتفع ماء النيل.

ص: 485

كانت مدينة كريون آخر حصن للروم من سلسلة الحصون التي كانت على طول الطريق بين بابليون والإسكندرية، وكان لها شأن عظيم في تجارة القمح، وخطر كبير في الحرب حيث كانت تشرف على الترعة التي تعتمد عليها الإسكندرية في جلب الطعام واستعمال مائها للشرب، ولكن حصونها لم تكن في منعة حصن بابليون أو نقيوس، وكان لكريون حاكم تحت إمرته قوة عسكرية من الفرسان والمشاة [8] .

كانت هزيمة الروم في سلطيس نذيرا يهدد بسقوط الإسكندرية، وكان سقوط الإسكندرية معناه زوال ملك الروم ونهاية أمرهم، من أجل هذا استنفر تيودور قائد الروم الأعظم في مصر قواته، وانضم إليه الشاردون من سلطيس فكانوا قوة لا ترام، وقد اطمأن تيودور إلى نتيجة المعركة لما رأى من قوة حصن كريون، وكان الروم قد رمموه وأعادوا ما انهدم منه، كما كانت ترعة الثعبان المارة غربي الحصن تعتبر تحصينا طبيعيا للمدينة، وهناك ما يزيد من قوة كريون، ويجعلها قادرة على المواجهة والصمود ذلك أن الإمدادات تصل إليها بسهولة من الإسكندرية، وتدفقت قوات الروم من كل جهة لتعزز قوات القائد تيودور فأقبلوا من سخا ومن خيس وبلهيب لتزيد من بأس قوات الروم، وتمكنها من مواجهة الفاتحين [9] .

التقى المسلمون والروم في كريون، ودارت المعركة قوية عنيفة بصورة لم تعرف في المعارك السابقة، واستمر القتال إلى الليل، ولم يعقد النصر لأحد الفريقين، ومع تنفس الصبح في اليوم التالي بدأت المعارك أشد منها بالأمس، وزاد في ضراوتها شعور الروم بانهيار دولتهم إذا هم انهزموا وخلص المسلمون إلى الإسكندرية، وزاد ثبات الروم من شعور المسلمين بوجوب مضاعفة همتهم وشد عزيمتهم، ولم تنته المعركة حتى جن الليل وحجز ظلامه بين المتقاتلين.

ص: 486

ودامت المعركة على هذا النحو بضعة عشر يوما [10] ، تتراوح فيه المعارك بين الفريقين دون أن يتحقق نصر لأحدهما ينتهي به القتال، وأغلب الظن أن الروم قد أظهروا براعة وتفانيا في كريون لم يعرف عنهم من قبل، وقد داخل الخوف قلوب المسلمين من تلك النتيجة المجهولة طوال تلك الفترة التي دارت فيها المعركة حتى أضطر المسلمون لأن يصلوا صلاة الخوف، عن يزيد بن أبي حبيب أن عمرو بن العاص صلى يومئذ صلاة الخوف [11] .

على أن ضراوة المعركة وشراستها لم توهن المسلمين، ولم تقلل من حماسهم، بل قد زادتهم قوة على قوتهم وحماسا فوق حماسهم حتى روى المؤرخون أن عمرو بن العاص كان قد سلم اللواء لوردان مولاه، وجعل على المقدمة ابنه عبد الله، وقد أصيب عبد الله ابن عمرو بن العاص يومئذ بإصابات بليغة حتى أخذ دمه يسيل من أنحاء جسمه، فلما اشتدت به جراحه قال: ياوردان لو تقهقرت قليلا نصيب الروح.

قال وردان، وهو يتقدم: وقد هيجه الشوق إلى الجنة، فرأى أنها لا تنال إلا بالتقدم وكأنه تمثل قول الشاعر:

لنفسي حياة مثل أن أتقدم

تأخرت استبق الحياة فلم أجد

لهذا قال لعبد الله: الروح تريد؟ الروح أمامك، وليس خلفك [12] .

وهنا هزت هذه الكلمات قلب عبد الله، فاندفع يقاتل عدو الله غير عابئ بما ينزف منه من دماء، وما يلم به من آلام، إن ريح الجنة قد هبت نسماتها، وإن حورها قد تهيئن لإستقبال الشهداء، وولدانها قد استعدوا لاستقبال النزلاء فهل هناك روح غير هذا؟ إنه الروح الحقيقي الذي أخبر عنه القرآن الكريم {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} (الواقعة الآية: 88،89)

وعلم عمرو بما أصاب ولده من الجراح فأرسل إليه رسولا يسأله عن جراحه، فقال عبد الله:

رويدك تحمدي أو تستريحي

أقول لها إذا جشأت وجاشت

ص: 487

فرجع الرسول إلى عمرو ويحمل له إجابة ابنه، فسر عمرو وقال: هو ابني حقاً [13] .

وشد المسلمون على الروم شدة أزالتهم عن مواقعهم، وحطمت معنوياتهما، وقضت على ما تبقى لديهم من الصبر، فولوا الأدبار لا يلوون على شيء وقتل منهم المسلمون مقتلة عظيمة [14] . وفر من نجى منهم من الموت إلى الإسكندرية يلتمس في حصونها النجاة من سيوف المسلمين.

فتح الإسكندرية:

لجأ المنهزمون في كريون إلى الإسكندرية، المعقل الأخير في مصر لدولة الروم وكانت حصون الإسكندرية لا ترام، حصن دون حصن، وكانت الإسكندرية نفسها روعة في الجمال، وآية من آيات الله في هذه الدنيا، فيها من القصور والمسلات، والكنائس والمعابد والعمائر والقلاع والمنارات والتماثيل ما يأخذ بلب كل من يراها، ولا يزيد الناظر إليها إلا سحراً وعجباً.

لقد كانت الإسكندرية في ذلك العهد أجمل مدائن العالم وأبهاها، ولم يكن هناك من عواصم العالم ما يضارعها سحرا وفتنة، فليست دمشق بغوطتها وبساتينها وأنهارها إلا ضاحية من ضواحيها، وليست القدس وما حوت من مقدسات إلا معبدا من معابدها، وما إنطاكية بجبالها الشواهق، وبساتينها الفيحاء ومعابدها المقدسة إلا حيا من أحيائها، بل ما المدائن وأبيض كسرى يختال في ربوعها إلا نفحة من نفحات سحرها وجمالها.

رأى المسلمون الفاتحون ذلك كله بأعينهم حين أشرفوا على أسوارها، فاستولى عليهم العجب وأخذتهم الدهشة، وشدهم الشوق إلى اقتحام تلك الأسوار الشاهقة، ومباغتة هذه الحصون المنيعة.

أجال عمرو نظره في أطراف المدينة، ليضع خطته على أساس سليم، وليقدر للأمر ما يحتاج إليه من تدبير فوجد المدينة محصنة تحصينا طبيعيا يزيدها مناعة وصموداً، فالبحر المتوسط يحميها من الشمال، وبحيرة مريوط تقيها هجمات الغازين من الجنوب، وترعة الثعبان تلتف حولها من الغرب، وحصونها الشامخة تحيطها من الشرق.

ص: 488

ولم تكن هذه التحصينات الطبيعية لتحول بين عمرو وبين ما عزم عليه من فتح الإسكندرية، فقد كان يرى أن انتصارات المسلمين المتوالية أكبر مشجع للمسلمين على اقتحام تلك الموانع، وتذليل هذه العقبات، كما كان يحس بفراسته أن هزيمة الروم في كريون لا بد أن تكون قد تركت في قلوب المحاربين من الهلع والفزع ما يجعلهم ينهارون لأول وهلة من الهجوم الذي يشنه المسلمون، لهذا كله أمر عمرو بالهجوم على المدينة، واقتحام أسوارها المكينة.

ولكن الروم كانوا قد أعدوا للأمر عدته، وكأنهم كانوا يتوقعون هجوم المسلمين على مواقعهم فنصبوا المجانيق فوق الأسوار، ولم يكد المسلمون يقتربون منها حتى سقط عليهم وابل من الحجارة الضخمة التي ألقتها المجانيق على صفوف المهاجمين، فأوقعت فيهم إصابات خطيرة وعلى الفور أمر القائد بالتراجع إلى ما وراء مرمى المجانيق.

وتراجع المسلمون إلى جهة الشرق، وهناك ضربوا معسكرهم ما بين حلوة إلى قصر فاروس [15] ، وكان هذا القصر قلعة بناها الفرس عندما حاصروا الإسكندرية، وأخذ رؤساء القبط الذين صحبوا المسلمين يمدونهم بما يحتاجون إليه من الأطعمة والعلوفة [16] .

وأقام عمرو في هذا المكان شهرين [17] ، راجيا أن يخرج له الروم في معركة مكشوفة، حتى يستطيع منازلتهم والإيقاع بهم، ولكن أحدا لم يخرج إليه، بل لم يجرؤ جند الروم على مغادرة حصونهم.

وانتقل المسلمون من مكانهم الذي اختاروه، وضربوا فيه معسكرهم إلى مكان آخر يسمى المقس حيث لا جدوى من المقام بمكان لا يستطيع المسلمون فيه الإلتقاء بعدوهم والدخول معه في معركة فاصلة، وكان هناك أمر آخر ينبغي على القائد مراعاته ذلكم هو ما يصيب الجنود من الملل والكسل حين يطول بهم الوقوف دون أن يدخلوا في معركة، أو ينشطوا في عمل جاد.

ص: 489

لهذا وغيره فكر عمرو في التحول من مكانه الأول إلى المكان الجديد، وهو بهذه الحركة يضرب عصفورين بحجر واحد كما يقولون، فهو من جهة ينشط جنوده ويبعث في نفوسهم الأمل في ملاقاة عدو تأهبوا لقتاله، ومن جهة أخرى ينشر الرعب في القرى الواقعة بين قصر فاروس والمقس (أم دنين) حتى لا يفكروا في التمرد على الجيش الفاتح أو في مساعدة جيش الروم وإمداده بما يحتاج إليه.

وأمام حصون الإسكندرية الرابضة شرقيها ترك عمرو حامية ليظل الحصار قائما ولئلا يظن الروم أن المسلمين عجزوا عن فتح الإسكندرية، وردوا عنها خائبين.

وتوجه عمرو ببقية الجيش نحو الشمال يريد المقس، وبينما هو يسير خرجت عليه من ناحية البحيرة كتيبة من الخيالة، واتخذت الحصن لها ستارا، فأوقعت بالمسلمين على غرة فقتلت منهم أثنى عشر رجلا عند كنيسة الذهب [18] .

واحتاط عمرو لأمثال تلك المباغتة حتى لا يلدغ مرتين، ومشى بالجيش حتى نزل عند المقس، ومن هناك قسم الجيش إلى كتائب، وجعل على كل كتيبة رجلاً من رجاله الشجعان، وبعث بهم إلى جهات مصر المختلفة ليفتحوها وتصير الأرض كلها أرض خراج.

فوجه عبد الله بن حذافة السهمي إلى عين شمس فغلب على أرضها وصالح أهل قراها على مثل حكم الفسطاط، ووجه خارجة بن حذافة العدوي إلى الفيوم والأشمونين والبشرودات وقرى الصعيد ففعل مثل ذلك، ووجه عمير بن وهب الجمحي إلى تينس ودمياط وتونه ودميره وشطا ودقهلة وبنا وبوصير ففعل مثل ذلك، ووجه عقبة بن عامر الجهني، ويقال: وردان مولاه إلى سائر قرى أسفل الأرض ففعل مثل ذلك، فاستجمع عمرو

ابن العاص فتح مصر فصارت أرضها أرض خراج [19] .

ص: 490

وبذلك دانت أرض مصر كلها للمسلمين، وخضعت لسلطانهم، واطمأن أهل مصر للفاتحين الجدد وإن كانوا لا يزالون على حذرهم وحيطتهم، فكم جربوا قبلهم من الغزاة، ولم يجدوا عند أحد منهم ما يشجعهم على التفاؤل أو يشير إلى أنهم سيمنحون أصحاب البلاد حقهم في حكم أنفسهم والمشاركة في خيرات بلادهم، فقد غزاهم الهكسوس في القرن الثامن عشر قبل الميلاد واستأثروا بحكم البلاد وخيراتها وسخروا المصريين لخدمتهم، وفي عام 332 قبل الميلاد غزاهم البطالسة (الإغريق) بقيادة الإسكندر المكدوني فقضى على الفراعنة، وأسس الإسكندرية واتخذها القائد بطليموس عاصمة، وانفرد بحكم البلاد هو ومعاونوه من الغزاة ونسوا أن للبلاد سكانا أصليين ينبغي أن يؤخذ رأيهم في حكم بلادهم، ثم جاء الرومان، وكرروا المأساة نفسها، وهاهم أولاء يسيمون الشعب المصري صاحب البلاد ألواناً شتى من الاضطهاد وتغلب الفرس على الروم واحتلوا مصر عشر سنوات فلم يكونوا خيراً ممن سبقهم، ثم عاد الرومان فساروا سيرتهم الأولى.

فهل يكون العرب الفاتحون خيراً من هؤلاء جميعا، لم يخطر ببال المصريين وقد مروا بهذه التجارب كلها أن يكون هناك غزاة خيرا من غزاة أو محتلون أفضل من محتلين، ومن أين تأتي تلك الخيرية؟ وما الذي يفضل هؤلاء على أولئك؟ أليسوا جميعا غزاة يدفعهم إلى الغزو حب التسلط والغلبة؟ أوليسوا جميعا محتلين لم يخرجهم من بلادهم إلى الطمع فيما وراء الإحتلال من تسخير أصحاب البلاد التي احتلوها ليكونوا لهم عبيدا، واستغلال ثروات البلاد لمآربهم الشخصية ومطامعهم الذاتية؟.

لا فرق إذاً بين عربي وعجمي فكلهم يسيرون في اتجاه واحد، وسائلهم واحدة الحرب والدمار، وغايتهم واحدة التسلط والاستغلال، ولا أمل في طائفة منهم يحقق للشعوب المغلوبة حريتها، ويثبت لها ذاتيتها.

ص: 491

على أي حال كان على الشعب المغلوب على أمره أن يصبر حتى تنفرج الأزمة وتنكشف الغمة وتنتهي المعركة، وما أشق ساعات الانتظار على النفس، وما أطول ما تمضي دقائقها بطيئة متعثرة، وما أكثر الهواجس التي تلم بتفكير الإنسان في لحظات الانتظار.

وكانت ساعات حرجة مرت بالشعب البائس الذي طالما استعبدته الشعوب المتغلبة، ولا يدري أحد ماذا كان يدور برؤوس الناس هناك، هل كانوا يتمنون انتصار الروم ولو أذاقوهم سوء العذاب إبقاء على دينهم، وعصبية لعقيدتهم؟ ولكن هل ترك لهم الروم دينهم حسبما آمنوا به؟ ألم يجبروهم على التخلي عن مذهبهم ليدخلوا في مذهب الملك الغالب؟ فلماذا إذاً يتمنون انتصار الروم؟

هل تظن أنهم كانوا ينتظرون انتصار المسلمين ليتخلصوا من ظلم الروم ولو حين؟ ولكن من يضمن لهم أن المسلمين سيكونون خيرا من غيرهم؟ فلا داعي كذلك لتمني انتصار المسلمين.

لهذا كله وقف قبط مصر من المعركة موقف الحذر المتربص ينتظر، من سيكون سيد الموقف وعلى من تدور الدائرة، ورأى أن من الخير له ألا يظهر تأييده لأحد الفريقين فقد تأتي الرياح بما لا يشتهى السفن، وحينئذ لا ينفع الندم.

استتب الأمر للمسلمين في الوجهين القبلي (مصر العليا) والبحري (مصر السفلى) كما استقر لهم في مصر الوسطى (الفسطاط) ، وفكر عمرو في العودة إلى الإسكندرية ليتمم فتحها، وفي الوقت نفسه فكر الروم في تزويد المدينة بكل ما تحتاج إليه لتستطيع التصدي لهجمات المسلمين المنتظرة، فكانت المراكب تفد إِلى الإسكندرية من قبل ملك الروم دون أن يمنعها مانع فقد كان البحر المتوسط يومئذ خاضعاً لسلطان الروم دون منافس حتى أطلق عليه مؤرخو تلك الفترة بحر الروم، وكانت تلك المراكب تحمل الجنود والعتاد، والمؤن والزاد، حتى أصبحت الإسكندرية وكأنها مستودع للرجال والتموين، وأصبح أهلها في منعة من عدوهم، فزادهم ذلك تشبثا بالدفاع عنها والتضحية لإنقاذها.

ص: 492

وزاد الروم حماسا في الدفاع عن الإسكندرية أن هرقل نفسه قد عزم على الدفاع عنها، وأمر بإعداد ما يلزم ليسير إلى الإسكندرية ويباشر القتال بنفسه، كما أمر بألا يتخلف عنه أحد من الروم، وقال: ما بقاء الروم بعد الإسكندرية؟ [20] .

ووقف المسلمون أمام الإسكندرية يتحينون الفرصة لفتحها، ودارت أثناء ذلك مناوشات بين الفريقين لم تصل إلى درجة الحرب، ولا نستطيع أن نسميها معركة، فقد روى ابن عبد الحكم أن فريقا من الروم خرج من باب الحصن، وحمل على المسلمين، فقتل رجلاً من مهرة، واحتز رأسه، فغضب المهريون لذلك، وقالوا لا ندفنه إلا برأسه.

فقال عمرو بن العاص: تتغضبون كأنكم تتغضبون على من يبالي بغضبكم، احملوا على القوم إذا خرجوا، فاقتلوا منهم رجلا، ثم ارموا برأسه، يرمونكم برأس صاحبكم، فلما خرج

الروم للقتال، قتل المسلمون بطريقا من بطارقتهم، واحتزوا رأسه، فرموا به إلى الروم فرمت الروم برأس المهري إليهم.

فقال عمرو: دونكم الآن، فادفنوا صاحبكم [21] .

وظل الحال على ذلك بين المسلمين وحامية الإسكندرية، فكلما خرجت طائفة من الروم تصدى لها المسلمون، واشتبكوا معها حتى يردوها على أعقابها، ويجبروها على اللجوء إلى الحصون تمتنع بهاء، ويبدو أن الروم قد ضاقت صدورهم بهذا الحصار، وصمموا على فض هذا الموقف مهما كان الثمن ومهما كانت النتائج، وقد زادهم ثقة بأنفسهم، وأقنعهم بقدرتهم على التفوق على المسلمين تلك الإمدادات الهائلة التي كانت تتدفق على الإسكندرية من البحر، والتي أمر هرقل بجمعها ليسير بها إلى الإسكندرية.

ص: 493

وقد بلغت قوات الروم خمسين ألف مقاتل [22] مدججين بالسلاح، مستعدين للقتال وقد وقفوا ينتظرون قدوم هرقل ليقودهم في تلك المعركة الفاصلة ولكن الله عز وجل كان في عون المسلمين، وقد سبقت مشيئته – سبحانه - بنصرهم، فهم جنوده الذين يحملون دعوته، وهم رسل الهداية للناس المدافعون عن دينه، وما كان الله ليتخلى عن عباده، ولم يكن - جل وعلا - ليتركهم لأعدائه.

وبينما الروم في انتظار هرقل بفارغ الصبر لينهي هذا الحصار الذي ضاقت به نفوسهم وبينما هم ينظرون إلى الأفق البعيد من جهة الشمال لعلهم يبصرون ما يدل على قرب وصول الملك إذ رأوا رسولا قادما عليهم، فخرجوا به، وظنوا أنه مقدمة الملك الذي سبقه ليبشرهم بقرب وصوله، ويطمئنهم على النتيجة بما جلبه معه الملك مما يضمن لهم النصر الذي غاب عنهم في كل المعارك السابقة، ولم يكد جند الروم يلتفون حول الرسول ليتعرفوا منه أخبار هرقل حتى فاجأهم بنبأ وقع عليهم وقوع الصاعقة، ولم يجدوا عنده ما يشجعهم على الإستمرار في المقاومة والإصرار على الدفاع عن الإسكندرية.

لم يكن هذا الرسول إلا ناعيا نعى إليهم ملكهم الذي كانوا يرجون النصر على يديه، فما عساهم يفعلون؟ لقد سقط في أيديهم، وانقطع الأمل الذي كانوا به يتعلقون، وخارت قوى القوم فلم يستطيعوا صبراً ولا نصراً، ولكنهم مع ذلك لم يستسلموا.

وأراد المقوقس أن يعقد للإسكندرية صلحا كالذي عقده لأهل بابليون، ولعله أراد أن يظفر بذلك الصلح قبل أن يبلغ المسلمين نبأ وفاة هرقل، ولكن عمرا أحس بأن هذا العرض من المقوقس لا يكون إلا نتيجة تخاذل وشعور بالضعف، فرفض عمرو الصلح، وحينئذ حاول المقوقس أن يخدع المسلمين، فأمر النساء بلبس السلاح والوقوف على أسوار المدينة مقبلات بوجوههن إلى الداخل، وأقام الرجال في السلاح مقبلين بوجوههم إلى المسلمين، يريد بذلك أن يرهب المسلمين.

ص: 494

ولعل عمراً أدرك بفراسته العسكرية أن من تكون له هذه القوة لا يطلب الصلح، ولعله كشف الخديعة بهذا الحس العبقري، ولو أضفنا إلى ذلك إدراك المسلمين دائما للحقيقة الني لا تغرب عن بالهم وهي أنهم لا يغلبون بقوة ولا كثرة، ولا ينتصرون بعدد ولا عدد، وإنما يغلبون عدوهم بنصر الله لهم مهما قل عددهم وكثر عدوهم.

يمكننا أن نقوله إن عمرا رفض الصلح مع المقوقس في الوقت الذي كان المسلمون في حاجة ملحة إليه لتأكده أن الإسكندرية أصبحت في حالة لا يمكنها معها المقاومة والصمود، لهذا كتب إلى المقوقس "إنا قد رأينا ما صنعت، وما بالكثرة غلبنا من غلبنا، فقد ليقنا هرقل ملككم فكان من أمره ما كان"فقال المقوقس لأصحابه: قد صدق هؤلاء القوم، أخرجوا من دار مملكته حنى أدخلوه القسطنطينية، فنحن أولى بالإذعان، فأغلظوا له القول، وأبوا إلا المحاربة [23] .

كان الروم يعتقدون أن ما لديهم من السلاح والرجال والتموين كاف لصد المسلمين، بل كانوا يعتقدون أكثر من ذلك، كان يعتقدون أن القسطنطينية ستظل تمدهم بما يلزمهم من الذخيرة والرجال والطعام وهم لا يريدون أكثر من ذلك للتصدي لزحف المسلمين وإيقاف تحركهم نحو المدينة لهذا سفهوا رأي المقوقس، وأغلظوا له القول، وأبو إلا المحاربة.

ولكن سرعان ما خاب أملهم، وفشلت خطتهم، حيث انقطعت الإمدادات، وكاد ما بأيديهم أن ينفذ، وراحوا يستمدون العاصمة دون جدوى، فقد كانت العاصمة في حاجة لمن يمدها ليخلصها من الفوضى التي أصابتها بعد موت هرقل، بل كان القصر نفسه في مسيس الحاجة إلى من ينقذه من الإضطراب المستعر في داخله، والدسائس التي كانت تحاك تحت سقفه.

ص: 495

أحست حامية الإسكندرية بكل ذلك، وأدركت أنها أصبحت في موقف حرج لا تحسد عليه، ولعلها ندمت على خطئها حين رفضت ما عرض المقوقس عليها من أمر الصلح، ولا شك أنها أيقنت بما سيحل بها من الدمار والخراب نتيجة لإنقطاع المدد، وقلة الطعام، وتفش الأوجاع والآلام في الوقت الذي ينعم فيه المسلمون بحرية الحركة، وتوفر الميرة، وعظيم الثقة في نصر الله.

كان ذلك كله يدور حول الإسكندرية في الوقت الذي كان الخليفة في المدينة ينتظر أخبار المعركة ويتلهف إلى استماع أنبائها، ولما لم يصل إليه شيء عن ذلك، واستبطأ الأمر، كتب إلى عمرو:

"أما بعد فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر، إنكم تقاتلون منذ سنتين وما ذاك إلا أحدثتم وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم، فإن الله تبارك وتعالى لا ينصر قوما إلا بصدق نياتهم، وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر، وأعلمتك أن الرجل منهم مقام ألف رجل على ما كنت أعرف إلا أن يكون غيرهم ما غير غيرهم.

فإذا أتاك كتابي هذا فاخطب الناس، وحثهم على قتال عدوهم، ورغبهم في الصبر والنية، وقدم أولئك الأربعة في صدور الناس، ومر الناس جميعا أن يكون لهم صدمة واحدة كصدمة رجل واحد، وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة، فإنها ساعة تنزل الرحمة ووقت الإجابة، وليعج الناس إلى الله ويسألوه النصر على عدوهم" [24] .

إن كتاب الخليفة يدل دلالة صادقة على مدى ضيقه بتأخر النصر، إن هؤلاء الجنود هم هم الذين فتح الله على أيديهم أمنع الحصون وأقوى المعاقل، ودعم به الجهاد وقواه، وهم هم الذين ضحوا بأنفسهم في سبيل الله، وخرجوا من بلادهم لا يبتغون إلا وجه الله، وتركوا نسائهم وعيالهم لينصروا دين الله، فما بال النصر يتأخر عليهم هكذا؟ وما بال الإسكندرية تستعصي عليهم فلم يستطيعوا فتحها.

ص: 496

وحق للخليفة أن يستبطئ النصر فقد مكث المسلمون أمام الإسكندرية أشهراً [25] ، دون أن يستطيعوا اقتحامها، وقد طالت هذه الأشهر حتى بلغت عند البلاذري ثلاثة أشهر [26] وأما ابن عبد الحكم فقد ذكر أن الحصار استمر أربعة عشر شهرا: خمسة أشهر قبل موت هرقل وتسعة بعده [27] وبلغت مدة الحصار عند بتلر أربعة أشهر وأياما، وذلك لأنه ذكر أن الحصار بدأ في آخر شهر يونيو سنة 641 م وأن المدينة فتحت في 8 نوفمبر سنة 641 م ويذكر القضاعي أن حصارها دام ستة أشهر [28] .

والذي يظهر أن رأي بتلر هو الصواب في تلك المسألة، ذلك لأن أمير المؤمنين كتب في كتابه إلى عمرو "إنكم تقاتلون منذ سنتين"فإذا لاحظنا أن عمرو بن العاص وصل إلى العريش في ديسمبر سنة 639 م كما ذكرت سالفا وأن الإسكندرية فتحت في نوفمبر سنة 641 م كانت مدة الحصار تلك الأشهر الأربعة التي ذكرها بتلر مضافا إليها ما زاد من الأيام.

وكان من حق الخليفة أن يستبطئ الفتح لأن جيوش المسلمين قد فتحت بلاد الشام كلها في سنتين، فكيف لا يستطيعون فتح مصر في سنتين، ويظهر لي أن الخليفة قد استبطأ النصر في تلك المدة التي ذكرها، ولم يكن استبطاؤه لفتح الإسكندرية وحدها ولذا قال لأصحابه يوماً وهو جالس بينهم:"ما أبطأوا في فتحها إلا لما أحدثوا"[29] .

تناول عمرو بن العاص كتاب الخليفة، وأطال التفكير فيه، وظل يفكر حتى استلقى على ظهره، ثم جلس فقال: إني فكرت في هذا الأمر فإذا هو لا يصلح آخره إلا من أصلح أوله، ثم دعا بعبادة بن الصامت فعقد له اللواء وأمره على الناس.

ويبدو أن هذا التفكير من عمرو- رضي الله عنه قد صادف موافقة المشورة من مسلمة بن مخلد فإن ابن الحكم يروي أن عمراً أستشار مسلمة بن مخلد، وقال له: أشر علي في قتال هؤلاء.

ص: 497

فقال له مسلمة: أرى أن تنظر إلى رجل له معرفة وتجارب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتعقد له على الناس، فيكون هو الذي يباشر القتال ويكفيك.

قال عمرو: ومن ذلك؟

قال مسلمة: عبادة بن الصامت.

فدعا عمرو عبادة، فأتاه وهو راكب على فرسه، فلما دنا منه أراد النزول، فقال له عمرو: عزمت عليك إن نزلت، ناولني سنان رمحك، فناوله إياه، فنزع عمرو عمامته عن رأسه، وعقد له، وولاه قتال الروم [30] .

وجمع عمرو المسلمين وقرأ عليهم كتاب الخليفة ودعا الأربعة الذين أخبره عمر أنهم مقام أربعة آلاف، فقدمهم أمام الناس، وأمر الجميع بأن يتطهروا، ويصلوا ركعتين ثم يرغبوا إلى الله- عز وجل ويسألوه النصر، ففعلوا [31] .

وقاد عبادة المسلمين، ودار قتال عنيف بين الطائفتين انتهى بفتح الإسكندرية وهزيمة الروم في اليوم الذي تولى فيه عبادة أمر القتال.

لا شك أن هزيمة الروم في الإسكندرية كانت آية من آيات الله أظهرها على يد أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم وإلا فكيف يستطيع المسلمون اقتحام تلك الأسوار، وتخطي هذه الحصون، والتغلب على المتحصنين؟ إن المجانيق لا تنال منها أي منال، وإن ما يملك المسلمون من السهام والنبال لا تغني عن أصحابها شيئا أمام تلك الرواسي الشامخات، ولقد شاء الله – تبارك وتعالى – أن يموت هرقل في تلك اللحظات الحرجة، وأن يضطرب البلاط اضطراباً يعطل تفكير العاملين فيه حتى إنهم لا يفكرون إلا في أنفسهم، وما سيئول إليه أمرهم، فأين الإسكندرية من هذا التفكير؟ وماذا تكون حاميتها في معمعة تلك العواصف الهوج؟ فلتذهب الإسكندرية مع الريح، ولتمت حاميتها فليست عندهم أعز من أنفسهم.

أفيظن أحد والبلاط يغلى غليان القدر، والمؤامرات تحاك في ظلام سراديبه، وذوو الرأي فيه يفكرون في مصيرهم، أفيظن أحد والحالة هذه أن تمد الإسكندرية بشيء من المدد مهما قل عدده، أو خف حمله وبخس ثمنه؟؟.

ص: 498

لقد سبب موت هرقل انقطاع المدد عن الإسكندرية، فوهن عزم المدافعين عنها، وانهارت معنوياتهم فلم يعد هناك مجال للمقاومة والعناد، ولا شك أن هذه الأخبار تسربت إلى المسلمين ولو عن طريق حراس الأبواب الذين كانوا يتصلون بالمسلمين، ويتبادلون معهم الأحاديث، فألح المسلمون في القتال، ويئس المدافعون من النصر فالقوا بأيديهم، واستسلموا لسيوف المسلمين ولم تكن إلا جولة واحدة حتى تم النصر للمسلمين.

كيف تم هذا النصر؟ بل كيف تمكن المسلمون من اقتحام الأسوار والحصون؟ هل استسلم الروم وفتحوا المدينة أمام ضغط الظروف والأوضاع السيئة التي أحاطت بهم أم فتح أحد الحراس بابه للمسلمين فدلفوا منه؟ لم يشر أحد من المؤرخين إلى شيء من ذلك وليس هناك من يستطيع أن يجزم بشيء منه.

ولكننا نستطيع أن نستنبط استنباطا أن حماة الإسكندرية لما يئسوا من مجيء المدد، وهددتهم المجاعة وهم في حصونهم، لم يكن هناك دوافع تجعلهم يستمرون في المقاومة أو حوافز تغريهم بالصمود فآثروا السلامة، ودبروا للهرب، يقول ابن عبد الحكم: فلما هزم الله – تعالى - الروم. وفتح الإسكندرية هرب الروم في البر والبحر [32] .

ومما يؤيد هذا أن المؤرخين الذين اسهبوا في وصف الفتوحات الأخرى، وذكروا دقائق الأمور وجلائها وتحدثوا عن بطولات المسلمين وصمود أعدائهم، لم يتناولوا فتح الإسكندرية بشيء من التفصيل، ولم يتكلموا عن فتحها بأكثر من كلمات تكاد تكون واحدة جرت على ألسنتهم، ونقلها بعضهم عن بعض، وإذا دل ذلك على شيء فإنما يدل على أنه لم تدر معارك يمكن وصفها والإسهاب في نقل أحداثها، وإنما كانت جولة هرب بعدها الروم في البر والبحر، ولعل الروم خرجوا من حصونهم، وافتعلوا تلك المعركة ليجدوا سبيلاً للهرب، وإلا فكيف يهربون وهم محاصرون في داخل الحصون والأسوار؟

ص: 499

وتم فتح الإسكندرية يوم الجمعة مستهل شهر محرم سنة 21 هـ وبلغ عدد شهداء المسلمين اثنين وعشرين رجلا [33] .

وبعث عمرو بن العاص معاوية بن خديج إلى عمر بن الخطاب يبشره بفتح الإسكندرية، وقال معاوية لعمرو: ألا تكتب معي؟ فقال عمرو: ألست رجلا عربيا تبلغ الرسالة، وما رأيت وحضرت؟ فما أصنع بالكتاب؟ ولما قدم معاوية على عمر، وبشره بالفتح خر عمر ساجداً شكراً لله، وقال: الحمد لله [34] .

قال معاوية بن خديج: بعثني عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب بفتح الإسكندرية، فقدمت المدينة في الظهيرة فأنخت راحلتي بباب المسجد، فبينا أنا قاعد فيه إذ خرجت جارية من منزل عمر بن الخطاب، فرأتني شاحبا على ثياب السفر، فأتتني فقالت: من أنت؟

قلت: معاوية بن خديج رسول عمرو بن العاص.

فانصرفت عني، ثم أقبلت تشد، أسمع حفيف إزارها على ساقها حتى دنت مني.

فقالت: قم فأجب، أمير المؤمنين يدعوك، فتبعتها، فلما دخلت فإذا عمر بن الخطاب يتناول ردائه بإحدى يديه، ويشد إزاره بالأخرى، فقال: ما عندك؟

قلت: خير يا أمير المؤمنين، فتح الله الإسكندرية.

فخرج معي إلى المسجد، فقال للمؤذن: أذن في الناس، الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، ثم قال لي: قم فأخبر أصحابك، فقمت فأخبرتهم.

ثم صلى، ودخل منزله، واستقبل القبلة، فدعا بدعوات، ثم جلس. فقال:

ياجارية، هل من طعام؟ فأتت بخبز وزيت.

فقال: كل. فأكلت على حياء.

ثم قال: ياجارية، هل من تمر؟ فأتت بتمر في طبق.

فقال: كل، فأكلت على حياء.

تم قال: ماذا قلت يا معاوية حين أتيت المسجد؟

قال: قلت: أمير المؤمنين قائل.

قال: بئس ما قلت، أو بئس ما ظننت، لئن نمت النهار لأضيعين الرعية، ولئن نمت بالليل لأضيعين نفسي، فكيف بالنوم مع هذين يا معاوية؟؟ [35] .

ص: 500