الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 59
فهرس المحتويات
1-
كلمة التحرير: زادُ اِللّقاءِ الكَرِيم: للشيخ سَعد نَدَا
2-
كَيفيَّة الدَّعوَة إِلى الله: للشيخ أبو بكر الجزائري
3-
فقه السنة صَلاةُ التَّراويحِ: للدكتور محمد ضياء الرحمن الأعظمي
4-
حَديثُ تفرُّق الأمَّةِ: للشيخ عبد الكريم مراد
5-
مكانة أهل الحديث ومآثرهم وآثارهم الحميدة في الدّين: للدكتور ربيع هادي المدخلي
6-
بَيَانُ مَذهَبِ أهلِ السُّنةِ في الاستواء وَسَائِر الصِّفاتِ: لسَمَاحة الشيخ عبد العزيز بن بَاز
7-
مَفهُومُ الأسمَاء والصِّفات: سَعد نَدَا
8-
الفقه وأصوله: سَمَاحة الشيخ عبد العزيز بن باز
9-
نظامُ الإثبات في الفقه الإسلامي: للدكتور عوض عبد الله أبو بكر
10-
شرعيَّة المعاملات التي تقوم بها البنوك الإسلامية المعاصرة: للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق
11-
الغزو الفكريّ ووسائله: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
12-
حديث عن الدورة وأثرها على المجتمع الذي أقيمت فيه: للدكتور علي بن محمد ناصر فقيهي
13-
مِنْ مَنْهَجِ الْقُرْآنِ الْعَظِيْم في التربيَة والتعلِيم: للشيخ محمد المجذوب
14-
تعدد زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم: للدكتور ملك غلام مرتضى
15-
الرَّسَائِلُ الحَرْبِيِّة في عصر الدّوْلة الأيوبيَّة: للدكتور محمد نغش
16-
مَذَابحُ بشرِيَّة جَمَاعِيَِّة لِلمُسلِمينَ: لِلشيخ محمود محمد سَالم
17-
نصائح: للشيخ إبراهيم الراشد الحديثي
18-
اَلْكَعْبَة البَيت الحَرَام وتطبيقات رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم: للدكتور عبد العظيم حامد خطاب
19-
جهادُ المسلِمِينَ ضِدّ الصَّلِيبيِّّينَ: للدكتور جَاد محمد أحمد رَمضان
20-
لماذَا كانَت الهِجرَة إلى الحبشة؟ : للشيخ عبد الكريم عبد السلام
21-
مُوجَز لتاريخ القدس حَتى الفتح الإسلَامي: للدكتور شفيق جاسر أحمد محمود
22-
يوسف بن تاشفين في الأندلس: للشيخ إبراهيم محمد حسن الجمل
23-
تحقيق جزء الضعفاء والمتروكين للإمام الدارقطني: للشيخ عبد الرحيم محمد القشقري
24-
ظاهِرةُ التَّقَارُضِ في النّحوِ العَرَبِّي: للدكتور أحمد محمد عبد الله
25-
مَلامِحُ النّقد الأدبي وَمقاييسهُ في العصر الجاهِلِيِّ: د. محمد عارف محمود حسين
25-
صفحة لغة: قل.. وَلَا تَقُل: للشيخ ضياء الدين الصابوني
27-
وَإن مِّن شيءٍ إلَاّ يُسَبِّحُ بِحَمدِهِ: للشيخ يوسف الهمزاني
28-
تَحِيَّة وَندَاءٌ: د. محمود عبد المحسن
29-
أنشودة الأرواح حول الكعبة المشرفة: شعر محمد المجذوب
30-
في المشارق والمغارب: للشيخ عبد الله بن أحمد قادري
31-
ردود ومناقشات: إِنكار الجِنِّ: للشيخ مصطفى الوراق إبراهيم
32-
آراء فقهيِّة منحَرفة والرَّد عَليهَا
33-
عُلومُ المادة في خدمَة الدِّين: د. أبو الوفاء عبد الآخر
34-
حُكمُ الإِحدَادِ عَلى الملُوك والزعماء: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
35-
كتاب عنوانه المسلمون في الاتحاد السوفيتي
36-
تاريخ مجيد لخلاوي القرآن في السودان
37-
العدو يستخدم المواد الكيميائية والأشعة لإخصاء المواليد العرب
38-
بمناسبة الاحتفال بالذكرى الألفية للأزهر الشريف
39-
أخبَارُ الجَامعَةِ: إعداد إدارة العلاقات العامة بالجامعة
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م
كلمة التحرير
زادُ اِللّقاءِ الكَرِيم
للشيخ سَعد نَدَا
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن تبع هديه ووالاه.
وبعد: فإن المؤمن ذا البصيرة إذا أخطأ أدرك سريعا خطأه، ولجأ إلى الله تعالى يستغفره، ويستعينه، ليبصره، فيصلح.
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} ] الأعراف [.
وحين يبصر المؤمن طريقه، يدرك عثراتها فيتجنبها، وينتبه إلى معوقاتها فيتقيها، فيسلم حينئذ من مخاطرها، ويتجاوز في يسرٍِ عقباتها.
ولابد للمؤمن أن يقوم دائما على إيقاظ قلبه، حتى يرهفه، فيفيء إلى أمر الله، وَيعْجَل إلى ربه فيرضى. عندئذ يوالى المؤمن مراقبة ربه تعالى ومحاسبة نفسه، ليخلص ما يعلق بقلبه مما يقترف من آثام. والله جل وعلا يتيح لنا كثيراً من فرص الخير في الزمان والمكان، لتتوافر لنا أسباب نيل المثوبة. ثم هو سبحانه يفتح لنا أبواب التوبة على مصاريعها ليلجها كل راغب صباح مساء. فعن أبى موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله عز وجل يَبْسُطُ يَدَهُ بالليل ليتوبَ مسيء، النهار، ويبسُطُ يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها" أخرجه مسلم. وعن أبى هريرة رضي الله عنه عن الني صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل ربُّنا إلى السماء الدنيا كلّ ليلة حين يبقَى الثلثُ الآخر، فيقول: "مَنْ يَدْعُوني فَأَسْتجيب له؟ من يسألُنِي فأعطيه؟ من يستغفرُني فَأغْفر له؟ " متفق عليه.
ومن فرص الخير الطيبة شهر رمضان، فيه الصيام، وفيه القيام، وفيه الجود، وفيه الإحسان، وفيه قراءة القرآن العظيم، وفيه ليلة القدر خير من ألف شهر، وفيه يُعطى المرء الأجرَ الجزيلَ بالعمل القليل، وفيه تُفتح أبواب الجنة، وتُغلق أبواب النار، وتسلسل الشياطين، وُينادى العبادُ كل ليلة ليكثروا من الخير، وليمسكوا عن الشر. فعن عرفجة قال:"عدنا عتبة بن فرقد، فتذاكرنا شهر رمضان، فقال: ما تذكرون؟ قلنا: شهر رمضان". قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تُفتح أبوابُ الجنةِ، وتُغلقُ فيه أبوابُ النِار، وتُغلُّ فيه الشياطينُ، وينادِى منادٍ كلَّ ليلة: ياباغىَ الخير هَلمَّ وياباغىَ الشرِّ أقْصِرْ"رواه أحمد وابن ماجه.
بَيْدَ أن عباد الله جميعا لا يغتنمون ما رصد الله من فرص الخير. فكل الناس يغدو، فمنهم بائعٌ نفسه فمعتِقُها، وذلك هو من باع نفسه لله، فيعدُّ له جنات النعيم، ومنهم بائعٌ نفسه فموبِقُها، وذلك هو من باع نفسه للشيطان، الذي يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير.
فإلى أي الجانبين يتجه المؤمن؟ وإلى أي المصيرين يتمنى أن يكون؟ 0
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} ] الشمس [.
وإن من سُبُل ذلك أن يحسن المؤمن محاسبة نفسه في ختام كل يوم، فإن وجد خيراً فليحمد لله وليسأله المزيد، وإن وجد غير ذلك فليتب إلى الله وليستغفره، وليسأله العفو، والعافية، والتوفيق.
وبهذا يُعِدُّ المرءُ ما يحمله عند لقاء ربه من زاد يصلح مع هذا اللقاء الكريم، وهذا ما أمرنا ربنا سبحانه أن نَجِدَّ لتحقيقه لنكون من أهل السعادة، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} ] الحشر [.
فيا باغي الخير أقْبلْ، وياباغى الشر أَمْسِكْ، أَلا إلى الله تصيرُ الأمورُ.
وصلى الله وسلَم وبارك على عبده ورسوله الكريم محمد وعلى آله وصحبه.
شرعيَّة المعاملات
التي تقوم بها البنوك الإسلامية المعاصرة
للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق
الكويت
هذه كلمة من محب لكم ولأمتنا الإسلامية أسديها لكم تبرئة للذمة ونصحاً للأمة، وحساب الجميع على الله سبحانه وتعالى. ولأن موضوع البنوك الإِسلامية طويل ومتشعب، ولأنه لا يسدْى في هذه العجالة تفصيل هذا الأمر، فإنني سأضع بين أيديكم خطوطاً عريضة محددة لما يجب أن يدور عليه البحث ولما أحب أن ألفت نظركم إليه.
أولاً: البنوك الإِسلامية غاية وهدف:
من تحصيل الحاصل الآن أن أذكر أن البنوك الإسلامية غاية إِسلامية وهدف وأمل لكل مسلم صادق وأن كل مسلم مطالب بأن يسعى إِلى إقامة هذه المصارف الإسلامية على النحو الذي يحقق للمسلم طيب المطعم والكسب، ولأمة الإسلام النصر والعزة، ولاشك أنه يبرأ من الإِسلام من يريد أن يحول بين المسلمين وبين إِقَامة نظام اقتصادهم وفق الشريعة ومن يريد تعطيل مسيرة البنوك الإسلامية لتطبيق شريعة الله.
ثانياً: نظرة إلى الوراء:
من جانب الحرص على المصارف الإسلامية كتبنا مقالات مطولة في عدم شرعية كثير من المعاملات الجارية الآن فيها، وقد كان لنا بحمد الله شرف الدعوة والعمل من أجل إِقامة هذه المصارف وذلك منذ عام 1966 مقتدين ومساعدين لأستاذنا في هذا الصدد الدكتور عيسى عبده رحمه الله الذي هو بحق رائد ومنشئ أول مصرف إسلامي فجزاه الله عن المسلمين خيراً وأفسح له في جنان الخلد.
ثالثاً: الغاية التي من أجلها تنشأ المصارف الإِسلامية:
لا يخفى عليكم أن المصرف الإسلامي يختلف عن المصرف الربوي في شيء أساسي هو أن المصرف الإسلامي هو التاجر والصانع والزارع والمؤجر، والذي يعمل في الصيد واستخراج المعادن، وباختصار هو الذي يقوم بكل الأعمال المشروعة للكسب وهذا بعكس البنك الربوي الذي يقوم بدور الوسيط فقط بين صاحب المال وبين صاحب المشروع الزراعي أو الصناعي أو التجاري. فالمصرف الربوي في حقيقته وكيل عن المودع في أنه يقرض ماله بالربا بفائدة معلومة دون أن يتحمل شيئا من الخسارة، وأما المصرف الإسلامي فإنه يأخذ المال من المودعين ليزرع هو، ويصنع هو، ويبنى هو، ويؤجر هو، وبالتالي يكسب أو يخسر ويشارك المودع في الربح والخسارة.
وليس بخاف على أحد اليوم أن المصارف الإسلامية جميعها لم تقم بشيء يذكر مما أسست من أجله فلم تفتح بنفسها زراعة أو صناعة أو تجارة أو صيداً أو استخرج معادن. اللهم إلا خمسة في المائة فقط من الأموال المودعة عندها ذهبت إِلى هذا الصدد وأما بقية الأموال المودعة فإنها تتعامل فيها بطريقة ربوية لا شبهة فيها بتاتاًَ أنها ربوبية تحايلية. وذلك فيما يسمون ببيع المرابحة، وكذلك في الإعتمادات المستندية.
ففي بيع المرابحة المزعوم يشترى المصرف الإسلامي في الظاهر لنفسه وفى الحقيقة للمشترى الذي تعاقد معه وباع له، والمصرف هنا ليس مشترياً حقيقة وإِنما هو وسيط ربوي ضامن للربح غير مخاطر بشيء فهو يبيع ويشترى في وقت واحد ويسلم البضاعة وهى ما زالت في مصانعها أوفى البحر أوفى مخازن التاجر البائع. وهذا تحايل صارخ على الربا وليس من البيع في شيء وقد فصلنا هذا الأمر بحمد الله في مقالات عديدة، ورددنا ردوداً شافية على كل الذين حاولوا الدفاع عن هذا البيع الزائف الذي يسمونه (بيع المرابحة) وما هو من بيع المرابحة المعروف في الإِسلام في شيء.
وأما الاعتمادات المستندية فهو نوع من ضمان وصول مستندات البيع إلى المشترى، وهو خدمة تتقاضى عليها البنوك أجراًَ وهذا جائز إلا أن البنوك الربوية إذا سددت عن عميلها وتأخر في السداد فإنها تحسب عليه فائدة ربوية على كل يوم تأخير، وأما المصارف الإِسلامية فقد وجدت من يتحايل لها أيضا ويضع نسبة تصاعدية على العميل المشتري فالذي يسدد في ثلاثة أشهر يدفع 5 ، ا % والذي يسدد في ستة أشهر يدفع 3% والذي يسدد في سنة يدفع 6% وهذا هو عن المداينة بربح معلوم، ولا يفيد هذا القول بأن الدين مختلط مع عقد آخر هو الوكالة عن المشترى في استلام المستندات، لأن أخذ الأجرة على تسليم المستند معلومة ويمكن فصلها عن المداينة. ولذلك فلا فرق بتاتاً بين ما تصنعه المصارف الإسلامية الآن في الإعتمادات المستندية. وما تصنعه البنوك الربوية. وهذه القضية أيضاً قد فصلناها في مذكرة ورفعناها إلى بيت التمويل الكويتي عندما طلب منا أحد العلماء إفتاءه فيها.
رابعاً: ليس المهم أن نرفع شعاراً إِسلامياً بل المهم أن تطبق الإِسلام الحقيقي:
أظن أنه ليست بخاف عليكم أنه ليس المهم أن يرفع المسلم شعاراً يقول أنه مسلم ثم يمارس بعد ذلك ما يحلو له، وإنما المهم الآن- والآن بالذات أن نظهر الإِسلام الحقيقي وأن نقدم الإسلام حقيقة للناس. وقد ذكرت في معرض ردودي السابقة عليه قضية (بيع المرابحة) أنه بهذا الطريق من التحايل نستطيع أن نزاول كل الربا الموجود في الأرض الآن عن طريق ما يسمى (بيع المرابحة) فهذا النوع من التعامل قد يسر إجراء أي معاملة ربوية على أي صورة عن طريق ما يسمى (بيع المرابحة) وهذا معناه أن لا يوجد الآن ربا في الأرض فقط بل أي معاملة ربوية نستطيع أن نجعلها (شرعية) إلا بأن نغير شكل الكتابة فقط، فبدلاً من أن أقول أخذت ديناً بفائدة كذا وكذا أقول إنني لست مشترياً ولا بائعاً وإنما أنا قد أسلفت نقودي لغيره بفائدة معلومة لزمن معلوم.
خامساً: انظروا عمن توقعون؟
وختاماً أقول للمجتمعين اليوم انظروا عمن توقعون. إنكم توقعون عن الله. فإن قلتم إن هذا حلال فإنكم تعنون أن الله قد حرم هذا، ولاشك أن تحليل الحرام كتحريم الحلال. وأن الربا إحدى وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم. فانظروا أين تضعون أنفسكم، واعلموا أن الله سائلكم غداً عما ستوقعون عليه اليوم.
وفى الختام أذكر هذه الحادثة لأوضح لكم إلى أي مدي أنتم مسئولون: فقد سألت بعض القائمين على المصارف الإسلامية: لماذا لا تؤسسون مشروعات صناعية وزراعية وتجارية وهذه هي المهمة التي من أجلها أسست البنوك الإسلامية؟ فقال لي: لا نستطيع ذلك فقلت: شاركوا بعض الشركات القائمة اشتروا شركات ناجحة. فقال: لم نجد من نستأمنه؟ ونخاف أن نخاطر بأموال المودعين. فقلت له: هذه هي نفسها حجة المرابين. أنهم لا يريدون المخاطرة. ولكن أليس الذين أودعوا نقودهم عندكم من المسلمين الذين فروا من الربا. وأنهم دخلوا وأودعوا أموالهم عالمين أنها قد تتعرض للربح والخسارة؟ فلماذا تخافون إذن من المخاطرة؟. ولم أسمع لليوم جواباً.
فيا إخواني الأعزاء هذه مسئوليتكم: فإن وجهتم المصارف الإسلامية اليد إلى العمل الإسلامي الصحيح توجهت. وكان لكم الفضل بعد الله سبحانه وتعالى.، وإن أقررتم ما هو حاصل الآن من المعاملات الربوِية كرستم الظلم والغش والربا وكانت المصارف الإسلامية القائمة اليوم وجهاً جديداً تحايلياًَ للمصارف الربوية فاختاروا اليوم ما تشاءون واللهم هل بلغت. اللهم فأشهد.
متى يكون بيع المرابحة حلالاً ومتى يكون حراماً؟
من المعلوم قطعاً أن كل عمل محرم إذا ألبس الصورة الشرعية فإنه يبقى على تحريمه بل يزداد حرمة لأنه يأخذ صورة الحيلة للتوصل إلى ما حرمه الله سبحانه. ولا شك أن المقاصد والنيات لها دخل كبير في الحكم على العمل هل هو حرام أم حلال.
ومن المعلوم قطعاً أيضًا كون البيع مباحاً ولكن هذه الإباحة ليست على إطلاقها فإن ثمة شروطاًَ لابد من توافرها ليكون البيع حلالاً وثمة موانع تمنع صحة البيع لابد من الابتعاد عنها.
وقد أجاز فقهاؤنا الأقدمون نوعاً من البيع سموه بيع المرابحة ولكنه اتخذ في بعض المعاملات الجارية والحادثة الآن صورة شرعية زائفة لعمل ربوي صريح.
فبيع المرابحة المشروع هو أن يقول البائع للمشترى اشتريت هذه السلعة بكذا وأربحني فيها كذا وأبيعك إياها سواءً باعه هذه السلعة حاضراً أم بأجل وهذا لا خلاف في مشروعيته بين الفقهاء. ومازال المسلمون يتعاملون في أسواقهم بمثل هذا البيع، فكثيراً ما يقول لك التاجر "هذه السلعة وقفت علي بكذا أربحني كذا وأبيعك إياها ".
والبيع هنا صحيح سواء كذب البائع أو صدق فكذبه هنا حرام عليه لا يمنع صحة البيع وإن كان في هذا إثم عظيم لقوله صلى الله عليه وسلم:"ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة: وذكر منهم رجل بايع رجلاً بسلعة بعد العصر فحلف له لقد اشتراها بكذا وكذا وإذا وهو على غير ذلك " رواه البخاري.
ولكن الصورة المحرمة من صور المرابحة والتي لاشك أنها تحايل على الربا، هو ما يصنعه الكثيرون ممن يلجأون إلى المصارف الإسلامية، أو الممولين فيقولون لهم "اشتر لي الأرض الفلانية أو السيارة الفلانية وأنا أشتريها منك "وهولا يلجأ إلى المصرف أو الممول إلا من أجل أن يبيعه مؤجلاً ومن أجل الحصول على المال، فبدلا من أن يقترض بربا ويشترى السلعة يلجأ إلى هذه الحيلة فيأخذ الممول أو المصرف وسيطاً لا من أجل الشراء وإنما من أجل الحصول على المال. والبنك الإسلامي لا يشترى السلعة لنفسه وإنما من أجل أن يبيعها لذلك المشترى، فالمقاصد هنا معلومة قطعاً وصورة الشراء الأول والبيع الثاني ما هي إلا غطاء شرعي زائف لعمل غير مشروع يقيناً وهو الربا. ومن أجل ذلك تتهم البنوك الربوية المتعاملين بمثل هذا البيع مع البنوك الإسلامية بأنه لا فرق بين عمل هذه البنوك وتلك، وإن كان في البنوك الربوية صريحاً والبنوك اَلِإسلامية ملفوفاً.
وعليه فإننا نقول في الحلال فسحة وأبواب الرزق المشروعة أكبر وأعظم من أبواب الرزق المحرمة. ولا يجوز تحليل هذه المعاملة لأنها تحايل واضح على الربا يتم في صورة البيع. ولا علاج لذلك إلا بأن يشترى البنك الإسلامي لنفسه ثم يبيع لمن شاء دون أن يكون هنا اتفاق أو وعد سابق على الشراء والبيع قطعا لمادة الربا، وبعدا عن الشبهات، والحلال بين والحرام بين، ولاشك أن بيع المرابحة بهذه الصورة من الحرام البين الذي لا يحتاج إلى كبير بيان.
القول الفصل في بيع المرابحة
أولاً- صفة بيع المرابحة (المشروع) :
بيع المرابحة الشرعي هو أن يذكر البائع للمشترى الثمن الذي اشترى به السلعة فيقول وقفت علي بكذا ربحني فيها كذا وأنا أبيعك إياها: وفي هذا يقول ابن قدامة في المغنى: "معنى بيع الرابحة هو البيع برأس المال وربح معلوم ويشترط علمهما برأس المال فيقول رأس مالي فيه. أو هو علي بمائة (مثلاً) بعتك بها وربح عشرة فهذا جائز لا خلاف فيه ولا نعلم فيه عند أحد كراهة "(ا. هـ) .
ويقول صاحب بدائع الصنائع (فقه حنفي) هو أن يبيع بمثل الثمن الأول مع زيادة ربح. (ص 22 ج 5 ط أولى) وهذا البيع مازال معمولا به في أسواق المسلمين جميعاً إلى اليوم فأنت تأتى إلى التاجر فيقول لك هذه الشاة مثلاً اشتريتها بخمسين ديناراً ربحني فيها خمسة دنانير وأنا أبيعك إياها.
ثانياً- صفة (بيع المرابحة) المعمول بها في بعض البنوك الإسلامية:
وأما المعاملة التي يسمونها في البنوك الإسلامية بيع مرابحة فهي تختلف عما قدمنا شكلاً وموضوعاً ونية وقصداً، فإن البنك لا يملك السلعة والمشتري الذي يلجأ إلى البنك لا يقصد خدمة البنك في أن يشتري له وإنما يلجأ إلى البنك من أجل المال لأنه ليس لديه مال حاضر وهو يريد شراء سلعة ما (أرضاً مثلاً أو سيارة) فيأتي إلى صاحب الأرض (البائع الحقيقي) ويتفق معه على السعر ثم يذهب إلى البنك الإسلامي ويقول له اشتروا لي هذه الأرض الفلانية ويوقع معهم عقدا يسمونه (وعد بالشراء) . ثم يذهب موظفوا البنك ويحضرون البائع ويتفقون معه على أن يبيعوا له بثمن أكثر نسيئة أعنى إلى أجل ويسمون هذه (الدورة الطويلة) بيع مرابحة.
أوجه تحريم هذه المعاملة:
(أ) قصد الربا:
ولا شك أن هذه المعاملة ليست من البيع والشراء في شيء فإن المشتري الحقيقي ما لجأ إلى البنك إلا من أجل المال، والبنك أيضاً لم يشتر هذه السلعة بقصد أن يبيعها بأجل إلى المشترى وهذه المقاصد لا يستطيع أحد أن يكابر فيها.
(ب) بيع ما لا يملك.
ولاشك أيضاً أن البنك الإسلامي عند ما يأتيه مشتر ويقول: اشتر لي السلعة الفلانية فإن البنك يساومه على البيع ويشترط عليه إذا اشتراها له أن يشتريها بربح كذا وكذا، وهنا يكون البنك قد باع ما ليس عنده. وقد جاءت النصوص بتحريم ذلك بل إجماع الأمة كلها على هذا كما قال ابن قدامة في المغنى:"ولا يجوز أن يبيع عيناًَ لا يملكها ليمضي ويشتريها ويسلمها رواية واحدة"أحمد بن حنبل "وهو قول الشافعي، ولا نعلم فيه مخالفاً لأن حكيم بن حزام قال للنبي صلى الله عليه وسلم:"إن الرجل يأتيني فيلتمس من البيع ما ليس عندي فأمضي إلى السوق فأشتريه ثم أبيعه منه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تبع ما ليس عندك "(ا. هـ ص 155 ج 4 المغنى) .
ومعلوم يقيناًَ أن البنك يبيع ما ليس عنده باتفاقه مع المشتري الذي يسمونه وعداً بالبيع، والحال أنه تعهد مكتوب موقع عليه يلتزم به المسلم على الأقل أخلاقياًَ وأدبياًَ ولا يجوز للمسلم أن يخلف وعده حقاًَ إن البنك لا يقاضي من يتخلف عن هذا الوعد ويطالبه أمام المحاكم بإنجاز ما وعد [1] ولكنه يكبله بتوقيع ووعد يلزمه أخلاقياًَ على الأقل أن يشتري، وهل هناك بيع أظهر من هذا وأوضح.
(جـ) بيعتين في بيعة:
هذه المعاملة التي يتبايعون فيها في البنوك الإِسلامية هي بيعتان في بيعة. وقد جاءت النصوص وكلام السلف بالنهي عن ذلك فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن بيعتين في بيعة. قال الإِمام ابن تيمية: "وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمن باع بيعتين في بيعة "فله أوكسهما أو الربا " وهذا إن تواطأ على أن يبيع ثم يبتاع فما له إلا الأوكس وهو الثمن الأقل أو الربا"أ. هـ فتاوى ج 29 ص 447 ولاشك أن الشراء الأول للبنك ثم البيع ما هما إلا عمليتان اثنتان في صفقة واحدة قصد بها التحايل على الربا.
(د) القضية كلها تحايل لأخذ الربا:
وهذه المسألة برمتها ما هي إلا دورة طويلة، القصد منها التوصل إلى الربا بغطاء شرعي. ولهذا قال ابن قدامة بعد أن ساق بعض المعاملات التي ظاهرها الشرع وباطنها التوصل إلى محرم: قال: "والحيل كلها محرمة غير جائزة في شيء من الدين وهو أن يظهر عقداً مباحاًَ يريد به محرماً مخادعة، وتوسلاً إلى فعل ما حرم الله، واستباحة محظوراته أو إسقاط واجب، أو دفع حق، ونحو ذلك، قال أيوب السختيانى: "إنهم ليخادعون الله كما يخادعون صبياً، لو كانوا يأتون الأمور على وجهه كان أهون علي "أهـ.
وذكر صاحب المغنى أمثلة للحيل في أبواب الربا منها قوله: "وهكذا لو أقرضه شيئاً وباعه سلعة بأكثر من قيمتها توسلاً إلى أخذ عوض عن القرض فكل ما كان من هذا على وجه الحيلة فهو خبيث محرم "ا. هـ " واستطرد ابن قدامة قائلاً: "وقال أبو حنيفة والشافعي ذلك كله وأشباهه جائز إذا لم يكن مشروطاً في العقد "لكن، قال بعض أصحاب الشافعي: "يكره أن يدخلا في البيع على ذلك لأن ما كل ما لا يجوز شرطه في العقد يكره أن يدخلا عليه"ثم عقب ابن قدامة على آراء الشافعي وأبي حنيفة هذه بقوله:"ولنا أن الله تعالى عذب أمة بحيلة احتالوها فمسخهم قردة وخنازير وسماهم معتدين وجعل ذلك نكالاً وموعظة للمتقين ليتعظوا بها ويمتنعوا عن مثل أفعالهم وقال بعض المفسرين في قوله تعالى {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} أي لأمة محمد صلى الله عليه وسلم فروي أنهم (أي بنى إسرائيل) كانوا ينصبون شباكهم للحيتان يوم الجمعة ويتركونها إلى يوم الأحد، ومنهم من كان يحفر حفائر ويجعل إليها المجاري فيفتحها يوم الجمعة فإذا جاء السمك يوم السبت جرى مع الماء في المجاري فيقع في الحفائر فيدعها إلى يوم الأحد ثم يأخذها ويقول: ما اصطدت يوم السبت ولا اعتديت فيه فهذه حيلة". (أ. هـ.)
وقال ابن عباس أيضاً فمن يشتري بنقد (حاضر) ومقصوده البيع نسيئة (أي إلى أجل) قال: "إذا استقمت بنقد ثم بعت بنقد فلا بأس، وإذا استقمت بنقد ثم بعت بنسيئة فتلك دراهم بدراهم "قال ابن تيمية تعقيباً على كلام ابن عباس هذا: "ومعنى كلامه إذا استقمت، إذا قومت يعني إذا قومت السلعة بنقد وابتعتها إلى أجل فإنما مقصودك دراهم بدراهم "(الفتاوى ص 442 ج 29) وعقب الإمام ابن تيمية ناصحاً من يتبع بعض الأقوال الضعيفة لأهل العلم ويستحل مثل هذه الحيل قال: "عليهم إذا سمعوا العلم أن يقولوا عن هذه المعاملات الربوية، ولا يصلح أن يقلد فيها أحداً فمن يفتي بالجواز تقليداً لبعض العلماء فإن تحريم هذه المعاملات ثابت بالنصوص والآثار ولم تختلف الصحابة في تحريمها وأصول الشريعة شاهدت بتحريمها، والمفاسد التي لأجلها حرم الله الربا موجودة في هذه المعاملات مع زيادة مكر وخداع، وتعب وعذاب فإنهم يكلفون من الرؤية والصفة والقبض وغير ذلك من أمور يحتاج إليها في البيع المقصود، وهذا البيع ليس مقصوداً لهم وإنما المقصود أخذ دراهم بدراهم فيطول عليهم الطريق التي يؤمرون بها فيحصل لهم الربا فهم من أحل الربا المعذبين في الدنيا قبل الآخرة وقلوبهم تشهد بأن هذا الذي يفعلونه مكر وخداع وتلبيس ولهذا قال أيوب السختيانى: "يخادعون الله كما يخادعون الصبيان فلو أتوا بالأمر على وجهه لكان أهون علي"انتهى فتاوى ص 445 ج 29.
الخلاصة:
وخلاصة الأمر أن هذا البيع الذي يسمونه في بعض البنوك الإسلامية ببيع المرابحة ليس هو بيع المرابحة في شيء، واعتمادهم هو قول للشافعي رحمه الله في هذه المسألة لا يحل لهم ذلك لأمرين:
الأول: أن الشافعي يفترض في هذا حسن النية وعدم التحايل على الربا قطعاً.
والثاني: أن الشافعي رحمه الله يرى جواز ما يماثل هذه الحيلة وهو بيع العينة كما قال:
"وان اشترى رجل طعاماً إلى أجل فقبضه فلا بأس أن يبيعه ممن اشتراه منه دون غيره بنقد والى أجل"(أهـ ص 39 ج 3) وهم لا يقولون بجواز مثل هذا البيع لأنه تحايل فكذا يجب أن يقولوا ذلك في مثيله (أهـ) .
كلمة أخيرة:
وعلى كل حال فليس مقصوداً في هذا والله يعلم. الطعن في البنوك الإسلامية، والتشويش عليها، كما ادعى بعض الناس سامحهم الله. بل مقصوداً هو النصح والتقويم وخاصة إن هذه معاملة قد استشرت في الناس ويعلم العامة قبل الخاصة أنها تحايل صريح على الربا، والبنوك الإسلامية لم تبدأ عملها بعد وما زالت في أول الطريق وعملها يبدأ عندما تكون هي الزارع والصانع والتاجر والشريك الحقيقي الذي يتحمل في الربح والخسارة، والمضارب الذي يمول غيره ويتحمل في الربح والخسارة، وهنا فقط يبدأ عمل البنك الإسلامي والطريق طويل ونسأل الله العون كل العون للقائمين عليها. ونصيحتي للمودعين أن لا ينتظروا الربح السريع من أول الطريق بل علينا التضحية ولن يضير البنك الإسلامي إذا مكث سنة أو سنتين أو أكثر يؤسس شركات حقيقية، ويشارك هو حقيقة ويبنى اقتصاداً إسلامياً حقيقياً، ولو أنه في سبيل ذلك لم يحقق لزبائنه هذه النسبة المرتفعة من الأرباح.
البنوك الإسلامية بين النظرية والتطبيق:
يعقد حالياً في الكويت المؤتمر الثاني للمصارف الإسلامية، وذلك لمناقشة شرعية المعاملات التي تمارسها المصارف الإِسلامية، وحتى يدرك الجميع الحقائق التي تواجهها هذه المؤسسات، ويعرف الناس ما يدور بداخلها نحب أن نضع الجميع أمام هذه الحقائق لتصل المصارف الإسلامية إلى التطبيق الصحيح للإسلام ولتكون مصارف إسلامية حقيقية وليست مجرد غطاء إسلامي لواقع ربوي.
أولاً: الفارق الأساسي بين البنك الربوي والمصرف الإسلامي:
كثيرون لا يدركون الفارق الأساسي بين المصرف الإسلامي والبنك الربوي والفارق باختصار يتمثل فيما يأتي:
- البنك الربوي يقوم نظامه وعمله الأساسي على تجميع أموال المستثمرين، ومن ثم اقتراضها بفائدة ثابتة للتجار والمؤسسات والمصانع والحكومات والأفراد المحتاجين، وهذا يعنى في المحصلة أن البنك الربوي وكيل عن المودع في أقراض أمواله بفائدة ثابتة ثم هو أعنى البنك الربوي يتقاسم الفائدة بينه وبين المودع.وهذا يعنى أيضاًَ أن البنك الربوي لا يخاطر بالأموال وإنما يقرضها بفائدة ثابتة. وما يتحصله من فوائد يتقاسمه المودعين فيه.
- وأما المصرف الإسلامي فإنه يجمع أموال المودعين لا ليؤجرها أو يقرضها للغير وإنما ليعمل هو بها من خلال مؤسساته الخاصة- يعمله بها في الزراعة والتجارة والصناعة وشراء العقار وتأجيره وسائر أوجه الكسب المشروع وبالتالي فالمصرف الإسلامي مخاطر بأموال المودعين لأنه قد يكسب ويربح عند ممارسته لهذه الأعمال وقد يخسر وبالتالي فإنه لا يعطي فائدة ثابتة وإنما يتقاسم الربح والخسارة مع المودعين (المستثمرين) هذا هو الفارق الأساسي بعين البنك الربوي والمصرف الإسلامي.
ثانياً- الواقع الفعلي للمصارف الإِسلامية:
ولكن للأسف فان هذا المفروض الذي بيناه آنفاً غير مطبق في المصارف الإِسلامية الآن- اللهم إلا بنسبة ضئيلة جداًَ لا تتعدى خمسة في المائة 5% من الأموال المودعة فيها. وأما بقية أعمال المصارف الإِسلامية الحالية فإنها تعمل بطريقة ربوية خالصة وذلك على النحو التالي:
البنوك الربوية تقرض التجار الذين لا يملكون نقوداً حاضرة (سيولة) في مقابل فائدة ثابتة. وهذا من الربا الصريح الواضح وأما المصارف الإسلامية، فإنها تصنع مع التجار نفس الصنيع ولكن عن طريق دورة طويلة من الإجراءات التي لا داعي لها. فالتاجر الذي يأتيها يريد (سيولة) نقوداً حاضرة تقول له نحن لا نقرضك مالاً (لأننا بنك إسلامي) . ولكن ما هي البضاعة التي تريدها أرنا إياها ونحن نشتريها ثم نبيعها لك. بشرط أن تتكفل أنت بجميع مصاريف الشحن والتأمين وجميع الالتزامات الأخرى التي تترتب على نقل هذه البضاعة ونأخذ منك عشرة في المائة. هذه هي صورة معاملة البنك الإسلامي مع التاجر الذي لجأ إليه من أجل (السيولة) النقود وهكذا يكون البنك الإسلامي ضامناًَ للربح غير مخاطر بشيء- فهو يوهم نفسه ويوهم الناس أنه يتاجر والحال أنه مقرض بفائدة وما قضية الشراء والبيع إلا تمثيلية وقد يسأل سائل وما الحرام في ذلك والجواب أن الحرام يتأتى من أن البنك الإسلامي في هذه الحال يبيع ما ليست عنده وما لا يملك وهذا لا يجوز في الشريعة، ويبيع البضاعة ولم يتسلمها بعد ولم ينقلها إلى مخازنه وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه (كما في صحيح مسلم) وكذلك سائر البضائع والتجارات وكذلك فالبنك هنا ليست تاجراً وإنما هو مقرض فقط فهو لا يشتري لنفسه وإنما يشتري لغيره، ولا يلتزم بشيء بتاتاًَ نحو تجارته فلا هو ملزم بنفقات نقلها، ولا بضمانها إذا هلكت بل وهو أيضاً غير ملتزم بتسليمها إلى المشتري وإنما يسلمه المستندات وهو يذهب لاستلام بضاعته التي تكون مازالت في عرض البحر. ولذلك فالتاجر يكون في جانب المخاطرة والبنك الإسلامي يكون في جانب الأمان التام شأنه في ذلك شأن البنك الربوي تماماً إلا أن البنك الربوي وصل إلى مقصوده دون لف ودوران والبنك الإسلامي لا يصل إلى مقصوده إلا بزيادة عناء ولف ودوران. وهكذا تكون (الشريعة
الإسلامية) على هذا النحو مزيداًَ في التعقيد والتطويل مع فعل نفس الأمر الذي حرمه الله سبحانه وتعالى.
ثالثاً- الدعاوى لا تغير الحقائق:
وقد استباح القائمون على البنوك الإسلامية لأنفسهم مثل هذه المعاملة التي بيناها آنفاً من باب أنهم عندما يأتيهم العميل فلأَنهم لا يبيعونه وإنما يعدونه وعداً غير ملزم بأن يبيعوا له إذا اشتروا السلعة. فإذا اشتروها لأنفسهم قاموا بعد ذلك ببيعها للعميل وهذا الكلام أيضاً غير صحيح بدليل ما يأتي:
1-
لا يوجد شيء في الشريعة يسمى وعداً غير ملزم إذ المؤمن مطالب شرعاً بإنفاذ ما وعد وإلا كان على شعبة من نفاق0
2-
كيف يكون وعد الشراء هذا غير ملزم وقد نصوا فيه على ما يأتي كما جاء نص العقد المعنون بـ (رغبة ووعد بالشراء) ففي المادة الرابعة منه: يتحمل الطرق الذي يخل بهذا الوعد الضرر الفعلي الذي يلحق بالطرف الآخر ما لم يكن الإخلال لأسباب قاهرة أهـ.
فكيف إذن يكون الوعد غير ملزم إذا كان الطرف الذي سيخل بهذا الوعد سيتحمل الضرر الناشئ من الإخلال بالوعد؟
ولعل قائلاً يقول إن الأمر لن يصل إلى أن يتقدم البنك الإسلامي بطلب محاكمة العميل الذي يتخلف عن إنفاذ وعده للبنك وإنما هذا مجرد تهديد وتخويف وأقول هذا أيضاً خطأ لأن المادة الخامسة من هذا الوعد تنص على ما يأتي فهي تقول بالنص: "عند نشوء أي خلاف بين الطرفين بشأن هذا الوعد يصعب عليهما حله ودياًَ يعرض على محكمين ملتزمين بالشريعة الإسلامية (هكذا) يتم اختيارها على الوجه التالي:
- حكم يختاره الطرف الأول.
- حكم يختاره الطرف الثاني.
- وحكم يختاره غرفة تجارة وصناعة الكويت.
ويتم الفصل في النزاع وفقاً للقوانين والأعراف التجارية السائدة بدولة الكويت وبما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية (عجباً) ويكون حكمها سواء صدر بالإجماع أو بالأغلبية ملزماً للطرفين وغير قابل للطعن فيه بالمعارضة أو الاستئناف وإذا اعتذرت غرفة التجارة والصناعة عن ترشيح الحكم الثالث يقوم الحكمان المختاران من قبل الطرفين باختياره، فإذا تعذر ذلك تقوم المحكمة الكلية بتعيينه وفقاً لأحكام قانون المرافعات المدنية والتجارية الكويتي) .
وبعد
…
0
أنظرتم يا إخواني إلى مفهوم الوعد غير الملزم في نظر البنوك الإسلامية إنه وعد يجرك جراً إلى محاكمة لا استئناف فيها ولا طعن فأي إلزام وأي دكتاتورية أبلغ من هذا
…
؟ إن هذه الالتزامات المترتبة على هذا الوعد بالشراء (غير الملزم) لهي أبلغ من كل الالتزامات التي تترتب على الإخلال بعقد بيع حقيقي. ولذلك قلنا إن الادعاء بأن وعد الشراء غير ملزم أكذوبة كبيرة وإيهام كبير.
رابعاً- نناشدكم الله العودة إلى الحق والصواب
للأسباب السابقة كتبنا مراراً وتكراراً مناشدين القائمين على البنوك الإِسلامية الله- أن يعودوا إلى الحق والصواب وأن لا تصبح الشريعة الإِسلامية ألعوبة في أيديهم فإن الدنيا لا تغني من الآخرة شيئاً، ومصير الجميع غداً بين يدي سبحانه وتعالى وهو سائل كل إنسان منا على ما اكتسبه بلسانه وقلمه ويده.
ولذلك قلنا إن المؤتمر الحالي للبنوك الإسلامية مفترق طرق فيما أن تتحول البنوك الإسلامية إلى مزاولة عملها وفق الشريعة حقيقة وذلك بأن تفتح هي وكالات تجارية وتمارس التجارة الفعلية حقيقة، وكذلك تقوم هي بالزراعة والصناعة والبناء، والمقاولات بشركاتها وعماله وصناعها، وإما أن تأخذ البنوك الإسلامية من المجتمعين صكاً شرعياً لتزاول ما تزاول من أعمال ربوية تحت غطاء هذا الصك الشرعي.
فماذا أنتم فاعلون أيها المجتمعون اليوم؟
الفرق بين التاجر والمرابي
من المقطوع به في الشريعة أن الله سبحانه وتعالى قد أباح البيع، وحرم الربا ، ومقالنا هذا مخصص وموجه لوضع الفروق بين البيع المشروع والربا المحرم.
تعريف البيع وشروط صحة عقده:
البيع معروف لدى جميع الناس تقريباً وهو استبدال نقود بسلع، أو سلع بسلع أخرى كاستبدال أرز بنفط مثلا، ويشترط له الصدق وعدم كتمان العيب، وخيار المجلس (ولهذا شرح في مقام آخر إن شاء الله تعالى) والتسليم، ومن شروطه الهامة التي تخفى على كثير من الناس وجوب حيازة التاجر للسلعة قبل بيعها للمشتري ومعنى هذا أن التاجر لا يجوز له أن يبيع ما ليس عنده، وأنه يجب عليه أولاً أن يشتري السلعة ويحوزها ثم بعد ذلك يشرع في بيعها.
حكمة مشروعية البيع:
ولا يخفى حكمة مشروعية البيع وجواز الربح من ورائه وذلك لما يأتي:
(1)
البائع خادم للناس لأنه يجلب البضاعة ويتعهدها، ويعرضها لمن يشتري ويوفر على الناس كثيرا من الجهد والتعب، ومعنى هذا أنه يقوم بخدمة حقيقية لغيره.
(2)
البائع مخاطر فهو يشتري السلعة بماله ويخاطر في طلب الربح وقد تربح تجارته وقد تكسد وتبور. ولذلك فهو يبتغي فضل الله كما فسر العلماء قول الله تبارك وتعالى {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} قالوا هو التجارة لأن الله نهى عنها في الآية التي قبلها عند سماع النداء بصلاة الجمعة كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} الآية..
وهذا سبب هام لإباحة التجارة وذلك أن البائع كما قلنا منتظر لفضل الله وهو كسب تجارته الذي قد يأتي وقد لا يأتي تماماً كالزارع والراعي والصياد وكل هؤلاء ينتظرون الربح ويخافون الخسارة.
والآن نأتي إلى الربا فما هو الربا ولماذا كان حراماً؟:
تعريف الربا:
الربا نوعان أساسيان أولهما: أخذ زيادة على تسليف النقود. ومعنى هذا إنه تأجير النقود لمدة معينة بسعر معين. حيث يسترد المرابي رأس ماله والزيادة وهذا هو الربا المشهور وهو ما يسمى في الفقه بربا النسيئة لأن النساء من الإمهال ومعناه إمهال مستلف النقود مدة معينة مقابل زيادة على رأس المال. وأما النوع الثاني من الربا فهو بيع أصناف معينة من السلع بجنسها متفاضلاً ومن هذه الأصناف الذهب والفضة والقمح والشعير، والزبيب والتمر. وما قاسه العلماء على هذه السلع فلا يجوز مثلاً أن يبيع طناً من القمح بطن ونصف من قمح آخر. وهذا النوع لا يعنينا الآن في مقالنا هذا لأن تحريم هذا النوع من الربا إنما هو من باب سد الذرائع.
لماذا حرمت الشريعة الربا؟
وفي تحريم الربا حكمة عظيمة جداً أهمها ما يأتي:
(1)
القيام بخدمة لا يجوز أخذ الأجرة عليها:
لا شك أن الرابي يؤدي خدمة للمدين فهو يسلفه النقود، والمدين يستفيد ولا شك بأخذه لهذه السلفة. فقد يكون محتاجاً إليها لتنفيس كربه كأن يكون محتاجاً إليها للاستثمار والاتجار كأن يكون مريداً للزراعة أو صناعة أو تجارة أو نحو ذلك وحصوله على المال من المرابي (مصرفاً كان أو غيره) يسهل له ذلك.
ولكن هذه الخدمة نهى الشارع الحكيم عن أخذ أجرة عليها وذلك لما تؤدى إليه من فساد النفوس والمجتمعات ولذلك جعلها الشارع خدمة مجانية تماماً كالشهادة والكفالة، والشفاعة، والضيافة، وعيادة المريض، واتباع الجنازة، وكل هذه الخدمات ولاشك من المسلم للمسلم ولكن الشارع نهى وحرم أخذ الأجرة على شيء من ذلك، وجعل تسليف النقود خدمة مفروضة بلا أجر. وذلك أن أخذ الأجر على هذه الأعمال يؤدي إلى التقاطع والمقت والكراهية وفقدان المحبة والموالاة بين المسلم والمسلم.
(2)
المرابي غير مخاطر وهو في جانب الأمان دائماً:
السبب الثاني الذي من أجله حرم الربا أن المرابي لا يخاطر بماله ولا يضعه إلا حيث يضمن الربح ولا يهتم بمن أخذ منه المال هل خسر أم كسب وبذلك يظل المرابي في جانب الأمان دائماً فينمو ماله باستمرار ويظل غيره في جانب الخطر صعوداً وهبوطاً. واستمرار الحال على هذا النحو معناه في النهاية تحول المال إلى القلة وبالتالي تحول السيطرة والعلو والنفوذ.
(3)
الربا ضد الزكاة:
يستحيل أن تزكو نفس المرابي لأنه يأخذ المال ممن أسلفه دون نظر إلى فقره أو غناه ولذلك يستحيل أن يكون المرابي منفقاً مزكياً. بل لا تروج بضاعة المرابي وهي تأجير النقود إلا في الأزمات والمصائب وفي وجود احتياج الناس له.
هذا باختصار أهم الفروق بين المرابي والتاجر أو بين البيع والشراء. والآن تعالوا لنطبق هذه القواعد على البيع المزور الذي تمارسه البنوك الإِسلامية لننظر هل هو من البيع أو من الربا؟
تعريف البيع الذي يسمونه بيع المرابحة:
تاجر كويتي يبيع الأحذية مثلاً وله محلاته وزبائنه ويريد أن يستورد صفقة كبيرة من إيطاليا مثلاً ليس عنده نقود لشرائها. فيذهب إلى البنك الإسلامي ويقول هذه صفقة أريد شرائها من إيطاليا وهذه مواصفاتها وكميتها وعنوان مصنعها. والآن ماذا يصنع البنك الإسلامي. يقول لهذا العميل (تاجر الأحذية) نحن نشتريها لك بزيادة (بربح) 20% مثلاً عن ثمن الشراء ويقول التاجر: قبلت على أن يسدد هذا المبلغ في غضون عام أو عامين مثلاً أو أقل من ذلك أو أكثر. ويحصل الإتفاق شفوياً أو كتابياً على ذلك.
ثم يقوم البنك بشراء السلعة من مصادرها وبمجرد شحنها يستدعى تاجر الأحذية ليوقع عقداً بالشراء مع البنك وتصبح البضاعة التي مازالت في البحر ولم يتسلمها أحد بعد في ذمة تاجر الأحذية.. والآن لنناقش هذا العقد بصراحة.
والسؤال الأول: هل البنك هنا مارس التجارة؟
والجواب
…
لا حتماً. لأسباب كثيرة منها: أن البنك لا يتاجر في الأحذية فليس له خبرة بها ولا يعرف ما يروج في الكويت مما لا يروج فيها وليس عنده أيما معرض أو مخزن لاستقبالها ويوم طلب البنك هذه السلعة من مصدرها لم يكن يعلم أي شيء عن محتوياتها؟ فكيف يكون هذا تاجراً
…
؟
وثائياً: التاجر يؤدي خدمة للمشتري كما ذكرنا آنفاً وهي أنه يجلب البضاعة ويتعهدها ويعرضها والبنك هنا لم يفعل شيئاً من هذا قط فالمشتري وهو تاجر الأحذية هو الذي له علم بمصانع الأحذية وأنواع هذه الأحذية ومعرفة ما يروج مما لا يروج وهو الذي يتحمل الخسارة إن بارت هذه السلعة. وأما البنك فقد قام بعملين فقط أحدهما حقيقة وآخر زائف.
أما العمل الحقيقي فهو أنه دفع ثمن السلعة لمصدرها في إيطاليا والثاني هو عقد شراء من المصنع لهذه الأحذية وعقد الشراء هذا زائف وباطل لأنه لم يشتر لنفسه وليحوز السلعة إليه وإنما اشتراها ضامناً بيعها على تاجرها الحقيقي. وبهذا يتبين أن البنك الإِسلامي هنا يقوم بمهمة المرابي تماماً الذي يسلف النقود ويضمن الربح.
وثالثاً: لاشك أن البنك الإسلامي بهذه الصورة يكون بنكاً طفيلياً ربوياً، فهو بهذه الصورة ليس بتاجر قطعاً. لأن التاجر يلتزم بتسليم السلعة للمشتري والبنك الإسلامي لا يسلم السلعة وإنما يبيعها وهي ما زالت في البحار وأمامها كثير من المخاطر والآفات وقد تكون موافقة للمطلوب وقد تكون مغشوشة من مصدرها وكل هذه الأخطار تقع على المشتري ولا يلتزم
…
البنك بشيء منها لأنه يفض يده من السلعة قبل وصولها.
ومن أكبر الأدلة على طفيلية البنوك الإِسلامية الحالية بهذه المعاملات المحرمة إنها لا تلتزم لأي اتفاق قانوني أو أخلاقي أو إنساني نحو السلع التي تستوردها لعملائها.. فالتاجر الحقيقي الذي يستورد غسالات مثلاً أو سيارات أو ثلاجات ملتزم قانونياً وأخلاقياً أمام زبائنه بقطع الغيار والتصليح والصيانة، والبنك الإسلامي يستورد ويبيع كل هذه الأشياء دون أي التزام قانوني أو أخلاقي بصيانتها أو تصليحها
…
وإنما يقع هذا على كتف التجار الحقيقيين الذين يشتري لهم البنك
…
وبهذا يظهر لكل ذي عينين أن البنك الإسلامي فيما يسمونه ببيع المرابحة لا يمارس تجارة وإنما يمارس التمويل الربوي الذي لا شبهة فيه، فحقيقة عمله في التجارة هو أن يسلف التجار لشراء بضائعهم بزيادة (ربح) ربوية في مقابل أجل السداد.
ومرة ثانية نقول شتان بين النظرية والواقع لقد قامت البنوك الإسلامية لتمارس الإقتصاد الإسلامي ولو فعلت هذه حقيقة في مجال هام كالتجارة لقلبت أوضاع السوق رأساً على عقب، ومن ذلك أنها كان يمكن أن تكسر احتكار المحتكرين، وأن تكتفي بالربح القليل تيسيراً على عامة الناس وأن تشجع صغار التجار، وأن تقلل من السماسرة، وأن ترخص الأسعار حتماً لأنها ستقضي على أرباح البنوك الربوية التي تأخذها من التجار في مقابل التمويل ولكنها للأسف لم تفعل شيئاً من ذلك، وإنما جعلت من نفسها بنوكاً ربوية جديدة حيث تأخذ فائدة من التاجر الذي يشتري منها وبذلك تزيد ثمن السلعة على المستهلك ولو مارست هي التجارة رأساً وتحملت مخاطرها لحذفت من تكاليف السلعة هذه الزيادة الربوية ولكانت كلفة السلعة هي: ثمن الشراء + مصاريف النقل والتخزين والعرض + الربح، وأما تكلفة السلعة الآن فهي: ثمن الشراء من المصدر + تكاليف النقل والتخزين والعرض + فائدة البنك الإسلامي + ربح التاجر.
وهكذا وضعت البنوك الإسلامية نفسها موضع الوسيط الطفيلي الذي يضمن الربح عن طريق تمويل التجار بدلاًَ من أن تكون هي التاجر المسلم الحقيقي الذي يبتغى من فضل التاجر ويخاطر بماله في البر والبحر وينفع عباد الله.
وبعد فلقد حاولت جهدي أن أشرح هذا الموضوع بلغة سهلة واضحة لتقوم الحجة على عموم الناس. وذلك لخطورة هذا الأمر فقد أهلك الله طائفة من بنى إسرائيل ومسخهم قردة وخنازير لتحايلهم على أكل الحرام. وهذا البيع الذي يسمون بيع المرابحة هو من المحرم قطعاً لما أسلفنا وأرجو أن أبرئ ساحتي أمام الله وأكون قد بلغت. وأقول اللهم أشهد.
ومرة ثانية نحن لا نتهم نية أحد، وحساب الجميع على الله وحده، وعلى الذين يتهموننا أن يتقوا الله في أنفسهم، وأن يقرأوا هذا الكلام بنزاهة المسلم. والدنيا لا تغني من الآخرة شيئاً. وحرام أن نسكت ونحن نرى البنوك الإسلامية تقع في حماة الربا الخبيث الملتوي، ولتسأل البنوك الإِسلامية. كم متجراًَ فتحت؟ وكم مصنعاًَ شيدت؟ وكم يداً عاملة استخدمت؟ وأين الزراعة والرعي، والتعدين الذي أنشئت من أجله؟ هذا هو ميدان البنوك الإسلامية، وليس ميدانها أن تكون وسيطاً ربوياً جباناًَ يخشى المشاركة والقراض، والمخاطرة المشروعة في سبيل الرزق والكسب.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
عندما كتبنا ذلك كان الأمر كذلك. أما الآن فإن العقود الجديدة تنص على التقاضي أمام المحاكم إذا أخل أي طرف بهذا الوعد.
الغزو الفكريّ ووسائله
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
الرئيس العام لإدارات البحث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
س 1: ما هو تعريف الغزو الفكري في رأيكم.؟
جـ: الغزو الفكري هو مصطلح حديث يعنى مجموعة الجهود التي تقوم بها أمة من الأمم للاستيلاء على أمة أخري أو التأثير عليها حتى تتجه وجهة معينة. وهو أخطر من الغزو العسكري لأن الغزو الفكري ينحو إلى السرية وسلوك المسارب الخفية في بادي الأمر فلا تحس به الأمة المغزوة ولا تستعد لصده والوقوف في وجهه حتى تقع فريسة له وتكون نتيجته أن هذه الأمة تصبح مريضة الفكر والإحساس، تحب ما يريده لها عدوها أن تحبه وتكره ما يريد منه أن تكرهه.
وهو داء عضال يفتك بالأمم ويُذهب شخصيتها ويزيل معاني الأصالة والقوة فيها، والأمة التي تبتلى به لا تحس بما أصابها ولا تدري عنه ولذلك يصبح علاجها أمراً صعباً وإفهامها سبيل الرشد شيئاً عسيراً.
س 2: هل يتعرض العرب عامة والمملكة خاصة لهذا النوع من الغزو.؟
جـ: نعم يتعرض المسلمون عامة ومنهم العرب لغزو فكري عظيم تداعت به عليهم أمم الكفر من الشرق والغرب ومن أشد ذلك وأخطره:
- الغزو النصراني الصليبي.
- الغزو اليهودي.
- الغزو الشيوعي الإلحادي.
أما الغزو النصراني الصليبي فهو اليوم قائم على أشده ومنذ أن انتصر صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين الغازين لبلاد المسلمين بالقوة والسلاح أدرك النصارى أن حربهم هذه وإن حققت انتصارات فهي وقتية لا تدوم، ولذا فكروا في البديل الأفضل، وتوصلوا بعد دراسات واجتماعات إلى ما هو أخطر من الحروب العسكرية وهو أن تقوم الأمم النصرانية فرادي وجماعات بالغزو الفكري لناشئة المسلمين لأن الاستيلاء على الفكر والقلب أمكن من الاستيلاء على الأرض فالمسلم الذي لم يلوث فكره لا يطيق أن يري الكافر له الأمر والنهى في بلده، ولهذا يعمل بكل قوته على إخراجه وإبعاده ولو دفع في سبيل ذلك حياته وأغلى ثمن لديه. وهذا ما حصل بعد الانتصارات الكبيرة للجيوش الصليبية الغازية. أما المسلم الذي تعرض لذلك الغزو الخبيث فصار مريض الفكر عديم الإحساس فإنه لا يري خطراً في وجود النصارى أو غيرهم في أرضه، بل قد يري أن ذلك من علامات الخير ومما يعين على الرقى والحضارة. وقد استغنى النصارى بالغزو الفكري عن الغزو المادي لأنه أقوي وأثبت من أي حاجة لهم من بعث الجيوش بإنفاق الأموال مع وجود من يقوم بما يريدون من أبناء الإسلام عن قصد أو عن غير قصد، وبثمن أو بلا ثمن، ولذلك لا يلجأون إلى محاربة المسلمين علانية بالسلاح والقوة إلا في الحالات النادرة الضرورية التي تستدعى العجل كما حصل في غزو أوغندا والباكستان، أو عند ما تدعو الحاجة إليها لتثبيت المنطلقات لإقامة الركائز وإيجاد المؤسسات التي تقوم بالحرب الفكرية الضروس كما حصل في مصر وسوريا والعراق وغيرها قبل الجلاء.
أما الغزو اليهودي فهو كذلك لأن اليهود لا يألون جهداً في إفساد المسلمين في أخلاقهم وعقائدهم. ولليهود مطامع في بلاد المسلمين وغيرها ولهم مخططات أدركوا بعضها ولا زالوا يعملون جاهدين لتحقيق ما تبقى. وهم وإن حاربوا المسلمين بالقوة والسلاح واستولوا على بعض أرضهم، فإنهم كذلك يحاربونهم في أفكارهم ومعتقداتهم. ولذلك ينشرون فيهم مبادئ ومذاهب ونحلاً باطلة كالماسونية والقاديانية والبهائية والتيجانية وغيرها ويستعينون بالنصارى وغيرهم في تحقيق مآربهم وأغراضهم.
أما الغزو الشيوعي الإلحادي فهو اليوم يسري في بلاد الإسلام سريان النار في الهشيم نتيجة للفراغ وضعف الإيمان في الأكثرية، وغلبة الجهل وقلة التربية الصحيحة السليمة فقد استطاعت الأحزاب الشيوعية في روسيا والصين وغيرها أن تتلقف كل حاقد وموتور من ضعفاء الإيمان وتجعلهم ركائز في بلادهم ينشرون الإلحاد والفكر الشيوعي الخبيث وتعدهم وتمنيهم بأعلى المناصب والمراتب، فإذا ما وقعوا تحت سيطرتها أحكمت أمرها فيهم وأدبت بعضهم ببعض وسفكت دماء من عارض أو توقف حتى أوجدت قطعاناً من بنى الإنسان حرباً على أممهم وأهليهم وعذاباً على إخوانهم وبنى قومهم فمزقوا بهم أمة الإسلام وجعلوهم جنوداً للشيطان يعاونهم في ذلك النصارى واليهود بالتهيئة والتوطئة أحياناً، وبالمدد والعون أحياناً أخرى، ذلك أنهم وإن اختلفوا فيما بينهم فإنهم جميعاً يد واحدة على المسلمين يرون أن الإسلام هو عدوهم اللدود. ولذا نراهم متعاونين متكاتفين بعضهم أولياء بعض ضد المسلمين فالله سبحانه المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل.
س 3: ما هي الوسائل التي يستخدمها الغرب لترويج أفكاره؟
جـ: الوسائل التي يستخدمها الغرب لترويج أفكاره كثيرة منها:-
1-
محاولة الاستيلاء على عقول أبناء المسلمين وترسيخ المفاهيم الغربية فيها لتعتقد أن الطريقة الفضلى هي طريقة الغرب في كل شيء سواء فيما يعتقده من الأديان والنحل أو ما يتكلم به من اللغات أو ما يتحلى به من الأخلاق أو ما هو عليه من عادات وطرائق.
3-
رعايته لطائفة كبيرة من أبناء المسلمين في كل بلد وعنايته بهم وتربيتهم حتى إذا ما تشربوا الأفكار الغربية وعادوا إلى بلادهم أحاطهم بهالة عظيمة من المدح والثناء حتى يتسلموا المناصب والقيادات في بلدانهم، وبذلك يروجون الأفكار الغربية وينشئون المؤسسات التعليمية المسايرة للمنهج الغربي أو الخاضعة له.
3-
تنشيطه لتعليم اللغات الغربية في البلدان الإسلامية وجعلها تزاحم لغة المسلمين وخاصة اللغة العربية لغة القرآن الكريم التي أنزل الله بها كتابه والتي يتعبد بها المسلمون ربهم في الصلاة والحج والأذكار وغيرها. ومن ذلك تشجيع الدعوات الهدامة التي تحارب اللغة العربية وتحاول إضعاف التمسك بها في ديار الإسلام في الدعوة إلى العامية وقيام الدراسات الكثيرة التي يراد بها تطوير النحو وإفساده وتمجيد ما يسمونه بالأدب الشعبي والتراث القومي.
4-
إنشاء الجامعات الغربية والمدارس التبشيرية في بلاد المسلمين ودور الحضانة ورياض الأطفال والمستشفيات والمستوصفات وجعلها أوكاراً لأغراضه السيئة وتشويق الدراسة فيها عند الطبقة العالية من أبناء المجتمع ومساعدتهم بعد ذلك على تسلم المراكز القيادية والوظائف الكبيرة حتى يكونوا عوناً لأساتذتهم في تحقيق مآربهم في بلاد المسلمين.
5-
محاولة السيطرة على مناهج التعليم في بلاد المسلمين يرسم سياستها إما بطريق مباشر كما حصل في بلاد الإسلام حينما تولى (دنلوب) القسيس تلك المهمة فيها أو بطريق غير مباشر عندما يؤدي المهمة نفسها تلاميذ ناجحون درسوا في مدارس (دنلوب) وتخرجوا فيها فأصبح معظمهم معول هدم في بلاده وسلاحاً فتاكاً من أسلحة العدو يعمل جاهداً على توجيه التعليم توجيهاً علمانياً لا يرتكز على الإيمان بالله والتصديق برسوله وإنما يسير نحو الإلحاد ويدعو إلى الفساد.
6-
قيام طوائف كبيرة من النصارى واليهود بدراسة الإسلام واللغة العربية وتأليف الكتب وتولى كراسي التدريس في الجامعات حتى أحدث هؤلاء فتنة فكرية كبيرة بين المثقفين من أبناء الإسلام بالشبه التي يلقنونها لطلبتهم أو التي تمتلئ بها كتبهم وتروج في بلاد المسلمين حتى أصبح بعض تلك الكتب مراجع يرجع إليها بعض الكاتبين والباحثين في الأمور الفكرية أو التاريخية ولقد تخرج على يد هؤلاء المستشرقين من أبناء المسلمين رجال قاموا بنصيب كبير من إحداث الفتنة الكبرى، وساعدهم على ذلك ما يحاطون به من الثناء والإعجاب وما يولونه من مناصب هامة في التعليم والتوجيه والقيادة فأكملوا ما بدأه أساتذتهم وحققوا ما عجزوا عنه لكونهم من أبناء المسلمين ومن جلدتهم ينتسبون إليهم ويتكلمون بلسانهم فالله المستعان
…
7-
انطلاق الجيوش الجرارة من المبشرين الداعين إلى النصرانية بين المسلمين وقيامهم بعملهم ذلك على أسس مدروسة وبوسائل كبيرة عظيمة يجند لها مئات الآلاف من الرجال ولقد تعد لها أضخم الميزانيات وتسهل لها السبل وتذلل لها العقبات {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (الصف: 8) وإذا كان هذا الجهد منصباً على الطبقة العامية غالباً فإن جهد الإستشراق موجه إلى المثقفين كما ذكرت آنفاً وإنهم يتحملون مشاقاً جساماً في ذلك العمل في بلاد أفريقيا وفي القرى النائية من أطراف البلدان الإسلامية في شرق آسيا ثم هم بعد كل حين يجتمعون في مؤتمر يراجعون حسابهم وينظرون في خططهم فيصححون ويعدلون ويبتكرون. فلقد اجتمعوا في القاهرة سنة 1906، وفي ادنمبرج سنة 1910، وفي لكنوا سنة 1911، وفي القدس 1935 م، وفي القدس كذلك في عام 1935 م. ولا زالوا يوالون الاجتماعات والمؤتمرات فسبحان من بيده ملكوت كل شيء واليه يرجع الأمر كله.
8-
الدعوة إلى إفساد المجتمع المسلم وتزهيد المرأة في وظيفتها في الحياة وجعلها تتجاوز الحدود التي حد الله لها وجعل سعادتها في الوقوف عندها وذلك حينما يلقون بين المسلمين الدعوات بأساليب شتى وطرق متعددة إلى أن تختلط النساء بالرجال والى أن تشتغل النساء بأعمال الرجال يقصدون من ذلك إفساد المجتمع المسلم والقضاء على الطهر والعفاف الذي يوجد فيه وإقامة قضايا وهمية ودعاوى باطلة في أن المرأة في المجتمع المسلم قد ظلمت وأن لها الحق في كذا وكذا يريدون إخراجها من بيتها وإيصالها إلى ما يريدون في حين أن حدود الله واضحة وأوامره صريحة وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم جلية بينة يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأََزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} (الأحزاب: 59) ويقول سبحانه: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَاّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنّ} الآية: (النور: 31) ويقول: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنّ} ويقول: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} (الأحزاب: 33) ويقول صلى الله عليه وسلم: "إياكم والدخول على النساء"قال رجل من الأنصار: "يا رسول الله أفرأيت الحمو"قال: "الحمو الموت" وقال: "لا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما".
9-
إنشاء الكنائس والمعابد وتكثيرها في بلاد المسلمين وصرف الأموال الكثيرة عليها وتزيينها وجعلها بارزة واضحة في أحسن الأماكن وفي أكبر الميادين.
10-
تخصيص إذاعات موجهة تدعو إلى النصرانية وتشيد بأهدافها وتضلل بأفكارها أبناء المسلمين السذج الذين لم يفهموا الإسلام ولم تكن لهم تربية كافية عليه وخاصة في إفريقيا يصاحب هذا الإكثار من طبع الأناجيل وتوزيعها في الفنادق وغيرها وإرسال النشرات التبشيرية والدعوات الباطلة إلى الكثير من أبناء المسلمين.
هذه بعض الوسائل التي يسلكها أعداء الإسلام اليوم في سبيل غزو أفكار المسلمين وتنحية الأفكار السليمة الصالحة لتحل محلها أفكار أخرى غربية شرقية أو غربية وهى كما نرى جهوداً جبارة وأموالاً طائلة وجنوداً كثيرين كل ذلك لإخراج المسلمين من الإسلام وإن لم يدخلوا في النصرانية أو اليهودية أو الماركسية إذ يعتقد القوم أن المشكلة الرئيسية في ذلك هي إخراجهم من الإسلام وإذا تم التوصل إلى هذه المرحلة فما بعدها أسهل وميسور. ولكننا مع هذا نقول إن الله سيخيب آمالهم ويبطل مكرهم ويضعف كيدهم لأنهم مفسدون وهو سبحانه لا يصلح عمل المفسدين. قال الله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (الأنفال: 30) وقال سبحانه: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} (الطارق: 15- 17) وإن الأمر يحتاج من المسلمين وقفة عقل وتأمل ونظر في الطريق التي يجب أن يسلكوها والموقف المناسب الذي يجب أن يقفوه وأن يكون من الوعي والإدراك ما يجعلهم قادرين على فهم مخططات أعدائهم وعاملين على إحباطها وإبطالها ولن يتم ذلك إلا بالاستعصام بالله والاستمساك بهديه والرجوع إليه والإنابة له والاستعانة به وتذكر هديه في كل شيء وخاصة في علاقة المؤمنين بالكافرين وتفهم معنى سورة الكافرون وما ذكره سبحانه في قوله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (البقرة: 120) وقوله: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى
يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} (البقرة: 217)
أسال الله سبحانه أن يهيئ لهذه الأمة من أمرها رشداً، وأن يعيذها من مكائد أعدائها، ويرزقها الاستقامة في القول والعمل حتى تكون كما أراد الله لها من العزة والقول والكرامة. إنه خير مسئول وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
حديث عن الدورة
وأثرها على المجتمع الذي أقيمت فيه
محاضرة ألقيت بقاعة المحضرات الكبرى بالجامعة الإسلامية
مساء الأربعاء 3/1 / 1403
للدكتور علي بن محمد ناصر فقيهي
عميد شئون المكتبات بالجامعة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
وبعد: فإن الجامعة الإِسلامية التي هيأ الله الأسباب لإنشائها في المدينة النبوية التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها: "إِن الإِيْمانَ ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها.." وقد أسست لهدف نبيل وغاية محمودة، وهو العودة بالمسلمين جميعاً إلى العقيدة الإِسلامية الصحيحة الصافية النقية المأخوذة من الكتاب والسنة، واتباع منهج سلف الأمة في ذلك، وذلك لمعرفة المؤسسين لها والراسمين لسياستها وأهدافها، أنه بصلاح القلوب وتنقِيتها من جميع شوائب الشرك والبدع والخرافات تصلح المجتمعات وتصح مسيرتها، لأن في القلب مضغة إذا صَلَحَت صَلَحَ الجسدُ كله. وإذا فسدت فسدَ الجسدُ كله ألا وهى القلب، فالقلب ملك الأعضاء وقائدها.
وهذا هو منهج المصطفى صلى الله عليه وسلم في دعوته، فقد مكث في مكة ثلاثة عشر عاماً يدعو الناس لتحقيق هذه الغاية، وهى توحيدُ الله وتركُ كل ما يدعى من دونه، ولو علم صلى الله عليه وسلم أن هناك منهجاً آخر يمكن به صلاح البشرية لتبعه، فقد عرض عليه رؤساء قريش لصرفه عن منهجه في دعوته أموراًَ منها: أنه إذا أراد بدعوته الملك فهم على أتم استعداد أن يتوجوه ملكاً عليهم، ولكنه يعلم أن الملك لا يصلح قلوب الناس ولا ينقذ البشرية مما وصلت إليه من تدهور في العقيدة والسلوك والأخلاق، وإنما الملك ثمرة من ثمار الإيمان والأعمال الصالحة كما قال تعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} ] النور/ 55 [.
ولذلك بقي في دعوته سائراً على منهجه غير مبال بمعاداة ومخالفة الناس جميعاً له فيما يدعوهم إليه- إلا الذين آمنوا بدعوته وهم قلة.
والفئة القليلة المؤمنة، تغلب الفئة الكثيرة الضالة بإذن الله.
فهو صلى الله عليه وسلم يعلم أنه لو صار ملكاً عليهم، وهم لا يؤمنون بمبادئه، وشريعته التي يريد تطبيقها وتنفيذها عليهم يعلم يقيناً أن ليس في استطاعته ولا في مقدوره تَنْفيذَ هذا المنهج فيهم.
ولكن حينما صلحت تلك القلوب فآمنت بالله ثم بكل ما جاء عنه في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قامت الدولة في المجتمع المدني الذي نزل فيه قوله تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} ] الأحزاب/ 36 [.
فكما نعلم جميعاً، أن عقوبة الزاني المحصن الرجم بالحجارة حتى الموت، فما الذي دعى المرأة الغامدية أن تقدم نفسها لإِقامة تلك العقوبة عليها، وما الذي دفع ماعزاً أن يقدم نفسه لتلك العقوبة أيضاً.
والجواب - أنه صلاح القلوب التي أصبحت فارغة من كل شيء إلا الإيمان بالله وبما جاء في كتابه وعلى لسان رسوله، الإِيمان الجازم باليوم الآخر وما يجرى فيه، وأنَّ منْ لم يعاقب على جريمته في الدنيا، فلن ينجو من ذلك يوم القيامة، يوم الأجزاء على الأعمال إن لم يعفو الله عنه، وبذلك الإيمان الصادق والعمل الصالح تحققت الخلافة في الأرض التي هي ثمرة من ثماره، وذلك ليُعَبَدَ الله وحدهُ ولا يشرك به شيئاً {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} وبقيام تلك الخلافة تحافظ الدولة على حماية هذا المبدأ العظيم الذي خلق الله الجن والإِنس من أجله {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} ] الذاريات: 56 [. ولا تتحقق تلك المحافظة إِلا بالقيام بكل ما من شأنه عز الإسلام وأهله وهو ما نصت عليه الشريعة الإِسلامية وحث عليه دستورها القرآن الكريم، الذي لم يفرط في الله فيه من شيء، وهو القائل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} ] الأنفال: 60 [.
وقد قامت الدولة الإِسلامية من عهدها الأول بذلك، ومكن الله لها في الأرض، وبحفظها لدين الله وإقامة شريعته في الأرض بقيت لها العزة والكرامة.
وحين ابتعد الناس عن هذا المنهج الذي رسمه لهم رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وابتعد الناس عن دينهم فتركوا كتاب ربهم وسنة نبيهم بعوامل كثيرة، نشأ عنها تفرق الأمة في عقائدها وسلوكها ومناهج حياتها بما يزينه لها أعداؤها، فتشتت المسلمون وتفرقت كلمتهم، وذلك بسبب تركهم لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهى قوله:"تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنتي".
ومعناه أن من ترك التمسك بهما فسيضل، وهذا هو الواقع المشاهد. ومعلوم أن التمسك بهما هو العمل بما جاء فيهما أمراً ونهياً في جميع مجالات الحياة، بدأ بالعقيدة وإخلاص العبادة لله وحده، وانتهاء بعمل ما يمكِّن المسلمين من أداء هذه العبادة لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وقد قال الإِمام مالك رحمه الله:"لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها".
والمهتمون بأحوال المسلمين والذين يسعون لإصلاح المجتمعات ليستعيد الإسلام مجده، وتستعيد الأمة الإسلامية كرامتها وقوتَها وسيرتَها الأولى، هؤلاء يسلكون لتَحقيق هذه الغاية مناهج مختلفة.
والناظر في دعوات زعماء الإصلاح الذين سبقونا وهم كثيرون، أقول إن المتتبع لدعوات أولئك لا يجد دعوة نجحت وحققت ثمارها المرجوة منها إِلا الدعوة التي سلكت وترسمت المنهج الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو البدء بإصلاح القلوب أولاًَ.
وأعنى بالمنهج الذي نجح في ذلك هو منهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي لازال المجتمع الإسلامي يجنى من ثمار دعوته المباركة، رغم ما كثفه أعداء الدعوة هذه ضدها من دعايات باطلة، سواء على المستوى السياسي الذي يتذرع به أصحابه لصد العامة عن سماع هذه الدعوة. أو على يد رؤساء الطرق الصوفية الضالة المضلة، وذلك بما يبثونه في أتباعهم من أن أتباع هذه الدعوة ودعاتها يكرهون رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأولياء وينكرون كراماتهم، وذلك ليحافظ هؤلاء على خدمة العامة وخُضُوعهم لهم لأخذ ما يحتاجونه من أموالهم بالدجل والشعوذة.
وسوف أذكر أمثلة من كتبهم حينما أذكر لكم ثاني رجلين من رجال الدعوة السلفية تعرف عليهما أعضاء الدورة، وقد كان كل واحد منهما صاحب طريقة.
وقد قرأ الإخوة ما كتبه أحدهما عن مخازي طريقته التي أنقذه الله منها، تلك الطريقة التي بلغ فيها الكاتب أعلى رتبة، وهى رتبة الخليفة الذي له الإذن المطلق من أحمد التيجاني في إعطاء الطريقة والتنصيب والإذن لمن يراه أهلاً لذلك- وان شئت فقل: في إضلال الناس عن الصراط السوي وإدخالهم في مذهب الحلول والإتحاد المعبر عنه عندهم بالفناء أحياناً- كما ذكر هو ذلك في أحد كتبه في الرد على الطريقة التيجانية.
أعود فأقول: إن الجامعة الإسلامية أسست في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، للعودة بالناس إلى هذا المنهج الصحيح، وقد جَاء في أهدافها إيصال هذا الخير إلى العالم الإسلامي بالوسائل التي تحقق هذا الهدف، وأولها التعليم، فهي تقدم:
1 -
منحاً دراسية لأبناء العالم الإسلامي حسب حاجات تلك البلاد وعدد سكانها.
2 -
ترسل بعثات للوعظ والإرشاد.
3 -
تبعث الكتب الدينية النافعة للمؤسسات والمدارس والأفراد.
أما المنح الدراسية: فقد لَبَّى أبناء العالم الإسلامي قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون} ] التوبة: 122 [. ودليل ذلك وجود أكثر من مائة جنسية من أبناء العالم الإسلامي في مختلف مراحل التعليم في الجامعة.
وبوصول هؤلاء الطلاب الجامعة الإِسلامية يصبحون أمانة في عنق المسئولين فيها فعليهم أن يرعوا هؤلاء الطلاب وأن يعلموهم ما ينفعهُم في دينهم ودنياهم، على الأسس التي رسمتها الجامعة في سياستها وأهدافها. وهى الرجوع بالأمة إلى الكتاب والسنة.
وقد آتت الجامعة ثمارها في هذا الحقل فخرّجَتْ عدداً كبيراً من أبناء العالم الإسلامي، وعادوا إلى بلادهم رُسُلَ خير يبلغون قومهم هذا الخير الذي حصلوا عليه في جميع أنحاء العالم، وقد شهِدَ لهم بذلك الذين زاروا تلك البلاد ورأوا أعمالهم وما يقومون به من توجيه وإرشاد، ولا عبرة بالشاذ منهم عن هذا المنهج فتلك سنة الله في خلقه.
وقد قال لي رئيس جماعة عباد الرحمن- في كانو- سليمان بللو- مقارناً بين الطلاب الذين يرجعون إليهم من البلاد العربية بعد إكمال دراستهم، وبين الطلاب الذين يعودون من الجامعة الإِسلامية.
قال:"إن الطالب الذي يعود من الجامعة الإسلامية يمكث سنوات وأنت تشم فيه رائحة المدينة". فقلت له:"ما معنى هذا الكلام". فقال:"إن سلوكه وأخلاقه ودعوته تختلف كثيراً عن الذين عادوا إلينا من البلاد العربية الأخرى ".
أقول هذا لأن هدف الجامعة الإسلامية الأول في نشر الدعوة هو التعليم وقد نجحت في هذا نجاحاً ملموساً على يد خريجيها حتى الذين كانوا في أيام دراستهم لا يلقى لهم بال ولا يعرف عنهم نشاط، فقد حدث عندهم ردُّ فعل لما يشاهدونه من انحراف عن المنهج السوي.
- كما أن الجامعة حققت نجاحاً بالوسائل الأخرى التي أشرت إليها، وهي إرسال الوفود للوعظ والإِرشاد، وبعثُ الكتب للمؤسسات والمدارس والأفراد.
- ولكن في نظري ويشاركني في هذا كل الذين اشتركوا معي في الدورة.
إن من أنجح الوسائل لهدف الجامعة بعد تعليم الطلاب في داخلها، هو المشاركة في إقامة هذه الدورات التعليمية، وذلك لما يأتي:
1-
الدورات التي شاركت فيها أنا وزملائي والذين سوف أذكر أسماءهم هي دورات تعليمية تقوم بتنفيذ منهج في مواد معينة لها مذكرات بأيد الطلاب، ويوضع جَدْوَلُ حصصٍ لكل مدرس ليقوم بتدريس مادته كما لو كان في المعهد.
2-
المتدربون- هم معلمون في مراحل التعليم المختلفة- الثانوي، والإعدادي، والابتدائي، فهم ينقلون ما تعلموه إلى طلابهم في مدارسهم، والذين ينقلون ما يسمعون من أساتذتهم إلى أهليهم وذويهم.
3-
المنهج المقرر يشمل مادة العقيدة، وهذا هدف الجامعة الأول.
والعقيدة الصحيحة المأخوذة من الكتاب والسنة هي أساس كل انطلاق.
ثم مادة التفسير، والحديث، والفقه، والنحو، والنصوص، والتربية، وطرق تدريس المواد الدينية، وطرق تدريس اللغة العربية، ومواد أخرى مساعدة.
- وكما تعلمون جميعاً أن المواد المقررة لا تكفي في حد ذاتها. وإنما الأمر يرجع إلى مدرس المادة وعقيدته ومنهجه وما يريد أن يبلغه إلى الآخرين.
وزملائي في هذه الدورات التي اشتركت فيها لا أعتقد أن منهجهم يختلف عن هذا المنهج لأنه المنهج الحق الذي يؤمنون به ويدينون الله به قبل كل شيء وهو منهج الجامعة الذي رسمته في أهدافها ونظامها الأساسي، وهو نشر العقيدة السليمة الصحيحة المأخوذة من الكتاب والسنة، والتي سبقنا إلى تطبيقها سلف الأمة.
وقد كان جميع أعضاء الدورة من المدرسين السعوديين إلا في المواد التي لا تخصص لهم فيها، فقد أخذنا من هيئة التدريس بالجامعة.
ومن هؤلاء المشتركين في الدورات جميعاً:
عميد شئون الطلاب الشيخ عوض أحمد سلطان، والدكتور ذيب القحطاني، والشيخ عبد العزيز الصاعدي، والشيخ صالح السحيمي، والشيخ محمد زربان الغامدى، والشيخ سليم الأحمدي، والشيخ راشد الرحيلي والشيخ جبران والشيخ إبراهيم عمير.
وأعتقد أن هؤلاء جميعاً يؤمنون بأن منهج الجامعة الإِسلامية في إبلاغ دعوتها في داخل الجامعة وخارجها هو المنهج الصحيح، وهو دعوة الناس جميعاً إلى الكتاب والسنة، والبدأ أولاً وقبل كل شيء بالعقيدة الصحيحة، وأنهم جميعاً يرفضون ما يسمى بمنهج التجميع، يرفضونه بأسلوبهم في دعوتهم، ولا يلتفتون إلى أي أسلوب آخر يفرض عليهم، يقومون بذلك دون ضجيج أو شعارات ترفع، لأن الغرض هو إبلاغ الحق الذي يؤمنون به إلى الآخرين الذين هم في حاجة إليه، دون نصب رايات لا يعمل أصحابُها غير رَفعها.
أما عمل هؤلاء داخل الجامعة فيتمثل في القيام بالتدريس وتوجيه الطلاب إلى المنهج الصحيح في العقيدة والسلوك، يوجد أثر ذلك عند طلابهم الذين تلقوا التدريس على أيديهم في مختلف مراحل التعليم في الجامعة، ثم في كتابة من له مشاركة في الكتابة. وأما عملهم لتحقيق هدف الجامعة خارجها فإني مضطر هنا إلى ذكر أمثلة لما حققته هذه الدورات على أيد هؤلاء الإخوة وزملائهم الذين لم يرفعوا لائحات بأعمالهم أمام الآخرين، ولم يتحدثوا بما قدموا إلا لمن سألهم عما وجدوا، وماذا عملوا، وهم لا يحبون ذلك لأنهم لا يريدون من أحد من الناس جزاءً ولا شكوراً.
ولكني أستميحهم عذراً في ذكر ذلك إجابة على أسئلة تكررت كثيراً وذلك لبيان الحقيقة للذين لا يعلمون. (ولذا فإن العنوان الكامل لهذا الحديث هو: (حديث عن الدورات التدريبية وأثرها على المجتمع الذي أقيمت فيه وتحقيقها لأهداف الجامعة الإِسلامية لو كانوا يعلمون) .
فأقول: إن الدورة الأولى عام 1400 هـ وأعنى بها دورة نيجيريا- التي اشتركت فيها- لا الدورات في بنجلادش وباكستان التي شارك فيها زميلي في الدراسة من المرحلة الإِعدادية إلى أخذ شهادة الدكتوراه الشيخ ربيع بن هادى المدخلي.
أقول: فقد كان من المشاركين معي في هذه الدورة كما أشرت سابقاً عميد شئون الطلاب الشيخ عوض أحمد سلطان، والدكتور ذيب القحطاني وغيرهما، وقد التحق بهذه الدورة ثلاثمائة معلم، والذين دخلوا الإمتحان ومنحوا شهادة الدورة أكثر من مائتين وثلاثين معلماً.
أما الأعمال التي قام بها الأساتذة في تلك السنة إضافة إلى التدريس فما يأتي:
1-
القيام بخطب الجمعة في الجامع الذي يحضر للصلاة فيه أكثر من أربعة آلاف، إذ يصلون خارج المسجد تحت الأشجار وفي الشمس، حرصاً منهم على سماع الداعية المعروف عندهم أمين الدين أبو بكر، إمَّا لِسَمَاع خطبه أو لترجمته للخطب التي تلقى يوم الجمعة والإخوة هناك ومنهم القاضي نائبي وإلى يلقبونه بالمترجم المشهور.
وهو رئيس جماعة الدعوة والذي عرف العقيدة السلفية. وقرأ كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وترجم مسائل الجاهلية على أشرطة (باللغة الهوا) يتداولها الشباب وتباع في السوق، كما قرأ ما وجده من كتب شيخ الإسلام ابن تيميه، أما شيخه في الحديث كما قال- فناصر الدين الألباني ولم يره-، ثم نبذه للطرق الصوفية بواسطة الشيخ أبى بكر قومي عضو المجلس الأعلى للجامعة وعضو رابطة العالم الإسلامي، وهو الرجل المعروف بمحاربة أصحاب الطرق والخرافات ولازال في محاربتهم إلى الآن.
2-
المشاركة في المحاضرات والندوات التي تقيمها المؤسسة الإِسلامية في قاعة مدرسة العلوم العربية طوال شهر رمضان، وتنقل في الإِذاعة يومياًَ.
3-
إقامة ندوات ومسابقات للطلاب اشترك فيها الدكتور عبد العزيز فاخر، والشيخ عوض أحمد سلطان الشهري، وغيرهما من الأساتذة.
ومما حدث في هذه الدورة أن طالباً صاحب طريقة أرسل للإشتراك في الدورة من أجل إثارة الأسئلة لينقل ما يقال إلى شيخه، وقد جرى النقاش في الفصل حول التوسل فذكر المدرس التوسل المشروع- واستشهد بقول عمر بن الخطاب للعباس في صلاة الإستغاثة-"قم يا عباس فادعوا الله لنا
…
"الخ. فقال الطالب: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم"فقال له المدرس: لو رجعت لهذا الحديث لوجدته موضوعاً. فقال: هذه طريقتكم، الحديث الذي يصلح لكم تستشهدون به، والذي لايصلح تقولون عنه موضوع.
ثم ذهب إلى شيخه وقال له ما يشاء- فأرسل الشيخ سكرتيره للإذاعة وسمحوا له فألقى حديثاً قال فيه: إن جماعة من الوهابيين جاءوا لتفريق كلمة المسلمين ولكن بحمد الله فقد كان هذا الحديث منه سبباً من أسباب نجاح الدورة وظهورها، وبيان الحق الذي جاء به المشتركون فيها.
كما تعرف الإخوة في هذه الدورة على الداعية المشار إليه أمين الدين أبو بكر وجرت معه مناقشات حول أسلوب الدعوة، وما الطريق الصحيح الذي ينبغي أن يسلكه الداعية.
وقد وجدنا عنده أكواماً من الكتب تتحدث عن الإسلام عموماً وتدعوا لنصرته، وهي تهتم بما يسمى بالتنظيم والتخطيط والتنفيذ، حتى صار هذا الأسلوب يجري على ألسنة بعض الشباب وهو لا يدري ماذا ينفذ. وكل هذه الكتب تدعو إلى تجميع الناس لا فرق في الدعوة فيها بين من يهتم بالأساس وهو العقيدة الصحيحة وغيره، فكل صاحب طريقة أو تربية والتربية ألطف في التسمية سواءً كان قادرياً أو تيجانياً يمكنهم الدخول في هذه الدعوة إذا تحقق شرط واحد وهو الولاء العام لها.
ومن المصادفة أن الشيخ أمين الدين كان قادرياً، أي يتبع الطريقة المنسوبة لعبد القادر الجيلاني، فهو يعرف أسرارها وما تهدف إليه في دعوتها ولها صولة وجولة وأتباع كثيرون.
وقد حارب هذه الطريقة التي يعرف ضلالها وفسادها ومخالفتها للشريعة الإِسلامية.
فلما كثرت عنده هذه الكتب التي تدعوا للتجميع، وقد دعم ما تدعوا إليه هذه الكتب، الشخص الذي يحملها إليه، ويحمل كل جديد منها باستمرار، ولا يتأخر عن نيجيريا فهو دائم الأسفار إليها ففي كل ثلاثة أشهر تقريباً يزورها- وقد سألته عن مهمته- فقال: إنه يريد تأسيس مطبعة ودار للنشر- ولكن مضى ثلاث سنوات ولم يوجد أثر لذلك. وقد حاول هذا الرجل إقناع أمين الدين بمهادنة أصحاب الطرق بحجة الحكمة في الدعوة وجمع كلمة المسلمين، ولكن أمين الدين بحمد الله قد أقنعه الإخوة بالدعوة الصحيحة، وهي تُؤدَّى بالحكمة والموعظة الحسنة، لأن بيان الحق لابد منه، وإلا فما معنى الدعوة إذا لم يبيّن الحقُّ من الباطل.
وفي الدورة الثانية وبعد زيارته لنا أعني أمين الدين، ذهبت لزيارته في مسجده فوجدت عنده كتاباً جديداً بكمية لا بأس بها، ولكنه لم يعرف ما فيه إذ لم يقرأه، والكتاب اسمه (تربيتنا الروحية) وقد ذكرت ما فيه من خرافات في مقدمة تحقيقي لكتاب (الرد على الجهمية لابن مندة) وهو مطبوع الطبعة الثانية.
ولقد حملت منه نسخاً هدية له ولطلابه ولبعض الأساتذة الذين تعرفت عليهم.
فتناولت كتاب التربية، وفتحت على ص 216، 217 لأنظر هل تنطبق على الطبعة التي نقلت منها قول المؤلف:"إن الكرامة تحدث للمنتسب للطريقة الرفاعية وإن كان فاسقاً
…
"الخ. فوجدتها كذلك لأنها مصورة.
فأعطيتها لأمين الدين فلما قرأها. وضع يده على رأسه وقال: أنا أعْرفُ بِكذِب الصوفية وخرافاتهم ودجلهم وقد وصلت في الطريقة القادرية إلى رتبة ممتازة عندهم، وقد أنقذني الله منها وقد كنت أضرب الطبل في المسجد للذكر- وهذا من طقوسهم- قال: فأنا إذاً أعود لها مرة أخرى.
وقد كانت مناقشة الإخوان له في منهج الدعوة الصحيحة نبراساً له اهتدى به إلى منهج السلف في دعوته، والمذكور داعية له تأثيره في المجتمع يشغل جميع أوقاته في التعليم والدعوة، وعنده بعض الطلبة يعولهم لفقرهم، وبعضهم من الوثنيين أسلم على يديه فقلاه أهله، وليس عنده من الدخل إِلا راتبه وهو يعمل مدرساً وله أسرة.
ومما يجدر ذكره أن الرجل الذي كان يدعو أمين الدين إلى مهادنة أصحاب الطرق اتصل بجماعة الشيخ أبى بكر قومي، وهم جماعة نصر الإسلام، فدعاهم إلى مهادنة الطرق الصوفية، وقال إن كتاب الشيخ عبد الرحمن الإفريقي في الصوفية لا يصلح توزيعه لأنه يفرق كلمة المسلمين، فاصطدم بهم وأخذه البوليس إلى السجن وبقي فيه حتى جاء رئيس المؤسسة الإِسلامية من (كانو) إلى (كادونا) فأخرجه بكفالته.
أما في هذه السنة فقد كان أعضاء الدورة مع الطلبة المشتركين في الدورة وغيرهم يجرون مناقشات حول الطرق وهى مناقشة علمية سلكناها من أول يوم فيطالبونهم بالأدلة من الكتاب والسنة على ما يقولون ويدّعون فهي الحكمُ فيما اختلف فيه.
وقد أرسل مشائخ الطرق طلاباً من أتباعهم للإشتراك في الدورة، لإِثارة الأسئلة ونقل ما يجري في الدورة.
ولكن باستعمال الإخوة الحكمة في الدعوة ظهر الحق واندحر الباطل.
ومن أمثلة ذلك:
إن طالباً قادرياً في المستوى الجامعي قال في الفصل بعد مناقشات حول الطرق- إن الأئمة الأربعة أجمعوا على تكفير ابن تيمية.
فقال له المدرس: هل وجدت هذا في كتاب؟ قال: نعم. قال من كتب الأئمة الأربعة فيظهر أنه تملص من الإجابة.
فقال المدرس للطلبة وهم في المستوى الجامعي هل تعرفون متى وجد الأئمة الأربعة وهم يعرفون ذلك، ثم بين لهم أنهم وجدوا في القرن الثاني والثالث، وابن تيمية وجد في القرن السابع فكيف حكموا بكفره قبل أن يولد، وبذلك أصبح الطلبة يخاصمون الطالب ويسكتونه إذا سأل، كما حدثت له مناقشة مع الشيخ صالح السحيمي في شرح البيت:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به.. الخ.
وفي هذه الدورة كان للأساتذة دور مع أتباع الخميني، ذلك أن الشعب النيجيري شعب مسلم يحب الإِسلام، ولكن الذي ينقص الشباب هناك هو العلم بحقيقة الإِسلام، وما تنطوي عليه دعوات الفرق المنتسبة للإِسلام.
فحين سمعوا ما يسمى بالثورة الإسلامية، وقد كثف أصحاب هذه الدعوة دعايتهم في نيجيريا بإرسال الوفود والنشرات باللغة الإنجليزية والعربية انخدع هؤلاء الشباب بهذه الدعوة.
وقد اشترك بعض هؤلاء الطلاب الذين تركوا مدارسهم في الدورة في العام الماضي وجرت معهم مناقشات طويلة. وفي آخر شهر رمضان تركوا الدراسة واعتكفوا في المسجد فقلنا لهم إِن الاعتكافَ سنة وطلبَ العلم فريضة فلم يقبلوا.
فطلبنا من الشيخ محمد زربان وهو الرجل المعروف بأسلوبه في الدعوة أن يذهب ليلقي دروساً في المسجد، وكان هدفنا هو ملاحقة هؤلاء الشباب المغرر بهم عسى الله أن يهديهم، وقد استمر معهم يناقشهم ويجيب على شبههم ويوجههم ولكنه في آخر الأمر قال: إنني أصب في قربة مخروقة أملأها في الليل فتصبح فارغة.
وذلك أنه بعد مناقشتهم وإقناعهم في المساء مثلا يصبحون يعيدون المسألة بعينها.
ورغم ما ظهر على بعضهم من تأثر عند سفرنا فقد مكث أحدهم أو رئيسهم عند الشيخ محمد زربان ليلة سفرنا إلى وقت متأخر من الليل ثم بكى متأثراً بما يسمع ومع هذا كله لما عدنا هذا العام. وجدنا شوكتهم قويت وشعارات الشيعة ظاهرة عليهم كلبس العمائم بل قال لي الشيخ أمين الدين إنهم في داخل البلد وفي الذهاب للمسجد يلبسون العمائم السود، ثم لهم مكتبة باسم مكتبة الأمة تأتيها الصحف والمجلات والنشرات من إيران يوزعونها مجاناً ومعها صور الخميني وهي معلقة على باب المكتبة.
وفي أول خطبة جمعة خطبها الشيخ محمد زربان في الجامع، وترجمها الشيخ أمين الدين أبو بكر- وقد تعرض المترجم لدعوة الخميني وبين للناس أنها ضلال مبين إذ أن عقائدهم تقوم على تكفير الصحابة وعلى رأسهم أبى بكر وعمر، وهو الرجل الوحيد فيما أعلم يبين للناس عَلَناً أن ثورة الخميني ليست إسلامية، ولا تمت إلى الإسلام بصلة وإنما هي دعوة باطنية.
وبعد صلاة الجمعة وحين خرجنا من المسجد تقدم طالب من طلاب الشيخ محمد زربان من الذين كان يناقشهم العام الماضي بمجلة حرس الثورة يوزعها علينا، ثم اتبعوها بنشرات أخرى مطبوعة باللغة العربية والإنجليزية فيها أقوال الخميني.
وبعد أن عرفوا أننا قرأناها طلبوا منا موعداً فلبينا طلبهم فحضروا بعد صلاة العشاء في السكن فاجتمعنا في المكان المعد للصلاة، وجرت المناقشة مع رئيسهم وهو آيتهم واسمه بشير- الذي لم يجاوز عمره العشرين سنة وهو طالب ذكي أضله أولئك الدعاة.
فقد دعاه الخميني بواسطة عملائه إلى زيارة إيران فزاره هو وبعض زملائه وقابلوا الخميني ورجع معمداً لإنقاذ المستضعفين.
وقد جرت المناقشة معه لعقيدة الرافضة ودعوتهم، وما الإِسلام الذي يدعون إليه، وهم يعتقدون كفر الصحابة الذين نقلوا لنا القرآن والسنة
…
الخ.
فكان الرجل أعمى لا علم عنده، وقد قطع هؤلاء الصلة بينهم وبين علمائهم فحين قلنا لهم العام الماضي ما دمتم تركتم دراساتكم في الجامعة، فاتصلوا بالشيخ أبى بكر قومي، والدكتور حسن غاورزوا، رئيس القضاة، وأمين الدين أبو بكر لتتفقهوا في الدين على أيديهم قالوا: إن هؤلاء موظفون مع الحكومة فلا يوثق بعلمهم. لذلك تمكنت الدعاية المكثفة مع وجود العاطفة الإسلامية عندهم من إضلالهم، فمثلاً يقولون رداً على تكفيرهم للصحابة ومنهم أبو بكر وعمر، إن هذا القول تركه المتأخرون وإنما هي عقائد قديمة.
فقيل لهم: إن هذا القول موجود في كتاب الخميني- الحكومة الإسلامية- فقال بشير: هذا الكتاب طبعته رابطة العالم الإِسلامي ضد الخميني، فقلنا له: أنت زرت إيران ولاشك أنك أخذت من الخميني الذي قابلته النسخة الأصلية فاطلعنا عليها فرفض. فقال له الشيخ صالح السحيمى: ما رأيك لو قلت: إن لأئمتنا درجة لا يبلغها ملك مقرب ولا نبي مرسل، فقال: أنت كافر.
فقال له: ولو قال هذا القول الخميني ما رأيك فيه، فقال: أمره إلى الله. فقلنا له اتق الله ما الفرق بين الاثنين.
فقال بحماس: أنا لا أكفر الخميني لأنه يجاهد في سبيل الله.
والله يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} . فهو سيهتدي. هكذا بلغ حال هؤلاء، وليست هناك مقاومة لهذا الضلال تذكر ما عدا ما يقوم به الشيخ أمين الدين أبو بكر، حتى الكتب الصغيرة مثل الخطوط العريضة وكتب إحسان إلهي ظهير لا توجد في هذه البلاد.
أما الطلبة الذين اشتركوا في الدورة فقد كان بعضهم متأثراً بدعوة الخميني- أو بفتنته- لأنها تلمس عواطفهم ومشاعرهم الدينية بألفاظها ولا يعرفون حقيقتها.
وقد ركز الإخوة جميعاً على إزالة هذه الشبه من أذهانهم، باستثارة عواطفهم الدينية أيضاً، وهو طلب الحكم منهم على من يكفر الصحابة ومن يقول أن أبا بكر وعمر صنمي قريش، فيصدر الحكم منهم على قائل ذلك. فيبين لهم أن هذه عقيدة الشيعة الرافضة الإمامية في القديم، وهى الموجودة الآن في كتبهم التي تنشر وتوزع.
وقد فضح الله باطل الشيعة وإن كانوا يستعملون التقية ديناً وهى النفاق بعينه- وذلك بما قاموا به من نشْرٍِ لِكتاب الكافي في أجزاء صغيرة مبسطة للقراءة- أعلى الصفحة باللغة العربية وفي أسفلها الترجمة باللغة الإنجليزية، وفيه الطعن على أبي بكر وعمر ومعاوية وغيرهم من الصحابة.
وقد ركز في الكلمة التي ألقيت في حفل اختتام الدورة والتي حضرها وزير الإسكان ورئيس القضاة على حثهم على الاهتمام بالشباب المسلم والعناية بالعقيدة الصحيحة التي أخبر الرسول بأن الأمة ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إِلا واحدة. ولما سئل عنها قال: هي من كان مثل ما أنا عليه وأصحابي. فالذي يكفر الصحابة ويقول في أبي بكر وعمر أنهما صنمي قريش كيف يكون داعية للإِسلام.
فوعد رئيس القضاة بأنهم سيعملون بهذه النصيحة.
أما الآن فإلى الحديث عن ثاني رجلين من رجال الدعوة إلى العقيدة الصوفية.
الذي تعرف عليه أعضاء الدورة وتناقشوا معه وقرأوا كتبه وأعجبوا بعمله وبأفكاره.
ذلك الرجل هو الشيخ محمد طاهر ميغري البرناوي المحاضر في جامعة بايرو- في كانو- وألدّ أعداء الطريقة التيجانية التي بلغ فيها درجة يتمناها كل تيجاني كما قال ذلك في مقدمة كتابه (الطريقة التيجانية دين جديد هدام لعقيدة الإِسلام وشريعته) .
أريد أن أقول قبل أن أذكر شيئاً عن كتبه: إن أعضاء الدورة وأعني بهم السعوديين خاصة- بقدر ما قدموا لطلابهم في بيان العقيدة الصحيحة فقد أخذوا معلومات جيدة في معرفة أسرار الطرق الصوفية الخبيثة التي أضلت شباب العالم الإسلامي في كل مكان، وذلك بما قرأوه في كتب الشيخ محمد طاهر ميغري، وبما سمعوا من تحليل لأقوال ابن عربي وابن الفارض وغيرهما.
وقد كان البعض منا يظن أن الطرق الصوفية عبارة عن أوراد يعملون فيها خلافاً لما عمله السلف الصالح في الذكر بما يحدثونه من حلقات وذكر جماعي.. الخ.
ولكن تبين لنا بعد قراءة تلك الكتب أنها - أي -الطرق الصوفية كفر وإلحاد وزندقة، بيّن ذلك وأرجعه إلى مصادره وأصوله القديمة قبل الإِسلام، كما بين الغاية من أن الدعوة إليها، هي محاربة لكتاب الله وسنة رسوله بصرف الناس عن القرآن بالأوراد، وصلاة الفاتح التي ادعى التيجاني أن الملك نَزَلَ بها على البكري مكتوبة في صحيفة من نور وأنها تعدل القرآن ستة آلاف مرة بل أضعاف ذلك. لأنهم يقولون لأتباعهم: إن القرآن ثقيل- كما قال تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} فهو لثقله يخرب الديار ويزلزل البيوت- فيكتفي بالأوراد التي أجْرُهَا أضعاف أجر القرآن ستة آلاف مرة أو أكثر وهي سليمة العواقب.
أما كتبه التي ألفها ولا تزال مخطوطة فهي:
الأول: الطريقة التيجانية دين جديد هدام لعقيدة الإسلام وشريعته.
الثاني: إبطال ادعاء رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة.
الثالث: التيجانية آخر مظهر للباطنية القرمطية الإِسماعيلية.
الرابع: كتاب في المهدي.
والكتب الثلاثة الأولى هي في الأصل كتاب واحد بعنوان (التعليمات المفيدة) وسبب تأليفه أنه ألقى محاضرة في جامعة بايرو بعنوان التربية عند الشيخ إبراهيم إنياس السنغالي. تعرض فيها لبيان ضلاله وإلحاده، وقد أخذ رسالته الماجستير بعنوان (إبراهيم إنياس آراؤه وأصول أفكاره مع تحقيق كتابه السر الأكبر) وكلاهما مطبوع في مجلد واحد.
فكتب أحد أتباع الطريقة التيجانية وهو موريتاني، رسالة في الرد عليه بعنوان (إنذار وإفادة لمن باع دينه بشهادة) أي بشهادة الماجستير فكتب محمد طاهر ميغري هذه الكتب الثلاثة.
أما الكتاب الأول- وهو الطريقة التيجانية دين جديد.
والثاني- وهو إبطال ادعاء رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة.
فقد قرأها الأساتذة من أولها إلى آخرها قراءة متأنية مع المناقشة الحادة بعض الأحيان، لأن المؤلفَ شديدُ اللهجة في الرد على المخالف وقد يستنبط بعض الأحيان من أقوالهم ما يراه بعضنا إلزام لهم بما لم يحمله قولهم- وهو مشترك معنا في التدريس في الدورة فيحضر عندنا في السكن فتجرى معه مناقشة ممتعة ومفيدة. وقد دلت على علم الرجل وفهمه، واعتداده بما يقتنع به. كما أن من مميزاته قبول الحق إذا تبين له. وعدم العناد فيه.
وهو لا يقبل المجاملة والاحتمالات التي يُفَسّرُ بها بعض أخطاء العلماء في العقيدة.
وله منهج خاص في ذلك، وهو تتبع العالم في مسار فكره في كتبه فإن كان يسير في أغلب كتبه إلى تأييد هذه الفكرة بشتى الوسائل والاحتمالات والتفسيرات، ثم لا ينقل أقوال المخالفين له كاملة، وإنما يقتصر على ما يحتاجه منها، ثم يروى أحاديث موضوعة وهو يعلم ذلك ولا يبين أنها موضوعة.. وهكذا، فمثل هذا لا يقبل الاعتذار عنه لأن تلك عقيدته.
وان أخطأ مرة أو مرتين فهذا كغيره من العلماء يخطئون ويصيبون. وليسوا بمعصومين.
وأهم ما يمتاز به المذكور في دراسته وبحوثه استيعابه لأقوال الخصم وأدلته وحرصُه الشديد على النقل للأمور المنسوبة لذلك الشخص بأمانة لا زيادة ولا نقصاناً.
ثم سرد للتسلسل التاريخي لبدء الفكرة، وتطورِها في جميع مراحلها، وبعد ذلك يبدأ في المناقشة، فيبطل ما قاله أولئك بعد مناقشة أدلتهم مناقشة علمية وإبطالها بالعقل والنقل، ثم يورد أدلته على ما يريد إثباته من الكتاب والسنة، وأقوال الأئمة، المعتبرةُ أقوالُهم كالأئمة الأربعة وابن تيمية وابن القيم، وابن العربي وابن حجر وغيرهم.
ولا يورد أحكامه على الآخرين جزافاً، وهو بعيد كل البعد عن الحكم بالعواطف.
هذا بالنسبة لكتبه المخطوطة، والتي أحضرنا بعضها لأنه يرغب نشرها في المجتمع النيجيري الذي أفسده أصحاب الطرق المضلة، وهو فقير لا يستطيع طبعها.
وهي كتب تخدم الدعوة، فهو جدير بأن يشد من أزره ويشجع وينشر الصالح من كتبه.
أما كتبه المطبوعة فمنها كتابه (إبراهيم إنياس السنغالي آراؤه وأفكاره مع تحقيق كتابه السر الأكبر) . وهو رسالة ماجستير تَقَدّمَ بها في جامعة بايرو- بكانو-.
والرسالة كما هو واضح من عنوانها (دراسة لشخصية إبراهيم إنياس وتحقيق لكتابه السر الأكبر) وكلاهما مطبوع في مجلد واحد يشمل 520 صفحة.
وطبيعة البحث العلمي- لاسيما دراسة الشخصيات والمعاصرة منها على الخصوص، والمفتون بها مئات الآلاف بل الملايين من الناس- سواء قدَمَهُ صاحبُه رسالة في جامعة فهو يعلم أنه سوف يعرض نفسه للمناقشة في جميع أقواله. أو يقدمه للقراء فكذلك سيكون مستهدفاًَ للنقاد، فهو يحتاط قدر استطاعته، ولابد أن يبقى عنده نقص لكونه بشراً.
وقد ذكرت أن ما يميز بحوث الشيخ محمد طاهر ميغري هو الاستقصاء وإيراده لكل ما يستطيع أن يتوصل إليه من أقوال قيلت في المسألة.
وقد ناقشه أساتذة الدورة في هذا الاستطراد، وأقنعنا بضرورة ذلك في بعض المواطن.
فكذلك كان بحثه في دراسته لشخصية إبراهيم إنياس السنغالي.
فقد قام بدراسة ميدانية، فسافر إلى كولخ موطن أسرة إبراهيم إنياس وإلى موريتانيا حيث يوجد أتباع طريقته، ثم اتصل بكل من له به صلة حتى جمع عنه جميع المعلومات التي استطاع أن يجمعها عن حياته وسجل ذلك كما أخذه بأمانة الناقل.
ثم درس الطريقة التيجانية التي ينتسب إليها إبراهيم إنياس ويدعو لها وينشرها في نيجيريا بلد غير بلده.
فذكر تأريخ أحمد التيجاني، وبين سيرته السيئة، وما جرى له من الحاكم التركي الذي سجنه لأنه ثبت عليه تزييفه للنقود، ثم ضربه له وأخيراً تسفيره.
ثم ذكر حقد الشيخ التيجاني على الحاكم التركي المسلم وعلى الإسلام والمسلمين جميعاً، ودعوته على بلاد المسلمين بأن يستولى عليها الاستعمار.
ولما قيل له في ذلك قال: إن الله أوحى إليه بأنه ساخط على المسلمين وأنه لا يقبل دعاء أحد فيهم.
وقد ناقشه محمد طاهر ميغري في هذه الأقوال الزائفة وأثبت كذبَه فيها ثم نقل إجماع المسلمين على تكفير من ادعى نزول الوحي بعد النبي صلى الله عليه وسلم على أحد من خلقه مستدلاًَ بأدلة ختم النبوة- وبحديث الصحيحين- بأنه سيكون بعد الرسول دجالون كذابون قرابة ثلاثين كلهم يزعم أنه نبي.
ثم أثبت بعد ذلك تعاون التيجانى وجميع أصحاب الطرق مع المستعمرين، ووصيتهم لأتباعهم بالسمع والطاعة للمستعمرين.
وبعد ذلك انتقل إلى تبشير التيجانى بأنه ستكون فيضة في آخر الزمان على يد أحد أتباعه، يدخل الناس في الطريقة التيجانية أفواجاً، وأن من دخل فيها فهو من أهل الجنة سواءً عَبَد الله أولم يعبده، وسواءً ارتكابه المعاصي والذنوب من زنى وسرقة وغيرها، فان الله قد تكفل له بأن يقضى عن أتباعه من خزائن جوده وكرمه. وأن يدخلهم الجنة بغير حساب ولا عذاب.
هذا نموذج مما ذكره عن التيجاني وقد حكم بكفره لادعائه الوحي. ولادعائه دخول أتباعه الجنة بغير حساب وأن الله تكفل له بذلك.
وبعد ذلك انتقل إلى إبراهيم إنياس السنغالي فاستقصى سيرته من حين ولادته، ذاكراً الخرافات التي قرنت بولادته، ثم تتبع سيرته إلى أن أصبح صاحب طريقة، وأنه لما كان في السنغال أصحاب طرق ينافسونه، وهم أقوى منه، كان أكثر أتباعه في الدول المجاورة مثل موريتانيا وغيرها.
ثم بين اتصاله بنيجيريا لنشر طريقته فيها، وأنها كانت بسبب معرفة بينه وبين أمير (كانو) وقعت في الحج، ثم قدم إلى (كانو) بعد ذلك لنشر طريقته. ثم ادعى بعد أن قَبِلَ الناسُ منه طريقته، أنه هو صاحب الفيضة التي بشربها أحمد التيجاني، والتي قال عنها أنها ستكون في آخر الزمان على يد أحد أتباعه، فقرر لهم أنه صاحبها وأنه صاحب الدائرة الفضلية التي تقع خارج دوائر الشرع كلها، وأن كل من اتبعه يدخل الجنة بلا حساب وإن ارتكب المعاصي من زنا وفجور وقتل وسلب لأموال الناس فالله يقضي عن أتباعه كل ما ارتكبوه من خزائن فضله. وهذا سبب تسمية دائرته بالدائرة الفضلية.
قال: وإن الذين لا يؤمنون بطريقته ويعادونها كفار يخلدون في النار.
ثم نقل عنه قوله من قصيدة له:
في جنة الخلد بلا بهتان
ومن يحبني ومن يراني
وقوله في قصيدة أخرى يدعي فيها تصرفه في الكون قال:
إن قلت كُنْ يَكُنُ بلا تسويفي
قد خصّني بالعلم والتصريفي
ثم ناقش محمد طاهر ميغري هذه الكفريات مناقشة علمية وبين مصادمتها للنصوص الشرعية من الكتاب والسنة وأنها خروج على الشريعة الإسلامية، وأن من يقولها ويعتقدها فهو الكافر الذي يستحق العقاب من الله- لا عموم المسلمين الذين يَكْفُرُوْنَ بتعاليمِ طريقته الخارجة عن الشريعة الإِسلامية.
وقد عقد باباً في أول أبواب الكتاب بعنوان (إبراهيم إنياس من شيخ الطريقة إلى شيخ الإِسلام) .
فقد يظن المتعجل في الحكم أنه يمدحه وهو في الحقيقة يذمه. فقد أثبت في هذا المبحث أن إبراهيم إنياس يقول بالتقية ويعمل بها، كما أثبت في الأبواب الأخرى أن الصوفية هم باطنية إسماعيلية يقولون ويعتقدون عقائد الروافض.
قال: وباستعماله لعقيدة التقية فقد خدع الناس بمكره وخداعه، وقد منح ذكاءً وأسلوباً عجيباً في خداع العالم حتى استطاع أن يكون عضواً في رابطة العالم الإسلامي. قال: فهو يَظهَر للعالم الإسلامي بمَظهر شيخ الإسلام ثم يعود إلى قفصه في كولخ يُعَلّم الناس ضلاله وفساد عقيدته، إلى أن قال: فقد عاَش طول حياته تيجانياً ومات تيجانياً، وقد قال في باريس وهو في المستشفى، على فراش الموت:
بباريسَ هل هذا المحل محله
رأيت رسول الله جهراً ويقظة
ثم نقل إلى لندن فمات بها ونقل جثمانه إلى كولخ فدفن بها وقد أوصى بالطريقة لخلفه من بعده.
كما نقل في أول الكتاب من كتاب السر الأكبر المحقق مع الدراسة والذي سبقت الإِشارة إليه ما يأتي:
قال: إن كافراً فاسقاً اغتصب امرأة تيجانية فعاشرها طول حياته، هذه المعاشرة الفاسدة، فلما مات هذا الكافر دخل الجنة، وذلك بسبب معاشرته لهذه المرأة التيجانية مع العلم أن المرأة غير ملتزمة بأداء الأوراد التيجانية، ولكنها لم تتركها إنكاراً لها وإنما تركتها كسلاً وتهاوناًَ [1] .
ثم يناقش الشيخ محمد طاهر ميغري هذا الكلام الفاسد ويحكم على معتقده بالكفر.
هذه نماذج قليلة ذكرتها مما تضمنه هذا الكتاب من المخازي التي أثبتها فيه الشيخ محمد طاهر ميغري عن التيجانية وعقائدهم وكفرهم وعن إبراهيم إنياس نفسه المخصص بالدراسة، وذلك لأن للشيخ محمد طاهر عليّ وعلى زملائي في الدورة حق المسلم على المسلم وأخص بالذكر من المشايخ أكثر من غيره إمامنا في الصلاة الذي لم تفته صفحة واحدة من قراءة كتبه. (ومنها ما قرىء من هذا الكتاب إبراهيم إنياس، والذي قال عنه بعضهم: إن مقدمته تكفي في بيان أنه طعن للطريقة التيجانية ولأصحابها- وأقول إن الذي قاله هو الحق وقد سمعتم تكفيره للتيجاني ولإبراهيم إنياس بما جاء عنهما من عقائد فاسدة.
منها أن الملك نزل على التيجانى بالوحي. وادعاء إبراهيم إنياس أن أتباعه في دائرة وراء دوائر الشرع- وأن الله تكفل له بإدخال أتباعه الجنة بغير حساب ولو عملوا ما عملوا من المعاصي وأن الله يقضي عنهم من خزائن فضله، وأنه يرى رسول الله باستمرار حتى في باريس وأن الكافر الفاسق يدخل الجنة إذا عاشر امرأة تيجانية.. الخ) .
أقول إن من قرأ هذا الكتاب ليقف على رأي مؤلفه في التيجانية وفي إبراهيم إنياس فقط، فسيجد حكمه على التيجانى وإبراهيم إنياس بالكفر الصريح لا بالمدح، وبحمد الله الكتاب موجود.
ولم أتحدث عن محمد طاهر ميغري عن عاطفة، وإنما أتحدث عن حقائق وعن رجلٍ داعيةٍ يتبع مذهب السلف ويحارب الطرق الضالة المضلة، فيجب أن يشد أزره ويشجع بطبع الصالح من كتبه.
وأعتقد بعد ما سمعتم والكتاب موجود- أنه لا ينبغي أن يقال عنه إنه خبيث يدعو للتيجانية أو يمدح التيجانية، فهذا حكم جائر ظالم، وربما صدر هذا الكلام من صاحبه عن حسن نية وعدم قراءة للكتاب وإنما أكتفي ببعض الصفحات وكان الإنسان عجولاً، وهذا الذي أعتقده، لأن حق المسلم على المسلم أن لا يَظْلِمَهُ ولا يخذله.. الخ ما جاء في الحديث.
ولو كان مثلُ هذا القول صحيحاً لما كتب التيجانى الموريتاني تلك الرسالة رداً عليه بعنوان (إنذار وإفادة لمن باع دينه بشهادة) ولا شك أنه قد باع ما سماه هو- التيجانية دين جديد هدام لعقيدة الإِسلام وشريعته بيعة لا رجعة فيها إن شاء الله.
وحيث أن القول في محمد طاهر ميغري وفي كتابه قد أصاب شخصاً آخر، كما يقال: عصفورين بحجر- وهو في الحقيقة ليس بعصفور وإنما هو صقر على رخم الطرق الصوفية، ذلك الشخص هو: الشيخ أبو بكر قومي الرجل المعروف في نيجيريا كلها بمحاربة أصحاب الطرق الصوفية، وقد سمعتم عن جماعته وهم جماعة نصر الإِسلام الذين لهم مراكز في جميع ولايات نيجيريا- وهم الذين أدخلوا من يريد منهم مهادنة أصحاب الطرق بحجة جمع الكلمة- السّجْنَ عن طريق البوليس، وهو عربي وليس بنيجيري.
وذلك أن أبا بكر قومي وهو عضو في المجلس الأعلى للجامعة الإِسلامية، وعضو في رابطة العالم الإسلامي- قد كتب مقدمة مقتضبة لهذا الكتاب. وقال عنه أي إبراهيم إنياس أنه صاحب الفيضة، استهزاءً به لا مدحاً له وهو الذي دعاني لقراءة الكتاب كله من أوله إلى آخره، وذلك لعلمي بمحاربة أبى بكر قومي لأصحاب الطرق حتى أن الحكومة عجزت عن المصالحة بينهما كما حدثني بذلك الدكتور محمد ثاني زهر الدين رئيس قسم الدراسات الإِسلامية بجامعة بايرو.
ولكن قلت في نفسي: إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فلعل الرجل حدث له شيء.
ولكن حينما قرأت الكتاب وجدته بالعكس فإن الرجل مازال على منهجه فقد جاء في الكتاب نفسه، في الباب الذي جمع فيه محمد طاهر ميغري المعلومات الميدانية عن إبراهيم إنياس مقابلته لأبي بكر قومي في منزله في (كادونا) مثبتاً تاريخ اليوم الذي جرت فيه المقابلة وهو السبت 27/ مايو 1978 م بمقره في كدونة حيث قال له:
- ما رأيك في إبراهيم إنياس وطريقته فأجابه بقوله: إن إبراهيم إنياس جاء إلى نيجيريا بكفر صريح مكشوف ينادي به علناً وعلى رؤوس الأشهاد، وأنه أضل عوام النيجيريين بِدَجَلِه ومكره.
قال- أي أبو بكر قومي-: وقد قابلته في المدينة أيام أن كان عضواً في الرابطة، فأراد أن يتخذ من تلك المقابلة خدعة للناس بحجة أننا تصالحنا مع أصحاب الطرق، فبينت للناس ذلك الكذب في حينه لأننا عندما تقابلنا تبين لي أنه كافر فتبرأت منه وابتعدت عنه، وأما اتحاد حركتي مع حركة تلاميذي والتعاون معهم فلا أرى أنني أحتاج إلى ذلك. لأن حركتي هي جماعة نصر الإسلام، وهي ليست لي وإنما هي لجميع المسلمين وكل من يريد أن ينصر الإسلام فالباب مفتوح لا يحجبه شيء [2] .
قال: ثم قلت له: ما رأيك في قول الشيخ إبراهيم إنياس: "إن الله قد ساق الوجود كله مساق الهلاك في هذا الزمان فلا ينجو منه أحد إلا من رزقه الله محبة الشيخ التيجانى". فقال: "إنه يريد بذلك أن يقول: ومن يبتغ غير التيجانية ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ".
أما كتابته المقدمة للكتاب باختصار ولم يفصل القول فيها عن مخازي الطريقة التيجانية فقد سئل من شخصية تعمل بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} ] الحجرات: 6 [.
فأجاب عن ذلك، بأن المقصود منه أن يقرأ النيجيريون الكتاب وبالأخص أصحاب الطرق منهم حتى يعرفوا مخازي شيوخ طرقهم، لأنهم إذا وجدوا مني التفصيل والنقد في أول الكتاب قد ينصرفون عنه بحجة أن أبا بكر قومي عدو للتيجانية ولأصحاب الطرق جميعاً، حدثنا بذلك هو بنفسه حين زرناه في منزله (بكادونا) ، وكان يحدثنا عن أصحاب الطرق، وقد جاء ذكر محمد طاهر ميغري في ذلك المجلس، ومما يؤكد أن أبا بكر قومي لازال على منهجه في محاربة الطرق الصوفية الضالة المضلة وأنه بعيد كل البعد من أن يقدم لكتاب يمدح التيجانية- إنه في هذه الزيارة التي كانت في شهر ذي القعدة 1402 هـ للشيخ أبى بكر قومي في منزله فقد كان حديثه معنا عن خرافات أصحاب الطرق، حيث قال: إن من ضلالهم ودجلهم على عوام الناس بالكذب والتضليل، أن ولياًّ من أوليائهم قال لأتباعه، إن ولياًّ طار من بغداد إلى نيجيريا، فلما وصل نزل على رأس شجرة، والأشجار كثيرة في نيجيريا كما تعرفون- فذهب إليه الولي النيجيري وقال له: لماذا لا تنزل؟ فرد عليه قائلاً: إن الأرض ملوثة بالمعاصي والذنوب فلا يمكن أن أنزل عليها. ولذلك ذكر له حاجته ثم طار راجعاً إلى بغداد- ولا ندري هل أرض بغداد ملوثة بالمعاصي أولا؟.
قال ومثل هذا الكذب يصدقه العوام لأنه عندهم من كرامات الأولياء.
هذا وقد أخبرني أمين الدين رئيس جماعة الدعوة، أن لأصحاب الطرق رابطة فيما بينهم ولهم جماعة سمّوْهم باسم شباب الإِسلام- في مقابلة اسم جماعة أبى بكر قومي (نصر الإِسلام) وأن هؤلاء تمكنوا من إصدار برنامج في الإذاعة يلقيه أحد رؤساء الطرق الصوفية (باللغة الهوسا) لمحاربة أبى بكر قومي والطعن عليه وعلى كتبه- في الوقت الحاضر- وذلك معارضة منهم لحديث أبى بكر قومي الذي يلقيه في الإذاعة من زمن لتوجيه الناس وإرشادهم وتحذيرهم من الخرافات والبدع المهلكة.
أقول هذا عن الشيخ أبى بكر قومي رئيس قضاة شمال نيجيريا سابقاً وعضو المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية وعضو رابطة العالم الإسلامي، وعن الشيخ محمد طاهر ميغري البرناوي المحاضر بَجامعة بايرو- لأنهما من رجال الدعوة إلى الحق ومن ألد أعداء أصحاب الطرق وعلى رأسها الطريقة التيجانية لأنهم يعرفون ضلالها وفسادها وتدميرها لأخلاق الشباب المسلم أكثر منا، وهما على ثغرة في الوقت الحاضر لا يسدها غيرهما، ومعهما أمين الدين أبو بكر رئيس جماعة الدعوة وهو الذي يقاوم في الوقت الحاضر ضلال الرافضة ويبين للناس زيف دعوتهم للإِسلام وأنهم يدعون للضلال إذ كيف يدعو للإِسلام من يكفر الذين نقلوا لنا القرآن والسنة وعلى رأسهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
يعلن ذلك على منبر الجامع يوم الجمعة للناس جميعاً، بلا تحفظ ولا خوف من أحد.
فالذي يجب علينا ونحن ندعو إلى الحق أن نشد من أزر هؤلاء ونشجعهم ونساعدهم بما نستطيع تقديمه لهم، ولو بالدعاء لهم، وأن لا نندفع مع ملابسات لا أصل لها ولا تمت إلى الحقيقة والواقع بشيء ونحن في غنى عنها.
وإني لأتمثل للشيخ أبى بكر قومي والشيخ محمد طاهر ميغري بأبيات من منظومة قالها الشيخ حافظ الحكمي لملابسات تشبه هذه من بعض الجوانب هي بعنوان: الجوهرة الفريدة في تحقيق العقيدة.
قال فيها:
وولديها الحيارى ساء ما ولدوا
إني براء من الأهواء ما ولدت
يقول في الله قولاً غيرَ ما يرد
والله لست بجهمي أخا جدل
إلى أن قال:
ولا ابن سبعين ذلك الكاذب الفند
وما أرسطو ولا الطومسي أئمتنا
ولا الذي لنصوص الشر يستند
ولا ابن سيناء وفارآبيه قدوتنا
كل الخلائق بالباري قد اتحدوا
مؤسس الزيغ والإلحاد حيث يرى
الكلب والقرد والخنزير والأسد
معبودُه كُلُّ شيء في الوجود بدا
.. الخ القصيدة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،،
مركز إسلامي في السويد
تم وضع حجر الأساس لبناء أول مركز إسلامي في الدول الاسكندنافية بمدينة (مالمو) بجنوب السويد.
ويحتوي المركز الإسلامي على مسجد وفصول دراسية لتعليم أبناء المسلمين الدين الإسلامي الحنيف إلى جانب مكتبة تحتوي على العديد من الكتب الإسلامية المختارة.
وقد أعرب رئيس المركز الإسلامي في السويد ديفيد بيكروف عن سعادته البالغة لهذا الإنجاز ودعا جميع الدول الإسلامية لدعم هذا المركز حتى يستطيع تأدية رسالته..
(الندوة)
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
انظر كتاب الشيخ إبراهيم إنياس، حياته وآراؤه ص 194- 197. .
[2]
انظر كتاب الشيخ إبراهيم إنياس السنغالي، حياته وآراؤه وتعاليمه ص 237- 238 الدار العربية تأليف محمد طاهر ميغري. تقديم أبى بكر قومي. .
مِنْ مَنْهَجِ الْقُرْآنِ الْعَظِيْم في التربيَة والتعلِيم
للشيخ محمد المجذوب
كلية الدعوة وأصول الدين
قال الله تبارك وتعالى في سورة لقمان:
المفردات: الوهن: الضعف، والجنين ضعيف لا يدفع عن نفسه ضراً ولا يجلب لها نفعاً والرحم الحامل له ضعيف لا يستطيع حماية نفسه، والأم الحامل في ضعف مستمر حتى تضعه، الفصال: الفطام، أناب إلى الله: وثق به واتكل عليه وفوض أمره إليه، صعرّ خده: أماله عن الناس استكباراً، والمرح: الفخر والخيلاء، القصد: الإعتدال بين الإفراط والتفريط. غض من صوته: خفضه تأدباً.
تلخيص المعاني: في هذه الآيات الكريمة تركيز عجيب لدستور كامل في أصول التربية والتعليم، يذكر الله تبارك وتعالى معظمه عن لسان معلم صالح أتاه الحكمة فعمل بها ومن العسير استيفاء البحث في مضمونها هذا الدستور الجامع المانع، لذلك نكتفي بالإشارة إلي أصوله الكبرى.
الموضوع هنا يمكن اعتباره قسمين يؤلفان وحدة متكاملة، أما أحدهما فخاص بالفرد من حيث هو كائن بشري لابد له من التوجيه إلى المباديء الأساسية التي تنظم كيانه الشخصي. وأما الثاني فيتناول تنظيم العلاقة بين هذا الفرد السوي ومجتمعه البشري.
يبدأ القسم الأول من الوصية الحكيمة بالتحذير من الشرك، لأن التوحيد هو المرتكز الأساسي الذي ينهض عليه البناء السليم للفرد والجماعة، وليس الشرك إلا عارضاً من الخارج، والحكمة تقتضي تحصين الفطرة من ذلك الواغل الوبيل، الذي لا ظلم أظلم منه للنفس وللحق.
وكأن لقمان قد سكت عن ذكر الوصية بالوالدين لأنها تتعلق بحقه على ولده، فآثر عليه حق الله وحق الآخرين، ولأن التزامهما مؤد في الواقع إلى توكيد شأن الوالدين باعتبارهما الأولى بكل برّ بعد الله، ولكن الله جل شأنه لم يشأ أن يدع الأمر للاستنتاج، فاستدرك على لقمان بتوكيد هذا الحق مباشرة بعد حقه، كما عودنا سبحانه من الربط بين حقه وحق الوالدين في آيات أخر، ثم قيد ذلك بحدود طاعته، فللوالدين على الولد حق البر وخفض الجناح، ولكن ليس لهما أن يفرضا عليه متابعتهما على المعصية..
ولكي يصون الإنسان نفسه من الانحراف عن هذا الخط لابد له من قدوة عملية يلتزم سبيلها في سلوكه، وقد حدد له هذه القدوة في اتباع المنيبين إليه من الأنبياء والأصفياء السالكين على خطاهم. والبرّ بالوالدين، ومتابعة الصالحين، مع التوحيد الخالص، أساس التربية القويمة التي تضبط مسيرة الفرد في الطريق الأمثل، يضاف إلى ذلك تذكره الدائم للمصير الذي هو منته إليه بعد هذه الحياة الزائلة، حيث يرى ما عمله من خير محضراً، وما عمله من سوء يود لو أن بينه وبينه أمداً بعيداً. وأولى ثمار هذه التربية تكوين المراقبة الداخلية لأعمال الفرد، وهو ما نسميه بالضمير، إذ يتجنب كل زيغ عن الجادة، لأن كل حركاته وسكناته مُحصى عليه من قبل اللطيف الخبير، الذي لا يفوته كبير ولا صغير.
وهنا يأتي القسم الثاني وفيه تتلاحق الأوامر والنواهي: أمراً بالصلاة التي هي معراج المؤمن إلى الملأ الأعلى وكأنها مواقف حساب يومي، يعرض فيها نفسه وعمله على ربه فيستغفره لما أصاب من الهفوات، ويستمده العون على ما وفق إليه من الحسنات. ثم أمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، وصبر على المصائب.. كل أولئك نتائج طبيعية لتلك المقدمات، لأن الإنسان الذي زود بكل هاتيك الفضائل بات مؤهلا للإسهام في توجيه المجتمع بالدعوة إلى كل خير، والتحذير من كل شرّ ولا يطيق ذلك إلا بالصبر الذي يحبب إليه الثبات واجتياز العقبات. والصبر في حقيقته قوة لا تتاح إلا لأولي العزم، فليكن إذاً واحداً من أتباعهم وليتحمل في سبيل الله ما تحمله الأولون من أتباع النبيين، وما يتحمله حتى اليوم أتباعهم بإحسان في سجون الملاحدة والظالمين.. وإنما تستمر سلامة المجتمع واستقراره في طريق الخير بهؤلاء الآمرين بالمعروف، الناهين عن المنكر، الذين ما خلت منهم أمة إلا تودع منها.
ومن ثم تتابع الآداب الاجتماعية ممثلة في نهيين وأمرين. أما الأولان فالتحذير من الاستكبار والمرح. وأما الآخران فالحض على الاعتدال في المشي، والغض من الصوت عند مخاطبة الناس. ويعقب كلاً من القسمين تذييل مؤكد لمضمونه بصورة تقنع العقل السليم بالتزام المطلوب {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} و {إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} وحسب المؤمن أن يعلم كره الله للاختيال والتطاول حتى يهجر لوازمهما من الصعر والمرح. اللذين يسجلان على صاحبهما فراغ النفس من الفضائل. وخلو القلب من التفكير بالتبعات الثقال. التي لا يستطيع تجاهلها من كان يؤمن بأنه مسؤول عن حركاته وسكناته جميعاً! وبحسبه كذلك أن يتصور نهيق الحمار ومزعجاته حتى تشمئز نفسه من مشابهته، فيحاول جهده أن يلتزم أدب الإسلام في المشي وفي الكلام.
أهمية هذه المعاني وأثرها في تكوين المجتمع الصالح: بقليل من التدبر الواعي لهذه الوصايا نتبين أننا تلقاء مخطط عميق الغور، لا أمل بإنشاء الفرد الصالح خارج نطاقه فهو أشبه بالأعداد السياسية في علم الحساب. فكما أن عملية حسابية دقت أو جلت تقوم على الأرقام الواحد والتاسع وما بينهما. فكذلك تنبثق من جذور هذا المخطط جميع التفريعات. التي تحدد مضمون المناهج وأهدافها في كل نظام للتربية والتعليم كما يريده الإسلام وكما تتطلبه مصلحة الجنس الإنساني.
وإذا كان لكل منهاج نماذجه التي تمثال مضمونه في صور مشهودة. فالنماذج التي يقدمها هذا المنهج تؤكد أنه الوحيد. بين مناهج الدنيا. الذي أعطى العالم أعظم رجال التاريخ إطلاقاً فأثبت بذلك أنه النظام الوحيد الذي يضمن إنشاء الإنسان الممتاز الذي يحلم به الفلاسفة دون أن يعرفوا الطريق إليه
…
ومن يكون ذلك الإنسان الممتاز غير الذي رباه الإسلام في مدرسة النبوة على ضوء هذا المنهج الرباني فكان أتقى الناس وأعدل الناس وأشجع الناس. وأكرم الناس. وأعف الناس. وأشد الناس حين الشدة. والينهم عند اللين.. أبعد الخلق عن جهل، وأرغبهم في علم. حتى كان منهم أئمة البشر في علوم الدين والدنيا جميعاً!
فمن المخطط يتضح لنا أن غاية التربية والتعليم. في مستواهما الأعلى ووفق الطريقة الإسلامية. إنما هي رعاية النفس الإنسانية بتدريبها على تحقيق المنهاج الرباني. في تربية الروح ضمن تعاليم الوحي التي تحرر النفس من كل خوف لغير الله. وكل عبودية لسواه. وتجعلها مدركة لرسالتها في الحياة التي هي تكوين المجتمع الأفضل القائم على عبادة الله وابتغاء مرضاته، ثم تربية العقل تربية صحيحة تمكنه من تحقيق مهمته في استجلاء مظاهر عظمة الله في ملكوته، وتسهيل سبل الإفادة مما سخر له الله في السماء والأرض من وسائل المتاع والانتفاع. دون ظلم ولا جحود ولا طغيان.. وهذا هو السر الذي أدركه سلفنا الصالح لمفهوم التربية والتعليم على هدى من هذا المنهج الأمثل. فراحوا يؤكدون على وجوب العناية بالروح. حتى اعتبروها قوام الإنسان كله كما يقول أحدهم:"فأنت بالروح لا بالجسم إنسان"واعتبروا صلاحها صلاحاً للكيان البشري كله كما يتضح من قول أحدهم:
وترى الكل فهي للكل بيت
هذب النفس بالعلوم لترقى
ـل سراج وحكمة الله زيت
إنما النفس كالزجاجة والعقـ
وإذا أظلمت فإنك ميْت
فإذا أشرقت فإنك حي
ولا يعنى هذا التركيز على الجانب الروحي من الإنسان إغفاله جانبه المادي. لأن الإسلام هو النظام الوحيد الذي يقوم على التوازن المتكامل بين الروح والجسد، وإنما جاء توكيد العناية بالروح لأن من طبيعة الإنسان الاستجابة لنوازعه المادية إلى حد الإفراط. فكان من الحكمة إثارة اهتمامه بالجانب الآخر لتحقيق التوازن بين الحالين..
وطبيعي أن أدب الجاهلية لم يقترب من هذه المعاني قط. فهي جديدة على العقل العربي، وهي بالتالي جديدة على العقل البشري في كل مكان قبل نزول القرار العظيم
…
ولا تزال جديدة عند أهل العلم. الذين يتولون تخطيط أسس التربية في أنحاء العالم المتمدين في الشرق والغرب على السواء وإنما تستمد قيمتها من عمق الإدراك لخصائص الفطرة البشرية التي لا صلاح لها إلا بهذه الحقائق. وقد ثبت ذلك بشهادة الله الذي أودعها كتابه الحكيم توكيداً لأهميتها في هذا المضمار. وتقديراً لهذا النوع من الحكمة التي استحقت تكرمته وتخليده سبحانه.
الأسلوب المعجز في الآيات: عندما عجز علماء البلاغة عن الإحاطة بأسرار الأعجاز في كلام الله اضطروا إلى القول بأنه كلام لا كالكلام. فإذا كان كلام البشر يدور بين الشعر والنثر فالقرآن ليس من الشعر، وإن كان فيه الكثير من خصائصه في أكمل حالاتها كعذوبة الجرس. ورشاقة العبارة، والتصوير المجسم لأدق المعاني.. وليس من النثر، وإن شاركه في أخص عناصره، كالانطلاق، وتحديد المدلول. والتوافق بين الفكر واللفظ.. وسلوك الأساليب المختلفة من السجع إلى الإرسال، إلى تقصير الفقرات أو تطويلها حسب المناسبة، وكاستخدام المثل والقصة والتمثيل وما إلى ذلك من فنون القول
…
وإذن فهو قسم خاص من الكلام قائم بذاته وبخصائصه التي يسمو بها على كل ضروب الأدب ومن هنا جاء قولهم: الكلام ثلاث أقسام نثر وشعر وقرآن. وأقرب تعبير عن هذا السر المعجز هو القول بأن طراز البلاغة في كل كلام إنما يمثل عبقرية منشئها وخصائصه الفكرية والنفسية والثقافية. وإنما يتفاوت البلغاء في نطاق هذه الخصائص قوة وضعفاً. وانخفاضاً وارتفاعاً، لأنهم بصياغتهم فنية إنما يمثلون صفاتهم المنبثقة من هذه الخصائص. ونحن عند ما نميز بين أسلوب إنسان وأسلوب آخر إنما نميز في الحقيقة بين صفة هذا وصفة ذاك. تماماًَ كما قرر نقاد الغرب عندما زعموا: أن الأسلوب هو الإنسان، يريدون أنه صفته المميزة له. وعلى هذا المقياس نستطيع القول إن امتياز كلام الرب تبارك وتعالى إنما جاء من كونه صفته المعبرة عن علمه وكمالاته اللائقة بجلاله. فلا سبيل إلى المقارنة بين كلامه وكلام مخلوق مهما تبلغ بلاغته من الارتفاع. لأنه لا سبيل إلى المقارنة بين علم الرب المحيط بكل شيء، وعلم العبد الذي لا يرى من الشيء إلا الجزء الذي يواجهه.. ومن طبيعة هذا الفرق أن الإنسان يتراوح بين السمو والهبوط وفق قدرته المحدودة في تتبع الوقائع، واستنباط الأسرار، فيصيب ويخطئ. ويتعمق الشيء آناً فيقول ما يتفق مع
حقيقته، ويغم عليه السر آنًا فيتخبط في أحكامه. وبذلك يتعرض للإحسان والإساءة على حين يأتي كلام الخالق صورة الحق الخالص الثابت على مرّ الأحوال وتغير الأزمان، لكل حرف فيه مدلوله اليقيني الذي لا يقبل التبديل، كمثل العضو من الجسم الحي له مكانه ووظيفته، التي لا سبيل لتحقيقها إلا عن طريق ذلك الوضع المخصوص..
وإذن فالإعجاز في الكلام الإلهي قائم في المعنى والمبني معاً.. فمعاني الآيات كما رأيت تمثل أسمى ما يتصوره العقل البشري من كمال التنظيم التربوي. الذي عجز عن مثله مفكروا القديم والحديث. لأنه حقائق منسجمة مع الفطرة التي لا تبديل لها على الأحداث والبيئات.
والأعجاز متمثل كذلك في نظم الآيات من حيث الألفاظ والتعابير. وتساوق الفقرات في فواصلها ونهاياتها.. فتقسيم الكلام إلى آيات يوجه القارئ إلى التوقف على أواخرها. ويساعده على التغني بها وهى بعض مميزات التنزيل التي لا تجد مثلها في كلام الجاهليين ولا الإسلاميين، حتى في أسلوب المقامات القائمة على تقسيم الكلام إلا فقرات مسجوعة كقوافي الشعر تشعر عند مقارنتها بآيات القرآن العظيم أنها تكاد تفقد كل أثر للجمال. إذ تبدو سجعاتها متكلفة قد سخرت لها المعاني. واجتلبت لها الألفاظ بدافع الرغبة في الهندسة اللفظية فقط.. وهذا ما جعل بعض علماء البلاغة ينكرون وجود السجع في كلام الله. لأنهم لم يروا السجع قط إلا متكلفاً. بخلاف نهايات الآيات القرآنية التي لا تأتي أبداً إلا عفوية على أتم التساوق والانسجام مع المعنى، ولهذا رأوا أن تسمية هذه النهايات بالفواصل أحكم وأليق من تسميتها بالسجع.
والقارئ ذو الشعور المرهف يدرك بذوقه في هذه الفواصل التي تختتم بها الآي من الجمال والتأثير ما لا سبيل إلى تحديده بالوصف الكلامي وسيكون أكثر إدراكاً لأثرها إذا هو ترك قراءة تلك الخواتيم واكتفى بقراءة صدورها وحدها. إذ يحس أنه يفتقد بذلك غير قليل من النغم. والجمال والتأثير.
شخصية لقمان: ولقد اعتدنا أن نقرأ الوصايا الجاهلية فقراً متقطعة لا نظام لها في الغالب حتى يمكن تغيير مواقعها دون أن يؤثر ذلك على مجموعها. لأن قائلها في الأصل لم يعن فيها بوحدة الموضوع.. أما هنا في وصية لقمان فالأمر على الضدّ. إذ نرى التماسك بين الفقرات على أتمه، فكل فقرة ممسكة بأختها، لأن كل فكرة ممهدة لما يليها. ومنها جميعاً على هذا التماسك يتألف دستور التربية المتكامل.
لقد بدأت الآيات بخبر الحكمة التي هيأ الله لها لقمان، ثم تتابعت المعاني التي تنطوي تحتها، وأولها الشكر لله. ولم تذكر الإيمان به سبحانه. لأن المناسبة تقتضي أن الإيمان أصل في الفطرة الإنسانية لا جدال فيه وإنما البحث في متطلباته ومغذياته. ولا شك أن شكر المنعم في مقدمتها لأن الحس البشري لا يقع على شيء إلا وهو من فضله تعالى. فشكر المتفضل إنما هو تعهد للنفس بالإصلاح المستمر والضبط الواعي ضمن حدود الخير.. فإذا ما تمت للقمان أن هذه الخاصة العليا، خاصة التنبه الدائم لنعم الله وشكرها. كان أهلاً لدعوة الآخرين إلى هذا الخير. وأحق الناس به منه ولده. وأفضل ما يبدأ به تزويده التحذير من الانحراف بفطرة الإيمان عن طريقها السديد. لأن الشرك ظلم عظيم.. وهكذا تتابع أجزاء الموعظة في ترابط عجيب لا يغفل شاردة ولا واردة. من الوصية بالوالدين. إلى القدوة الحسنة إلى مراقبة النفس والعمل، إلى الجهاد العام للحفاظ على صلاح المجتمع. إلى حسن معاملة الناس وما يصلح للمؤمن العاقل من أدب المعاملة لمن يدعوهم إلى الصلاح
…
هكذا من حيث وحدة الموضوع.. فإذا رحنا نتبين الخصائص النفسية لهذا الحكيم الصلاح واجهتنا الحكمة ممثلة في طريقته نفسها، فهو يسوق مواعظه في أرق الأساليب وأبلغها وقعاً، فيبدأ كل زمرة من تلك الفضائل بذلك الخطاب المؤثر المشحون بالإشفاق:{يَا بَنِي}
…
ثم لا يكتفي بصيغة الأمر والنهي في عرضها، بل يعمد إلى دعمها بالتعليل المقنع فهو ينهاه عن الشرك لأنه ظلم عظيم، ويحذره من التهاون بصغائر الذنوب لأن الله لطيف خبير، وهو يحضه على الاستمساك بالصبر لأن تكاليف الإيمان والدعوة من الأعباء التي تتطلب العزائم الضخمة، وهو ينفره من التصعير المرح لأن الله لا يحب أهلهما، وينصح له بالأناة والرصانة لأن الخروج منهما دخول في صفة الحيوان الذي لا يعرف الآداب
…
ولكي ندرك روعة التنسيق في أسلوب هذه الآيات نأخذ الآية السابعة عشرة كمثل من ذلك. أنه يدعو ولده إلى أربعة أشياء: الصلاة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر. وكان ممكناً أن يبدأ بأي منها. ولكنه آثر البدء بالصلاة وقيدها بالإقامة لتكون أدل على كمالها.ومن ثم لتؤدي وظيفتها كاملة في رفع طاقاته النفسية فإذا تم له ذلك حُبِّبَ إليه الأمر بالمعروف، وقدم ذلك على النهي عن المنكر، لأن دعوة الناس إلى مهجور الخير أوقع في قلوبهم من دعوتهم للإقلاع عن مألوف المنكر.. فإذا مرن على ذلك سهل عليه الانتقال إلى ما بعده ولكن هذه أعباء ثقال لا يطيقها إلا أولو العزم من الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس
…
فلتكن الوصية بالصبر أخيراً. ثم ليأت بيان أهمية ذلك تذييلاً شاملاً لهذه الأحكام جميعاً {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} .
وهكذا نخلص من هذه الدراسة الوجيزة لوصايا لقمان، وقد تبينا ملامح من أهميتها وحاجة الإنسان إلى تحقيقها في كل زمان ومكان، واستبنا من خلالها شخصية ذلك الحكيم العظيم الذي تعلمنا منه الكثير من أصول الدعوة وطريقة عرض الحقائق بالأسلوب المبشر الذي لا ينفر..وأخيراً تعرفنا أثناء ذلك بعض الخصائص التي ميز بها الخلاق العظيم أسلوب كتابه الحكيم، فكان بها المعجز الذي لا يبارى والمعلم الذي لا يجارى والنور الخالد الذي يهدي للتي هي أقوم.
تعدد زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم
للدكتور ملك غلام مرتضى
رئيس قسم الترجمة بالجامعة
قبل أن نتحدث عن الحياة الأسرية للنبي صلى الله عليه وسلم، من الأجدر أن أمهد لهذا البحث فأقول: إن عصرنا الحاضر، في الحقيقة، يمثل الصحوة الإسلامية في العالم والبعث الإسلامي الجديد. لقد جرب أهل الغرب نظمهم وعقائدهم وحصلوا على ما حصلوا عليه من نتائج سيئة وخطيرة. والآن يسود العالم شعور عام وإحساس ملح لإخفاق الإنسان في هذه النظم الوضعية، وهو نفسه يشعر أنه قد سئم من هذه النتائج السيئة. لذا فهو يريد الآن أن يتوجه نحو نظام غير وضعي، نظام ليس من صنع البشر، نظام إلهي محكم شامل.
ولكن ثمة صعوبة كبيرة تصادف الإنسان، ألا وهى خلو الأديان كلها عدا الإسلام من تصور نظام شامل. والنصرانية تأتي بتصور مذهب شخصي. وهناك نفس المشكلة في اليهودية والأديان الأخرى. ولكن الإسلام يختلف اختلافاً جذرياً في هذا الشأن فهو يتميز بوجود نظام شامل متكامل للحياة.
وأقبل العلماء والمفكرون على مطالعة الإسلام والتعرف على مبادئه عن كثب، الأمر الذي أدى إلى اليقظة العلمية والركون إلى الإسلام، فاعتنق عدد كبير من أهل أوربا وأمريكا الإسلام مما أزعج اليهود والتبشيريين وكل أعداء الإِسلام إزعاجاً شديداً.
وإذا أخفق أعداء الإِسلام في مقاومته بأساليب علمية لجأوا إلى الحملات المغرضة والمؤامرات الدنيئة ضد هذا الدين، فمثلاً يروجون أباطيلهم وشبهاتهم حول شخصية محمد صلى الله عليه وسلم لاسيما بالنسبة لتعدد زوجاته.
ولا تكاد مكتبة من المكتبات المنتشرة في شتى أنحاء أوربا التي زرتها، إلا وتضم مؤلفات تتناول أموراً مزعجة في نفس الموضوع.
فقد هاجموا شخصيته صلى الله عليه وسلم بأسلوب متصف بالوقاحة وعدم الموضوعية وبيعت مثل هذه الكتب بالملايين ووزع بعضها بأسعار مخفضة بل حتى بالمجان.
وهكذا الوضع في الهند. كان الهندوكيون يطبعون الكتب الدنيئة مثل كتاب (رنكيد رسول)(الرسول الشهواني) الذي ظهر منذ زمن بعيد ومازالوا ينحون هذا المنحى ومع هذا فإن أعداداً كبيرة منهم يشرح الله صدرها للإِسلام فيدخلونه أفواجاًَ.
ولو أننا ضربنا صفحاً عن هذه الكتب المليئة بالكذب والأباطيل فعلينا أن نحلل بأسلوب علمي منهجي يخاطب العقل والمنطق أسباب تعدد الزوجات في حياة الأنبياء لاسيما أسباب الأحد عشر زوجة خلال حياة محمد صلى الله عليه وسلم.
لقد وجه أعداء الإِسلام التهمة تلو التهمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فزعموا أنه كان والعياذ بالله رجلاً شهوانياً وأنانياً ومن أهل الدنيا وكان يفتقر إلى النقاء الروحي فضلاً عن النبوة والرسالة.
والآن سأركز على أربعة أمور وهى:
1-
هل تعدد الزوجات مختص بالرسول العربي صلى الله عليه وسلم أم أن هذه سنة أكثر الأنبياء؟ وما الذي ورد في التوراة والإنجيل في هذا الصدد.؟ وما هو المذكور في الكتب المقدسة للمذهب الهندوكي عن أكابرهم بالنسبة لتعدد الزوجات؟
2-
ما هي الأسباب وراء تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم. وما هي الخلفية وراء كل زوجة من زوجاته الإحدى عشرة؟
3-
ما الذي يتوقع من شخص آخر غير النبي صلى الله عليه وسلم لو كان في محل الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ماذا كان يمكن أن يكون أسلوب حياته في نفس الظروف والملابسات؟
4-
ما هي المصالح العملية وراء تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم والحكم التعليمية والتشريعية والاجتماعية والسياسية والشخصية؟
سنة الأنبياء السابقين مما ورد في التوراة والإنجيل:
الذين يعترضون على تعدد زواج الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من غيرهم هم المستشرقون من اليهود والنصارى. ومن ثم كان علينا أن ننظر في أسفار التوراة والأناجيل الحالية لنرى ماذا ورد في هذين الكتابين عن كبار الأنبياء من بنى إسرائيل في هذا الصدد.
1-
تعدد زوجات سيدنا إبراهيم عليه السلام:
كان لسيدنا إبراهيم عليه السلام ثلاث زوجات حسبما ورد في التوراة والإنجيل:
أ- السيدة/ هاجر (كتاب الخلق: 16/ 4) وهى أم سيدنا إسماعيل عليه السلام.
ب- السيدة/ سارة (الخلق: 18/ 15) وهى أم سيدنا إسحاق عليه السلام.
جـ- السيدة قثورة (الخلق: 25/ 10) وكان لها ستة بنين وهذه أسماؤهم:
زمران، يقان، مدان، مديان، أسباق، سنوخ.
2-
تعدد زوجات سيدنا يعقوب عليه السلام:
كان له أربع زوجات (الخلق: 29/ 23- 29) وأسماؤهن كما يلي:
أ- لياه (الخلق: 29/ 23) وهى أم سمون، لاوى، يهوده، أشكار وزبون.
ب- زلفة: وهى أم ابنين وهما: جد وآثر.
جـ- راخيل: ولها ابنان: سيدنا يوسف عليه السلام وبنيامين.
د- بلهمة: وهى أم دان (ونفتاى) .
3-
تعدد زوجات سيدنا موسى عليه السلام:
تزوج سيدنا موسى عليه السلام بأربع نساء (كتاب الخروج: 2/ 31) وأسماؤهن كما يلي:
أ- سفورة وهى أم جيسون والعيزر.
ب- جبشية.
جـ- بنت قيني (قاضيون 16/1) .
د- بنت حباب (قاضيون 4/ 16) .
4-
تسع زوجات لسيدنا داود عليه السلام:
وقد ورد في كتاب صيموئيل (26/23) ذكر تسع زوجات لسيدنا داود عليه السلام ولا يسعني أن أذكر أسماؤهن وأسماء أولادهن لضيق المقام.
5-
ألف امرأة لسيدنا سليمان عليه السلام:
وقد ورد في كتاب سلاطين 11/3 أنه كان لسيدنا سليمان عليه السلام سبعمائة زوجة وثلاثمائة أمة. ولم يذكر هذا الأمر في القرآن الكريم.
6-
سنة سيدنا عيسى عليه السلام ومسلكه:
لم يتزوج سيدنا عيسى عليه السلام وكذا صار الزواج عملاً غير مستساغ عند النصرانيين واعتبروا العزوبة منتهى الروحانية.
ولكن مع كل ذلك فقد ورد قول سيدنا عيسى عليه السلام في إنجيل متى باب 25 حينما أخبر عن بعثته أنه عليه السلام أخبر عن عشر أبكار. "تزوجت خمس منهن بعريس واحد وذهبن إلى بيتهن، أما الخمس الأخريات فتخلفن ولم يفتح لهن الباب".
وهذه الجملة الواحدة تدل بكل وضوح على أن سيدنا عيسى عليه السلام كان يجيز تعدد الزوجات. فقد أول بعض القسيسين هذه الجملة قائلين أن المسيح قد تكلم بأسلوب تمثيلي. نعم: ولو كان كذلك: الحق أنه لا يمكن لنبي أن يقول شيئاً بأسلوب تمثيلي عن أمر ما إلا إذا كان ذلك الأمر مرغوباً لديه.
ولهذا السبب كان (ملتن) الشاعر الإنجليزي الشهير يقول بتعدد الزوجات. وجدير بالذكر أن نابليون ملك فرنسا قد استدل على ذلك وتزوج ثانية في حضور البابا ولم يعترض البابا وصدقت أوربا على صحة هذا الزواج!. وهناك أحداث كثيرة مماثلة.
تعدد الزوجات في المذهب الهندوكي:
والآن نتقدم إلى ما ورد في المذهب الهندوكي. والمهم أن الهندوكيين لا يوجد لديهم نظام تعدد الزوجات في العصر الحاضر وقد اعترضوا على تعدد زواج الرسول صلى الله عليه وسلم لنفس الأسباب السابقة.
وأهم شخصية في المذهب الهندوكي، هو شرى رام جندرجي. انهم يحلونه محل الآلهة. ومن المعروف والمعلوم عند كل هندوكي أنه كانت لوالد شرى رام جندرجى (راجه وسرت، ملك من ملوك الهند) ثلاث زوجات في آن واحد وأسماؤهن كما يلي:
1-
ملكة كوشليا وهى أم شرى رام جندرجى.
2-
ملكة سمترا وهى أم لجمن جى.
3-
ملكة كيكنى وهى أم برت جى.
وقصة المخاصمات بينهن معروفة جداً عند الهندوكيين وهم يمثلون وقائع هذه المخاصمات كل عام في صورة حفلات عظيمة.
وشرى رام جندرجى هو مؤسس المذهب الهندوكي، وكان له ثماني عشرة زوجة حسبما ذكر عالمهم الكبير (لاله لا جبت رائى) في مؤلفه (كرشن جتر) .
وهناك شخصية هامة أخرى وهى الجد الأعلى للهندوكيين لاسيما الباندوكيين واسمه الملك باندو. ومن المعروف أنه كانت له زوجتان واسمهما: (بنتى) و (مادرى)، وكذلك هناك شخصية بارزة من بين مؤسسي الهندوكية وهى الملك شنتن الذي كانت له زوجتان واسمهما:(جنجا) و (سيتاوتى) .
وهكذا كانت لسيد بجترايرج زوجتان وأمة.
ولا يسعني لضيق المكان أن أعرض بالتفصيل تعدد الزوجات عند مؤسسي الهندوكية وكل شخصياتهم البارزة- ولكن أود أن ألتمس من الكتاب الهندوكيين أن يطالعوا كتبهم المقدسة قبل أن يكتبوا كتباً دنيئة مثل (الرسول الشهواني) إن كان لديهم شيء من الحياء والخجل.
حكمة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بكل واحدة من أزواجه الطاهرات:
والآن أحاول أن أبين الحكمة وراء كل زوجة من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وفقاً للترتيب الزمني لزواجه صلى الله عليه وسلم:
1-
السيدة خديجة رضي الله عنها:
السيدة خديجة هي أولى زوجاته صلى الله عليه وسلم وهى أرملة وكان عمرها وقت الزواج أربعين سنة وعمر الني صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين سنة. فعاشا معاً لخمس وعشرين سنة بعد زواجهما إلى أن توفيت السيدة خديجة وهى في الخامسة والستين من عمرها بينما كان النبي صلى الله عليه وسلم في الخمسين من عمره. وجدير بالذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج أية امرأة أخرى في حياتها.
ومات أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم في نفس السنة وسمي هذا العام بعام الحزن. ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم فقد شخصيتين هامتين ألا وهما: السيدة خديجة وأبا طالب اللذين كانا يشدان من أزر النبي صلى الله عليه وسلم ويحنوان عليه.
وهكذا صار النبي صلى الله عليه وسلم وحيداً لا ناصر له ولا معين من ناحية أسرته.
2-
السيدة سودة رضي الله عنها:
وكانت هذه المرحلة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم مرحلة الشدائد والابتلاء وهو في حاجة ماسة إلى من يسكن إليها لذلك فهو يتزوج السيدة سودة البالغ عمرها وقتئذ خمس وخمسون سنة.
وعليكم أيها القراء أن تنتبهوا إلى عمر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ولكي ندرك مدى بطلان الافتراءات التي يثيرها أعداء الإسلام ضد الرسول صلى الله عليه وسلم واتهامهم له بالشهوانية والأنانية. علينا أن نتساءل: ما هي الخلفية وراء زوجاته: ما هو عمر أزواجه؟ ولماذا يتزوجهن؟
كانت السيدة سودة أرملة سكران بن عمرو وهي من المؤمنات المهاجرات. توفي عنها زوجها بعد الرجوع من الهجرة الثانية إلى الحبشة فأصبحت وحيدة لا ناصر لها ولا معين. ولو رجعت إلى أهلها الكفار لعذبوها ولحاولوا ردها إلى الشرك قسراً. وما كان هناك أي شخص يمكن أن يقوم بكفالتها والمحافظة على إسلامها.
فاختار النبي صلى الله عليه وسلم كفالة هذه الأرملة الوحيدة الحزينة المسكينة المسنة فتزوجها وفي هذا تشريع الزواج بالأرامل اللائي ينظر إليهن نظرة سوداء في الملل والأديان الأخرى كالهندوكية. فالرسول صلى الله عليه وسلم أرسل للبشر كافة ولم يرسل لأمة بعينها كغيره من الأنبياء، لذا فسن زواجه لإبطال كل ما في الأديان المحرفة والملل الأخرى من خرافات وامتهان للنساء وبخاصة المزدريات منهن في مجتمعاتهن كالأرامل والمطلقات وتشريفهن بزواجه منهن وهو أشرف البشر فيمتثل به المؤمنون كافة.
3-
السيدة عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما:
وهى الوحيدة من بين أزواجه الطاهرات التي كانت بكراً. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد قضى على نظام التبني بزواجه السيدة زينب بنت جحش، فيمكننا القول أنه صلى الله عليه وسلم قد قضى على نظام آخر بهذا الزواج وهو نظام التآخي الجاهلي إذ كانت العادة قد جرت عند بعض العرب أن يؤاخى بعضهم بعضاًَ وكانت هذه المؤاخاة تتساوى مع الأخوة الحقيقية القائمة على صلة الدم، وكانوا يحرمون على أنفسهم الزواج بابنة أخيهم المزعوم.
فقضى النبي صلى الله عليه وسلم على هذه العادة الجاهلية بزواجه بالسيدة عائشة رضي الله عنها وكان عمرها تسع سنوات وقت الزواج وبقيت على قيد الحياة ثمانيا وأربعين سنة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ولعل هذا هو السر وراء هذا الزواج. وظلت تنشر الدين وتبلغه إلى النساء والرجال.
ونرى أثر ذلك حتى اليوم كلما ذهبنا إلى الروضة في المسجد النبوي الشريف فنجد هناك عموداًَ (قائماً) يسمى (اسطوانة عائشة) .وكان الصحابة يجلسون بقرب هذه الاسطوانة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ويستفتونها في الأمور الدينية وكانت السيدة عائشة تفتي وتدرس وتبلغ وهي جالسة في حجرتها التي فيها قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
وإذا استشكل أبوها سيدنا أبو بكر وغيره من الصحابة الكبار مثل سيدنا عمر الفاروق وسيدنا عثمان بن عفان في أي أمر هام رجعوا إلى السيدة عائشة لحل تلك المشكلة.
وقد ذكر العلماء المؤرخون أنه قد انتقل ربع الأحكام الشرعية إلى الأمة المسلمة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من خلال توجيهات السيدة عائشة وجهودها التي استمرت 48 سنة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وظلت تسكن نفس الحجرة التي دفن فيها الرسول إلى أن توفي سيدنا عمر ودفن بجوار قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتقلت من تلك الحجرة قائلة: "إنني أستحي الآن أن أبقى هنا ".
وظلت السيدة عائشة توجه الصحابة في كثير من الأمور العامة وتنبههم إلى بعض أخطائهم الفقهية العلمية وهناك الصحابة الكبار أيضاًَ الذين تنبهوا إلى بعض أخطائهم نتيجة لتوجيهاتها فقد ألف العلامة السيوطي رحمه الله رسالة مستقلة في هذا الموضوع وأوضح كيف صححت السيدة عائشة أخطاء الصحابة وذكر تلك الفتاوى في رسالته التي سماها (عين الإصابة فيما استدركته عائشة على الصحابة) .
وأذكر مثالاً لذلك هو أن سيدنا أبا هريرة أفتى ذات يوم أنه لا يجوز الصوم في حالة الجنابة فراجعته السيدة عائشة والسيدة أم سلمة وأخبراه أنه يجوز وكان النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل من الجنابة بعد تناول السحور أحياناً.
وقد روي عن أبى موسى الأشعري: "ما أشكل علينا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علماًَ"(جامع الترمذي)
ولقول الإمام الزهري التابعي:
"كانت عائشة أعلم الناس يسألها الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم". (طبقات ابن سعد ج 2، قسم 2 ص 26)
ويقول عروة بن الزبير رضي الله عنهما: "ما رأيت أحداً أعلم بالقرآن ولا بفريضة ولا بحلال ولا بفقه ولا بشعر ولا بطب ولا بحديث العرب ولا نسب من عائشة". (سير الصحابيات للشيخ عبد السلام الندوي ص 43)
وقد روي عن موسى بن طلحة قوله: "ما رأيت أفصح من عائشة ". (مستدرك الحاكم ج 4 ص 91)
والمعروف أنه قد روى عنها 2210 حديثاً من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اتفق الشيخان على 174 حديثاً منها وقد انفرد الإمام البخاري بتخريج 58 حديثاً كما انفرد الإمام المسلم بتخريج 68 حديثاً منها.
4-
السيدة حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما:
وهي أرملة سيدنا خنيس بن حذافة الذي استشهد في غزوة بدر وفي تلك الأثناء توفيت السيدة رقية زوج عثمان بن عفان وبنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض سيدنا عمر ابنته على عثمان للزواج كما أخرج البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال فقال عثمان: "سأنظر في أمري "فلبث ليالي، ثم قال:"لقد بدا لي أن لا أتزوج "قال عمر لأبى بكر:"إن شئت أنكحك حفصة، فصمت، فكنت عليه أوجد مني على عثمان، فلبث ليالي ثم خطبها النبي صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه: فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت علي حين عرضت على حفصة. فلم أرجع إليك شيئاًَ؟ قلت: نعم قال: انه لم يمنعني أن أرجع إليك إلا أنني علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها، فلم أكن لأفشى سره، ولو تركها لقبلتها ".
ولا يفوتنا هذا الأمر الهام أن زواجه صلى الله عليه وسلم بالسيدة عائشة والسيدة حفصة له أهمية كبيرة من الناحية الإجتماعية لأنه كان سبب ربط قوي بينه وبين سيدنا أبى بكر وسيدنا عمر وهما اللذان قاما بخدمات جليلة للإِسلام وضحيا بكل مرتخص وغال في سبيل الله وحب رسوله.
5-
السيدة زينب بنت خزيمة رضي الله عنها:
وهى أرملة عبيدة بن الحارث رضي الله عنه، البطل الذي استشهد في أول المبارزة في غزوة بدر وهي أيضاً من النساء المؤمنات اللاتي ضحين بالنفس والنفيس في سبيل الله، وكانت حين استشهاد زوجها تقوم بواجبها في إسعاف الجرحى وصبرت على استشهاد زوجها ولم تتخل عن واجبها حتى بعد وفاة زوجها إلى أن جاء النصر وهزم المشركون وكانت تناهز الستين من عمرها، ولم يكن هناك من يعولها فكانت بحاجة ماسة إلى الرعاية.
فلما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بحالتها وصبرها وجهادها وإخلاصها خطبها لنفسه وكان عمره صلى الله عليه وسلم آنذاك يناهز الخامسة والخمسين وظلت السيدة زينب بنت خزيمة على قيد الحياة بعد زواجها من النبي صلى الله عليه وسلم عامين اثنين ثم انتقلت إلى رحمة الله رضي الله عليها ورضت عنه تعالى.
فلما رأى هؤلاء الأفاكين المغرضين الذين يتقولون على الرسول صلى الله عليه وسلم ويتهمونه بالشهوانية والأنانية في هذا الزواج الشريف الذي لا يهدف إلا إلى غاية نبيلة كريمة والذي يعبر عن المروءة والشهامة التي كان يتحلى بها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم .
6-
السيدة أم سلمة هند المخزومية رضي الله عنها:
وهى أرملة عبد الله بن عبد الأسد من الأولين السابقين إلى الإسلام. كان قد هاجر إلى الحبشة ومعه زوجته السيدة أم سلمة التي خرجت فراراً بدينها. واستشهد زوجها البطل في غزوة أحد مخلفاً لها أيتامها الأربعة: ابنان صغيران وبنتان صغيرتان وكانوا بلا كفيل ولا معين. وكان عمر السيدة أم سلمة حينئذ بين خمس وخمسين وستين سنة.
فقدر النبي صلى الله عليه وسلم ظروفها الصعبة وحاجة العائلة إلى من يكفلها ويرعاها فخطبها ولكنها اعتذرت في بداية الأمر وقالت:"إني مسنة. وإني أم أيتام، وإنني شديدة الغيرة ". فرد عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأرسل لها يقول بما معناه:"أنا لا أعبأ بالسن، أما الأيتام فأضمهم إلي، وإني أدعو الله سبحانه أن يذهب عن قلبك الغيرة ".
واستجاب الله لدعاء النبي فذهبت عن قلبها الغيرة ووافقت على الزواج فتزوجها عليه السلام وتربى أيتامها تربية حسنة وأحبهم عليه الصلاة والسلام حباً أكثر مما أحبهم أبوهم.
هذه هي السيدة أم سلمة التي صححت خطأ أبى هريرة وأفتت مع السيدة عائشة أن الصوم يجوز في حالة الجنابة.
7-
السيدة زينب بنت جحش:
هي ابنة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخت عبد الله بن جحش البطل الذي استشهد في غزوة أحد.
كان قد زوجها الرسول صلى الله عليه وسلم بزيد بن حارثة متبناه وكان يعرف بزيد بن محمد ولكنها رأت أنها أشرف من زيد بسبب حسبها ونسبها وأن زيداً كان عبداً مملوكاً قبل أن يتبناه الرسول صلى الله عليه وسلم. وهكذا ساءت العلاقات بينهما وكما ورد في بعض الروايات أنها كانت تغلظ له في القول. فشكا زيد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأراد أن يطلقها ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم منعه من الطلاق ونصحه قائلاً: "أمسك عليك زوجك " ولكن ظل الخلاف بينهما يزداد حتى طلقها زيد.
في تلك الآونة أراد الله سبحانه وتعالى أن يقضي الرسول صلى الله عليه وسلم على نظام التبني الذي كان سائداً منذ أيام الجاهلية. وتحت هذا النظام كان العربي يتبنى ولد غيره فيقول له: "أنت ابني، أرثك وترثني ".
وكان يصبح هذا الولد بمثابة ابنه الحقيقي في الأمور كلها حتى فيما يتصل بتحريم علاقة الزواج وما كان لله سبحانه أن يبقيهم ويقرهم على مثل تلك العادات التي كانت سائدة في الجاهلية كنظام التبني. فأبطل الله سبحانه وتعالى هذا النظام كما ورد في صحيح البخاري وصحيح مسلم.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال:
"إن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد، حتى نزل القرآن {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت زيد بن حارثة بن شرحبيل ".
وبعد أن طلق زيد زينب، أمر الله سبحانه رسوله أن يتزوجها لإبطال نظام التبني إبطالاً كاملاً.
ويشهد القرآن الكريم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخشى من ألسنة الناس أن يقولوا: تزوج محمد امرأة ابنه فقد جاء في القرآن الكريم {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} ] سورة الأحزاب [.
ومع هذا الحكم القطعي نزلت آية أخرى تبين بوضوح أنه لن يأتي نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم وهى:
وعلينا أن نتأمل الآن بهدوء:
أنه ليس هناك نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم ومحمد صلى الله عليه وسلم يخشى من ألسنة الناس إذا تزوج امرأة متبناه لأنه أمر خطير جداً، فلا قدر الله إن لم يتمكن محمد صلى الله عليه وسلم وهو آخر الأنبياء من إبطال نظام التبني والقضاء عليه فمن ذا الذي يأتي بعده للقضاء على هذه البدعة؟.
إذا خشي النبي صلى الله عليه وسلم والعياذ بالله من ألسنة الناس وترك هذا الأمر وأخفق في القضاء على هذا النظام فكيف يتسنى لآخر أن يكون أجرأ وأشجع من النبي صلى الله عليه وسلم هذه نقطة على جانب كبير من الأهمية وعلينا أن نفهم هذا الوضع جيداًَ.
وقد ورد نص صريح في القرآن الكريم {زَوَّجْنَاكَهَا} وهم يحتم عليه صلى الله عليه وسلم أن يتزوج من مطلقة متبناه زيد والحكمة من وراء ذلك هو القضاء على هذه البدعة، بدعة التبني وكان لابد للنبي صلى الله عليه وسلم أن يرسم المنهاج أمام المؤمنين، لأنه إن لم يفعل بنفسه فمن ذا الذي يستطيعه غيره؟ لاسيما أنه لن يجيء بعد الرسول الخاتم، نبي آخر.
كانت هذه هي الظروف والملابسات وراء هذا الزواج وحكمته التشريعية الكبرى.
أما ما يردده الأفاكون المغرضون فعلينا أن نقف عليه أيضاً قليلاً كي ندرك مدى افتراءهم وحقدهم على النبي صلى الله عليه وسلم.
إن أعداء الإِسلام قد استغلوا بعض الروايات المذكورة في بعض كتب التفسير وفى الحقيقة، ليس هناك أي سند لهذه الروايات من ناحية العقل والرواية وهى مستحيلة من ناحية العقل والدراية.
إنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم مر ببيت زيد ذات يوم وهو غائب، فرأى زينب فوقعت في قلبه فأحبها، فقال:" سبحان مقلب القلوب " سمعت زينب ذلك فأخبرت زوجها بما سمعت من الرسول صلى الله عليه وسلم فلما علم زيد أن زينب وقعت في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه يريد طلاقها فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم:"أمسك عليك زوجك " وفى قلبه غير ذلك، فطلقها زيد كي يتزوج بها الرسول صلى الله عليه وسلم.
وجدير بالذكر أن الذي يروج لهذا الافتراء لا يذكر عامداً متعمداً أمرين هامين في هذه القضية وهما:
1-
أن زينب بنت جحش رضي الله عنها هي ابنة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ظلت تسكن مع الرسول صلى الله عليه وسلم منذ طفولتها حتى وقت زواجها بزيد ولم يكن هناك حينئذ حجاب.
2-
أن النبي صلى الله عليه وسلم زوجها بزيد على الرغم مما تتمتع به من حسب ونسب.
والآن لنسأل الضالين المضلين الذين يروجون لهذا البهتان: هل من الممكن لامرأة نشأت وترعرعت مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغت مبلغ النساء ألا تقع في قلبه وهى بكر فإذا ما صارت ثيباًَ ومتزوجة بشاب آخر صادفت هوى في نفسه؟
ألم يكن من الممكن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها وهي لم تزل بعد في دار معه؟ لماذا أجبرها على الزواج بمتبناه إذا كان يحبها؟ هل كان ثمة ما يحول دون ذلك؟.
يفترض الأفاكون أن النبي صلى الله عليه وسلم رآها أول مرة في بيت زيد فوقعت في قلبه- إن هذا هو الافتراء بعينه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
إن من أهم مآثر الإسلام، تلك المآثر التي تميزه عن سائر النظم المطلقه، وهي التوفيق التام بين الناحية الخلقية والناحية المادية من الإنسانية
…
وهذا سبب من الأسباب التي عملت على ظفر الإسلام أينما حل، لقد أتى الإسلام بالرسالة الجديدة التي لا تجعل احتكار الدنيا شرطاً للنجاة في الآخرة
…
هذه الخاصية الظاهرة في الإسلام تجلوا الحقيقة الدالة على أن النبي- صلى الله عليه وسلم كان شديد الاهتمام بالحياة الإنسانية، في المظهر الروحي والمظهر المادي
…
(ليوبولد فابس)
الرَّسَائِلُ الحَرْبِيِّة في عصر الدّوْلة الأيوبيَّة
للدكتور محمد نغش
أستاذ مساعد بكلية الشريعة بالجامعة
رسائل بشأن حصني الكرك والشوبك في عهد الملك العزيز:
وكما كتب القاضي الفاضل عن الكرك والشوبك في عهد السلطان صلاح الدين فكذلك نراه يكتب في عهد الملك العزيز ثلاث رسائل الأولى عن الكرك والثانية عن الشوبك والثالثة يرسلها عن طريق أحد العاملين في الديوان.
فأما الأولى فيستهلها بدعاء طويل يستغرق نصف الرسالة تقريباً، ثم يزف إليه بشرى دنو النصر وينتقل بعدها إلى الغرض من الرسالة وهو وصف المعركة الحربية.
فالمنجنيقات تهدم الأبراج المشيدة، وتدمر الأسوار الغليظة التي يشبهها بالسكارى في انهيارها، فقد أعطتها المنجنيقات بكفها الخمر التي فيها هلاكها، فلم تبق الحجارة الطائرة من هذه المنجنيقات حجارة قائمة في هذا الحصن، فقد انهدمت قواعده وأركانه.
ثم يصف السبب الذي من أجله فتح الحصن فيقول: ولولا الخندق الذي
…
هو واد من الأودية واسع عميق لما تعذر الزحف إليهم والهجوم عليهم، ونرجو من الله الكريم تسهيل هذا الحصن العظيم، فتحه إنه جواد كريم [1] .
وأما رسالة الشوبك فالظاهر أنها قد تلت رسالة الكرك، إذ أنها تعد مكملة لها، ولذا لم تستهل بالدعاء كسالفتها، واستفتحت هكذا:"قد صدرت هذه المكاتبة إلى الحضرة دالة على ما نحن فيه من نعم الله تعالى مغتبطون وإنا بحمد الله مستظهرون وبنصره مستبشرون ولآلائه حامدون ولأعدائه مجاهدون، فأعمالنا لله بنيات خالصة وعزائمنا في سبيله مقدمه غير ناكصة "[2] .
ثم يعود ثانية إلى وصف الحصن الذي يحاصرونه فقد هدموه وقتلوا الكثير ممن فيه إلا أنه يبقى أمامهم عملية ردم الخندق الذي كانوا يلجأون إليه وتسويته بالأرض حتى يمكن الأخذ من العدو بالمخنق
ويختتم الرسالة بتصوير نهائي للموقف من القتال، فيقول: "فإن أبطأ العدو عن النجدة فالنصر سريع، والحصن ومن فيه صريع، والقلوب وارفة بحصول النجح، وقد علم كل منا أن متجره قد فاز بالربح، فما يسمع منا بحمد الله ملل ولا ضجر، ولا تسفر هذه النوبة إلا عن نجح وظفر [3] .
يبدأ القاضي الفاضل رسالته الثالثة بمقدمة قصيرة، وهى:"أدام الله أيام المجلس، ولازالت مناقبه لزهر السماء مخجلة، ومكارمه في درجات المحامد متوغلة، وفواضله على أوليائه مفضلة، وسطواته بأعدائه منكلة "[4] .
ثم يصف عمل المجانيق في الحصن في أسلوب من الجناس هكذا:"هدمت وهدت، وشدخت وسدت، ورضخت ورضت، وقوضت وأفضت، وقدحت وفدحت، ومحقت ومحت "[5] .
ويضيف وصفا تفصيلياً لما أصاب الأعداء في أثناء تهدم الحصن، إذ يقول:"قد جمعت الحجارة في الإسقاط بين رؤوس الأبراج، ورؤوس الأعلاج، فرمت الشرار في الواقفين عليها لحمايتها، وأرت الفرنج باهتدائها إلى إرادتها غاية غوايتها، فما أخرج أحد منهم رأساً إلا دخل في عينه نصل، وما هجر قراب الإسلام سيف إلا وله مع رقاب الكفر عند قطعها وصل، وما على الحجر في الإسراف والتبذير حجر، والكل ليله من نقع الحوافر من سناء الأسنة فجر، ولقد أخذنا من القوم بالمخنق، وشرعنا في طم الخندق [6] .
والحرب أقوم من ساق على قدم
والنصر أشهر من نار على علم
والقلعة سماء تمطر بحجارتها، وترمى شياطينها رجوم قوارير [7] النفط بشرارها [8] .
لم ترد الرسائل السالفة في المصادر التاريخية التي بين أيدينا، ولذا لم نستطع تحديد تاريخ حدوثها، كما أن القاضي الفاضل لم يشر إلى تواريخها كما يفعل في بعض رسائله من هذا النوع.
ونلاحظ أن مقدمات الرسائل تختلف من حيث الطول والقصر طبقاً للمناسبة التي ترد فيها، فالقاضي الفاضل يطيل الدعاء في رسالته الأولى بينما لا يذكره في الثانية، وفي الثالثة يأتي به كلمات مقتضبة.
والرسائل الثلاث تكمل بعضها حتى تكاد تكون رسالة واحدة ذات هدف واحد، وتتسم رسائل التهنئة في عهد الملك العزيز بقوة العبارة، واستخدام المحسنات البديعية، وعلى قمتها الجناس والاستعارة والسجع، كما أن الألفاظ منتقاة، فيها جزالة وفخامة تناسب موقف النصر وجو المعارك الحربية، وهى لا تختلف عن الرسائل التي كتبت للتهنئة في عهد السلطان صلاح الدين، فالكاتب واحد والأسلوب لم يتغير.
كتاب المعظم توران شاه إلى جمال الدين يغمور نائب الشام بعد هزيمة الفرنج لدى المنصور سنة 684 هـ: 1251 م:
جاء في هذا الكتاب: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [9]{وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [10] . {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [11] . {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [12] . {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [13] .
نبشر المجلس السامي الجمالي، بل نبشر الإسلام كافة، بما من الله به على المسلمين، من الظفر بعدو الدين، فإنه كان قد استفحل أمره، واستحكم شره، ويئس العباد من البلاد، والأهل والأولاد، فنودوا:{لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [14] .
ولما كان يوم الأربعاء مستهل السنة المباركة، تم الله على الإسلام بركتها، فتحنا الخزائن وبذلنا الأموال، وفرقنا السلاح، وجمعنا العربان والمطوعة، واجتمع خلق لا يحصيهم إلا الله تعالى، فجاءوا من كل فج عميق، ومن كل مكان بعيد سحيق.
ولما رأى العدو ذلك أرسل يطلب الصلح على ما وقع عليه الإتفاق بينهم وبين الملك العادل أبى بكرة، فأبينا، ولما كان في الليل تركوا خيامهم وأثقالهم وأموالهم، وقصدوا دمياط هاربين، فسرنا في آثارهم طالبين، ومازال السيف يعمل فيهم عامة الليل، ويدخل فيهم الخزي والعار.
فلما أصبحنا نهار الأربعاء قتلنا منهم ثلاثين ألفاً، غير من ألقى نفسه في اللجج. وأما الأسرى فحدث عن البحر ولا حرج، والتجأ الفرنسيس إلى المنية، وطلب الأمان فأمناه، وأخذناه، وأكرمناه، وتسلمنا دمياط بعونه وقوته وجلاله وعظمته [15] .
هذا الكتاب هو آخر كتب التهنئة التي بين أيدينا عن العصر الأيوبي، والظاهر أنه كتب بقلم الملك المعظم، ولم يلتزم فيه السجع ولا المحسنات البديعية، ولكنه اقتبس من القرآن الكريم في افتتاح كتابه، حيث ذكر خمس آيات متتاليات، وكذلك ذكر آية سادسة في ثنايا كتابه، وتمتاز هذه الرسالة بأنها تسرد الوقائع في أسلوب تاريخي، الغرض الأول منه هو إثبات الحقائق في سهولة ويسر.
كتب الاستغاثة:
كتب السلطان صلاح الدين إلى الخليفة الموحدي بالمغرب:
أرسل السلطان صلاح الدين إلى المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، الخليفة الموحدي بالمغرب، ثلاث رسائل المقصود منها جميعها، استنجاد صلاح الدين بجيوش الخليفة في الحرب ضد الصليبيين، وفي أثناء قتاله معهم حول عكا.
اثنتان من هذه الرسائل بقلم القاضي الفاضل، الأولى منها سنة ست وثمانين وخمسمائةْ (1191 م) ، ثم أرسل الرسالة الثالثة في نفس السنة، ولكن هذه المرة لم تكن برأي القاضي الفاضل مما جعله يحرر رسالة إلى السلطان صلاح الدين بشأنها، ويبين ما لا يرتضيه فيها.
ويعقب هذه الرسائل رسالة بقلم القاضي الفاضل، مرسلة من السلطان صلاح الدين إلى شمس الدولة بن منقذ، سفيره إلى الخليفة الموحدي بالمغرب ينهى إليه أخبار القتال حول عكا.
الرسالة الأولى:
يبدأ القاضي الفاضل الرسالة بالدعاء للخليفة الموحدي، وينعته بسيدنا أمير المؤمنين، وسيد العالمين، وقسيم الدنيا والدين.
ثم يبين السلطان صلاح الدين غرضه منها، وهو أن يشترك الخليفة الموحدي معه في الجهاد، ويفتخر بأمجاده في تطهير الأرضين المصرية واليمنية من الضلالة وكذلك تطهيره بيت المقدس من الصليبيين الذين كانوا يحتلونه، ويدنسون أرضه.
فهناك غلب الشرك، وأنقلب صاغراً، واستجاش كافر من أهله كافراً، واستغضب أنفاره النافرة، واستصرخ نصرانيته المتناصرة [16] .
فهم يجودون بأنفسهم وأولادهم، ويمدون الحملة الصليبية بأموالهم، كل خرج متطوعاً، وأهطع مسرعاً، وأتى متبرعاً، ودعا نفسه قبل أن يستدعى، وسعى إلى حتفها قبل أن يستسعى، حتى ظننا أن في البحر طريقاً يبساً، وحتى تيقنا أن ما وراء البحر قد خلا وعسا [17] .
وهنا يهجم عليهم جيش السلطان صلاح الدين ويفتك بهم، ويضطرهم إلى اللجوء إلى الخنادق، وإلى نصب الستائر، ولكنه كل ما قتل منهم مائة، وصلت النجدة بألف.
ثم يصف السلطان صلاح الدين خوفه من تكاثر الإمدادات لهم من البلاد الغربية، فيقول: "لا يؤمن على ثغور المسلمين أن يتطرق العدو إليهم وإليها، ويفرغ لها ويتسلط عليها والله من ورائهم محيط.
وإذا قسمت القوة على تلقى القادم وتوقى المقيم، فربما أضر بالإسلام انقسامها، وثلمه والعياذ بالله انثلامها " [18] .
وهو يمجد قوة المغرب البحرية، فمن ذلك قوله:"فلو بزقت فيهم بازقة غربية لأغرقهم طوفانها، ولو طلعت عليهم جارية بحرية، لنعقت فيهم بالشتات غربانها "[19] .
وفي نهاية هذه الرسالة يمجد السلطان صلاح الدين الخليفة المغربي، ويستثير العاطفة الدينية فيه، ويعقد مقارنة بين أسطول المسلمين وأسطول الصليبيين، وهو يخشى أن ينتصر الكفر على الإسلام، ويدعو الله أن ينصر المسلمين بما يمدهم الخليفة المغربي من أسطوله البحري، ومدده العسكري.
الرسالة الثانية:
يكرر القول فيها عن أمجاده السالفة الذكر، ولكن ببعض الإسهاب من أول وصوله إلى مصر، وإقامة الجمعة وعقد الجماعة فيها، وغزواته في مصر، التي كانت مقدمة لملك الشام الإسلامي باجتماع الكلمة عليه، ومقدمة لملك الشام الفرنجي بانقياد المسلمين له، واتفاق الملوك المجاورين على طاعته، وكذلك تفصيل غزواته ضد الفرنج وكسرهم الكسرة الكبرى في بيت المقدس، إلى غير ذلك من أخذ الثغور، وافتتاح البلاد، وإثخان القتل فيهم والأسر لهم.
ثم يصف خروج النجدات الصليبية في كثرتها وقوتها ومنعتها، وغناها ومسارعتها ومبادرتها، وأنه لا يمضي يوم إلا مع قوة تتجدد، وميرة تصل، وأموال واسعة تخرج، ومعونات كثيرة تحمل.
ويشير إلى أنهم حفروا خندقاً حول معسكرهم من البحر إلى البحر، وأداروا حولهم ومن وراء الخندق سوراً مستوراً بالستائر، ورتبوا على أبواب هذا السور جماعات مزودة بأدوات الحصار التي أخرجوها من مراكبهم [20] .
وأنهم اغتنموا أوقاتاً لم تكن العساكر فيها مجموعة وارتادوا ساعات لم تكن الأُهُبُ فيها مأخوذة [21] ، فقد انتقل معظم الجيش الصلاحي إلى الخروبة في 3 رمضان سنة 585 هـ= 15 أكتوبر 1189م بقصد إعادة ترتيب الجيش وتنظيمه وتقويته، أو لحلول رمضان شهر الصيام، أو لمجيء الشتاء بأمطاره وبرده! أو لغيبة الملك العادل بعساكره المصرية، أو للحمى التي أصابت السلطان صلاح الدين [22]
ثم يحكي للخليفة الموحدي أن أمر العدو قد تطاول، وأن خطبه قد تمادى لوصول النجدات المستمرة إليه، ومنها الحملة التي وفد على رأسها ملك الألمان في حشود كبيرة وأموال كثيرة.
وبعدها يبين له حاجته إليه في تطويق العدو والقضاء عليه فيقول:"إن هذا العدو لو أرسل الله عليه أسطولاً قوياً مستعداً يقطع بحره، ويمنع ملكه لأخذنا العدو إما بالجوع والحصر، أو برز فأخذناه بيد الله تعالى التي بها النصر"[23] .
والسلطان صلاح الدين يطلب منه المساعدة إما بالرجال أو بالمال إذا تعذرت المساعدة بالأسطول فيقول: "وإن كانت دون الأسطول موانع: إما من قلة عدة، أو من شغل هناك بمهمة، أو بمباشرة عدو، ماتحصن منه العورة أو قد لاحت منه الفرصة، فالمعونة ما طريقها واحدة، ولا سبيلها مسدودة، ولا أنواعها، محصورة تكون تارة بالرجال وتارة بالمال [24] . ويلي ذلك تمجيد للخليفة الموحدي ويستثير فيه حمية الإسلام، ويعقد مقارنة بين الكفار في حربهم لنصرة الكفر، والمسلمين في حربهم لنصرة الإسلام، وأن أهل الجنة أولى بقتال أهل النار، وأنه يطلب نجدة مغربية بحرية، لما للمغاربة في البحر من قوة ضاربة.
وتختلف الرسالة الثانية عن الأولى في أن السلطان صلاح الدين يريد أن يزيل أسباب التوتر في العلاقات بين المغاربة والدولة الصلاحية، وهو يوصى رسوله بأن يشرح للخليفة الموحدي براعه الدولة الصلاحية مما نسب إليها، وقد سبق الإشارة إليه في الكلام عن الوصايا.
الرسالة الثالثة:
جاء فيها بعد التحية التي زاد فيها السلطان صلاح الدين وأفاض، تحديد ما فتحه من بلاد الشام، كما حدد الباقي منها في يد الصليبيين وهى: ثغر طرابلس، وصور، ومدينة أنطاكية، وهو يرجو الله أن يفك أسرها.
ثم يشير إلى النجدات التي لبت صرخة الصليبيين في الشام، فأخرت فتح بقية البلاد التي في أيديهم، ويذكر مجيء ملك الألمان إليهم في البر والبحر بأعداد مهولة.
ويقول:"إن عدة الأعداء مائة ألف أو يزيدون، وأنه حاربهم بأصدق عزيمة، حتى أصبحوا لا يستطيعون قتال الثغر، لأنهم محصورون أشد الحصر، غير أنهم خندقوا أو سوروا ".
وخرج ملك الألمان قاصداً الشام، فبعث إليه صلاح الدين من يلقاه، ويضطره إلى تغيير مساره، سالكاً مسلكاً وعراً، فأدركه الموت غرقاً، وبقي له ولد هو الآن المقدم والمؤخر، وقائد الجمع المكسر، فيعود إلى عكا في البحر تهيباً أن يسلك البر.
وقبل أن ينهى صلاح الدين رسالته يقول: "كان المتوقع من تلك الدولة العالمية، والعزمة الفادية، مع القدرة الوافية، والهمة المهدية الهادية، أن يمد غرب الإسلام المسلمين بأكثر مما أمد به غرب الكفار الكافرين فيملأها عليهم جواري كالأعلام، ومدنا في اللجج سوائر كأنها الليالي مقلعة بالأيام، تطلع علينا معشر الإسلام آمالاً، وتطبع على الكفار آجالاً ".
وكان سفير السلطان صلاح الدين، أو الممثل الشخصي له على حد قولنا الآن إلى ملك المغرب، هو الأمير أبو العزم عبد الرحمن بن منقذ، وقد ورددت في الرسالة كلمة تشيد بمكانته، وعلو منزلته، مما سبق الإشارة إليه في الوصايا، وصحبت هذه الرسالة هدية، وفصلت محتوياتها [25] .
وتختم هذه الرسالة بخاتمة طويلة لم نعهد مثلها فيما قبل سواء في المكاتبات المرسلة إلى الخليفة العباسي أو الخليفة المغربي، ونصها: "والسلام الصادر عن القلب السليم، والود الصميم والعهد الكريم، على حضرة الكرم العلية، وشدة السيادة الجلية، سلام مودة ما وفد الغرب قبلها مثلها، ورسالة ما خطرت إلى أن نفذت وراءها المحبة رسلها، وليصل السلام ورحمة الله وبركاته، ورضوانه وتحياته، إن شاء الله تعالى [26] .
رسالة إلى سفير السلطان صلاح الدين في المغرب:
أرسل القاضي الفاضل عن السلطان صلاح الدين إلى شمس الدين ابن منقذ في المغرب ينهى إليه أخبار القتال حول عكا.
فيخبره أن عدة من قتل على عكا من الفرنج تجاوز الخمسين ألفاً، وأن ملكي فرنسا وإنجلترا وملوكا آخرين أسرعوا لنجدة الصليبيين في قوة هائلة، فيها سفن الواحدة كأنها مدينة وفيها الخيول والخيالة.
ويصور له ثبات المقاتلين المسلمين أمام هذه الجيوش الكبيرة فيقول:"فما وهنَّا لما أصابنا في سبيل الله وما ضعفنا، ولا رجعنا وراءنا ولا انصرفنا، بل نحن بمكاننا ننتظر أن يبرزوا فنبارزهم، ويخرجوا فنناجزهم، وينشروا فنطويهم، وينبثوا فنزويهم، وأقمنا على طرفهم، وخيمنا على مخنقهم، وأخذنا بأطراف خندقهم "[27] ولكنه يريد منه أن يبلغ المغاربة أن الجيوش العربية في المشرق العربي في حاجة إلى نجدتهم، حتى يقفوا في مواجهة هذه الدول المجتمعة على حربهم، الراغبة في الاستيلاء على بلادهم.
ثم يقول في نهاية رسالته: "والأمير يبلغ ما بلغه من خطب الإسلام وخطوبه، ويقوم في البلاغ يوم الجمعة مقام خطيبه"[28] .
وهذه العبارة تدل على أن الدولة الأيوبية كانت تتبع أسلوب الإذاعة لقضاياها ليس في داخل البلاد فحسب، بل على المستوى الخارجي، وذلك بغرض الحصول على تأييد مادي ومعنوي من الشعوب الأخرى، وعلى الصعيد الشعبي في خطبة يوم الجمعة.
رسالة إلى الخليفة العباسي بشأن ملك الألمان:
يبدأ القاضي الفاضل الرسالة بالدعاء كعادته، وهو دعاء قصير، جاء في نهايته:"ولا زالت رايته السوداء بيضاء الخبر، محمرة المخبر في العداة، مسودة الأثر"[29] والراية السوداء كما نعرف كانت شعار الخلافة العباسية، وهو هنا يطابق بين هذه الكلمة وكلمة بيضاء، ويكنى في العبارة التالية عن الانتصار على الأعداء
وينتقل إلى وصف كتاب الخليفة فيشبهه بالقرآن الكريم، وأن السلطان يتقبله بالخشوع، ويتلوه على أعوانه مسترهفاً به لعزائمهم. مستجزلاً به لمغانمهم، فهو بمثابة النور لهم يهديهم يوم نزال عدوهم، ويشبه تأثيره بثلاث جمل مترادفة تؤدي معنى واحداً، فأثر الكتاب فيهم، كااإقتداح في الزند، وكالانبجاس من الصلد، وكالاستدلال من الغمد [30] ويعود إلى التشبيه ثانية فيقول:"وكأنما أعطوا كتاباً من الدهر بالأمان، أو سمعوا منادياً ينادي للإيمان"[31] . ثم يتبع ذلك بعدة استعارات وكنايات مترادفة يبين فيها مكانة أتباع السلطان في الجهاد في سبيل الله ورسوله وخليفته العباسي وفي آخر هذا الوصف يقول: "وإذا رموا فأصابوا قالوا: ولكن الله رمى"[32] . محللاً بذلك لآية من القرآن الكريم.
ثم هو يشكو للخليفة على لسان السلطان صلاح الدين من طول المدة والكلف الثقيلة التي يتكبدونها في قتالهم الشرس المرير، ويكنى عن ذلك بهذه العبارات:"فالبرك قد أفضوه، والسلاح قد أخفوه، والدرهم قد أفنوه"[33] . ويستنجد بالخليفة فيقول: "والخادم يناشد الله المناشدة النبوية في الصيحة البدرية، اللهم إن تهلك هذه العصابة، ويخلص الدعاء، ويرجو على يد أمير المؤمنين الإجابة"[34] .
ونرى القاضي الفاضل يحل حديثاً نبوياً، ليزيد عبارته حسناً في الأداء، وجمالاً في تأدية المطلوب، بعقد مقارنة لطيفة بين دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، ودعاء السلطان صلاح الدين.
ثم يصف الكاتب موقف المسلمين تجاه هذا الحشد الجامع فيقول:"هذا والساحل قد تماسك، وما تهالك، وتجلد، وما تبلد، وشجعته مواعد النجدة الخارجية، وأسلته عن مصارع العدة الدارجة، فكيف به إذا خرج داعية الألمان، وملوك الصلبان، وجموع ما وراء البحر، وحشود أجناس الكفرة. وقد حرم باباهم- لعنة الله عليهم وعليه- كل مباح، واستخرج منهم كل مذخور، وأغلق دونهم الكنائس، ولبس وألبسهم الحداد، وحكم عليهم أن لا يزالوا كذلك أو يستخلصوا المقبرة، ويعيدوا القمامة أو {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} [35] .
ويستمر القاضي الفاضل في استخدام الكناية عن ثبات أتباعه، ثم يعرج على وصف خروج ملك الألمان وملوك الصلبان ومن تبعهم، وجمعهم الأموال الجمة في مظاهرة صليبية ذات صبغة دينية، وهنا يقتبس القاضي الفاضل آية من القرآن الكريم ينهي بها هذه الفقرة، وهى تدل على حسن الاختيار.
ويعقب بالدعاء على ملك الألمان بأن يخذله الله، وأن ينصر المسلمين وما النصر إلا من عند الله، وأن لا يكشف عجزهم أمام عدوهم اللعين.
وإزاء هذا الموقف يعود القاضي الفاضل ثانية ليسهب فيه، فهذه الحملة الصليبية جاءت طامعة في حشود كثيرة، مما يستفرغ عزائم المسلمين، ويستنفذ خزائنهم، وأن من واجب الخليفة بصفته الدينية أن يحفظ على الأمة الإسلامية قبلتها، وأن ينزل بالصليب الهزيمة وأنه لولا اتخاذ الخليفة الكلام على محمل التجريح لأفاض القاضي الفاضل فقال:"ما يبكي العيون، وينكي القلوب، وتنشق له المرائر، وتشق له الجيوب"[36] . وهو يشير بذلك إلى الحالة السيئة التي آل إليها الأمر، والتي تستوجب إثارة النزعة الدينية لدى الخليفة العباسي.
ثم يصف موقف السلطان صلاح الدين البطولي هو وأخيه وأولاده، وأنه يفوض أمره إلى الله، ثم يعود إلى طلب النجدة من الخليفة، فيقول:"إن لم يشتك الدين إلى ناصره والحق إلى من قام بأوله والى اليوم الآخر يقوم بآخره، فإلى من يشتكى البث، وعند من يتفرج بالنفث؟. ومنفعة الغوث قبل العطب، والنجاة قبل أن يصل الحزام (الطبيين) والبلاغ يقبل أن يصل السيل الزبي"[37] . وفي نهاية هذه الفقرة يستخدم القاضي الفاضل مثلين معروفين لتوضيح كلامه.
وقبل أن يختم رسالته يخبر السلطان الخليفة أنه كان يود أن يأتي له، ولكنه خاف أن يقول عنه عدو الله: أنه فر، ولذا يريد من الخليفة أن يعده قد حضر بنفسه، وكأنه قد وقف بباب الخليفة ضارعاً، وناجي بالقول صادعاً.
والسلطان صلاح الدين على الرغم من عض الزمان له، لا يزال قائماً حتى ينصر أو يعذر، وأنه لا يصل العدو إلى حرم ذرية أحمد صلى الله عليه وسلم، ومن ذرية أيوب وأحد يذكر.
ويختم القاضي الفاضل رسالته بالدعاء للخليفة هكذا:"أنجز الله. لأمير المؤمنين مواعد نصره: وتم مساعدة دهره: وأصفى موارد إحسانه وأرسى قواعد سلطانه! وحفظه وحفظ به. فهو خير حافظاً، ونصره ونصر على يديه. فهو أقوى ناصراً. إن شاء الله "[38] .
مكاتبات من القاضي الفاضل إلى الملك العادل بدمشق في الجهاد في سبيل الله:
في سنة 593 هـ: 1197 م أرسل القاضي الفاضل رسالة إلى الملك العادل بدمشق يحثه على قتال الفرنج، ويشكره على ما هو بصدده من محاربتهم، وحفظ حوزة الإسلام، فمن ذلك قوله في بعض تلك الكتب:"هذه الأوقات التي أنتم فيها عرائس الأعمار، وهذه النفقات التي تجري على أيديكم مهور الحور في دار القرار، وما أسعد من أودع يد الله ما في يديه، فتلك نعم الله عليه، وتوفيقه الذي ما كل من طلبه وصل إليه، وسواد العجاج في هذه المواقف بباطن ما سودته الذنوب من الصحائف، فما أسعد تلك الوقفات، وما أعود بالطمأنينة تلك الرجعات".
وكتب أيضاً في تلك السنة:"أدام الله ذلك الاسم تاجاً على مفارق المنابر والطروس، وحياة للدنيا وما فيها من الأجساد والنفوس، وعرف الملوك من الأمر الذي اقتضته المشاهدة، وجرت به المعاقبة في سرور".
ولو كان فيها تدبير لكان مولانا سبق إليه، ومن قلم من الإصبع ظفراً فقد جلب بنعله نفعاً، ودفع عنه ضرراً، وتجشم المكروه ليس بضائر، إذا كان ما جلبه سبباً إلى المحمود وآخر سنوه أول كل غزوة، فلا يسأم مولانا نية الرباط وفعلها وتجشم الكلف وعملها، فهو إذا صرف وجهه أوجه واحد، وهو وجه الله، صرف الوجوه إليه كلها {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [39][40] .
صدرت المكاتبتان المذكورتان في عهد الملك العزيز بن السلطان صلاح الدين، وهو يستنجد بالملك العادل الذي تولى حكم الشام سنة 592 هـ: 1196 م، والقاضي الفاضل يذكره بالثواب العظيم في الدنيا والآخرة، فالجهاد هو مهور الحور في دار القرار، وفي الدنيا نتيجته محمودة وخيره عميم، فالمجاهد إذا قصد وجه الله الواحد، فوجوه البرية تتجه إليه بأسرها.
ويختم كتابه الثاني بآية من القرآن الكريم تناسب ما ورد في المكاتبتين "بل إن هذه الآية وحدها، فيها إشارة إلى كل ما جاء في الرسالتين.
إندونيسيا في أرقام
* يبلغ عدد سكانها: 139 مليون، منهم 90%مسلمون 6%نصارى 4%هنادكة وبوذيون ووثنيون.
* مساحتها: 735.000 ميلاً مربعاً، وعدد جزرها: 13.577 جزيرة منها 6000جزيرة عامرة بالسكان.
* دخلها الإسلام في القرن الأول الهجري على يد التجار..
* عاشت في ظل الإسلام حوالي عشرة قرون، ثم خضعت للاستعمار الهولندي (350) عاماً وتحررت منه عام 1945م
* عاصمتها جاكرتا، وأهم جزرها سومطرة، جاوه، كاليمنتان، ولاويسي، ايريان، ونظام الحكم فيها جمهوري.
* في جاكرتا 1354مسجداً بالإضافة إلى 4000مصلى عدا 2898مجلساً تعليمياً و200مكتبة إسلامية.
* يبلغ عدد المساجد في اندونيسيا 92007 مسجداً و312565 مصلى.
* فيها 10069 كنيسة 27424مبشراً بالإضافة إلى مئات المدارس والمؤسسات التبشيرية.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
من ترسل القاضي الفاضل اللوحة 34.
[2]
ناكصة: محجمة، يقال نكص على عقبيه أي رجع.
[3]
من ترسل القاضي الفاضل اللوحة 35.
[4]
نفس المرجع السابق.
[5]
نفس المرجع السابق.
[6]
طم الخندق: ردمه وتسويته بالأرض.
[7]
القوارير: الأوعية.
[8]
من ترسل القاضي اللوحة 35.
[9]
سورة فاطر آية 34.
[10]
سورة الأنفال آية 10.
[11]
سورة الروم آية 4،5.
[12]
سورة الضحى آية 11.
[13]
سورة إبراهيم آية 34.
[14]
سوره يوسف آية 87.
[15]
ابن تغري بردى: النجوم الزاهرة جـ 6،367.
[16]
القلقشندي: صبح الأعشى جـ 6ص 526.
[17]
نفس المرجع ص 527.
[18]
انثلامها: انكسارها (القاموس المحيط) .
[19]
القلقشندي: صبح الأعشى جـ6 ص 526، 530.
[20]
العماد الأصفهاني: الفيح القسي في الفتح القدسي ص 179.
[21]
أبو شامة: الروضتين جـ2 ص 170.
[22]
العماد الأصفهاني: الفيح القسي في الفتح القدسي ص 179.
[23]
أبو شامة: الروضتين: جـ2 ص 171.
[24]
نفس المرجع السابق.
[25]
أبوا شامة: الروضتين جـ 2 ص 171،173.
[26]
أبوا شامة: الروضتين جـ 2 ص 173.
[27]
أبوا شامة: الروضتين جـ 2 ص 188.
[28]
أبوا شامة: الروضتين جـ 2 ص 189.
[29]
القلقشندي صبح الأعشى جـ 7 ص 127.
[30]
القلقشندي صبح الأعشى جـ 7 ص 127..
[31]
نفس المرجع السابق.
[32]
القلقشندي صبح الأعشى جـ 7 ص 128..
[33]
نفس المرجع السابق.
[34]
القلقشندي صبح الأعشى جـ 7 ص 127..
[35]
سورة الأنفال آية 48، والفقرة عن القلقشندي: صبح الأعشى جـ 7ص 128.
[36]
القلقشندي: صبح الأعشى جـ 7 ص 129.
[37]
القلقشندي: صبح الأعشى جـ 7 ص 129.
[38]
القلقشندي: صبح الأعشى جـ 7 ص 130.
[39]
سورة العنكبوت:69.
[40]
ابن كثير: البداية والنهاية جـ 13 ص 14.
مَذَابحُ بشرِيَّة جَمَاعِيَِّة لِلمُسلِمينَ
لِلشيخ محمود محمد سَالم
مدرس بكلية الدعوة وأصول الدين
إن بشاعة المجزرة البشرية الرهيبة التي تعرض لها آلاف المسلمين في ولاية آسام شمال شرقي الهند من القبائل ألآسامية الذين يدينون بالهندوسية خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة من شهر فبراير من هذا العام تفوق كل قدرات العقل على التصور وكل قدرات اللغة على التصوير والتعبير. لأن حقائقها الفظيعة المروعة فوق التخييل والتصوير، ولكنها في نفس الوقت- تضيف واحدة من عشرات بل مئات المآسي والمجازر البشرية التي تعرَّض- ويتعرض لأمثالها جماعات كثيرة من المسلمين في كثير من بقاع الأرض.
إن وكالات الأنباء العالمية أخذت تتناقل أخبار هذه المذابح المروعة يوماً بعد يوم خلال أكثر من ثلاثة أسابيع. وهى تقرر أن أعداد الضحايا المسلمين الذين سقطوا صرعى في موجة العنف الطائفي التي اجتاحت ولاية آسام الهندية لا يمكن حصرها. إذ ينقل شهود العيان من رجال الأعلام أنهم شاهدوا الجثث والأشلاء متناثرة عبر عشرات القرى في هذه الولاية.
ونقلت بعض التقارير الصحفية عن بعض المصادر أن عدد من تم إحصاؤهم من القتلى والمذبوحين قد بلغ ثلاثة آلاف وخمسمائة قتيل أغلبهم من النساء والأطفال والشيوخ. وعدد الجرحى يربو على عشرة آلاف جريح أكثرهم بين الحياة والموت. وأن أعداد الفارين من وجه هذا العنف تزيد على مائتي ألف مهاجر تكوَّنَتْ منهم مشكلة لاجئين ضخمة. وتنقل التقارير الصحفية أن المسئولين في الولاية والحكومة المركزية يتكتمون على حقيقة التقديرات الصحيحة للضحايا. وإخفاء المسئولين للتقديرات الصحيحة يخفي وراءه مأساة مروعة إذ تبرز حقيقة واضحة وهى أن ضحايا هذه المأساة يفوق عد العادين وتقدير الحاسبين..
أنه شيء مروع رهيب.. أن يندفع رجال القبائل الآسامية الذين يدينون بالهندوسية في شكل عصابات جماعية مسلحة بالحراب وأسنة الغاب واللهب والأسلحة النارية والقنابل اليدوية إلى القرى التي يسكنها كثير من المسلمين الذين ينتمون إلى أصل بنغالي. ويندفعون نحو السكان المسلمين يقتلون ويذبحون ويحرقون.. لا يفرقون بين الشيوخ والرجال والنساء والأطفال. لقد فرَّ الرجال هرباً من الموت وطلباً للنجاة في زعمهم تاركين النساء والأطفال والشيوخ ظناً منهم أن المقاتلين لا يمسونهم بسوء، توهماً.
إن كل قوانين العالم قديمه وحديثه تحرم قتل العجزة من الصبية والنساء والكبار. ولكن أنَّى يتأتى للوحوش الضارية أن تفرق بين صغير وكبير، وقوي وضعيف.
إن هؤلاء القتلة ليسوا مقاتلين شرفاء يقاتلون ويقتلون دفاعاً عن حق مسلوب أو انتصاراً لمبدأ أو واجب أو دفعاً لمذلة وهوان. وإنما هم إلى وحوش الغاب أقرب..
إنها لإحدى مهازل هذا العصر الذي ما يزال يتشوق فيه بعض الأدعياء أنه عصر الحريات وعصر حماية حقوق الإنسان وأنه عصر العلم والتكنولوجيا التي ذللت سبل العيش. ويسرت وسائل الحياة للإنسان وتبّاً له من عصر أصبحت فيه القوة الطاغية الباغية هي القانون الذي يتحكم في مصاير الملايين من البشر، ويعترف بها ويخضع لها أولئك المغلوبون المقهورون الذين يكادون ولا يكيدون، وتنتقص أقدارهم وتسلب أعمارهم فلا يجزعون ولا يأبهون. ولا يمتعضون. لأنهم عن قوانين الأرض وقوانين السماء غافلون ساهون.
ولكن لابد للمتتبع لأحداث العنف الطائفي في ولاية آسام الهندية من أن يسجل مجموعة من الحقائق المجردة عن عواطف الرحمة وأحاسيس الألم والإحباط.
ومن هذه الحقائق:
أن هؤلاء المسلمين الذين تعرضوا للقتل والتشريد والتحريق والذبح ينتمون إلى أصل بنغالي ولكنهم مستقرون في هذه الولاية منذ عشرات السنين. فمنهم من استوطنوا هذه الولاية منذ ما يزيد على سبعين عاماً وبالتحديد من 1911 م، استوطنوا هذه الولاية إبان الفتن الطائفية بين المسلمين والهندوس في مناطق مختلفة من شبه القارة الهندية. ومنهم من لجأ إلى هذه الولاية فراراً من المذابح الجماعية التي راح ضحيتها آلاف من المسلمين في فترة انفصال باكستان الشرقية التي أصبحت تسمى دولة بنجلاديش، والتي ساعدت الهند على قيامها لما كان يمثله اتحاد باكستان بشقيها من قوة للإسلام والمسلمين التي كانت الهند تخشى بأسها وتخاف بقاءها.
وقد بقي هؤلاء المسلمون البنغاليون في هذه الولاية وتكون منهم ما يمثل أغلبية سكان الولاية ولكن الأقلية الهندوسية سكان البلاد الأصليين تنظر إلى هذه الأغلبية على أنهم مهاجرون أجانب يمارسون أعمالهم في سهولة وإذعان لما يؤمرون به فيأتمرون ومع مرور الوقت نشط أغلب هؤلاء المهاجرين ساعيين إلى مراكز السلطة في الولاية وفي الحكومة المركزية..
وفي معركة الانتخابات المحلية التي بدأت يوم 2 فبراير تفجرت أحداث هذا العنف الطائفي الرهيب نتيجة للفشل في الوفاق بين أحزاب المعارضة الهندية وحزب المؤتمر الحاكم فقد وجد في قوائم الناخبين أكثر من خمسين ألفاً يعدهم السكان الأصليون أجانب مهاجرين وكانوا يرون أن تستبعدهم الحكومة القائمة من قوائم الناخبين ولكن الحكومة رفضت الإستجابة لمطالب المعارضة بحجة الصعوبة في التمييز بين السكان الأصليين والمهاجرين لأن كثيراً من هؤلاء المهاجرين استقروا في الولاية منذ أمد بعيد.
لقد كان من الممكن أن تحل هذه المشكلة بين الحكومة وأحزاب المعارضة عن طريق التفاهم في مخرج من هذا الخلاف ولكنه ترك بدون حل حتى تفاقمت الخلافات وتفجرت الأزمة الأمر الذي أدى إلى قيام المظاهرات الطلابية والشعبية من سكان آسام الهندوسية تطالب بطرد هؤلاء الأجانب فلما لم تستجب الحكومة لهذه المطالب وألقت القبض على مجموعة من زعماء الآساميين بعد فشل المفاوضات بين الجانبين. تفجر العنف واندفعت العصابات المسلحة من الهندوس تقتل المسلمين المهاجرين الذين رفضت حكومة الحزب الحاكم استبعادهم من قوائم الإنتخابات. ويظهر من هذه الحقائق أن هؤلاء المسلمين وقعوا ضحايا وفرائس للخلاف بين الهنادكة أنفسهم وبين المعارضة والحزب الحاكم وهو خلاف لا ناقة للمسلمين فيها ولا جمل..
إن المشكلة لا تقف عند هذا الحد فقد عمت الفوضى كل أنحاء الولاية. الأمر الذي دفع بالحكومة المركزية إلى إنزال سبعين ألف جندي من الجيش للسيطرة على حوادث العنف التي تتكرر كل يوم وتشتمل على إحراق القرى والمنازل والقتل وتقطيع أوصال الأطفال والنساء. واندفعت الآلاف طلباً للنجاة. وهذا العنف يقع ضحيته المسلمون البنغاليون. وتنقل بعض وكالات الأنباء أن كثيراً من هذه المناطق ما يزال متوتراً. وتقع فيها حوادث متفرقة ويكتشف كل يوم الجديد من الضحايا.
وبعد. فهل كانت معركة الانتخابات هي الدافع الحقيقي وراء هذه المذابح
…
؟ إن استقراء العلاقات التاريخية بين المسلمين والهندوس في شبه القارة الهندية وبخاصة منذ مطلع هذا القرن وتحت ظل الإستعمار الإنجليزي. يجعلنا نرى وراء هذه الأحداث دافعاً واحداً حقيقياً هو الحقد الدفين في نفوس الهندوس ضد الإسلام والمسلمين مصدقاً لقوله تعالى {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} وهو دافع يفسر كل علاقة بين المسلمين وأعدائهم من الوثنيين والصليبين واليهود والملحدين في كل زمان ومكان وفي كل حادثة يقع فيها التصادم بين جماعة من المسلمين وغيرهم من أعداء الإسلام
وإن لمسلمي الهند- في كل صُقع من شبه القارة الهندية حقاً ودَيْناً في عنق كل مسلم في قلب العالم الإسلامي وهم يتطلعون إلى إخوانهم المسلمين ويتابعون قضايا الإسلام والمسلمين ويتفاعلون معها تفاعلا إيجابيا قويا له أثره في كل القضايا الإسلامية. وان أحداث العنف التي وقعت في آسام ليست أول الأحداث ولا آخرها بل إنهم معرضون لأمثالها في كثير من مناطق شبه القارة الهندية. وللهند حكومة وشعباً مصالح حيوية مع العالم الإسلامي. ويستطيع العالم الإسلامي عمل الكثير لحماية إخوانهم المسلمين من خلال تهديد أو حماية مصالح الهند في العالم الإسلامي.. ولا تكفى صرخات الإنكار أو الاحتجاجات الشفوية أو المكتوبة.
إن السياسة في هذا العصر لا تخضع إلا لاعتبار حماية المصالح أو ضربها. فهل يقوم المسلمون في قلب هذا العالم بواجبهم نحو مسلمي الهند
…
؟ وهو الواجب الذي يمليه مبدأ الإخاء بين المسلم والمسلم لا يظلمه. ولا يخذله ولا يُسلمه
…
؟ وإن المسلمين يَد على من سواهم
…
؟ أتراهم يقومون بما يوجبه الإسلام أم تراهم يكتفون بالإحتجاجات التي لا يأبه بها أعداء الإسلام في هذا العصر
…
؟ وإننا لمنتظرون
…
أغرب ولادة
لوس أنجلوس- أغرب حادث ولادة تم في ولاية لوس أنجلوس الأمريكية في الولايات المتحدة هو ولادة طفل بعد وفاة أمه بتسعة أسابيع فقد توقف عقل الأم عن العمل وإن ظل قلبها ينبض عن طريق ضخ الدم والأكسجين صناعياً.. وقد أصر الأطباء على أن ينمو الجنين داخل رحم الأم أطول فترة ممكنة حتى ينمو طبيعيا وولد الطفل بعملية قيصرية وبعد الولادة مباشرة أوقف الأطباء الضخ الصناعي للقلب وأعلنوا عن وفاة الأم.
وأكد الأطباء أن هذه هي أطول فترة يعيشها جنين داخل رحم الأم بعد وفاتها إكلينيكيا حيث كانت أطول فترة سجلت من قبل هي ثلاثة أسابيع.. (الندوة)
نصائح
للشيخ إبراهيم الراشد الحديثي
رئيس محاكم منطقة عسير
الحمد لله رب العالمين القائل {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} والصلاة والسلام على عبده ورسوله خاتم النبيين الذي أرسله الله رحمة للعالمين فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة فصلوات الله وسلامه عليه صلاة دائمة إلى يوم الدين: أَما بعد.
فقد أَطلعتنا الصحف على ما كتبه بعض الأدباء والمفكرين جزاهم الله خيراً في الوضع الذي ولد فيه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي لا ينبغي لأحد ممن ينتسب إلى العلم أن يجهل أحواله ويجب على كل مسلم أَن يعرف نسبه وسيرته وهديه لأنه صلوات الله وسلامه عليه هو سيد ولد أدم وهو (محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر ابن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن مضر بن نزار بن سعد بن عدنان خيرة رب العالمين من خلقه وخاتم النبيين.
وأَمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، حملت به في شعب أبى طالب وولد في مكة بدار تعرف بدار ابن يوسف في شعب بنى هاشم المعروف بوضعه حتى اليوم. ولا يخفى على أحد يوم الاثنين لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول بعد أن حملته تسعة أشهر وذلك عام الفيل بعد قدوم الفيل بخمسين يوماً على الصحيح. ولما ولد تركوا عليه جفنة فانفلقت فلقتين فكان ذلك من مبادئ أمارات النبوة، فأعجب ذلك جده عبد المطلب وقال:"ليكون لابني هذا شأن"، وختنه جده يوم سابعه، ومات أَبوه وهو حمل في بطن أمه بين مكة والمدينة وأرضعته أمه سبعة أيام ثم أَرضعته ثوية مولاة أَبى لهب بلبن ابنها مروح، وقد أرضعت قبله عمه حمزة بن عبد المطلب، ثم أرضعته حليمة بنت أبى ذويب بن عبد الله بن الحارث بن جابر بن سعد من هوازن السعدية بلبن زوجها الحارث ابن عبد العزى، فأقام صلى الله عليه وسلم عند حليمة عند بكر بهوازن نحو أربع سنين، فشق فؤاده هناك وملئ حكمة وإيماناً ثم ردته حليمة إلى أمه وهو ابن خمس سنين وشهر، ثم خرجت به إلى المدينة تزور أَخوالها فماتت بالأبواء بين مكة والمدينة، وله ست سنين وثلاثة أشهر، فكفله جده عبد المطلب وكان يري فيه ما يسره فيدنيه، حتى كان يدخل عليه إذا خلا ويجلس على فراشه وحضنته بعد أمه أم أيمن بركة الحبشية مولاة أبيه. ومات عبد المطلب وله من العمر ثمان سنين وأوصى به إلى ابنه أبى طالب وكان أخا عبد الله من أمه فكفله عمه أبو طالب.
وكان أكثر أيامه يأتي زمزم ليشرب منها، وخرج إلى الشام في تجارة وهو ابن اثني عشرة سنة فرأى أبو طالب من آيات نبوته ما زاد في الوصايا والحرص عليه من تظليل الشجرة بظلها عليه، وكان حكيم بن حزام قد رآه في سوق حباشة وشري منه بزاً من بز تهامة وطلبت منه خديجة أن يخرج في تجارة إلى سوق حباشة وبعثت معه غلامها ميسرة فخرج فابتاعا بزاً ورجعا إلى مكة فربحا ربحاً حسناً وكان بعد ذلك يرعى غنماً لأهل مكة بقراريط كل شاه بقيراط شهد حرب الفجار وكان يناول عمه النبل وكان عمره يومئذ عشرين سنة ثم أجر نفسه من خديجة سفرتين بقلوصين، وخرج ثانية إلى الشام في تجارة ومعه غلامها ميسرة حتى أتى بصرى، فرآه الراهب وبشر بنبوته فرغبت خديجة أن يتزوجها لما ربحت، فتزوجها بعد شهرين ولها من العمر أربعون سنة وعمره خمس وعشرون سنة على الصحيح وكان الذي سفر بينهما نفيسة بنت أمية أخت يعلة بن أَمية وكان الذي زوج خديجة من النبي عمها عمر بن أسد بن عبد عزى وشهد النبي مع أعمامه حلف الفضول في دار عبد الله بن جدعان، وكان الله قد أعانه وبرأه وحماه من دنس الجاهلين حتى كان يسمى بين قومه (بالأمين) لما اشتهر بين قومه من صدق حديثه. ولما بنيت الكعبة بعد هدم قريش لها سنة 35 من عمره ووصلوا إلى موضع الجحر الأسود اشتجروا فيمن يضع الحجر الأسود مكانه وأرادت كل قبيلة أَن تضعه، واستعدوا للقتال وتحالفوا على الموت ومكثوا على ذلك أربع ليال، فأشار عليهم أبو حذيفة بن المغيرة أن يجعلوا بينهم حكماً أَول من يدخل من باب المسجد.
فكان أول من دخل رسول الله فلما رأَوه قالوا هذا الأمين رضينا، وأخبروه، فقال:"إلي بثوب"، فأتى بكساء من الشام كان له صلى الله عليه وسلم فأخذ الحجر فوضعه بيده فيه وقال ليأخذ كل واحد بطرف من الثوب وليرفعوه، ففعلوا. فصلوات الله وسلامه عليه. هذا ما أحببت جمعه لإخواني وأرجو الله أن يكون خالصاً لوجهه الكريم وبضاعتي مُزجاة، ولست من فرسان هذا الميدان.... والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته....
2
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد خاتم النبيين الذي أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه والتابعين: أما بعد
…
قلما من الله على عباده بإرسال بعثة محمد، كان لا يري رؤية إلا جاءت مثل فلق الصبح وحبب إليه الخلوة، فكان يخلو بغار حراء فيقيم به الليالي ذوات العدد ثم يرجع إلى أَهله فيتزود لمثلها وبينما هو بغار حراء يوم الإثنين لاثنتي عشرة خلت من رمضان وله من العمر أربعون سنه جاءه جبريل فقال له: إقرأ فقال: لست بقاريء فضمه حتى بلغ منه الجهد ثم أرسله فقال: اقرأ قال: لست بقاريء فعل ذلك به ثلاث مرات ثم قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ} فأخبر بذلك خديجة رضي الله عنها وقال: قد خشيت على عقلي، فثبتته وقالت: أبشر كلا والله لا يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكلَّ وتعين على نوائب الدهر، في أوصاف جميلة عددتها من أخلاقه الكريمة تصديقاً له فهي أول صديقة من النساء آمنت. ثم تبدي له الملك بين السماء والأرض على كرسي وثبته وبشره أنه رسول الله حقاً فلما رآه مرق منه وذهب إلى خديجة رضي الله عنها فقال: زملوني زملوني دثروني دثروني فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} .
ثم أمره الله تعالى أن ينذر قومه ويدعوهم إلى الله عز وجل فشمر صلى الله عليه وسلم عن ساق الجد والاجتهاد وقام في طاعة الله أتم قيام يدعو إلى الله تعالى الكبير والصغير والأبيض والأحمر. والنساء. والأسود.
وكان حائز قصب السبق، عبد الله أبو بكر بن قحافه فآزره وصدقه فيما جاء به ودعا معه إلى الله بصيره فاستجاب لأبى بكر جماعة منهم: عثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله وكان صلى الله عليه وسلم يأتي إلى الكعبة أول النهار فيصلي صلاة الضحى وكانت صلاة لا تنكرها قريش، وكان صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذا جاء وقت العصر تفرقوا في الشعاب فرادى ومثنى لصلاة العصر ثم نزلت الصلوات الخمس.
فقد أسلم علي بن أبى طالب وزيد بن حارثة بن شرحبيل والعشي وورقه بن نوفل وتمنى لو كان جذعاً وكانت قريش لما بلغهم ما أكرم الله به رسوله راعهم ذلك وكبر عليهم فأبغضوه عند ذلك وعادوه، وتعرضوا لمن آمن به فأخذهم سفهاء أهل مكة بالأذى والعقوبة وصان الله رسوله بعمه أبي طالب لأنه كان شريفاً مطاعاً في قومه لا يتجاسرون على مفاجأته بشيء، وكان من حكمة الله تعالى بقاء أبى طالب على دين قومه لما في ذلك من المصلحة ورسول الله يدعو إلى الله ليلاً ونهاراً سراً وجهاراً لا تأخذه في الله لومة لائم.
واشتد أذى قريش للذين آمنوا وكانوا يلقونهم في الحر ويضعون الصخرة الشديدة الحر على صدر أَحدهم، ومر أبو جهل الخبيث بسمية أم عمار بن ياسر بن مالك وهى تعذب في الله هي وزوجها ياسر وابنها عمار فطعنها بحربة في فرجها فقتلها. وكان أَبو بكر إذا مر بأحد الموالي وهو يعذب في الله اشتراه وأعتقه منهم بلال وأم حمامه. وعامر بن فهيره وغيرهم.
وقد اشتد أذى قريش لرسول الله وهموا بقتله فحماه الله، فهموا أن يقتلوه في الزحمة وأحاطوا به وهو يطوف بالبيت ويصلي، فصاح أبو بكر:{أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم} هذا ما أحببت جمعه لإخواني من صفة مبعث محمد صلى الله عليه وسلم الذي كانت سبباً لهداية البشرية وإنقاذها من ظلمات الجهل والظلم والطغيان والوثنية. وأرجو الله أن ينفع بها من قرأها وسمعها وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماًَ كثيراً إلى يوم الدين
…
ولا عِمادَ إذا لم تُرسَ أوتادُ
والبيت لا يُبتَنَى إلا على عُمد
يوماً فقد بلغوا الأمر الذي كادُوا
فإن تجمَّعَ أوتادٌ وأعمدةٌ
ولا سَراة إذا جُهَّالُهُمْ سَادُوا
لا يصلحُ الناسُ فوضى لا سَرَاةَ لهم
وإن تولتْ فبالأشرارِ تنقادُ
تهدى الأمور بأهل الرأي ما صلحت
سمع الآذان في القاهرة:
فقال سمعت هذا فوق القمر
رائد الفضاء الأمريكي (نيل أرمسترونج) أول من هبط على سطح القمر أشهر إسلامه. نشرت ذلك الجرائد الماليزية ونقلته عنها بعض الصحف التي تصدر في سيلان.
ذكرت هذه الصحف إن مصر وراء إسلام رائد الفضاء الأمريكي.
وقصة هذا الخبر تعود بدايتها إلى عدة سنوات عندما كان في زيارة للقاهرة ضمن جولة له حول العالم. وبينما كان رائد الفضاء (نيل أرمسترونج) يتجول في أحياء القاهرة الشعبية سمع أذان الظهر ينطلق من الجوامع، فأصابه الذهول وتساءل وسط دهشته البالغة عن هذا الصوت، فأجابه مرافقوه وهم متعجبون من ذهوله: إنه الأذان الذي ينبه المسلمين إلى الصلاة ولم يجب عليهم رائد الفضاء الأمريكي، واستمر في ذهوله الشديد وسط دهشة المرافقين له. وبعد أيام قليلة ألقى بقنبلة وأعلن لكل من حوله في صراحة ودون تردد أن كلمات الأذان التي رنت في آذانه دون أن يفهمها هي نفس الكلمات التي سمعها عند هبوط أقدامه لأول مرة على سطح القمر
…
وعقب عودته إلى الولايات المتحدة الأمريكية عكف على دراسة الدين الإسلامي دراسة كاملة، وعرف قواعد الدين بالتفصيل. وفي النهاية أعلن إسلامه. وكان من نتيجة هذا الموقف الذي أعلنه رائد الفضاء الأمريكي واعتناقه للإسلام أن تم فصله من عمله في مركز الفضاء ولكنه قال في قوة: "فقدت وظيفتي ولكنني وجدت الله
…
"
(الأخبار المصرية)
اَلْكَعْبَة البَيت الحَرَام
وتطبيقات رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم
للدكتور عبد العظيم حامد خطاب
أستاذ مساعد بكلية الدعوة وأصول الدين
قال الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (آل عمران: 96، 97) وقال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} (البقرة: 125- 126)
وقال: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (البقرة 144) .
حَرَّم الله بيته منذ خلق السموات والأرض. وجعله مثابة للناس وأمناً. ومن دخله كان آمناً وحفظه من الآفات. ووضع له الجلالة والقداسة في قلوب الناس. وجعلهم على مختلف العصور يهتمون بأمره ويعنون بشأنه. وفي حرمه ولد خاتم المرسلين. وصارت مكة مهبط الوحي الأمين لآخر الأنبياء. وصار هذا الحرم متجه المسلمين في صلاة آخر الأمم، وخير البشر. وقد عرف نبي الإسلام لهذا البيت قدره فعظمه وأعطاه حقه من الإجلال والخشوع. وطهره حق التطهير وهو آخر الأنبياء الذي يعلن من فوقه توحيد الإله الخالق المستحق للعبادة لتكون مكة أخيراً دار الإسلام وقبلة آخر الأمم. كما سبق لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أن أمرا بتطهير البيت والصلاة فيه. ليجمع الله لمصطفاه من البشر بين البداية والنهاية. فهو أول بيت لله. وآخر قبلة في الصلاة. أمرنا بالتوجه إليه إخلاصا لعبادة الله. وإذا كنا نفخر أن الله هدانا إلى يوم الجمعة ليكون عيداً للمسلمين قبل أيام الأمم السابقة. فإن الله بوأ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم الكعبة ليتخذها مصلى وقبلة للإسلام دون الأمم.
فلله الحمد أن جعلنا مسلمين. ومن هذه الصفوة التي تابعت هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
الكعبة: المسلمون مطالبون في الصلاة أَن يتجهوا نحو جهة مكة. وأهل مكة مطالبون بالاتجاه صوب المسجد الحرام. ومن في داخل المسجد المتعين عليهم استقبال الكعبة ذاتها. يلتفون حولها حلقاً إحاطة السوار بالمعصم. وجعلت سنة دخول المسجد الحرام الطواف سبعة أشواط حول الكعبة.
والكعبة قديمة سابقه على أَسفار العهد القديم والتوراة. وقد توارث العرب أن أَول من رفع قواعدها إبراهيم عليه السلام. والكعبة البيت المربع، وجمعه كعاب. كما ذكر ذلك ابن منظور في لسان العرب وقيل سمي البيت كعبة لارتفاعه. وكل بيت مربع فهو عند العرب كعبة. قال ابن سيده، أراه لتربعها [1] وذكر الزبيدي في تاج العروس أن الكعبة البيت الحرام سمي كعبة لارتفاعه وتربعه. إذ الكعب كل مفصل للعظام ناشز فوق القدم [2] وقيل كعبة لأنها مكعبة الأضلاع. وكان الناس يبنون بيوتهم مدورة تعظيماً للكعبة، وأول من بنى بيتاً مربعاً حميد بن زهير فقالت قريش: ربع حميد بن زهير بيتاً إما حياة وإما موتاً [3] .
وذكر البتانوني في الرحلة الحجازية، البيت هو الكعبة المكرمة على شكل مربع زواياه إلى الجهات الأربع حتى تتكسر عليها تيارات الهواء لكيلا يؤثر ضغط الرياح على كتلتها. وهذه بعينها القاعدة التي بنيت عليها أهرامات مصر، وصارت محل إعجاب علماء العمارة إلى الآن [4] وقالوا:"بكة"موضع البيت ومكة القرية أَو الحرم كله. ومن أسماء مكة: مكة وبكة وأم رحم. وأم القرى. والبلد الأمين. والباسَّة والبيت العتيق. والحاطمة والناسّة [5] .
الجانب التاريخي للحرم: أَما بداية بناء الكعبة فغير معروف على التحقيق غير أَن هناك روايات تبين أن الكعبة ترجع تاريخياً إلى آدم. أَو ربما إلى ما قبل آدم أبو البشر. فقد ذكر الأزرقي رواية عن محمد بن على بن الحسين يذكر فيها إن الله جعل تحت العرش البيت المعمور، فطافت به الملائكة، وبعث الله الملائكة. فقال: ابنوا لي بيتاً في الأرض بمثاله وقدره. فأمر الله تعالى من في الأرض من خلقه أن يطوفوا بهذا البيت كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور [6] فتكون الملائكة هي التي بنت البيت الحرام وأنها طافت به قبل آدم. فقد ذكر المسعودي المؤرخ أنه قيل لآدم ايت الكعبة فطف بها، فمشى إليها فتلقته الملائكة بالابطح فقالوا له: حياك الله يا آدم، لقد طفنا قبلك هذا البيت بألفي عام [7] وبعض الروايات الأخرى تذكر أن آدم أول من طاف بالبيت لأنه هو الذي بناه أولاً بمعونة الملائكة. فقد ذكر الأزرقي في رواية عن ابن عباس أول من أسس البيت وصلى فيه وطاف به آدم. وأن آدم بناه من خمسة أجبل بمعونة الملائكة. وساق رواية أخرى عن ابن عباس أيضاً أنه لما أهبط الله عز وجل آدم عليه السلام إلى الأرض من الجنة، كان رأسه في السماء ورجلاه في الأرض فطأطأ الله عز وجل منه إلى الأرض ستين ذراعاً. فقال:"يارب. مالي لا أسمع أصوات الملائكة ولا حسهم". قال:"خطيئتك يا آدم. ولكن اذهب فابن لي بيتاً فطف به واذكرني حوله كنحو ما رأيت الملائكة تصنع حول عرشي". فانتهى إلى مكة وبنى البيت الحرام وأن جبريل عليه السلام ضرب بجناحه الأرض فابرز عن أس ثابت في الأرض السفلي فقذفت الملائكة الصخر وما يطيق الصخرة ثلاثون رجلاً. وبهذا يكون من أسس البيت وصلى فيه آدم علية السلام [8] .
وإذا وضعنا في الاعتبار قول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} فلابد أن يكون لهم قبلة يتجهون إليها في عبادتهم لله وحده. من أول يوم على الأرض. ولا نتصور عبادة بلا اتجاه أو بيت معبود.
وذكر اليعقوبي في تاريخه أن آدم لما أهبط إلى الأرض تلقى من ربه كلمات فتاب عليه وهدي. واجتباه وأمره أن يبنى له بيتاً. فصار إلى مكة وبنى البيت [9] وروى عبد الملك بن هشام عن وهب بن منبه: "إن آدم عندما تاب الله عليه، أَنزل عليه صحيفة نزل بها جبريل يأمره بالمسير إلى البلد الحرام، ويبني البيت العتيق، وأن جبريل دَلّه على المكان فبنى آدم البيت وتعينه حواء. وقال: هذا منسك لك ولولدك من بعدك، فأول أثر على وجه الأرض مكة والبيت قال الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً} ثم أمره بالمسير إلى البلد المقدس فأراه جبريل كيف يبنى بيت المقدس فعاونه أبناؤه في بنائه"[10] .
ولم تزل العرب تعظم موضع البيت بعد أن أزاله الطوفان وصار موضعه أكمة حمراء [11] .
وذكر الطبري في تفسيره عن قتادة قال:"ذكر لنا أن البيت أهبط مع آدم حين هبط إذ قال الله له: أهبط معك بيتي يُطاف حوله كما يطاف حول عرشي. فطاف حوله آدم ومن كان بعده من المؤمنين. حتى إذا كان زمان الطوفان حين أغرق الله قوم نوح رفعه وطهره ولم تصبه عقوبة أهل الأرض. فتتبع منه إبراهيم أثراً فبناه على أَساس قديم كان قبله"[12] كما ذكر الطبري أيضاً في تاريخه:"أن البيت حين أغرق الله قوم نوح رفعه وبقي أساسه فبوأه الله عز وجل لإبراهيم فبناه"[13] .
أما الاختلاف في أول من بنى الكعبة فيوضحه البدر العيني فقال:"أول من بناها الملائكة". وقيل آدم ذكره ابن إسحاق وقيل أول من بناها شيث عليه السلام وكان في عهد آدم البيت المعمور فرفع. وقيل بل رفع وقت الطوفان [14] ثم أورد العيني رواية البخاري عن إبراهيم التميمي عن أبيه قال:"سمعت أبا ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أَي مسجد وضع في الأرض أول. قال، المسجد الحرام. قلت، ثم أي. قال: المسجد الأقصى. قلت: كم بينهما.؟ .. قال: أَربعون سنة. ثم أينما أدركتك الصلاة بعد فصل فإن الفضل فيه"[15] . قال ابن الجوزي:"فيه إشكال لأن إبراهيم بنى الكعبة وسليمان بنى بيت المقدس وبينهما أَكثر من ألف سنة". والجواب عنه ما قاله القرطبي:"إن الآية الكريمة {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} والحديث السابق لا يَدُلاّن على أن إبراهيم وسليمان عليهما السلام ابتدأ وضعهما بل كان تجديداً لما أسس غيرهما. وقد روي: أول من بنى البيت آدم وعلى هذا فيجوز أن يكون غيره من ولده رفع بيت المقدس بعده بأربعين عاماً. ويوضحه ما ذكره ابن هشام في كتاب التيجان أن آدم لما بنى البيت أَمره جبريل عليه السلام بالمسير إلى بيت المقدس وأن يبنيه فبناه ونسك فيه. قال ابن كثير: أول ما جعله مسجداً إسرائيل (يعقوب) وإنما أمر سليمان بتجديده وإحكامه لا أنه أول من بنى"[16] .
إبراهيم وبناء البيت: يشهد القرآن الكريم بأن إبراهيم حين اسكن ذريته في مكة قال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ} (سورة إبراهيم/ 37) وذلك قبل بناء الكعبة على يديه وإسماعيل عليهما السلام عندما بلغ إسماعيل الثلاثين. كما تذكر الروايات التاريخية. ويذكر الله تعالى بناء إبراهيم للكعبة بقوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} والقواعد جمع قاعدة. وقواعد البيت أساسه.
وقد اختلف أهل التأويل في القواعد أهما أحدثا ذلك. أم هي قواعد كانا قبلهما؟.وعن ابن عباس أنها كانت قواعد البيت قبل ذلك [17] والبعض يقول بأنه بنى البيت ابتداءً. ويعلل لنا الأزرقي هذا الاختلاف بأن مكان البيت القديم كان قد خفي واندرس من الغرق الذي جاء به الطوفان فيما بين نوح وإبراهيم عليهما السلام. ولكن كان موضعه أكمة حمراء لا تعلوها السيول. غير أن الناس يعلمون أن موضع البيت فيما هنالك. ولكنهم لا يتثبتون موضعه [18] وتأييداً لهذا ذكر المسعودي أنه كان في موضع البيت ربوة حمراء أمر إبراهيم عليه السلام هاجر أن تتخذ عليه عريشاً يكون مسكناً لها [19] ثم أمر الله إبراهيم أن يبنى الكعبة. ويؤذن في الناس بالحج. ويريهم مناسكهم. فبنى إبراهيم حتى انتهى إلى موضع الحجر فنادى إبراهيمَ أبو قبيس: إن لك عندي وديعة فأعطاه الحجر الأسود فوضعه وأذن في الناس بالحج [20] .
وكان إبراهيم عليه السلام منذ أسكن ذريته في هذا الموضع يزور ابنه إسماعيل. فلما شاهد اجتماع الناس بنى البيت بأمر الله له. ولما شهد قيام البلد الذي كان يرجو قيامه حول البيت واطمأن إلى أن عمله قد آتى ثماره قال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ
…
} [21] .
وعامة كتب التاريخ والتفاسير تشير إلى بناء إبراهيم للبيت وتفصيله فلا حاجة إلى إيراد مثل تلك التفصيلات ولكن لا بأس بإيراد رواية الطبري المختصرة فقد ذكر أن إبراهيم عليه السلام لما جاء المرة الثالثة لإسماعيل في مكة كان إسماعيل يصلح نبلاً له من وراء زمزم. فقال إبراهيم:"يا إسماعيل إن ربك قد أمرني أن أبني له بيتاً. فقال له إسماعيل:"فأطع ربك فيما أمرك". فقال إبراهيم:"قد أمرك أن تعينني". فقال:"إذا أفعل". فقام معه فجعل إبراهيم يبنيه وإسماعيل يناوله الحجر. ويقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} . فلما ارتفع البنيان وضعف الشيخ عن رفع الحجارة قام على حجر وهو مقام إبراهيم فجعل إسماعيل يناوله الحجر فلما فرغ إبراهيم أمره الله عز وجل أن يؤذن في الناس بالحج [22] .
قضية تحريم مكة: كانت مكة محرمة منذ خلق الله السموات والأرض. ولكن قال بعض المفسرين:"كان الحرم المحيط بمكة حلالاً. قبل دعوة إبراهيم عليه السلام كسائر البلاد. وإنما صار حرماً بتحريم إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} كما كانت مدينة الرسول حلالاً قبل تحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتحريم المدينة إنما كان قبل توجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بدر فقد صلى عند بيوت السقيا ودعا يومئذ لأهل المدينة فقال:"اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك دعاك لأهل مكة وإني محمد عبدك ونبيك أدعوك لأهل المدينة أن تبارك لهم في صاعهم ومدهم وثمارهم. اللهم حبب إلينا المدينة واجعل ما بها من الوباء بُخمْ. اللهم إني حرمت ما بين لابتيها كما حرم إبراهيم خليلك مكة " [23] .
قال ابن جرير الطبري:"الصواب أن الله تعالى ذكره. جعل مكة حراماً حين خلقها وأنشأها كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته عند فتح مكة كما سوف نفصله إن شاء الله. وأن مكة حرمها الله يوم خلق السموات والأرض بغير تحريم منه لها على لسان أحد من أنبيائه ورسله.. فلم تزل كذلك أمرها حتى بوأها الله إبراهيم خليله. وأسكن بها أهله وولده إسماعيل. فسأل حينئذ إبراهيم الله إيجاب فرض تحريمها على عباده على لسانه أو لأن إبراهيم علم تحريمها [24] وقد أورد ابن كثير قولاً في هذا الاتجاه أن أبا شريح الخزاعي قال:"قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، سمعته أذناي ووعاه قلبي حين تكلم به أنه حمد الله وأثنى عليه وقال: إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس
…
" [25] .
فالبقعة حرام ما في ذلك شك. والتبرير الذي ساقه الطبري مقبول. فالمكان كان يأتيه المظلوم والمتعوذ من أقطار الأرض. ويدعو عنده المكروب. فقل من دعا هنالك إلا استجيب له. وكان الناس يحجون موضع البيت حتى بوأ الله مكانه لإبراهيم لما أراد عمارة بيته وإظهار دينه وشرائعه. فلم يزل المكان منذ أهبط الله آدم إلى الأرض معظماً محرماً [26] .
وقد ذكر النويري أن النبي من الأنبياء إذا هلكت أمته لحق بمكة فتعبد بها ومن معه من المؤمنين حتى يموت. فمات بها نوح وهود وصالح وشعيب وقبورهم بين زمزم والحجر. وعن مجاهد:"حج موسى النبي على جمل أحمر فمرّ بالروحاء عليه عباءتان قطوانيتان متزر بإحداهما مرتدياً بالأخرى. فطاف بالبيت ثم سعى بين الصفا والمروة ".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما:"لقد سلك فَجّ الروحاء سبعون نبياً حجاجاً عليهم لباس الصوف مخطمي إبلهم بحبال الصوف. ولقد صلى في مسجد الخيف سبعون نبياً ". وعنه:"عن الرسول صلى الله عليه وسلم لقد مر بهذا الفَجّ (فج الروحاء) سبعون نبياً على نوق حمر خطامها الليف لبوسهم العباء وتلبيتهم شتى "[27] .
وروي الحافظ أبو يعلى عن ابن عباس قال:"حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أتى وادي عسفان قال: يا أَبا بكر، أي واد هذا. قال: هذا وادي عسفان. قال: لقد مر بهذا الوادي نوح وهود وإبراهيم على بكرات لهم حمر، خطمهم الليف وأَزرهم العباء وأرديتهم النمار يحجون البيت العتيق "[28] . ومعروف أن نوحاً وهوداً كانا قبل إبراهيم عليهم السلام. ويذكر ابن كثير:"أن قبر نوح عليه السلام بالمسجد الحرام وليس في كرك نوح بالشام كما يقال"[29] .
ومن هنا يمكن القول بأن البيت الحرام كان موجوداً قبل بنائه على يد إبراهيم خليل الرحمن. وأن هذا البيت كان قد جرت عليه أحداث غيرت من طبيعته. وأخفت مكانه فكان من رحمة الله بعباده أن أمر خليله ببناء البيت ورفع قواعده. وظلت قداسة البيت أمراً مسلماً به لا خلاف عليه من أهل مكة وأهل البادية. ورغم تفشى عبادة الأوثان في سواد القبائل العربية المحيطة بمكة. فإنه لم يرد عنهم أنهم عبدوا هيكل الكعبة. ولم يعبدوا الحجر الأسود رغم تسليمهم بقدسيته واحترامه ومكانته حتى كادوا يقتتلون على من هو أولى بوضعه في مكانه. حين تدخل الرسول قبل البعثة فأقترح وضعاً حقن برأَيه هذا الدماء فأشرك القبائل في شرف حمله ووضعه صلى الله عليه وسلم في مكانه.
وكانت العرب لا تقسم بالكعبة أو بالحجر الأسود. وإنما تقسم برب الكعبة. وهكذا استجاب الله لخليله حين دعاه بقوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} لم يتخذ البيت عمارة إبراهيم وإسماعيل صنماً يعبدونه وظلت مكانته مرموقة فأعاد قصي بن كلاب في القرن الثاني قبل الهجرة بناءه وبنته قريش قبل المبعث واشترك الرسول في أمره [30] .
الرسول يراعي حرمة مكة: ظلت الدعوة في مكة. كان الرسول خلال ثلاثة عشر عاماً يؤمر بالصبر. قال الله تعالى له: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} (الأحقاف: 35) ولم يشرع القتال في مكة لمقامها الذي يعرفه من حرمها من أول يوم. حتى أن الرسول بعد بيعة العقبة الثانية أنذر به الشيطان (هل لكم في مذمم والصبأة معه قد اجتمعوا على حربكم) قال الرسول لمن بايعوه تلك البيعة الأخيرة:"أرفضوا إلى رحالكم". قال العباس بن عبادة بن نضلة:"والله الذي بعثك بالحق: إن شئت لنميلن على أهل منى غداً بأسيافنا؟. قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: لم نؤمر بهذا، ولكن ارجعوا إلى رحالكم"[31] .
ولما استقر الإسلام في المدينة وأذن الله بالقتال للمسلمين بقوله تعالى {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} وقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (البقرة: 193) حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على قتال قريش خارج الحرم فرسول الله أعلم بالله وبحدوده وبما أحل وما حرم. علم قدر مكة فلم يأتها غازياً. مكة التي شنت الحرب عليه ثلاث مرات بدر وأحد والخندق والتي ألبت عليه وعلى المسلمين فأصاب المسلمين خلال ذلك ما أصابهم فلم يورثه ذلك ثورة على مكة ولا ضغينة على حرمها. وإنما قدرها. نلمس ذلك من مواقف في سيرته صلى الله عليه وسلم. نذكر منها على سبيل الاختصار:-
1-
تعظيم أمر مكة في الحديبية: خرج صلى الله عليه وسلم من المدينة بمن معه هلال ذي القعدة من السنة السادسة. وحرص أن لا يكون معه إلا سلاح المسافر السيوف في القرب [32] وساق هديه. يقول ابن هشام:"خرج معتمراً لا يريد حرباً وهو يخشى من قريش أن يرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت وساق الهدي وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه وليعلم الناس أنه إنما خرج زائراً لهذا البيت ومعظماً له [33] .
وفي رواية عن عروة بن الزبير. عن مسور ابن مخرمة. ومروان بن الحكم. أنهما حدثاه فقالا: "خرج رسول الله عام الحديبية يريد زيارة البيت لا يريد قتالاً [34] وكما ساق الهدي ساق أهل القوة الهدي: أبو بكر الصديق وعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله وسعد بن عبادة ساقوا جميعاً هدياً مع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما كان بعض الصحابة والعرب يخشون قريشاً ويخافون أن يقاتلوا المسلمين قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:"أتخشى يا رسول الله علينا من أبي سفيان بن حرب وأصحابه ولم نأخذ للحرب عدتها؟ "فقال الرسول:"ما أدري. ولست أحب حمل السلاح معتمراً ". وقال سعد بن عبادة:"يا رسول الله لو حملنا السلاح معنا، فإن رابنا من القوم ريب كنا معدين لهم". فقال رسول الله:"لست أحمل السلاح إنما خرجت معتمراً "[35] .
وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة بسر بن سفيان الكعي الخزاعي. وقال له: "أن قريشاً قد بلغها أني أريد العمرة. فخَبّر لي خبرهم ثم القني بما يكون منهم"[36] . وكان صلى الله عليه وسلم يأمل أن تستجيب قريش للاتجاه السلمي فلا يعرضوا له بسوء أو بقتال رعاية لحرمة مكة، التي لا يريد فيها قتالاً بل سلاماً وأمناً. وتقدم أمامهم بسر بن سفيان حتى دخل مكة فسمع من كلامهم ورأى ما رأى منهم ثم رجع فلقي رسول الله بغدير الاشطاط من وراء عسفان فلما رآه الرسول قال:"يابسر ما وراءك" قال:"يا رسول الله تركت قومك: كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد سمعوا بمسيرك ففزعوا، وهابوا أن تدخل عليهم عنوة. وقد استنفروا الأحابيش ومن أطاعهم، معهم العُوذ المطافيل [37] . وقد لبسوا لك جلود النمور ليصدوك عن المسجد الحرام، وقد خرجوا إلى بلدح وضربوا بها الأبنية وتركت عمادهم يطعمون الجزر أحابيشهم ومن ضوى إليهم في دورهم. وقدموا الخيل عليها خالد بن الوليد في مائتي فارس. وهذه خيلهم بالغميم وقد وضعوا العيون على الجبال ووضعوا الأرصاد "[38] .
ورغم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم تصلب قريش وإصرارهم على حميتهم الجاهلية وتماديهم في باطلهم إلا أنه رأى أن يظهر السلم فيتحول عن طريق طليعة المشركين قائلاً: يا ويح قريش قد أَكلتهم الحرب وماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب. ثم قال:"فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة أي صفحه عنقه صلى الله عليه وسلم"[39] . كما قال أيضاً:"أَنا لم نجيء لقتال أحد ولكن جئنا معتمرين وإن قريشاً قد أنهكتهم الحرب فأضرت بهم فإن شئت ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس "[40] .
ثم قال الرسول:"هل من رجل يخرج بنا على غير طريقهم" فسلك بهم رجل من أَسلم طريقاً وعراً أجرلّ بين شعاب [41] انتهى إلى أَرض سهلة حتى إذا سلك ثنية المرار وقفت يدا راحلته صلى الله عليه وسلم على ثنية تهبط على غائط القوم فبركت ناقته [42] فقال الناس:"خَلأت القصواء". قال الرسول:"ما خَلأت وما هو لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة. والذي نفسي بيده لا تدعوني قريش إلى خطة يعظمون فيها حرمات الله وفيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها"[43] وذكر ابن حجر أن من تعظيم الحرمة ترك القتال [44] .
ولو أن بعض الآراء تذهب إلى أن هذا القول معناه أنى إن دخلت مكة على رغم قريش وقع قتال أفضى إلى سفك الدماء. إذ علم الله أنه سيدخل في الإسلام منهم خلق ويستخرج من أصلابهم ناس يجاهدون في سبيل الله [45] إلا أننا يمكن أن نضيف أمراً هاماً فإذا نظرنا إلى الربط بين حبس الفيل وحرمة البيت. ثم حبس الناقة لحرمة البيت انتهينا إلى أن هذا مقصوده. ثم إبداء هذه صراحة من الرسول بأنه يرضى بأي خطة فيها تعظيم أمر مكة وحرمها وإجلال البيت وحفظ مهابته. ومنع القتال فيه. وقيل أن منع أَصحاب الفيل ومنع أصحاب الناقة مع اختلاف مقاصدهما هدفه منع القتال مطلقاً [46] ومن ثم يظهر لنا الرسول صلى الله عليه وسلم إنما تعمد عدم حمل السلاح معه حتى لا يتمادى الأمر، رغبة في السلم وإيثاره. صحيح أن الرسول لما أشيع مقتل عثمان بن عفان الذي بعثه ليعلن لهم احترام الرسول لمكة ومسالمته لها، ومقتل من دخل مكة من المسلمين. أخذ البيعة على أصحابه بأن لا يفروا وأعد نفسه للقتال الذي لا مناص منه إذا اضطرته قريش إلى ذلك بقتل هؤلاء. ولكن سرعان ما تحول عن رغبته في المقاتلة عند البيت لما علم بكذب هذه الإشاعة. فحفظ للبيت حرمته التي جعلها الله له.
ولدينا دليل آخر من حفظ الحرمة ورعاية مكة، أنه أمر بإطلاق من حاولوا الإعتداء على معسكر المسلمين. وكانت قريش قد بعثت نحواً من أربعين أو خمسين رجلاً ليطيفوا بمعسكر المسلمين رجاء أن يصيبوا منهم أَحداً، أو يصيبوا منهم غِرّة فأخذهم محمد بن مسلمة وأصحابه من حراس معسكر المسلمين. فجاء بهم إلى الرسول فعفا عنهم وخلى سبيلهم [47] .
وقد مَنّ الله على نبيه لهذه الحادثة فقال تعالى: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} ثم قال: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} (الفتح، 20، 24) أي أن الله كف الأيدي عن القتال في الحرم. وصان الفريقين بأن أَوجد صلحاً. ولذا قال الرسول حين أمر بإطلاق المعتدين، أرسلوهم يكن لهم بدء الفجور وثناؤه [48] . قال الشوكاني:"كف أيدي الناس عنكم يعني منع أهل مكة أن يستحلوا حرم الله أو يستحل بكم وانتم حُرُم ولتكون آية للمؤمنين أي سنة لمن بعدكم [49] أي لمراعاة حرمة مكة والبيت.
فلما قدم سهيل بن عمرو. واصطلح مع رسول الله على صلح الحديبية مع ما فيه من شروط ظاهرها قاس على المسلمين: ومنه أن لا يعتمروا ذلك العام والحرم على مَدّ البصر. ومن يأتي إلى المسلمين بغير إذن وليه: عادوه لقريش. ورفض سهيل أَن يوافق على كتابة بسم الله الرحمن الرحيم أَو محمد رسول الله. وإنما كتب باسمك اللهم ومحمد بن عبد الله وثب عمر بن الخطاب. فقال:" يا رسول الله ألسنا بالمسلمين؟ ". قال رسول الله:" بلى"قال:"فعلام نعطي الدنية في ديننا"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أنا عبد الله ورسوله ولن أخالف أمره ولن يضيعني". فلما سمع منه أبو بكر مقالته قال: "يا عمر الزم غَرْزَه- أي أَتبع أمره- فإني أشهد أنه رسول الله وأن الحق ما أَمر به ولن يخالف أَمر الله ولن يضيعه الله"[50] .
فرسول الله نظر إلى حرمات الله وتعظيم مكة والكعبة ولم يرد أن يسفك دما وقَبلَ ما كان يعتبر في نظر المسلمين قاسياً شديداً. ولكن ظهر أن ذلك الصلح كان خيراً وبركة على المسلمين وكان فتحاً مبيناً. وأن الأمر أمر تعظيم حرمات الله وأن النصر بيد الله فطابت نفوس المسلمين جميعاً.
ب- في عمرة القضاء: كانت هذه العمرة قصاصاً لعمرة الحديبية التي حال المشركون دون إتمامها وتطبيقاً لشروط صلح الحديبية وهي أن لا يدخل مكة عامه هذا فإذا كان عام قابل دخل فيقيم بمكة ثلاثة أيام ليس معه إلا سلاح الراكب: السيوف في القُرُب. وقد وفى صلى الله عليه وسلم بشرطه لهم فلم يدخل عليهم السلاح الذي أحضره معه تنبيهاً للسفهاء ومن ينقضون عهدهم فأبقاه ببطن يأجج مخافة الغدر [51] ولكن قريشاً بلغها ضعف المسلمين أو هكذا تفشت قالة السوء بأن المسلمين أوهنتهم حمى يثرب. وبدأ فيهم الضعف. علم ذلك رسول الله فأراد أن يسد هذه الثغرة، فلعل ضعاف النفوس ينتهزون فرصة للقتال داخل الحرم. فلما أقبل ودخل المسجد. وقفت قريش تنظر قوة المسلمين. فأضطبع الرسول بردائه. ثم قال:"لا يرى القوم فيكم غميزة"[52] . وذكر ابن هشام أنهم صفوا له عند دار الندوة لينظروا إليه وإلى أصحابه فلما دخل رسول الله إضطبع بردائه وأخرج عَضُده اليمنى ثم قال:" رحم الله امراً أراهم اليوم من نفسه قوة". ثم استلم الركن ثم خرج يهرول ويهرول أصحابه معه حتى إذا وآراه البيت منهم واستلم الركن اليماني مشى حتى يستلم الركن الأسود ثم هرول كذلك ثلاثة أطواف ومشى سائرها. ثم مضت السنة على ذلك. [53] وذكر ابن كثير عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال للمسلمين معه:"ارمُلوا [54] ليرى المشركون قوتكم.."كما قال:"اكشفوا عن المناكب واسعوا في الطواف ليرى المشركون جلدهم وقوتهم
…
" يقول ابن عباس:"وكان يكايدهم صلى الله عليه وسلم بكل ما استطاع فاستكف أهل مكة" [55] .
فكان إظهار القوة والجلد والحركة سبباً لعزة المسلمين ومنعتهم فلم يجرؤا أي قرشي أن يعرض لهم بسوء. وقالت قريش:"ما يرضون بالمشي أما إنهم لينفرون نَفرَ الظباء"[56] . فكأن الرسول أراد بإظهار القوة سد الذريعة حتى تنفذ قريش شروط الأمان في بلد الله الحرام. وحذرهم بما أعد من قوة وسلاح من التعرض له ودعاهم بلسان الحال إلى الكف عما ينتوونه من سوء الفعل وهو التعرض لحرمة البيت الآمن.
وبقي الرسول بمكة فلما كان عند ظهر يوم الرابع أتى سهيل بن عمرو وحويطب ابن عبد العزى ورسول الله صلى الله عديه وسلم في مجلس من مجالس الأنصار يتحدث مع سعد بين عبادة، فصاح حويطب قد انقضى أجلك فاخرج عنا. فقال النبي:"وما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم [57] . فصنعت لكم طعاماً "؟. فقالا:"لا حاجة لنا في طعامك أخرج عنا. ننشدك الله يا محمد والعهد الذي بيننا وبينك إلا خرجت من أرضنا فهذه الثلاث قد مضت". فغضب سعد بن عبادة لما رأى من غلظة كلامهم للنبي صلى الله عديه وسلم. فقال لحويطب:"كذبت لا أم لك، ليست بأرضك ولا أرض أبيك والله لا يبرح إلا طائعاً راضياً. فتبسم رسول الله. ثم قال:"يا سعد لا تؤذ قوماً زارونا في رحالنا". وأسكت الرجلان عن سعد ثم أمر صلى الله عليه وسلم أبا رافع بالرحيل قائلاً:"لا يمسين بها أحد من المسلمين" [58] .
هكذا ضبط النبي صلى الله عليه وسلم أمر المسلمين والتزم بعهده وعقده شأنه دائماً. وأقر الأمن والأمان بمكة ليكون دليلاً آخر على معرفته ما لهذا الحرم من جليل القدر.
جـ-في فتح مكة: إذا أردنا أن نلخص مسلك النبي صلى الله عليه وسلم عندما رغب في فتح مكة لمعرفة مدى احترامه لحرمة هذا البلد وجدنا أنه ما جاء إليها إلا بعد أن نقضت عهدها، بأن أعدت عدواناً غاشماً من بني بكر على بني كعب من خزاعة. بتعضيد من كبار القرشيين. فلما استُنصر صلى الله عليه وسلم وعد بالنصر وبدأ يستعد. ولكنه حرص على إخفاء وجهته. ثم وضع الحرس على أنقاب المدينة حتى لا تشعر قريش باستعداده لها. فلما نزل بقرب مكة وأخذ أبو سفيان ورفقته. طلب أبو سفيان الأمان لأهل مكة فأعطاه الأمان العام. ونودي به في أنحاء مكة. كل ذلك حرصاً على أن لا تكون هناك مجابهة ولا يقع قتال. وقد كان.
فإذا انتهينا من التلخيص إلى التفصيل وضح لنا حقيقة التعظيم لحرمة مكة فحين عزم على المسير لقريش دعا ربه فقال:"اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها لي بلادها" أو قال:"اللهم خذ على قريش أبصارهم فلا يروني إلا بغتة ولا يسمعون بي إلا فجأة"[59] ثم أمر أهله أن يجهزوه وأن تخفى جهازه [60] . فدخل أبو بكر رضي الله عنه على عائشة وهى تعمل قمحاً سويقاً ودقيقاً وتعد تمراً. قال: "أي بنية أأمركم رسول الله أن تجهزوه". قالت:"نعم فتجهز". قال:"فأين ترين يريد". قالت:"لا والله ما أَدرى". فلما دخل صلى الله عليه وسلم قال له:"أين تريد يا رسول الله". قال:"قريشاً. وأخْفِ ذلك يا أبا بكر". قال:" أو ليس بيننا وبينهم مدة "[61] . قال:"أنهم غدروا ونقضوا العهد فأنا غازيهم. أَلم يبلغك ما صنعوا ببني كعب؟ ". ثم قال له:"واطو ما ذكرت لك"[62] .
ثم إن الرسول أعلم الناس أنه سائر إلى مكة وأمرهم بالجد والتهيؤ [63] . وأخذ رسول الله بالأنقاب [64] . فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يطوف على الأنقاب قَيمّا لهم يقول:"لا تدعوا أحداً يمر بكم تنكرونه إلا رددتموه". وكانت الأنقاب مُسَلَّمة الأمن سلك إلى مكة أو ناحيتها فإنه يتحفظ به ويُسأل عنه [65] . وعندما كتب حاطب بن أبى بلتعة إلى قريش يخبرها بأمر الرسول وأعطى كتابه لامرأة من مزينة قال لها:"إخفيه ما استطعت فجعلته في رأَسها ثم فتلت عليه قرونها. ثم قال لها: "لا تمري على الطريق فإن عليها حرساً فسلكت على غير نقب حتى لقيت الطريق بالعقيق" [66] . وأَتى رسول الله الخبر من السماء بما صنع حاطب فأمر علي بن أبي طالب والزبير بن العوام أن يدركا المرأة فأدركاها بروضة خاخ [67] . فاستخرجا منها الكتاب وعادا به. ورغم أن الرسول قبل اعتذار حاطب فإن القرآن نزل ينبه على هذا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [68] . ومما يدل على شدة التحذير من إبلاغ قريش استئذان عمر بن الخطاب الرسول في قتل حاطب لمخالفته فلم يأذن له لأنه من أهل "بدر"وهم من غفر الله لهم [69] .
والهدف من الدعاء والإخفاء أن لا يصل إلى قريش أَنباء الإستعداد وقدوم المسلمين إليهم فَيُعِدوا للأمر عدته من الرجال والسلاح فيشتد الأمر وتقع ضحايا من الفريقين فتتأثر بذلك حرمة مكة. فكأن الرسول يريد بذلك تقليل الخسائر إلى أدنى حد. وحتى تضطر قريش إلى التسليم فيحقق الرسول مراده.
وقد حدثت المفاجأة باقتراب الرسول صلى الله عليه وسلم وكثرة من معه من الرجال والسلاح حتى بلغ مَر الظهران [70] . ولم يكن قد وصل عن مسير رسول الله إلى قريش شيء. فأمر صلى الله عليه وسلم أَصحابه أن يوقدوا ناراً فأوقِدَت عشرة آلاف نار لتحدث المفاجأة والمباغتة فيرهبهم ويخوفهم بالكثرة. وكان الرعب قد سيطر على قريش منذ خابت وساطة أَبى سفيان ليشفع عند الرسول في منع الحرب فأجمعوا أن يبعثوا أبا سفيان نحو المدينة فلعله يلقاه. وقالوا له:" أن لقيت محمداً فخذ لنا جواراً إلا أن ترى رقة في أصحابه فآذنه بالحرب"، وهم يظنون أن لديهم من الوقت ما يسمح بالإستعداد. وفيما كان أبو سفيان يسير بالقرب من مكة ومعه رفقه له إذا هم يرون عشرة آلاف نار في فحمة الليل وكثرة الأبنية والعسكر. وسمعوا صهيل الخيل ورغاء الإبل ففزعوا وبينما هم كذلك إذا بالعباس بن عبد المطلب ينادى أَبا سفيان:"يا أبا حنظلة ". فقال أبو سفيان:"لبيك أبا الفضل ما وراءك ". قال العباس:"هذا رسول الله في عشرة آلاف من المسلمين. لئن ظفر بك ليضربن عنقك فاركب عجز هذه البلغة حتى أستأمنه لك"[71] . وأخَذَ رفيقيه حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء فانتهى بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان إسلامهم [72] . فلما طلب العباس أن يجعل الرسول لأبى سفيان شيئاً يفخر به على الناس بمكة. قال:"من دخل دار أَبى سفيان فهو آمن. ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن"[73] . وعفا رسول الله عن أهل مكة وأعلن لهم الأمان الذي طلبوا بعد أن حاربوه وألبوا عليه فلما قدر عليهم أعلن أمان الله في حرم الله. لما يعرف لهذا البلد من الحرمة. وود أن لا يقع قتال. فأراد قبل أن ينصرف أَبو سفيان إلى أهل مكة ليبلغهم أمان الله ليكون على ثقة بعدم جدوى المقاومة أو رفع السلاح. أراد الرسول أن يُرى أبا سفيان خيل الله وعدة المسلمين وعددهم وراياتهم فأمر العباس أن يحبس أبا سفيان في
مضيق الوادي حتى تمر به جنود الإسلام فيراها [74] . فلما لحق به العباس وحبسه عن المسير في المضيق قال أبو سفيان:"أغدراً بنى هاشم ". فقال العباس:"إن أهل النبوة لا يغدرون ولكن لي إليك حاجة". فقال أبو سفيان:"فهلا بدأَت بها أولاً "؟. قال العباس:"لم أكن أراك تذهب هذا المذهب حتى ترى جند الله "[75] .
ومرت القبائل المسلمة على راياتها ومر رسول الله في كتيبته الخضراء. فقال أبو سفيان:"ما رأيت مثل هذه الكتيبة قط ولا خَبرنيه مُخَبرّ. سبحان الله ما لأحد بهذا طاقة ولا يدان ". ثم قال للعباس:" لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً ". قال العباس:"ويحك يا أبا سفيان ليس بملك ولكنها نبوه ". قال:"نعم.."ثم قال العباس:" فأدرك قومك قبل أن يدخل عليهم ". فتقدم أبو سفيان الناس كلهم فدخل مكة فأعلن في أرجائها:"هذا محمد في عشرة آلاف عليهم الحديد وقد جعل لي من دخل داري فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن ومن طرح السلاح فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن". وجعل يصرخ في مكة:"يا معشر قريش إنه جاءكم بما لا قِبلَ لكم به. رأيت الرجال والكراع والسلاح فلا لأحد بهذا طاقه"[76] .
ونظم رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشه ليدخل مكة من كل أقطارها ودخل هو من أذاخر حتى نزل بأعلى مكة [77] . لا فخرَ ولا زهوَ ولا خيلاء وقد أعلى الله كلمة الإسلام وصارت مكة بين يديه خاضعة لأمره. روي أنه صلى الله عليه وسلم وضع رأسه تواضعاً لله، لما رأى من إكرام الله به من الفتح. حتى أن رأسه لتكاد تمس رحله شكراً لله. وخضوعاً لعظمته أن أحل الله له بلده. ولم تحل لأحد قبله ولا لأحد بعده [78] . ومع ما أحل له، رفض قولة سعد بن عبادة لأبى سفيان:"اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة"[79] . فقال الرسول:"اليوم يوم المرحمة اليوم يُعَزُ الله قريشاً"[80] . وفي رواية أخرى: "كذب سعد: هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة"[81] .
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى أمرائه أن لا يقاتلوا إلا من يقاتلهم. غير أنه أهدر دم نفر سماهم [82] . فلما دخل نظر صلى الله عليه وسلم إلى البارقة فقال:" ما هذا..؟ وقد نهيت عن القتال". فقالوا:"إن خالداً قوتل وبُدىء بالقتال فلم يكن بُد من أن يقاتلهم". وبعد أن اطمأن الرسول قال لخالد:"لمَ قاتلت وقد نهيتك عن القتال "؟. فقال:"هم بدؤنا بالقتال وقد كففت يدي ما استطعت". فقال الرسول:"قضاء الله خير"[83] . وقال صلى الله عليه وسلم مبيناً حرمة مكة وحرمها:"إن أعدى الناس على الله من قتَل في الحرم". وقال أيضاً يوم فتح مكة:"لا تغزى هذه بعد اليوم إلى يوم القيامة "[84] .
ثم طهر رسول الله بيت الله مما شابه من أوثان وأصنام إذ جعل يشير بقضيب في يده إلى الأصنام ويقول: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} فما أشار إلى صنم منها في وجهه إلا وقع لقفاه ولا أشار إلى قفاه إلا وقع لوجهه حتى ما بقي منها صنم إلا وقع. وعلا "بلال بن رباح "البيت فأذن بكلمة التوحيد وأعلن الإسلام [85] .
فلما كان غداة يوم الفتح قام رسول الله خطيباً فقال:"يا أيها الناس إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض. فهي حرام من حرام إلى يوم القيامة. فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً ولا يعضد فيها شجراً. لم تحلل لأحد كان قبلي ولا تحل لأحد يكون بعدي. ولم تحلل لي إلا هذه الساعة غضباً على أهلها. ألا ثم رجعت كحرمتها بالأمس. فليبلغ الشاهد منكم الغائب. فمن قال لكم أن رسول الله قد قاتل فيها فقولوا: إن الله قد أحلها لرسوله ولم يُحللها لكم"[86] .
وهكذا عرف النبي صلى الله عليه وسلم للبيت حقه وحرمته فعظمه وطهره من الصور والأصنام وأعلن الأمان لكل من دخله. وعفا عن مجاوريه من أهل مكة فقال لهم:"ما ترون أني فاعل بكم "؟. قالوا:" خيراً. أخ كريم وابن أخ كريم". قال:"اذهبوا فانتم الطلقاء" وعادت حرمة مكة إلى الأبد وحتى يرث الله الأرض ومن عليها. والحمد لله رب العالمين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
ابن منظور، لسان العرب (المطبعة الأميرية) جـ 2 ص 213.
[2]
الزبيدي، محمد مرتضى: تاج العروس من جواهر القاموس جـ 1 ص 457.
[3]
النويري: نهاية الأرب في فنون الأدب جـ 1 ص 313، محمود الألوسي: بلوغ الأرب جـ 1 ص 313.
[4]
البتانونى: الرحلة الحجازية ص 102.
[5]
النويري: نهاية الأرب في فنون الأدب جـ 1 ص 314، محمود الألوسي: بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب جـ 1 ص 227.. .
[6]
الأزرقي: أخبار مكة جـ 1 ص 34 (الطبعة الثالثة)، الألوسي: بلوغ الأرب جـ 1 ص 229.
[7]
المسعودي: أخبار الزمان ومن أباده الحدثان ص 73.
[8]
النويري: نهاية الأرب جـ 1 ص 301، الأزرقي: أخبار مكة جـ1 ص 36، 37.
[9]
اليعقوبي: تاريخ اليعقوبي جـ 1 ص 6.
[10]
وهب بن منبه: كتاب التيجان في ملوك حمير ص 9، 10، 14، 154.
[11]
المسعودي: أخبار الزمان ومن أباده الحدثان ص 105.
[12]
الطبري: جامع البيان في تفسير القرآن. تحقيق محمود شاكر جـ 3 ص 45.
[13]
الطبري: تاريخ الرسل والملوك جـ 1ص 132.
[14]
العيني: عمدة القاري شرح صحيح البخاري جـ 16 ص 288، الطبري: جامع البيان جـ 4 ص 7.
[15]
العيني: عمدة القاري شرح صحيح البخاري جـ 15 ص 261.
[16]
العيني: عمدة القاري شرح صحيح البخاري جـ 15 ص 262.
[17]
الطبري: جامع البيان في تفسير القرآن جـ 3 ص 57، 58.
[18]
الأزرقي: أخبار مكة ص 52، 53.
[19]
المسعودي: مروج الذهب ومعاص الجوهر جـ1 ص 357، أخبار الزمان 105: الطبري: جامع البيان 3/ 63.
[20]
اليعقوبي: تاريخ اليعقوبي جـ 1 ص 37.
[21]
سورة إبراهيم آية 35.
[22]
الطبري: تاريخ الرسل والملوك جـ 1 ص 131، النويري: نهاية الأرب جـ 1 ص 399.
[23]
المقريزي: إمتاع الأسماع بما للرسول من الأنباء والأموال والحفدة والمتاع جـ 1 ص 63.
[24]
الطبري: جامع البيان في تفسير القران جـ 1 ص 50.
[25]
ابن كثير: البداية والنهاية جـ 8 ص 148.
[26]
الأزرقي: أخبار مكة ص 53.
[27]
النويري: نهاية الأرب في فنون الأدب جـ 1 ص 309، 310.
[28]
ابن كثير: البداية والنهاية جـ1 ص 119.
[29]
ابن كثير: المرجع السابق جـ 1 ص 120 وكرك نوح قرية كبيرة قرب بعلبك. راجع. ياقوت. معجم البلدان.
[30]
الألوسي: بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب جـ 1 ص 232.
[31]
ابن هشام: السيرة النبوية لابن هشام. ط الحلبي. جـ 1 ص 447، 448.
[32]
الوافدي: كتاب المغاري. تحقيق مارسون جونس ص 572، النويري: نهاية الأرب جـ 17 ص 218.
[33]
ابن هشام: السيرة النبوية جـ 2 ص 308.
[34]
ابن هشام: المرجع السابق جـ 2 ص 309. .
[35]
الوافدي: كتاب المغازي جـ 2 ص 573.
[36]
المرجع السابق: الجزء والصفحة.
[37]
كناية عن النساء والأطفال حتى لا يعودوا لأهله.
[38]
الوافدي: كتاب المغازي جـ 2 ص 580.
[39]
ابن هشام: السيرة النبوية جـ 2 ص 309.
[40]
ابن كثير: تفسير القرآن العظيم جـ 4 ص 197.
[41]
ابن هشام: السيرة النبوية جـ 2 ص 309.
[42]
النويري: نهاية الأرب في فنون الأدب جـ17 ص 219.
[43]
الوافدي: كتاب المغازي جـ 3 ص 587.
[44]
ابن حجر العسقلاني: فتح الباري جـ 3 ص 587.
[45]
القسطلاني: المواهب اللدنية جـ 1 ص 126.
[46]
ابن حجر العسقلاني: فتح الباري جـ 5 ص 336.
[47]
ابن هشام: السيرة النبوية جـ 2 ص 314، الواقدي: المغازي جـ 2 ص 604.
[48]
ابن كثير: تفسير القران العظيم جـ 4 ص 192.
[49]
الشوكانى: فتح القدير الجامع بين فني الدراية والرواية في التفسير. جـ 5 ص 52.
[50]
الواقدي: كتاب المغاري جـ 2 ص 606.
[51]
الواقدي: كتاب المغازي جـ 2 ص 734.
[52]
ابن كثير: البداية والنهاية جـ 4 ص 231 والغميزة العيب والضعف في العمل المعجم الوسيط 2 ص 668.
[53]
ابن هشام: السيرة النبوية جـ 2 ص 371.
[54]
الرمَل: هو الإسراع في المشي وهز المنكبين: بن الأثير النهاية في غريب الحديث والأثر جـ 2 ص 265.
[55]
ابن كثير: السيرة النبوية جـ 3 ص 432.
[56]
ابن كثير: البداية والنهاية جـ 4 ص 232. وينفرون أي يسرعون ويشردون: الفيروز آبادي: القاموس المحيط جـ 2 ص 151.
[57]
كان الرسول قد خطب ميمونة بنت الحارث الهلالية فجعلت أمرها إلى العباس بن عبد المطلب فزوجها للرسول صلى الله عليه وسلم. وبنى بها في طريقه نحو المدينة عن سَرف. (الواقدي: المغازي جـ 2 738- 741) . وسرف بعد التنعيم. انظر الأزرقي في أخبار مكة جـ 1 ص 185 خانة 6.
[58]
الواقدي: كتاب المغازي جـ 2 ص 740.
[59]
الواقدي: كتاب المغازي جـ 2 ص 796، ابن هشام: السيرة النبوية جـ 2 ص 397.
[60]
ابن كثير: السيرة النبوية جـ 3 ص 534.
[61]
المدة: هي هدنة تضع الحرب بموجب شروط الحديبية عشر سنين.
[62]
الواقدى: كتاب المغازي جـ 2 ص 796، ابن كثير: السيرة النبوية جـ 3 ص 535.
[63]
الأنقاب: جمع نقب وهو الطريق بين جبلين. إبن الأثير: النهاية في غريب الحديث والأثر جـ 5 ص 103.
[64]
الواقدي: كتاب المغازي جـ2 ص 796.
[65]
الواقدي: كتاب المغازي جـ 2 ص 796.
[66]
الواقدى: كتاب المغازى جـ 2 ص 799.
[67]
روضة خاخ: موضع على اثني عشر ميلاً من المدينة قرب حمراء الأسد: العباسي: احمد بن عبد الحميد: عمدة الأخبار 316.
[68]
إبن هشام: السيرة النبوية جـ 2 ص 399، ابن كثير: السيرة النبوية جـ 3 ص 537. والآية أول سورة الممتحنة.
[69]
إبن هشام: السيرة النبوية جـ 2 ص 299 0 ابن كثير: السيرة جـ 3 ص 538.
[70]
مر الظهران: يعرف الآن بوادي فاطمة بقرب مكة: الأزرقي: أخبار مكة جـ1 ص 185 حاشية 6.
[71]
ابن كثير: السيرة النبوية جـ 3 ص 547.
[72]
الواقدى: كتاب المغازي جـ2 ص 815.
[73]
ابن هشام: السيرة النبوية جـ 2 ص 403.
[74]
ابن هشام: السيرة النبوية جـ 2 ص 403.
[75]
الواقدى: كتاب المغازي جـ 2 ص 818.
[76]
الوافدي: المرجع السابق جـ 2 ص 822، 823.
[77]
ابن هشام: السيرة النبوية جـ 2 ص 407.
[78]
القسطلاني: المواهب اللدنية جـ اص 154.
[79]
ابن هشام: السيرة النبوية جـ 2 ص 406.
[80]
القسطلاني: المواهب اللدنيه جـ 1 ص 151.
[81]
ابن كثير: البداية والنهاية جـ 4 ص 291.
[82]
ابن كثير:البداية والنهاية جـ 4 ص 297، السيرة النبوية جـ 3 ص 565.
[83]
القسطلانى: المواهب اللدنية جـ 1 ص 152.
[84]
ابن كثير: السيرة النبوية جـ 3 ص 580.
[85]
ابن هشام: السيرة النبوية جـ 2 ص 417.
[86]
ابن هشام: السيرة النبوية جـ 2 ص 415، 416، القسطلاني: المواهب اللدنية جـ 1 ص 155، ابن كثير: السيرة النبوية جـ 3 ص 578. وانظر أيضاً: البخاري: صحيح البخاري جـ 2 ص 18 (ط الحلي) .
جهادُ المسلِمِينَ ضِدّ الصَّلِيبيِّّينَ
للدكتور جَاد محمد أحمد رَمضان
كلية الدعوة وأصول الدين
إن المسلمين اليوم في أشد الحاجة إلى اتحاد الكلمة ووحدة الصف لحماية بلادهم من أطماع الطامعين وكيد الكائدين والقدوة بأسلافهم الذين ردوا كيد أعدائهم وحموا بلادهم من أطماعهم.
ففي القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) تدفقت على الشرق الإسلامي جموع من الأوربيين النصارى وشنت عليه حروباً عرفت في التاريخ بالحروب الصليبية نسبة إلى الصليب الذي اتخذه المحاربون شارة لهم.
والأسباب التي تذرع بها هؤلاء المعتدون هي تمكين الحجاج النصارى من الحج إلى بيت المقدس وحمايتهم من مضايقة المسلمين لهم وهى أسباب غير صحيحة لأن تعاليم الإسلام كفلت لأهل الأديان الأخرى الحرية التامة في مزاولة شعائر دينهم ونهت عن التعرض لهم بسوء ما داموا مسالمين ولا نظن أن مسلمي هذا العصر كانوا يجهلون ذلك.
وكان الذي أثار هذه الشائعات هو بطرس الناسك الذي حج إلى بيت المقدس وعز عليه أن يراه ملكاًَ للمسلمين وهو المكان المقدس لدى النصارى وقد طاف بطرس الناسك جميع البلاد الأوربية وأخذ يحرض النصارى على تخليص بيت المقدس من يد المسلمين.
وفي أواخر سنة 463 هـ انهزم البيزنطيون أمام المسلمين في موقعة (ملاذ كرد) فاستنجد الإمبراطور البيزنطي بالبابا (إريان الثاني) بطريرك الكنيسة الغربية وقد صادف هذا الإستنجاد هوى من نفس البابا الذي كان يطمع في ضم الكنيسة الشرقية إلى الكنيسة الغربية فأقام أوربا وأقعدها وأثار تلك الضجة العالمية التي تعتبر من أهم أحداث التاريخ.
وفي العام التالي لهذا الاستنجاد ألقى البابا خطبة في مدينة (كلير منت) في الجنوب الشرقي لفرنسا حث فيها النصارى على أن يسلكوا سبيلهم إلى القبر المقدس ويأخذوه عنوة من ذلك الشعب الملعون ويخضعه لأنفسهم [1] .
ولقد أشعلت هذه الخطبة جذوة الحماسة في نفوس الجماهير النصرانية شريفهم وضعيفهم على السواء فهبوا عن بكرة أبيهم حتى بلغ عدد المتطوعين مائة وخمسين ألفاً من النورمانديين والفرنج ولم يكن الحماس الديني وحده هو الذي دفع هذه الجماهير إلى شن الغارة على الشرق الإسلامي بل إن كثيراًَ من الأمراء ومن بينهم (بوهيمند) ، خرجوا استجابة لأطماعهم في تكوين إمارات لهم في الشرق الأوسط كما كانت المصالح الإقتصادية هدف تجار البندقية وبيزه وجنوة.
وكان من بين تلك الجماهير أرقاء الأرض الذين وجدوا في التطوع لهذه الحروب فرصة للتخلص من أمراء الإقطاع وكذلك الفقراء الذين ملوا في أن يجدوا لهم مصدر رزق في الشرق والمجرمون الذين وجدوا في الحروب من أجل تخليص بيت المقدس تكفيراً عن ذنوبهم [2] .
تلاحقت الجيوش التي تكونت منها الحملة الصليبية الأولى في القسطنطينية ثم عبرت منها إلى آسيا الصغرى سنة 490 هـ واشتبكت بجيوش السلطان (قليج أرسلان) السلجوقي عند مدينة (قونية) فهزمتها واستولت على المدينة ثم واصلت سيرها إلى مدينة (أسكي شهر) وفتحتها [3] .
ثم عبر الصليبيون جبال طوروس واتجهت فرقة منهم تحت قيادة (بلدوين) واستولت على (الرها) في أوائل سنة 491 هـ أما بقية الصليبيين فقد واصلوا سيرهم نحو الجنوب وضربوا الحصار على مدينة (إنطاكية) التي كان يحكمها أمير تركي منذ عهد (ملكشاه) يدعى (ياغي سيان) . وبعد تسعة أشهر تمكنوا من فتحها.
استراح الصليبيون فترة ثم اتجهوا إلى مدينة بيت المقدس التي كانت قد عادت إلى حكم الفاطميين منذ بضعة أشهر فقط وكان يحكمها من قِبل الخليفة الفاطمي (المستعلى بالله) أمير يسمى (افتخار الدولة) تؤيده حامية لا تتجاوز ألف جندي. ومع ذلك صمد لحصار الصليبين نحو أربعين يوماً تمكنوا بعدها من فتح المدينة سنة 492 هـ وارتكبوا من ضروب الوحشية ما تقشعر منه الأبدان وتنكره الشرائع وقتلوا من سكانها سبعين ألفاً بغير ذنب.
أنشأ حماة الصليب. ثلاث إمارات في المشرق: إمارة الرها وأميرها (بلدوين) وامارة أنطاكية وأميرها (بوهيمند) وأمارة بيت المقدس وأميرها (جود فري) . وقد تكونت من هذه الإمارات الثلاث المملكة اللاتينية في الشرق أختير (جود فرى) ملكاً لها ولقب (بارون وحامى حمى القبر المقدس) .
ولما كان لابد لتأييد مركز الصليبيين في الشام وتأمين طريقهم إلى أوروبا من احتلال مدن الساحل شرع جود فرى في احتلالها بمساعدة السفن الإيطالية التي بذل أصحابها المعونة ليجعلوا من هذه الثغور أسواقاً جديدة لتجارتهم. وكان معظم تلك الثغور تابعاً- للدولة الفاطمية. ومن بينها مدينة طرابلس فطمع الكونت (رايموند) في فتحها وحاصرها سنة 494 هـ ولكنه لم يتمكن من فتحها ومات قبل أن تتحقق أمنيته ولكن ابنه (برتراند) حقق هذه الأمنية في أواخر سنة 502 هـ حيث استولى على المدينة بمساعدة أسطول جنوي [4] . وبذلك تكونت إمارة صليبية رابعة تبعت بيت المقدس.
وكانت إمارة بيت المقدس وما يتبعها من الإمارات الثلاث: الرها وإنطاكية وطرابلس هي الإمارات اللاتينية الوحيدة التي قامت على أرض إسلامية لذلك كانت أملاك الصليبيين قاصرة على مساحة ضيقة من إقليم الجزيرة وبعض أجزاء الشام الشمالية والسهل الساحلي الضيق. أما المدن الداخلية كحلب وشيزر وحماه وحمص وبعلبك ودمشق فإنها لم تدخل في حوزة الصليبيين.
من المسئول عن هذه المأساة:
إن المساحة التي اقتطعها الصليبيون من أرض المسلمين وأنشأوا عليها مملكتهم كان الجزء الشمالي منها تابعاً للدولة العباسية والجزء الجنوبي تابعاً للفاطميين. وكان مسرح نزاع على النفوذ والسيطرة بين الدولتين لعدة سنوات قبل مجيء الصليبين إليها.
أما العباسيون فإن دولتهم كان قد تجدد شبابها على يد سلاطين السلاجقة الثلاثة الأول: طغرل بك وألب أرسلان وملكشاه (447- 485) هـ ولكن خلفاءها لم يكم لهم من الأمر شيء وكان النفوذ والسلطان للسلاجقة فلما توفي السلطان ملكشاه الذي جاء الصليبيون إلى الشرق بعد موته بسنوات معدودة تنازع أبناؤه على السلطنة فضعف أمرهم وانشغلوا بالنزاع فيما بينهم واستغل الخلفاء هذا النزاع ليستعيدوا سلطتهم وشغلوا بذلك عما يجري في الشام من أحداث [5] . وتركوا الصليبيين يبنون لهم ملكاً في أحشاء العالم الإسلامي ويشيدونه ولم يفكروا في دعوة المسلمين إلى الجهاد ويخرجوا بأنفسهم على رأس المجاهدين ليصدوا هؤلاء المغيرين عن بلاد الإسلام.
ولو أن هؤلاء الخلفاء أعلنوا النفير العام وحاولوا إيقاظ شعور العالم الإسلامي وإشعال الحماس الديني في نفوس المسلمين- كما فعل البابوات في أوروبا- لأحرزوا بعض النجاح إن لم يحرزوه كله واستطاعوا أن يعطلوا سير الصليبيين إن لم يستطيعوا أن يردوهم على أعقابهم إلى أوروبا.
ولم يهتم السلاجقة كذلك بجهاد الصليبيين بل كانوا في شغل شاغل بالتنافس على كرسي السلطنة فيما بينهم ومراقبة الخلفاء حتى لا يتمكنوا من استرداد سلطانهم وهكذا شغل هؤلاء وهؤلاء بمصلحتهم الشخصية عن الواجب الديني الذي فرضه الله على المسلمين
وقد كان من الواجب على هؤلاء السلاطين الذين كانوا يحملون ألقاب (غياث الدنيا والدين وحامى حمى المسلمين) كان الواجب عليهم أن يعملوا بمقتضى ما منحوه من ألقاب وأن يوجهوا همتهم للدفاع عن بلاد الشام والجزيرة التي كانت موطئ أقدام الغزاة الصليبين وألا يتركوا عبء الدفاع عنها على كواهل أمرائها الضعاف الذين لم يكن لديهم من الجيوش والمعدات ما يمكنهم من صد هؤلاء المغيرين ويساعده على الإحتفاظ بما تحت أيديهم من الإمارات وحمايتها من أطماع الصليبين.
ومما يثير الدهشة أن وفداً من سكان بيت المقدس ذهب إلى بغداد بعد سقوط مدينتهم في يد الصليبيين يلتمس النجدة من أمير المؤمنين (المستظهر بالله 487- 512 هـ) فتأثر أهل بغداد لما حلّ بإخوانهم تأثراً عميقاً وحزنوا لما أصابهم حزناً شديداً ولكنهم لم يهبوا لنصرتهم. أما الخليفة فإنه أحال الوفد على السلطان بركياروق بن ملكشاه ولكن السلطان لم يقدر المسئولية ولم يحقق ما عقد عليه من أمل ويهب على رأس جيش لنجدتهم.
وهكذا تقاعس الخلفاء العباسيون والسلاطين السلاجقة عن الجهاد وحماية بلاد الإسلام حتى وطد الصليبيون أقدامهم في جزء غال منها وتطلب إجلاؤهم عنه مجهوداً كبيراً ووقتاً طويلاً من أبطال الإِسلام الذين كرسوا أنفسهم للجهاد في سبيل الله أمثال عماد الدين زنكي وابنه نور الدين محمود وصلاح الدين يوسف بن أيوب ومن جاء بعدهم من الأيوبيين والمماليك.
وكان الخلفاء الفاطميون قد ضعف شأنهم في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري وانتقلت السلطة من أيديهم إلى أيدي وزرائهم وكان يتربع على كرسي الوزارة في الوقت الذي غزا فيه الصليبيون بلاد الشام الوزير القدير الأفضل بن بدر الجمالي وكانت الدولة في عهده تبسط يدها على كثير من مدن الشام الساحلية مثل صور وعكا وعسقلان ويافا وغزة وغيرها، كما كانت تحتفظ بقوة برية وبحرية كبيرة ولكن هذا الوزير لم يتناس العداوة القديمة بين السلاجقة السنيين وبين الفاطميين الشيعة وظن أن فرسان الصليبيين يمكن أن يناصروه على أعدائه السلاجقة ولم يدرك أنهم أعداء الطرفين إلا عندما استولوا على بيت المقدس واشتبكوا معه في معركة طاحنة على مقربة من مدينة عسقلان بعد أن سقطت بيت المقدس في أيديهم بأيام وهزموه هزيمة منكرة [6] .
ولقد تحمس الأفضل لجهاد الصليبيين وأرسل إلى ميادين القتال أبرع قواده ولم يبخل حتى بأولاده غير أنه لم يحرز نصراً ذا قيمة عليهم وسقط في أيديهم ما كان في حوزة الفاطميين من مدن الشام مدينة تلو الأخرى حتى طمعوا في غزو مصر نفسها.
وهكذا تقع مسئولية ما حل بأهل البلاد التي اغتصبها الصليبيون من كوارث وما نزل بأهل البلاد التي هاجموها من مصائب على عاتق الخلفاء العباسيين الذين عاصروا تلك الحوادث وسلاطين السلاجقة الذين كانوا يديرون شئون دولتهم وعلى خلفاء الدولة الفاطمية الذين كانوا يجلسون على كرسي الخلافة في مصر في هذه الفترة والوزراء الذين حكموا باسمهم.
عصر المقاومة
بعد مضي ربع قرن على تأسيس مملكة الصليبيين في الشرق ظهر زعيم إسلامي قوي هو عماد الدين زنكي أمير الموصل الذي استولى على إمارة حلب وحمل لواء الجهاد ضد الصليبين وتمكن من انتزاع إمارة الرها من أيديهم [7] .
ولقد روع سقوط الرها في يد عماد الدين الصليبين المقيمين في الشرق فأرسلوا إلى أوروبا يستدعون حماة الصليب للدفاع عنهم وجاءت الحملة الصليبية المعروفة (بالحملة الثانية) ولكنها لم تحقق الغرض الذي جاءت من أجله وهو تخليص الرها بل حاصرت دمشق فاستنجد أميرها بابني عماد الدين: سيف الدين غازي أمير الموصل ونور الدين محمود أمير حلب ودافع الأمراء الثلاثة عن المدينة فلم يتمكن الصليبيون من فتحها ورجعت الحملة إلى أوروبا تجر أذيال الخيبة [8] .
وكان عماد الدين زنكي قد توفي بعد استيلائه على الرها فحمل ابنه نور الدين محمود أمير حلب لواء الجهاد الإسلامي ضد الصليبين ووحّد بلاد الشام تحت حكمه وسبق معاصره الصليبى (عمورى الأول) إلى فتح مصر.
وبعد موت نور الدين سنة 569 هـ حمل صلاح الدين الأيوبي راية الجهاد الإسلامي وفي السنة التي توفي فيها نور الدين مات عمورى الأولى وخلفه على بيت المقدس ابنه (بلدوين الرابع) وكان أبرص [9] . وبموت عمورى فقد الصليبيون شخصية قوية كانت تسيطر على الإمارات الصليبية سيطرة قوية وتقرب في الكفاءة الحربية من شخصية نور الدين بطل المسلمين.
صلاح الدين يخلف نور الدين في زعامة العالم الإسلامي:
في سنة 569 هـ توفي السلطان نور الدين محمود ولم يترك من الذكور سوى الصالح إسماعيل وكان في الحادية عشرة من عمره فاتفق أمراء الدولة على مبايعته بالسلطنة على أن يتولى الأمير شمس الدين بن المقدم الوصاية عليه [10] .
ولقد خطب صلاح الدين في مصر للملك الصالح إسماعيل وسك النقود باسمه وأعلن طاعته له ولكن أمراء دولة الملك الصالح تنافسوا فيما بينهم على السيطرة على السلطان الصغير وأعلن ابن عمه سيف الدين غازي الثاني استقلاله ببلاد الموصل.
ولما اشتد التنافس بين أمراء حلب وأمراء دمشق على السيطرة على السلطان الصغير أرسل شمس الدين بن المقدم إلى صلاح الدين يدعوه للقدوم من مصر إلى دمشق ليسلمها إليه وانتهز صلاح الدين هذه الفرصة وسار إلى دمشق وتسلمها سنة 570 هـ وأعلن أنه ليس خارجاً على الملك الصالح وأنه إنما جاء إلى الشام ليحافظ على ملكه [11] .
وفي سنة 577 هـ توفي الصالح إسماعيل ولم يترك وارثاًَ للعرش وكان صلاح الدين بمصر فلما علم بوفاته اتجه إلى الشام فدانت له حلب وخضع لسلطانه أكثر مدن الموصل. وبذلك انتهت دولة الأتابكة في الشام التي كان قد أسسها عماد الدين زنكي سنة 522 وشيد بنيانها ابنه نور الدين محمود بعد أن حملت لواء الجهاد ضد الصليبين نحو نصف قرن حتى أنهكت قواهم وورثتها الدولة الأيوبية التي كانت ثمرة طيبة من ثمارها.
موقعة حطين:
لم تخل الفترة التي قضاها صلاح الدين في توحيد القوى الإِسلامية (572- 582 هـ) من حروب بينه وبين الصليبيين. وفي سنة 576 هـ عقدت هدنة بين صلاح الدين وبين (بلدوين الرابع) ملك بيت المقدس (ريموند) أمير طرابلس لمدة سنتين ولكن أرناط (ريجينالد) أمير حصن الكرك الذي يتبع بيت المقدس لم يحترم تلك الهدنة ودأب على مهاجمة القوافل السائرة بين دمشق والقاهرة وفي السنة التالية لعقد الهدنة عزم على توجيه حملة إلى بلاد الحجاز ولكن عزّ الدين فرخشاه ابن أخي صلاح الدين ونائبه على دمشق علم بذلك فأغار على حصن الكرك وشغل أرناط عن تنفيذ ما عزم عليه [12] .
وفي العام التالي لهذه الحادثة اتجه أرناط على رأس حملة بحرية إلى شواطئ الحجاز يريد غزو مكة والمدينة. وكان صلاح الدين بالموصل وقتئذ ونائبه في مصر أخوه العادل فأرسل العادلا أسطولاً التقى بأسطول الصليبيين شمال ينبع وهزمه هزيمة ساحقة وأسر كثيراً من بحارته وفر أرناط بمن بقي معه [13] .
وعلى الرغم من استنجاد (رايموند) الثالث أمير طرابلس بصلاح الدين ليساعده على تولى ملك بيت المقدس الذي تولاه (جاى دى لوزينيان) بمساعدة أرناط فإن صلاح الدين لم يشأ أن يتدخل في شئون الصليبيين الداخلية تمسكاً بالأخلاق الإسلامية التي تدعو إلى الوفاء بالعهد.
وفي سنة 582 هـ هاجم أرناط قافلة من الحجاج المسلمين كانت تعبر بلاده في طريقها إلى مكة ونهبها وأسر كثيراً من أفرادها فأرسل إليه صلاح الدين يطلب إطلاق سراح الأسرى فلم يفعل فغضب صلاح الدين واستعد للحرب ونذر أن يذبح أرناط بيده إن أظفره الله به [14] .
ولما علم الصليبيون باستعداد صلاح الدين لحربهم اجتمعوا في بلدة صفورية على مقربة من عكا ليدرسوا الموقف ويقرروا الخطة التي يسيرون عليها إذا هاجمهم صلاح الدين فأشارت الأقلية- وعلى رأسها أرناط- بمهاجمة صلاح الدين ولكن الأكثرية- وعلى رأسها جان دي لوزينيان- رأت أن يقف الصليبيون موقف الدفاع. غير أن أرناط أثر على الملك فانحاز إليه وترجحت كفة الداعين للهجوم وتقدم الجيش الصليبي وعسكر على تل قريب من قرية (حطين) .
أما صلاح الدين فأنه فتح مدينة طبرية سنة 583 ولكن قلعتها لم تسلم ففك الحصار عنها واتجه نحو معسكر الجيش الصليبي وهاجمه هجوماً عنيفاً وأنزل بالصليبيين هزيمة ساحقة وقتل كثيراً منهم وأسر كثيراً من بينهم أرناط وجاي دي لوزينيان. وقتل السلطان أرناط بيده وفاء بنذره. ولما رأى ملك بيت المقدس ما حل بأرناط ارتعدت فرائصه ولكن صلاح الدين أمنه على حياته [15] .
أثر الموقعة:
أحرز صلاح الدين في موقعة (حطين) نصراً بيناً على الصليبيين فأصبح من السهل عليه أن يوالي انتصاراته عليهم بعد أن أباد معظم جيشهم في الموقعة فرجع إلى طبرية وشدد الحصار على قلعتها حتى سلمت ثم رحل إلى عكا وضرب الحصار عليها حتى فتحها واستنقذ منها أسرى المسلمين وكانوا زهاء أربعة آلاف. وخير أهلها المسيحيين بين الرحيل عنها بأموالهم وما يستطيعون حمله من أمتعتهم وبين الإِقامة بها على أن يدفعوا الجزية فاختار معظمهم الرحيل خوفاً من أن يغدر بهم صلاح الدين. وتسلم السلطان المدينة ثم أخضع معظم المدن الساحلية مثل قيسارية وحيفا ويافا وصيدا وغيرها [16] .
ثم حاصر السلطان مدينة عسقلان ووعد (جاي دي لوزينيان) بإطلاق سراحه إن هو أقنع أهلها بالتسليم فسلموا على الشروط التي سلمت بها عكا من قبل وبرّ صلاح الدين بوعده لملك بيت المقدس فأطلق سراحه بعد سنة من تسليم عسقلان وبعد أن أخذ عليه عهداً ألا يشترك في حرب ضده ولكنه نقض العهد وحارب السلطان بعد ذلك [17] .
وكان صلاح الدين قد قضى على زهرة الجيش الصليبي في موقعة حطين واحتل المدن الساحلية القريبة من بيت المقدس وسيطر على الطرق المؤدية إليها وبذلك تهيأت الفرصة لفتحها فتقدم إليها وحاصرها أسبوعاً فاستسلمت حاميتها وطلب أهلها الصلح فأجابهم صلاح الدين وأمهل من أراد الجلاء من أهلها أربعين يوماً وشرط عليهم أن يدفعوا قبل رحيلهم فدية مقدارها عشرة دنانير عن الرجل وخمسة عن المرأة وديناران عن الطفل ذكراًَ كان أو أنثى فمن دفع سمح له بالخروج ومن لم يدفع أخذ أسيراًَ وأعفى من الفدية الشيوخ والعجزة والفقراء.
وتم تسليم المدينة في أواخر رجب سنة 583 هـ وخلّص صلاح الدين من كان فيها من أسرى المسلمين وكانوا زهاء ثلاثة آلاف [18] .
وكان سقوط مدينة بيت المقدس عاصمة المملكة الصليبية في يد صلاح الدين إيذاناً بجلائهم عن الشرق ورجوعهم من حيث أتوا وقد سر المسلمون سروراً عظيماً لهذا النصر المبين.
ولما دخل صلاح الدين المدينة حافظ على ما بها من آثار وعمر ما تخرب منها في أثناء الحصار ثم أرسل أخاه العادل لفتح حصن الكرك ففتحه سنة 584 هـ وتوجه هو على رأس بقية الجيش إلى مدينة صور وحاصرها وكانت قد تجمعت بها فلول النازحين من البلاد المفتوحة واحتموا بها فاستعصت عليه لأن الإمدادات كانت تأتيها عن طريق البحر ففك عنها الحصار [19] .
الحملة الصليبية المعروفة (بالثالثة) سنة 587 هـ:
لقد أثار سقوط بيت المقدس في يد صلاح الدين أوروبا فتناسى ملوكها ما بينهم من عداوات وقاد الجيوش للثأر من المسلمين كل من (فردريك بربروس) إمبراطور ألمانيا ورتشارد الأول (قلب الأسد) ملك إنجلترا وفيليب أغسطس ملك فرنسا. وكان هؤلاء الملوك الثلاثة أقوى ملوك أوروبا الغربية وكانت حملتهم أكثر الحملات الصليبية عدداً. وكان فردريك أول من اتجه إلى الشرق سالكاً الطريق البري عبر أوروبا الشرقية وآسيا الصغرى ولكنه غرق عندما كان يعبر أحد الأنهار في كيليكيا فعاد معظم جيشه إلى ألمانيا [20] .
أما ملكا فرنسا وإنجلترا فإنهما ركبا البحر من مرسيليا ووصلا بجيوشهما إلى جزيرة صقلية واستراحا بها فترة ثم غادراها دون أن يتفقا على خطة معينة فتوجه فيليب أغسطس نحو عكا مباشرة وعرج ورتشارد على جزيرة قبرص واحتلها ليتخذها قاعدة لأسطوله يهاجم منها فلسطين.
اتفق الصليبيون الذين كانوا بالشام مع ملك فرنسا ومن وصل إليهم من بقايا جيش إمبراطور ألمانيا على حصار عكا ونقض جاي ذي لوزينيان ملك بيت المقدس عهده لصلاح الدين عندما فك أسره وحاصر المدينة سنة 586 هـ وفى اليوم التالي لحصارها وصل صلاح الدين لإنقاذها وضرب خيامه في مواجهة العدو واشتدت المعارك براًَ وبحراًَ بين المهاجمين والمدافعين. وبعد فترة وصل رتشارد بجيشه ففرح الصليبيون بقدومه وقوي جانبهم وقد استبسلت حامية المدينة في الدفاع عنها وكانت أوامر صلاح الدين تصل إلى الحامية بواسطة السباحين وحمام الزاجل [21] . وقد استمر الحصار إلى سنة 587 هـ وساعد الفرنج على مداومته سيطرتهم على البحر.
ولما اشتد الضيق بحامية المدينة وعجز صلاح الدين عن إرغام الفرنج على فك الحصار عنها سلمت على أن يفتدى أهلها أنفسهم بمائتي ألف دينار وألف وستمائة أسير من أسرى الفرنج من بينهم مائة شخص طلب فداؤهم بالذات وأن يرد المسلمون صليب الصلبوت الذي كانوا قد أخذوه عندما فتحوا مدينة بيت المقدس [22] .
أخذ صلاح الدين يجمع المال ليفتدي حامية عكا ولما انقضى شهر ولم يدفع الملك المبلغ المتفق عليه أمر رتشارد بقتل ألفين وسبعمائة من أسرى المسلمين ولم يكن كريماً في معاملته للأسرى المسلمين كما فعل صلاح الدين بعد فتحه لبيت المقدس مع الأسرى الفرنج حيث أطلق آلافاً منهم عجزوا عن افتداء أنفسهم [23] .
وقد أصبحت عكا بعد أن استردها الصليبيون أهم مركز لدولة الفرنجة في الشرق وحلت محل بيت المقدس في الزعامة على المدن الصليبية الأخرى. وكان من المحتمل أن يكسب الصليبيون انتصارات أخرى مهمة على المسلمين ولكن سرعان ما دب دبيب الشقاق بينهم ورجع ملك فرنسا إلى بلاده وبقي (رتشارد) واستولى على مدينتي أرسوف ويافا وعزم على استرداد بيت المقدس فوجه صلاح الدين همته إلى تحصين المدينة والدفاع عنها ورأى أنه من الخير الاحتفاظ بالمدن الداخلية ريثما تتاح له فرصة تكوين أسطول بحري كبير يحمي به المدن الساحلية.
صلح الرملة:
كان رتشارد شديد الرغبة في فتح بيت المقدس ولكنه لم يكن واثقاً من الظفر بأمنيته ففكر في حيلة تحقق له بعض ما يتمناه وأقترح أن يزوج أخته من العادل أخي صلاح الدين على أن يحكم الاثنان بيت المقدس ولكن هذا الاقتراح رفضه المسيحيون والمسلمون على السواء [24] .
ثم حدثت بعض المعارك بين جيش رتشارد وصلاح الدين وكان رتشارد وصلاح الدين يتبادلان الهدايا والمكاتبات رغم الحرب الدائرة بينهما [25] .
ولما سئم كل من الطرفين الحرب دخلا ثانية في مفاوضات انتهت بعقد صلح الرملة سنة 588هـ على شروط أهمها ما يلي:
1-
أن تخرب مدينة عسقلاة التي كانت قد وقعت في أيدي الصليبيين وكان بقاء هذه المدينة محصنة خطراً على بيت المقدس لأنها مفتاحه.
2-
أن يستولى الصليبيون على المدن الساحلية من صور شمالاً إلى يافا جنوباً وأن تبقى المدن الساحلية الواقعة جنوب يافا في أيدي المسلمين.
3-
أن يمكن المسيحيون من الحج إلى بيت المقدس وألا يتعرض لهم المسلمون بأذى.
هذا كل ما تمخضت عن الحملة الصليبية المعروفة (الثالثة) . يقول المؤرخ الإنجليزي المعروف (فيشير) معلقاً على فشل هذه الحملة ومن هذه النتيجة الضئيلة تتضح شناعة الخاتمة التي حلت بما عقد على تلك الحملة من آمال كما تتضح فداحة الدليل على عجز أوروبا عن توحيد المسيحية الغربية وتوجيهها نحو هدف عام [26] .
الأيوبيون والمماليك يواصلون جهاد الصليبيين:-
لم يعمر صلاح الدين طويلاً بعد صلح الرملة بل وافته منيته في صفر سنة 589 هـ ودفن بدمشق وتوارثت أسرته حكم الإمبراطورية التي أنشأها وحملت لواء الجهاد ضد الصليبين وصدت كل ما وجهوه إلى الشام ومصر من هجوم وكان آخر أبطالهم المعظم توران شاه بن السلطان الصالح أيوب الذي أظهر بطولة نادرة في حربه مع لويس التاسع ملك فرنسا وتغلب عليه وأسره مع كثير من أمراء دولته وجنده وقتل منهم سبعة آلاف في المعركة [27] .
وكان السلطان الصالح أيوب قد أكثر من شراء المماليك ورقاهم إلى أعلى رتب الجيش وكانوا أطوع له من بنانه وأكثر الناس ولاءً له وقد أبلوا بلاءً حسناً في محاربة الصليبين وكانوا من أقوى العناصر التي ساعدت على هزيمتهم فقوي مركزهم وطمعوا في انتزاع الملك من الأيوبيين بعد موته فلما أراد ابنه توران شاه أن يفرض عليهم نفوذه وسيطرته قتلوه بعد بضعة عشر يوماً من انتصاره على الصليبيين وهو ما يزال في أرض المعركة وقبل أن يعود إلى القاهرة [28] .
وبعد قتل السلطان توران شاه نادى المماليك بشجرة الدر أم ولد السلطان نجم الدين أيوب سلطانة على مصر وما يتبعها من بلاد الشام ويعدها أكثر المؤرخين آخر سلاطين الدولة الأيوبية لأنها زوجة الصالح أيوب.
ولما علم الخليفة العباسي المعتصم بالله بسلطنة الشجرة الدر أنكر ذلك إنكاراً شديداً [29] ، فرأت أن بقاءها في السلطنة غير ممكن فتزوجت من معز الدين أيبك التركماني أحد أمراء المماليك وتنازلت له عن السلطنة وبذلك انتقل الملك من الأيوبيين إلى المماليك. وقد واصل المماليك الجهاد ضد الصليبين ففتح الظاهر بيبرس (658-676هـ) كثيراً من مدنهم وأهمها قيسارية وأرسوف وصفد وطبرية ويافا وأنطاكية وفتح المنصور قلاوون (679- 689 هـ) طرابلس وعزم على حصار عكا ولكن المنية عاجلته [30] . وخلفه ابنه الأشرف خليل (689- 693 هـ) فحاصرها نحو شهر حتى فتحها سنة 690 هـ. وكانت عكا آخر معقل للصليبيين في بلاد الشام فلما تم فتحها سلم ما بقي من أيديهم من المدن في ظرف شهرين دون مقاومة وقضى على دولتهم القضاء الأخيرة [31] .
وهكذا واصل المسلمون الجهاد حتى استردوا ما اغتصبه الصليبيون من بلادهم ولم يهنوا امتثالاً لقول الله تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [32] وواصلوا جهادهم واثقين بوعد الله للمجاهدين في سبيله بالنصر حيث يقول جلّ شأنه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [33] .
فلعل المسلمين أن يقتدوا بأسلافهم ويُوحدوا جهودهم ليخلصوا بلادهم من الصهاينة كما فعل أسلافهم من قبل مع الصليبيين {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [34] .
الشهادة على سمكة
حكى عبد الرحمن بن هارون المغربي. عند القزويني- أنه ركب بحر المغرب فوصلنا إلى موضع يقال له البطرون وكان معنا غلام صقلي معه سنارة فألقاها في البحر فصاد بها سمكة نحو البشر فنظرنا. فإذا خلف أذنها اليمنى مكتوب لا إله إلا الله وفي قفاها محمد وخلف أذنها اليسرى رسول الله. القزوينى ص 177
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
فيليب حتى: تاريخ العرب ترجمة الأستاذ مبروك نافع جـ2 ص822.
[2]
المصدر السابق جـ2 ص 823.
[3]
ابن القلاني: ذيل تاريخ دمشق ص 132.
[4]
ابن القلاني:ذيل تاريخ دمشق ص162.
[5]
أبو شامة: الروضتين في أخبار الدولتين جـ اص 31.
[6]
ابن الأثير: الكامل جـ 10 ص 106.
[7]
إسحاق أرملة: الحروب الصليبية في الآثار السريانية ص 106.
[8]
ميشو: تاريخ الحروب الصليبية جـ 2 ص 27 1- 29 1.
[9]
ابن الأثير: الكامل جـ10 ص 139.
[10]
ابن واصل: مفرج الكروب في أخبار بني أيوب ص 58.
[11]
ابن الأثير: تاريخ الأتابكة ص 22.
[12]
أبو الفداء: المختصر في أخبار البر جـ 3 ص 63.
[13]
المقريزى: كتاب السلوك جـ اص 76- 78.
[14]
أبو الفدا: المختصر جـ 3 ص 71.
[15]
ابن شداد: سيرة صلاح الدين ص 65.
[16]
أبوا الفدا: المختصر جـ 3 ص 71- 72.
[17]
المقريزي: كتاب السلوك جـ اص 172.
[18]
ابن شداد: سيرة صلاح الدين ص 66، 67.
[19]
أبو الفدا: المختصر جـ 3 ص 73.
[20]
فيليب حتى: تاريخ العرب جـ 2 ص 839، 840.
[21]
ابن شداد: سيرة صلاح الدين ص 120.
[22]
أبو شامة: الروضتين في أخبار الدين جـ 2 ص 189.
[23]
فيليب حتى: تاريخ العرب جـ 2 ص 841.
[24]
أبو الفدا: المختصر: جـ 2 ص 80.
[25]
ابن شداد: سيرة صلاح الدين ص 229.
[26]
تاريخ أوروبا في العصور الوسطى جـ 2 ص 188.
[27]
المقريزي: كتاب السلوك جـ اص 356.
[28]
السيوطي: حسن المحاضرة جـ 2 ص 45.
[29]
المرجع السابق جـ 2 ص 46.
[30]
أبو المحاسن: النجوم الزاهرة جـ 7 ص 1 32- 325.
[31]
أبوالفدا: المختصر جـ 4 ص 24 ولأبي الفدا أهمية خاصة في تدوين هذه الوقائع لأنه اشترك في المعارك التي دارت بين المسلمين وبين الصليبيين في أواخر عهد قلاوون وعهد ابنه الأشرف خليل.
[32]
سورة الأعراف آية 139.
[33]
سورة الحج آية 40.
[34]
سورة الروم آية هـ.
كَيفيَّة الدَّعوَة إِلى الله
للشيخ أبو بكر الجزائري
رئيس قسم التفسير بالجامعة
قال الله تعالى:
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (سورة يوسف أية 108)
بين يدي تفسير الآية:
بسم الله. والحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فإن هذه الآية الكريمة: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} الآية.
كآية النحل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الآية.
وكآية الرعد {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} الآية.
متضمّنة واجب الدعوة إلى الله تعالى الذي قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده وسلفهم الصالح خير قيام فعرف الله تعالى. وعرفت شرائعه المتضمنة محابه ومكارهه. وعبد سبحانه وتعالى ووحد في عبادته في أنحاء كثيرة من العالم 0 وسعد وكمل على تلك الدعوة خلق لا يحصى عددهم إلا الله، لأنهم من أجيال أربعة عشر قرناً وزيادة.
غير أن هذا الواجب تخلى عنه المسلمون في الجملة زمناً غير قصير. فمنذ ضعفت الخلافة العثمانية وقبل سقوطها والدعوة الإسلامية واقفة، وظلها الطيب المبارك ينحسر عن رقاع واسعة من العالم الإسلامي. والأسباب معروفة، فما هناك حاجة إلى ذكرها هنا. وإنما الذي ينبغي أن يذكر هو أن العالم الإسلامي قد تحرر من سلطان الاستعمار الغربي، وأصبح للمسلمين دول وحكومات لها شأن عظيم. ووزن ثقيل بين دول العالم وحكوماته فيجب على المسلمين أن ينهضوا من جديد بواجب الدعوة الإسلامية ويحملوها إلى الناس ليكملوا عليها ويسعدوا بها، وذلك واجبهم الذي أوجبه الله تعالى عليهم بآية يوسف التي نحن بصدد تفسيرها. إذ قوله تعالى:{أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} نص صريح في أن من اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به ودعا إليه من الإيمان والإسلام والإحسان، وجب عليه أن يدعو إلى الله تعالى ليعرف ويعبد ويوحد. في حدود طاقته، وما يتسع له جهده البشري.
ونظراً إلى الظروف المحيطة بالعالم الإسلامي. والواقع الذي يعيشه المسلمون اليوم. فإن النهوض بهذا الواجب، واجب الدعوة إلى الله تعالى قد يتأتى من طريقين:
الأول: وهو واجب الدعوة في داخل العالم الإسلامي، ويكون باضطلاع الحكومة المسلمة به بين مواطنيها ورعاياها، وذلك بتكوين لجان الأحياء والقرى والمساجد. وتتكون لجنة الحي في الجامع من عمدة الحي أو القرية وإمام المسجد والواعظ الخاص بالمسجد، ويتعاون كل مواطن في الحي أو القرية مع هذه اللجنة على دعوة كل مواطن لحضور درس المسجد اليومي من بعد صلاة المغرب إلى صلاة العشاء، لتلقي العلم المعرف بالله تعالى ومحابه ومساخطه. والمواعظ المساعدة على فعل المحبوب لله عز وجل، وترك المكروه له سبحانه وتعالى. وعلى المسئولين أن يولوا هذه اللجان وأعمالها في المساجد عناية تجعل المواطن لا يتأخر عن حضورها والإستفادة منها طوال حياته0
يضاف إلى ذلك تحويل الإذاعة إلى منبر هداية وإصلاح وتربية وتعليم على نحو إذاعة القرآن بالمملكة العربية السعودية، فإنها خير إذاعة وجدت اليوم في العالم الإنساني؛ إنها تبث ثمان عشرة ساعة الهدى والمعرفة مع خلوها من أي باطل أو ضلال من غناء أو زمر. أو صوت امرأة يحرم سماع صوتها0
كما يضاف إلى ما تقدم: أن يقوم وزير الداخلية في كل حكومة إسلامية بزيارات متتالية لكل قرية وحي في المدينة بحيث يؤمر أهل القرية أو الحي بالحضور إلزامياً. ويحضره الوزير ورجاله وكافة أهل القرب أو الحي ويلقي الوزير كلمة يشجع بها على طاعة الله ورسوله والاستقامة على دين الله. ثم تلقي كلمات الوعاظ والمرشدين المتخصصين. وكلها تدعو إلى معرفة الله والتقرب إليه وطلب ما عنده من خير الدنيا والآخرة وذلك بطاعته تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، بفعل الصالحات وترك السيئات0
فعلى مثل هذا يتم النهوض بواجب الدعوة إلى الله تعالى في داخل البلاد الإسلامية.
وهذا الطريق خير من نظام الجمعيات والتكتلات الخاصة، فقد جربت فلم ينتج عنها إلا البلبلة والاضطراب وسوء الأخلاق وفساد الأحوال.
وقد عرف هذه الحقيقة الملك الصالح عبد العزيز آل سعود، فعاش طوال حكمه وليس في المملكة حزب ولا جمعية ولا منظمة، وجرى على هذا أبناؤه البررة. فصارت المملكة مضرب المثل في الطهر والصلاح والاستقرار بينما وجدت في البلاد الإسلامية الأخرى الأحزاب والجمعيات والجماعات، فلم تثمر شيئا ذا بال من الخير والإصلاح. فضلاً عما حصل من جرائها من مصاعب ومتاعب في كثير من البلاد الإسلامية والعياذ بالله.
والثاني: وهو النهوض بواجب الدعوة خارج ديار الإسلام، ويكون من طريقين:
الأول: متعذر في هذه الظروف وهو أن يتقدم الجيش الإسلامي إلى الدولة المتاخمة لحدوده فيعسكر على مقربة منها، ثم يطالب بواحدة من ثلاث: الإسلام، أو الدخول في حماية المسلمين للدعوة إلى الله تعالى، والتعريف به وبما عنده وما لديه، ويحكموا الناس بشريعة الله العادلة الرحيمة. وإن رفضت الأوليين فالثالثة وهي القتال حتى يحكم الله بين المسلمين دعاة الله وبين الكافرين دعاة الشيطان والطاغوت0 هذا طريق، وهو متعذر في هذه الظروف كما قدمنا0
والثاني: وهو أن يلحق بكل سفارة لدولة إسلامية في بلاد الكفر عالِمٌ متخصّصٌ في شئون الدعوة الإسلامية يتولى أمر عرض الإسلام بلغة تلك البلاد، وبيان محاسنه، والدعوة إليه بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة بواسطة النشرة والكتاب. والمحاضرة والندوة، وما إلى ذلك من وسائل البلاغ.
هذا أولاً. وثانيا أن يعنى بشأن الجاليات الإسلامية الموجودة في تلك البلاد بحيث تصبح في كمالاتها الروحية والأخلاقية مثالاً عالياً يُرغب في احتذائه والتمثل به. الأمر الذي يجعل سكان تلك الديار يتساءلون عن مصدر تلك الكمالات الروحية. ويطلبون التعرف إليها، والأخذ بها. وهذه طريق من أنجح الطرق إلى الإسلام وأكثرها نفعاً: لأنها الدعوة إلى الإسلام بحسن القدوة0
ولكي تصبح الجاليات الإسلامية على هذا المستوى الرفيع من الكمال الروحي والخلقي. يجب أن تنشأ هيئة إسلامية في العالم الإسلامي لهذا الغرض، تكون مهمتها جمع التبرعات المالية شهرياًَ من كل المسلمين حكومات وشعوباً ويتولى إنفاق تلك الأموال هيئة إسلامية أخرق تعرف (بالهيئة العليا للدعوة الإسلامية في العالم) وتعمل هذه الهيئة على توحيد كلمة الجاليات الإسلامية وعملها من طريق بناء مسجد جامع لكل مجموعة في البلد الواحد وتزويده بعالم يؤم الناس ويعلمهم ويرشدهم ويهذب نفوسهم ويصلح أخلاقهم مع فتح مدرسة تتسع لأولادهم، ومقبرة لدفن موتاهم0
ومن المسجد الجامع تنبثق لجنة تعرف (بلجنة المسجد) تعنى بشئون الأفراد المسلمين دينياً ودنيوياًَ في تلك المدينة بحيث تقوم بما تقوم به جماعة المسلمين عند انعدام الحاكم المسلم، فتأمر بالمعروف بين الجالية، وتنهى عن المنكر، وتنصح، وترشد، وترعى الحرمات، وتدفع المضرات، وتفصل في الخصومات0
وبهذا تتم الدعوة الإسلامية في خارج البلاد الإسلامية. وبذلك تبرأ ذمة المسلمين من واجب الدعوة إلى الله تعالى. ويكونون قد قدموا لأنفسهم ولغيرهم خيراً يعود عليهم نفعة في الدنيا والآخرة.
(تفسير الآية)
أ- شرح الكلمات:
قل: فعل أمر من قال يقول قولاً، إذا أمر غيره أن يقول. بمعنى ينطق بقولٍ ما من الأقوال.
هذه: أسم إشارة إلى القريب، والمشار إليه هنا: طريق الرسول صلى الله عليه وسلم في إبلاغ رسالته0
سبيلي: السبيل: الطريق الموصل إلى غاية. وهي هنا الإسلام. والغاية الجنة دار السلام وأضيفت السبيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه سالكها وملتزم بالسير عليها.
أدعو: أطلب غيري من الناس إلى الإسلام ليدخلوا فيه حتى يعملوا ويسعدوا0
إلى: حرف جر يفيد الغاية ويدل عليها والانتهاء إليها0
الله: اسم الرب تبارك وتعالى: ومعناه المعبود بحق الذي يألهه أهل السماء والأرض.
على: حرف جر يدل على الاستعلاء والتمكن فيه0
بصيرة: البصيرة للقلب كالإبصار للعين. والمراد بها هنا: العلم التام والحجة الواضحة.
أنا: ضمير المتكلم وهو هنا عائد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفصل هنا ليعطف عليه قوله ومن اتبعني0
و: حرف عطف، عطف به الموصول (مَن) على الضمير المنفصل قبله (أنا)
من: من اسم موصول بمعنى الذي0
اتبعني: اتبع فعل ماضي، والضمير المستتر فاعل عائد على من، والنون للوقاية.
والياء ضمير متصل عائد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مبني على السكون في محل نصب مفعول به.
وسبحان: الواو حرف عطف- سبحان أصله مصدر كالغفران من سبح يسبح. وصار علماًَ على التسبيح الذي هو تنزيه الله تعالى عن النقائص وعن كل ما لا يليق به: أي طلب البراءة له من كل نقص وعيب0
الله: اسم الجلالة الأعظم: علم على ذات الرب تعالى0
وما: الواو للعطف والاستئناف. وما: حرف نفي مثل ولا، في نفي الصفات والذوات والأفعال أيضاًَ، نحو ما الله بغافل. وما القائم زيد، وما قلت غير الحق0
أنا: ضمير فصل للمتكلم عائد إلى رسول الله صلى الله عديه وسلم.
من: حرف جر، ولها معان كثيرة يعرف كل معنى بحسب ما تدخل عليه من الكلام، فتكون للتبعيض كأنفقوا مما رزقناكم، وكما هي هنا إذ نفى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون واحداً من المشركين. أي بعضاً منهم.
المشركين: جمع مشرك وهو من عبد مع الله تعالى غيره من سائر المخلوقات، وبأي نوع من أنواع العبادات0 التي شرعها الله لعباده يعبدونه بها0
ب- المعنى المجمل للآية الكريمة:
يأمر الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عديه وسلم أن يقول للمشركين والمكذبين به وبدينه الحق: هذه سبيلي أي طريقتي التي لا أخرج منها ولا أحيد عنها، وقد وضعني ربي عليها وأمرني بالتزامها. وهي إيماني به تعالى وإسلامي وجهي له، بعبادته وحده لا شريك له بما شرع لي من العبادات، وما ألزمني به من الطاعات، حال كوني داعيا إلا الإيمان بالله ربي تعالا والى معرفته، ومعرفة محابه ومساخطه0 من الاعتقادات والأقوال والأعمال والى فعل محبوبه، وترك مكروهه. ليكمل الناس بذلك ويسعدوا عليه0
وإني في دعوتي هذه لَعَلَى عِلمٍ كامل ومعرفة تامة بربي وبمحابه ومساخطه، وبما عنده من نعيم مقيم لأوليائه في دار كرامته، وما لديه من نكال وعذاب أليم لأهل عداوته وبغضته ممن كفروا به وأشركوا في عبادته، وذلك في دار مهانة أعدائه يوم يحشرون إليه. ويجمعون ويوقفون بين يديه.
وان أتباعي على طريقتي هم مثلي يدعون على علم تام ومعرفة كاملة. يدعون عباد الله إلى معرفته تعالى ومعرفة محابه ومكارهه، والى طاعته عز وجل بفعل محابه من المعتقدات والأقوال والأفعال، وتركَ مكارهه من ذلك، رجاء أن يكملوا ويسعدوا في دنياهم وأخراهم.
وإني لمسبح ربي ومقدسه ومنزه له عن كل ما لا يليق بجلاله وجماله من الولد والشريك والعجز وكل صفات النقص وسمات الضعف والعجز0
ومع هذا فإني متبرئ من المشركين، فلا تربطني بهم رابطة، ولا تصلني بهم صلة، وذلك من أجل محادتهم لربي، وشركهم به، وكفرهم بآياته ورسوله، وأن أتباعي مثلي في تنزيه ربي وتقديسه، وفي البراءة من الشرك والمشركين0
جـ- هداية الآية:
اعلم أخي المسلم أن في كل آية من آي كتاب الله تعالى الذي بلغ نيفاً وست آلاف أية هداية خاصة بحيث لا تخلو أية من ذلك. وقد تحمل الآية الواحدة هدايات عدة وهناكَ نوع من الهدايات لا تخلو منه أية آية قط، وهو دلالة كل آية على وجود الله تعالى وعلمه ورحمته وقدرته وحكمته، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته.
وبيان ذلك: أن الآية قول نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وكل قول دال على قائله؛ إذ يستحيل وجود قول بلا قائل، فدلت الآية إذاً على وجود الله تعالى. وبما أن الآية تحمل علماًَ ومعرفة فقائلها إذاً عالم. وكون الآية تحمل مظهر الرحمة، لأنها نزلت بالخير، فمنزلها رحيم، وكونها لا تخلو من حكمة نزلت لها فإن منزلها قطعا حكيم، وهكذا 0
وبما أن محمداً صلى الله عليه وسلم رجل أمي بشهادة الله تعالى وشهادة التواتر البشري وينطق بالقرآن ويقرؤه، ويعلمه، ويهدي ويحكم به. فإن هذا دل على أنه صلى الله عليه وسلم نبي الله ورسوله. إذ لولا أن الله تعالى نبأه وأرسله لما أوحى إليه كلامه، وأمره أن يتلوه ويعلمه ويحكم به ويهدي، وهو أمي لا يعرف حتى الحروف الهجائية.
فهذه الهداية- وهى الدلالة الفعلية على صحة الحقيقة العظمى وهى: لا إله إلاّ الله محمد رسول الله- موجودة في كل آية من كتاب الله القرآن العظيم.
ومن هدايات هذه الآية الخاصة:
1-
منهجية الإسلام: إذ هو سبيل الله الموصل إلى رضوانه تعالى وجواره الكريم، وهو قائم على الاعتقاد الخاص، والقول الخاص، والعمل الخاص. وأهله ملزمون بالتقيد التام بمعتقداته، وأقواله، وأعماله. وبهذا كان الإسلام منهجاً ثابتا وواضحاًَ يفضي بالآخذين به إلى كمالهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة0
2-
علم الداعي بما يدعو إليه: وبما يساعده على إبلاغ دعوته من الحجج القواطع، والبراهين السواطع. العقلية والنقلية ومن ذلك أساليب البيان للترغيب والترهيب0
3-
واجب الدعوة إلى الله تعالى: ليعبد ويوحد. ويذكر ويشكر من أجل إكمال البشر وإسعادهم في الحياتين. على كل من شهد لله بالوحدانية، ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة ممن أوتى علماً وبصيرة في دين الله تعالى الذي هو الإسلام0
4-
وجوب تنزيه الله تعالى وتقديسه: عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله وجماله من سائر العيوب والنقائص، مع وجوب إثبات كل كمال لله عز وجل مما يليق بذاته وربوبيته سبحانه.
5-
وجوب البراءة من الشرك وأهله: ولو كانوا أقرب قريب. وذلك إلى أن يؤمنوا بالله وحده ويعبدوه بما شرع لعباده من ضروب الطاعات وصنوف العبادات0
هذا وفي الآية هدايات غير ما ذكرنا. والله نسأل أن يرزقنا الاهتداء بهداياتها والعمل بها. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه.
قال تعالى:
{ولا تصَعِّرْ خَدَّكَ للنَّاسِ وَلَا تَمْش في الأرض مَرَحاً إنَّ الله لا يحب كلَّ مُخْتال فخُورٍ}
(لقمان الآية: 18)
من هم القُرّاء السبعة
هم:
نافع في المدينة المنورة - وعبد الله بن كثير في مكة المكرمة - وأبو عمرو بن العلاء في البصرة - وعبد الله بن عامر في دمشق- وعاصم - وحمزة ابن حبيب والكسائي ثلاثتهم في الكوفة.
لماذَا كانَت الهِجرَة إلى الحبشة؟
للشيخ عبد الكريم عبد السلام
بالدراسات العليا بالجامعة
إن الهجرة في الإسلام ليست مجرد مجرد ترك الوطن أو الابتعاد عن الأهل والعشيرة، أو الزهد في المال لأنها إذا كانا كذلك فلا ميزة لها ولا أهمية في الإسلام.
فالهجرة في الإسلام تحتوي على معان عظيمة وتهدف إلى تحقيق أهداف سامية، فلها أهمية خاصة في نظر الإسلام، ومعيار لقوة الإيمان وضعفه، وفارقة بين الصادق المخلص والمدعي الخادع، ووسيلة من وسائل نصرة العقيدة التي آمن بها المهاجر مهما كلفه ذلك من عناء ومشقة مضحياً في سبيل ذلك بكل ما يملك.
ولعلنا نستطيع أن نستشف ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم: "إن شأن الهجرة لشديد "[1] . فلم تكن الهجرة إلى الحبشة والطائف وكذلك الهجرة إلى المدينة إلا لأجل تحقيق المبادىء التي دعا المصطفى صلى الله عليه وسلم الناس إليها لتكون لهم عقيدة وسلوكاً. ولما انتهت دواعي ذلك، أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم:"لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا "[2] .
وسنرى فيما يأتي في ضوء هذه المقدمة، ما هي الأهداف من الهجرة إلى الحبشة؟. وإلى أي مدى تحققت؟
…
قطعت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم مرحلتها السرية، وشوطاًَ من طورها الجهري، بعد مضي نحو خمس سنوات من بدايتها، وقد سعت قريش بجميع عروضها المغرية ضد الرسول صلى الله عليه وسلم لتعطيل حركة الدعوة، ووقف سيرها، وهى تعلم أن ما تصبو إليه بعيد المنال، فأكبت على المسلمين بضروب من العذاب وفنون من الأذى والنكال، مع قلة عددهم، وضعف قوتهم المادية، وأخذت تمارس ألواناً من الإيذاء الموجع، والتعذيب المهلك، ضد جماعة المؤمنين حتى بلغ أذاهم مبلغاً يذيب الصخر، ويفتت الجبال الراسيات، فصبروا على هذا الإبتلاء دون وهن، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في منعة من قومه، وحماية عمه أبى طالب، لا يصل إليه شيء يكرهه مما ينال أصحابه، ولم يكن يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء.
فرأى من حسن السياسة أن يبعد أصحابه عن مكة ليرتاحوا فترة من الزمن حتى يقضي الله بأمره، ولم يكن ذلك إلا بوحي من الله تعالى، فالقرآن كان قد بدأ يهيئ نفوس المسلمين لترك الوطن والأهل والمال في سبيل الله، بحيث لا تكون هذه الأشياء عقبة في سبيل نشر الدعوة وإقامة شعائرها، فقال الله تعالى:{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ. كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ. الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [3] . وقال: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [4] .
بعد هذه التوجيهات والتلميحات قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه:"لو خرجتم إلى أرض الحبشة فان بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه "[5] . فخرجت [6] عند ذلك جماعة من المسلمين في رجب من السنة الخامسة من البعثة إلى أرض الحبشة، فكانت أول هجرة في الإسلام، إلا أنهم- بعد ثلاثة أشهر رجعوا إلى مكة لما بلغهم من إسلام أهلها، حتى إذا دنوا منها، عرفوا عدم صحة ما بلغهم من إسلام هؤلاء، فلم يدخل فيها أحد منهم إلا بجوارٍ أو مستخفياً، وعاد بعضهم الآخر إلى الحبشة ثانية [7]
ثم إن هؤلاء العائدين إلى مكة، لم يلقوا من قريش إلا ما كانوا يواجهون من قبل من عنف وتعسف، فأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج مرة ثانية إلى أرض الحبشة، فخرج [8] هذه المرة حوالي ثمانين رجلاً وبضع عشرة نسوة. بعد مقارنة الراويات في هذا الصدد يبدو أن جميع المهاجرين الذين أقاموا في الحبشة، يبلغ عددهم ثلاثة وثمانين رجلاً، وثماني عشرة نسوة، منهم إحدى عشرة امرأة قرشية، وسبع نسوة غير قرشية. ونزلوا جميعاً في جوار النجاشي، فكانوا في خير دار إلى خير جار، آمنين أحراراً على دينهم، ولم يخشوا ظلماً ولم يسمعوا مكروهاً، بل كان لهم عنده منزلة، وكان يرسل إليهم فيسألهم عما يريدون [9] .
ولم تكن الهجرة إلى الحبشة اعتباطاً أو فراراً كما يظنه بعض الكتّاب- مؤولاً ذلك إلى الفرار بالدين، ولكنها كما يبدو بعد إمعان النظر- وقعت بعد دراسة عميقة دقيقة قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم بوحي من الله تعالى. وقد دل تحقق النتائج التي توقعها النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الهجرة على مدى عمق تفكيره، وحسن تدبيره، وإداركه الأمور، واتخاذه أسلوباً حكيماً مواطئاً للظروف القائمة في نطاق وحي الله تعالى.
فالهجرة كانت ذات نتائج عظيمة، ولم تكن مجرد فرار بالدين مخافة الفتنة، أو طلباً للمأوى في الحبشة فحسب، أو لم تكن أسبابها ما قاله المستشرقون كذباً وافتراءً على الإسلام لإظهار ضعف أهله، والتشكيك في نوايا دعاته. وخلاصة أقوالهم: أن تلك الهجرة كانت للأسباب التالية:
أولاً: الهروب من الاضطهاد
…
ثانياً: البعد عن خطر الارتداد.
ثالثاً: ممارسة النشاط التجاري.
رابعاً: السعي للحصول على مساعدة عسكرية من الأحباش.
خامساً: نشوء اختلاف شديد بين المسلمين آنذاك.
ولم يكن كل من خرجوا في هذه الهجرة فقراء، ليس لهم منعة ولا قوة، بل كان أكثرهم ذوي شرف ومكانة في قومهم، وأولى ثروة ومال، وكان لهم من عصبتهم ما يدفع الأذى عنهم إلى حد كبير أمثال: عثمان بن عفان، وابن عوف، وجعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم ممن هم في الذروة من النسب، ولهم مكانة وجاه بين قريش. أما الموالي المستضعفون الذين لاقوا التعذيب فلم يهاجر منهم إلا قليل، وقد كانوا أحق بالهجرة والنجاة من غيرهم، فلماذا هاجر الأقوياء وبقي المستضعفون، إن كان الفرار هو الهدف من الهجرة؟
…
ولماذا هاجرت نساء من بين أشراف قريش كرقية بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وأسماء بنت عميس رضي الله عنهن. ولم تتعرض إحداهن لأذى أو فتنة؟ [10] .
وعلى هذا يبدو أن إيذاء قريش للمسلمين لم يكن هو وحده السبب للهجرة، بل كانت هناك عوامل أخرى سيأتي ذكرها.
وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم هجرة المهاجرين إلى الحبشة مثل هجرة المهاجرين إلى المدينة التي لا تخفي أهميتها على أحد، حيث صرح بذلك حينما ذكرت له أسماء بنت عميس قال لها عمر:"سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله عنكم". فقال صلى الله عليه وسلم: " ليس بأحق بي منكم، له ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أصحاب السفينة هجرتان "[11] .
ولنوجز الأسباب الظاهرة التي من أجلها أذن النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة، وخاصة إلى الحبشة، وذلك فيما يلي:
أولاً: اشتد تعذيب قريش على المسلمين، وطفحت كأس صبرهم، حتى جاءوا يسألون النبي عليه الصلاة والسلام:"متى يأتي نصر الله؟."فأذن لهم بالهجرة إلى الحبشة صوناً لدينهم، وحماية لهم من أذى قريش. وتلك سنة من الله شرعها لمن ضيق عليه إلى يوم القيامة، عند عجزه عن الظهور بدينه، إذا منعه أهل الباطل من العمل بها أو الدعوة إليه [12] .
ثانياً: أراد الرسول صلى الله عليه وسلم إنقاذ الدعوة من إجهاضها في أيامها الأولى، ذلك لأن المسلمين كانوا يتزايدون كل يوم، ولو بقوا كلهم بمكة، لشعرت قريش بخطرهم عليها، فتقوم بحرب استئصال لهم باسم الآلهة، وربما أيدهم العرب في ذلك [13] .
ثالثاً: يبدو أنه كان من الممكن أن يترتب على هجرتهم إثارة العاطفة الجياشة إزاء الأهل والأقرباء واستغلالها أحسن استغلال، فتراود قريش نفسها في أمر هؤلاء المهاجرين الذين تربطهم بهم رابطة الرحم، فقد تمتنع عن إيذائهم.
والحق أنه كان لذلك أثر كبير في قلوب القرشيين، فلم تبق دار أو أسرة إلا وتأثرت بهذا الحادث الأليم، إلا أن هذا التأثر كان مختلفاً من بيت إلى آخر، فمن هؤلاء من ازداد غيظاً على المسلمين فزاد في تعذيبهم ومنهم من شعر أنه من الظلم إجبار الناس على مفارقة الأهل والوطن، فرقت قلوبهم للمهاجرين، وأصبح ذلك سبباً إلى اعتناقهم الإسلام [14] .
ألا ترى لما خاب أمل الوفد المبعوث من قبل قريش إلى نجاشي الحبشة في اليوم الأول، قال عمرو بن العاص أحد العضوين للوفد:"والله لآتينه غداً عنهم بما أستأصل به خضراءهم". فقال صاحبه عبد الله بن أبى ربيعة:" لا تفعل فإن لهم أرحاماً وإن كانوا قد خالفونا"[15] . وإن في خبر زوجة عامر بن ربيعة مع عمر بن الخطاب لأبلغ دليل على الأسف الذي داخل بعض قلوب الكفار من مغادرة ذوي أهلهم وهجرتهم إلى الحبشة. وذلك أنه مر عمر بن الخطاب بأم عبد الله بن عامر وهى تستعد للرحيل إلى الحبشة، وكان زوجها قد خرج لقضاء بعض حاجاته، فقال لها عمر:"إنه للانطلاق يا أم عبد الله"، فردت عليه وذكرته بالأذى والبلاء والإهانات التي يتعرضون لها. وقالت:"نعم والله لنخرجن في أرض الله، آذيتونا وقهرتمونا حتى يجعل الله لنا فرجاً ومخرجاً "، فقال:"صحبكم الله". فأحست رقة في نبرات عمر لم تكن تعهدها من قبل وقد عرفت عنه قسوته على المسلمين، فلما عاد زوجها أخبرته بما بدا على عمر، وقالت:"يا أبا عبد الله لو رأيت عمر آنفاً ورقته وحزنه علينا"، قال:"أطمعت في إسلامه"، قالت:"نعم". قال:"فلا يسلم الذي رأيت حتى يسلم حمار الخطاب".
رابعاً: إن في خروجهم إلى الحبشة إشارة إلى حقيقة كبرى، وهى أن الدعوة الإسلامية لم تكن لتنحصر في مكة أو الجزيرة العربية أو أي بقعة خاصة في الأرض، بل إنها موجهة إلى جميع العالم، ولهذا لما وصل المهاجرون إلى أرض الحبشة لم يكونوا صامتين، أو قائمين بالشعائر في مجالسهم فقط، أو عاكفين في بيوتهم فحسب، بل أظهروا مظاهر الإسلام. ومن نتائج واقعهم هذا قدوم وفد النصارى إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، وإسلام النجاشي حتى أصبح داعياً إلى الإسلام، فكان عمرو بن العاص من الذين أسلموا على يديه، كل ذلك من نتائج جهود المسلمين المهاجرين وآثارها [16] .
خامساً: ومن عواملها: أخذ التجربة لنشر الدعوة في موطن جديد، مع الإبقاء على ضعفة المسلمين ويؤيد هذا القول أن الهجرة جاءت بعد أن لم يستجب للدعوة إلا قليل، ويشهد لهذا- أيضاً- ما سبقت الإشارة اليد من أنه لم يهاجر كل الضعفة المعذبين، إذ ما كل مستضعف كان يلوذ بالفرار والهجرة بما يدل عليه ما جرى لعثمان بن مظعون الذي كان في جوار من وليد بن المغيرة.
وذلك أنه لما رأى ما فيه أصحابه صلى الله عليه وسلم من البلاء. وهو يغدو ويروح في أمان من الوليد، فقال:"هذا نقص كبير في نفسي"، فرد إليه جواره. (أنظر: ابن هشام، السيرة 1 ص 386) .
سادساً: وشيء آخر ذو بال يلمح من الهجرة إلى الحبشة، أملأ وهو الجانب الإعلامي لأمر الدعوة الإسلامية بحيث ينتشر عند العرب وغيرهم أمر هؤلاء القوم الذين أتوا النجاشي وظفروا بحمايته، من هم؟ ولماذا جاءوا؟ وبماذا جاءوا؟ . وتتناقل الألسنة هذا الخبر من مكان إلى آخر، فيصبح ذلك بمثابة الإعلام الناجح عن وجود هذه الدعوة الإسلامية فيترتب على ذلك انتشارها في أماكن مختلفة، وهذا كسب عظيم.
وهذا الأمر زاد من قلق قريش، فقد أشاعت هذه الهجرة في أهل مكة جواً من الخوف وزلزلة في القلوب، حتى ترك رجال قريش حيارى لا يدرون ماذا يفعلون؟.
لقد أحس الملأ من قريش أن الزمام أخذ يفلت منهم، وأن هؤلاء الذين احتموا بأرض الحبشة من المسلمين سيكونون- بلا ريب- دعاية حسنة لدعوة الإسلام، فليس يبعد أن يتأثر الأحباش بدعوتهم فيسلموا، وينتشر الإسلام، فيصير المسلمون قوة وكثرة، وتصبح لهم قاعدة إسلامية هناك، ولقد أسقط في يد قريش عندما رجع رسولاها من عند النجاشي بدون جدوى ففي هذا الجو الغاضب الحائر قرروا أن يقاطعوا بنى هاشم وبني عبد المطلب بالصحيفة الظالمة.
يقول أمين دويدار: "كانت هواجس الخوف من هجرة المسلمين إلى الحبشة تقلق بال قريش، وتزعج أمنها واستقرارها، حتى تركتها في اضطراب دائم، وبلبلة مستمرة، وأغلقت منافذ التفكير على ذوى الرأي فيها، وحرمتهم التوفيق في كل ما كانوا يأتون، ويدعون من الأمر، فكانوا يقدمون على شيء يظنون أن فيه النيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم والصد عن سبيله، فينقلب عملهم خيراً له وشراً عليهم"[17] .
والحقيقة أن هذه الصحيفة كانت دعاية لصالح المسلمين بين الوافدين إلى مكة وتبين الناس ظلم قريش وعدوانها حتى أدى ذلك إلى شعورها بالخزي.
وها أذكر الآن بعض الأسباب التي اختار النبي صلى الله عليه وسلم أرض الحبشة لتكون هي المهجر الأول للمسلمين فيما يلي:
أولاً: اختارها لعدم وجود قبائل عربية مستقرة فيها، فتتمكن قريش عن طريقها من النيل من المسلمين وتكون الهجرة سبباً في إثارة المتاعب في وجوه المهاجرين، أما الجزيرة العربية – إذ ذاك –فلم تكن مهيأة للهجرة إليها، بل ربما كان من المحقق أن تجامل قريشاً لمكانتها وعظمتها لديهم، بسبب بدانتها البيت وسيادتها الدينية وكونها من ولد إسماعيل.
أما العراق والشام فكان يعوزهما الاستقرار السياسي، إذ كانت الحروب والاضطرابات مشتعلة فيها، فالهجرة إليهما لا تحقق الغرض المقصود، بل إنها تكون أشد خطراً من الإقامة في مكة نفسها، فضلاً عن أنه كانت هناك بينها وبين قريش علاقات تجارية قديمة وغير تجارية مما يجعل العراق والشام تبادران إلى إجابة مطالب قريش، كذلك كان دولة الفرس قائمة وما كانت تدين بدين سماوي، فما كانت الهجرة كذلك تصلح لديهم.
كل ذلك يدل على أن الهجرة إلى هذه الجهات كانت أمراً غير مأمون العواقب، ثم إن المهاجرين لا يمكنهم اختراق شبه جزيرة العرب إلى هذه الجهات النائية دون التعرض للقرشيين وحلفائهم [18] .
ثانياً: كان ملك الحبشة أصحمة النجاشي عالماً بالتوراة والإنجيل، ومعروفاً بحب العدل وتحري الحق، ولم يكن يخشى لديه ظلم أحد- كما قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يظلم عنده أحد". وقد كان أهل مكة يعرفونه لصلاتهم التجارية بالحبشة.
ثالثاً: أنهم كانوا على شيء من دين المسيح عليه السلام، وهم أقرب مودة وأقل عداوة من اليهود والمشركين وغيرهم، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الود فقال تعالى:{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ، وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [19] .
رابعاً: لجوء المسلمين المهاجرين إلى أرض آمنة، يجدون فيها الراحة والحماية- الأمر الذي يشجع أهل مكة الخائفين من اعتناق الدين الإسلامي أن يعتنقوه ويلحقوا بهؤلاء المهاجرين.
وبعد هذه الدراسة يبدو- في الحقيقة- أن هجرة المسلمين إلى الحبشة لم تكن لغرض دنيوي ولا اقتصادي ولا عسكري، ولم تكن لجوءً سياسياً بحتاً، بل أنها كانت بمثابة أسلوب من أساليب الدعوة التي اتخذها الرسول صلى الله عليه وسلم بحيث كانت لها فوائد جمة وكانت نقلة كبرى، وانقلاباً خطيراً في محيط المجتمع الذي يعيش فيه المسلمون في مكة المكرمة.
هكذا كان حكام المسلمين
يروي التاريخ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. كان يجتاز الطريق يوماً ومعه الجارود العبدي فإذا امرأة تناديه وتقول:"رويدك عمر حتى أكلمك كلمات قليلة "، ويلتفت عمر وراءه ثم يقف حتى تبلغه المرأة. فتقول له وهو مصغ مبتسم:"يا عمر عهدي بك وأنت تسمى عميراً تصارع الفتيان في سوق عكاظ فلم تذهب الأيام حتى سميت عمر، ثم لم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين، فاتق الله في الرعية واعلم أن من خاف الموت خشي الفوت". فقال لها الجارود العبدي: لقد اجترأت على أمير المؤمنين ". فجذبه عمر من يده وهو يقول:" دعها فإنك لا تعرفها هذه خولة بنت حكيم التي سمع الله قولها من فوق سبع سماوات وهي تجادل رسول الله في زوجها وتشتكى إلى الله. فعمر والله حري أن يسمع كلامها ".
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
البخاري: الجامع الصحيح كتاب الأدب باب ما جاء في قول الرجل (ويلك) جـ 1 ص 551 رقم الحديث (9165) ومسلم الجامع الصحيح، كتاب الإمارة، باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد والخير جـ 13 ص 9.
[2]
البخاري: الجامع الصحيح كتاب الجهاد. باب وجوب النفير جـ 6 ص 37، رقم الحديث (3835) ومسلم. المرجع السابق ص 8.
[3]
انظر: الطبري: جامع البيان جـ 21 ص7 ، والقرطبي:جامع أحكام القرآن جـ 13ص357 وابن كثير: تفسير القرآن العظيم جـ 3ص 419، والألوسي: روح المعاني جـ 21 ص 9، والشوكاني: فتح القدير جـ 4 ص 210 وصديق حسن خان: فتح البيان جـ 7 ص 223.
[4]
انظر: الطبري: جامع البيان جـ 23 ص 130، وابن كثير: تفسير القرآن العظيم جـ 4 ص 47، وسيد قطب: في ظلال القرآن جـ 5 ص 3043، والمودودي: تفهيم القرآن جـ 4 ص 363.
[5]
ابن إسحاق: السيرة ص 194.
[6]
انظر: ابن الأثير: الكامل جـ 2ص 77، وابن سعد:الطبقات جـ1 ص 204، وابن كثير: السيرة جـ2 ص3،وشبلي النعماني السيرة:جـ1 ص 273، والمودودي: السيرة جـ 2 ص 567.
[7]
أنظر: ابن هشام، السيرة جـ 1 ص 382، وابن سعد، الطبقات جـ1ص203-206،وابن الأثير، الكامل جـ2 ص 77.
[8]
ذلك في بداية السنة السادسة من النبوة.أنظر: المودودي، السيرة جـ2 ص 581.
[9]
اليعقوبي: التاريخ جـ 2 ص 29.
[10]
أنظر عبد الرؤوف شلبي: الدعوة الإسلامية في عهدها المكي ص 337. .
[11]
البخاري: الجامع الصحيح، كتاب المغازي باب غزوة خيبر رقم الحديث (4230- 4231) جـ 7 ص 485، ومسلم: الجامع الصحيح، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل جعفر وأسماء وأهل السفينة جـ 16 ص 65.
[12]
انظر: عبد العزيز بن راشد، أصول السيرة المحمدية ص 44 وظافر القاسمي: نظام الحكم في الشريعة ص 28.
[13]
أنظر: محمد رواس قلعة جي: التفسير السياسي للسيرة ص 66.
[14]
أنظر: جلال مظهر، محمد رسول الله سيرته وأثره في الحضارة ص 64، المودودي: السيرة جـ 3 ص 586، وأمين أحسن الإصلاحي: الدعوة إلى دين الله وأساليبها ص 215، والدكتور علي حسني الخربطلي: الرسول في المدينة ص 81.
[15]
ابن هشام: السيرة جـ 1ص 349، وابن كثير: البداية والنهاية جـ 3 ص74.
[16]
انظر: يحيى بن أبي بكر العامري بهجة المحافل جـ 1ص 326، ومحمد إسماعيل إبراهيم: سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ص 80 وعطية محمد سالم: معالم على طريق الهجرة ص 18.
[17]
صور من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ص 162.
[18]
انظر: أحمد عز الدين عبد الله خلف الله: السيرة المحمدية الخالدة جـ 1 ص 176-177، وعلي حسني الخربطلي: الرسول في المدينة ص 19.
[19]
قد ذهب أهل التفاسير أنها نزلت في حق النجاشي، انظر: الطبري: جامع البيان جـ 7ص، والقرطبي: الجامع لأحكام القرآن جـ 6 ص 255، وابن كثير: تفسير القرآن العظيم جـ 2 ص 85.
مُوجَز لتاريخ القدس حَتى الفتح الإسلَامي
للدكتور شفيق جاسر أحمد محمود
أستاذ مساعد بكلية الدعوة وأصول الدين
بنى اليبوسيون- وهم عرب كنعانيون- مدينة القدس قبل الميلاد بحوالي ثلاثة آلاف سنة، وأحاطوها بالأسوار مما زاد في منعتها [1]1. وقد كانت القدس في ذلك العهد على طريق تربط مصر ببلاد الشام، تبدأ من بحيرة التمساح، مارة بسيناء، وبئر السبع، والخليل، وبيت لحم، والقدس، والجيب، وبيتين، ونابلس، وتعنك، حيث تلتقي في مجدّو مع الطريق الرئيسية الساحلية، التي تصل بين مصر وبلاد الشام، وكانت تتصل مع ساحل البحر الأبيض المتوسط عن طريق الجيب، بيت عور التحتا، يالو، أبو شوشة، عاقر، وتتصل بالغور عن طريق مخماس، أريحا.
والقدس من أقدم مدن الأرض، وهى أقدم من بابل ونينوى، وليس أقدم منها إلا (اون) أو (ايوتو)[2] أولى عواصم مصر في فجر التاريخ و (منف) أو (ممفيس) ثاني عواصم مصر التي أنشئت حوالي سنة 3450 قبل الميلاد [3] .
لقد بنيت منازل القدس من الحجارة، وكانت منازل صغيرة، يتألف المنزل منها من طبقة واحدة، له في وسطه باحة، وحولها الغرف.، والمدخل في صدر الباحة، وأحياناًَ يكون في وسطها بئر تتجمع فيه مياه الأمطار.
وكانوا يأخذون حجارة البناء من الأحجار الكلسية البيضاء لليونتها، وسهولة نحتها. ولوجود هذه الأحجار في أعماق الصخور [4] ، تمكن اليبوسيون من حفر الأحواض والأنفاق الكثيرة، مما كان له شأن في تاريخ المدينة. وقد قدرت مساحة المدينة آنذاك ما بين ستة عشر إلى ثمانية عشر فداناً [5] .
كان أهل القدس في البداية يكتفون بمياه الأمطار، ولما كثر عددهم استفادوا من مياه عين أم الدراج. ولذلك بنوا حوالي عام ألفين قبل الميلاد نفقاًَ [6] يصل بين المدينة وهذه العين، يسهل وصول السقاة للعين، ويفيدهم أثناء الحصار. والنفق المذكور هو أقدم ما عثر عليه من ذكر لطريقة الحصول على المياه من العيون والآبار المجاورة للمدينة.
وكان ملكي صادق [7] ملك اليبوسيين ورئيسهم الديني من الموحدين، لذلك تكون مدينة القدس أقدم بقعة في الأرض آمنت بالله الواحد، ونبتت فيها فكرة التوحيد كما نسب إليه أنه مؤسس القدس [8] التي كانت قبل ذلك صحراء بين أودية، وجبال، فنزل ملكي صادق بكهف من جبالها للعبادة، واشتهر أمره، فجاءه ملوك الأرض الذين كانوا بالقرب من القدس، وكانوا اثني عشر ملكاً، فسمعوا منه، وساعدوه بالأموال على إقامة مدينة القدس، ثم عينوا ملكاً عليهم وسموه (أبا الملوك)[9] .
وقال مؤلفوا قاموس الكتاب المقدس: "والظاهر أنه أي- ملكي صادق- كان محافظاً على سنة الله بين شعب وثني، ولذلك كانت له الأسبقية على إبراهيم وعلى الكهنة الذين تسلسلوا منه "[10] .
وقد كان ملكي صادق قد اتخذ بقعة الحرم الشريف معبداً له يقدم ذبائحه على موضع الصخرة المشرفة [11] . وبذلك يكون العرب الكنعانيون أقدم من قدس هذه البقعة وتعبد فيها، وذلك قبل أن يقوم سليمان بن داود ببناء هيكله بما يقرب من ألف سنة [12] .
وهذا يفسر لنا ما أثبتته الحفريات وذكره المحدثون من أن بناء سليمان كان على أساس قديم، فقال صاحب الأنسب:"وهذه الأقوال تدل على أن بناء داود وسليمان إياه إنما كان على أساس قديم، لا أنهما المؤسسان له بل مجددان "[13] . كما ذكر كعب الأحبار- الذي كان من علماء اليهود ثم أسلم- "إن سليمان بنى هيكل بيت المقدس على أساس قديم "[14] .
هذا وقد خضعت القدس للمصرين في النصف الأول من القرن السادس عشر قبل الميلاد، عندما طردوا الهكسوس من بلادهم. وفى عهد امنحتب الثالث سنة 1411- 1375 ق. م تعرضت المدن الفلسطينية إلى غارات البدو (الخابيرى) . وفى عهد امنحتب الرابع (أخناتون) 1375- 1358 ق. م، تمكن الخابير ومن بسط نفوذهم على معظم مدن فلسطين مما اضطر عبدي خيبا الوالي المصري على القدس أن يناشد أخناتون المساعدة على صدهم، ولكنه لم يتمكن، فزال الحكم المصري عنها، ولم يعد إلا في عهد سيتي الأول سنة 1317- 1301 ق. م [15] .
لقد هاجم بنو إسرائيل فلسطين في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وأطلقوا اسم (يبوس) على مدينة القدس، نسبة لاسم زعيم القبيلة الكنعانية العربية التي كانت بها منذ القدم. وكان أصحابها اليبوسيون قد سموها أوروسالم أي مدينة إله السلام، وحرف المصريون اسمها إلى يوشامام. وقد دخل سيدنا داود مدينة القدس سنة 997 ق. م، وقيل سنة1000 ق. م وحاول إزالة طابعها اليبوسى، وسمى المدينة باسمه (مدينة داود) ، وبنى بها قصراً وحصوناً، وقد بقي بها بعض سكانها الكنعانيون ولم يغادروها. ثم خلفه ابنه سليمان بن داود، الذي ولد ونشأ فيها، وكانت مدة ملكه أربعين سنة من سنة 963- 923 ق. م. وبنى فيها هيكله على المكان الذي كان يتعبد فيه ملكي صادق. ولكن هذا المعبد لم يكن لجميع بنى إسرائيل إلا في عهد سليمان، ثم أصبح بعده معبداً لأقلية منهم في عهد ولده وخليفته رحيعام، حيث انقسمت الدولة في عهده إلى مملكة يهوذا في الجنوب ومملكة إسرائيل في الشمال وعاصمتها شكيم (نابلس) وقد عاشت قرنين حتى قضى عليها سرجون الثاني الأشوري وسبى 25 ألفاً من سكانها وهدم السامرة (شكيم، نابلس) وأحل السحرة الذين أتى بهم من العراق أحلهم محل سكانها، وهذا يؤكد على أن القدس لم تكن عاصمة للدولة الموحدة إلا لمدة ثلاثة وسبعين سنة فقط.
وفى عهد رحيعام أطلق اسم أورشليم على القدس، بدلاً من (مدينة داود) وذكرت بهذا الإسم لأول مرة في سفر يشوع [16] في الإصحاح العاشر. وأصبحت القدس عاصمة للمملكة اليهودية التي حكمها عشرون ملكاً في 337 سنة، عم حكمهم الشر والثورات والحروب ومات أكثر من نصفهم قتلاً بأيدي قومهم أو كان ألعوبة بأيدي المصريين والعراقيين. وكانت هذه المملكة صغيرة المساحة حتى أن المسافر يستطيع أن يجتاز أي طرف منها في يوم واحد [17] .
وفى نهاية عهدهم، في زمن (صدقيا بن يوشيا) 597- 586 ق. م تمرد صدقيا على سيده بختنصر، فحاصر بختنصر القدس واحتلها واخذ صدقيا أسيراً وأحرق الهيكل وأسر آلاف السكان، وقد جعل القدس أكواماً من الأنقاض وانتهت أسرة داود. ولكن كورشى الفارسى تمكن من الاستيلاء على بابل سنة 539 ق. م ثم فتح بلاد الشام، وأعاد بعض اليهود إلى القدس، بتأثير من زوجته استز [18] التي كانت من أصل يهودي، فعاد بعضهم بقيادة زربابل [19] سنة 538، وأخذ اليهود في تعمير القدس وبناء هيكل جديد باسم هيكل زربابل سنة 515 ق. م وقد بقي هذا الهيكل حتى سنة 20 ق. م عندما بدأ هيرودوس الكبير في بناء الهيكل الجديد. وقد بقيت القدس تحت الحكم الفارسى حتى احتلها الإسكندر المكدوني [20] سنة 332 ق. م.
القدس في العهد اليوناني 332-63 ق. م والروماني 63 ق. م- 638 م:
استولى الإسكندر المكدوني على القدس سنة 332 ق. م. فاستقبله اليهود بالترحاب وتناسوا فضل الفرس عليهم كعادتهم في نكران الجميل. لذلك لم يصب الاسكندر المدينة بسوء، وبعد موته سنة 332 ق. م خضعت القدس للبطالسة في مصر ثم للسلوقيين في سوريا سنة 198 ق. م. وقد عمتها خلال حكم اليونان فتق وقلاقل حتى احتلها الرومان سنة 63 ق. م على يد بومبى، وأصبحت جزءا من الإمبراطورية الرومانية. وفي عام 40 ق. م استولى الفرس على القدس مرة أخرى؟ ولكن الرومان استردوها عام 38 ق. م وعينوا هيرودوس الأدومي ملكاً عليها سنة37 ق. م، ثم رجم هذا الهيكل في زمن اغريباس الثاني سنة 64 م. ثم هدم على يد تبطس الروماني سنة 70 م. الذي بنى القصر الملكي المعروف اليوم بالقلعة، كما بنى سوراًَ حول القدس، وفي أواخر أيامه أي هيرودس ولد السيد المسيح. ومن أشهر الولاة الرومان على القدر بيلاطس البنطى 26- 36 م. الذي حدثت في عهده حوادث السيد المسيح.
موقف اليهود من المسيحية:
عندما بلغ السيد المسيح الثلاثين من عمره، أخذ يتجول في فلسطين مبشراً برسالته، وأخذت تعاليمه بالانتشار، فأغاظ ذلك زعماء اليهود، وكانت أن صب السيد المسيح غضبه على كهنة الهيكل. فقد جاء في إنجيل لوقا 19/45-47 (ولما دخل الهيكل ابتدأ يخرج الذين يبيعون ويشترون فيه قائلاً لهم: مكتوب أن بيتي للصلاة، وأنتم جعلتموه مغارة لصوص) . لذلك قاومه الكهنة وسادة اليهود، وحرضوا عليه السلطة الرومانية وقررت مجالس اليهود الدينية الحكم عليه بالموت، وطالبوا الرومان بتنفيذ هذا الحكم. وجاءوا به إلى بيلاطس لمحاكمته، وبعد المحاكمة اعترف بيلاطس ببراءته، فقامت قيامة اليهود، ونادوا:"اصلبه، اصلبه، دمه علينا وعلى أولادنا"فاضطر بيلاطس للاستجابة لطلبهم.
وفي زمن بيلاطس عبدت الطرق بين القدس وقيسارية وأريحا، وسحبت إليها مياه العروب. وفى سنة 66 م، حدث في القدس عصيان وشغب، فقام فاسبيانوس وابنه تيطس في محاربة اليهود، ودخل تيطس القدس عام 70 م، وأعمل النهب والحرق والقتل، وأحرق المعبد الذي بناه هيرودوس، حتى لم يبق حجر على حجر، وبيع كثير من الأسرى عبيداًَ. وخلد الرومان نصرهم على اليهود بالعبارة اللاتينية المشهورة، التي ينادى بها عند إحراز نصر [21]، (هب: هب: هورا) . وهى مختصر عبارة (هيروسوليما إست برديتا) أي سقطت أورشليم، (الآن سقطت أورشليم)[22] .
لقد جاء تدمير القدس على يد تيطس وفقاً لتحذير المسيح:"ثم خرج يسوع ومضى من الهيكل، فتقدم تلاميذه لكي يروه أبنية الهيكل، فقال لهم يسوع: ما تنتظرون! الحق أقول لكم إنه لا يترك ههنا حجر على حجر لا ينقض "[23] .
وقد بقيت القدس خراباًَ مدة طويلة، ليس بها إلا حامية رومانية ولكن بقايا اليهود ثاروا سنة 115 م ثم ثاروا سنة 132 م. وتمكنوا من استرداد القدس، إلا أن الإمبراطور هيدريان تمكن سنة 135 م من إخماد ثورتهم، ونكل بهم، ودمر القدس، وحرق موقعها، وقتل وسبى عدداً كبيراً من اليهود، ومنعهم من السكن فيها والدنو منها. وسمح للمسيحيين- ممن ليسوا من أصل يهودي- بالإقامة بها. وسمى المدينة (إيليا كابيتولينا)[24] وهي مشتقة من اسم أسرة هدبيان المدعوة (إيليا) .
وقد ذكر ابن البطريق [25] تدمير هيدريان للقدس، وأشار إلى أنه كان آخر خراب للقدس، فهرب اليهود إلى مصر، وإلى الجبال والغور، وتشتتوا في أنحاء العالم. وأمر هيدريان ألا يسكن القدس يهودي، وأن يقتل اليهود ويستأصل جنسهم، وأن يسكنها اليونانيون فقط.
بهذا يكون الرومان قد دمروا القدس مرتين: الأولى سنة 70 م على يد تيطس، والثانية على يد هدريان سنة 135 م، وبعد ذلك انقطع تواجد اليهود في القدس لمدة ألف سنة، لم يسكنها يهودي واحد. وخلال خمسة قرون أخرى تلتها لم يكن بالقدس أكثر من خمسين يهودياً [26] .
هذا وقد بنى هيدريان هيكلاً للمشتري على أنقاض هيكل هيرودوس، كما بنى سوراً للقدس [27] ، ولما اعتنق الإمبراطور قسطنطين 306- 337 م المسيحية، جعلها الديانة الرسمية للدولة. وجاءت والدته هيلانه إلى القدس للبحث عن مواقع الحوادث المهمة التي حدثت للمسيحيين، ولبناء كنائس تذكاراً لهذه الحوادث. فأمرت بهدم تمثال المشتري، وقامت ببناء كنيسة القيامة سنة 335 م [28] . ومنذ ذلك التاريخ أخذ الحجاج المسيحيون يزورون القبر المقدس داخل كنيسة القيامة. وسمح قسطنطين لليهود بزيارة القدس مرة واحدة في السنة، وأعاد إليها اسم أورشليم سنة 332، إلا أن اسم إيليا بقي معروفاً.
وعندما انقسم الرومان سنة 395 م إلى قسمين، كانت فلسطين تابعة للدولة الشرقية، وكانت القدس ضمن محافظة فلسطين التي كانت عاصمتها قيسارية [29] . وساد الهدوء القدس ما بين 135 م- 614 م، حين غزتها جيوش الفرس المؤيدة بخمسة وعشرين ألف يهودي، فأحرقت كنيسة القيامة، ونهبت وهدمت الأديرة والكنائس في كل فلسطين، وكان لليهود اليد الطولى في النهب والدمار والفتن، وقدر عدد القتلى المسيحيين في القدس بأكثر من ستين ألفاً، ودفن خمسة آلاف منهم في ماملا [30] .
ولكن هرقل الرومي انتصر على الفرس سنة 627 م. واحتفل في القدس في الرابع عشر من أيلول سنة 628 م برفع الصليب الذي كان قد استعاده من الفرس. ولا زال المسيحيون في مختلف أنحاء الشام يعيدون عيد الصليب في الرابع عشر من أيلول من كل عام [31] .
ولم يطل احتفاظ الروم هذه المرة بالمدينة المقدسة حيث فتحها المسلمون في السنة الخامسة عشرة للهجرة سنة 638 م فأصبحت منذ ذلك التاريخ مدينة إسلامية وطوال تاريخ القدس هذا لم ينقطع تواجد أحفاد اليبوسيين فيها وفي ما حولها سواء في العهد الوثني أو اليهودي أو النصراني، بل أنهم كانوا جلة سكانها لأن الآخرين كانوا محتلين طارئين عليها.
المراجع:
1-
ابن البطريق: اوثيشوس الإسكندري المتوفى سنة 328 هـ، التاريخ المجموع على التحقيق والتصديق، بيروت 1904 م.
2-
ابن العبري غريغورس، أبو الفرج بن هارون المولود سنة 623 هـ: تاريخ مختصر الدول. بيروت 1958 م.
3-
جورج يوسف: قاموس الكتاب المقدس. بيروت 1894 م.
4-
حتى فيليب: تاريخ العرب، ترجمة محمد مبروك نافع، بيروت 1957 م.
5-
خليل طوطح ورفيقه: تاريخ القدس ودليلها، القدس، بدون تاريخ.
6-
الدباغ، مصطفى مراد: بلادنا فلسطين، جـ 9، قسم 2. بيروت 1975 م.
7-
العابدي، محمود: مأساة بيت المقدس، القاهرة 1972 م.
8-
عارف العارف: أوراق عارف العارف، المجموعة التاسعة.
9-
فؤاد حسن علي: الأدب العبري، القاهرة 1963.
15-
قاموس الكتاب المقدس، صدر عن مجمع الكنائس في الشرق الأدنى. بيروت 1971.
11-
الكتاب المقدس، بيروت 1963.
12-
مجير الدين الحنبلي، عبد الرحمن بن محمد عبد الرحمن بن محمد العليمي المقدسي (810- 927 هـ) ، الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل، عمان 1977 م.
13-
الأب مرمرجي الدومنيكاني: بلدانية فلسطين، القدس، بدون تاريخ.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
أثبتت الحفريات الحديثة، وجود سور يمكن إرجاعه إلى سنة 1800 ق. م، وهو السور اليبوسي الذي وقف في وجه الغزو الإسرائيلي.
انظر الدباغ: بلادنا فلسطين، جـ 9، قسم 2. والعابدي: مأساة بيت المقدس، ص 169 و 170.
[2]
موقعها اليوم يعرف باسم (هليوبوليس) شمال القاهرة، سماها العرب (عين شمس) .
انظر الدباغ: بلادنا فلسطين، جـ 9، قسم 2، ص 24.
[3]
موقعها اليوم (البدرشين) و (ميت رهينه) ، على مسافة 22 كيلومتراً إلى الجنوب من القاهرة.
انظر الدباغ: بلادنا فلسطين، جـ 9، قسم 2، ص 24.
[4]
الدباغ، بلادنا فلسطين قسم 2، ص 24.
[5]
الفدان يساوى 4. ر. من الهكتار، ويساوى 4 دونمات، والدونم يساوى 1000 متر مربع.
[6]
قاموس الكتاب المقدس، 1/ 279، (جلب الماء لبيت المقدس شكل قديم جرب الحصول عليه اليبوسيون، والنبي سليمان، والملك حزقيا، وبيلاطس الروماني، وهير ودوس الكبير الادومى) .
[7]
ملكي صادق: اسم كنعاني معناه (ملك البر وسيد العدل) .
انظر الدباغ: بلادنا فلسطين، جـ9 قسم 2، ص 25.
[8]
ابن العربي، تاريخ مختصر الدول، ص 14
[9]
مجير الدين: الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل، ص 6.
[10]
جورج يوسف: قاموس الكتاب المقدس، جـ2 ص 922.
[11]
الدباغ: بلادنا فلسطين، جـ9، قسم 2، ص 26.
[12]
جورج يوسف: قاموس الكتاب المقدس، 1/ 174 (والمذابح كانت مست في الأعصر الخالية، وكانت معروفة منذ فجر التاريخ، والمذبح: هو المكان المرتفع والمختص بتقديم الذبائح، بقصد الاستعانة بالله، وتقديم الشكر) .
[13]
مجير الدين، الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل، ص 5.
[14]
الدباغ: بلادنا فلسطين، جـ9، قسم 2، ص 27.
[15]
المصدر السابق.
[16]
المصدر السابق، ص 40.
[17]
نفسه.
[18]
استز: من أحفاد يهوياقيم، الملك الثامن عشر، من ملوك المملكة اليهودية.
انظر: قاموس الكتاب المقدس، جـ2 ص 53
[19]
زريابل: أخ الملكة استز، عينه كورش والياً على البلاد.
انظر: جورج بوست: قاموس الكتاب المقدس، جـ 9 ص 53.
[20]
المصدر السابق، ص 54.
[21]
فؤاد حسن علي: الأدب العبري، ص 104.
Hep:Hep:Hora
[22]
Herosolyma est perdita
[23]
إنجيل متى: 1/24، 2.
(Alia-capitolina) Alia – capitolina [24]
[25]
ابن البطريق: التاريخ المجموع على التحقيق والتصديق.
[26]
أوراق عارف العارف، المجموعة التاسعة، ص 79.
انظر الدباغ، جـ9 قسم 2، ص 71.
[27]
جورج بوست: قاموس الكتاب المقدس، جـ ا، ص 134.
[28]
خليل طوطح وزميله: تاريخ القدس ودليلها، ص 19.
[29]
الدباغ: بلادنا فلسطين، جـ 9، قسم 2، ص 76.
[30]
الأب مرمرجي الدومنيكاني: بلدانية فلسطين، ص 203.
[31]
حتى فيليب: تاريخ العرب، ترجمة محمد مبروك نافع، جـ 2، ص 3 (وقيل أن أساس هذا الاحتفال كان عام 326 م، عندما وجدت هيلانة الصليب المقدس المدفون بالأرض، فأعلنت النبأ لابنها الإمبراطور قسطنطين عن طريق إيقاد المشاعل.
يوسف بن تاشفين في الأندلس
للشيخ إبراهيم محمد حسن الجمل
المعهد الثانوي بالجامعة الإسلامية
أطلق العرب اسمم (الأندلس) على الجزء الجنوبي من شبه جزيرة (أيبريا) الواقعة في الجنوب الغربي من قارة أوربا، والتي تسمى الآن (أسبانيا) .
وكانت الأندلس تمتد إلى الشمال من الوادي الكبير، والى الجنوب والشرق منه حتى بحر الروم (البحر الأبيض المتوسط) تجاه بلاد المغرب الأقصى حيث يفصلها عن قارة أفريقيه بحر الزقاق (مضيق جبل طارق) .
وإطلاق العرب اسم الأندلس مأخوذ عن قبائل الفندال الذين طردوا الرومان، وأسسوا على نهر الوادي الكبير مملكة سموها باسمهم (الفندال) ومنها جاءت كلمة فندلس التي نطق بها العرب (أندلس) وأطلقوها على هذه البلاد.
كان العرب يتطلعون إلى فتح بلاد الأندلس منذ خلافة معاوية بن أبى سفيان إلى أن ولى عقبة بن نافع بلاد البربر (شمال افريقيه) وأسس مدينة القيروان، وأخذ يتوغل في الفتح حتى وصل إلى بحر الظلمات (المحيط) .
ولم يستسلم البربر بسهولة فقد ظل المسلمون يقاتلون ما يقرب من نصف قرن ولم يخضعوا إلا بعد أن فهموا مبادئ الدين الإسلامي، وعرفوا أن المسلمين ليسوا قوماً مستعمرين، وإنما هم أصحاب عقيدة ومبادئ ثم لم يلبثوا أن اعتنقوا الإسلام، واطمأنوا إلى العرب، وأصبحوا أمة واحدة.
وفى عام 91 هـ أمر الوالي موسى بن نصير قائده طارق بن زياد أن يكوّن جيشاً من العرب والبربر، وأن يتجه بهم إلى الأندلس، فاستعد هو ومن معه، واخترقوا بحر الزقاق، ونزلوا على صخرة هناك سميت بعد ذلك بجبل طارق، وما زال بسكان البلاد (القوط) حتى هزمهم، وقتل ملكهم لذريق. ومنذ ذلك الحين دانت البلاد للمسلمين، واستولوا عليها شيئاً فشيئاً، والمسلمون يتقدمون في فتوحاتهم حتى اخترقوا جبال البرانس من الشرق إلى بلاد الغال (فرنسا الجنوبية) ووصلوا إلى مدينة بردو ونهر الرُّون.
وما أن استقر المسلمون في هذه البلاد حتى نزح العرب من كل قبيلة، وهاجر إليها كثير من أهل المدن في شرق البلاد وغربها، واتصل كل هؤلاء بسكان البلاد الأصليين من قوط وغيرهم، وقد أسلم كثير منهم من مسيحيين ويهود، فصاروا مجتمعاً واحداً، ترفرف عليه المحبة والصداقة والأخوة، فاندمج بعضهم في بعض بالتزاوج والمصاهرة، فنشأ جيل جديد يجري في عروقه الدم العربي، ويتصف بصفات العرب من غيرة وكرامة وصفاء في القريحة فامتازوا بدقة الإِدراك، وسعة الخيال، وقوة الفكر، فكان شعباً جديداً، ألبسه الإسلام ثوباً جديداً.
ولقد حكم هذه البلاد بعد الفتح أكثر من عشرين أميراً من الأمويين، فتوغلوا في البلاد، وامتد سلطانهم عليها، ولم يدخروا وسعهم في إسعادها، ومحاولة أن يجعلوا منها جنة الله في أرضه.
ثم أتى عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك من الشرق، واستولى على البلاد، واستتب له الأمر عام 141هـ، وجعل عاصمة ملكه قرطبة، وأسس بها دولة بني أمية التي زالت من المشرق بعد أن قوضها العباسيون.
كانت أعظم دول العرب هناك، وعصرها أزهى عصور الحضارة الإِسلامية بالأندلس وقد حكمها في هذه المدة من بني أمية تسع عشرة خليفة، وكان من أعظم الخلفاء عبد الرحمن الثالث الذي حكم الأندلس من عام 300 إلى 350هـ.
وهكذا فقد تولى حكمها خلفاء أمويون امتازوا بكل ما يمتاز به القادة من ذكاء وعلم وخبرة ومعرفة وبطولة، وكانوا دائماً في جهاد وعلى أهبة واستعداد للقاء الأعداء في خارج البلاد وداخلها، فكانوا موضع إعجاب وتكريم واحترام غزير المسلمين.
كان المسلمون يعيشون في سعادة وهناء، فالخير لا ينقطع، ولا يقل بل يكثر ويزيد على مر السنين والأيام، ثم انقطع الناس عن تعاليم الدين، وانشغلوا باللهو والشهوات والنساء، فابتعدوا بما عملوا عن الدين الحنيف، وانصرفوا عن الجهاد، ودبَّ فيهم الخلاف، وما كاد القرن الرابع ينتهي حتى كانوا قد أنهكوا، وزاد الشقاق، وأصبح المسلمون ينظر بعضهم إلى بعض، وكأنهم هم الأعداء فهذا عربي وهذا بربري وهذا مضري وهذا قحطاني، وبرزت العصبية الجاهلية، وتكونت جماعة من الأفاقين والإنتهازيين، فتطلعت إلى الحكم والرياسة، وانتهزوا فرصة ضعف الخليفة الأموي، فعملوا على التخلص منه حتى يقسموا البلاد بينهم.
ولكي يتخلصوا من آخر الخلفاء الأمويين، حتى يسقطوا حق بني أمية في المطالبة بالملك، اجتمع المتآمرون في مجلس يدعى مجلس الكبراء في أواخر القرن الرابع الهجري بدعوة من ابن جهور، وأخذوا يتناقشون، واستقر رأيهم على إلغاء الخلافة.
ركبوا الخيل يحيط بهم الحراس والموالي، والكل مسلحون إلى قصر الخلافة، ونادوا آخر خلفاء بني أمية هشاماً الثالث، وطلبوا منه النزول من البرج، ثم حبسوا هو ونساؤه في قبو مظلم، يرتعد من البرد الشديد، وقد اشتد الجوع بالجميع، وكان الخليفة يحتضن ابنته الصغيرة، وهي تصرخ من شدة الجوع، ولم يقدم لها أحد شيئاً، فلما تكلموا في التنازل عن الخلافة، قاطعهم الخليفة قائلاً:
"نعم نعم!! إني سأخضع إلى حكمكم كيفما كان، ولكني أسألكم بالله تعالى أن ترسلوا لي شيئاً من الخبز..... إن هذه الطفلة ستموت بين يدي من الجوع"، فأمروا بإحضار الخبز.
ثم قالوا:
"يا مولانا إن المجلس قرر أن تؤخذ عند الفجر لتسجن في قلعة كذا"فأجاب الخليفة:"فليكن
…
وليس لي الآن إلا رجاء واحد، وهو أن تأمروا لنا بمصباح لأن ظلمة هذا المكان الموحش تزعجنا وتخيفنا".
وهكذا سمع الصليبيون في أوربا ما يفعله المسلمون بخليفة المسلمين بالأندلس، خليفة يستجدي خبزاً وشمعة تضيء له ولأهله وأطفاله السجن.
هكذا تخلصوا من الخليفة، وقسموا البلاد التي كانت دولة واحدة إلى إمارات صغيرة، يحكمها انتهازيون مخادعون أفاقون، استولوا على البلاد ليوزعوها بينهم، وتغلب كل على جهة منها، وضبط كل متغلب منهم على ما استولى عليه بكل القوة والقسوة والظلم، ولم تمر أيام حتى اعتبر كل واحد منهم أنه صاحب ملك حر التصرف فيه، أحاطوا أنفسهم بكل أنواع الملذات من الحياة، وجعلوا ولاية العهد في أعقابهم، وتسموا بأسماء مختلفة فبعضهم تسمى بالمأمون والآخر تسمى بالمستعين والمقتدر والمعتصم والمعتمد والموفق والمتوكل.
أسماء مقتدر فيها ومعتصم
مما يزهدني في أرض أندلس
كالهِرِّ يحكي انتفاخاً صولة الأسد
ألقاب مملكة في غير موضعها
ثم توارثها الأبناء عن الآباء، بعيدين عن تعاليم الإِسلام، غارقين في الشهوات والفساد.
يسمي المؤرخون هؤلاء الحكام ملوك الطوائف واستمر هذا العصر البغيض أكثر من سبعين عاماً، كانت كل ولاية مستقلة عن الأخرى، بل إن القوي كان يلتهم الضعيف، وما فعله المعتضد زمن حكمه ولاية أشبيلية وابنه المعتمد من بعده يدعو إلى الأسى والحزن العميق. وكان الحاكم منهم لا يرى بأساً في أن يستعين بأعداء المسلمين على إخوانه بلا وازع ولا خوف.
وهكذا مهد هؤلاء القوم لظهور اتحاد الصليبيين من إيطاليا وفرنسا وأسبانيا مهمته التخلص من المسلمين المتناحرين، ورد البلاد إلى دينها الأول.
بدأوا يلعبون بالحكام المسلمين، يستولون على أطراف البلاد، ويضمونها إليهم، والحكام يميلون إلى المسالمة، ويحسبون من جهلهم أنها نوع من بعد النظر، ثم يطلبون منهما الأموال فيسرعون إلى تلبيتهم، فيعطونهم أكثر مما يطلبون، ويعدون ذلك مأمناً لهم، ووثوقاً بهم، وفجأة وجدوا أنفسهم دخلوا في دائرة الحكام النصارى، يطلب منهم ترك ثغر من الثغور فيستجيبون مسرعين، وكان آخرهم الفونسو السادس الذي أذاق حكام المسلمين الويل والذي قال عنه المؤرخون:
"كانت شخصيته بغيضة منفره، شديدة الجشع، مطبوعة على الإِجرام نزاعة إلى القسوة والغدر والخيانة".
هذا الفونسو أخبر مجالس الكنائس أن بلاد المسلمين في قبضته، وأنها ستسقط بين لحظة وأخرى.
بدأها بالاستيلاء على طليطلة بمساعدة المعتمد بن عباد سنة 478هـ، وخرجت من قبضة المسلمين بعد أن حكمها المسلمون ما يقرب من أربعمائة سنة.
كان لسقوطها دوى في العالم الإسلامي مشرقه ومغربه بعامة وفى الأندلس بخاصة.
راح يلعب بالحكام، وكأنهم على لوحة شطرنج، حتى أدرك المسلمون أن الحياة في الأندلس مستحيلة، وأن أيام المسلمين فيها معدودة، وأن النصارى لن يتراجعوا حتى يستولوا على البلاد.
راح الشعراء يتباكون، ويحثون الناس على الفرار بدينهم متخذين مما حل بطليطلة حجة ودليلاً.
فما المقام بها إلا من الغلط
يا أهل أندلس حثوا مطيكم
ثوب الجزيرة منسول من الوسط
الثوب ينسل من أطرافه وأرى
كيف الحياة مع الحيات في سفط
ونحن بين عدو لا يفارقنا
هذا ما جرى بالعُدوة الأندلسية، أما ما كان يجري بالعُدوة في المغرب، فقد كان فيها حركة إسلامية سلفية رائدها إقامة الشعائر الإسلامية والجهاد، وكان هو الطريق الوحيد لتخليص البلاد من كل ما يبعدها عن الإسلام الصحيح وكان المرابطون بقيادة يوسف بن تاشفين قد قاموا بمجهود عظيم استطاعوا به أن يخلصوا المغرب من الفرقة والجهل بأمور الدين وأن يوحدوا صفوفه ويجعلوه تحت حكم واحد وقيادة واحدة بعد أن كان ولايات مختلفة متخاذلة، وكان يوسف قد علا صيته، وانتشرت أخباره في أوربا والأندلس، وأصبح قوة يرهبه الجميع عندئذ فكر الفقهاء والعلماء في دعوة المرابطين لنجدتهم، إذ هم الورقة الأخيرة التي في يد المسلمين بالأندلس واتجهوا إلى الله أن يجعل النصر على أيدي تلك الفئة المؤمنة بالله القوية به والتي تستمد النصر بالتقرب إليه وتنفيذ أحكامه.
كتبوا إلى يوسف، يرجونه أن يأتي إليهم ليخلصهم مما أوقعهم فيه ملوك الطوائف، وحثوا الأمراء والحكام على أن يتصلوا بيوسف، وذهبت الوفود إلى المغرب باكية، لتذكر ما حصل وحل ببلاد الأندلس، وكان في مقدمة الداعين أبو الوليد الباجي الذي طاف بالممالك المختلفة يدعو الملوك إلى جمع الكلمة والإستعداد للإنخراط في صفوف المجاهدين.
علا الصوت الذي ظل زمناً طويلاً لا يجد المجال لإعلان رأيه، واتصل فقهاء الأندلس بإخوانهم فقهاء المغرب، وراحوا يمهدون للقاء الجيوش المرابطة التي ستحل بالجزيرة لإِنقاذ البلاد.
استجاب يوسف بن تاشفين لدعوة الأندلسيين، ورأى أن فريضة الجهاد توجب عليه أن يسرع لتلبية إخوانه المسلمين، لا في الأندلس وحدها بل في أي مكان، فقد عرف حق الجهاد، وهو بما تعلمه من الإسلام، ومعرفته للجهاد لا يفكر إلا فيه، وكانت كلمة الجهاد لا تفارق لسانه فحينما عبر البحر، وسار إلى الجزيرة الخضراء، طلب منه ابن عباد أن يستريح في عاصمة ملكة أشبيلية فقال له:
"إنما أتينا للجهاد".
وحينما تقدم ملوك الطوائف إلى يوسف يشكو كل واحد الآخر قال لهم:
"لم نأت لهذا، والسلاطين أعلم بما يصنعون في بلادهم!! ".
وهكذا لم يكن الدافع ليوسف إلا الجهاد، والجهاد وحده منفذاً تعاليم الإمام والمربى عبد الله بن ياسين " [1] .
وبدأ الاستعداد العلمي السريع بحذر وحيطة وذكاء، فلقد انتقل من مراكش عاصمة ملكه في قلب الصحراء إلى شاطيء البحر، وأشرف على السفن المعدة للإِيجار إلى الجزيرة الخضراء مفتاح الأندلس، وتكلم مع قائده ابن عائشة، ووصاه بأن ينزل إلى الجزيرة، فيستولى عليها ويحصنها، ويراقب البحر والجبال والوديان حتى لا يؤخذ على غرة.
كان المعتمد بن عباد يعتقد- وقد استولى من قبل على الجزيرة عند من حاكمها المسلم- أنه سيشترك مع المرابطين في التنظيم والإعداد إن لم يجعلوه قائداً على الجيوش، ولكنه وجد أن القوم مستقلون بأنفسهم وبأعمالهم، لا يرغبون أن يدخل بينهم إلا من هو من المرابطين.
توالت السفن تحمل العدة والعتاد والرجال من مدينة سبته المغربية- أعادها الله هي ومليلية إلى المسلمين [2]- وكان آخر جندي يركب السفينة القائد العبقري أمير المسلمين يوسف بن تاشفين.
كان ذلك ضحى يوم الخميس منتصف ربيع الأول سنة تسع وسبعين وأربعمائة من الهجرة بعد أن اطمأن على عبور جيشه المبارك، وما كادت السفينة القائد العظيم تمخر عباب مضيق جبل طارق لتتجه إلى الجزيرة حتى اضطرب البحر، وتعالت الأمواج، فنهض الأمير واقفاً وسط السفينة يستصرخ الباري سبحانه وتعالى وقد بسط يديه بالدعاء نحو السماء قائلاً:
"اللهم إن كنت تعلم أن في جوازنا هذا خيرا للمسلمين فسهل علينا جواز هذا البحر، وإن كان غير ذلك، فصعبه حتى لا أجوزه ".
فاستجاب الله الدعاء، فما كاد يتم كلامه- كما يقول ابن تاشفين- حتى سهل الله المركب، ووصل الطلب، وعبرت السفينة المضيق في ريح طيبة وبحر هادىء، ووصل القائد إلى أرض الجزيرة بسلام.
وما أن رأى الناس يوسف حتى دوت الأصوات بالتكبير والحمد الله، وتقدم إليه المعتمد بن عباد، ونزل عن فرسه، وأراد تقبيل يد يوسف، فمنعه من ذلك، وبادر إلى معانقته، وسأله عن حاله، وأطال معه الحديث.
وأراد المعتمد أن يأخذه إلى عاصمة ملكه ليستريح، فقال رحمه الله:
"إنما جئت ناوياً الجهاد، فحيثما كان العدو توجهت ".
وكان يوسف قد كتب إلى سائر حكام الأندلس، فتوافدوا إليه سريعاً، وكان معهم ابن بلقين حاكم غرناطه، وأخوه تميم حاكم مالقة، وعمر المتوكل صاحب بطليوس وغيرهم.
وصل الجميع إلى أرض المعركة في مكان يسمى (الزلاقة) يقع على مقربة من حدود البرتغال غرب الأندلس، والذي استقر رأي أمير المسلمين على أن يعسكر فيه بعد أن أتته الأخبار بأن الفونسو يتجه بجيوشه إلى جهة الغرب من الأندلس.
فرق يوسف بين جيوش المرابطين، وجيوش الأندلس، وجعل الأولى مستقلة تماماً عن غيرها بقيادته وقيادة أبى داود سليمان بن عائشة، ومعه فرسان البربر، والقائد البطل أبو بكر بن سير ومعه جيش للطوارئ ولما يستجد من أمور، وذلك حَسْب تخطيط بارع دل فيما بعد على عبقرية يوسف الحربية.
وكانت جيوش الأندلس تحت قيادة المعتمد بن عباد وابن الأفطس وأخذت مكانها في المقدمة، بينما كانت جيوش المرابطين في المؤخرة.
كانت الأخبار قد وصلت إلى الفونسو ملك قشتاله، وكان محاصراً لسرقسطة المسلمة يريد الإستيلاء عليها، ففك الحصار، وأرسل إلى جلاقة وليون وقشتاله، لترسل له الجيوش، وقد اتخذ من طليطلة مكاناً للتجمع، وكذلك أرسل إلى فرنسا وإيطاليا وغيرهما، وتحولت إلى حرب صليبية، رفع فيها القساوسة والرهبان والأساقفة الصلبان، ونشروا الأناجيل، ودعوا لقتال المسلمين.
وكتب الفونسو إلى المعتمد يقول:
"إن صاحبكم قد تعنى من بلاده، وخاض البحار، وأنا أكفيه العناء فيما بقي، ولا أكلفكم تعباً، أمضي إليكم، وألقاكم في بلادكم رفقاً، وتوفيراً عليكم ".
استعد الفونسو للمعركة، وقدرت جيوشه بثمانين ألف مقاتل، لأنه اعتقد أن هذه هي الضربة الأخيرة في الأندلس، وبعدها سينتهي أمر المسلمين إلى الأبد. أرسل جواسيسه ليأتوا بالأخبار، فعرف أن جنوده أضعاف عدد المسلمين، فنظر إلى جموعه قائلاً:"بهؤلاء أقاتل الجنَ والإنسَ وملائكة السماء ".
ونادى على كاتبه الذي يجيد العربية فأمره أن يكتب كتاباً مطولاً إلى يوسف يتوعد ويهدد وينذر.
فلما وصل الكتاب إلى أمير المسلمين أجاب مبتسماً، واثقاًً من نصر الله قائلاً: "هذا كتاب مطولة، اكتبوا على ظهره:
"الذي يكون ستراه ".
وأرسل إليه رسالة أخرى يخيره فيها بين الإسلام أو الجزية أو القتال. فلما وصل الكتاب إلى الفونسو، قال للرسول:
"قل لسيدك أنتم الذين تدفعون الجزية لي ".
مشيراً بذلك إلى أن معظم ملوك الطوائف كانوا يدفعون الأموال الطائلة للفونسو زيادة على ما يقتطع من الأرض والبلاد، وفى مقدمة هؤلاء الملوك المعتمد بن عباد الذي يعتبر أقوى هؤلاء الملوك.
أما من جهة القتال، قال الفونسو:
"إن الجمعة للمسلمين، والسبت لليهود، والأحد للنصارى! وسنلتقي يوم الإثنين ".
وكان المعتمد يعرف غدر الفونسو فأخبر يوسف بما ينطوي عليه الميعاد من غدر.
فقال يوسف:
"سنكون مستعدين لكل شيء ".
جاءت عيون جيش المسلمين تخبر ليلة الجمعة بالجلبة والحركة والضوضاء في معسكر النصارى، فأخذ المسلمون أهبتهم متحفزين.
وما كاد يظهر ضوء صبح الجمعة الثاني عشر من رجب سنة تسع وسبعين وأربعمائة من الهجرة حتى زحف النصارى وبدأ القتال، وهجمت مقدمة القشتاليين والأرجوانيين بقيادة البارهانيس على القوات الأندلسية التي يقودها المعتمد بن عباد، وما كاد العدو يوجه ضربته إليهم حتى خارت قواهم، وفروا ليعتصموا بأسوار بطليوس القريبة تاركين المرابطين وحدهم.
لعل خُطة الفونسو هي ضرب القوات الأندلسية، ثم القضاء على المرابطين وبهذا يتم له النصر والإستيلاء على البلاد، وطرد المسلمين منها.
ولكن الله كان له بالمرصاد، والمولى سبحانه وتعالى هو الذي أعد يوسف لهذه الساعة، لتكون نذيراً للمسلمين كي يرجعوا إلى دينهم الحنيف.
كان يوسف يراقب تحركات العدو، ويأتيه المراقبون بالأخبار، ولقد ثبتت شرذمة قليلة كانت تحارب مع المعتمد بن عباد، الذي صمد أمام ضربات الأعداء، فأصدر يوسف أمره سريعاً إلى قائده ابن عائشة بالإسراع إلى نجدة ابن عباد، ولكن هذه الفرقة لم تؤد الغرض الذي من أجله أرسلت، فقوات العدو الكثيرة تتقدم بسرعة، فأرسل إليهم قائده سير بن أبى بكر، ووقعت بين قوة العدو وبين القوتين معارك ضارية، وانشغل النصارى بقتال الفرقتين، ووجهوا كل اهتمامهم إلى هؤلاء، وهذا ما كان يهدف إليه القائد العبقري، وهو ما عمد إليه يوسف، حتى يُظْهِر المفاجآت، والمفاجأة لها دخل كبير في كسب الإنتصار، وهذا ما عمد إليه يوسف، فقد نزل بنفسه إلى قلب المعركة بقوة لمتونية [3] ، وبخطة لم تخطر على بال، فكانت المفاجأة الأولى، لقد انقض على جيوشهم من الخلف، وهجم على معسكراتهم، وكانت الحراسة ضعيفة، فأضرم فيها النيران التي قضت على كل ما فيها، ووثب على مؤخرة العدو، وأدار فيهم القتل.
وكانت المفاجأة الثانية وهي تحطيم الروح المعنوية في جيش الأعداء فأمر فرق الطبول أن تضرب، فكان صوتها يشق عنان السماء، ووقع الرعب في قلوبهم، فلم يتعودوا مثل هذا في الحروب، وأصيبوا بزعر شديد حينما شاهدوا النيران تلتهم معسكراتهم.
ولما علم الفونسو بما حصل لمحل قيادته، إرتد على عقبيه، فاصطدم بمؤخرة المرابطين، ودارت معارك رهيبة، والقائد العبقري العظيم فوق فرسه يتلو القرآن، ويحث جنوده على الثبات، ويرغبهم في الإستشهاد، وصوت الطبول ما يزال يدوى في الفضاء فيرهب الأعداء، فيولون منه الأدبار.
لقد تحكم المرابطون في جبهة القتال، فأرسل القائد البطل أمره إلى الجنود بتغيير الخطة، وكانت المفاجأة الثالثة، فقد بدأ القتال في صفوف متراصة متناسقة ثابتة، وهى خطة مبتكرة في القتال لم يعهدها النصارى من قبل، أذهلت العدو، وأصبح ميدان الحرب وكأنه صالة عرض يلعب فيها المرابطون بالسيوف والرماح.
وكانت المفاجأة الرابعة، وهي الضربة الأخيرة، فقد أشار القائد المسلم العبقري إلى القوات السودانية [4] بالنزول إلى قلب المعركة، وكان قوامها أربعة آلاف مقاتل بمزاريق الزان وسيوف الهند، فانقضوا على النصارى كالصاعقة واستطاع أحدهم أن يرسل إلى الفونسو طعنة بخنجر في فخذه، إلا أنها لم تكن القاضية، ففر بجرحه.
يقول أمير المسلمين يوسف في رسالته إلى مراكش العاصمة:
"وتسلل الفونسو تحت الظلام، فاراً لا يهدى ولا ينام، ومات من الخمسمائة فارس الذين كانوا معه بالطريق أربعمائة، فلم يدخل اللعين طليطلة إلا في مائة فارس ".
لقد كان نصراً مبيناً، أيده الله ورعاه، وكان يوسف ومن معه أشداء على الكفار، فقد وفقهم الله، ليكونوا عظة وعبرة، ودليلاً على أن من استمسك بحبل الله فالله معاونه وناصره.
كانت الزلاقة كيوم القادسية واليرموك، عمت بها الفرحة في المشرق والمغرب، ووصلت وفود المهنئين إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، وأرسل الإِمام الغزالي إلى يوسف يهنئه بنصر الله ويعده باللقاء، فلقد اعتبره الأمير المثالي، ورجا الله ودعاه أن ينصر الإِسلام والمسلمين بابن تاشفين.
هدد الفونسو أهل الصليب بترك الأندلس للمسلمين إذا لم يساعدوه بكل ما يستطيعون فأرسلوا إليه آلاف المقاتلين، فأخذ يستعد لقتال المسلمين، وابتنى قرب مُرْسِية حصناً ضخماً ليكون قاعدة للإغارة على تلك المناطق، في مكان اسمه لييط شحنه بالمقاتلة حتى بلغ حاميته ثلاثة عشر ألف مقاتل، فيهم ألف فارس.
وبدل أن يتحد ملوك الطوائف، ويواجهوا قوة الفونسو ومن معه، أصبحوا يتواكلون على يوسف، فنجد ابن عباد الذي اعتبر نفسه قائد الأندلس وحاميها، يستعين بيوسف مرة ثانية، فقد عبر بنفسه إلى المغرب، والتقى بأمير المسلمين، وعرض عليه الأمر، فوعده يوسف خيراً، واستعد للجواز الثاني وذلك في عام 481هـ.
وتوجه ومن معه من المرابطين إلى حصن لييط، ولحق به عدد من ملوك الطوائف ومعهم قواتهم وضربوا حصاراً حول الحصن دام أربعة أشهر، والقوات من داخل الحصن تتساقط من الجوع والإِعياء، ورغم ذلك فقد كان من أهل الحصن ينقضون على المسلمين فينزلون بهم الخسران، ثم يرجعون إلى الحصن.
ما الذي شجع أهل الحصن على ذلك؟ وهل يوجد خونة في صفوف المسلمين؟ أو تخاذلت البعض؟ الذي لا نشك فيه أن المسلمين لم يكونوا يداً واحدة!
لقد جمع يوسف كل ما يحتاج إليه من معلومات، فقد رأى ملوك الطوائف وكيف يكيل بعضهم لبعض الإتهامات، ويتهم بعضهم بالخيانة، والتواطؤ مع الأعداء، بل لقد علم أن بعض الملوك كان على صلة بمن في الحصن، وأنهم قدموا إليهم مساعدات أدت إلى مناعة الحصن، وأن بعضهم بدأ يخاف من قوة المرابطين المتسمة بالجد والعمل، وأن الناس في الممالك لا حديث لهم إلا عن المرابطين، وضعف الملوك.
لقد خرج يوسف بنهاية مؤسفة من مخالطته لهؤلاء القوم وهى أنه ليس في ملوك الطوائف من يستطيع أن يتحمل مسئولية الحكم والدفاع عن البلاد، وأنهم لا يرجى منهم نفع لا لأنفسهم ولا للمسلمين، وأنهم يتخبطون في حياتهم ولا هم لهم إلا شيء واحد هو المحافظة على الكرسي الذي يجلسون عليه.
لما أراد يوسف الرجوع إلى بلاده، اجتمع حوله الملوك، وكلموه في أن يترك لهم جيشاً يحميهم من هجوم الفونسو قال لهم:
"أصلحوا نياتكم تكفوا عدوكم ".
أثار هذا التصريح خوفهم، فرجع بعضهم إلى دفع الإِتاوة إلى الفونسو، ورجع البعض إلى التعاون معه، وقطع بعضهم المدد عن الحامية التي تركها لهم يوسف، فأهاج هذا وغيره مسلمي الأندلس، فعقدوا الإجتماعات، وأعلنوا العصيان، وأفتى الفقهاء بخلع الملوك، واتهموهم بالخيانة والكفر، وعبر عن ذلك أحد الشعراء إذ قال:
ماذا الذي أحدثتم
ناد الملوك وقل لهم
أسر العدا وقعدتم
أسلمتم الإسلام في
إذ بالنصارى قمتم
وجب القيام عليكم
فعصا النبي شققتم
لا تنكروا شق العصا
كانت الأدلة توجب على يوسف أن يتدخل لإنقاذ الأندلس من فوضى ملوك الطوائف، لكنه أراد أن يجمع كل الأدلة حتى لا يتهم فيما يقبل عليه من أمر. لكن الكتب والفتاوى والوفود تصل إليه تطلب منه أن يسرع إلى إنقاذ البلاد لا من الصليبيين وحدهم بل إنقاذها في ملوك الطوائف أيضاً، وكان مما ورد إلى أمير المسلمين فتوى من الإِمام الغزالي أبى بكر الطّرْطُوشي، فاستجاب يوسف، وجهز جيشاً وعبر به إلى الأندلس في أوائل سنة 483هـ.
اتجه يوسف إلى طليطلة حيث أصبحت عاصمة القشتاليين، لكنها كانت من المناعة بحيث تركها يوسف لوقت آخر، ومال إلى جنوب الأندلس صوب غرناطة، فاستسلم أميرها عبد الله بن بلقين، ولم يستطع الفونسو أن يأتي إليه لينفذ معاهدته الدفاعية معه عام 483 هـ وفرح الناس فرحاً عظيماً باستيلاء المرابطين عليها.
ثم إن القائد العظيم أرسل إلى المعتمد بن عباد لكي يتكلم معه في شأن البلاد، ولكن بن عباد لم يستجب لأمير المسلمين، فاجتمع بقواده، ورسم لهم خطة الإستيلاء على بلاد الأندلس، وتخليصها من أيدي الملوك والأمراء، ثم غادر البلاد صائماً في رمضان عام 483 هـ بعد أن طلب من قائده سير بن أبى بكر أن يتوجه إلى اشبيلية. واتجه هو إلى مدينة سبته في عدوة المغرب يرقب الأحوال وتأتيه العيون بالأخبار ويجهز الجيوش، ويرسل الإمدادات والتوجيهات مترقباً النتائج التي سينتهي إليها مصير الخارجين على تعاليم الإِسلام وقواعده.
سار جيش المرابطين بقيادة أبو عبد الله محمد بن الحاج إلى قرطبة، وكان المعتمد بن عباد أخذها عنوة، وكان يتولى أمرها ابنه المأمون، وكانت المدينة تعرف الطريقة غير المشرفة، التي أخذت بها قرطبة، فتخلى عنه الناس، واستطاع المرابطون أن يتسلقوا أسوار المدينة وأن يقتلوا المأمون هو ووزيره، وأن يخضعوها لحكمهم. ثم اتجهوا إلى اشبيلية بقيادة سير بن أبى بكر، فحاصرها أربعة شهور، وفى أثناء ذلك أرسل الفونسو حملة إلى اشبيلية بقيادة البارهانس مؤلفة من عدة آلاف، واشتبكت مع المرابطين في أحواز اشبيلية، انتهت بانتصار المرابطين، بعد معركة جرح فيها قائد الفونسو جرحاً أدى به إلى الموت فيما بعد، ثم استطاع المرابطون أن يحدثوا ثلمة في السور عند باب الفرج قرب باب النصر، واستولوا على القصور وما بها، ولم يقتلوا المعتمد تنفيذاً لأمر أمير المسلمين.
وأصدر القائد المسلم العظيم سير بن أبى بكر أماناً للمعتمد في النفس والأهل والولد، وأرسل أسيراً إلى أغمات حتى لا يتصل بأعداء الإسلام وكان مع عائلته. ثم أخذ المرية من حاكمها معز الدولة أحمد بن المعتصم بن صمادح، وكذلك رنده وكان يحكمها الراضي بن المعتمد، وميرتله وكان يتولى أمرها المعتد بن المعتمد، وبطليوس وكان صاحبها ابن الأفطس قد تعاون وتحالف مع النصارى ضد أبناء جلدته فانتصروا عليه وعلى من عاونه، وقتل هو وأولاده جزاء خيانته، عام 488 هـ.
وكان آخر ما استولى عليه المرابطون (بُلَنْسِيَة) فقد أنفقوا جهوداً كبيرة لإِنقاذها من القمبيطور وعصابته من القشتاليين في حرب مثيرة [5] عام 495 هـ.
وبرجوع بُلَنْسِيَة خلصت البلاد الأندلسية ماعدا ولاية سرقسطة وكان يحكمها المستعين فأرسل إلى أمير المسلمين مظهراً المسالمة قائلاً:
"نحن بينكم وبين العدو سد لا يصلكم منه ضرر" وأبدى استعداده لتحصين البلاد، وضبط أمورها فوافق الأمير على ذلك.
وبهذا استقر الحكم للمسلمين، وأصبحت الأندلس دولة مسلمة موحدة.
في عام 494 أو قريباً من ذلك عبر يوسف عبوره الأخير، وكان قد عهد إلى القائد سير بن أبى بكر بأمور الأندلس، ولما كان من عادة يوسف إذا خرج من عاصمة البلاد أن يكون ناوياً الجهاد، فقد وجه جيشاً بقيادة محمد بن الحاج إلى جهة طليطلة، وكانت لا تزال عاصمة قشتالة فالتقى بالفونسو وجيشه قريباً منها، فانهزم جيش الفونسو متكبداً خسائر كبيرة.
ثم توجه يوسف إلى قرطبة عام 495 هـ، وأخذ البيعة لابنه على بن يوسف بن تاشفين لما يتمتع به من النباهة والحزم والتقوى، فقد كان مقتفياً سيرة والده. فووفق على ما طلب، وأشار على "عَلىّ أن ينشئ في الأندلس جيشاً مرابطياً ثابتاً. وأن يحسن السياسة والرفق والعناية بالأندلس"ورجع إلى عاصمة ملكه (مراكش) وفي عام 499 هـ تزايدت العلة بأمير المسلمين وهو معظم مهوب لا يخلد إلى راتبه ولا يسكن إلى دعه.
وما زالت حالته تسوء، ويذبل جسمه شيئاً فشيئاً حتى وافه الأجل المحتوم، فتوفي رحمه الله سنة 500 هجرية بمراكش عن مائة عام كاملة، فكان لوفاته وقع عظيم في المغرب والأندلس والمشرق العربي. ورثاه العلماء والفقهاء والشعراء ومما قاله أبو بكر بن سوار الأشبوني:
دين الذي بنفوسنا نفديه
اسمع أمير المسلمين وناصر الـ
لم ترض فيها غير ما يرضيه
جوزيت خيراً من رعيتك التي
حتم القضاء بكل ما تقضيه
تصل الجهاد إلى الجهاد موفقاً
في كل ما تبديه أو تخفيه
متواضعاً لله تظهر دينه
رحمه الله ورضي عنه.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
راجع إن شئت كتابين يوسف بن تاشفين وعبد الله بن ياسين. .
[2]
سبته ومليلية مدينتان عظيمتان بأرض المغرب لا يزالان تحت السيطرة الأسبانية.
[3]
هي القبيلة البربرية التي ينتمي إليها يوسف وكانت معروفة بالشجاعة الفائقة في القتال.
[4]
يطلقون كلمة السوداني على كل من هو من وسط أفريقية.
[5]
راجع (بلنسية الشهيدة) ص 165 من كتابنا يوسف بن تاشفين.
تحقيق جزء الضعفاء والمتروكين للإمام الدارقطني
للشيخ عبد الرحيم محمد القشقري
محاضر بكلية الحديث الشريف بالجامعة
الإمام الدارقطني:
هو الإمام أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي البغدادي صاحب السنن. ولد سنة ست وثلاث مائة.
سمع البغوي وابن صاعد وابن دريد.
ومن تلامذته أَبو بكر البرقاني وحمزة بن محمد بن طاهر والأزهري. وخلق.
قال الذهبي:- "سمع ببغداد والبصرة والكوفة وواسط وارتحل في كهولته إلى مصر والشام وصنف التصانيف الفائقة".
قال الخطيب البغدادي:- "كان فريد عصره وإمام وقته وانتهى علم الأثر والمعرفة بالعلل وأَسماء الرجال مع الصدقة والثقة وصحة الاعتقاد والاضطلاع من علوم كالقراءات فإن له فيها مصنفاً سبق فيه إلى عقد الأبواب قبل فرش الحروف وتأسى القراء بعده".
قلت: "وكتابه العلل الكبير يشهد له بالعلم وسعة الإطلاع في أَقوال المتقدمين وأهل عصره".
وقد نسب إلى التشيع لسبب حفظه ديوان السيد الحميري. وهى تهمة ردها الإمام الذهبي رحمه الله.
وهناك مواقف تدل على عظيم شأنه ودقة انتباهه لما يملى في المجالس فمن تلك ما نقله الخطيب البغدادي عن الأزهري حيث قال:" بلغني أن الدارقطنى حضر في حداثته مجلس إسماعيل الصفار وقعد ينسخ جزءاً والصفار يملى. فقال رجل- للدارقطنى-: لا يصح. سماعك وأنت تنسخ. فقال: فهمي للإملاء خلاف فهمك. أتحفظ كم أملى الشيخ. قال: لا أَدرى. قال: أملى ثمانية عشر حديثاً. الحديث الأول عن فلان عن فلان ومتنه كذا وكذا. والحديث الثاني عن فلان عن فلان. ومتنه كذا وكذا. ومر في ذلك حتى أَتى على الأحاديث فتعجب الناس منه".
مات رحمه الله سنة خمس وثمانين وثلاثمائة [1] .
كتاب الضعفاء:
يعتبر كتاب الإمام الدارقطني من أمهات الكتب التي اعتمد عليها المصنفون في علم الجرح والتعديل. كميزان الاعتدال - ولسان الميزان - وتهذيب الكمال وغيرها من الكتب التي أَصبحت فيما بعد من المراجع المهمة للباحثين.
وأَن كلام الدارقطني في الضعفاء ليس مقصوراً على كتابه الذي بين أيدينا بل تكلم عنهم في كتابه السنن وكتابه العلل وهذا ما يفسر لنا اختلاف لفظ التضعيف في راو ما في المراجع المختلفة التي وقفت عليها.
ومن الغريب حقاً أن نرى ثبوت المصنف على قوله في التصنيف بعكس الإمام ابن حبان البستي مثلاً حيث يذكر- أَحياناً- بعض الرواة في كتابه المجروحين ثم يعيد ذكرهم في كتاب الثقات. مما يدل على أن الدارقطني لم يصدر حكمه في ذلك الراوي إلا بعد دراسة لحاله ورواياته ومن أَجل هذا جاء كلامه ثابتاً عنه.
وعند مقابلتي لأقواله مع أقوال غيره لم أجد من الغير تردداً في أي راو تكلم عنه الدارقطني بل هناك بعض علماء الجرح تكلموا في الراوي كلاماً أَشد من كلام الدارقطنى مما يرجح تأدب الدارقطني في هذه الناحية طالما أنه استطاع أن يبين حال الرواة.
وفي الحقيقة لم أَتمكن من التعليق على جميع الذين تكلم عنهم لأن الغرض هو إحياء هذا الجزء ليكون في متناول الباحثين الذين يفتقدون هذا الكتاب إن لم يكن كلهم فجلهم. ولعل نشره في مجلة جامعية يعفيني من المطالبة بتكثير الحواشي لأن الغرض هو الكتاب وليست الحاشية.
وأَرجو أن أكون ممن ساهم ولو بجهد قليل في إحياء هذا التراث النادر. وإنني آمل أن أقدم موضوعاً منفصلاً عن الدارقطني ومؤلفاته وجهوده في إحياء السنة النبوية.
جزء فيه الضعفاء والمتروكون:
لأبي الحسن علي بن عمر بن أَحمد بن مهدي الدارقطني.
رواية: أبي محمد الحسن بن علي بن محمد الجوهري عنه.
رواية: أبي منصور محمد بن عبد الملك بن خيرون عنه إجازة.
رواية: الشيخة أم عبد الكريم فاطمة بنت أبي الحسن سعد الخير بن محمد بن سهل الأنصاري.
رواية: أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن أحمد المقدسي عنها سماعا منه لعبد الحافظ بن عبد المنعم بن غازي الكوري.
قال أبو بكر أحمد بن محمد بن غالب الخوارزمي البرقاني: "طالت محاورتي مع أبو منصور إبراهيم بن الحسين بن حمكان لأبي الحسن علي بن عمر الدارقطني - عفا الله عنه وعنهما- في المتروكين من أصحاب الحديث فتقرر بيننا وبينه على ترك من أثبته على حروف المعجم في هذه الورقات.
أبواب الألف: باب إبراهيم
1-
إبراهيم بن الفضل المدني المخزومي عن المقبري روى عنه إسرائيل وكناه أبا إسحاق [2] .
2-
إبراهيم بن الحكم بن أبان العدني.
قال أحمد بن حنبل: "في سبيل الله دراهم أنفقناها إلى عدن إلى إبراهيم بن الحكم"[3] .
3-
إبراهيم بن علي الرافعي. يروي عن كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"صلى على النجاشي فكبر عليه خمساً".
روى عنه أيوب بن حسن بن علي بن أبي رافع عن أبيه [4] .
4-
إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التميمي [5] .
يحدث عن أبيه عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوني كقدح الراكب"[6] .
لا يتابع عليه. روى عنه موسى بن عبيدة.
5-
إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز الزهري مدني يروي عن أبيه [7] .
6-
إبراهيم بن خثيم بن عراك بن مالك. بغدادي [8] .
7-
إبراهيم بن عثمان. أبو شيبه قاضي واسط.
حدثني أبو شيبه عن الحكم بن إبراهيم بن عطية أبو إسماعيل الثقفي واسطي. ذكر عنه هشيم عن مغيرة عن إبراهيم.
"النظر في مرآة الحجام دنأة"[9] .
8-
إبراهيم بن عمر بن أبان بصري سمع أباه يحدث عن عمر وعثمان بن عفان. روى عنه أبو معبد البراد روى عن الزهري حديثاً لم يتابع عليه [10] .
9-
إبراهيم بن عمر بن سفينة يقال له برية. حدث عنه أبو معشر البراء. لا يعرف أبوه إلا به.
روى عنه ابن أبي فديك وإبراهيم بن عبد الرحمن بن مهدي والبصريون [11] .
10-
إبراهيم بن هراسة الكوفي أبو إسحاق الشيباني يروي عن الثوري ما لا يتابع عليه [12] .
11-
إبراهيم بن هدبه بصري. عن أنس [13] .
12-
إبراهيم بن يزيد الخوزي. أبو إسماعيل سكن شعب الخوز [14] .
13-
إبراهيم بن محمد بن أبي يحيي الأسلمي المديني [15] .
14-
إبراهيم بن حيان بن حكيم ويقال ابن البرأ من ولد أنس عن شعبة ومالك وحماد بن زيد وشريك [16] .
15-
إبراهيم بن أبي بكر بن المنكدر التميمي جازي عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن [17] .
16-
إبراهيم بن أبي حية واسم أبي حية اليسع- روى عنه قتيبة وداود بن حماد بن فراصة [18] .
17-
إبراهيم بن زيد الأسملي عن مالك [19] .
18-
إبراهيم بن عمير بن بكر السكسكي رملي متروك يروي عن جعفر بن محمد وعن ابن جريج وإسماعيل بن أمية. وروى عن هشام بن عروة حديثاً مسنداً [20] .
19-
إبراهيم بن مهاجر بن مسمار المدني [21] . والكوفي هو جابر يعتبر به.
20-
إبراهيم بن عبيد الله بن همام بن أخي عبد الرزاق عن عمه كذاب يضع الحديث [22] .
21-
إبراهيم بن عبد الله بن خالد المصيصي عن الحارث بن عطية ووكيع [23] .
22-
إبراهيم بن زكريا العبدساني يروي عن خالد الواسطي [24] .
23-
إبراهيم بن على الغزي سكن الكوفة عن مالك ويزيد بن عبد العزيز بن سياه [25] .
24-
إبراهيم بن محمد بن صدقة العامري كوفي يروي عن مروان الفزاري وسعيد بن عبد العزيز [26] .
25-
إبراهيم بن صالح بن درهم الباهلي بصري مقل يروي عن أبيه [27] . أبوه صالح ثقة [28] .
26-
إبراهيم بن صرمة بن أبي صرمة الأنصاري عن يحيى بن سعيد الأنصاري [29] .
27-
إبراهيم بن حماد بن أبو حازم الزهري الضرير سكن مصر عن مالك والحجازي [30] .
28-
إبراهيم بن بشير مكي عن مالك وابن عيينه ومعاوية الضال وحباب بن فضالة [31] .
29-
إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع سمعته يقول متروك [32] .
30-
إبراهيم بن إسماعيل الصيني سمعته يقول متروك [33] .
31-
إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة سمعته يقول متروك [34] .
باب أحمد
32-
أحمد بن عطاء الهجيمي بصري يروي عن خالد العبد [35] .
33-
أحمد بن أخت عبد الرزاق كذاب [36] .
34-
أحمد بن الحسن المضري متأخر كذاب [37] .
35-
أحمد بن عبد الله الفريابي مروزي حدثونا عنه يروي عن أبي عاصم النبيل [38] .
36-
أحمد بن عبد الله الجويباري هروى كذاب [39] .
37-
أحمد بن معدان العبدي عن ثور بن يزيد روى عنه محمد ابن وزير الواسطي متروك [40] .
38-
أحمد بن علي بن أخت عبد القدوس عن مالك. مقل متروك.
39-
أحمد بن محمد الأنصاري أبو عقبة بصري سكن الجزيرة عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى حدث عنه هلال بن العلا [41] .
40-
أحمد بن محمد بن مالك بن أنس عن ابن أبي أويس عن أبيه عن جده [42] .
41-
أحمد بن عاصم الموصلي عن مالك [43] .
42-
أحمد بن دهثم الأسدي عن مالك متروك [44] .
43-
أحمد بن سليمان القرشي الخفتاني عن مالك متروك [45] .
44-
أحمد بن الحكم العبدي كوفي عن شريك والكوفيين [46] .
45-
أحمد بن يحي الأحول الكوفي عن مالك وشريك [47] .
46-
أحمد بن عمار بن نصر عن مالك مقل [48] .
47-
أحمد بن محمد صاحب بيت الحكمة له حديث واحد عن متروك [49] .
48-
أحمد بن محمد بن عمر بن يونس بن القاسم يماني عن جده وعبد الرزاق [50] .
49-
أحمد بن الحسن بن القاسم الكوفي سكن مصر- يعرف برسول نفسه عن ابن عيينه ووكيع متروك [51] .
50-
أحمد بن عبد الله بن ميسرة النهاوندي أبو ميسرة عن أبي معاوية والكوفيين [52] .
51-
أحمد بن داود بن عبد الغفار الحراني عن أبي مصعب متروك كذاب [53]ـ وجده عبد الغفار بن داود من الثقات [54]ـ
52-
أحمد بن عيسى بن عبد الله بن محمد أبو طاهر عن ابن أبي فديك وابنه وأبوه عيسى يعرف بمبارك وجده عبد الله بن صالح حدث عنه أبو أسامة كذاب [55] .
53-
أحمد بن طاهر بن حرمله بن يحي التجيبي مصري يكذب [56] .
54-
أحمد بن محمد بن عيسى السكوني بغدادي عن أبي يوسف القاضي وأبو بكر بن عياش [57] .
55-
أحمد بن ميتم بن أبي نعيم الفضل بن دكين كوفي عن جده وعلي بن قادم [58] .
56-
أحمد بن صالح المكي السمومي أَبو جعفر يحدث عنه شيوخنا [59] .
57-
أحمد بن محمد بن خالد بن مرداس غلام خليل متروك [60] .
58-
أحمد بن محمد بن مفلس بن الصلت الحماني أبو العباس ابن أخي جبارة بن المفلس البغدادي عن مالك الزاهد وإسماعيل بن أبي أويس وأبى عبيد ومن بعدهم يضع الحديث [61] .
59-
أحمد بن محمد بن عمرو بن مصعب بن بشر أبو بشر المروزي يضع الحديث عن أبيه عن جده [62] .
60-
أحمد بن العباس الهاشمي أبو بكر البصري زوج أم موسى عن محمد بن عبد الأعلى الصنعاني متروك [63] .
61-
أحمد بن محمد بن حرب أبو الحسن الملحمي حدث عنه شيخنا الأنبدوني [64] .
62-
أحمد بن محمد بن الفضل المقدسي الأيلي عن نصر بن علي وغيره [65] .
63-
أَحمد بن محمد بن الأزهر بن حرفا السجستاني حدثونا عنه أبو العباس الأزهري وبلغني أن ابن خزيمة حسن الرأي فيه [66] .
64-
أحمد بن علي بن سلمان المروزي عن إبراهيم بن المنذر والمدنيين [67] .
65-
أحمد بن أبي سليمان القواريري بغدادي أبو جعفر عن حماد بن سلمة روى عنه ابن مخلد ونهشل من باب الشعير [68] .
66-
أحمد بن حمك النيسابوري أبو حفص عن ابن ماسرجس ونظرائه [69] .
67-
أحمد بن عبد الله بن يزيد المؤدب أبو جعفر يعرف بالهشيمي عن عبد الرزاق [70] .
68-
أحمد بن الخليل بن مالك بن ميمون أبو العباس بغدادي يعرف بجور عن أبي بكر بن عياش والأصمعي وزينب بنت سليمان [71] .
69-
أحمد بن خالد الشيباني عن عيسى بن يونس [72] .
70-
أحمد بن يحيى بن أبي العباس الخوارزمي عن ابن فهزاد وغيره متروك [73] .
71-
أحمد بن الخليل القومسي ضعفه أبو زرعة الرازي [74] .
72-
أحمد بن عيسى بن زيد التنيسى عن أبي حفص وعبد الله بن يوسف مصري ليس بالقوي [75] .
باب إسماعيل
73-
إسماعيل بن أبي إسحاق أبو إسرائيل الملائي [76] .
74-
إسماعيل بن أبان الفنوي كوفي أبو إسحاق القيسي الكوفي عن الحكم وعطية وفضيل ابن عمرو الخياط عن هشام بن عروة [77] .
75-
إسماعيل بن سلمان الكوفي الأزرق عن أبيه والشعبي وابن عمر [78] .
76-
إسماعيل بن مسلم المكي أصله بصري عن الحسن وابن سيرين وقتادة والحكم والأعمش والزهري [79] .
77-
إسماعيل بن يعلى أبو أمية الثقفي بصري متروك [80] .
78-
إسماعيل بن رافع هو أبو رافع مدني عن أنس وابن أبي مليكة والمقبري والزهري. شيخ العطاف بن خالد والوليد بن مسلم وغيرهما- روى عن أنس حديثاً طويلا في الطهارة والحج [81] .
79-
إسماعيل بن يحيى بن عبيد الله التيمي حوال عن ابن جريج والثوري حدث عنه هلال ابن العلاء متروك كذاب [82] .
80-
إسماعيل بن عباد بصري عن ابن أبي عروبه عن قتادة متروك [83] .
81-
إسماعيل بن محمد بن يوسف الجبرينى أبو هارون عن أبي عبيد وعن حبيب كاتب مالك وغيره [84] .
82-
إسماعيل بن رجاء الحصني جزري عن موسى بن أعين [85] .
83-
إسماعيل بن أبي زياد وهو إسماعيل بن مسلم السلولي ويقال الشعيري كوفي عن داود بن أبي هند وابن عون يضع كذاب متروك [86] .
84-
إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل سمعته يقول متروك [87] .
85-
إسماعيل بن عمرو البجلي الأصبهاني ضعيف [88] .
86-
إسماعيل بن محمد المزني كوفي حدثونا عنه كذاب.
87-
إسماعيل بن هود الواسطى ليس بالقوي يكنى أبا إبراهيم [89] .
باب إسحاق
88-
إسحاق بن بشر بن مقاتل أبو يعقوب الكاهلي كوفي متروك [90] .
89-
إسحاق بن إدريس الأسواري بصري عن همام وأبان منكر الحديث [91] .
90-
إسحاق بن بشر أبو حذيفة البخاري كذاب متروك [92] .
91-
إسحاق بن نجيح الملطي عن عطاء الخراساني وابن جريج وهشام بن حسان متروك [93] .
92-
إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة متروك [94] . له ثلاثة اخوة ثقات- وابن عمهم أبو علقمة ثقة.
93-
إسحاق بن الصباح الأشعثي من ولد الأشعث بن قيس الكندي عن عبد الملك ابن عمير روى عنه الخريبي. لجده صحبه [95] .
94-
إسحاق بن أبو يحيى الكعبة عن ابن جريج روى عنه علي بن معبد المصري منكر الحديث [96] .
95-
إسحاق بن إبراهيم بن نسطاس مدني. أبو يعقوب مولى آل كثير بن الصلت عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجره [97] .
96-
إسحاق بن إبراهيم الطبري يماني منكر الحديث [98] .
97-
إسحاق بن سعيد (بن أبو كعب)[99] شامي منكر الحديث.
98-
إسحاق بن محمد بن عبيد الله العيزمي أخو عبد الرحمن وأخوه متروك رأساً [100] .
99-
إسحاق بن وهب الطهرمسي من قرى مصر كذاب متروك يحدث بالأباطيل عن عبد الله بن وهب وغيره [101] .
100-
إسحاق بن عمر عن عائشة مجهول يترك [102] .
باب أبان
101-
أبان بن أبي عياش بصري وهو ابن فيروز يحدث عن أنس متروك [103] .
102-
أبان والد يزيد بن أبان الرقاشي مجهول لا يعرف إلا بابنه له حديث واحد [104] .
103-
أبان بن سفيان جزري متروك [105] .
104-
أبان بن المجد روى عنه مروان الفزاري مقل متروك [106] .
105-
أبان بن جبلة كوفي [107] .
باب يجمع جماعة
106-
أيوب بن خوط بصري متروك [108] .
107-
أيوب بن سيار مدني نزل فيد يعرف بالفيدي منكر الحديث [109] .
108-
أيوب بن مدرك الحنفي شامل متروك [110] .
109-
أيوب بن واقد نزل البصرة مقل كوفي [111] .
110-
أصله عن عثمان بن حكيم وهشام بن عروة منكر الحديث.
111-
أشعث بن بزار بصري مقل منكر الحديث.
112-
أشعث بن سعيد أبو الربيع السمان بصري متروك.
113-
أسيد بن زيد الحمال [112] .
أشعث بن سوار كوفي ضعيف.
كوفي أبو محمد متروك سمع شريكاً وليث بن سعد وهشيم.
114-
أصرم بن حوشب الهمدانى أبو هشام منكر الحديث.
115-
أصرم بن غياث الخراساني منكر الحديث [113] .
116-
أصبغ بن نباته كوفي منكر الحديث [114] .
117-
أزور بن غالب منكر الحديث [115] .
118-
أبيض بن أبان عن عطاء بن السايب يروي عنه أحمد بن يونس [116] .
119-
أوس بن عبد الله بن بريدة مروزي متروك [117] .
120-
الأحوص بن حكيم الحمصي منكر الحديث [118] .
121-
إدريس بن سنان عن وهب بن منبه روى عنه ابنه عبد المنعم [119] .
حرف الباء
122-
بشر بن رافع النجراني من اليمن الحارثي أبو الأسباط كناه حاتم بن إسماعيل منكر الحديث [120] .
123-
بشر بن نمير القشيري بصري متروك [121] .
124-
بشر بن حسيب حسين أصبهاني عن الزبير بن عدي وله عنه نسخة موضوعة. قال والزبير ثقة [122] .
125-
بشر بن عمارة الخثعمي. قال لي متروك [123] .
126-
بكر بن خنيس القاضي كان ببغداد [124] .
127-
بشر بن ميمون الوصفي واسطي عن مجاهد [125] .
128-
بحر بن كنيز السقا بصري ويكنى أبا الفضل متروك عن الحسن والزهري [126] .
129-
بكر بن الشرود صنعاني عن الثوري ومالك ومعمر [127] .
130-
بزيع بن حسان أبو الخليل متروك [128] .
كوفي عن الأعمش وهشام بن عروة بواصل.
131-
بكر بن الأسود أبو عبيده الناجي بصري عن الحسن وابن سيرين مواعظ [129] .
132-
بريدة بن سفيان بن فتوة الآسلمي روى عنه محمد بن إسحاق وأفلح بن سعيد المدني متروك [130] .
133-
باب بن عمير عنه الأوزاعي ويحي بن أبي كثير مجهول [131] .
134-
بركه بن يعلى عن أبي سويد العبدي عن ابن عمر مجهولان [132] .
حرف التاء والثاء
135-
تمام بن بزيع أبو سهل بصري متروك عن محمد بن كعب والحسن والعامر ابن عمر الطفاوي [133] .
136-
ثابت بن زهير أبو زهير بصري عن نافع وهشام بن عروة منكر الحديث [134] .
137-
ثابت بن أبي صفية أبو حمزة الثمالي كوفي عن زاذان وعكرمة وأبي جعفر [135] .
138-
ثوير بن أبي فاخته ضعيف. مولى بني هاشم [136]- وأسم أبيه سعيد بن علاقة كوفي ثقة [137] .
حرف الجيم
139-
جلد بن أيوب كوفي عن معاوية بن فروة متروك [138] .
140-
جابر بن زيد الجعفي أن اعتبر له بحديث بعد حديث صالح إذا كان عن الأئمة [139] .
141-
جعفر بن الزبير الشامي عن القاسم عن أبو أمامة متروك [140] .
142-
جعفر بن عبد الواحد الهاشمي ولى قضاء الثغر يضع [141] .
143-
جعفر بن أبي الحسن الخواري يحدث عنه أبو غنام [142] ..
144-
جسر بن فرقد بصري عن ثابت والحسن.
145-
جويبر بن سعيد خراساني متروك [143] .
146-
جميع بن ثوب حمصي عن خالد بن معدان مقل ويقال جميع منكر الحديث [144] .
147-
جارية بن هرم الفقيمي أبو شيخ بصري متروك عن يعقوب بن عطاء وإسماعيل بن مسلم وابن عون وابن جريج روى عنه محمد بن إسحاق ويقلب اسمه لا يقال فيه [145] .
148-
جراح بن منهال أبو العطاف عن الزهري وأبى الزبير والحكم بن عتبة جزري روى عنه يزيد بن هارون والمعافا بن عمران ويحيى بن صالح فيه خلاعة متروك [146] .
149-
جارود بن يزيد أبو الضحاك نيسابوري متروك يروى عن بهز بن حكيم وعمرو بن ذر [147] .
150-
جميل بن زيد الطائي كوفي عن ابن عمر روى عنه الثوري وعباد بن العوام مقل متروك. وقال مرة يعتبر به [148] .
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
لاستيفاء ترجمته انظر تاريخ بغداد 12 / 34، تذكرة الحفاظ 3/199.
[2]
قال الذهبي: تركه غير واحد- ت ق- (ديوان 11) .
[3]
قال الذهبي: متروك- ق-.
ونقل قول الإمام أحمد في الميزان- ولم أجد هذه العبارة في كتاب العلل ومعرفة الرجال للإمام أحمد.
انظر: (ديوان 9، ميزان الاعتدال 1/27) .
[4]
قال البخاري: فيه نظر التاريخ الكبير 1/310.
[5]
قال البخاري: لم يثبت حديثه روى عنه موسى بن عبيدة. ضعف لذلك.
وقال ابن حبان: من أهل المدينة منكر الحديث ولا أعلم له راوياً إلا موسى بن عبيدة الربذي. وموسى ليس بشيء في الحديث ولا أدرى البلية في أحاديثه والتخليط في روايته منه أو من موسى. انظر (التاريخ الكبير ا/1/320، المجروحين 1/108) .
[6]
العقيلى.
[7]
قال الذهبي: تركوه (ديوان 12) .
[8]
قال النسائي: متروك الحديث بغدادي (الضعفاء والمتروكين 13) .
[9]
قال النسائي: متروك الحديث (الضعفاء والمتروكين 13) .
[10]
قال ابن حبان: ليس ممن يحتج بخبره إذا انفرد. (المجروحين1 /.11) . .
[11]
ترجم له الذهبي في موضعين: الأول في باب إبراهيم- والثاني في باب برية. انظر (ميزان الاعتدال 1/50/306) . .
[12]
قال فيه مسلم: ذاهب الحديث (الكنى والأسماء 1/6) .
[13]
قال الذهبي: كذاب (ديوان 13) .
[14]
قال الذهبي: متروك (ديوان 14) .
[15]
قال الذهبي: متروك عند الجمهور. وقال أبو داود: كان قدرياً رافضياً (ديوان 13) .
[16]
قال الذهبي: كأنه ابن البرأ واه (ديوان 9) .
[17]
قال الذهبي: قال الدارقطني ضعيف (ميزان الاعتدال 1/24) .
[18]
قال ابن عراق: ابن أبي حية بالمثناة التحتية المشددة (تنزيه الشريعة 1/21) .
[19]
قال ابن حبان: منكر الحديث جداً (المجروحين 1/113) .
[20]
قال الذهبي: قال الدارقطني متروك (ديوان 11) .
[21]
قال النسائي: ضعيف مدني (الضعفاء والمتروكين 12) .
[22]
انظر (تنزيه الشريعة 221) .
[23]
قال ابن حبان: يسوي الحديث ويسرقه (المجروحين 1/116) .
[24]
قال الذهبي: هو العبدسي وعبدسي من قرى واسط (ميزان الاعتدال 1/31) .
[25]
قال ابن حجر: قال الدارقطنى روى عن سويد بن عبد العزيز بن سياه (لسان الميزان 1/84) .
[26]
قال الذهب: ي ضعيف (ديوان 12) .
[27]
قال الذهبي: ضعفه الدارقطنى (ديوان 10) .
[28]
وثقه ابن معين من الرابعة- د- (التقريب والتهذيب 149) .
[29]
قال ابن معين: كذاب خبيث (لسان الميزان 1/50) .
[30]
قال ابن حجر: ضعفه الدارقطني (لسان الميزان 1/50) .
[31]
قال ابن حجر: قال الدارقطنى ضعيف (لسان الميزان 1/40) .
[32]
قال ابن حجر ضعيف من السابعة- خت ق-.
[33]
انظر (ديوان 8) .
[34]
قال الذهبي ونفسه أحمد وضعفه غيره (ديوان 8) .
[35]
قال ابن حجر: قال الدارقطنى متروك (لسان الميزان 1/221) .
[36]
قال ابن عراق متهم (تنزيه الشريعة 1/30) .
[37]
قال ابن عراق: المضري بضم الميم وبالضاد المعجمة. كذبه الدارقطنى (تنزيه الشريعة 1/26) .
[38]
قال أبو نعيم: كان وضاعاً (تنزيه الشريعة 1/28) .
[39]
قال ابن عراق: دجال وضع حديثاً كثيراً (تنزيه الشريعة 1/28) .
[40]
(ديوان 6) .
[41]
قال الذهبي: ضعيف واه (ديوان 6) .
[42]
قال ابن حبان: منكر الحديث (لسان الميزان 1/292) .
[43]
(ديوان 5) .
[44]
(ديوان 3) .
[45]
قال الذهبي: قال الدارقطني متروك كذاب (ديوان 3) .
[46]
انظر (ديوان 3) .
[47]
انظر (ديوان 7) .
[48]
قال ابن حجر: قال الدارقطنى متروك (لسان الميزان 1/234) .
[49]
قال ابن حجر: قال الدارقطني حدث عن مالك. متروك (لسان الميزان 1/296) .
[50]
قال الحاكم: له أفراد وعجائب (ميزان الاعتدال 1/147) .
[51]
انظر (ميزان الاعتدال 1/90) .
[52]
قال ابن حبان: يسرق أحاديث الثقات ويلزقها بأقوام أثبات لا يحل الاحتجاج به (المجروحين 1/ 144) .
[53]
انظر (ديوان 3) .
[54]
قال ابن حجر: ثقة فقيه من العاشرة- خ دس ق- (تقريب التهذيب 216) .
[55]
انظر (ميزان الاعتدال 1/126) .
[56]
انظر (ديوان4) .
[57]
انظر (ديوان 5) .
[58]
انظر (ديوان 6) .
[59]
انظر (ميزان الاعتدال 1/104) .
[60]
قال ابن عراق: معروف بالوضع (تنزيه الشريعة 1/33) .
[61]
انظر (لسان الميزان 1/269، تنزيه الشريعة 1/33) .
[62]
قال ابن عراق: كذاب وضع شيئاً كثيراً (تنزيه الشريعة 1/33) .
[63]
قال الذهبي: ساقط (ديوان 4) .
[64]
قال ابن عدي: يتعمد الكذب ويضع (ميزان الاعتدال1/134)
[65]
قال الذهبي: دجال (ديوان 6) .
[66]
قال السلمي: سألت الدارقطني عن الأزهري فقال منكر الحديث لكن بلغني أن ابن خزيمة حسن الرأي فيه ويكفي بهذا فخراً (ميزان الاعتدال 1/131) .
[67]
(ديوان 5) .
[68]
قال ابن حجر: قال الدارقطني روى عن حماد بن سلمة مقلوبات كان مغفلاً يترك ولا يحتج به. وقال في العلل ضعيف - (أنظر لسان الميزان 1/183) .
[69]
ميزان الاعتدال 1/95.
[70]
قال ابن عدى: كان بسامراء يضع الحديث. ميزان الاعتدال 1/109.
[71]
قال الذهبي: قال الدارقطنى ضعيف لا يحتج به. ميزان الاعتدال 1/96.
[72]
قال الذهبي: جرحه الدارقطنى ديوان 3.
[73]
لسان الميزان 1/321.
[74]
وقال أبو حاتم: كذاب. الجرح والتعديل 1/ 1/50، لسان الميزان 1/167.
[75]
قال أبو حاتم: تكلم الناس فيه. الجرح والتعديل 1/1/64.
[76]
قال ابن حجر: سيئ الحفظ- ت ق- من السابعة. تقريب التهذيب 33.
[77]
متروك رمي بالوضع - تميز- من التاسعة. تقريب التهذيب 31.
[78]
قال الذهبي ضعفوه- ق- ديوان 21.
[79]
متفق على ضعفه. ديوان 23.
[80]
ميزان الاعتدال 1/255.
[81]
قال ابن حجر: ضعيف الحفظ من السابعة. تقريب التهذيب 33.
[82]
قال صالح جزره:كان يضع الحديث. تنزيه الشريعة 1/40.
[83]
ديوان 21.
[84]
قال ابن طاهر: كذاب. تنزيه الشريعة 1/39.
[85]
اتهمه ابن عدي. تنزيه الشريعة 1/38.
[86]
لسان الميزان 1/406.
[87]
ميزان الاعتدال 1/254.
[88]
قال الذهبي: ضعفه غير واحد. ديوان 22.
[89]
ميزان الاعتدال 1/246.
[90]
قال الذهبي: كذاب. ديوان 17.
[91]
قال الذهبي: كذاب. ديوان 17.
[92]
قال الذهبي. متروك متهم. ديوان 17.
[93]
قال ابن حجر: كذبوه من التاسعة- تميز- تقريب التهذيب 30.
[94]
قال ابن حجر: متروك من الرابعة- د ت ق- تقريب التهذيب 29.
[95]
قال الذهبي: ضعفه يحي والدارقطني، وقل ما روى. ميزان الاعتدال 1/192.
[96]
قال الذهبي: هالك يأتي بالمناكير عن الأثبات. ميزان الاعتدال 1/205.
[97]
قال البخاري. فيه نظر. التاريخ الكبير 1/1/380.
[98]
ميزان الاعتدال 1/177.
[99]
في الحاشية ابن أركون وهو الصواب لموافقته لكتب الرجال. انظر ميزان الاعتدال 1/192.
[100]
قال الذهبي: عن إسحاق تكلم فيه. وقال عن أخيه ضعفه الدارقطني. انظر ميزان الاعتدال 1/119 ديوان 190.
[101]
ميزان الاعتدال1/203.
[102]
ميزان الاعتدال 1/195.
[103]
قال الإمام أحمد: ترك الناس حديثه. العلل ومعرفة الرجال 135.
[104]
انظر ديوان 7.
[105]
قال الذهبي: وقيل إنه أبين متهم ديوان 7.
[106]
ميزان الاعتدال 1/15.
[107]
ميزان الاعتدال 1/6.
[108]
قال الذهبي: تركوه. ديوان 26.
[109]
قال النسائي: متروك. ميزان الاعتدال 1/228.
[110]
الضعفاء والمتروكين للنسائي 15.
[111]
قال النسائي: بصري ضعيفْ الضعفاء والمتروكين 16.
[112]
انظر الكامل 1/1/282.
[113]
قال الإمام أحمد والبخاري والرازي: منكر الحديث. التاريخ الكبير 2/1/56، الجرح والتعديل 1/1/336، لسان الميزان 1/462.
[114]
قال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين 22.
[115]
قال الذهبي: منكر الحديث مجهول ديوان 16.
[116]
لسان الميزان 1/128.
[117]
لسان الميزان 1/470.
[118]
قال ابن حجر: ضعيف الحفظ من الخامسة- ق- تقريب التهذيب 25.
[119]
ديوان 15.
[120]
قال ابن حجر: ضعيف الحديث من السابعة- بخ د ت ق- تقريب التهذيب 44.
[121]
قال الذهبي: متروك عندهم- ق- ديوان 32.
[122]
ديوان 31.
[123]
قال النسائي: ضعيف الضعفاء والمتروكين 24.
[124]
ديوان 34.
[125]
ديوان 33.
[126]
قال الذهبي: متفق على تركه ديوان 28.
[127]
لسان الميزان 2/52.
[128]
قال ابن حجر: قال البرقاني عن الدارقطني متروك- لسان الميزان 2/12.
[129]
قال الذهبي: متروك ديوان 34.
[130]
ديوان 30.
[131]
قال الذهبي: تابعي مجهول- د- ديوان 28.
[132]
لسان الميزان 2/9.
[133]
لسان الميزان 2/71.
[134]
لسان الميزان 2/76.
[135]
قال الذهبي: متفق على ضعفه- د- ديوان 38.
[136]
قال الذهبي: تابعي واه كذبه الثوري- ت- ديوان 40.
[137]
قال ابن حجر: مشهور بكنيته ثقة من الثالثة- ت ق- تقريب التهذيب.125
[138]
ديوان 45.
[139]
قال يحيى بن أبي بكير عن شعبة:كان جابر إذا قال أخبرنا وحدثنا وسمعت فهو من أوثق الناس، ميزان الاعتدال 3/379.
[140]
قال الذهبي: كذبه شعبة وتركه أحمد، ديوان 44.
[141]
تنزيه الشريعة 1/45.
[142]
ميزان الاعتدال 1/405.
[143]
ديوان 47.
[144]
قال الذهبي: منكر الحديث واه. ديوان 46.
[145]
قال الذهبي: بصري هالك. ميزان الاعتدال 1/385.
[146]
ميزان الاعتدال 1/390.
[147]
ديوان 41.
[148]
لسان الميزان2/136.
ظاهِرةُ التَّقَارُضِ في النّحوِ العَرَبِّي
للدكتور أحمد محمد عبد الله
أستاذ مساعد بكلية اللغة العربية
تكلمنا في العدد السابق عن أهمية (التقارض) كظاهرة التوسع اللغوي، وحددناه لغة واصطلاحَّا، ثم فَصَّلنا الحديث في نوعين:-
الأول:- التقارض بين اللفظين في الأحكام الإِعرابية، كالتقارض ببن إلَاّ (وغير) وكالتقارض بين أنْ (وما)
…
الخ
:- التقارض بين اللفظين في الهيئة، والشكل، كالتقارض بين الحال والتمييز في الاشتقاق والجمود
…
الخ
والحديث الآن في النوع الثالث:
النوع الثالث: التقارض بين اللفظين في المعاني:
يذكر النحاة أن كل حرف من حروف المعاني يفيد- بطريق الأصالة- معنى أو عدة معان، تعد من لوازم هذا الحرف غالباً، غير أنه في بعض الأحيان قد يفيد الحرف معنى من المعاني ليس أصلاً في إفادته، وإفادة الحرف معنى يختص به حرف آخر يعد عند بعض العلماء من باب التقارض بينهما، فكأنَّ الحرف الآخر أقرضه هذا المعنى، وربما عدَّه بعضهُم من باب نيابة الحرف مكان الحرف الآخر، وهذه مسألة خلافية بين البصريين والكوفيين فالبصريون يرون (أن أحرف الجر لا ينوب بعضها عن بعض بقياس، كما أن أحرف الجزم وأحرف النصب كذلك، وما أوهم ذلك فهو عندهم محمول على ما يلي:
1-
إما مؤول تأويلاً يقبله اللفظ، كما قيل في قوله تعالى {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} (طه: 20) إنَّ (في) ليست بمعنى على، ولكن شبِّه المصلوب لتمكنه من الجذع بالحالِّ في الشيء.
2-
وإمَّا على تضمين الفعل معنى فعل يتعدى بذلك الحرف، كما ضمَّن بعضهم (شربن) في قول أبي ذؤيب الهذلي:
متى لحج خضر لهنَّ نئيج [1]
شربن بماء البحر ثم ترفعت
3-
وإمّا على شذوذ إنابة كلمة عن أخرى:
وقد ذهب الكوفيون إلى جواز نيابة الحرف عن الحرف أي أن يقترض الحرف من الحرف الآخر معناه.
أما المالقى فقد وقف بين الفريقين موقفاً وسطاً حيث قال:
"إن نيابة الحرف مكان الحرف الآخر موقوفة على السماع، لأن الحروف لا يوضع بعضها موضع بعض قياساً إلا إذا كان معناهما واحداً ومعنى الكلام الذي لا يدخلان عليه واحداً "[2] .
وغير خاف أن مذهب الكوفيين بعيد عن التكلف والتعسف ومن ثم فهو جدير بالإتباع لذا سوف نسوق أمثلة متنوعة لبعض الحروف التي تفيد معاني أصيلة ومعاني أخرى غير أصيلة اقترضتها من الحروف الأخرى.
إلى- اللام:
أ- (إلى) تدل من خلال الأسلوب على انتهاء الغاية المكانية أو الزمانية، ذلك أوضح معانيها نحو قوله تعالى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} (الإسراء: ا) وقوله تعالى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (البقرة: 187) .
وقد تخرج عن معناها الأصلي المتقدم فتأتى في بعض أحوالها بمعنى اللام نحو قوله تعالى {وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِين} (النمل: 33) أي الأمر لك ونحو قوله تعالى: {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (النساء: 5) أي ادفعوا لهم فقد اقترضت (إلى) من اللام معنى شبه الملك في الآية الأولى والاستحقاق في الآية الثانية [3] .
ب- أما (اللام) فتفيد غالباً المعاني التالية:
الإستحقاق نحو قوله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} (المطففين: ا) والإختصاص نحو قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَة} (النساء: 6) والملك نحو قوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (البقرة: 255) والتمليك نحو (وهبت لزيد ديناراً) وشبه الملك نحو قوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجا} (النحل: 72) والتعليل نحو قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 44) وقد تخرج اللام عن كل هذه المعاني فتأتى بمعنى (إلى) ويتمثل ذلك في نحو قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} (الزلزلة: 4، 5) أي أوحى إليها ونحو {كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمّى} (الرعد: 2) أي إلى أجل مسمى ونحو {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْه} (الأنعام: 28) أي إلى ما نهوا عنه، فدلالة اللام في الآيات المتقدمة هي انتهاء الغاية وذلك المعنى مقترض من (إلى) .
قال الزجاجي في باب اللام التي بمعنى إلى:
وذلك نحو قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ} (آل عمران: 193) قال بعضهم معناه ينادي إلى الإيمان فأما قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} (الأعراف: 43) فلا خلاف في أن تقديره: هدانا إلى هذا، فهذه لام إلى.
وفي قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (الإسراء: 9) أي إلى التي هي أقوم، فأما قوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّت} (الأعراف: 57) فجائز أن تكون اللام لبيان المفعول من أجله فيكون المعنى: سقناه من أجل بلد ميت، وجائز أن تكون بمعنى (إلى) فيكون التقدير: سقناه إلى بلد ميت. [4] .
وهكذا اقترضت (إلى) معنى اللام كما اقترضت (اللام) معنى) إلى) .
إلى- في:
أ- (إلى) التي تفيد بطريق الأصالة معنى انتهاء الغاية المكانية أو الزمانية، قد تخرج عن هذا فتأتي بمعنى (في) في الأسلوب على سبيل المقارضة، ذكر ذلك جماعة من النحاة، وعليه فقد ذهبوا إلى أن (إلى) بمعنى (في) في قول النابغة الذبياني:
إلى الناس مطليٌ به القار أجرب
فلا تتركني بالوعيد كأنني
أي كأنني في الناس مطليٌ به القار.
وفي قول طرفة:
إلى ذروة البيت الكريم المصَمَّد
وإن تلتق الحيّ الجميع تلاقني
أي في ذروة البيت الذي يصمد ويعضد.
ويقال: جلست إلى القوم أي فيهم، قال ابن مالك:
"ويمكن أن يكون إلى بمعنى (في) في قوله تعالى: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} "(النساء: 87) .
وخالف في مجيء (إلى) بمعنى (في) ابن عصفور حيث قال:
"ولو صح مجيء (إلى) بمعنى (في) لجاز: زيد إلى الكوفة "[5] .
ب- (في) معلوم أن أوضح معانيها هو الظرفية المكانية أوالزمانية، وقد اجتمعنا في قوله تعالى:{الم غُلِبَتِ الرُّوم فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} (الروم: 1، 2)
قال المالقى:
"اعلم أن (في) حرف جار لما بعده ومعناها الوعاء حقيقة أو مجازاً، فالحقيقة نحو: جعلت المتاع في الوعاء، ومنه قوله تعالى:{أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: 395) . والمجاز نحو: دخلت في الأمر وتكلمت في شأن حاجتك ومنه قوله تعالى: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّة} (البقرة: 208) . ونحو {وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْر} (الأنفال: 5) . غير أنها في بعض الأحيان قد ترادف (إلى) فتقترض معنى انتهاء الغاية منها نحو قوله تعالى: {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} (إبراهيم: 6) . أي إلى أفواههم [6] .
الباء- في:
أ- (الباء) الأصل فيها أن تفيد معنى القسم بل هي أصل أحرفه، ولذا خصت بجواز ذكر الفعل معها نحو: أقسم بالله لتفعلن ودخولها على الضمير نحو: بك لأفعلن غير أن (الباء) قد تقترض من (في) معنى الظرفية يدل على ذلك الشواهد الكثيرة منها قوله تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ} (الصافات: 37، 38) . أي وفى الليل ونحو {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} (آل عمران: 123) . أي في بدر ونحو {إِلَاّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} (القمر: 36) . أي في سحر ونحو {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيّ} (القصص: 44) . أي في جانب الغربي، ونحو:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً} (يونس: 87) . أي في مصر، ونحو قول زهير:
وأطْلاؤها ينهضن من كل مجثم
بها العِينُ والآرام يَمْشِين خِلْفَة
وقال ذي الرُّمَّه:
أراك لها بالبصرة العام ثاويا
أذو زوجة بالمصر أو ذو خصومة
أي فيها العين والآرام وأذو زوجة في المصر [7] .
ب- وقد تقترض (في) معنى (الباء) وذلك نحو قول زيد الخير بن مهلهل:
بصيرون في طعن الأباهر والكلى
ويركب يوم الروع منَّا فوارسٌ
أي بصيرون بطعن الأباهر، وقال بعضهم إن (في) بمعنى (الباء) في قوله تعالى:{جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيهِ} (الشورى:11) . وقد جعلها ابن هشام للتعليل موافقاً الزمخشري في ذلك [8] .
الباء- عن:
أ- (الباء) تفيد القسم في أظهر معانيها كما تقدم ولكنها في بعض أحوالها قد تأتي في الأسلوب مفيدة معنى (المجاوزة) مقترضة هذا المعنى من (عن) نحو قوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} (المعارج: ا) أي عن عذاب واقع، ونحو:{فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} (الفرقان: 56) أي فاسأل عنه خبيراً، ونحو:{يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} (الحديد: 12) أي بين أيديهم وعن أيمانهم، ونحو:{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} (الفرقان: 25) أي يوم تشقق السماء عن الغمام. غير أن الزمخشري جعل (الباء) في هذه الآية بمنزلتها في شققت السنام بالشفرة. على أن الغمام جعل كالآلة التي يشق بها، قال: ونظيره قوله تعالى: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} (المزمل: 18) .
ومن مجيء (الباء) بمعنى _ (عن) نظماً قول علقمة بن عبده:
بصير بأدواء النساء طبيب
فإن تسألوني بالنساء فإنني
أي فإن تسألوني عن النساء.
وقول عنتره:
إن كنت جاهلة بما لم تعلمي
هلا سألت الخيل يا ابنة مالك
أراد: عما لم تعلمي.
وقول النابغة الجعدي:
شرب الدهر عليهم وأكل
سألتني بأناس هلكوا
أي سألتني عن أناس.
وقول النابغة الذبياني:
بذي الجليل على مستأنس وحَد
كأن رحلي وقد زال النَّهار بنا
أي وقد زال النهار عنا.
فالباء في كل ما تقدم تفيد معنى المجاوزة على سبيل الاقتراض من (عن)[9] .
ب- أما (عن) فهي حرف يفيد معنى المجاوزة ولم يذكر البصريون سواه. نحو: سافرت عن البلد، ورغبت عن كذا، ورميت السهم عن القوس [10]، وغير البصريين يذهبون إلى أنها تفيد معاني أخر منها قد تجئ بمعنى الباء أي تقترض معناه يدل على ذلك الأمثلة الآتية:
قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (النجم: 3) . أي وما ينطق بالهوى. غير أن بعضهم ذهب إلى أن الباء في هذه الآية على حقيقتها أي ما يصدر قوله عن الهوى [11] . وتقول العرب: رميت عن القوس أي رميت بالقوس، وقال امرؤ القيس:
بناظرة من وحشي وحرة مطفل
تَصدُّ وتبدى عن أسيل وتتقى
أي تصد وتبدى بأسيل، فعن في البيت بمعنى الباء [12] .
الباء- على:
أ- وأيضاً فالباء المتقدمة قد تأتي في بعض الأحيان مفيدة معنى الإستعلاء مقترضة هذا المعنى من (على) نحو قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ} (آل عمران: 75) أي تأمنه على قنطار، بدليل قوله تعالى:{هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَاّ كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْل} (يوسف: 64) ونحو قوله تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} (المطففين: 30) أي إذا مروا عليهم يتغامزون بدليل قوله تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ} (الصافات: 137) .
ومن مجيء الباء بمعنى الإستعلاء أيضاً قول الشاعر:
لقد هان من بالت عليه الثعالب
أربُّ يبول الثعلبان برأسه
أي يبول الثعلبان على رأسه، ويؤكد ذلك الشطر الثاني من البيت [13] .
ب- ومعلوم أن (على) تفيد معنى الإستعلاء كما سيأتي الكلام على ذلك لكنها قد تأتي مفيدة معنى الباء نحو قوله تعال: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقّ} (الأعراف: 105) أي حقيق بأن لا أقول، وقد قرأ أبي بن كعب المتوفى سنة 21 هـ الآية المتقدمة بالباء، وقد سمع: اركب على اسم الله أي اركب باسم الله [14] .
وقال امرؤ القيس:
عن دم عمرو على مرتد [15]
بأي علاقتنا ترغبون
أراد: ترغبون عن دم عمرو بدم مرتد وليس بدونه.
وقال أبو ذؤيب الهذلي:
يَسَرٌ يفيض على القداح ويَصْدَع [16]
فكأنهنَّ ربابة وكأنه
أي يفيض بالقداح أي يضرب بها.
فيلاحظ أن (على) قد تأتى بمعنى (الباء) كما يشهد لذلك الأمثلة المتقدمة [17] .
الباء- من:
قد ترد (الباء) المتقدمة في الأساليب مفيدة معنى التبعيض مقترضة هذا المعنى من (من) قال بهذا الأصمعي والفارسي والقتبي وابن مالك والكوفيون [18]، وجعلوا من ذلك قوله تعالى:{عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} (الإنسان: 6) أي يشرب منها عباد الله، ومن ذلك قول أبي ذؤيب [19] الهذلي:
متى لحج خضر لهن نئيج
شربن بما البحر ثم ترفعت
أي شربن من ماء البحر.
وقول جميل [20] :
شرب النزيف ببرد ماء الحشرج
فلثمت فاها آخذاً بقرونها
أي شرب النزيف من برد ماء الحشرج، فقد جاءت (الباء) بمعنى (من) فيما تقدم.
ب- ومن المعلوم أن (من) تفيد ابتداء الغاية حتى ادعى جماعة أن سائر معانيها راجعة إليه [21] لكن الأرجح أن ابتداء الغاية مطلقاً هو أشهر معانيها قال السيوطي في المطالع السعيدة [22] .
(من) لابتداء الغاية مطلقاً مكاناً أو زماناً أو غيرهما نحو قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} (الإسراء: ا) ونحو الحديث الشريف:"فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة"[23] وقوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (النمل: 35) .
وقد تأتى (من) مفيدة معنى الإستعانة مقترضة هذا المعنى من (الباء) قال بهذا يونس بن حبيب ومثل لذلك بقوله تعالى: {مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} (الشورى: 45) أي ينظرون بطرف خفي، وعلى هذا النحو أورد الهروي [24] عدة آيات قرآنية ظهر فيها أن (من) بمعنى الباء نحو قوله تعالى:{يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} (الرعد: 11) أي بأمر الله ونحو {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِه} (غافر: هـ) أي بأمره ونحو {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} (القدر: 4، 5) أي بكل أمر سلام، (فمن) في كل ما تقدم بمعنى الباء.
على- عن:
أ- سبق القول أن (معنى الإستعلاء) في (على) هو أظهر معانيها، سواء كان الإستعلاء حقيقياً نحو قوله تعالى:{وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} (المؤمنون: 22) أم مجازياً نحو قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} (الشعراء:14) ونحو {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} (البقرة: 252) ونحو {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَة} (البقرة: 228) غير أنها في بعض الأحيان قد تقترض (معنى المجاوزة) من (عن) نحو قول القحيف بن سليم العقيلي:
لعمرو الله أعجبني رضاها
إذا رضيت عليَّ بنو قشير
أي إذا رضيت عنىِّ بنو قشير، ويحتمل أن يكون (رضي) ضمن معنى (عطف) من باب إعطاء الشيء حكم ما أشبهه في معناه، ولهذا تعدت رضي بعلى في البيت المتقدم لما كان (رضي عنه) بمعنى أقبل عليه بوجه وده، وقال الكسائي:"إنما جاز هذا حملاً على نقيضه وهو سخط "[25] .
ومن مجيء (على) بمعنى (عن) قول عدي بن زيد:
يحكي علينا إلا كواكبها
في ليلة لا نرى بها أحداً
أي يحكى عنا إلا كواكبها، وقال بعضهم أن (يحكي) ضمن معنى ينم ولذلك عداه بعلي فهو من باب إعطاء الشيء حكم ما أشبهه في المعنى.
ب- (عن) تفيد (معنى المجاوزة) ولا تفيد سواه عند البصريين قد تخرج عن هذا المعنى فتفيد (معنى الإستعلاء) مقترضة إياه من (على) وذلك على رأي غير البصريين. يشهد لذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِه} (محمد: 38) أي يبخل على نفسه. وقول ذي الأصبع العدواني:
عني ولا أنت ديانى فتخزوني
لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب
وقد فسر البيت ابن هشام بقوله: أي لله در ابن عمك لا أفضلت في حسب عَلَىَّ ولا أنت مالكي فتسوسني، وذلك لأن المعروف أن يقال: أفضلت عليه [26]، ونحو قوله تعالى:{إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} (ص: 32) أي قدمت الخير على ذكر ربي.
على- اللام:
أ- وإذا كان الإستعلاء في (على) هو أظهر معانيها فإنها أحياناً قد تأتي مفيدة معنى التعليل مقترضة هذا المعنى من (اللام) نحو قوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} (البقرة: 185) أي لهدايته إياكم، ومن ذلك قول عمرو بن معديكرب:
إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرت
علام تقول الرمح يثقل عاتقي
أي لم تقول الرمح يثقل عاتقي، (فعلى) في البيت بمعنى (اللام)[27] .
ب- وقد تأتي (اللام) مفيدة معنى الإستعلاء الحقيقي والمجازي، مقترضة هذا المعنى من (على) فالإستعلاء الحقيقي نحو قوله تعالى {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً} (الإسراء: 109) أي ويخرون على الأذقان، ونحو قوله تعالى {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ} (يونس: 12) أي دعانا على جنبه، وقوله تعالى {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} (الصافات: 153) أي وتله على الجبن، ونحو قول الأشعث الكندي:
فخر صريعاً لليدين والفم
تناولت بالرمح الطويل ثيابه
أي فخر صريعاً على اليدين والفم.
والإستعلاء المجازي نحو قوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} (الإسراء: 7) أي وإن أسأتم فعليها ونحو قوله عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله عنها:"اشترطي لهم الولاء"[28] أي اشترطي عليهم الولاء. وقد أنكر النحاس أن يكون لهم في الحديث بمعنى عليهم، وذهب إلى أن المعنى من أجلهم، فاللام قد جاءت على أصلها في رأيه [29] .
على- في:
أ- وقد تأتى (على) مفيدة (معنى الظرفية) مقترضة هذا المعنى من (في) نحو قوله تعالى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} (القصص: 15) أي في حين غفلة من أهلها. وقوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} (البقرة: 152) أي ما تتلوا الشياطين في زمن ملكه، ويحتمل أن تكون (على) في الآية حقيقتها إذا ضمن {تَتْلُوا} معنى تقول، فيكون بمنزلة {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ} (الحاقة: 44) من مجيء على بمعنى (في) أي مفيدة معنى الظرفية قول الأعشى:
ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا
فضل على حين العشيات والضحى
أي: فصل في حين العشيات.
ويقال: أتيته على عهد فلان. أي أتيته في عهد فلان [30] .
ب- وقد تأتي (في) مفيدة معنى الإستعلاء مقترضة هذا المعنى من (على) قال بذلك الكوفيون وجعلوا من ذلك قوله تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} (طه: 17) أي على جذوع النخل غير أن البصريين قالوا إن (في) في الآية الكريمة على بابها أي مفيدة معنى الظرفية والمعنى: أن النخلة مشتملة على المصلوب، لأنه إنما يصلب في عراضها لا عليها، فكأنها صارت له وعاء أو اشتملت عليه [31] .
ومن مجيء يكفى (في) بمعنى (على) قول سويد بن كاهل أو غيره:
فلا عطست شيبان إلا بأجدعا
هم صلبوا العبدى في جذع نخلة
أي هم صلبوا العبدى على جذع نخلة.
وقول عنترة بن شداد:
يحذى نعال السبت ليس بتوءم
بَطَلُ كأن ثيابه في سرحة
والسرحة: الشجرة العظيمة أي ثيابه على شجرة. ونحو قوله تعالى {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} (الطور: 38) أي يستمعون عليه [32] .
على- من:
وقد تأتى (على) لما مفيدة معنى ابتداء الغاية مقترضة هذا من (من) نحو قوله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} (المطففين: 1، 2) أي إذا اكتالوا من الناس. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِم} (المؤمنون: 5، 6) أي إلا من أزواجهم بدليل: "احفظ عورتك إلا من زوجتك وما ملكت يمينك ". وقوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ} (المائدة: 157) أي استحق منهم الأوليان. وقول أبى المثلم الهذلى يصف كتيبة: [33] .
على أقطارها علق نفيث
متى ما تنكروها تعرفوها
أي من أقطارها، والعلق: الدم الجامد. ونفيث: منفوخ.
ب- وقد تأتى (من) بمعنى (على) أي مفيدة معنى الاستعلاء نحو قوله تعالى: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا} أي ونصرناه على القوم الذين كذبوا، وقيل: ضمن (نصرناه) معنى منعناه أي منعناهم بالنصر.
وهكذا جاءت (على) في الأساليب بمعنى (من) أي مفيدة معنى ابتداء الغاية، وجاءت (من) بمعنى (على) أي مفيدة معنى الاستعلاء وكل ذلك على سبيل التقارض بينهما في المعاني [34] .
عن- اللام:
وقد تترك (عن) معنى المجاوزة إلى إفادة (التعليل) على سبيل الاقتراض من (اللام) نحو قوله تعالى {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلَاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاه} (التوبة: 114) أي إلا الموعدة وعدها إياه، وقوله تعالى:{وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} (هود: 5) أي ما نحن بتاركي آلهتنا لقولك، وقد ذهب الزمخشري إلى غير هذا فجوز أن يكون (عن قولك) حالاً من ضمير تاركي أي ما نتركها صادرين عن قولك، فليست عن بمنزلة اللام على رأيه [35] .
ب- وقد تأتى (اللام) بمعنى (عن) أي مفيدة (معنى المجاوزة) نحو قوله تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْه} (الأحقاف: 11) أي قال الذين كفروا عن الذين آمنوا قال بهذا ابن الحاجب، وذهب ابن مالك وغيره إلى أن اللام في الآية لام التعليل، وقيل هي لام التبليغ والتفت عن الخطاب إلى الغيبة، أو يكون اسم المفعول لهم محذوفاً أي قالوا لطائفة من المؤمنين لما سمعوا إسلام طائفة أخرى، وحيث دخلت اللام على غير المقول له فالتأويل على بعض ما ذكر [36] .
عن- من:
أ- وقد تأتى (عن) بمعنى (من) أي مفيدة معنى ابتداء الغاية. نحو قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} (الشورى: 25) أي يقبل التوبة من عباده، وقوله تعالى {أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا} (الأحقاف: 16) أي يتقبل منهم أحسن ما عملوا بدليل قوله تعالى {فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَر} المائدة: 27) وبدليل قوله تعالى: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (البقرة: 127) .
ب- وقد تأتي (من) مرادفة (لعن) فتفيد معنى المجاوزة على رأي بعضهم نحو قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} (الزمر: 22) أي عن ذكر الله، وقوله تعالى:{قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} (الأنبياء: 97) أي في غفلة عن هذا، وذكر الهروى:"أنه قيل: حدثني فلان من فلان" أي حدثني فلان عن فلان.
قال ابن هشام:
وزعم ابن مالك أن (من في نحو: زيد أفضل من عمرو للمجاوزة، وكأنه قيل: جاوز زيد عمراً في الفضل قال: وهو أولى من قول سيبويه وغيره أنها لابتداء الارتفاع في نحو: أفضل منه، وابتداء الانحطاط في نحو: شرمنه إذ لا يقع بعدها إلى، وقد رُدَّ على ابن مالك أنها لو كانت للمجاوزة في المثال المتقدم لصح في موضعها عن [37] .
في - اللام:
أ- (في) تفيد معنى الظرفية. قال أبو على الفارسي:"وفى معناها الوعاء وذلك نحو: المال في الكيس واللص في الحبس ويتسع فيها فيقال: زيد ينظر في العلم وأنا في حاجتك "وقد تخرج عن هذا المعنى إلى مرادفة (اللام) فتفيد معنى التعليل أو السببية نحو قوله تعالى {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيه} (يوسف: 32) أي لمتنني لأجله. وقوله تعالى {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ} (النور: 14) أي لأجل إفاضتكم فيه، ومن ذلك حديث الرسول عظيم:"دخلت امرأة النار في هرة حبستها "[38] أي لأجل هرة فالهرة هي العلة والسبب في دخول المرأة النار.
ب- (واللام) التي تفيد معنى (التعليل) قد تخرج عنه إلى إفادة معنى الظرفية على سبيل الاقتراض من (في) نحو قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} (الأنبياء: 11) أي ونضع الموازين في يوم القيامة. وقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُو} (الأعراف: 187) أي لا يجليها في وقتها إلا هو، قيل: ومنه قوله تعالى: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} (الفجر: 24) أي في حياتي. وقولهم: مضى لسبيله أي مضى في سبيله [39] .
في- من:
أ- وقد تأتى (في) بمعنى (من) أي تأتي مقترضة معنى ابتداء الغاية أو التبعيض من (من) نحو قول امرئ القيس: [40]
وهل يعمن من كان في العصر الخالي
ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي
ثلاثين شهراً في ثلاثة أحوال
وهل يعمن من كان أحدث عهده
أي من كان من العصر الخالي وثلاثين شهراً من ثلاثة أحوال.
ب- وقد تأتى (من) بمعنى (في) أي تفيد معنى الظرفية على وأي بعضهم نحو قوله تعالى: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ} (فاطر: 40) أي ماذا خلقوا في الأرض، وقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (الجمعة: 9) أي نودي للصلاة في يوم الجمعة.
وقد ذهب ابن هشام إلى أن: "من في الآية الكريمة لبيان الجنس وليست بمعنى في"[41] .
اللام- من:
أ- وقد تخرج (اللام) عن معنى التعليل فتأتى بمعنى (من) أي تفيد معنى ابتداء الغاية نحو قولهم: "سمعت له صراخاً "أي سمعت منه صراخاً. ونحو قول جرير: [42]
ونحن لكم يوم القيامة أفضل
لنا الفضل في الدنيا وأنفك راغم
أي ونحن أفضل منكم يوم القيامة [43] .
ب- وقد تخرج (من) عن إفادة ابتداء الغاية فتأتي بمعنى (اللام) أي تفيد معنى التعليل نحو قوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} (نوح: 25) أي لأجل خطيئاتهم أغرقوا. ونحو قول امرىء القيس: [44]
وخبرته عن أبي الأسود
وذلك من نبأ جاءني
أي وذلك لأجل نبأ جاءني.
ونحو قول الفرزدق: [45]
فما يكلم إلا حين يبسم
يُغْضِي حياءً وُيغضِي من مهابته
أي ويغضي لأجل مهابته [46] .
أو- الواو:
أ- (أو) حرف عطف يفيد معنى الشك أو الإبهام أو التخيير أو الإباحة، وفي بعض الأحيان قد يأتي هذا الحرف مفيداً معنى (الواو) أي يفيد معنى الجمع المطلق قال بذلك الكوفيون والأخفش والجرمى واحتجوا بقول توبه بن الحُميرِّ:
لنفسي تقاها أو عليها فجورها
وقد زعمت ليلى بأني فاجر
أي لنفسي تقاها وعليها فجورها (فأو) بمعنى (الواو) . قال المالقى: وهو قليل لا يقاس عليه [47] . وقيل (أو) في البيت للإبهام أي جاءت على بابها.
واحتجوا أيضاً بقول جرير في مدح عمر بن عبد العزيز: [48]
كما أتى موسى ربه على قدر
جاء الخلافة أو كانت له قدراً
(فأو) في الشطر الأول لمطلق الجمع كالواو.
ويقول النابغة الذبياني: [49]
إلى حمامتنا أو نصفه فقد
قالت: ألا ليتما هذا الحمام لنا
(فأو) في البيت لمطلق الجمع كالواو.
ويقول حميد بن ثور: [50]
ما بين ملجم مهره أو سافع
قوم إذا سمعوا الصريخ رأيتهم
فأو في الشطر الثاني لمطلق الجمع كالواو. والسافع: هو الآخذ بناصية الفرس من غير لجام.
وقال الرماني: [51]"ذهب قوم من الكوفيين إلى أن (أو) بمعنى (الواو) وجعلوا من ذلك قوله تعالى: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (المرسلات: 6) ومثله: {عُذْراً أَوْ نُذْراً} (طه: 44) . وفى قوله تعالى: {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} (الواقعة: 47، 48) ذهب المالقي إلى أن (أو) في الآية بمعنى (الواو) على قراءة من سكن الواو [52] في قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} (الصافات: 147) (أو) بمعنى الواو أي مائة ألف ويزيدون. في قوله تعالى: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} (النور: 61) ذكر ابن مالك:"أن (أو) في الآية بمعنى (ولا)". قال ابن هشام:"إن (أو) في الآية بمعنى (الواو) وإنما جاءت (لا) في الآية توكيداً للنفي السابق ومانعة من توهم تعليق النفي بالمجموع لا بكل واحد، وذلك مستفاد من دليل خارج عن اللفظ وهو الإجماع" [53] .
ب- وقد تخرج (الواو) عن إفادة (مطلق الجمع) فتأتي بمعنى (أو) أي تفيد الإباحة أو التخيير وقالوا إن مجيء (الواو) بمعنى (أو) على ثلاثة أقسام:
أحدها: أن تكون بمعنى (أو) في التقسيم نحو قولك: الكلمة اسم وفعل وحرف أي الكلمة اسم أو فعل أو حرف، ونحو قول عمرو بن براقة:
كما الناس مجروم عليه وجارم
وننصر مولانا ونعلم أنه
(فالواو) في الشطر الثاني بمعنى (أو) وذهب ابن هشام: إلى أن الواو جاءت على أصلها لمطلق الجمع.
الثاني: أن تكون (الواو) بمعنى (أو) في إفادة الإباحة وعلى ذلك الزمخشري، وزعم أنه يقال: جالس الحسن وابن سيرين أي جالس أحدهما، وأنه لهذا قيل:{تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (البقرة: 192) بعد ذكر ثلاثة وسبعة لئلا يتوهم إرادة الإباحة وقد رد ابن هشام ما ذهب إليه الزمخشري [54] .
الثالث: أن تكون (الواو) بمعنى (أو) في إفادة التخيير، واستدلوا بقول كثير عزه:[55]
فقلت: البكا أشفى إذن لغليلي
وقالوا نأت فاختر لها الصبر والبكا
أي فاختر لها الصبر أو البكاء أي أحدهما، إذ لا يجتمع البكاء مع الصبر.
مع- بعد:
أ- (مع) اسم يدل على الظرفية ويستعمل مضافاً ومفرداً فيستعمل مفرداً نحو قول جندل بن عمرو:
وأرماحنا موصولة لم تقضب
أفيقوا بني حرب وأهواؤنا معاً
وحين يستعمل مضافاً فإنه يفيد ثلاثة معان:
أحدها: موضع الاجتماع ولهذا يخبر به عن الذوات نحو: الكتاب معك.
والثاني: زمان الاجتماع نحو: جئتك مع الظهر.
والثالث: بمعنى (عند) كقراءة بعضهم: {هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِي} (الأنبياء: 24) وكما تأتي في الأسلوب موافقة لعند فقد ذكر الهروي أنها قد تأتي بمعنى (بعد) واستدل بقول الله عز وجل: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} (الانشراح: 5) معناه: فإن بعد العسر يسر. ولما ذكر العسر بالألف واللام ثم أعاد ذكره، يوجب أن العسر الثاني هو الأول وصار المعنى: إن مع العسر يسرين، ومنه الحديث:"لا يغلب عسر واحد يسرين "[56] .
ب- (بعد) هو أحد الظروف الذي لا يلازم البناء، فهو يبنى في بعض الأحوال ويعرب في بعضها الآخر كقيل ودون وأول والجهات الست، ويأتي هذا الظرف أي (بعد) في مقابل (قبل) نحو قوله تعالى:{لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} (الروم: 4) وقد يخرج عن معنى مقابلة قبل فيأتي بمعنى (مع) نحو قول الله سبحانه وتعالى: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} (القلم: 13) أي عتل مع ذلك زنيم.
وهكذا يلاحظ أن مع وبعد تقارضاً المعاني فيما بينهما [57] .
وبعد فلعلي أكون قد ألممت بما يجب أن يقال في (ظاهرة التقارض في النحو العربي) ، وربما فاتني منها القليل أو الكثير أرجو الله أن يهديني إليها في قابل الزمان، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
ديوان الهذليين: ا: 51.
[2]
رصف المباني: 221. وراجع الخلاف بين البصريين والكوفيين في هذه المسألة: مغنى اللبيب: 150- 151. والخصائص: 2: 306. والجني الداني في حروف المعاني: 5. والأزهية: 277-300. والآمالى الشجرية: 2: 267.
[3]
راجع الأشموني: 2: 213. والهمع: 2: 20.
[4]
اللامات للزجاجي: 157. وراجع رصف المباني: 222. ومعاني القرآن للفراء: ا: 250. وشرح التصريح على التوضيح: 2: 17. ومغني اللبيب: 104-280.
[5]
راجع المغني:104، 105. والأزهية: 283، 284. ومعاني الحروف للرماني:115. ورصف المباني: 83.
[6]
المغني: 223، 225. والمطالع السعيدة في شرح الفريدة للسيوطي: 2: 52 ط أولى بغداد. وراجع رصف المباني: 388. والأشموني: 2: 219.
[7]
راجع معاني الحروف للرماني: 36. والمقرب: ا:204. وشرح التصريح: 2: 14.
[8]
المغني: 141-224.
[9]
راجع مغني اللبيب: 141 -142. وابن عقيل: 2: 22. والأزهية: 295. ورصف المباني: 144. والتسهيل: 145.
[10]
مغني اللبيب: 196.
[11]
مغني اللبيب 198.
[12]
راجع معاني الحروف للرماني: 95. والأزهية 0 295. والخزانة: 4: 244. والهمع: 2: 29،30. ومعنى الأسيل في البيت: الخد الناعم.
[13]
مغني اللبيب: 142.
[14]
مغني اللبيب: 192.
[15]
الديوان: 39. والأزهية: 287.
[16]
المفضليات: 202. ولسان العرب: ربب. وديوان الهذليين: ا: 6.
[17]
راجع المطالع السعيدة: 2: 56. وشرح التصريح: 2: 13. والأشموني: 2: 222.
[18]
مغني اللبيب: 142.
[19]
ديوان الهذليين.
[20]
الديوان: 42. والنزيف: العطشان. والحشرج: نقرة في الجبل يجتمع فيها الماء.
[21]
مغني اللبيب: 429.
[22]
المطالع السعيدة: 2: 70.
[23]
البخاري: باب الإستسقاء.
[24]
الأزهية: 293.
[25]
راجع مغني اللبيب: 191-887.
[26]
المغني: 196. وراجع الإيضاح العضدي: 259. والهمع: 2: 29. وابن عقيل: 2: 23. وشرح التصريح: 2: 15.
[27]
مغنى اللبيب: 191. والمقرب لابن عصفور: ا: 201. والمطالع السعيدة: 2: 62.
[28]
صحيح البخاري: كتاب العتق.
[29]
مغنى اللبيب: 280. ورصف المباني: 221. والأشمونى: 2: 217.
[30]
الأزهية: 285. وشرح التصريح: 2: 14. وابن يعيش: 9: 39.
[31]
معاني الحروف للرماني: 96.
[32]
منار السالك: 1: 393. والمغنى: 224.
[33]
البيت في ديوان الهذليين: 2 ص 224. والمخصص: 6: 95.
[34]
الأزهية: 293. والمغنى: 191، 424. والأشمونى: 2: 213. والهمع: 2: 28، 34.
[35]
مغني اللبيب: 197.
[36]
مغني اللبيب: 282. والأشموني: 2: 224.
[37]
الأزهية: 289.
[38]
الحديث في مسند أحمد والبخاري ومسلم.
[39]
الإيضاح العضدي: 251. والمغنى: 224، 281.
[40]
الديوان: 138.
[41]
مغنى اللبيب: 225، 424. والمطالع السعيدة: 2: 64. وأوضح المسالك: ا: 389. ورصف المباني: 391.
[42]
الديوان: 457.
[43]
مغنى اللبيب: 281. والأشمونى: 2: 218.
[44]
الديوان: 76.
[45]
الديوان: 848.
[46]
مغنى اللبيب:421. ومنار السالك: ا: 389.
[47]
رصف المباني: 131.
[48]
الديوان: 275.
[49]
الديوان: 45.
[50]
الديوان: 111.
[51]
معاني الحروف: 77، 78.
[52]
رصف المباني: 426.
[53]
مغنى اللبيب:. 9. وراجع الإنصاف في مسائل الخلاف المسألة 67 ط رابعة مصر.
[54]
مغنى اللبيب: 468.
[55]
الديوان: 2: 251.
[56]
الحديث أخرجه الحاكم بسند ضعيف مرسلاً.
[57]
راجع الأزهية: 292. والمغنى: 439. وجامع الدروس العربية: 2: 214.
مَلامِحُ النّقد الأدبي وَمقاييسهُ في العصر الجاهِلِيِّ
د. محمد عارف محمود حسين
مدرس بكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر
النقد الأدبي ملكة وذوق وفطرة، قبل أن يكون علماً وأصولاً وقواعد، وكما وجد الأديب المنشئ الذي وهب ملكة الإنشاء والإِبداع الأدبي، الذي يستطيع أن يصور في أسلوب مثير ما يجيش به خاطره، وما يَعتمل في فؤاده من أفكار وخواطر وأحاسيس..- كما وجد الأديب المنشئ المبدع، فقد وجد- كذلك- الإنسان الذواقة، المرهف الإحساس، النافذ النظر، الذي يستطيع أن يكشف عما في العمل الأدبي من جمال أو قبح، وأن يصل إلى ما خفي من سماته وشاراته، التي تكسبه المكانة العالية إن كانت سماته وشاراته جميلة، أو التي تنزل به إلى الدرك الأسفل في باب الفن الأدبي، إن كانت قبيحة.
ونخلص من هذا إلى القول بأنه إذا كان العرب قد وهبوا ملكة الإنشاء والإبداع الأدبي، وجادت ملكتهم بروائع الشعر والنثر، فقد وهبوا- كذلك- ملكة النقد والتذوق الأدبي، لما أنشأه المنشئون من شعرائهم، ونخلص- أيضاً- إلى القول بأن النقد الأدبي نشأ مع النتاج الأدبي جنباً إلى جنب، وأن الناقد الأدبي وجد في الوقت الذي وجد فيه الأديب المنتج.
وهذا يعنى أن العرب القدامى قد عرفوا النقد الأدبي وزاولوه، عرفوه فطرة وطبيعة، وزاولوه ذوقاً وإحساساً، وطبقوه على نتاجهم الشعري، ولكنهم لم يعرفوه علماً وفناً، له أصوله وقواعده إذ لم يسموا عملهم هذا نقداً، ولم يصفو هذا الوصف، لأن كلمة (نقد) - مقصوداً بها تمييز جيد الكلام من رديئه- لم تستعمل إلا في القرن الثالث الهجري حيث أضيفت إلى الشعر مرة، وإلى النثر ثانية، والى الكلام مرة ثالثة، وأخذ الناس يقولون: نقد الكلام، وهو من نقدة الشعر ونقاده، وانتقد الشعر على قائله [1] واستعمل الشعراء النقد بهذا المعنى كذلك، فقال بعضهم:
رف صعب فكيف نقد الكلام [2]
إن نقد الدينار إلا على الصي
واستخدم المؤلفون هذا التعبير، وأول من استعمله (قدامة [3] بن جعفر) وذلك حين أطلق على كتابه (نقد الشعر) ثم مضى الناس على إثره، فوجدنا كتاب (نقد النثر) فالأرجح أنه لغيره وليس له، ووجدنا (ابن رشيق [4] ) يعنون كتابه ب (العمدة في صناعة الشعر ونقده) .
ملامح النقد الجاهلي:
والناقد الأدبي يعنى النظر الدائب الفاحص في النتاج الأدبي، للكشف عما فيه من جوانب الجمال، أو مواضع القبح، ولذا كان أول شيء مارسه العرب القدامى من شئون النقد الأدبي، هو نظر الشعراء منهم إلى نتاجهم، فكان أغلبهم يتناول شعره بالنظر والتأمل، فلا يزيده النظر والتأمل إلا احتفاءً به وحباً له، ورغبة في تثقيفه، ومحاولة دائبة لصقله، حتى يصل به إلى درجة يشعر معها أنه راض كل الرضا.
وقد اشتهر من هؤلاء الشعراء الذين عنوا بأشعارهم، ووقفوا بأبواب قوافيه، بل باتوا بها- كما كانوا يقولون- اشتهر من هؤلاء زهير [5] بن أبى سلمى، وكعب [6] بن زهير، والحطيئة [7] .. فكان الواحد منهم يمضى عاماً كاملاً ينقح قصيدة واحدة، حتى يصل بها إلى درجة يظن معها أن قصيدته نالت رضاه واستحسانه، وقد سميت هذه القصائد – لذلك- بالحوليات والمنقحات والمحككات.
فها هو ذا كعب بن زهير، يذكر الشعر وحاجته إلى التقويم والتثقيف، ويذكر فضله وفضل الحطيئة في هذا الشأن فيقول:
إذا ما ثوى كعب وفوز جرول [8]
فمن للقوافي شانها من يحوكها
فيقصر عنيا كل ما يتمثل [9]
يقومها حتى تلين متونها
والحطيئة يذكر صعوبة المرتقى إلى جيد الشعر، وحاجة الشاعر إزاءه إلى الجهد والخبرة؛ إذ يقول:[10]
إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
الشعر صعب وطويل سلمه
يريد أن يعربه فيعجمه [11]
زلت به إلى الحضيض قدمه
وهو الذي يقول: "خير الشعر الحولي المنقح المحكك "[12] .
وعناية الشاعر الجاهلي بشعره: بالنظر فيه وتقويمه وتثقيفه منحي نقدي جاهلي، سار على نهجه كثير من الشعراء الذين تتابعوا عبر العصور.
ومن هؤلاء الشعراء الذين جروا في طلق الشعراء الجاهليين عدى [13] بن الرقاع، وسويد [14] بن كراع، ومروان [15] بن أبي حفصه، فها هوذا عدى بن الرقاع يتحدث عن تقويمه لشعره وتثقيفه له فيقول:
حتى أقوم سيلها وسنادها [16]
وقصيدة قدبت أجمع بينها
حتى يقيم ثقافه منادها [17]
نظر المثقف في كعوب قناته
وهذا سويد بن كراع يصف نزعة الصناعة وصفاً أدبياً في وجه البداهة والإرتجال إذ يقول: [18]
أصادي بها سرباً من الوحش نزعا [19]
أبيت بأبواب القوافي كأنما
يكون سحيراً أو بعداً فأهجعا [20]
أكالئها حتى أعرس بعد ما
ثم يقول:
فثقفتها حولاً حريداً ومربعا [21]
وجشمني خوف ابن عفان ردها
فلم أر إلا أطيع وأسمعا
وقد كان في نفسي عليها زيادة
وأما مروان بن أبي حفصة فيتحدث عن صناعته لشعره، ومعاودة النظر فيه وتقديمه، فيقول:"كنت أعمل القصيدة في أربعة أشهر، وأحككها في أربعة أشهر، وأعرضها في أربعة أشهر، ثم أخرج بها إلى الناس، فقيل له: فهذا هو الحولي المنقح "[22] .
ولم يقف الأمر بالشعراء الجاهليين عند حد شعرهم بالتأمل فيه والنظر إليه، ومحاولة تنقيحه وتهذيبه
…
بل تعدوا ذلك، فكان منهم من يتجاوز النظر في شعره إلى النظر في شعر غيره، فيتناوله بالفحص والتدقيق وإنعام النظر فيه مرة بعد مرة، ثم يعقب على ذلك، بما يرى من استحسان أو استهجان.
ومن الأمثلة التي روتها كتب الأدب لحكم بعض الشعراء على بعض، ما روى أن النابغة [23] الذبياني فقد حسان [24] بن ثابت، حصان أنشده قوله:
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى
نقده بقوله: أقللت جفانك وسيوفك (لأن الجفنات هي الجمع لأدنى العدد، أما الكثرة فتجمع على جفان، وكذلك الأسياف لأدنى العدد، والكثرة سيوف) وقلت: (يلمعن في الضحى) ولو قلت: يبرقن في الدجى لكان أبلغ، لأن الضيف في الليل أكثر، وقلت:(يقطرن من نجدة دما) فدللت على قلة القتل، ولو قلت: يجرين لكان أكثر لانصباب الدم.
ومنها ما روى أن أهل المدينة نقدوا شعر النابغة الذي وقع فيه (الإِقواء)[25] وهو قوله:
عجلان ذا زاد وغير مزود [26]
من آل مية رائح أو مغتد
وبذاك خبرنا الغراب الأسود [27]
زعم البوارح أن رحلتنا غداً
وقوله:
فتناولته واتقتنا باليد [28]
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه
عنم يكاد من اللطاف يعقد [29]
بمخضب رخص كأن بنانه
ويروي أبو عمرو [30] بن العلاء أن الذبياني، لما قدم يثرب على الأوس والخزرج - وكان أهل الحجاز من المعجبين بشعره، وكانوا قد عرفوا الإِقواء في شعره- دسّوا له قينه (جاريه) تغنيه به، فغنته ومدت صوتها بالقوافي، فظهر الإختلاف في حركتها؛وتنبه النابغة لما جاء منها مضموماً، وهى مكسورة كلها، فأصلحه على الوجه الآتي:
وبذاك تنعاب الغراب الأسود
زعم البوارح أن رحلتنا غداً
عنم على أعضائه لم يعقد بمخضب رخص كأن بنانه
وقال: "قدمت الحجاز وفي شعري هنة، ورحلت عنه وأنا أشعر الناس"[31] .
ومنها نقد طرفة [32] بن العبد لقول المتلمس: [33]
بناج عليه الصيعرية مكدم [34]
وقد أتناسى الهم عند ادكاره
نقده بقوله: (استنوق الجمل)[35] يعني طرفة أن الشاعر قد وصف الجمل بما توصف به الناقة، لأن الصيعرية سمة تكون في عنق الناقة لا الجمل.
ومن الأمثلة على هذا اللون من النقد- أيضاً- ما روى أن الحطيئة سئل: من أشعر العرب؟ قال: الذي يقول:
يفره ومن لا يتق الشتم يشتم [36]
ومن يجعل المعروف من دون عرضه
يقصد بهذا زهيراً، وسئل: ثم من؟ قال الذي يقول:
وسائل الله لا يخيب
من يسأل الناس يحرموه
يقصد عبيد بن الأبرص [37] .
وليس ما تقدم من نظرات جاهلية نقدية- من نظر الشاعر في شعره، ومحاولته تهذيبه وتثقيفه، ومن نظره- أحياناً- إلى شعر غيره والحكم عليه- ليس ما تقدم هو كل ما قام به النقد الجاهلي من دور في تقويم الشعر العربي الجاهلي، والوصول به إلى درجة من الكمال الفني
…
بل إن النقد الجاهلي قد ساهم بلون آخر من ألوانه التي عملت على النهضة بالشعر العربي، هذا اللون هو المفاضلة أو الموازنة بين الشعراء.
وتروي كتب الأدب أن النابغة الذبياني، كانت تضرب له قبة في سوق عكاظ، حيث يفد إليه الشعراء يعرضون عليه نتاجهم، فإذا به يستمع إليهم جميعاً، ثم يحكم في النهاية لمن نالت قصيدته الرضا والاستحسان.
وقد ساعد على هذا اللون من النقد، وعمل على وجوده دواع كثيرة، ومواقف متعددة، منها (تلك المواسم والأسواق، والمجامع الجامعة، والمحافل الحافلة، التي كان العرب يحضرونها بما لديهم من المفاخر، يتبادلون عندها المنافع، ويتناشدون الأشعار، متباهين بجودتها، وقد جلس للحكم بينهم وتفضيل بعضهم على بعض فيها سادة مقدمون، ولسن معاول [38] ) ومنها تلك المواقف التي كثيراً ما (يلتقي فيها شاعران على بساط المنافسة الأدبية، أو يجريها اللجاج حول بعض الأمور إلى التماس الفوز عن طريق الحكم لأحدهما بالأصالة والمنزلة الشعرية)[39] .
وتروى لنا كتب الأدب مشهداً من تلك المشاهد التي كانت بين النابغة والشعراء في عكاظ، أنشده الأعشى مرة، ثم أنشده حسان بن ثابت، ثم شعراء من بعده، ثم الخنساء أنشدته قصيدتها في رثاء أخيها صخر التي منها:-
كأنه علم في رأسه نار
وإن صخراً لتأتم الهداة به
فأعجب بالقصيدة، وقال لها:"لولا أن أبا بصير- يعني الأعشى- أنشدني لقلت: إنك أشعر الجن والإِنس ". فالأعشى إذن أشعر الذين أنشدوا النابغة، والخنساء تليه منزلة وجودة شعر [40] .
ومن الأمثلة على هذا اللون من النقد الذي يقوم على المفاضلة بين الشعراء ما روى أن رهطاً من شعراء تميم اجتمعوا في مجلس شراب، وهم: الزبرقان [41] بن بدر، والمخبل [42] السعدي، وعبدة [43] بن الطبيب، وعمرو [44] بن الأهتم، اجتمعوا قبل أن يسلموا وبعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وتذاكروا أشعارهم، وقال بعضهم:"لو أن قوماً طاروا من جودة الشعر لطرنا "، فتحاكموا إلى أول من يطلع عليهم، فطلع عليهم ربيعة بن حذار الأسدي أو غيره في رواية، وقالوا له:"أخبرنا أينا أشعر؟ "فقال:"أما عمرو فشعره برود يمنية تطوى وتنشر، وأما أنت يا زبرقان فكأنك رجل أتى جزوراً قد نحرت، فأخذ من أطايبها، وخلطه بغير ذلك، أو قال له: شعرك كلحم لم ينضج فيؤكل، ولا ترك نيئاً فينتفع به، وأما أنت يا مخبل فشعرك شهب من الله يلقيها على من يشاء من عباده، وأما أنت يا عبدة فشعرك كمزادة أحكم خرزها فليس يقطر منها شيء"[45] وفي رواية أخرى أنه قال لعمرو: "وأما أنت يا عمرو فإن شعرك كبرود حبر، يتلألأ فيها البصر، فكلما أعيد فيها النظر نقص البصر، وقال للمخبل: وأما أنت يا مخبل، فإن شعرك قصر عن شعرهم وارتفع عن شعر غيرهم، وقال لعبدة: وأما أنت يا عبدة فإن شعرك كمزادة أحكم خرزها، فليس تقطر ولا تمطر"[46] .
ومن الأمثلة على هذا اللون- أيضاً- ما روي أن امرؤ القيس [47] كان جالساً بخبائه، وعنده زوجه (أم جندب) الطائية، فجاءه علقمة [48] بن عبدة التميمي، وتذاكرا أمر الشعر، وادعى كل منهما لنفسه فيه ما ليس عند صاحبه، فاتفقا على أن ينشدا، وتحكم بينهما (أم جندب) فقال امرؤ القيس قصيدته التي مطلعها:
نقضي لبانات الفؤاد المعذب
خليلي مرا بي على أم جندب
ومنها في وصف جواده:
وللزجر منه وقع أفرج منعب [49]
فللسوط ألهوب وللساق درة
وقال علقمة يعارضه:
ولم يك حقاً كل هذا التجنب
ذهبت من الهجران في كل مذهب
ووصف فيها جواده فقال:
يمر كمر الرائح المتحلب [50]
فأدركهن ثانياً من عنانه
فلما فرغا قضت (أم جندب) لعلقمة على امرىء القيس، فسألها:" بم فضلته علي؟ "فقالت: "فرس ابن عبدة أجود من فرسك، فأنت زجرت وحركت ساقيك، وضربت بسوطك، أما علقمة فأدرك بفرسه غرضه، ثانياً من عنانه، لم يضربه بسوط ولم يجهده ".
مقاييسه:
ولسائل أن يسأل ويقول: على أي نحو كان هذا النقد الجاهلي؟ أكانت له أصول وأسسه يتم على أساسها تقويم الشعر الجاهلي، أم كان مجرد نقدات فطرية، ونظرات ذوقية؟
نستطيع أن نقول: إن النقد الذي مارسه قدامى النقاد العرب- في بدايات النقد وأولياته- لم تكن له أصول معروفة، ولا مقاييس مقررة، بل كان مجرد لمحات ذوقية، ونظرات شخصية، تقوم على ما تلهمهم به طبائعهم الأدبية، وسليقتهم العربية، وأذواقهم الشاعرة، وحسهم اللغوي الدقيق بلغتهم، وإحاطتهم بأسرارها، ووقوفهم على ما للألفاظ من دلالات وإيحاءات في شتى صورها، بالإضافة إلى ما تزودهم به الطبيعة العربية الجاهلية من معارف وتقاليد، تساعدهم كثيراً في لمحاتهم النقدية، ونظراتهم الشعرية.
وحينما نحاول تطبيق هذه المقاييس الذوقية الفطرية التي على أساسها كان الناقد الجاهلي يستلهم أحكامه، ويبنى نقده..- حينما نحاول تطبيق ذلك على ما تقدم من لمحات نقدية، نجد ذلك واضحاً تمام الوضوح.
فنقد النابغة الذبياني لشعر حسان بن ثابت- والذي أوردناه من قبل- كان مستمداً من فهم النابغة لطبيعة اللغة العربية، ومعرفته التامة بدلالات الألفاظ، وما توحي به أبنية الكلمات من معان وإيحاءات.
ونقد أهل المدينة لشعر النابغة، لما فيه من إقواء، كان نابعاً من فهم العربي لطبيعة الشعر العربي، ولما ينبغي أن يكون عليه من انسجام في الوزن، واتساق في النغم، الأمر الذي يتطلب- ضمن ما تتطلبه قواعد الشعر العربي- وحدة حركة الروى، التي تكسب الشعر اتساقاً وانسجاماً، ولذا كان اختلاف حركة الروى- الإقواء- في شعر النابغة مذهباً لروعة الوزن، واتساقه، بل محدثاً لنوع من التنافر في النغم، مما جعله غير متسق ولا منسجم.
ونقد طرفة لشعر المتلمس لوصفه الجمل بصفة الناقة، كان مبنياً على فهم واع بطبيعة البيئة العربية ومعرفة تامة بالسمات والصفات، التي تتميز بها الحيوانات العربية، لاسيما الحيوانات التي كانت مرتبطة بحياة العربي، وكان العربي مرتبطاً بها.
وعلى الرغم من وضوح تلك الحقيقة- وهي أن العربي الجاهلي كان خبيراً بلغته، عالماً بأسرارها ولطائفها- على الرغم من ذلك نلاحظ بعض نقادنا المعاصرين، يحاولون التشكيك في صحة ما نسب إلى بعض نقاد العرب القدامى من أحكام نقدية، خاصة تلك التي نسبت إلى النابغة الذبياني في نقده لحسان بن ثابت بدعوى أن ما فيه ينضح بالروح العلمية، والنظرة الدقيقة، التي تتسم بدقة التحليل والقدرة على الإستنباط، وتلك أمور تأباها طبيعة العصر الجاهلي، الذي يعتمد نقده على الذوق وحده.
يقول المرحوم الأستاذ/ طه أحمد إبراهيم: "ملكة النقد عند الجاهلين هي الذوق الفني المحض، فأما الفكر وما ينبعث عنه من التحليل والإستنباط، فذلك شيء غير موجود عندهم. وبعيد كل البعد عن الروح الجاهلي، وعن طبيعة العصر الجاهلي ما يضيفه بعض الرواة إلى قصة النابغة مع حسان في عكاظ
…
عيب على حسان أن يفتخر فلا يحسن الافتخار، وأن يؤلف بيته من كلمات غيرها أضخم معنى منها، وأوسع مفهوماً: ترك الجفان، والبيض، والإِشراق، والجريان، واستعمل الجفنات، والغر، واللمعان، والقطر، وهى دون سابقاتها فخراً، وعيب عليه غير ذلك، وتختلف القصة طولاص وقصراً، وتختلف فيها وجوه النقد، وكل ذلك تأباه طبيعة الأشياء، وكل ذلك يرفض رفضاً علمياً من عدة وجوه [51] ".
ومن هذه الوجوه التي ذكرها قوله: "فلم يكن الجاهلي يعرف جمع التصحيح وجمع التكسير، وجموع القلة والكثرة، ولم يكن له ذهن علمي يفرق بين هذه الأشياء، كما فرق بينها ذهن الخليل وسيبويه، ومثل هذا النقد لا يصدر إلا عن رجل عرف مصطلحات العلوم، وعرف الفروق البعيدة بين دلالات الألفاظ، وألم بشيء من المنطق "[52] .
ومنها- أيضاً- قوله: "ولو أن هذه الروح- يقصد روح النقد التي اتسم بها نقد النابغة- جاهلية؛ لوجدنا أثرها في عصر البعثة، يوم تحدى القرآن العرب وأفحمهم إفحاماً، فلقد لجأوا إلى الطعن عليه طعناً عاماً، فقالوا: "سحر مفترى"، وقالوا:"أساطير الأولين"، ولو أن لديهم تلك الروح البيانية، لكان من المنتظر أن ينقدوا القرآن على نحوها، وأن يفزعوا إليها في تلك الخصومة العنيفة التي ظلت نيفاً وعشرين عاماً "[53] .
أما بالنسبة للوجه الأول فنقول: إن هذه الدعوى التي أطلقها هذا الناقد- وهى أن العربي الجاهلي لم يكن يعرف جمع التصحيح وجمع التكسير
…
- إن هذه الدعوى، فيها تجن على مقدرة العقل العربي الذي كان يعرف- بلا شك- دلالات الألفاظ والفروق الدقيقة بينها، وذلك بمنطق الفطرة والطبيعة، التي فطر عليها، لا بمنطق العلم ومصطلحاته، والعربي الجاهلي لم يكن- في استعمالاته لكلمات لغته- بحاجة إلى هذه المصطلحات التي وضعها من بعد علماء اللغة والنحو، بدليل أنه كان يرفع الفاعل، وينصب المفعول، ويجر المضاف إليه بفطرته وسليقته، دون أن يدرك هذه المصطلحات: الفاعل، المفعول، المضاف إليه، الرفع، النصب، الجر. إذن فالعربي الجاهلي لم يكن بحاجة في استعمالاته للغته لهذه المصطلحات: جموع القلة والكثرة، والتصحيح والتكسير وما إليها، ولم يكن استعماله لها متوقفاً على معرفته بها، كي يدرك دلالات الألفاظ والفروق الدقيقة بينها.
وأما بالنسبة للوجه الثاني فنقول: إن هذه- أيضاً- دعوى، تحمل بين طياتها إنكار كون العرب قد أوتوا حظاً من الفصاحة والبلاغة والبيان، ولو كان الأمر كذلك لما تحداهم الله بالقرآن، وهو المعجزة البيانية الرائعة، إذ كيف يتحدى الله بالبلاغة قوماً لا حظ لهم منها؟! وإذ تحداهم الله بالبيان في قرآنه العظيم، فهذا دليل على مبلغ بلاغتهم، وطول باعهم في صناعتها.
أما عدم ردهم على القرآن بنحو بلاغته وفصاحته، فهذا دليل واضح، وسلطان بين على مبلغ إدراكهم لبلاغة القرآن، وأنهم لن يستطيعوا أن يجاروه فيها، ولذا لم يكن أمام عجزهم الواضح عن ملاحقة بلاغة القرآن، والرد عليها بنحوها أو مثلها إلا قولهم العاجز:"سحر مفترى"،" أساطير الأولين". ولعل قصة الوليد بن المغيرة، حينما تلا عليه الرسول صلى الله عليه وسلم صدراً من سورة (فصلت) وكيف سجد لفصاحة القرآن. وقال فيه قولته الشهيرة:"والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً، ما هو بكلام الإنس ولا من كلام الجن، والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو وما يعلى عليه "[54] لعل هذه القصة خير دليل على مدى فهمهم للبلاغة، وقوة بيانهم، وإلا فكيف أدرك الوليد هذه البلاغة القرآنية، لو لم تكن لديهم هذه الروح البيانية، التي ينكرها عليهم ويسلبها منهم هذا الناقد!!
إن هذه دعوى تنقصها الحجة الواضحة، وتنقضها مخالفة الواقع، بل فيها مماراة مكشوفة، وظلم للعقل العربي الجاهلي!
طبيعة أحكامه:
لعلنا نستطيع- من خلال ما تقدم من حديث عن ملامح النقد الجاهلي ومقاييسه- أن نستشف طبيعة الأحكام النقدية في هذا العصر، وأن نقف على سماتها وملامحها.
وأول سمة لهذه الأحكام: هي سمة العموم: ونعنى بها أن يطلق الناقد- في أحيان كثيرة- أحكامه، ويرسل آراءه، دون أن يذكر سبباً، أو يردف علة، وخير مثل لذلك قول الحطيئة- وقد سئل عن أشعر العرب-: أشعر العرب الذي يقول:
يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
ومن يجعل المعروف من دون عرضه
يقصد زهيراً. وسئل: ثم من؟ قال الذي يقول:
وسائل الله لا يخيب
من يسأل الناس يحرموه
ومن ذلك حكمهم على بعض القصائد بأنها بالغة منزلة عليا في الجودة بالموازنة بغيرها، كقولهم في قصيدة سويد [55] بن أبى كاهل اليشكري التي مطلعها:
فوصلنا الحبل منها ما اتسع
بسطت رابعة الحبل لنا
قولهم عنها أنها من خير القصائد، ودعوها اليتيمة [56] .
وكقولهم عن قصيدة حسان اللامية التي مدح بها أبناء (جفنة)، والتي قال فيها:
يوماً بجلق في الزمان الأول
لله در عصابة نادمتهم
قولهم عنها إنها من أحسن ما قيل في المدح، وتسميتهم لها بالبتارة، لأنها بترت المدائح [57] .
وقولهم عن قصيدة علقمة بن عبدة التي يقول فيها:
هل ما علمت وما استودعت مكتوم؟
قولهم عنها: إنها سمط الدهر. فلما أنشد قصيدته التي مطلعها:
بعيد الشباب عصر حان مشيب
طحا بك قلب في الحسان طروب
قالوا: هاتان سمطا الدهر [58] . إلى غير ذلك من الأحكام العامة، التي لا توضح علة، ولا تذكر سبباً.
السمة الثانية: الإيجاز: ونعني بها أن الناقد كثيراً ما يغلف حكمه النقدي بعبارة موجزة، يفهم منها ما يراد، ولكن دون شرح أو تفصيل، وذلك يتضح من نقد طرفة لشعر المتلمس السابق، حينما قال:"استنوق الجمل"فهذه عبارة موجزة تحمل حكماً نقدياً، عيب به شعر المتلمس الذي وصف الجمل بسمة الناقة.
السمة الثالثة: الجزئية: ونقصد بها تناول الناقد لجزئيات من الجوانب الفنية للقصيدة، كجانب الألفاظ أو جانب المعاني، أو جانب الوزن، مثلاً، دون تناوله للقصيدة كلها تناولاً متكاملاً كما يتجه إلى ذلك النقد الحديث. فيتناول الناقد الجاهلي لفظة، أو ألفاظاً، فيصفها- مثلاً- بالسلاسة أو الجزالة، أو يتناول معنى أو معاني وردت في القصيدة، فيسمها بالصحة أو الخطأ، أو بالوضوح أو الغموض، وخير ما يمثل ذلك مما قدمنا من أمثلة: نقد طرفة لشعر المتلمس، فقد استهدف فيه طرفة جانب المعنى، ونظر فيه فوجده خطأ.
ومنه- أيضاً- نقد أهل المدينة لشعر النابغة، فهو نقد استهدف جانب الوزن- أو الشكل الموسيقي- ورأى فيه نشازاً في الوزن، حيث اختلفت حركة الروى في الأبيات، فأحدثت هذا النشاز في الوزن، والتنافر في النغم، مما آذى السمع، وأذهب بشيء غير يسير من روعة الوزن.
وكذلك نقد النابغة لبيت حسان السابق الذكر، كله منصرف إلى ألفاظ وكلمات دون تناول النقد للنص كعمل فني متكامل.
وذلك لأن الشعر عند نقدته من الجاهليين صياغة وفكرة، كان نظماً محكماً أو غير محكم، ومعنى مقبولاً أو غير مقبول، فمعنى المتلمس فاسد، لأنه أسند صفة لغير ما تسند إليه، ومعاني المهلهل التي غالى فيها فاسدة، لأنها فوق المعقول، وشعر الزبرقان يجمع بين الطيب والرديء، أو هو ألفاظ مرصوصة، لا قوة في معانيها، ولا روح تؤلف بينها، وشعر عبدة بن الطبيب قوي الأسر، متين النظم، متماسك متلاحم، فالصياغة والمعاني، هي ما ينتقد في الشعر الجاهلي
…
فإن لم يتعرض الجاهلي في النقد للشعر تعرض للشاعر، فآثره على غيره، أو وازنه بغيره من الشعراء
…
هذان هما الميدانان اللذان جال فيهما النقد حولات خفيفة في العصر الجاهلي: الحكم على الشعر والتنويه بمكانة الشعراء، فأما غير ذلك من البحث في طريقة الشاعر، أو مذهبه الأدبي، أوصلة شعره بالحياة الاجتماعية، فذلك ما لم يعرفه العصر الجاهلي، وغاية نقدهم أن يأخذوا الكلام منقطعاً عن كل مؤثر، بل منقطعاً عن بقية شعر الشاعر، ويتذوقونه وفاقاً لسليقتهم، ثم يفصحون عن رأيهم..) [59] .
السمة الرابعة: التأثرية والذاتية: ونعنى بهما أن الأحكام النقدية كثيراً ما تكون قائمة على إحساس الناقد بأثر الشعر في نفسه، وعلى مقدار وقع الكلام عنده، فالحكم مرتبط بهذا الإِحساس قوة وضعفاً، وإحساس العربي بأثر الشعر إحساس فطري، وتذوقه له طبيعة وجبلة، ومن هنا يكون حكمه- في كثير من الأحايين- قائماً على ذوقه وفطرته، فهما اللذان يهديانه إلى الجيد من فنون القول، وإلى المبر زمن الشعراء. وهذا يعنى أنه ليست لديه مقاييس مقررة، ولا أصول معروفة للحكم على الجيد من الكلام، أو المبر زمن الشعراء، ليس لديه غير طبعه وذوقه، وإلا فعلى أي أساس كانت قريش تقبل من الأشعار ما تقبل، وترد ما ترد؟ وما الخصائص الفنية في قصيدتي علقمة حتى تكونا نفيستين؟ وما الذي كان رائعاً في قصيدة الخنساء حتى فضلت على حسان؟ وماذا حوت قصيدة حسان في أبناء (جفنة) حتى بترت جميع المدائح؟ تلك أحكام لا تقوم على تفسير أو تعليل، ولا تستند على قواعد مقررة، وليس لها من دعامة إلا الذوق العربي المحض [60] .
وبعد: فمهما يكن من شيء فإن هذه اللمحات النقدية الأولية، التي مارسها النقد في العصر الجاهلي، قد لعبت دوراً لا بأس به في تقويم الشعر العربي القديم وهدايته ومعاونته على الوصول إلى الكمال، أو على الأقل إلى أولى درجات الكمال، وأنها أشارت- أيضاً- إلى أن كلاً من الشاعر العربي والناقد العربي الجاهليين، كان يعرف الأسرار الدقيقة لهذا الفن الأدبي، فأهل يثرب (المدينة) يعرفون الإقواء، والنابغة الذبياني يلحظ- في دقة- الفرق بين جموع القلة وجموع الكثرة، وإن كانوا جميعاً يعرفون ذلك ذوقاً وفطرة لا علماً وفناً.
ولاشك في أن هذا التحليل الدقيق، إنما هو لون من ألوان النقد الأدبي الصحيح، الذي يقرب النص الأدبي، إلى الملتقي ويقدمه إليه، وإلى صاحبه نفسه- كذلك- بعد شرحه وتفسيره.
وليس كل ما تقدم هو كل ما قام به النقد الجاهلي، من دور في تقويم الشعر العربي والوصول به إلى درجة عالية من الكمال الفني- بل إن هذا النقد، قد أسهم بلون آخر من ألوانه التي عملت على النهضة بالشعر العربي، هذا اللون هو المفاضلة، أو الموازنة بين الشعراء.
وكان من ثمرة هذا اللون الذي ولد في العصر الجاهلي أن سرى تيار المفاضلة بين الشعراء والموازنة بينهم، وهيمن على نتاج أدباء القرن الرابع، وزخرت المكتبة العربية - بفضله- بروائع الموازنات بين الشعراء، من أمثال:(الموازنة بين أبي تمام والبحتري) للآمدي [61] ، و (الوساطة بين المتنبي وخصومه) للجرجاني [62] بالإضافة إلى كتب (نقد الشعر) لقدامة، و (العمدة) لابن رشيق وغيرها من الكتب التي حوت كثيراً من هذه الموازنات.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
أساس البلاغة.
[2]
دلائل الإعجاز: 196.
[3]
هو قدامة بن جعفر بن قدامة الكاتب البغدادي، كان أدبياً ومؤلفاً، ألف كتباً كثيرة، لم يصلنا منهاج سوى كتابي:(نقد الشعر) و (الخراج) توفي سنة 310 هـ.
[4]
هو أبو على الحسن بن على بن رشيق الأزدي القيرواني، ناقد وأديب وشاعر، ومن مؤلفاته:(قراضة الذهب في نقد أشعار العرب) ، و (الغرائب والشذوذ في اللغة) بالإِضافة إلى كتابه الشهير (العمدة) توفي عام 456 هـ.
[5]
هو زهير بن أبى سلمة- ربيعة- بن رياح المزني، أحد الشعراء الثلاثة المشهورين والمقدمين في الجاهلية، وهم امرؤ القيس وزهير والنابغة. مات قبل الإسلام بزمن طويل.
[6]
هو كعب بن زهير بن أبى سلمى، شاعر مخضرم، كان من أكثر الشعراء هجوا للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء وأسلم، ومدحه بقصيدته الشهيرة (بانت سعاد) توفي سنة 24 هـ.
[7]
الحطيئة: هو جرول بن أوس من بنى قطيعة بن عبسي، يكنى أبا مليكة، وكان راوية كعب بن زهير، وهو جاهلي إسلامي، من فحول الشعراء وفصحائهم، متين الشعر، متصرف في جميع الفنون، ولكنه اشتهر بفن الهجاء، توفي سنة 30 هـ.
[8]
القوافي: الأشعار. شانها من يحوكها: ألحق بها العيب من يتصدى لصنعها ونسجها. ثوى، فوز: مات. جرول: الحطيئة.
[9]
يقوها: يهذبها ويقع معوجها. المتون: جمع متن، وهو القهر، أي تستقيم كما يريد. ما يتمثل: ما يشتهر كالمثل
[10]
لأغاني: 2/ 196.
[11]
يعجمه: يجعله كالأعجمي، غير مفصح ولا مبين. ويعجمه معطوف على يريد.
[12]
البيان والتبيين: 1/ 204 (تحقيق عبد السلام هارون) . والمحكك: الذي فحص وأختبر وعولج.
[13]
هو عدي بن زيد بن مالك بن عدي بن الرقاع، من عاملة: شاعر كبير من أهل دمشق، كان معاصراً لجرير، مهاجياً له، مقدماً عند بنى أمية، مداحاً لهم، خاصاً بالوليد بن عبد الملك، لقبه أبن ثويد في كتاب (الإشتقاق) بشاعر أهل الشام توفي نحو 95هـ
[14]
هو سويد بن كراع العكلي، من بنى الحارث بن عوف: شاعر فارس مقدم، كان في العصر الأموي صاحب الرأي والتقدم توفي نحو 105 هـ.
[15]
هو مروان بن سليمان بن يحيى بن أبى حفصة: شاعر مجيد، عاصر الدولتين: الأموية والعباسية، ظهر نجمه في الأخيرة خاصة عند المهدي والهادي والرشيد، وكان شاعرهم الأول، اشتهر بالمديح طلباً للنوال. توفي سنة 182 هـ.
[16]
السناد- هنا-: العيب في الشعر.
[17]
المنآد: المعوج.
[18]
البيان والتبيين: 2/ 12، 13.
[19]
أصادي: أراجي وأخاتل. النزع: جمع نازع، وهو الغريب.
[20]
أكالئها: أراقبها. التعريس: النزول في وجه السحر.
[21]
الحريد: التام الكامل.
[22]
الخصائص: 1/ 324، 325 (تحقيق: محمد على النجار، ط دار الهدى للطباعة والنشر. بيروت.
[23]
هو زياد بن معاوية من ذبيان من قيس، أحد الثلاثة المقدمين على سائر الشعراء في العصر الجاهلي، توفى سنة 604 م.
[24]
هو حسان بن ثابت بن المنذر الأنصاري، شاعر جاهلي إسلامي، وقد عاش في الجاهلية ستين سنة، وفي الإسلام مثلها، ومات في خلافة معاوية سنة 54 هـ. اشتهر في الجاهلية بمدح ملوك غسان والحيرة، واختص بعد الإِسلام بمدح النبيَ صلى الله عليه وسلم والدفاع عنه.
[25]
الإقواء: اختلاف حركة الروى عما بنيت عليه القصيدة من حركة.
[26]
راح: جاء أو ذهب في الرواح، وهو العشى. المغتدى: المبكر.
[27]
البوارح: جمع بارح. وهو الطير يمر عن يمينك إلى شمالك، وكانوا يتشاءمون به.
[28]
النصيف: كل ما غطئ الرأس.
[29]
المخضب: المصبوغ بالخضاب، وهي الحناء. الرخص: اللين الناعم. البنان: طرف الإِصبع. العنم: شجر بالحجاز. له ثمر مستطيل أحمر، يشبه به البنان المخضب.
[30]
أبو عمرو بن العلاء، هو زبان بن العلاء بن عمار بن عبد الله بن الحسن التميمي المازني، أحد القراء السبعة، كان من الشيوخ العلماء بالرواية واللغة والأدب، ظل طول حياته يجمع أشعار العرب القدماء، ولاسيما أشعار الجاهلية، توفى سنة 45اهـ.
[31]
المرشح: 38 (المطبعة السلفية سنة 1343 هـ) .
[32]
هو أبو عمرو طرفة بن العبد من بكر وائل من ربيعة، ابن أخي المرتس الأصغر، وابن أخت المتلمس، وقد نبغ في الشعر من حداثته، حتى صار يعد من الطبقة الأولى، وهو من أصحاب المعلقات، وتوفى صغير السن سنة 550 م.
[33]
هو جرير بن عبد المسيح- وقيل ابن عبد العزى- الضبعي، ولعله ولد وثنياً فتنصر، وهو خال طرفة بن العبد.
[34]
الناجي: الجمل السريع. المكدم: الصلب.
[35]
الموشح: 76، 77.
[36]
يفره: يحفظه وافراً.
[37]
هو عبيد بن الأبرص بن عوف بن جشم بن عامر بن مالك بن زهير، ينتهي نسبه إلى بنى أسد من مضر، وكان عبيد شاعراً جاهلياً قديماً، من شعراء الطبقة الأولى، قديم الذكر، عظيم الشهرة، توفى سنة 555 م.
[38]
في النقد الأدبي عند العرب: 68 للدكتور: محمد طاهر درويش (دار المعارف) .
[39]
في النقد الأدبي عند العرب: 68 للدكتور: محمد طاهر درويش (دار المعارف) .
[40]
تاريخ النقد الأدبي عند العرب: 12 للأستاذ: طه أحمد إبراهيم (دار الحكمة- بيروت) .
[41]
هو حصين بن بدر بن خلف بن بهدلة بن عوف بن زيد مناة. كان خطيباً وشاعراً، استعمله النبي على صدقات قومه.
[42]
هو ربيع بن مالك بن ربيعة بن قتال بن أنف الناقة، ينتهي نسبه إلى زيد مناة بن تميم، شاعر مشهور، عمر في الجاهلية والإِسلام عمراً طويلاً، ومات في خلافة عمر أو عثمان- رضي الله عنهما وهو شيخ كبير.
[43]
هو عبدة بن الطبيب- يزيد- بن عمرو بن وعلة بن أنس، وينتهي نسبه إلى زيد مناة بن تميم، شاعر مجيد، ليس بالمكثر، وهو مخضرم، أدرك الإِسلام فأسلم.
[44]
هو عمرو بن سنان- الأهتم- بن سمي بن سنان، وينتهي نسبه إلى زيد مناة، كان خطيباً بليغاً وشاعراً.
[45]
تاريخ النقد الأدبي عند العرب: 14.
[46]
الموشح:75.
[47]
هو امرؤ القيس بن حجر بن الحرث بن عمرو بن حجر آكل المرار بن معاوية بن ثور- كندة- يعده الرواة شيخ الشعراء في الجاهلية ويعدونه مبتدعاً لكثير من المعاني التي سطا عليها الشعراء من بعده، توفى نحو سنة 560 م.
[48]
هو علقمة بن عبدة بن النعمان بن ناشرة بن قيس، ينتهي نسبه إلى زيد مناة، شاعر جاهلي مجيد، وكان من صدور الجاهلية وفحولها، توفى سنة 561 م.
[49]
الدرة- هنا-: العدو الشديد. الأفرج: واسع ما بين الرجلين. المنعب: الفرس الجواد يمد عنقه في العدو كالغراب، والذي يسطو برأسه.
[50]
المتحلب: السائل. كأنه لسرعته لا يجري، بل يسيل سيلاناً.
[51]
تاريخ النقد الأدبي عند العرب: 18، 19.
[52]
المرجع نفسه: 19.
[53]
المرجع نفسه:19، 20.
[54]
صفوة التفاسير: 3/ 476 للأستاذ: محمد علي الصابوني (دار القران الكريم- بيروت) .
[55]
هو سويد بن أبى كاهل- غطيف أو شبيب- بن حارثة الذبياني اليشكري، شاعر من مخضرمي الجاهلية والإِسلام، أشهر شعره هذه العينية التي كانت تسمى في الجاهلية (اليتيمة) توفى بعد سنة 60 هـ.
[56]
المفضليات (هامش) : 19 (تحقيق: أحمد محمد شاكر، وعبد السلام هارون- ط ثانية. دار المعارف) .
[57]
تاريخ النقد الأدبي عند العرب: 14.
[58]
المرجع نفسه: 13.
[59]
تاريخ النقد الأدبي عند العرب: 16، 17.
[60]
المرجع نفسه: 18 (مع بعض التصرف)
[61]
هو أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي، كان كاتباً لأبى جعفر هارون بن محمد الضبي، وكان شاعراً أيضاً، وجه عنايته إلى دراسة أشعار المتقدمين ونقدها، ومن تصانيفه:(المؤتلف والمختلف) و (معجم الشعراء) و (الأمالي) توفي سنة 371 هـ.
[62]
هو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني، كان أديباً ممتازاً، له عدة تصانيف، منها كتابه المشهور:(الوساطة بين المتنبي وخصومه) توفي سنة 366 هـ.
صفحة لغة
قل.. وَلَا تَقُل
للشيخ ضياء الدين الصابوني
الموجه التربوي للغة العربية بالجامعة الإسلامية
ولا تقل: سفَلَة
قل: السَّفلة
1
السَّفِلة: بكسر الفاء: السُقّاط من الناس، يقال: هو من السَّفِلة. ولا تقلْ: هو سفِلة لأنها جمع. وفي الأساس: (هو من السَّفِلة) استعير من سفِلَة الدابة: ا. هـ
والعامة تقول: رجل سفِلَة من قوم سفِل.
وبعض العرب يخفف فيقول: فلان من سفلة الناس، فينقل كسرة الفاء إلى السين
جاء في لسان العرب في مادة سفل ما يلي:
"وسَفِلة الناس وسِفْلتهم: أسافلهم وغوغاؤهم.
قال ابن السكيت:"همُ السفِلة الأرذال من الناس ".
وقال الجوهري:"السفِلة: السُفَّاط من الناس"، يعني هو من السفِلَة وسأل رجل الترمذي فقال له:"قالت لي امرأتي يا سفلة! فقلت لها: إن كنتُ سفِلة فأنت طالق"، فقال له:"ما صنعتك؟ "قال:" سمّاك، أعزّك الله "، قال:"سفِلَة، والله ". قال: فظاهر هذه الحكاية أنه يجوز أن يقال للواحد سفِلة. (جزء2 ص 159)
ولا تقل: شِغَاف
قل: شَغَاف
2
الشَّغَاف: بالفتح: غلاف القلب، وهو جلدة دونه كالحجاب، وسويداؤه يقال: شغفه الحبُ: أي بلغ شَغَافه.
وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما: {قد شَغَفَها حباً} وقال:" دخل حبه تحت الشَّغَاف "،
وقيل: غشّى الحب قلبها، وقيل: أصاب شَغافها. وأنشد أبو عبيدة:
في سَوَاد الفؤاد وَسْط الشّغَاف
يعلم الله أن حبَّك منيِ
وقال ابن السكيت:"الشّغاف هو الخِلب، وهي جليدة لاصقة بالقلب "، ومنه قيل:
خلَبه إذا بلغ شَغَاف قلبه.
وقال الشاعر:
كيف أسلو والحب هاج اضطراماً
حبها مالك شَغَاف فؤادي
ولا تقل: نُكاتَ
قل: نِكاتْ
3
نِكات: بالكسر، جمع نُكتة، بضم النون بوزن نُقطة، وجمعها نُكت ونِكات، وقولهم: نُكات: بضم النون لحن. وجاء في مختار الصحاح ما يلي: وقولهم (نُكات) عامية، وفي الصحاح النكتة كالنقطة (جزء 1 ص 269) وفي المعجم الوسيط (جزء1 ص 959) .
ولا تقل: مواضيع
قل: موضوعات
4
يخطئ بعض الكتاب في استعمال جموع لا صحة لها، منها كلمات (مشروع، موضوع، مكتوب) فيجمعها على (مشاريع، مواضيع، مكاتيب) على وزن مفاعيل، جمع تكسير. والصحيح أن تجمع على مفعولات (أي جمع مؤنث سالماً) فتقول:(مشروعات، موضوعات، مكتوبات) .
قال العلامة الصبَّان في حاشيته على شرح الأشموني لألفية ابن مالك في أعقاب باب جمع التكسير، عند قوله:
جمع ما فوق الثلاثة ارتقي
في وبفعالل وشُبهه أنطقا
فائدة (لا يجمع جمع تكسير نحو مضروب (أي ما كان على وزن مفعول) وشذّ (ملاعين) جمع ملعون.
ذكره ابن هشام في شرح (بانت سعاد) :
وإليك ما كتبه ابن هشام في شرحه لبيت:
إلا العتاق النجيبات المراسيل
أمستْ سعاد بأرض ما يبلغها
وإنما تمنع الصفة المبدوءة بالميم من التكسير في مسألتين: إحداهما: أن تكون على وزن مفعول كمضروب، وشذّ نحو (ملاعين ومشائيم) .
والثاني: أن تكون الميم مضمومة (مُختار، مُنقاد) فتجمع جمع مذكر سالماً (مختارون، منقادون)، وقد أشار العلامة الصبّان إلى جموع الكلمات:(مكتوب، مشروع، موضوع، مفهوم، وأمثالها) بأنها تجمع جمع تصحيح لا جمع تكسير. ومثال ذلك يقال في جمع مثل (مضروب ومكتوب) فتجمع على (مضروبون، مكتوبون) .
قال تعالى في سورة الشعراء {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} (جمع مسجون) . وقال أيضاً في نفس السورة: {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} آية 116 (جمع مرجوم) . فنحن نجمعها جمع مؤنث سالماً فنقول: (مكتوبات، مشروعات، موضوعات، مفهومات) . جمع تصحيح لمؤنث
…
والله أعلم.
احذروا الانبهار الغربي
سألت الدكتور جيري مور عن رأيه بالطلبة العرب هناك ودراستهم في أمريكا فقال:
- هناك الكثير من الطلبة العرب وأنا شخصياً أتعامل معهم وهم نوعيات فهناك الطلبة المجدون وهناك عكسهم ممن لا يحترم العلم ولا يهتم بالجهود والأموال التي تصرفها دولته عليه- وللأسف فهناك من ينبهر بالمجتمع الأمريكي انبهاراً كبيراً فيتأثر به رغبة بالتطور والتقدم فيفقد نجاحه ويفشل فشلاً ذريعاً وهنا أرجو من الأخوة الطلبة المبتعثين ملاحظة ذلك والانتباه من الانحراف نحو المجتمع الأمريكي- الذي أنا منه- والذي وللأسف أصبح مجتمعاً سيئاً- لأن الانحلال الأخلاقي وصل إلى درجة مزعجة.
وهناك مشكلة المجتمع الأمريكي نفسه والذي يجهل المجتمعات الخارجية ولا يحسن التعامل معها فتحدث بعض المشاكل
أستاذ جامعي
وَإن مِّن شيءٍ إلَاّ يُسَبِّحُ بِحَمدِهِ
للشيخ يوسف الهمزاني
مدرس بالمعهد الثانوي
يطيب به العيش ما رُدِّدا
نشيد على الدهر لن ينفدا
وتهدى النفوس ترى المقصدا
يفيض به الخير تحيا القلوب
وتلقى العوالم فيه الهدى
حداء تسير به الكائنات
ونبض القلوب فكيف اهتدى
خطا الكون تمضى بإيقاعه
فلم يفتروا ركعاً سجدا
لدى الملأ الغر ذاع النشيد
أفاض البيان وعى واقتدى
وجاوبهم ناطق مفصح
يردده صادحاً منشدا
وأعجم سار به لا يمل
فما أعجب الصوت والموعدا
يزف به الديك بشرى الصباح
على الفضل والنور كم أشهدا
أذان يجلجل في العالمين
وحب الحصيد وقطر الندى
تغني به الطير في أيكه
ولولا الحجاب سمعنا الصدى
وتشدو الجبال على صمتها
لكل قبيل ترى منتدى
وشاركت الكونَ ذراتُه
كما أعجز العين أن تشهدا
ويعجز آذاننا سمعها
يسبحه ما أتى أو غدا
فلا شيء إلا شدا باسمه
وكيف نلقى ولا نحمدا
نشيد المحامد للذاكرين
ولله سوف نعود غدا
من الله جئنا ولم نك شيئاً
من العمر فيه المنى والهدى
وما بين ذلك شوط طويل
ولست بمحص بها ما بدا
ترى أنعم الله لا تنقضي
ورمت العلاج لعز الفدا
ولو حجب الله عنك اليسير
وهل يبلغ الصنع بعض المدى
فلا يتعاظمك ما قد صنعت
من الشكر فضلاً له مُفردا
فلن توفى الله مهما بذلت
ولكن يمن علينا الهدى
ولسنا نمن عليه الصلاح
فأعرف قصدي لكي أرشدا
أليس من الحزم ضبط الأمور
إلى أمد ينقضى حُدِّدا
ولا أتلهى بأني تركت
لكي أستقل وكي اُفردا
أأجهل أن ليس لي أي أمر
ومهما تَخَفَّت فلن تُفقدا
وخلف البوادي توارت غيوب
وهذى العجائب لن تنفدا
فهذى الحياة وهذا الممات
ـر ما يستحيل وما جُددا
وكيف بجسمك تجري المقاديـ
ولا معمل أو خبير بدا
تحاليل قد حيرت دقة
أمورك تقضي ولن تشهدا
وما كنت حتى لتدري بها
أخذنا المنى أفننسى الهدى
هل الروح نعرف ما سرها
وقد رفعت هل ترى اعمدا
وهذى النجوم بأفق السماء
من الذر أعجب مما عدا
ومثل النجوم ترى عالما
وفيها الشموس نأت مرصدا
تناهى بها صغر فانطوت
بأفلاكها أين تلقى المدى
تدور كواكبها دائباتٍ
ينادى به خالقا أوحدا
ففي كل شيء ترى أمره
ويرضى له غيره مقصدا!
فهل ينزل العبد في ملكه
وأطمعه الفضل فاستبعدا
ولكنه اللؤم عز اللئيم
ويدعو الدعاوى فخابت يدا
يهم بما لا تنال يداه
ـغ مهما استطال ومهما عدا
ألا خسىء اللؤم ماذا سيبلـ
وقيل الحساب حَمِدْنا الهدى
إذا ما أتت ساعة الاقتضاء
خداع التمني جزاه الردى
ولا تنقضى حسرات اللئيم
تَحِيَّة وَندَاءٌ
د. محمود عبد المحسن
أستاذ مساعد بكلية الحديث الشريف
مثل النسيم رقيقة ونديه
لأئمة الإِسلام خير تحية
والله نعم الأسوة المرضية
حدث عن السلف الكريم فإنهم
كالشمس في كبد السماء عليه
كانوا هداة مهتدين أعزة
بين الخلائق أمة وسطية
كانوا دعاة فاتحين أئمة
مثل النجوم الطالعات جليه
طلعوا على الدنيا بهدي نبيهم
قولاً وفعلاً بكرة وعشيه
ورثوا النبي عقيدة وشريعة
أنتم مصابيح الأنام بهية
يا أيها السلف الرضى هداية
الناسكون عبادة شرعيه
الأعلمون الأسلمون عقيدة
بدلائل الحق الصريح زهيه
المرشدون الراشدون حقيقة
المرتضون شمائلاً خلقيه
الخالصون المخلصون لدينهم
الطالبون رضى الإِله عطيه
الصادعون بكل حق حسبة
وسيوفهم في الحق جد فتيه
يجْلُون ليل المعضلات بحقهم
نهجا لمحو مساويء البدعيه
تخذوا الكتاب ونور هدى نبيهم
حفظاً ومن شر الغلاة نقيه
حفظوا العقيدة من أباطيل العدى
لعبادتي وعقيدتى القلبيه
فأجبتهم ورضيت نهج سلوكهم
صدقاً وعدلاً مخلصاً للنيه
أنا لا أحيد دقيقة عن نهجهم
بالمنهج السلفى جد حريه
إن السعادة والسلامة والهدى
أكرم بها من سيد البشريه
شهد الرسول بفضلهم ونجاتهم
خير القرون دليل كل مزيه
يا أيها السلف الرضى عقيدة
للنص لا رأي ولا عصبيه
سعد الذي بكم اقتدى مستسلماً
واستسلمت لمدارس عقليه
شقيت شعوب الأرض حين تخاذلت
وتفننوا في جلب كل دنيه
واستوردوا السم الخبيث ضلالة
أمم وربى كالغثاء شقيه
فتخرجت أمم تدين بجهلهم
وتجهموا للسنة النبويه
قد عطلوا القرآن سر ظهورهم
وعبادة الأهواء شر غويه
نبذوا الهدى المهدي واتبعوا الهوى
للطامعين الكافرين شهيه
وتفرقوا شيعاً فصاروا أكلة
بشراذم الحمقى بكل أذيه
ديست كرامتهم وريع حماهمو
حلت بكل المعتدين عتيه
أدب من الله العلي ونقمة
للحق يبغون الحياة أبيه
فعساهمو يوماً تفيء قلوبهم
لهدى الكتاب وسنة مرضيه
يا أمة الإِسلام هل من أوبة
من يعتصم يحيى الحياة هنيه
فهما الصراط المستقيم حقيقة
من يعتصم ينصر على الهمجيه
وهما الحضارة والسيادة عزة
قد أخرجت للناس جد زكيه
صنعاً من الصحراء أكرم أمة
بين العباد عدالة وسويه
سارت كسير الشمس في عليائها
سبل العلى وقيادة البشريه
عودوا إلى الدين الحنيف تعد لكم
أنشودة الأرواح حول الكعبة المشرفة
شعر محمد المجذوب
فيه من الأبحر الأمواج والزبدُ
بحرٌ من الخلق لا يُحصى له عددُ
إذا مضى مدد منه أتى مدد
يطوف بالبيت سيلاً لا نفاد له
فكل شيء به نشوان يرتعد
تسري ضراعته في الأفق لاهبةً
يحيلها الشوق أنوارا فتتقد
تكاد في غمرها الأجساد من لَهَفٍ
هنا القلوب.. فيالله ما تجد!
(يارب..) انشق الأرواح تعزفها
يكفّ جريته الحرّى ولا جلد
والدمع من لذعها هام، فلا خجل
سيقت إلى العرض لا عون ولا سند
تذكرت شأنها يوم الحساب، وقد
ولا ألم بها مال ولا ولد
تود لو أنها في الأرض ما وجدت
سوى النجاة وقد أودى بها الكمد
فاستصرخت: رب نفسي، غير سائلةٍ
تكاد تبصر غير الهول يحتشد
يذكي لواعجها طيفُ الذنوب فما
فتستقر بُعَيْدَ اللوعة الكبد
وتنجلي نفحات العفو عن كثب
من أسرها فغدت روحاً ولا جسد
والنفس في غمرة النجوى قد انطلقت
- سوى المليك الذي قد صاغها- أحد
شفّت فما يتراءى في بصيرتها
تعيا بلمح سناها الأعين الرمدُ
فيا لها جلواتٍ من فيوض هدىً
وافته تبغى رضاه- الواحد الصمد
بها تجلّى على تلك الوفود- وقد
فقه السنة
صَلاةُ التَّراويحِ
للدكتور محمد ضياء الرحمن الأعظمي
أستاذ مساعد بكلية الحديث الشريف
1-
التراويح لغة:
جمع ترويحة: أي ترويحة النفس وهي استراحتها. وفي القاموس: (منها ترويحة شهر رمضان سميت بها لاستراحة بعد كل أربع ركعات- يقال: استروح أي وجد الراحة) انتهى.
ثم غلب اسم التراويح على الصلوات التي تصلى في ليالي رمضان. ويجلس الإمام بعد كل أربع ركعات، ولذا يقال: ويجلس بين كل ترويحتين مقدار ترويحة.
وقد روي الإمام البيهقي في سننه بسنده عن المغيرة بن زياد الموصلي عن عطاء، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي أربع ركعات في الليل ثم يتروح فأطال حتى رحمته فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: أفلا أكون عبداً شكوراً ".
قال البيهقي: تفرد به المغيرة بن زياد وليس بالقوي. انتهى [1] .
ووثقه ابن معين، وصحح الحاكم بعض أحاديثه [2] .
إلا أن الذهبي لم يوافقه على ذلك فقال: المغيرة: صالح الحديث. وتركه ابن حبان.
وقال في الكاشف: وثقه ابن معين وجماعة، وقال أحمد: منكر الحديث [3] . ويرى بعض العلماء أن الاستراحة تكون بعد خمس تسليمات، والأمر فيه وسع، فقد سئل الإمام أحمد عن قوم صلوا في رمضان خمس تراويح لم يتروحوا بينها فقال: لا بأس [4] .
2-
الترغيب في قيام رمضان:
الحديث الأول: حديث أبي هريرة. قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمر بعزيمة، فيقول: من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفِر له ما تقدم من ذنبه". رواه الجماعة.
شرح الحديث: قول أبي هريرة: "من غير أن يأمر فيه بعزيمة"فيه التصريح بعدم وجوب القيام. قال الإمام النووي: معناه لا يأمرهم أمر إيجاب وتحتم بل أمر ندب وترغيب، ثم قال: اجتمعت الأمة على أن قيام رمضان ليس بواجب بل هو مندوب.
ومعنى قوله: "من قام رمضان" أي مصلياً، ويحصل هذا بمطلق ما يصدق عليه القيام وليس من شرطه استغراق جميع أوقات الليل، قال النووي:"إن قيام رمضان يحصل بصلاة التراويح ".
الحديث الثاني: حديث عبد الرحمن بن عوف قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل فرض صيام رمضان، وسننت قيامه فمن صامه وقامه إيماناً واحتساباً خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه"[5] .
إلا أن في إسناده النضر بن شيبان الحداني- بضم المهملة وتشديد الدال- قال الحافظ:"لين الحديث "[6] .
2-
حكم صلاة التراويح بالجماعة:
القول الأول: صلاة التراويح بالجماعة في المسجد أفضل. وبه قال أحمد والشافعي وأبو حنيفة وبعض المالكية، وبالغ الطحاوي من الحنفية فقال:"إن صلاة التراويح بالجماعة واجبة على الكفاية ".
هكذا نقل الشوكاني عن الطحاوي [7] وسبقه الحافظ [8] ، وهو مخالف تماماًَ لما قاله الطحاوي في شرح معاني الآثار، وما نقل عنه الشيخ ابن الهمام في شرح فتح القدير، يقول الطحاوي:"فهؤلاء الذين روينا عنهم ما روينا من هذه الآثار كلهم يفضل صلاته وحده في شهر رمضان على صلاته مع الإمام، وذلك هو الصواب".انتهى [9] .
وقد قارن قبل هذا بين أدلة الفريقين فقال: "ذهب قوم إلى أن القيام مع الإمام في شهر رمضان أفضل منه في المنازل، واحتجوا في ذلك بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قنوت بقية ليلته".
وقال: خالفهم في ذلك آخرون فقالوا: بل صلاته في بيته أفضل من صلاته مع الإمام، وحجتهم في ذلك حديث زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير صلاة المرء في بيته، إلا المكتوبة" وذلك لمّا قام لهم ليلة في رمضان فأرادوا أن يقوم بعد ذلك فقال لهم هذا القول.
ثم وفق بين الروايتين فقال: "يوجب الحديث الأول- (حديث أبي ذر) - إن من قام مع الإمام يكتب له قنوت بقية ليلته، ويوجب حديث زيد بن ثابت أن ما فعل في بيته هو أفضل من ذلك، حتى لا يتضاد هذان الأثران ". انتهى [10]
وقال الشيخ ابن الهمام: "إن الطحاوي روى عن ابن عمر، وعروة، تخلف بعض الصحابة ونقل عن القاسم، وإبراهيم، ونافع، وسالم، وأبي يوسف، إن أمكنه أداؤها في بيته مع مراعاة سنة القراءة وأشباهها فيصليها في بيته إلا أن يكون فقيها كبيراً يقتدى به لقوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" انتهى [11] .
القول الثاني: الأفضل أن يصلي الرجل صلاة التراويح في البيت. وبه قال مالك، وأبو يوسف، وبعض الشافعية، فقد سئل مالك عن قيام الرجل في رمضان فقال:"إن كان يقوى في بيته فهو أحب أليّ وليس كل الناس يقوى على ذلك، فقد كان ابن هرمز ينصرف فيقوم بأهله وكان ربيعة ينصرف، وعدد غير واحد من علمائهم كانوا ينصرفون ولا يقومون مع الناس وأنا أفضل ذلك "[12] .
واستدل هؤلاء بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصلاة، صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة"[13]- من حديث زيد بن ثابت، قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول لما اتخذ حجرة في المسجد من حصير فصلى فيها حتى اجتمع عليه ناس ثم فقدوا صوته ليلة وظنوا أنه قد نام فجعل بعضهم يتنحنح إليهم فقال:"ما زال بكم الذي رأيت من صنيعكم حتى خشيت أن يكتب عليكم، ولو كتب عليكم ما قمتم به، فصلوا في بيوتكم. فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة".
والعجب من الألباني أنه لم يذكر هذا الحديث في كتابه (صلاة التراويح) وهو أقوى دليل للقول الثاني.
فلم يستثن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلوات إلا الفرائض، وصلاة التراويح ليست منها.
وورد هذا الحديث في صلاة رمضان في مسجده صلى الله عليه وسلم فإذا كانت صلاة التراويح في البيت أفضل حتى من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم! فكيف في مسجد غيره؟ !
ولكن بعد عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه صارت صلاة التراويح من شعائر الإسلام، وواظب المسلمون على ذلك، لذا أجمع العلماء على أفضليتها في أدائها في المساجد وذكروا في ذلك الأدلة التالية:
(1)
حديث عائشة: قالت:"إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد فصلى بصلاته ناس، ثم صلى الثانية فكثر الناس. ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسوله الله صلى الله عليه وسلم فلما أصبح قال: "رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم"وذلك في رمضان"متفق عليه.
شرح الحديث: في الحديث دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة التراويح بالجماعة ولم يمنعه من الاستمرار بالجماعة إلا تخوفه أن تكتب على الأمة.
فإن قيل: كيف كان يفرض عليهم وقد أكمل الله الفرائض ورد الخمسين إلى الخمس؟
أجاب البغوي على هذا السؤال قائلاً:"كانت صلاة الليل واجبة على النبي صلى الله عليه وسلم، وأفعاله الشرعية كان الإقتداء به فيها واجباًَ، فكان لا يأمن إن هو واظب على الصلاة بهم أن يلزمهم الإقتداء به فيه، فالزيادة من جهة وجوب الإقتداء به. لا من جهة إنشاء فرض مستأنف على أن الإنسان قد يكلف نفسه ما لم يوجبه الشرع ثم تلحقه اللائمة بتركه كما لو نذر صلاة تلزمه وكما أخبر الله سبحانه وتعالى عن فريق من النصارى أنهم ابتدعوا رهبانية لم يكتبها عليهم، ثم قصروا فيها، فلحقتهم اللائمة، فقال سبحانه وتعالى: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} فأشفق النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فترك العمل"انتهى [14] .
ونقل الحافظ عدة أقوال عن العلماء في شرح قول النبي صلى الله عليه وسلم "خشيت أن يفرض عليكم" ونسب هذا القول الذي مر آنفاً إلى الخطابي، وذكر احتمالا آخر عن الخطابي، وهو: أن الله فرض الصلاة خمسين، ثم حط معظمها بشفاعة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإذا عادت الأمة فيما استوهب لها والتزمت مما استعفى لهم نبيُهم صلى الله عليه وسلم منه لم يستنكر أن يثبت ذلك فرضا عليهم، ثم قال الحافظ: وتلقي هذين الجوابين من الخطابي جماعة من الشراح، كابن الجَوزي، وهو مبني على أن قيام الليل كان واجبا عليه صلى الله عليه وسلم وعلى وجوب الإقتداء بأفعاله وفي كل من الأمرين نزاع، ثم نقل الحافظ أقوال العلماء الآخرين فقال:
1-
قال المحب الطبري:" يحتمل أن يكون الله عز وجل أوحى إليه أنك إن واظبت على هذه الصلاة معهم افترضتها عليهم: فأحب التخفيف عنهم فترك المواظبة".
وقال:"ويحتمل أن يكون ذلك وقع في نفسه كما اتفق في بعض القرب التي داوم عليها فافترضت".
وقيل: خشي أن يظن أحد من الأمة من مداومته عليها الوجوب.
والى هذا نحا القرطبي فقال: قوله (فتفرض عليكم) أي تظنونه فرضا فيجب على من ظن ذلك؛ كما إذا ظن المجتهد حل شئ أو تحريمه فإنه يجب عليه العمل به.
قال:"وقيل: كان حكم النبي صلى الله عليه وسلم إنه إذا واظب على شيء من أعمال البر واقتدى الناس به فيه أنه يفرض عليهم ".
وعلق على هذا الحافظ فقال:"ولا يخفي بعد هذا الأخير، فقد واظب النبي صلى الله عليه وسلم على رواتب الفرائض وتابعه أصحابه ولم تفرض ".
2-
قال ابن بطال:"يحتمل أن يكون هذا القول صدر منه صلى الله عليه وسلم لما كان قيام الليل فرضا عليه دون أمته، فخشي إن خرج إليهم والتزموا معه قيام الليل أن يسوي الله بينه وبينهم في حكمه، لأن الأصل في الشرع المساواة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أمته في العبادة ".
قال:"ويحتمل أن يكون خشي من مواظبتهم عليها أن يضعفوا عنها فيعصى من تركها بترك اتباعه صلى الله عليه وسلم ".
3 – وقال الكرماني:"إن حديث الإسراء يدل على أن المراد بقوله تعالى {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَي} الأمن من نقص شيء من الخمس ولم يتعرض للزيادة ".
4-
وقال البعض:"إن الزمان كان قابلا للنسخ فلا مانع من خشية الافتراض وعلق عليه الحافظ بقوله:"وفيه نظر، لأن قوله تعالى {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَي} خبر، والنسخ لا يدخله على الراجح ".
5-
قال الحافظ: وقد أجاب في فتح الباري بثلاثة أجوبة أخرى:
أحدها: أن يكون المخوف افتراض قيام الليل بمعنى جعل التهجد في المسجد جماعة شرطاً في صحة التنفل بالليل، ويومئ إليه قوله في حديث زيد بن ثابت "حتى خشيت أن يكتب عليكم، ولو كتب عليكم ما قمتم به، فصلوا أيها الناس في بيوتكم" فمنعهم من التجمع في المسجد إشفاقاً عليهم من اشتراطه، وأمن مع إذنه في المواظبة على ذلك في بيوتهم من افتراضه عليهم.
ثانيها: أن يكون المخوف افتراض قيام الليل على الكفاية لا على الأعيان، فلا يكون ذلك زائداً على الخمس،بل هو نظير ما ذهب إليه قوم في العيد ونحوها.
ثالثها: يحتمل أن يكون المخوف افتراض قيام رمضان خاصة. فقد وقع في حديث الباب أن ذلك كان في رمضان. وفي رواية سفيان بن حسين: "خشيت أن يفرض عليكم قيام هذا الشهر" فعلى هذا يرتفع الأشكال، لأن قيام رمضان لا يتكرر كل يوم في السنة فلا يكون ذلك قدراً زائداً على الخمس.
قال الحافظ: وأقوى هذه الأجوبة الثلاثة في نظري: الأول. انتهى.
الحديث الثاني: حديث أبي ذر، قال:"شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم شهر رمضان فلم يقم في شيء من الشهر حتى كانت ليلة سابعة بقيت فقام بنا إلى نحو من ثلث الليل، ثم لم يقم بنا ليلة سادسة بقيت، فلما كانت ليلة خامسة بقيت قام بنا إلى نحو من شطر الليل، فقلنا يا رسول الله لو نفلتنا قيام هذه الليلة؟ فقال: "إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة"، ثم لم يقم بنا ليلة رابعة بقيت، فلما كان ليلة ثالثة بقيت قام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح، قلت: وما الفلاح قال: السحور. قال: فكان يوقظ في تلك الليلة أهله وبناته ونساءه"[15] .
شرح الحديث: قوله "لو نفلتنا "أي لو جعلت بقية الليل زيادة لنا على قيام الشطر، وهو من التنفيل، وفي النهاية: لو زدتنا من الصلاة النافلة، سميت بها النوافل لأنها زائدة على الفرائض، وتقديره: لو زدت قيام الليل على نصفه لكان خيرا لنا، ولو " للتمني "[16] .
وقال الشوكاني: المراد هنا لو قمت بنا طول ليلتنا ونفلتنا من الأجر الذي يحصل من ثواب الصلاة، انتهى.
وفي الحديث دليل على مشروعية الجماعة لصلاة التراويح.
الحديث الثالث: حديث أبي هريرة قال:"خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أناس في رمضان يصلون في ناحية المسجد، فقال:"ما هؤلاء؟ فقيل: هؤلاء ناس ليس معهم قرآن، وأبي بن كعب يصلي، وهم يصلون بصلاته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أصابوا، ونعم ما صنعوا " [17] .
وروى هذا الحديث أيضاً محمد بن نصر المروزي [18] .
والمحفوظ في هذا أن عمر بن الخطاب جمع الناس وراء أبي بن كعب كما جزم الحافظ وغيره [19] .
هذه بعض الأحاديث التي رويت في مشروعية الجماعة في صلاة التراويح.
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" فحمل العلماء على صلاة التهجد كما خصصوا من هذا العموم بعض الصلوات التي شرع فيها الجماعة كالعيدين والكسوف والاستسقاء وكذلك صلاة التراويح، ولذلك لما أمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من افتراض صلاة التراويح أمر بإقامتها في المسجد جماعة، واستمر هذا العمل منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا فصارت صلاة التراويح في شهر رمضان من شعائر الإسلام، إلا أن من ترك التراويح جماعة في المسجد، وأقامها في البيت لا يذم ولا يلام.
3-
عدد ركعات صلاة التراويح:
ففيه ثلاثة أقوال للعلماء:
القول الأول: ركعات التراويح ثمانية – وهو قول المحدثين والمحققين.
القول الثاني: ركعات التراويح عشرون ركعة – وبه قال الأئمة الثلاثة: الشافعي وأبو حنيفة وأحمد.
القول الثالث: ركعات التراويح ست وثلاثون – وبه قال الإمام مالك.
وإليكم بعض الأدلة للقول الأول:
1-
حديث عائشة رضي الله عنها قالت:"ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً لا تسأل عن طولهن وحسنهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن طولهن وحسنهن. ثم يصلي ثلاثاً "[20] .
وقد بوب ابن خزيمة في صحيحه [21] باب ذكر عدد صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل في رمضان فذكر هذا الحديث، كما ذكره إلبيهقي في سننه [22] في باب ما روي في عدد ركعات القيام في شهر رمضان.
ويبدو أن الجميع استمسكوا به لمعرفة عدد ركعات النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان وغيره، كما ذكره الإمام البخاري في صحيحه عقب صلاة التراويح وسوف يأتي ذلك قريبا إن شاء الله.
2-
حديث جابر بن عبد الله قال:"صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان ثماني ركعات وأوتر
…
"رواه أبو يعلى، والطبراني في الصغير، كما قال الهيثمي وفيه: عيسى بن جارية وثقه ابن حبان وغيره، وضعفه ابن معين [23] .
وقال الحافظ في الفتح: [24] رواه ابن خزيمة وابن حبان، وعزاه في التلخيص [25] لابن حبان فقط ولم يتكلم على إسناد الحديث مع وجود عيسى بن جارية في إسناد ابن حبان كما في موارد الظمآن.
وقد ذكر الشيخ الألباني هذا الحديث ونسبه لابن نصر والطبراني وقال:"سنده حسن "[26] . ولم يتكلم على عيسى بن جارية.
والطبراني ذكر هذا الحديث في المعجم الصغير [27] بإسناده عن يعقوب بن عبد الله القمي عن عيسى بن جارية،عن جابر بن عبد الله قال:" صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان ثمان ركعات وأوتر، فلما كانت القابلة اجتمعنا في المسجد ورجونا أن يخرج، فلم نزل حتى أصبحنا ثم دخلنا، فقلنا: يا رسول الله اجتمعنا البارحة في المسجد ورجونا أن تصلي بنا؟ فقال: إني خشيت أن يكتب عليكم ".
قال الطبراني:"لا يروى عن جابر بن عبد الله إلا بهذا الإسناد، تفرد به يعقوب وهو ثقة، ولم يتكلم عن عيسى بن جارية ".
وذكر الذهبي هذا الحديث وقال: إسناده وسط [28] .
أقول: عيسى بن جارية: هو الأنصاري المدني، قال الحافظ:"فيه لين ". وقال الذهبي:"روى عن جرير وجابر، وعنه أبو صخر حميد بن زياد، ويعقوب القمي مختلف فيه "قال ابن معين:"عنده مناكير "[29] . وفي الميزان: قال النسائي:"منكر الحديث "وجاء عنه:"متروك "، وقال أبو زرعة:"لا بأس به "، وأما يعقوب بن عبد الله القمي فهو – بضم القاف – أبو الحسن الأشعري، سبق أن وثقه الطبراني وقال النسائي:" ليس به بأس "، وقال الدارقطني:"ليس بالقوي "[30] . وحكم عليه الذهبي بأنه صدوق [31] .
ويبدو من هذا أن الحديث لا يقل عن درجة الحسن، ولذا سكت عليه الحافظ، وحسنه الألباني، وقال الذهبي:"إسناده وسط ". والمعروف أن الذهبي من أهل الإستقراء.
ثم أخرج الإمامان الجليلان وهما ابن جبان وابن خزيمة في صحيحيهما إضافة إلى ذلك أنه موافق لحديث عائشة.
وبهذين الحديثين أخذ المحققون من علماء أهل الحديث والفقه. فإن أحداً منهم لم يقل بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى أكثر من ثماني ركعات في رمضان أو في غير رمضان، وإنما الخلاف في الطول، والقراءة، والوقت، والجماعة، وغير ذلك.
وأما التراويح، وقيام رمضان، وصلاة الليل، وصلاة التهجد في رمضان: فهي عبارة عن شيء واحد، قال الشيخ عبيد الله المباركفوري:"اعلم أن التراويح وقيام رمضان وصلاة الليل وصلاة التهجد في رمضان عبارة عن شيء واحد، واسم لصلاة واحدة، وليس التهجد في رمضان غير التراويح لأنه لم يثبت من رواية صحيحة ولا ضعيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في ليالي رمضان صلاتين إحداهما التراويح، والأخرى التهجد، فالتهجد في غير رمضان هو التراويح في رمضان كما يدل عليه حديث أبي ذر وغيره، وإليه ذهب صاحب فيض الباري [32] . (الشيخ أنور شاه الكشميري) من الحنفية حيث قال: "المختار عندي أن التراويح، وصلاة الليل واحد، وإن اختلفت صفتاهما كعدم المواظبة على التراويح وأدائها بالجماعة، وأدائها في أول الليل تارة، وإيصالها إلى السحر أخرى بخلاف التهجد فإنه كان في آخر الليل، ولم تكن فيه الجماعة. وجعل اختلاف الصفات دليلاً على اختلاف نوعيها ليس بجيد عندي بل كانت تلك صلاة واحدة، إذا تقدمت سميت باسم التراويح، وإذا تأخرت سميت باسم التهجد.
ولا بدع في تسميتها باسمين عند تغاير الوصفين فإنه لا حجر في التغاير الاسمي إذا اجتمعت عليه الأمة، وإنما يثبت تغاير النوعين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه التهجد مع إقامته بالتراويح [33] . انتهى.
وقد جزم أيضاً الشيخ بدر الدين العيني وهو من كبار العلماء الحنفية أن قول عائشة إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل في العشر الأواخر في رمضان يجتهد ما لا يجتهد في غيره، المقصود منه التطويل في الركعات والسجود والقيام والقعود بدون الزيادة في العدد [34] .
وقد ذكر الشيخ العيني عشرات الروايات عن الصحابة الآخرين لإثبات عدد ركعات النبي صلى الله عليه وسلم وخرج منها بأنه ما كان يزيد عن ثمان ركعات، ويزيد وينقص من ركعات الوتر ما شاء، وذهب الشيخ ابن الهُمام- من محققي الحنفية- إلى أن الثماني ركعات سنة، والبقية مستحبة، وأنكر عليه المشايخ الحنفية القائلون بسنية العشرين [35] .
القول الثاني: ركعات التراويح عشرون ركعة:
استند أصحاب هذا القول بالأثر المروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأنه جمع الناس وراء أبي بن كعب على عشرين ركعة كما استندوا أيضاً بحديث مرفوع إلا أنه ضعيف بالاتفاق، فلذا نرى أن المحققين من أصحاب المذاهب لم يذكروا هذا الحديث المرفوع في الاستدلال لما ذهبوا إليه كالشيخ ابن قدامة وغيره.
ولو كان هذا الحديث صحيحاً لكان حجة قاطعة على أصحاب القول الأول، ولتبادر المحققون إلى ذكره، ومع ذلك فنحن نذكر هذا الحديث ثم نتبعه الآثار المروية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بهذا الخصوص.
الحديث المرفوع: قال الإمام الزيلعي: "روى ابن أبي شيبة في مصنفه [36] ، والطبراني في معجمه [37] ، وعنه البيهقي [38] ، من حديث إبراهيم بن عثمان أبي شيبة عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في رمضان عشرين ركعة والوتر".
قال الحافظ الزيلعي:"وهو معلول بأبي شيبة إبراهيم بن عثمان جد الإمام أبي بكر بن أبي شيبة، وهو متفق على ضعفه ولينه ابن عدى في الكامل ثم أنه مخالف للحديث الصحيح عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سأل عائشة...... فذكر حديثها "[39] . انتهىَ كلام الزيلعي.
وقال الهيثمى:"رواه الطبراني [40] في الكبير والأوسط وفيه: أبو شيبة وهو ضعيف [41] .
وقال الحافظ في التقريب:"أبو شيبة إبراهيم بن عثمان متروك "، وقال الشيخ ابن الهمام:"أبو شيبة إبراهيم بن عثمان ضعيف"[42] .
وقال البيهقي: "تفرد به أبو شيبة إبراهيم بن عثمان العبسي الكوفي وهو ضعيفة"[43] .
فسند هذا الحديث يدور على أبي شيبة لأن كل من خرجه فطريقه ينتهي إليه فلا يغرنك إذا قال أحد إن لهذا الحديث سنداً آخر، فإن الطبراني والبيهقي صرحا بأن أبا شيبة تفرد بهذا الحديث، وذكر الحافظ الذهبي في الميزان وقال:"إنه من مناكير أبي شيبة"، وكذا الحافظ مع علمه الغزير لم يجد لهذا الحديث سنداً آخر، فقد جزم وقال:"وأما ما رواه أبو شيبة من حديث ابن عباس فإسناده ضعيف، وقد عارضه حديث عائشة هذا الذي في الصحيحين مع كونها أعلم بحال النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً من غيرها"[44] .
ومع وجود هذه التصريحات من الأئمة والمحققين؟ ومنهم علماء الحنفية جاء الشيخ يوسف البنوري رحمه الله تعالى الحنفي غاضباً وثائراً على من يقول: إن عدد ركعات التراويح ثمان ورماهم بالسفسطة والعجرفة في القول والبيان والزيغ في المعتقد والبغض مع صلحاء الأمة ثم قال: " ويدفع القول الأول بأنه وإن كان ضعيفاً _أي إبراهيم بن عثمان أبو شيبة _ ولكن يؤيد روايته تعامل الأمة في عهد الفاروق ومن بعده، ويدفع الثاني بالحمل على اختلاف الأحوال كما أشار إليه الحافظ في سياق آخر، وقد يعمل بالضعيف لتقويته بالتعامل وغيره [45] .
وقال بعد ذلك _ ويبدو أنه متعب جداً لعدم نجاحه في محاولاته الكلامية -: "العشرون لا بد أن يكون لها أصل في المرفوع وإن لم يبلغ إلينا بالإسناد القوي "[46] .
وهي قاعدة مخترعة تنم عن العجز من الإتيان بالأدلة المعقولة.
دراسة الآثار المروية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بخصوص عدد ركعات صلاة التراويح:
روى الإمام البخاري في صحيحه [47] عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال:"خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون، يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوله ". انتهى.
هذا الحديث الذي ذكره الإمام البخاري معلقاً وقال: عن ابن شهاب وهو في الحقيقة عطف على ما سبق من الإسناد ورواه مالك في موطئه بإسناده نحوه.
شرح بعض الكلمات: (أوزاع) بسكون الواو، بعدها زاي معجمة، أي جماعة متفرقون، وقوله في الحديث: متفرقون: تأكيد لفظي.
(أمثل) أي أفضل كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه استنبط من تقرير النبي صلى الله عليه وسلم من صلى معه في تلك الليالي، وإن كان كره ذلك لهم، فإنما كرهه خشية أن يفرض عليهم فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم حصل الأمن من ذلك.
(فجمعهم على أبي بن كعب) أي جعله إماماً. قال الحافظ:"كأنه اختاره عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم "يؤمهم أقرؤهم لكتاب الله "، وقد قال عمر:" أقرؤنا أبي ".
(ثم خرجت معه ليلة أخرى) فيه إشارة إلى أن عمر ما كان يصلي مع الجماعة وراء أبي، لأنه يرى أن الصلاة في آخر الليل في البيت أفضل، فإنه قال في آخر الحديث:"والتي تنامون عنها أفضل ".
وقد روى محمد بن نصر من طريق طاوس، عن ابن عباس قال:" كنت عند عمر في المسجد فسمع هيعة الناس فقال: ما هذا؟ قيل: خرجوا من المسجد، وذلك في رمضان فقال: ما بقي من الليل أحب إلي مما مضى ". انتهى.
(الهيعة) قال في النهاية: الصياح والضجة.
(قول عمر: نعم البدعة) وجاء في بعض الروايات: نعمت البدعة. والبدعة أصلها ما أحدث على غبر مثال سابق.
وتطلق في الشرع: في مقابل السنة، وتكون ممنوعة.
قال الحافظ:"والتحقيق في ذلك أنها إن كانت مما تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة، وإن كانت مما تندرج تحت مستقبح في الشرع فهي مستقبحة، وإلا فهي من قسم المباح "[48] .
وقال الحافظ ابن الأثير: البدعة بدعتان، بدعة هوى، وبدعة ضلال، فما كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو في حيز الذم والإنكار، وما كان تحت عموم ما ندب الله إليه، وحض عليه الله ورسوله فهو في حيز المدح وما لم يكن له مثال موجود كنوع من السجود والسخاء وفعل المعروف فهو من الأفعال المحمودة، ولا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما ورد الشرع به لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل له ثواباً فقال:"من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها " وقال في ضده:"ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها " وذلك إذا كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم. ومن هذا النوع قول عمر بن الخطاب:"نعمت البدعة هذه "[49] .
ونرجع إلى الحديث أصل الموضوع فنقول:
إن الإمام البخاري لم يذكر عدد الركعات التي جمع عليها عمر بن الخطاب وفي هذا إشارة إلى أن الآثار التي وردت في ذكر عدد الركعات لم تصح عنده. أو أنه يرى أن عمر لم تتجاوز على ثماني ركعات فذكر عقب قصة عمر حديث عائشة رضي الله عنها التي تقول:"ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد على إحدى عشرة ركعة في رمضان ولا في غيره، يصلي أربعاً فلا تسال عن حسنهن، وطولهن، ثم يصلى أربعاً فلا تسال عن حسنهن، وطولهن، ثم يصلى ثلاثاً ".
لذا وقع الخلاف بين الرواة في ذكر عدد الركعات، وإليكم بعض هذه الآثار:
1-
في موطأ مالك [50] : عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أنه قال:"أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة "قال:"وقد كان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على العصيّ من طول القيام وما كنا ننصرف إلا في بزوغ الفجر ".
وبطريق مالك رواه البيهقي [51] وصرح فيه بأن محمد بن يوسف هو ابن أخت السائب بن يزيد.
ورواه سعيد بن منصور في سننه بوجه آخر عن عبد العزيز بن محمد، عن محمد بن يوسف، عن السائب بن يزيد.
وإسناده صحيح. فإنما محمد بن يوسف الكندي المدني الأعرج ثقة ثبت مات في حدود الأربعين ومائة وهو شيخ مالك واحتج به الشيخان.
والسائب بن يزيد صحابي معروف حج مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو صبي ثم إن هذا الحديث موافق لحديث عائشة رضي الله عنها وحديث جابر بن عبد الله إلا أن الحافظ ابن عبد البر يقول: "روى غير مالك في هذا الحديث (إحدى وعشرون) وهو الصحيح ولا أعلم أحداً قال فيه إحدى عشرة إلا مالكاً، ويحتمل أن يكون ذلك أولاً ثم خفف عنهم طول القيام ونقلهم إلى إحدى وعشرين إلا أن الأغلب عندي أن قوله: إحدى عشرة وهْمٌ ". انتهى.
ورد الزرقاني بقوله: ولا وهم مع أن الجمع بالإحتمال الذي ذكره قريب، وبه جمع البيهقي أيضاً، وقوله إن مالكاً انفرد به ليس كما قال، فقد رواه سعيد بن منصور من وجه آخر عن محمد بن يوسف مثل قول مالك [52] انتهى.
وقال النيموني في آثار السنن:"ما قاله ابن عبد البر من وهم مالك فغلط جداً لأن مالكاً تابعه عبد العزيز بن محمد الدراوردي عند سعيد بن منصور، ويحيى بن سعيد القطان عند أبي بكر بن أبي شيبة في مصنفه، وكلاهما عن محمد بن يوسف وقالا:"إحدى عشرة ".
وهذه الروايات التي رويت عن عمر بن الخطاب في غاية من الصحة، وفيها ذكر لإحدى عشرة ركعة، لأن عبد العزيز بن محمد الدراوردي من الثقات أيضاً أخرج له أصحاب الستة، ويحيى بن سعيد القطان إمام في الحفظ والضبط والإتقان.
وزاد الألباني في رسالة التراويح [53] فقال:" وأيضاً تابع مالكاً إسماعيل بن أمية وأسامة بن زيد ومحمد بن إسحاق عند النيسابوري وإسماعيل بن جعفر المدني عند ابن خزيمة في حديث ابن حجر كلهم قالوا عن محمد بن يوسف به. انتهى.
2-
أخرج عبد الرزاق في مصنفه [54] عن داود بن قيس وغيره، عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أن عمر جمع الناس في رمضان على أبي بن كعب، وعلى تميم الداري على إحدى وعشرين ركعة يقرأون بالمئين وينصرفون عند بزوغ الفجر.
قال الشيخ المباركفوري:"إن عبد الرزاق انفرد برواية إحدى وعشرين ركعة ولم يخرجه أحد غيره فيما أعلم، وعبد الرزاق وإن كان ثقة حافظاً فقد عمي في آخر عمره فتغير كما صرح به الحافظ في التقريب، وأما الإمام مالك فبقي إماماً لدار الهجرة "[55] .
والمعروف أن الحكم في المختلطين أنه يقبل حديث من أخذ عنهم قبل الاختلاط ولا يؤخذ حديث من أخذ عنهم بعد الاختلاط أو أشكل أمره فلم يدر هل أخذ عنهم قبل الاختلاط أو بعده، فمسألة عبد الرزاق هي من القسم الثالث وخاصة إذا خالف الثقات.
ثم هذه الرواية مخالفة للحنفية فإنه يستلزم أن يقولوا بأن التراويح ثماني عشرة ركعة، أو أن الوتر ركعة واحدة.
وأما داود بن قيس فهو الصنعاني ذكره ابن حبان في الثقات وقال عنه الحافظ:"مقبول ".
2-
وأخرج محمد بن نصر المروزي [56] ، عن السائب بن يزيد بدون الإسناد وفيه ذكر لعشرين ركعة ومثله عند البيهقي [57] بطريق أبي عبد الله الحسين بن محمد بن فنجويه الدنيوري، ثنا أحمد بن محمد بن إسحاق السني، أنبأنا عبد الله محمد بن عبد العزيز البغوي، ثنا علي بن الجعد، أنبأنا ابن أبى ذئب، عن يزيد بن خصيفة، عن السائب بن يزيد..
قال صاحب مرقاة المفاتيح:"أما رواية يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد فهي عند البيهقي بوجهين في أحدهما أبو عثمان عمرو بن عبد الله البصري، وفي الآخر أبو عبد الله الحسين بن فنجويه، ولم أقف على ترجمتهما ولم يعرف حالهما ". انتهى [58] .
أقول: أما وجه أبى عثمان عمرو بن عبد الله البصري فلم أجده في السنن الكبرى وأما قوله في أبى عبد الله الحسين بأنه لم يقف على ترجمته فهو صحيح، فإني بعد البحث لم أقف على أكثر ما ذكره الحافظ الذهبي في ترجمة (تمام بن أبى الحسين) اسمه فقط بدون أن يقول عنه شيئاً [59] .
وقال الحافظ [60] :" روى مالك من طريق يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد عشرين ركعة، وتبعه الشوكاني [61] فقال: رواه مالك في الموطأ والظاهر أنهما قد سهوا في ذلك فإن مالكاً لم يرو رواية يزيد بن خصيفة هذه في الموطأ ".
وقد ذكر النووي حديث يزيد بن خصيفة وعزاه إلى البيهقي وغيره ولم يعزه إلى مالك [62] وهذا لا يمنع أن يروى مالك هذه الرواية في غير الموطأ، بالإضافة إلى ذلك فقد قال الإمام أحمد عن يزيد بن خصيفة: منكر الحديث مع توثيقه له في رواية الأثرم عنه [63] .
ومعنى هذا أن يزيد بن خصيفة انفرد برواية هذا الأثر وهو مخالف لما رواه زملاؤه الآخرون فيكون الضعف في روايته من أجل مخالفته فقد قال الحافظ في مقدمة الفتح [64] في ترجمته: هذه اللفظة يطلقها أحمد على من يغرب من أقرانه بالحديث، عرف ذلك بالاستقراء من حاله، وقد احتج بابن خصيفة مالك والأئمة كلهم. انتهى.
فرواية يزيد بن خصيفة غريبة وشاذة مع صحته كما زعم به النووي [65] . لأنها تخالف روايات الثقات لأن ابن خصيفة ومحمد بن يوسف كلاهما ثقتان يرويان عن السائب بن يزيد، فالأول يقول في روايته (إحدى وعشرون) والثاني (إحدى عشرة ركعة) ، فيرجح القول الثاني لأنه أوثق من صاحبه، لذا اقتصر الحافظ في وصف يزيد بن خصيفة في التقريب بقوله:"ثقة "بينما قال في وصف محمد بن يوسف "ثقة ثبت "وأيضاً محمد بن يوسف هو ابن أخت السائب بن يزيد فلأجل قرابته للسائب يكون أعرف الناس في حديث السائب من غيره.
هذه هي خلاصة الخلاف بين يزيد بن خصيفة ومحمد بن يوسف، وقد حمل بعض علماء الحنفية على علماء أهل الحديث فنسبوا إليهم القول بتضعيف يزيد بن خصيفة معتمدين على قول أحمد فرموهم بالجهل والتعصب، والحق أن علماء أهل الحديث لم يضعفوا يزيد بن خصيفة بل رجحوا رواية محمد بن يوسف على روايته للأسباب التي مر ذكرها.
فلم ينجح في محاولة من أراد تقديم حديث يزيد بن خصيفة أو تصحيحه كما يظهر هذا جلياً من قول الشيخ اللكنوي في (الرفع والتكميل) ومنه الدكتور نور الدين عتر في (منهج النقد في علم الحديث) في باب (منكر الحديث) والله الهادي إلى سواء السبيل.
4-
روى مالك في الموطأ [66] عن يزيد بن رومان أنه قال:"كان الناس يقومون في زمان عمر بن الخطاب بثلاث وعشرين ركعة "إلا أن فيه انقطاعا، فإن يزيد بن رومان لم يدرك عمر بن الخطاب فإنه توفي سنة ثلاثين ومائة فلم يلق إلا صغار الصحابة كابن الزبير وأنس وعبيد الله وسالم ابني عبد الله بن عمر، ولم يذكر الحافظ في (التهذيب) ، ولا السيوطي في (إسعاف المبطأ برجال الموطأ) أنه التقى بعمر بن الخطاب.
وقد نص الزيلعي [67] بأنه لم يدرك عمر بن الخطاب وقال العيني [68] :" سنده منقطع ".
5 -
روى ابن أبي شيبة عن وكيع، عن مالك، عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب أمر رجلاً يصلي بهم عشرين ركعة [69]، ويحيى بن سعيد لم يدرك عمر بن الخطاب فقد قال ابن المديني:"لا أعلمه سمع من صحابي غير أنس "[70] .
6-
وروى ابن أبي شيبة أيضاً عن عبد العزيز بن رفيع قال:"كان أبي بن كعب يصلي بالناس في رمضان بالمدينة عشرين ركعة ويوتر بثلاث "[71] .
وعبد العزيز بن رفيع لم يدرك أبي بن كعب، فإنه توفي سنة (19 هـ) ، أو سنة (33 هـ) ، وعبد العزيز توفي سنة مائة وثلاثين على أنه لم يذكر أي واحد في ترجمته أنه روى عن أبي بن كعب، إنما يروى عن صغار الصحابة وكبار التابعين [72] .
7-
وروى محمد بن نصر المروزي في قيام الليل قال:"قال الأعمش: كان ابن مسعود يصلي عشرين ركعة ويوتر بثلاث، إلا أن الأعمش لم يدرك ابن مسعود ".
8-
وروى البيهقي [73] عن أبو الحسناء أن علي بن أبى طالب أمر رجلاً أن يصلى بالناس خمس ترويحات، عشرين ركعة. قال البيهقى:"وفي هذا الإسناد ضعف ". انتهى.
أقول: لأن فيه أبا الحسناء وهو مجهول كما قال الحافظ في التقريب [74] .
9-
وروى البيهقي من وجه آخر من طريق حماد بن شعيب، عن عطاء بن السائب، عن أبى عبد الرحمن السلمي، عن علي قال:"دعا القراء في رمضان فأمر منهم رجلاً يصلي بالناس عشرين ركعة وكان يوتر بهم "، وفيه حماد بن شعيب ضعيف، ضعفه ابن معين وغيره [75]، وقال البخاري:"فيه نظر"[76] .
وقد ذكرت آثار غير هذه ولكن يظهر من دراستها أنها لا تخلو من ضعف، فإن الآثار الصحيحة عن عمر بن الخطاب تدل على أنه أمر أبي بن كعب أن يصلي بالناس ثمان ركعات وهي موافقة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وأما ما زاد على هذه فهي كلها ضعيفة، أو مقطوعة غير صحيحة.
1.
- وروى أبو داود في سننه عن الحسن أن عمر بن الخطاب جمع الناس على أبي بن كعب، فكان يصلى لهم عشرين ليلة، ولا يقنت بهم إلا في النصف الباقي، فإذا كانت العشر الأواخر تخلف فصلى في بيته، فكانوا يقولون: ابق أبى [77] ، وبطريقه رواه البيهقي [78] ، وكذا ذكره الزيلعي [79] عن أبي داود، بأن أبياً صلى بهم عشرين ليلة.
ثم تعمد بعض من لا أمانة له ولا ديانة، فأثبت في حاشية بعض نسخ أبي داود المطبوعة في الديار الهندية بأنه توجد في نسخ أخرى: عشرين ركعة بدلاً من عشرين ليلة، وظهر ذلك أول مرة في حاشية الشيخ محمود الحسن على سنن أبي داود وهو إمام الحنفيين في جامعة دار العلوم بديوبند، ثم جاءت خطوة أخرى فأثبتوا في المتن (عشرين ركعة) وقالوا في الحاشية "وفي نسخة عشرين ليلة"وذلك في شرح فخر الحسن على سنن أبي داود.
وأمامي الآن نسخة بذل المجهود المطبوعة في لبنان على طبع الهندية، وفي هامشها "في نسخة بدله ركعة "، كذا في نسخة مقروءة على الشيخ مولانا محمد إسحاق رحمه الله تعالى [80] .
ثم هذا السند الذي ساقه أبو داود فيه انقطاع لأن الحسن البصري لم يدرك عمر بن الخطاب فإنه ولد في سنة إحدى وعشرين، ومات عمر في أواخر سنة ثلاث وعشرين أو في أوائل المحرم سنة أربع وعشرين.
11-
وعند مالك رواية أخرى عن داود بن الحصين أنه سمع لأعرج يقول:"ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان قال: وكان القارئ يقرأ سورة البقرة في ثمان ركعات، فإذا قام بها في اثنتي عشرة ركعة رأى الناس أنه قد خفف ".
قال ابن عبد البر:"أدرك الأعرج جماعة من الصحابة وكبار التابعين ".
وأما داود بن الحصين فهو أبو سليمان المدني الأموي مولاهم، وثقه ابن معين، وضعفه أبو حاتم وقال:"لولا أن مالكاً روى عنه لترك حديثه "[81] .
قال الحافظ بعد ذكر هذه الروايات وغيرها:"قال ابن إسحاق: وهذا أثبت ما سمعت في ذلك (يعني به رواية محمد بن يوسف، عن جده السائب بن يزيد قال: كنا نصلي زمن عمر في رمضان ثلاث عشرة) وهو موافق لحديث عائشة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من الليل"[82] .
وهذا الذي نرجحه لأنه يوافق فعل النبي صلى الله عليه وسلم. والمسألة فيها خيار، كما قال الإمام الشافعي:"رأيت الناس يقومون بالمدينة بتسع وثلاثين، وبمكة بثلاث وعشرين وليس في شيء من ذلك ضيق "، وعنه قال: إن أطالوا القيام وأقلوا السجود فحسن، وإن أكثروا السجود وأخفوا القراءة فحسن، والأول أحب إليّ ".
القول الثالث: وهو قول الإمام مالك بأن صلاة التراويح ست وثلاثون ركعة.
وجد أهل المدينة على ذلك: وقيل: ثمان وثلاثون، فقد روى محمد بن نصر المروزي، عن ابن أيمن، عن مالك هكذا، وقال مالك:"وعلى هذا العمل منذ بضع ومائة سنة "، ثم يقول مالك:"وليس في شيء من ذلك ضيق ".
فكان يرى أن الأمر موكول إلى المصلي فهو يختار العدد المناسب حسب نشاطه، وقد قال الترمذي في سننه:"أكثر ما قيل أنها تصلى إحدى وأربعين ركعة "- يعني بالوتر-.
ولكن نقل ابن عبد البر: عن الأسود بن يزيد:"تصلى أربعين ويوتر بسبع ".
وسبب اختيار أهل المدينة ستاً وثلاثين ركعة أن أهل مكة كانوا يطوفون بين كل ترويحتين طوافاً ويصلون ركعتين، ولا يطوفون بعد الترويحة الخامسة، فأراد أهل المدينة مساواتهم فجعلوا مكان كل طواف أربع ركعات فزادوا ست عشرة ركعة فصار المجموع ستاً وثلاثين ركعة. ذكره النووي [83] وغيره. والحمد لله رب العالمين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
البيهقي: 2/497.
[2]
انظر المستدرك: 2/41.
[3]
الكاشف: 3/.167.
[4]
المغني: 2/.141
[5]
رواه أحمد (1/191-195) . والنسائي (4/158) . وابن ماجة (1/421) .
[6]
التقريب (2/ 311
[7]
انظر: نيل الأوطار: 2/6.
[8]
انظر: فتح الباري: 4/252.
[9]
انظر: شرح معاني الآثار: 1/351.
[10]
انظر: شرح معاني الآثار: 1/349.
[11]
انظر: شرح فتح القدير: 1/334.
[12]
انظر المدونة: 1/222.
[13]
متفق عليه.
[14]
شرح السنة: 4/118
[15]
رواه أصحاب السنن: الترمذي (2/16.) ، وأبو داود (2/1.5) ، والنسائي (3/83) ، وابن ماجة (1/42.) ، كلهم بطرق عن داود بن أبي هند، عن الوليد بن عبد الرحمن الجرشي، عن جبير بن نفير، عن أبي ذر.
قال الترمذي: حسن صحيح.
ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره.
[16]
انظر: تحفة الأحوذي: 2/521.
[17]
رواه أبو داود (2/ 1.6)،وقال: ليس هذا الحديث بالقوي، مسلم بن خالد ضعيف. انتهى.
قال الذهبي في الكاشف (3/14.) وثّق، وضعفه أبو داود لكثرة غلطه.
وقال الحافظ في التقريب: فقيه صدوق كثير الأوهام.
[18]
انظر: قيام الليل: (ص 155) ، بطريق خالد بن مسلم ولم يقل فيه شيئا. .
[19]
انظر: فتح الباري: 4/252.
[20]
متفق عليه:ففي البخاري مع الفتح (3/33) ،وفي مسلم (1/5.9) من طبعة فؤاد عبد الباقي.
[21]
صحيح ابن خزيمة: (3/ 341 (
[22]
السنن الكبرى للبيهقي: (3/495 (
[23]
انظر: مجمع الزوائد: 3/172.
[24]
فتح الباري: 3/12.
[25]
التلخيص: 3/21.
[26]
انظر: صلاة التراويح ص 21.
[27]
المعجم الصغير: 1/19. .
[28]
انظر: ميزان الاعتدال: 3/311.
[29]
انظر: الكاشف: 2/366.
[30]
انظر الخلاصة للخزرجي: 3/182.
[31]
انظر الكاشف 3/292.
[32]
انظر: 2/42. من فيض الباري.
[33]
انظر: مرقاة المفاتيح 2/224-225.
[34]
انظر عمدة القارئ 7/2.4.
[35]
انظر شرح فتح القدير 1/334.
[36]
صنف ابن أبي شيبة 2/394.
[37]
الكبير 11/393.
[38]
البيهقي 2/496.
[39]
انظر: نصب الراية 2/153.
[40]
انظر المعجم الكبير 11/393.
[41]
انظر مجمع الزوائد: 3/172.
[42]
انظر شرح فتح القدير: 1/333.
[43]
انظر سنن البيهقي 2/496.
[44]
انظر فتح الباري 4/254.
[45]
انظر معارف السنن 5/547.
[46]
المصدر السابق 5/55.
[47]
انظر فتح الباري 4/25.
[48]
انظر فتح الباري 4/253.
[49]
انظر النهاية في غريب الحديث: 1 / 1. 6.
[50]
الموطأ مع شرحه التنوير 1/1. 5
[51]
السنن الكبرى 2/496
[52]
شرح الموطأ للزرقاني 1/354
[53]
صلاة التراويح: ص 53.
[54]
المصنف: 4/26. .
[55]
انظر تحفة الأحوذي: 3/527.
[56]
انظر: قيام الليل: ص 157.
[57]
السن الكبرى: 3/496.
[58]
2 / 333.
[59]
انظر: تذكرة الحفاظ: 3 / 1.57.
[60]
انظر. فتح الباري: 4/253.
[61]
انظر، نيل الأوطار:3 / 63.
[62]
انظر: شرح المهذب: 3 / 527.
[63]
انظر: ميزان الاعتدال: 4/43..
[64]
ص 453.
[65]
شرح المهذب 3/527.
[66]
الموطأ: 1/1.5 مع التنوير
[67]
نصب الراية: 2/154
[68]
انظر عمدة القارئ: 11/126
[69]
المصنف: 2/393
[70]
تهذيب التهذيب: 11/223
[71]
المصنف: 2/393.
[72]
راجع ترجمتهما في تهذيب التهذيب. وتهذيب الكمال.
[73]
السنن الكبرى: 2/497.
[74]
التقريب: 2/412
[75]
انظر الجرح والتعديل: 1/2/142.
[76]
التاريخ الكبير: 2/1/25.
[77]
أبو داود: 2/136باب القنوت في الوتر.
[78]
السنن الكبرى: 2/498.
[79]
أنظر نصب الراية: 2/126.
[80]
انظر بذل المجهود في حل أبي داود: 7/252.
[81]
انظر الجرح والتعديل: 1/2/4.9.
[82]
انظر فتح الباري: 4/254.
[83]
انظر: شرح المهذب: 3/527.
في المشارق والمغارب
للشيخ عبد الله بن أحمد قادري
(الحلقة الخامسة)
إلى سورابايا:
ودعنا الأخوة بعد زيارة معهد المسلمين متجهين إلى مدينة سورابايا التي تبعد عن معهد كونتور مائتي كيلومتر وكانت طريقنا- كالعادة- في وسط الغابات والمزارع والقرى منتشرة بين المدن وكأننا نسير في مدينة واحدة لكثرتها وكان الشارع مزدحماً بالسيارات على اختلاف أشكالها كأننا في شارع داخل مدينة والفلاحون يعملون. هذا يحرث وهذا يحصد وهذا يغرس وهذا يزرع وهذا يحمل.
والفواكه على جانبي الطريق لا تلتفت يمنة ويسرة إلا وترى أشجاراً موقرة بأنواع منها المعروف ومنها غيره والأنهار الجارية منها الكبير ومنها الصغير. وكنا مع كثرة التعب تارة نتمتع بتلك المناظر الطيبة وتارة نتمتع بالنوم. وقد استغرقت هذه الرحلة ساعتين وخمسة عشرة دقيقة وكان وصولنا في الساعة الثانية عشرة إلا ربعاً. ونزلنا في فندق (....) وكان بقية يومنا هذا يوم راحة لحاجتنا إليها.
لا بأس بتبادل المنافع:
12 /9/1400هـ.
في الساعة التاسعة صباحاً تجولنا في أسواق سورابايا، ثم انقسمنا إلى قسمين:
قسم فشل في الرجوع إلى الفندق هو أنا والشيخ عبد القوي. وقسم فضل زيارة حديقة الحيوان، وهو الأخ عبد الله بن سعيد باهرمز والابن عبد البر، وجاءنا عبد الله بالنكتة التالية قال: كان عبد البر يتفرج على القرود وكانت القرود تتفرج على عبد البر قلت كيف كانت الثانية؟
قال كانت ملابس الناس كلهم عادية عند القرود أما لباس عبد البر: الثوب الطويل والطاقية والغترة فكانت غريبة ولذلك كانت القرود لا تلتفت إلى الناس بل صوبت أبصارها إلى عبد البر. قلت: لا بأس بتبادل المنافع.
خواطر ومقترحات:
في هذا اليوم والذي قبله جالت بذهني بعض الخواطر والمقترحات أسجلها فيما يلي:
1-
ينبغي أن تقوم بعض المؤسسات الإسلامية كالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة بتأليف كتب في تعليم اللغة العربية لغير العرب وتَسجيلها في أشرطة (كاسيت) أو اسطوانات أو أشرطة فيديو. وإهدائها للمؤسسات الإسلامية المهتمة بتعليم اللغة العربية.
2-
القيام ببرنامج مستمر لتعليم اللغة العربية في إذاعة تخصصها المملكة العربية السعودية يستفيد منها العالم الإسلامي في كل مكان، وكذلك في التليفزيون وتهدى أفلامه إلى تلك المؤسسات الإسلامية.
3-
إهداء كتب إسلامية باللغة العربية وغيرها للجامعات الإسلامية والمعاهد والمدارس الإسلامية.
4-
تسجيل أناشيد إسلامية تتضمن شرح مبادئ الإسلام أو تثير الحماس في نفوس أبناء المسلمين، وشراء الكتب والدواوين التي تشتمل على أمثال تلك الأناشيد أو طبعها وتوزيعها كذلك على المؤسسات الإِسلامية لتكون مادة حفظ النصوص الشعرية لأن الشباب يرغب في ذلك وفيه صرف له عن سماع ما لا يليق كالموسيقي والأغاني التي وجدنا الشعب الإندونيسي مغرماً بها وعن طريقها يستميل أعداء الإِسلام الشباب لإِغوائه.
5-
توزيع المصاحف المسجلة للمؤسسات الإِسلامية والمساجد.
6-
بناء قاعات محاضرات عامة ملحقاً بها مرافق نشاطات مختلفة ومساجد ومدارس ووقفها على المسلمين للاستفادة منها. وقطع الطريق على النصارى الذين يغرون الشباب بأمثالها من مرافق النشاط عندهم.
7-
فتح مراكز لتعليم اللغة العربية في المدن الكبرى على غرار المركز العربي السعودي لتعليم اللغة العربية في جاكرتا التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإِسلامية.
8-
تخصيص مدرسين لبعض الجامعات الإسلامية حكومية كانت أو أهلية باسم مدرس اللغة العربية ممن يكونون مؤهلين في اللغة العربية والمواد الإسلامية للنهوض بتلك الجامعات والمعاهد في هذا المجال.
9-
إقامة دورات تدريبية لمدرسي اللغة العربية والدراسات الإسلامية في بلدانهم.
10-
استضافة بعض المدرسين من الجامعات الإسلامية والمعاهد ولا سيما مدرسي اللغة العربية والمواد الإِسلامية للإحتكاك بمدرسي الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة ومثيلاتها والوقوف على مواد الكليات والمعاهد هنا وحضور الدروس في الفصول وإقامة ندوات خاصة بهم للإستفادة منها.
11-
بعث أعداد كبيرة من المصحف الكريم لتوزيعه على القراء أو طبع تلك الإعداد في البلد الذي يراد توزيعه على أهله لأنه أقل تكلفة وأضمن توزيعاً.
12-
البحث عن الكتب المترجمة إلى اللغات المحلية من الكتب الإِسلامية النافعة وطبعها في داخل البلد وتوزيعه.
13-
الإستعانة ببعض طلبة الجامعات في ترجمة بعض الكتب العربية إلى لغاتهم لطبعها وتوزيعها.
14-
منح بعض المؤسسات الإِسلامية حافلات لنقل طلابها إلى المدارس والمعاهد والجامعات وفي الرحلات
…
15-
بناء مساكن وفصول دراسية للمعاهد الإِسلامية لإيواء الطلاب ودراستهم.
16-
توزيع فتاوى ابن تيميه على الجامعات والمكتبات.
في مسجد الفلاح:
في الساعة الخامسة جاءنا الأستاذ مصري واصطحبنا إلى مسجد الفلاح واستقبلنا مدير المسجد الشيخ عبد الكريم فتناولنا الإفطار وصلينا المغرب ثم ذهبنا إلى منزل الحاج عبد الكريم لتناول طعام العشاء، وقد أخبرنا بعض العلماء هناك إن منزل الحاج عبد الكريم يعتبر مأوى للعلماء والزوار لسورابايا من داخل إندونيسيا وخارجها وكان الرجل من كبار تجار إندونيسيا وعضواً في مجلس الشعب وهو الآن مرتاح لأنه كبير وقد أصيب بكسور في حادث في المملكة العربية السعودية في إحدى حجاته.
وأخبرنا أن ابن أخيه طبيب وهو الآن في سجن جاكرتا- ويرقد في المستشفى- وكان سبب سجنه غيرته على دينه وعدم صبره على انتهاك حرمات هذا الدين.
وبعد أن تناولنا طعام العشاء ذهبنا إلى المسجد فصلى بنا إمام المسجد العشاء وصلى بنا الشيخ عبد القوي التراويح. ثم طلب مني أن ألقي محاضرة فكان عنوانها: كيف ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه (وكان المقصود بها الشباب) .
1-
رباهم على العبودية الكاملة لله ومحبة الله ورسوله وطاعتهما المطلقة.
2-
التضحية بالنفس والمال في سبيل الله، وضربت لذلك أمثلة:
أ- مصعب بن عمير مدرساً وحاملاً لراية الجهاد وشهيداً.
ب- أسامة قائد الجيش فيه أبو بكر وعمر.
ج- ابنا عفراء اللذان قتلا أبا جهل.
د- الفدائيون الذين قتلوا رؤس الكفر ابن أبى الحقيق، وعبد الله بن عتيك وكعب بن الأشرف.
هـ- محمد بن القاسم فاتح السند.
ثم ذكرت الشباب (وأغلب المصلين وهم يملؤون المسجد شباباً) بواجبهم في تحمل المسئولية والإقتداء بهؤلاء الفتية في رفع كلمة الله، وأنه لا يجوز أن يقتدي بالشباب الفاسد الذي رباه الغرب على عداوة الله ورسوله وأصحابه ودين الإسلام الذين يستحون أن يذكر الإِسلام عندهم وأن المسلم عكس ذلك يفتخر أن يكون مسلما كما قال تعالى:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} .
وكان من بين الحاضرين معنا في منزل الحاج عبد الكريم وفي المسجد الحاج باى عارفين وهو من العلماء المشهورين في إندونيسيا ذو حماس وغيرة على الإِسلام وذو تأثير في نفوس الشباب كما حكى لنا غير واحد وله ما يزيد على ثلاثين مؤلفاً إسلامياً في موضوعات مختلفة تهتم بتوعية الشباب وتثقيفهم، وقد أهدى لنا بعض تلك المؤلفات ومنها ترجمة كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب.
وطلب منا الحاج عبد الكريم أن نتناول طعام السحور في منزله أيضاً وأن ألقى محاضرة بعد صلاة الفجر في نفس المسجد فلبينا طلبه.
مفهوم العبادة في الإسلام
13/9/1400هـ
تناولنا الطعام السحور في منزل الشيخ عبد الكريم وصلينا الفجر في مسجد الفلاح صلى بنا الشيخ عبد القوي ثم طلب أن يقرأ على المنبر بعد صلاة الفجر، ثم ألقيت محاضرة تتضمن مفهوم العبادة الشامل الذي جاء به القرآن والسنة وفهمه الصحابة والسلف الصالح بعدهم وأنه يترتب على هذا المفهوم الإستكثار من الطاعة وعظيم ثواب الله وأن هذا المفهوم الشامل قد ضاق عند كثير من الناس فترتب عليه أن حرموا أنفسهم من الإستكثار من طاعة الله ومن عظيم الثواب.
وماذا أفعل إذا كان البحر نزل؟.
كنت في كل مدينة يقع البحر بجوارها- أوهي تقع على شاطئه- أحاول ألا أغادر تلك المدينة إلا بعد الخروج إلى البحر لأرسم لها وله صورة في ذهني فاتفقنا على أن نذهب إلى شاطئ البحر في الساعة الثالثة والنصف وكان هذا الوقت وقت خروج الفترة الثانية من طلبة المدارس لأن كثرة الإندونيسيين تضطرهم لذلك: فوج يدرس في الصباح وآخر في المساء فكانت الشوارع مزدحمة ازدحاماً جعل سيارتنا كأنها غاصت في رمال خبت البقر (وهي صحراء ذات رمال مثل الجبال في جنوب المملكة العربية السعودية الغربي مشهورة من قديم الزمان بالخطر على المسافرين مشاة وركاباً لقلة مياهها وسكانها وطول مسافتها نسبياً حتى قال أحد المسافرين بعد أن نجا من الموت لشدة العطش والجوع: إذا أعدتك- أي إذا عدت إليك- يا خبت البقر سمنى الثور) . كانت السيارات كثيرة والدراجات العادية والنارية والعربات التي تجرها الخيول وعندما وصلنا إلى البوابة التي يدخل الناس منها إلى الشاطئ استقبلتنا فتاة قبض الضرائب فأخذت مالها، فلم نجد إلا سبخة جافة لا يرى ماء البحر على مدى البصر، فقلت لعبد الله باهرمز: أهكذا تتعبنا في هذا الزحام وتدفع ضريبة ثم نأتي فلا نجد البحر؟ قال: وماذا أفعل إذا كان البحر نزل- فرجعنا نتذكر المثل: أحشفاً وسوء كيله. وكان عبد القوي يضحك مرتاحاً، لأني أنا السبب في هذا السفر الطويل إلى بحر لم نجده.
زيارة مسجد المجاهدين:
أسس هذا المسجد سنة (1953 م) وتتبعه مدارس تبدأ بالروضة (روضة الأطفال) ثم الثانوية العامة والثانوية الدينية والعالية الدينية.
وبعد صلاة العشاء ألقيت محاضرة (بعنوان: الجليس الصالح وجليس السوء) ثم صلى بنا الشيخ عبد القوي صلاة التراويح واجتمعنا مع المسئولين في هذا المسجد وذكر لنا أن ثلاث مقاطعات في إندونيسيا يستبسل أهلها في نصرة الإِسلام والدفاع عنه أكثر من المقاطعات الأخرى وهى:
1 -
أتشه في سومطرة الشمالية.
2-
بوقس فى سولاديس (ومنها الحاج عبد الكريم) .
3-
مادورات في جاوة الشرقية.
ثم زرنا الحاج عبد الكريم وودعناه لأنا عزمنا على السفر غداً صباحاً.
وارتاح المؤتمرون:
نشر في إحدى الجرائد المسيحية أن الرئيس سوهارتو افتتح المؤتمر المسيحي البروتستانتي الدولي الذي بلغ عدد وفوده ستة آلاف وفد وأنه صرح في كلمته بأن لكل صاحب دين الحق أن يدعو إلى دينه بكامل الحرية أهل الأديان الأخرى وأن المؤتمرين ارتاحوا لهذا التصريح وصفقوا كثيراً له وأنه بذلك ألغى قراراً لوزير الشئون الدينية أصدره قبل سنة يمنع فيه أن يدعو صاحب دين آخر إلى دينه أو تغيير صاحب دين دينه إلى دين آخر وكان المسيحيون آنذاك قد صرحوا بأنهم لا يستطيعون الإلتزام بقرار وزير الشئون الدينية لأنهم مكلفون بهداية القطعان الضالة.
خاطرتان:
1-
العرب يتحملون مسئولية عظيمة أمام الله تعالى في التمسك بالإسلام والقدوة الحسنة للآخرين، لأن أبناء الشعوب الإِسلامية من غير العرب يحسنون الظن بهم كثيراً، ولذلك رأيناهم يرغبون رغبة شديدة في قراءة أي كتاب يصدر ويجدونه باللغة العربية وكذلك الجرائد والمجلات التي ينتشر في كثير منها السم الفكري والمبادئ الهدامة وهي صادرة من بلدان غربية منحرفة نظمها عن عقيدة الإسلام ومبادئه.
2-
زيارة علماء المملكة العربية السعودية للمسلمين في البلدان الإِسلامية أو غيرها ترفع معنوياتهم، ولذلك ينبغي تكرر هذه الزيارات، وينبغي أن يصحبها مساعدات مادية، لأن أهل الأديان الأخرى يقدمون إعانات ملموسة.
إلى بالى:
أقلعت بنا الطائرة من مطار سورابايا إلى جزيرة بالى (مطار مدينة دمباسار) في الساعة العاشرة صباحاً- بدلاً من التاسعة- وكان الجو صحواً يتخلله قزع من السحاب والأرض كلها خضراء مليئة بالقرى التي تتناثر مساكن أهلها بين المزارع والغابات. وبدت جبال مرتفعة تغطيها الغابات كنا نقعد في مقدمة الطيارة. وكان الباب المؤدى إلى غرفة القيادة مفتوحاً، فجعلت أنظر إلى القائد وهو يمد يده يمنة ويسرة حتى استوت الطائرة فإذا هو يفك رباطه، وأخذ يكتب وكأنه على مكتبة في الأرض وكنت أود أن استمر في النظر إلى الغرفة بما فيها من أدوات وما يصنع القائد في بعض الأحيان، ولكن المضيفة قفلت الباب بعد أن قدمت له طعام الإفطار، فلما اقفل الباب رجعت أطل من النافذة كعادتي لأرى عجائب صنع الله، فكنت أرى الجبال والبحار والجزر والغابات والقرى وكانت مدة الطيران من سورابايا إلى مطار دمباسار في جنوب جزيرة بالى ثلاثين دقيقة. وصلنا المطار في الساعة العاشرة والنصف.
واستقبلنا في المطار أبو عبد الله: سعيد بن عبد الرحمن باهرمز، وهو حضرمي الأصل من مواليد اندونيسيا ذكر لنا أن أباه هاجر إلى هذه البلاد ثم ذهب إلى بلاده (حضرموت) وتوفي هناك. والشيخ سعيد يتكلم اللغة العربية بطلاقة قال: كان أبي عالماً وداعية وقال أني قليل العلم ولي أمل في أن يخلف عبد الله جده وأشكركم على العناية به وبتعليمه وتربيته وأني سأبعث إليكم أخاه ليتلقى العلم والتربية في المدينة المنورة كأخيه.
ولما كنا في طريقنا للفندق كان هو وابنه عبد الله يشيران لنا إلى معابد الهندوك حيث يوجد في كل بيت معبود من دون الله وسألناه عن حالة هؤلاء الوثنيين فقال: إنهم متعصبون لدينهم ولكنهم يظهرون تسامحاً مع المسلمين ويأخذون ببعض العادات الإسلامية وأنهم نشطون جداً في العمل، فهم يزرعون السهول والجبال وأن مثقفيهم بدأوا يشكون في صحة دينهم ولو وجد الدعاة المسلمون الأكفاء لدخل كثير منهم في دين الإسلام وقال: إن المحافظ أصبح الآن منهم (أي من الهندوك) بعد أن كان من قبل من المسلمين ويبلغ عدد المسلمين في هذه الجزيرة ستة في المائة (6%) فقط والنصارى (1%) واحد في المائة والأكثرية هم الهندوك. ورأينا في شوارع المدينة السائحين الأجانب (وهم من أوربا وأمريكا واستراليا واليابان والصين وغيرها) . بكثرة رجالاً ونساءً ويمشون شبه عرايا لا يلبسون إلا السراويل القصيرة. وكانت الفنادق كذلك مزحومة، فقد اختير لنا النزول بأحد الفنادق فلم نجد فيه مكاناً واتصل الأخ عبد الله بعدد من الفنادق فلم نجد إلا في فندق القصر فنزلنا فيه.
وكنا نرى الصور المجسمة تنتشر في كل مكان: على الشوارع العامة والشوارع الفرعية، وأمام المنازل والفنادق وفي داخل القاعات بأشكال مختلفة، وبعض الأوثان المعبودة يلبسونها بالأقمشة بإزار وخمار.
واتصل الأخ عبد الله باهرمز ببعض المسلمين وأخبرهم أنا موجودون وأننا نحب زيارتهم فاتصل أحد الأشخاص هاتفياً فأجابه الشيخ عبد القوي فقال له: إن خطاب عبد الله قادري سيكون الليلة في مسجد النور.
وبعد أن أفطرنا زكى عبد الله باهرمز أحد المطاعم فقال: انه مطعم إسلامي وزكاه كذلك بان طعامه لا يكثر فيه الفلفل.
فذهبنا إلِى هذا المطعم فوجدنا التزكية الأولى صحيحة بدليل أن المطعم لا يرتاده إلا عدد قليل جداًَ، أما التزكية الثانية فقد استعجل عبد الله هداه الله، وبعد تناول طعام العشاء في هذا المطعم رجعنا إلى الفندق فجاءنا بعض الشباب من المسلمين بسيارتهم لنقلنا إلى مسجد النور وكان قائد السيارة وصاحبها هو الشاب موسى حسين سرو يعمل في تجارة النظارات وكنا متفقين مع الأخوة أن فضيلة الشيخ عبد القوي يصلى التراويح (وكان هدفنا من صلاة الشيخ بالناس هو تعليمهم كيفية الصلاة والقراءة، لأن كثيراً من الناس يسرعون في صلاتهم ويقرأون سوراً قصيرة) وكان أئمة المساجد التي نزورها يقدمونه بأنفسهم عندما يعلمون أنه حافظ لكتاب الله ويجوده ويفرحون بذلك ولكن إمام هذا المسجد رفض التنازل للشيخ عبد القوي- وله الحق في ذلك لأنه إمام المسجد ونحن ما كنا نطلب من الناس التنازل ولكنهم كانوا هم يرغبون وقد ينبه بعض الناس الإمام فيلبى- ولكن عندما تقدم الإمام يصلى بالناس التراويح بدا لي السبب في رفضه، فقد كان سريعاً في صلاته يتكلف أن يقرأ قراءته جيدة وأخطاؤه كثيرة وكان يقرأ بعد الفاتحة سورة قصيرة في الركعة الأولى وكذلك في الثانية إلا أنها غير مرتبة فيقرأ مثلاً سورة الماعون في الركعة الأولى وفى الثانية سورة النصر وفى الثالثة سورة الهمزة وفى الرابعة سورة الكوثر وهكذا. وبعد أن صلى بالناس أخذ الميكرفون وجعل يتحدث مرحباً بالضيوف مرة باللغة العربية وأخرى بالإندونيسية ويكرر نفس الكلام لمدة لا يقل عن نصف ساعة ثم طلب مني أن أتقدم لإلقاء الخطاب كما قال وأراد أن يترجم ولكني رفضت لأن لغته العربية ركيكة جداً وأسلوبه ثقيل على النفس فقلت له: إن الأخ عبد الله باهرمز هو المترجم فوافق وكنت محرجاً في إلقاء هذه الكلمة لأنه قد أطال على الناس وهم ينتظرون بعد اللقاء كلمتي صلاة التراويح.
وكان الحديث متضمناً بيان دعوة الرسل وأنها لتثبت عقيدة التوحيد وعبادة الله وحده ونفى الشرك عنه وأن الذي منحه الله هذه العقيدة عليه مسئولية عظيمة في إنقاذ غيره من ظلمات الكفر، إقتداءً بالرسل عليهم السلام الذين كان الصراع بينهم وبين أممهم سببه هذه الدعوة وأن محمداً صلى الله عليه وسلم كان خاتمهم ولذلك فقد أصبحنا نحن المسئولين عن البشرية كلها لإخراجها من الظلمات إلى النور وأن على المسلمين في هذه البلاد أن يقووا إيمانهم وإيمان أبنائهم بالله وبرسوله وأن يحصنوهم من الشرك بالله والمعاصي وأن يقوموا بواجب الدعوة إلى الله ويبينوا للوثنين فساد الأديان الأخرى غير دين الإِسلام.
وبعد صلاة التراويح قال الإمام: ألآن يتقدم عبد القوي ليقرأ آيتين- وسكت قليلاً ثم قال- فأكثر فهمنا أن الرجل ما كان يريد أن يسمع الناس غير قراءته لأنه يخشى أن تقل مرتبته عندهم وكان هذا فهماً خطأً منه هداه الله.
مذهب الشيخ في التبرك بآثار الصالحين:
أخذ الناس يتزاحمون علينا لمصافحتنا، وأراد أحدهم أن يتبرك ببعض آثار الشيخ عبد القوي (وهي الحقيبة التي في يده وكان بها الجوازات والتذاكر وجميع شيكاتنا ونقود نفقاتنا) فأخذ هذا الرجل يجر الحقيبة وأخذ الشيخ جزاه الله خيراً يتمسك بهذه الحقيبة فلم ينجح ذلك المخرف في تخريفه ولو نجح في تبركه لعطل حركتنا كلها فالحمد لله رب العالمين.
من أساليب الدعوة:
ثم خرجنا مع الأخوة نتجول في السوق بالسيارة وما كان عندهم شيء يشيرون إليه إلا معابد الهندوك فسألناهم هل عندكم خطة لدعوة هؤلاء إلى الإِسلام؟ فقالوا: نعمل جهدنا ومن خططنا أن نزوج بعض شبابنا من بناتهم بصدد دخولهن في الإِسلام. فإذا أسلمت الفتاة وتزوجها الشاب المسلم أثر ذلك على أقاربها فيسلم بعضهم.
وكذلك نذهب إلى القرى فندعوهم إلى الإِسلام فيدخل بعضهم في الإِسلام ولكن ذلك قليل والجهود غير كافية.
وسألناهم كيف يكون حال من دخل في الإسلام؟ قالوا: أن كثيراً منهم يكونون أكثر تعصباً للإسلام بعد إسلامه من بعض المسلمين. وكنت قلت للشيخ عبد القوي أن هذه البلاد في حاجة إلى وقت أطول ولو كان عندنا فسحة من الوقت لكان البقاء أفضل فقال: نعم ولكن مهما كان هذا الوقت الذي نقضيه لا يؤدي واجب الدعوة إلا إذا كان لمدة سنتين فأكثر يعلم فيها الشباب الإِسلام ويدرب على كيفية الدعوة حتى يطمأن على تمسكهم ونجاحهم في ذلك ثم يتركون وينتقل الداعية إلى مكان آخر وهكذا. وهذا ما يفعله المسيحيون إذ يصل القسيس إلى المنطقة التي يكون أهلها شبه عرايا متوحشين كما في جنوب السودان، فيلبس مثلهم ويشاركهم في عاداتهم ثم يأخذ في بث أفكاره فيهم بالتدرج حتى يقنعهم بالتخلي عنها شيئاً فشيئاًَ ولا يخرج حتى يفتح مدرسة لأبنائهم ويستمر تعليمهم فيها ثم ينتقل إلى مكان آخر فيعمل فيه ما عمله في المكان الأول وهكذا
…
أما نحن وأمثالنا ممن يكون نزولهم في الفنادق وزياراتهم عابرة فإن فائدتهم في الدعوة قليلة جداً وهذا الذي قاله الشيخ عبد القوي حق وهذا يحمل المؤسسات الإِسلامية مسئولياتها تجاه تدريب الدعاة وأعدادهم لتحمل المتاعب والمصاعب في سبيل الله، وفى الجامعة الإسلامية وجامعة الإمام مجمد بن سعود الإسلامية عدد كبير من أبناء العالم الإسلامي والبلدان كلها يمكن أن يقوموا بهذه المهمة في بلدانهم وبلغات أقوامهم. إذا اُعِدوا إعداداًَ صالحاً وربوا تربية صحيحة.
من أحق بذلك نحن أم هم؟.
وذكر لنا الأخوة أن الزلازل تكثر في هذه البلاد وأنها تحدث خسائر في الأرواح والممتلكات وتهدم البيوت وقد تذهب بعض القرى وإذا حدث شئ من ذلك يأتي المسيحيون من استراليا وأمريكا وأوروبا فيقدمون المساعدات لإخوانهم المسيحيين وقد يساعدون أيضاً بعض المسلمين ولكن المسلمين لا يرون أحداً يأتي لمواساتهم ومساعدتهم، قال بعض الأخوة: إلا أن المملكة العربية السعودية عندما حدث زلزال 1976 م في بالى ساعدت كل مسجد من المساجد المتضررة بألفي ريال تقريباً.
قلت: من أحق بالبر والبذل والمواساة نحن المسلمين أم أولئك الكفار الذين يمدون يد العون حتى لإخواننا المسلمين؟.
ومن أجدر بالدعوة العملية في المواساة أهل الدين الحق أم أهل الأديان المنحرفة؟.
إلى سنجا راجا
15/9/1400 هـ.
في الساعة العاشرة من صباح اليوم غادرنا مدينة دمباسار في جنوب جزيرة بالى إلى مدينة سنجا راجا في شمالي الجزيرة في سيارة يقودها شاب كان شيعياً ولكنه تاب من مذهب الشيعة وانضم إلى السنة وأسمه محمد، وكنا نرى في شوارع مدينة دمباسار قبل خروجنا منها الأوثان التي يأتي إليها الهندوك بالفواكه والزهور يضعونها على رفوف عمد قريبة من الوثن تقرباً إليه ويومئون برؤسهم وأيديهم وبعد الخروج من المدينة دخلنا في المزارع التي لا يرى الرائي الشمس إلا نادراً منها لكثرة الأشجار (وأغلبها مثمرة) على جانبي الطريق وينتشر باعة الفواكه بجانبي الطريق وهي أنواع كثيرة لا نعرف إلا القليل منها.
فوقفنا عند أحد الباعة وقد مد طاولته الخشبية بجانب الطريق أمام منزله ووضع على الطاولة عينات من الفواكه الموجودة عنده والأشجار المثمرة بجانبه تتدلى بها الفواكه ويخير المشتري إن أراد أن يأخذ من الفواكه المقطوعة التي على الطاولة وإن شاء أن يختار من الفواكه التي لازالت معلقة في أشجارها وكان من الفواكه الموجودة شجر الباباى ذي النكهة اللذيذة المفضلة عندي وكانت إحدى شجراته تحمل ما يزيد عن خمسة وعشرين حبة وسألت كم تحمل الشجرة من هذه الحبات؟
…
فقالوا: منها ما يحمل عشرين ومنها ما يحمل ثلاثين وبعضها قد تحمل خمسين حبة. والحبة تختلف في الصغر والكبر قد تزن الحبة الواحدة عشرة كيلوجرام. وأخذنا منه ما نريد ثم واصلنا السير.
ثم دخلنا بعد ذلك في غابات كثيفة وجبال شاهقة تكسوها تلك الغابات وكانت السحب تغازل تلك الغابات وتعانقها في قمم الجبال، وتلتف حولها في الأسفل وكأنها تطمئن تلك الغابات وتبشرها بالخير والمطر المدرار في وقته الذي يأذن الله به وكان قائد السيارة يشير إلى بعض الأشجار التي يعرف أسماءها ونحن نعرف قليلاً وأكثرها لا نعرفه ومما عرفناه البن والقرنفل. ثم قربنا السائق في طريق جانبي على اليمين إلى ساحة كبيرة بين الجبال مملوءة بالماء فقلنا ما هذا؟
…
قالوا: هذا حوض. قلت: هل تتجمع هذه المياه من سيول هذه الجبال؟ قالوا: بل ينبع الماء من القعر ويتبقى هكذا طول الوقت وفيه قوارب صغيرة يستعملها السائحون ورغب الابن عبد البر في الركوب ولكني قلت له: أنى أكره الوقوف في هذا المكان لأن الأجانب يرتادونه بكثرة وبملابس غير لائقة وقال عبد الله في داخل هذا الماء أشجار شبيهة بالحيوان إذا لمست جسم أحد انطوت عليه وأنزلته إلى القعر فيكون قبره وكنت أظن ذلك خرافة ولكنهم أيدوا ذلك كلهم. وكانت الطريق تتلوى بنا مثل الثعبان حتى كنا في دقائق نسير إلى الجهات الأربع حيث نمشى إلى جهة ثم نكر راجعين إلى الجهة المقابلة وهكذا كانت الطريق:-
نمشى حتى نكاد نلتقي بالنقطة التي كنا فيها ثم نرجع حتى نكاد نلتقي بالنقطة الأخيرة وهكذا. وكانت خطيرة بسبب ذلك وبسبب ضيق الطريق إلا أن السيارات كانت قليلة فيها وليست مزدحمة كما هي العادة في مناطق أخرى من أندونيسيا وفى رأس الجبل وجدنا سوقاً تباع فيه الفواكه والزهور المختلفة بأسعار رخيصة جداً وقفنا قليلاً ثم واصلنا السير وكان الطقس بارداً كأنه مكيف.
ألا تصدقوني:؟
مررنا بمكان تنتشر فيه القردة بجانبي الطريق كباراً وصغاراً ولا تفر من السيارات ولا من الناس، بل تبقى في مكانها تأكل الثمار، والناس يتفرجون عليها، فقال الابن عبد البر: أبويه- أي يا أبي- أريد آخذ قردة فقلت: ماذا تريد به؟ قال: آخذه إلى المملكة أربيه هناك. فقلت لا داعي لذلك. فقال عبد الله بن سعيد باهرمز. لا تأخذ فإنها ستتبعنا إلى سنجاراجا، قلت له كيف ونحن في السيارة وهى تسير بسرعة يصعب على القرود متابعتها وكنا في منتصف الطريق تقريباً بيننا وبين سنجاراجا ما يقرب من أربعين كيلومتراً قال: تجرى حتى تلحق بنا. فقلت: ما أظن. فقال منفعلاً منكراً: أما تصدقوني؟ قلنا: صدقناك.
لا أبالي:
كان قائد السيارة يتحدث تارة باللغة العربية قلت له: أين تعلمت اللغة العربية؟.
قال: في معهد كونتور ولكن لم أكمل الدراسة. قلت له: من أي طوائف الشيعة أنت. قال: من بوهرة ولكني لا أتبع مذهبهم بل ارتضيت مذهب أهل السنة قلت: وأهلك. قال لا يرغبون منى ذلك ولكن بعضهم أيضاً ارتضى مذهب أهل السنة وترك مذهب الشيعة وأنا لا أبالي إني لا أعتقد أنهم على حق.
ثم أخذنا في الإنحدار من الجبل إلى الأسفل وبدأت الحرارة ترتفع وكان وصولنا إلى سنجاراجا في الساعة الواحدة ونزلنا في فندق (جارودا) وهو بناء شعبي عادي، يكثر به البعوض الذي أقل راحتنا على الرغم من حاجتنا إليها.
على شاطئ البحر:
وبعد صلاة العصر جاء إلينا الأخ عبد الله باهرمز الذي أعطي فرصة لزيارة أهله لمدة ثلاث ساعات تقريباً لأن هذه المدينة مسقط رأسه وبها منزله وأسرته، وخرجنا إلى شاطئ البحر وهو قريب جداً من الفندق، وأقرب إلى منزل عبد الله فمكثنا هناك إلى غروب الشمس ثم رجعنا لتناول طعام الإفطار في منزل عبد الله وفى طريقنا إلى البحر رأينا الهندوكيين وهم يحملون قرابينهم على رؤوسهم إلى أحد أصنامهم يقدمونها له ويعبدونه من دون الله، وهذا ما دفعنا لمذاكرة أمر دعوتهم ثم زيارة زعيمهم في المدينة كما سيأتي إن شاء الله الحديث عنه.
في منزل الشيخ سعيد باهرمز:
وبعد أن صلينا المغرب جاء إلينا بعض الطلبة الأندونيسيين الذين يقومون بالدعوة إلى الله في هذه الجزيرة الوثنية بين إخوانهم الشباب من المسلمين فتحدثنا معهم وشرحوا لنا ما قاموا به ولازالوا مستمرين فيه وإقبال أبناء المسلمين على الدعوة واستجابتهم لها. وأن الجهل يسيطر عليهم ولكن عواطفهم تدفعهم للإستفادة العاجلة.
وإن من أساليب دعوتهم أنهم يجمعون الشباب في المساجد ويتحدثون معهم ويلقون فيهم محاضرات ويقرؤنهم القرآن ويعلمونهم الصلاة وبعض الأذكار باللغة العربية ويختارون من يرونه أسرع استيعاباً ويجتهدون في تعليمه أكثر من غيره ليقوم هو بتعليم أهله وزملائه وأنهم وزعوا بعض الكتب الإسلامية، وشكا الإخوة من عدم وجود ما يساعدون به أهل البلدة من شراء بعض الأخشاب وبناء مساجد صغيرة أوترميم مساجد متهدمة فقلنا لهم:عليكم أن تجتهدوا في التعليم وإثارة الحماس في نفوس الناس لدينهم وسيوفقهم الله لمساعدتكم في البناء بأنفسهم وكانت هذه تسلية للإخوة الذين يشاهدون آثار مساعدة المسيحيين لقومهم القلة في هذه البلدة.
وكان أن الحاضرين معنا في هذه الجلسة المدعو عبد الله بن أحمد معاشر وهو حضرمي الأصل- وغيره من أهل المدينة الذين هم من أصل عربي- وتذاكرنا موضوع الحفاظ على أبناء المسلمين من الذوبان في هذا المجتمع الوثني فذكر الأخ عبد الله معاشر- وهو على علم بمبادئ الدين طيب ويرغب في المذاكرة والقراءة قال: إن المحاولة حاصلة ولكنها ليست على المستوى المطلوب وأملنا- بعد الله- في خريجي الجامعة الإسلامية كبير بأن يقوموا بالدعوة والتعليم ونحن نقوم ببعض الدروس في الأسبوع وكذلك في الإحتفالات الدينية كالإسراء والمعراج والمولد النبوي وغيرها فقلنا لهم إن واجبكم الإستمرار في التعليم والدعوة وينبغي أن تكون الدروس في المساجد مستمرة وأن تتعاونوا في إغراء أبنائكم بحضور هذه الدروس وأن تعقدوا احتفالات عامة- على شبه ناد أو ندوات تدعون إلى حضورها أبناءكم والهندوكيين يسمعوا كلمة الإِسلام وتقوم الحجة عليهم بشرح أركانه ومبادئه لأن دعوتهم واجبة وهم يعبدون الأوثان. فذكروا لنا أن اجتماعات تعقد لأهل االأديان الأربعة هنا وهي، الإسلام والهندوكية والبوذية والنصرانية، وكل جماعة يشرحون دينهم. قلت لهم: ولكن عليكم أن تبينوا لهؤلاء الناس أن دينكم هو الدين الذي لا يقبل الله سواه من الأديان لأنها كلها باطلة وأن تقيموا الحجة على ذلك لتنقذوا هؤلاء الضالين من الشرك بالله.
ثم حضرنا المسجد المسمى بالتقوى فصلينا العشاء وألقيت محاضرة في الحاضرين تضمنت شرح كلمة التوحيد التي دعا إليها كل الرسل وأن علينا أن نفهمها ونعمل بمقتضاها وأن نمكن نفوس أبنائنا من فهمها والعمل بها وأن ندعوا إليها الآخرين وأن على الآباء والعلماء أن يعلموا أبناءهم وعلى الأبناء أن يجتهدوا في تعلم الدين من آبائهم وأساتذتهم وكان الحاضرون في غاية الإنصات والتأثر.
ثم صلى بنا الشيخ عبد القوي التراويح وقرأ بعد ذلك ما تيسر من القرآن بطلب منهم وقام إمام المسجد فأبدى سروره بهذه الزيارة وشرح مبدأ جماعة المسجد وهو التمسك بالإِسلام الذي ينبني على الكتاب والسنة ونبذ الخرافات وقال: أننا سنحاول تطبيق نصائحكم وطلب منا إبلاغ المسئولين في المملكة العربية السعودية أن أبناء هذه البلاد ينتظرون منهم المساعدة بالكتب والمدرسين والمساعدة في بناء المدارس ووضع المناهج.
أعيدوا النظر يا دعاة الإِسلام:
إن الجهود المبذولة للدعوة إلى الله في أرض الله- وإن كانت قليلة ويجب بذل الوسع في المزيد منها- هذه الجهود ظهر لنا أنها تسير بدون تخطيط علمي دقيق وبدون تنظيم مفيد وتنفيذها عشوائي في الغالب وكذلك يجب على المؤسسات الإسلامية أن تعيد النظر في أساليبها المتخذة حالياً للدعوة إلى الله بإتباع الأمور التالية:
1 ـ ينبغي أن تنسق المؤسسات الإِسلامية فيما بينها في إطار مجلس واحد يسمى مجلس شئون الدعوة الإسلامية- مثلاً- يمثل هذا المجلس كل المؤسسات الإِسلامية في داخل المملكة العربية اَلسعودية بداية لمجلس دعوة عالمي هذه المؤسسات هي الجامعة الإِسلامية وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ورابطة العالم الإسلامي وجامعة أم القرى وإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، ويكون مقر عام يختار له رجال أكفاء مهمتهم جمع المعلومات عن العالم الإسلامي، وتنسيقها وترتيبها في بحوث يرجع إليها عند الحاجة.
2 ـ يختار عدد من الأساتذة والطلبة ويبعثون في الإجازات الصيفية إلى بلدان العالم الإسلامي لجمع المعلومات ومعرفة أحوال المسلمين والجمعيات الإِسلامية المتمسكة بالإسلام، والمؤسسات الإِسلامية التي تحتاج إلى مساعدة، والبلدان التي يوجد بها دعاة والبلدان التي لا يوجد بها أحد منهم. ومعرفة المدن والقرى التي تحتاج إلى بناء مساجد أو ترميمها والإطلاع على الجهات التي توجد بها جامعات ومعاهد ومدارس وحاجة هذه الجامعات والمعاهد والمدارس إلى مدرسين أو كتب أو وضع مناهج أو منح دراسية والجهات التي توجد بها مدارس ويمكن إنشاء مدارس فيها لأبناء المسلمين.
3 ـ التخطيط لبعث الدعاة والمدرسين المقيمين والمساعدات المادية وغيرها والبدء بالأهم وبذلك يمكن إيصال الدعوة إلى أغلب البلدان الإِسلامية وغير الإِسلامية على خطط علمية مدروسة وتنظيم دقيق:
4 ـ ينبغي أن تعقد دورات في كل قطر للدعاة إلى الله الذين يبتعثون من المملكة على رأس كل سنتين على الأقل يقوم بهذه الدورات علماء الدعوة الإِسلامية من داخل المملكة وخارجها ليطلعوا على ما يقوم به هؤلاء الدعاة في الأقطار ويوجهوهم ويحلوا لهم مشكلاتهم وبذلك يكون المؤسسات على علم بما يقوم به الأفراد التابعون لها وإذا لم يمكن إقامة دورات في تلك الأقطار فيمكن إقامتها في إحدى الجامعات بالمملكة.
5 ـ يجب أن لا يكدس الدعاة في بلد واحد وفى مؤسسة واحدة مع وجود فراغ في بلدان أخرى أو مؤسسات، بل ينبغي توزيعهم لتقوم الحجة بهم في كل مكان قدر الإستطاعة.
أين الإسعاف؟
والمسلمون في سنجاراجا بالذات يبلغ نسبتهم 40% من السكان ولهم بعض المدارس الأهلية التي كان الطلبة المسلمون مقبلين إليها حتى فتحت المدارس الحكومية التي يوجد فيها من النظام والإمكانات البشرية والمادية مالا يوجد في الأولى وعندئذ بدأوا يتركون المدارس الأهلية وينضمون إلى المدارس الحكومية. وإذا لم تسعف هذه المدارس الإسلامية بتحسين المباني ووضع المناهج الجيدة التي تجمع بين المواد الإِسلامية والمواد الحكومية المفيدة، وكذلك بالأساتذة الذين يقومون بالتدريس متفرغين فإنها يخشى عليها أن تتوقف، فأين الإسعاف؟
دعوة زعيم الهندوكيين في سنجاراجا إلى الإِسلام:
أكد لنا الأخوة المسلمون في جزيرة بالى تسامح الهندوكيين معهم واحترامهم ومساعدتهم مادياً في بعض شئونهم كبناء المساجد وترميمها والإحتفالات الدينية قالوا وكثير من عامتهم مقتنعون بالإِسلام ولكنهم يتمسكون بدينهم تقليداً لمتبوعيهم ويصرح بعضهم بأنهم إذا دخل زعيمهم في الإِسلام فإنهم سيدخلون فيه أيضاً. وأثنوا على زعيمهم في هذه المدينة بأنه يتعاطف كثيراً مع المسلمين. فطلبت منهم أن يضربوا لنا معه موعداً في هذا اليوم لنلتقي به ونشرح له الإِسلام وندعوه إلى التوحيد ونشكره على تعاطفه مع المسلمين.
فرحب بالزيارة عندما بلغوه رغبتنا، وزرناه في الساعة التاسعة صباحاً في مكتبه، وشكرناه على حسن معاملته للمسلمين وأخبرناه بموقف النجاشي من المسلمين عندما هاجروا إلى بلاده من إيذاء قومهم إياهم في بدء الرسالة في مكة وأن الرجل أسلم وحسن إسلامه وصلى الرسول صلى الله عليه وسلم عليه صلاة الغائب وأن ذوي العقول النيرة إذا شرح لهم دين الإِسلام تقربه عقوله ويدخلون فيه وقد كان هذا على مدار تاريخ الإِسلام واقعاً فقد أسلم كثير من أهل الكتابين في القديم والحديث وكذلك الوثنيون في فارس والهند وغيرها.
وبينا له أننا إنما جئنا إليه طمعاً في أن ينقذه الله تعالى بالإسلام الذي لا يوجد في الأرض دين يرضى الله به غيره وأن رسالة هذا الدين عالمية يجب على كل الناس الإيمان بها وأن الحجج والبراهين المقنعة قد قامت على كون هذا الدين هو الحق وما سواه باطل. كما قامت على صحة رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه خاتم الأنبياء، وأن هذا القرآن حق منزل من عند الله تحدى الله به الأنس والجن أن يأتوا بمثله فلم يقدروا على ذلك منذ نزوله إلى يوم القيامة، وأن سبيل الجنة التي يطمع فيها أهل الأديان كلها هو هذا الدين فقط وأن النجاة من النار لا تكون إلا لأهله وأن كل جزئية من جزئيات الإِسلام تدل على أنه حق، ويكفي أن الأمم التي حاربته قد دخلت فيه ولا يزال المنصفون من أعداء الإسلام ينطقهم الله بالحجة إلى أنفسهم.
ولذلك فنحن رغبة في إنقاذكم من النار ودخولكم الجنة أنتم وأتباعكم جئنا ندعوكم إلى الله عز وجل والدخول في هذا الدين حتى يكون لكم أجركم وأجر أتباعكم ولا تتحملوا وزركم ووزرهم بعدم الدخول في هذا الدين.
وقلت له:" إن هذا الرجل- يعنى الشيخ عبد القوي- يحفظ القرآن كله وهناك آلاف المسلمين يحفظونه كما أنزله الله لا تحريف فيه ولا يقدر أحد على تحريمه ولو كنت تفهم اللغة العربية وسمعت منه وصف الجنة ونعيم أهلها ووصف النار وعذاب أهلها لطرت شوقاً إلى الأولى بلا اله إلا الله محمد رسول الله، وهربت خوفاً من الثانية بترك عبادة غير الله تعالى ونحن نرغب أن تدخلوا في دين الله في أسرع وقت لأن الإنسان لا يدري متى يقتاده الموت إلى قبره والموت على غير الإسلام يورث الحسرة والألم والخلود في النار ونرغب في أن نكون أمة واحدة ندعوا إلى الخير ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، وكان يظهر السرور بكل ما يسمع وأجاب أنه قد قرأ ترجمة القرآن الكريم ووجد أن ما تقوله له موجود في القرآن وأنه يعرف أنه حق وقال: إنني أتابع الآذان وتعجبني ألفاظه وقال إننا نأسف لقصر زيارتكم وكنا نود لو تأخرتم عندنا أكثر. فاعتذرنا بارتباطنا وإننا إذا جئنا مرة أخرى إلى أندونيسيا سنحاول زيارته ووعدنا ببعث كتب إسلامية إليه مترجمة وغير مترجمة.
وهنا يجب أن نقولها صريحة: أن المؤسسات الإسلامية- على الرغم مما تبذله من جهود في سبيل الدعوة إلى الله- مقصرة في التخطيط والتنظيم والتنفيذ لهذه الدعوة وأن بعث دعاة حكماء مدربين ملمين بالأديان المقارنة مزودين بالحجج المقنعة مثقفين ثقافة عصرية مع الفقه في الدين يلتقون بأمثال هذا الزعيم مع حمل الكتب المترجمة إلى اللغة المحلية لأي بلد لجدير بفتح الباب أمامهم للدخول في دين الله تعالى.
وإذا لم يدخلوا في أول الأمر فيمكن عقد صلات معهم تكون سبباً للدخول فيه مستقبلاً وأن على الدعاة إلى الله أن يكونوا أعزة بدينهم يدعون إليه العظماء في قومهم كالسوقة كما كان يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم وما الذي يمنع الداعية المسلم من دعوة رؤساء الأديان بل وزعماء الحكومات ماداموا ضالين عن منهج الله لعل الله يشرح صدورهم لهذا الدين.
وقد بعثنا لهذا الزعيم ترجمة المصحف الكريم وتفسيره باللغة الأندونيسية وسنوالي مراسلته لعل الله تعالى يهديه. وهذا عنوانه ينقل مما كتبه في مذكرتي بيده:
ثم ودعناه قائلين: السلام على من اتبع الهدى (لم تترجم له هذه) وكان وداعه لنا حاراً نسأل الله له الهداية والتوفيق.
وغادرنا مدينة سنجاراجا في الساعة العاشرة إلا عشرين دقيقة ووصلنا إلى مدينة دمباسار في الساعة الحادية عشرة والدقيقة الثلاثين فصلينا الظهر والعصر قصراً وجمعاً في دكان عم عبد الله باهرمز أخي أبيه. ثم خرجنا إلى المطار في الساعة الواحدة والنصف. وفي الساعة الثانية والنصف صعدنا إلى الطائرة.
التدخين سم قاتل
المدمنون على شرب الدخان بشراهة زائدة يعرضون رئتهم للتلف المبكر ويصابون بهبوط في وظائف الرئة وهبوط في القلب
…
والنتيجة معروفة حتماً
…
وقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن التدخين يسبب تهيجاً في الأغشية المخاطية للشعب الهوائية فيحدث النزلات الشعبية المزمنة وبنسبة حدوث النزلات الشعبية بين المدخنين أضعاف أَضعاف نسبتها لدى غيرهم. كما ثبت أن التدخين يزيد من احتمال الإصابة بسرطان الدم، كما يزيد من تركيز الدهنيات في الدم ويؤدي إلى الإصابة بتصلب الشرايين عامة والشرايين التاجية التي تغذي عضلة القلب بوجه خاص والتدخين فوق كل هذا يرفع ضغطاً الدم ويحدث إسراعاً في نبض القلب ولذلك فهو يجهده ويزيد عمله وفي أولئك المصابين بتصلب الشرايين التاجية قد يسبب التدخين حدوث آلام الذبحة الصدرية وذلك ما يسمى بـ: ذبحة النيكوتين.
كرة القدم
يلفت النظر في جمهور كرة القدم حبه الشديد للفريق الذي يشجع وتضحياته الكبيرة من أجله.. أي أنه جمهور منتمي.. والإنتماء إلى فريق معناه التضحية بالمال والنفس.. ونحن نسمع أن فلاناً تبرع لناديه بكذا مليون ريال ليقيله من عثرته، بينما لا نجد اسم هذا الفلان في قوائم المتبرعين للجمعيات الخيرية أو المجاهدين الأفغان وهذه تضحية بالمال.
ونسمع أن علانا لا يبالي أن ينزل إلى وسط ملعب الكرة في وقت الشدة ليضرب الحكم أو يضرب اللاعبين حتى لوأدت تلك الغارة الهوجاء بحياته، وهذه تضحية بالنفس، بينما لا يمارس معظم الناس أو بعضهم حبهم لبلادهم بتلك القوة وبتلك التضحيات.
ويلفت النظر في جمهور كرة القدم أيضاً.. أنه جمهور غيور فهو لايقبل أن ينتهك قانون الكرة مطلقاً، فهو يثور ويهز الملعب إذا ارتكب لاعب خطأ في غفلة من الحكام، ويقف في وجه الحكم ويقول له لا.. إذا تغاضى عن خطأ، بينما يقف الناس يتفرجون على أولئك الذين يغتالون قواعد القانون العام أو يعبثون بمصالح البلاد والعباد. فمثلاً نحن نرى الناس في أسبوع النظافة وغير أسبوع النظافة يقذفون ببقايا الساندويتشات وعلب البيبسى من نوافذ سياراتهم في وسط شوارع المدينة الكبيرة ولا نجد أحدنا يقول لهذا المعتدي على نظافة المدينة.. عيب، ونرى الناس يخالفون أبسط قواعد المرور، وبإمكاننا أن نلفت أنظار هؤلاء إلى خطأ ما يفعلون ولكن أحد منا لا يكلف نفسه عناء أن يقول لهؤلاء عيب.
في الأسبوع الماضي أردت أن أمارس دور المواطن الصالح أوقفت سيارتي لأعتب على أحدهم وهويهم باقتلاع غرسة من حديقة عامة.. استسلم المخطيء لقولي وأخذ ينفض الطين من يديه ويعود إلى سيارته.. لكن بعض الوقوف من الناس تساءلوا على مسمع.. فيما إذا كنت من رجال البلدية.. أو من.. وحين لا أكون كذلك فمعنى موقفي أني إنسان فضولي أو متطفل.
أتمنى أن يكون اندفاع الناس في حب بلادهم وتضحياتهم من أجلها كاندفاعهم في حب الكرة ونحوها.
محمد عمر العامودي
ردود ومناقشات
إِنكار الجِنِّ
للشيخ مصطفى الوراق إبراهيم
مدرس بالمعهد الثانوي
من شطحات التفسير الموضوعي للقرآن
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداًَ عبده ورسوله. صلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين.
وبعد فإن هناك شطحات أشد غرابة في التفسير الموضوعي للقرآن أوضحها فيما يلي:
عندما تعرض الدكتور لتفسير سورة الجن اصطدم إنكاره بآيات هذه السورة التي كشفت بوضوح تام عن موقف الجن من الإِسلام ويتلخص ذلك الموقف فيما يلي:
1-
أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوحى الله إليه بما كان من أمر الجن عندما استمعوا إليه وهو يقرأ القرآن.
2-
استماع النفر من (الجن) للقرآن.
3-
إيمانهم بوحدانية الله وتبرؤهم من الشرك الذي كانوا عليه من قبل وإذعانهم برسالة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
4-
انطلاقهم إلى قومهم دعاة منذرين.
إذن فالأمر هنا ليس قاصراً على ورود كلمة (الجن) ولو كان الأمر كذلك لكان من اليسير على الدكتور أن يصرفها عن معناها الحقيقي إلى شيء من المعاني المبتكرة التي ادعاها لكلمة الجن ولكن الأمر هنا ليس سهلاً فكيف يصنع الدكتور ليوفق بين إنكاره للجن وهذه السورة التي سميت بهم وتكلمت عن عالمهم بكل هذا الوضوح؟ لابد إذن من تفكير وتدبير لكي يصل الدكتور إلى مخرج- وأعمل فكره ثم أعمل خياله وبدا له أنه وجد الإِنقاذ في فكرة عَنَّت له فسرعان ما أبرزها بل واعتبرها نظرية لم يسبق إليها وكأنى به قبل أن يصل إلى إبراز نظريته يتساءل لماذا لا يفترض أن الجنَّ قسمان جن (أصلي) وجن (ملحق به) أو سمه مجازياً أو مزيفاً.. ولندع الدكتور يوضح لنا قصة الجن في نظره.
يقول: "الجن موجود قطعاً وهم قوى مخلوقة من نار صافية ولذا كانوا قوى روحية. وعالم الجن قائم إلى يوم البعث لا مرية فيه"لقد ظننت عندما قرأت هذين السطرين أن الدكتور رجع من الإنكار إلى الإقرار ولكن سرعان ما تبدد هذا الظن عندما قرأت السطر الثالث وما تلاه. قال الدكتور:"أما موجوداته الأصلية فهي طبائع الملائكة وهي العناصر الخيرة، وطبيعة إبليس كذلك وهو العنصر الشرير"إذن فهذا هو عالم (الجن) الأصلي وليس هناك عالم ناري عاقل سوى ما ذكر الدكتور!! وما هو الجن (الملحق) أو المزيف- كما ينبغي أن يوصف؟ فيجيبنا الدكتور: "ويدخل في عالم الجن- ملحقاً بطبائعه الأصلية مَنْ يتخفى مِن عالم الإِنسان في إيمانه وكفره وفى خيره وشره باعتبار أن هذا الذي يتخفىَّ غير ظاهر وغير مرئي وذلك كشياطين الجن. فإنهم من الإِنسان، يخفون شرهم وكيدهم لدين الله وللمؤمنين به، وصدهم عن سبيل الله. وجاء في قول الله تعالى:{إِنَّهُ يَرَاكُمْ} أي الشيطان وهو إبليس {هُوَ وَقَبِيلُهُ} أي هو وأعوانه من الشياطين {مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} لأن إبليس بحكم طبيعته من عالم الجن، وأعوانه بحكم تخفيهم في الشر ألحقوا بهذا العالم وأصبحوا شياطين الجن. ومثل هذا الفريق الشرير من الناس في إلحاقه بعالم الجن لتخفيه في الكفر والإِيذاء والإغراء، فريق آخر من الناس أيضاً تخفى في إيمانه ولم يظهر في تعرفه على الهداية وفى تبشيره بالدَعوة لدين الله هو هذا الفريق الذي أعلن عنه الوحي في سورة الجن في قول الله تعالى:{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} أي من العالم غير المرئي. ولكن ليس من القوى النّارية {يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} انتهى كلام الدكتور في صفحتي 8 و9 تفسير سورة الجن طبعة دار
الفكر.
ومن الواضح أن الدكتور يزعم بأن الذين نزلت فيهم (سورة الجن) وآية الأحقاف ليس المراد بهم (الجن) الحقيقيين أي المخلوقات العاقلة النارية التي تختلف عن الملائكة كما تختلف عن الإنس بل المراد بهم جماعة من البشر الذي يخفى إيمانه (ولم يظهر في تعرفه على الهداية وفي تبشيره لدين الله) تفسير سورة الجن ص 9.
ويرجح الدكتور أن هذا النفر الذي أنزلت فيه سورة الجن وآية الأحقاف كان من أهل يثرب ثم يتحدث عن ثلاث قضايا أنها أدلة على أن المراد بالجن البشر. القضية الأولى: إيمان هذا الفريق بوحدة الله في الألوهية. القضية الثانية: حكم هذا الفريق على القرآن بعدما سمعوا منه بعض آياته بأنه كتاب مصدق لما بين يديه من التوراة. القضية الثالثة: دعوة هذا الفريق إلى الإِسلام بين قومه. وهذه القضايا الثلاث تختص- في رأي الدكتور- برسالة البشر فالبشر وحدهم المكلفون باتباع رسالة الله، راجع ص 10 من تفسيره المذكور. ولن أطيل في مناقشة هذه القضايا ولا النتيجة التي وصل إليها الدكتور وذلك لأنها لا تعدو أن تكون مقدمات أو قضايا لا يحكم ارتباطها بما وصل إليه من نتيجة إلا مجرد الوهم والإِدعاء والنتيجة وهي (اختصاص البشر وحدهم بالتكليف) لا دليل عليها بل الدليل يقوم على تأييد أن الرسالة والتكليف للإنس والجن. وما نحسب أن أحداً من أهل العلم الذين يعتد بهم يؤيد ما ذهب إليه الدكتور ويكفي- في رد هذا الإختصاص سواء قال به الدكتور أو غيره- قول الله جل وعلا:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} .
ولنعد إلى نظرية الدكتور عن نوعي الجن الأصلي والملحق فنقول: إن الدكتور يخلط خلطاً عجيباًَ بين الملك والجني فيدعى بأنهما عنصر واحد خلق من مادة واحدة وله طبيعة واحدة فالملائكة هم الجن والجن هم الملائكة وهذا هو الجن الأصلي أما الملحق أو الذي يسمى (تبعاً) بالجن فهم البشر المتخفون. وقد سبق أن أوردت في المقالة الأولى أن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حدَّد أن الأصل لخلق الجن هو (النار) وأن الأصل لخلق الملائكة هو (النور) وبناء على مفهوم هذا الحديث الواضح فإن الجن والملائكة نوعان مختلفان وعالمان متمايزان وكلام الدكتور حول اتحاد جوهر النار والنور لا يقدح في كونهما عالمين ذلك لأن الخلق لنوعين أو أكثر من جوهر واحد أو عنصر متحد ليس مثيراًَ للإستغراب مادام الخلق بقدرة الخالق الباريء المصوِّر سبحانه وتعالى. ولعلنا نستأنس ببيتي الشاعر:
من نطفة ومن علق
سبحان الذي خلق
من حماة الطين (الحدق)
سبحانه مصوراً
فما أبعد ما بين كدر الطين وصفاء العين ولكنها قدرة الله الذي قال في كتابه {هَذَا خَلْقُ الله فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} (لقمان: 11) .
الجن عالم والملائكة عالم آخر:
وما كنت أحسب أنني في حاجة إلى التفريق بين الجن والملائكة لأن هذا الأمر لا يشك فيه أحد ولكنَّ دعاوى الدكتور محمد البهي جعلت الحاجة ماسة للإستدلال في كتاب الله سبحانه ومن السنة النبوية على اختلاف عالمي الجن والملائكة، وسأورد الآيات والأحاديث التي تفصل وتبين أن لكل عالم من العالمين المتمايزين صفات تناقض صفات الآخر مناقضة تامة وليس هناك سمة مشتركة ولا طبيعة متحدة بين العالمين عالم الملائكة وعالم الجن الذي منه الشياطين وأعوذ بالله منهم وإلى قاريء هذا المقال أولاً الآيات التي جاء فيها وصف الملائكة وتليها الأحاديث ولا أشك في أن القاريء يعرف هذه الأدلة فلتكن له من باب التذكير.
قال الله تعالى مخبراً عن لزوم الملائكة لطاعته: {لا يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (التحريم:6) . وقال سبحانه: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} (الأنبياء:26، 27) فهل عالم الجن بما فيهم الشياطين تنطبق عليهم هذه الصفة؟!
يقول الشيخ أبو بكر جابر الجزائري في كتابه (عقيدة المؤمن) :"إن الملائكة منزهون عن الأغراض البشرية كالجوع والمرض والأكل والنوم والتعب وما إلى ذلك فقد جاء في القرآن ما يدل على ذلك بدلالة الالتزام إذ أخبر الله تعالى عنهم بأنهم {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} (الأنبياء: 20) ولازم ذلك أنهم لا ينامون ولا يأكلون ولا يشربون ولا يتعبون "[1] .
فهل يرى الدكتور شبهاً بين الملائكة الذين يسبحون الله ليلاً ونهاراً وبين الجن ومنهم الشياطين قبيل إبليس؟!
والملائكة منهم حملة العرش المسبحون بحمد ربهم المستغفرون للمؤمنين قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} (غافر: 7) فهل يحمل الجن العرش، ويسبحون الله ويحبون التائبين عن المعاصي ويستغفرون لهم؟! فهل يرى الدكتور في الشياطين أحباباًَ للمؤمنين؟!
والملائكة يلعنون الكافرين الذين ماتوا بكفرهم.. يقول الشيخ الجزائري في عقيدة المؤمن: "وإنهم ليلعنون من لعنه ربهم سبحانه وتعالى كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (البقرة: 161)(عقيدة المؤمن 201) فهل ترى لهذه الصفة مكاناً بين الشياطين؟!
والملائكة تقاتل مع المؤمنين في سبيل الله. يقول الشيخ عمر سليمان الأشقر في كتابه (عالم الملائكة الأبرار) صفحة 62 "وقد أمدَّ الله المؤمنين بأعداد كثيرة من الملائكة في معركة بدر {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} (الأنفال: 9) {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ، بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ} (آل عمران: 123-125) ويقول الأشقر في صفحة 63 "وقد حاربت الملائكة في مواقع أخرى ففي غزوة الخندق أرسل الله ملائكته {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} (الأحزاب: 9) والمعنى بالجنود التي لم يروها الملائكة كما ثبت في الصحاح وفي غيرها أن جبريل جاء الرسول صلى الله عليه وسلم بعد رجوع الأحزاب وعلى ثنايا جبريل النقع (الغبار) وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يغتسل فقال للرسول صلى الله عليه وسلم: "أوضعتم سلاحكم فإنا لم نضع سلاحنا بعد"فقال:" إلى أين؟ "فأشار إلى بني قريظة"فهل يمكن أن تتصف الجن والشياطين بما تقدم من جهاد وتثبيت للمؤمنين في حربهم مع الكافرين؟! وإذا كانت الملائكة تتنزل على المرسلين فإن الشياطين تتنزل على كل أفاك أثيم.
وبعد هذا نذكر قليلاً من الأحاديث التي تكشف عن صفات الملائكة وأعمالهم وأخلاقهم وذلك لأن الأحاديث في هذا الباب كثيرة فإلى القاريء بعضها.
1-
يقول الأشقر في كتابه (عالم الملائكة الأبرار) :"وكل الله بكل إنسان قريناً من الملائكة وقريناً من الجن ففي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة". قالوا:"وإياك يا رسول الله ". قال:"وإياي ولكن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير"ولعل هذا القرين من الملائكة غير الملائكة الذين أمروا بحفظ أعماله قيضه الله ليهديه ويرشده. وقرين الإنسان من الملائكة وقرينه من الجن يتعاوران الإنسان - هذا يأمره بالشر ويرغبه فيه وذاك يحثه على الخير ويرغبه فيه فعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد من ذلك شيئاً فليعلم أنه من الله ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم" ثم قرأ {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَالله يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة: 268) .
فهل يمكن أن يختلط أمر الملائكة بالشياطين بعد هذا الكلام المبين؟!
وهل يمكن أن يكون الإيعاد بالشر ثم الإيعاد بالخير فعل مخلوق واحد أو صفة مخلوقات من عنصر واحد ونوع واحد أم هما عنصران ونوعان.
والملائكة يُحبون المؤمنين يقول الشيخ أبو بكر الجزائري في صفحة 201 من عقيدة المؤمن: "إن الملائكة تحب حباً يليق بحالهم، وحسب ذواتهم فقد دل الدليل الشرعي على أنهم يحبون ففي الصحيحين "إن الله تعالى إذا أحب عبداً نادى جبريل إن الله قد أحب فلاناً فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي جبريل في السماء إن الله قد أحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء ويوضع له القبول في الأرض" اللؤلؤ والمرجان (3/ 205-206) والبخاري (9/ س 173-174) ومسلم (8/40-41) .
أما عالم الجن فهو (نوعان شياطين لا خير فيهم البتة وجن منهم الصالح ومنهم الفاسد فحالهم كحال الناس منهم البر والفاجر ومنهم المؤمن ومنهم الكافر بيد أن الشياطين أصله من الجن وذلك لأن إبليس كان من الجن لإخبار القرآن الكريم بذلك في قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ
…
الآية} (الكهف: 50) .
ولما أبلس الشيطان وطرد من الرحمة الإلهية وانقطع عن الخير كلية كانت ذريته مثله بحكم الوراثة لا خير فيهم أصلاً فلا يعرفون إلا الشر ولا يدعون إلا إليه"عقيدة المؤمن ص 3 21.
والشيطان ليس فرداً واحداً هو إبليس بل معه ذريته وقبيله من الشياطين وليس هناك مبرر على الإِطلاق يسوغ للدكتور تأويل معنى (الذرية والقبيل) بما ذكره في ص 17 من تفسير سورة الجن (شياطين الجن وهم من البشر تخفُّوا ويتخفون في مباشرة الشر للناس، والصد عن سبيل الله وهؤلاء شياطين الجن هم أعوان إبليس وقبيله وهو معهم يرون الناس والناس لا يرونهم {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} (الأعراف: 27) وشياطين الجن أشبه بالخلايا السرية التي تعمل تحت الأرض وفي الخفاء على تقويض الإِيمان بالله، والكيد للمؤمنين فهم من الناس ولكنهم متخفون في مباشرتهم للكيد والصد عن سبيل الله) وبهذا التأويل الذي يجنح للتحريف المقصود أوّل الدكتور قوله تعالى:{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} وإنما لجأ الدكتور لكل هذا (التخريف) بالخاء المعجمة ليدعم نظرية الجن الأصلي والجن الملحق لأن هذه النظرية الغريبة هي الأساس الموهوم الذي يبنى عليه دعوى إنكار الجن كعالم موجود ومقابل لعالم الملائكة والإنس.
ولنمض في تمييز عالم الجن عن الملائكة والإنس بما وصفه به خالقه ومصوره سبحانه وتعالى وبما وصفه به الرسول الكريم في أحاديثه صلى الله عليه وسلم
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} فالآية نص على أن إبليس من الجن وليس من الملائكة كما قال الدكتور في حديثه عن موجودات عالم الجن الأصلي ص 8 من تفسيره.
ويقول الله سبحانه مخبراً عن الجن الذين استمعوا للقران من رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً، وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} فهل يصلح هذا الوصف (للملائكة) ؟ هل منهم القاسطون الذين يكونون لجهنم حطباً؟ وهل تصلح آيات سورة الجن التي وصفت ما كان عليه عالم الجن قبل أن يسلموا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم لعالم الملائكة؟ أو هل تصلح لأن تكون وصفاً لمن سماهم الدكتور بالملحقين بعالم الجن من (البشر) الأوس والخزرج كما ادعى؟ يقول سبحانه: {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى الله شَطَطاً} ويقول عز وجل: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} ويقول: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} اللهم إنها ليست وصفاً لملائكة ولا لبشر. ولقد اتعب الدكتور نفسه في التحريف عندما تعرض لتأويلها وسنعرض بعض تأويله فيما يأتي بمشيئة الله سبحانه. ولكنني أسأل هل كان رجال من الإِنس (الأوس) يعوذون بجهنم؟! وهل كانوا يلمسون السماء ويقول الله في كتابه الكريم: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ
…
} (الأعراف: 27) . ويقول سبحانه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} (فاطر: 6) . ويقول الله في كتابه مبيناً عداوة إبليس وذريته من الشياطين لبني آدم {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} (الكهف:50) . فهل يفتن الملائكة الناس في دينهم؟ وهل يعادى الملائكة الناس؟ وهل يحذر الله المؤمنين من الملائكة ويأمرهم بعداوتهم؟ ولماذا؟ اللهم ليس هذا من صفات الملائكة الذين يحبون المؤمنين ويستغفرون للتائبين.
ولقد بيَّن الله أن لكل إنسان قريناً وأوضح الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الأمر في أحاديثه قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِين} وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} (مريم: 83) وقال تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (الحجر: 39-40) وجاء بيان الرسول صلى الله عليه وسلم لأمر القرين وافياً شافياً وذلك في أحاديث كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم "ما من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن"قالوا:"وإياك يا رسول الله". قال:"وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بالخير"(مسلم: 8/139) فهل لهذا علاقة ما بملك من ملائكة الرحمن الذين لا يعصون الله ما أمرهم؟ وقد بينت الأحاديث أن من صفات الملائكة الحياء وأن من سماتهم أنهم يكرهون الروائح الخبيثة كرائحة البصل والثوم وغيرهما مما له رائحة كريهة ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن دخوله بيوت الله بمثل هذه الروائح التي يتأذى منها الملائكة كما يتأذى منها بنو آدم كما بينت الأحاديث أنهم لا يدخلون بيتاً فيه كلب أو صورة أما الشياطين فيسكنون الأماكن القذرة ويعملون لإيذاء الإِنسان في نفسه ولإضلاله عن الطريق السوي يقول الشيخ أبو بكر الجزائري في كتابه عقيدة المؤمن: "الغاَلب في الجن والشياطين أنهم يسكنون الخرائب والحشوش والمزابل والقمائم لحديث أبى داود "إن هذه الحشوش محتضرة فإذا أتى أحدكم الخلاء فليقل أعوذ بالله من الخبث والخبائث". والشياطين توسوس في صدور الناس بالشر وتغريهم بالمعاصي ولذا أمرنا الله سبحانه أن نستعيذ به من شرهم في سورتي الجن والناس فهل كل ما ذكر يمكن أن يكون له صلة بملائكة الرحمن يا دكتور.
بعض الأمثلة لتفسير سورة الجن:
يقول الدكتور في تفسير قوله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنّ} أي أنصت إلى القرآن فريق من الغرباء أومن العالم غير المرئي وهو ما يطلق عليه اسم الجن {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} أي قرآناً عظيماً {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} وهو طريق التوازن والإعتدال، وعدم الإِسراف والسفه {فَآمَنَّا بِهِ} فاستقر في نفوسنا الإيمان برسالته فيما جاء فيه من عقيدة ومن منهج للحياة {وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} ثم يقول الدكتور من الذي يعلن الإيمان بالله وعدم الشرك به غير الإِنسان المكلف بالرسالة الإِلهية؟ فالملك ليس مكلفاًَ والرسل لا تأتي بالرسالة لغير الناس وإذا كان هناك- على سبيل الافتراض- غير الملك وغير الإنسان مكلف برسالة إلهية فرسلهم لابد أن تكون من نوعهم {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: 4) ولهذا كان الفريق الغريب المتخفي الذي قدم إلى مكة واستمع إلى القرآن وآمن به وأعلن أنه لا إله إلا الله هو فريق من الناس مكلف- ككل البشر- باتباع الرسالة الإلهية، والتي قوامها عبادة الله وحده {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 25) وليس من طبيعة أخرى غير طبيعة الإِنسان ولكنها طبيعة متخفية فقط) تفسير سورة الجن 29-.3.
وإنني أسأل الدكتور إذا كان المراد بهذا النفر من (الجن) بشراً ذا طبيعة متخفية فلماذا لم يرهم الرسول صلى الله عليه وسلم وهم بقربه يستمعون إليه؟ ولماذا أوحى إليه بأمرهم؟ وهل إرادة إخفاء (الإيمان) من شأنها أن تجعل جسم صاحبها يختفي فلا تراه العيون؟! ولماذا تجاوز الدكتور كلمة (أوحي) فلم يشر إلى المقصود منها؟ ويقول الدكتور في تفسير قوله تعالى {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} أي كما كنا نلمسها قبل نزول القرآن ادعاء {فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} ولكن لم نستطع الاقتراب منها والقعود للتسمع كما كنا نفعل لأن أبوابها قد أوصدت وعليها حرس قوي بالإضافة إلى أن من يقترب منها يرمى بالشهاب وهو شعلة النار الساطعة. {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} أي وقبل ذلك- وهو قبل نزول القرآن ورسالة الرسول عليه السلام كما كنا نتمكن من الاقتراب من السماء والقعود بجوارها منها وبذلك كما كنا نتمكن من السمع {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} ولكن الآن وبعد أن نزل الوحي بالقرآن فمن يحاول الاقتراب من السماء والسماع لما يدور فيها لا يمكنه ذلك إذ ترقبه الشهب النارية وتنتظره فتصيبه حتماً لو اقترب. وهذا تعبير مجازي قصد منه الحيلولة وعدم التمكن من استراق السمع كما كان يدعي سابقاً"تفسير سورة الجن ص 37.
تفسير ابن عباس لسورة الجن:
أما حبر الأمة فيفسر قوله تعالى {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} بما يؤكد وجود عالم الجن الذي أثبته خالقه وأجمعت الأمة علماؤها ومفسروها عوامها وخواصها سلفها وخلفها على الإِيمان بوجود الجن وبكل ما أخبر الله به عنهم في كتابه الكريم وليرجع من يريد الرجوع إلى تفسير ابن عباس وتفسير الطبري تفسير ابن كثير تفسير الزمخشري، تفسير القرطبي تفسير الجلالين أو تفسير النسفي أو الألوسي الخ التفاسير التي تعد مراجع للمفسرين بل وليرجع من شاء إلى التفاسير التي كتبها المعاصرون ليجد الإِجماع الكامل على الإيمان بما في كتاب الله من الأخبار عن الجن وليجد التصديق الجازم بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم عنهم. وقد فسر ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} بأن القصد أن يقول: قل لكفار مكة، يا محمد: أوحي إليّ أنزل إليّ جبريل فأخبرني {أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} تسعة نفر (من الجن) جن نصيبين باليمن {فَقَالُوا} بعد أن آمنوا ورجعوا إلى قومهم {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} تلاوة قرآن عجيب كريم شريف يشبه كتاب موسى وكانوا أهل توراة {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} إلى الحق والصواب لا إله إلا الله
…
ثم يقول في تفسير قوله تعالى {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ} يتعوذون {بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} بذلك {رَهَقاً} عظمة وتكبراً وفتنة وفساداًَ وذلك أنهم إذا سافروا سفراً واصطادوا صيداً من صيدهم أو نزلوا وادياً خافوا منهم فقالوا:"نعوذ بسيِّد هذا الوادي"من سفهاء قومه فيأمنون بذلك منهم فيزيد رؤساء الجن بذلك عظمة وتكبراً على سفلتهم والجن ثلاثة أجزاء جزء في الهواء وجزء ينزلون ويصعدون حيثما يشاءون وجزء مثل الكلاب والحيات [2] . ثم يقول في تفسير قوله تعالى {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} انتهينا إلى السماء قبل أن آمنا
{فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً} من الملائكة {شَدِيداً} كثيراًَ {وَشُهُباً} نجماًَ مضيئاً يدحرهم عن الاستماع {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا} من السماء {مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} للاستماع قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ} بعد ما بعث محمد صلى الله عليه وسلم {يَجِدْ لَهُ شِهَاباً} نجماً مضيئاً {رَصَداً} من الملائكة يدحرونهم عن الاستماع) تفسير ابن عباس سورة الجن
…
وكيف يكون التعبير في هذه الآية {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ
…
} مجازياًَ قصد منه الحيلولة وعدم التمكن من استراق السمع كما كان يدعي سابقاًَ؟ كيف يكون كذلك وهذا تفسير ابن عباس حبر الأمة ومن بعده المفسرون يقول إن استراق الشياطين للسمع قبل الرسول صلى الله عليه وسلم كان حقاً واقعاً ويؤكد هذا حديث البخاري4/ 135 "إن الملائكة تنزل في العنان وهو السحاب فتذكر الأمر قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم" ومن غير الدكتور قال بهذا التفسير المنحرف؟!
(تفسير القادياني للجن) :
لقد سبق أن أوردنا كلام القرطبي عن إنكار الفلاسفة وبعض أهل الإعتزال للجن وهذه فئة المنكرين قديماً أما فئة المنكرين حديثاً فمنهم الفلاسفة الماديون وطائفة القاديِانية يقول محمد علي اللاهوري القادياني:"والمراد بالجن في قوله تعالى {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} طائفة من البشر اجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في الخفاء وليس المراد به نفوس لا يقع عليها البصر وقد جاءوا من الخارج وكانوا أجانب وغرباء ولذا سموا جناً "بيان القرآن ج 3 ص 6711 (من كتاب القاديانية دراسة وتحليل للشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي مدير ندوة العلماء بالهند وعضو المجلس العلمي العربي بدمشق.
وليس هذا الكلام في حاجة إلى تعليق ولكنني أزيده إيضاحاً ليعرف المسلمون مصادر الدكتور ومراجعه وليدركوا من أين يستقي؟ يقول من يسميه القاديانيون بمولاهم محمد علي اللاهوري:"في قوله تعالى {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} ليس محمولاً على الحقيقة بل هو مبالغة في السرعة وقد كان بإذن العفريت والذي عنده علم من الكتاب مباراة فكان العفريت- وهو الرجل الذي يخوض في أمر بخبث وشده ويوصله إلى الكمال- ممثلاً للقوة البدنية وكان يحتاج إلى وقت أطول في إحضار هذا العرش، وكان صاحب العلم يستطيع أن يكمل مهمته في وقت قصير مع أنه لم يكن على جانب عظيم من القوة والمقصود ترجيح العلم على القوة"بيان القرآن ج 3 ص 416 ا-1417 عن كتاب القاديانية للشيخ أبي الحسن علي الحسن الندوي. وليرجع القاريء إلى تفسير الدكتور لسورة الجن ص 9 وإلى تفسيره لسورة النمل ص 19 وليوازن بين ما نقلناه من تفسير محمد علي اللاهوري وما كتبه الدكتور.
(إنكار عموم رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم تبعاً لإِنكار الجن) :
وإن من المؤسف حقاً أن يجحد الدكتور عموم رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم الإِنس والجن، وأن يدافع بحرارة عن هذا الجحود وكأنه يدافع عن حق! يقول الدكتور:"وإذن بناء على جميع هذه الإفتراضات وهي:
1-
أن عالم الجن مستقل خلق من نار كما خلقت الملائكة من نور وكما خلق الإنسان من طين.
2-
وأن الجنَّ اختبر في طاعته وفى عبادته لحظة أن اختبرت الملائكة، واختبر آدم وحواء، أو بعد هذه اللحظة أو قبلها فظهر: أنه في حاجة إلى هداية إلهية كما اتضحت حاجة الإِنسان إليها.
3-
وأن الجن كلفوا باتباع رسالة من الله لهدايتهم، كما كلف بنو آدم باتباع رسالة الله يأتي بها رسل منهم. وإذن بناء على جميع هذه الإفتراضات فإنَّ الرسول الذي يحمل رسالة الله إليهم، هو منهم، وليس بغريب عن عالمهم أي ليست ملكاً ولا إنساناً، وبالتالي ليس هو محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام" ص 24-25 من تفسير سورة الجن.
أرأيت ما يسميه (بالإفتراضات) 9 وإلى النتيجة التي بناها عليها على (فرض) صحتها؟! يقول الله سبحانه {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً فَآمَنَّا بِهِ} فيقول الدكتور لا ليس هذا موافقاً للمنطق اليوناني وبالتالي فلابد من تأويله ولابد من اعتبار كل خبر يؤكد تكليف الجن ويثبت وجودهم لابد من اعتباره مجرد افتراض! وهل يصح من مسلم أن يعتقد مثل هذا؟!
أصل البلاء: وأصل البلاء الذي تنطلق من ناحيته النكباء هو التفسير بالرأي، هو الإعتداد بالرأي مقابلاً للنصوص بل ومعارضاً لها. يقول ابن تيمية في كتابه (مقدمة في أصول التفسير) :"أما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام حدثنا مؤمل حدثنا سفيان حدثنا عبد الأعلى عن سعيد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار"ص 105. ويقول في صفحة 158:"ولهذا تحرج جماعة من السلف عن تفسير ما لا علم لهم به كما روى شعبة عن سليمان عن عبد الله بن مرة عن أبي معمر قال: قال أبو بكر الصديق: "أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله ما لم أعلم ".
ويقول الدكتور محمد حسين الذهبي: "وإذا أردنا أن نرجع الخطأ في التفسير بالرأي إلى دوافعه وأسبابه أمكننا أن نرد ذلك- في الغالب- إلى عاملين اثنين: العامل الأول أن يعتقد المفسر معنى من المعاني ثم يريد أن يحمل ألفاظ القرآن على ذلك المعنى الذي يعتقده. العامل الثاني أن يفسر القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده بكلامه من كان من الناطقين بلغة العرب وذلك بدون نظر إلى المتكلم بالقرآن، والمنزل عليه، والمخاطب به"الإتجاهات المنحرفة في تفسير القرآن دوافعها ودفعها ص 8 ا-19.
وضرب الدكتور الذهبي للعامل الأول أمثلة نختار منها اثنين:
1-
تفسير ابن عربي للآية {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} يقول ما نصه:"واذكر ربك الذي هو أنت أي اعرف نفسك ولا تنسها فينسك الله"(تفسير ابن عربي 16)(الإتجاهات ص 20) .
2-
تفسير بعض المعتزلة لقوله تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (القيامة: 22-23) يقول (إلى) واحد الآلاء بمعنى النعم فيكون المعنى ناظرة نعمة ربها على التقديم والتأخير وذلك ليصرف الآية عن دلالتها على رؤية الله عز وجل في الآخرة.. (أمالي المرتضى ج 2 ص 28)(الإتجاهات ص ا 2) . وهكذا فعل الدكتور ولسنا في حاجة إلى زيادة التنبيه إلى خطر هذا الإتجاه ويكفى ما تقدم في مناقشة شطحات التفسير الموضوعي ولكني اثبت هنا فتوى ابن تيمية في عموم رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم الإِنس والجن كما أوردها عمر سليمان الأشقر في كتابه (عالم الجن والشياطين) يقول ابن تيمية (مجموع الفتاوى 19/ 9) : "وهذا أصل متفق عليه بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين وسائر طوائف المسلمين أهل السنة والجماعة وغيرهم أجمعين"يدل على ذلك تحدى القرآن الجن والإِنس {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (الإِسراء: 88) . ثم ذكر النفر الذي استمع القرآن وآمن به ونزلت بشأنه سورة الجن وآية الأحقاف. وذكر رواية البخاري ومسلم لقصتهم. ص 44-45 من كتاب الأشقر. ولعل القاريء يعلم بما تحكم به الشريعة في (إنكار الجن) ودونه فتاوى العلماء من أمثال النسفي في تفسير سورة الجن، وابن تيمية في الفتاوى والشيخ أبو بكر الجزائري في (عقيدة المؤمن) وغيرهم من العلماء ولعل القاريء يعلم أيضاً أن إنكار المغيبات هو الإتجاه الذي يدعمه ويعمل على نشره أعداء الإسلام في الماضي وفى الحاضر. يقول عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي في كتابه (الفرق بين الفرق) بعد أن ذكر جملة من دعاوى الباطنية الباطلة في إبطال الشريعة (وقد قال القيرواني في رسالته إلى سليمان بن الحسن:"إني أوصيك بتشكيك الناس في القرآن والتوراة
والزبور والإنجيل وبدعوتهم إلى إبطال الشرائع، وإلى إبطال المعاد والنشور من القبور وإبطال الملائكة في السماء، وإبطال الجن في الأرض، وأوصيك بأن تدعوهم إلى القول بأنه قد كان قبل آدم بشر كثير فإن ذلك عون لك على القول بقدم العالم"ص 296. هذا في القديم وأما في الحديث فقد أوردت فيما سبق قول القاديانية في تفسير مولاهم محمد علي اللاهوري. وإليك ما يورده الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان في كتابه (منظمة الايجا محمد الأمريكية) يقول عن إيمان الإِيجا محمد بالملائكة:"فإن الإيمان بالملائكة لا يتفق ومبادئه الدينية والفلسفية ويزيد هذا المعنى تأكيداً دعواه أن الرسول محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم تلقى القرآن مباشرة من الله" يقول الدكتور عبد الوهاب وفي هذا دلالة واضحة على إنكاره الإِيمان بوجود الملائكة التي تنزل بالوحي من عند الله. ص 72 من الكتاب.
وهل هناك منزلق أشد إهلاكاً من هذا. وكل هذا أدى إليه الإعتداد بالرأي في التفسير.
أسأل الله أن يهدينا صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين. وصلى الله على عبده ورسوله الكريم محمد وعلى آله وصحبه.
من أسباب النصر
خرج الصديق رضي الله عنه يمشي مودعاً جيش يزيد بن أبى سفيان، وهو متوجه للفتح، وكان مما أوصاه به:
- لا تكثرن الكلام فإن بعضه ينسى بعضاً، وأصلح نفسك يصلح الناس لك.
- لا تجعل سرك مع علانيتك فيمزج عملك، وإذا استشرت فأصدق الخبر تُصدق لك المشورة، ولا تكتم المستشار فتُؤُتى من قبل نفسك.
- إذا قدمت عليك رسل عدوك فأكرم منزلتهم، فإنه أول خيرك إليهم، وأقلل حبسهم حتى يخرجوا وهم جاهلون بما عندك، وامنع من قبلك من محادثتهم وكن أنت الذي تلي كلامهم.
- إذا بلغك عن العدو عورة فاكتمها حتى تعانيها، واستر في عسكرك الأخبار، وأذْكِ حرسك وأكثر مفاجأتهم في ليلك ونهارك، واصدق اللقاء إذا لقيت، ولا تجبن فيجبن من سواك
…
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
عقيدة المؤمن. ص هـ0 20
[2]
ثبت ذلك في حديث رواه الطبراني والحاكم والبيهقي بإسناد صحيح (صحيح الجامع 3/ 85) .
آراء فقهيِّة منحَرفة والرَّد عَليهَا
فجأة خرج الدكتور محمد سعاد جلال المؤلف المصري المعروف على الناس ببعض الآراء الفقهية الجديدة التي استطاعت أن تثير الآراء المعارضة بين فقهاء وعلماء الدين في مصر
…
فقد ذهب الدكتور سعاد في حديث منشور بجريدة الأحرار (لسان حزب الأحرار المعارض) إلى أنه للمرأة أن تكشف عن وجهها ويديها وذراعيها أيضاً، كما ذهب إلى أن المبالغة في التحجب ليست من الإسلام وأن المكياج ليس محرماً على المرأة بين العامة وأن رجم الزاني ليس حكماً شرعياً.
يقول الدكتور جابر حمزة مسؤول الإعلام بالأزهر:
كانت المرأة في الجاهلية تظهر بلا حجاب ولا تتسم بالحشمة أو الوقار، فلما جاء الإسلام صان المرأة وحفظ لها كرامتها ففرض الحجاب صيانة لها وحماية من العبث والاعتداء قال تعالى:{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} .
فهذه الآية الكريمة تحدد لنا بوضوح لزوم المرأة بالمكث في بيتها وعدم الخروج إلا لضرورة، كما نهت عن التبرج وإظهار الفتنة والزينة.. وقد نهى الله سبحانه وتعالى بالنص الصريح في القرآن على إظهار الفتنة وإبراز المفاتن، وقد حرم الله ونهى عن أن تضرب برجلها على الأرض حتى لا يسمع الرجال الأجانب رنين خلخالها:{وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنّ} ومن هنا نرى أن المرأة كلها عورة.. ولكن الإسلام دين الحياة أباح للمرأة أن تخرج للعمل عندما تدعو الضرورة لذلك فهي تبيع وتشتري وتتعلم وتشهد أمام القاضي، كما أباح النظر إلى الوجه والكفين عند الخطبة، ومن أجل الزواج- وهذا الاستثناء يدل على أن الأصل هو التحريم، ويقول بعض العلماء بأن تغطية الوجه هو أكثر أجزاء الجسد إثارة
أما بالنسبة للمكياج: فلا يجوز للمرأة بحال من الأحوال! أن تتزين لغير زوجها ومحارمها (كالأب والعم والخال والابن والأخ) .. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم:"أيما امرأة خرجت من بيتها متزينة متعطرة فمرت بقوم من الرجال وأصابهم عطرها فهي زانية.. زانية.. زانية وكل عين تنظر إليها زانية". وبالتالي يكون المكياج في الخارج وفي الشارع وفي الطرقات حراماً ومن أكبر الكبائر.. ثم أقول لهؤلاء الذين ينادون بالتحلل مخالفين رأي الدين بأنهم يتجاوزون حدود الله، وليعلموا بأن عظمة الشعوب لا تظهر في تبرج نسائها وإنما تكمن عظمتها في التمسك بدينها والحفاظ على تقاليدها.
أما تدريس الجنس في المدارس والجامعات: وهو إقحام للشباب وغمس لهم في مجال الشهوة، كما أن فيه إزالة للحياء الذي يجب أن يتحلى به المسلم والمسلمة، وقد أمرنا الإسلام بغض البصر وعدم النظر إلى المرأة الأجنبية! وحرم ذلك حتى لا ينحرف الإنسان إلى أغراء الشيطان، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الشباب ودفعهم إلى الزواج المبكر صيانة لهم عن ارتكاب المنكر أو الوقوع في الفاحشة فقال في الحديث الصحيح""يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " أي صيانة وحصانة- ثم أمرنا الشرع بطاعة الله ودعانا إلى الصلاة التي فرضها علينا والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.. وتدريس الجنس أمام المراهقين والمراهقات أمر خطير لم يرد في كتاب الله وسنة رسول الله، والدعوة إلى تدريس ذلك مثلها كمثل المستجير من الرمضاء بالنار، فهذه دعوة للإباحية والإنحلال، وهبوط إلى درك الحيوانية والبهيمية.
ويرد (الشيخ عطية صقر) على القول بأن رجم الزاني ليس حكماً شرعياً- قائلاً:
الزنى من أكبر الكبائر وأفحش الفواحش وأقبح القبائح لما فيه من معصية الله والخروج عن تعاليم الدين، ولما فيه من انتهاك للحرمات واختلاط للأنساب مما يتنافى مع المجتمع الطاهر السليم، ولقد حرم الله الزنى ووضع له حداً رادعاً.. وقد قسم الإسلام الزاني إلى قسمين (الزاني المحصن والزاني غير المحصن) والمراد بالإحصان هو الزواج وما يترتب عليه، فالزاني المحصن حده الرجم بالحجارة حتى الموت، والزاني غير المحصن حده الجلد مائة جلدة والزاني المحصن حده الرجم بالحجارة حتى الموت كما ورد في السنة الصحيحة وجميع كتب الفقه.. أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزاً والغامدية أمام جمع من أصحابه. وقد روت السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت:"كان فيما نزل من القران: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله.. والله عزيز حكيم.."فهذه الآية نسخت تلاوة وبقيت حكماً، ولعل قائلاً يقول:"كان الأولى أن يأتي في القرآن حكم الزاني المحصن والمحصنة"، والرد على ذلك أن وقوع الزنى يكون من الشباب غير المتزوجين غالباً، والحكم يكون على الكثير الغالب، علماً بأن حد الزنى لا يثبت بسهولة، بل لابد لإثباته بشهود أربعة (شهود عدل) فضلاً عن الشروط الأخرى الموجودة في كتب الفقه..
ويقول الدكتور الحسيني أبو فرحة:
كلام الدكتور سعاد مغالطات، فالنقاب حجاب شرعي لكنه ليس واجباً- أما ستر جميع البدن ما عدا الوجه والكفين فهذا واجب يحرم تركه.. والكلام عن كشف غير الوجه والكفين، فهذه عند الضروريات وبين المحارم فقط وليس في مجال العمل فالإسلام يبيح العمل للمرأة بشرط أن تكون في زي إسلامي وبآداب الإسلام
- وللمرأة أن تتزين في بيتها لزوجها، أما الخروج بالزينة خارج البيت وبين الرجال الأجانب فهذا يحرم شرعاً، لأنها من مثيرات الفتنة، وذلك التحريم ضرورة هامة لصيانة الأعراض.
وبالنسبة للدعوة لتدريس الجنس فإنني أقول إن الإثارة الجنسية حرام، ولكن تدريس الأمور التي وردت في الفقه الإسلامي كوجوبات الغسل أو غيرها فهي جائزة بل وضرورة ويتعلمها الطالب في الأزهر من سن صغير.
ويقول الدكتور (جمال الدين محمود) أمين المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية:
هذا الذي يثار رغم اختلافي معه ليس وقته الآن، بل إنني اعتبره عندما يأتي من عالم كبير تمييعاًَ لقضايا المسلمين والعالم الإسلامي في حاجة إلى وعي أكبر في كل ما يحيط العالم الإسلامي من مخاطر ونكبات مثل الذي يحدث في أفغانستان والعراق وإيران وطلب أماكن أخرى كثيرة تهدد وحدة العالم الإسلامي، وحمايته من المخاطر التي تتهدده هي القضية الكبرى التي يجب أن نقف عندها جميعاً.
ويقول الدكتور (الطيب النجار) رئيس جامعة الأزهر:
"لقد أفتى الدكتور (سعاد) فتوى باطلة، فالمرأة لا يجوز لها أن تكشف إلا الكفين والوجه، وهذا تطبيقاً لقوله الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ترويه السيدة عائشة رضي الله عنها: "إذا بلغت المرأة المحيض لا يصح أن يري منها إلا هذا وذاك"وأشار إلى الوجه والكفين والآية الكريمة تقول {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنّ} وأما الأذرع والسيقان فهي عورة يجب أن تستر بالنسبة للمرأة ".
وبالنسبة (للمكياج) يقول الدكتور الطيب النجار:
"المكياج نوع من الزينة والله عز وجل قال {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ..} إلى أخر الآية الكريمة. وفي هذه الآية يذكر الله إنه لا تبدي الزينة إلا للمقربين للمرأة (وهم الآباء والأبناء والإخوة والأخوات) وهكذا.. أما من يحل له زواج المرأة وهم سائر الأجانب فيحرم إبداء الزينة لهم ".
- وعن قول الدكتور (محمد سعاد جلال) إن رجم الزاني المحصن ليس حكماً شرعياً- يقول الدكتور الطيب النجار:
"هذا افتراء لا موضع له من الدين لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد رجم رجلاًَ يدعى (ماعزاً) لأنه اعترف بجريمة الزنا، وكذلك رُجمت امرأة لأنها اعترفت بجريمة الزنا.. وهذا قاطع في أن الرجم بالنسبة للمرأة المحصنة والرجل المحصن حكم شرعي أوجبه الله
…
"
التحرير: عجباً لأولئك الذين ينتسبون إلى العلم، ويتصدون للفتوى، وهم علماء ضلال وسوء وهؤلاء هم الأئمة المضلون الذين خاف على أمته منهم- الذين اتخذوا إلههم هواهم {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ الله عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ الله} (الجاثية) .
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك- وأختم لنا بخاتمة إيمان.
عُلومُ المادة في خدمَة الدِّين
د. أبو الوفاء عبد الآخر
صيدلي كيمائي
أود أن أقرر قاعدة علمية هي: خصائص المكونات لا تذوب في خليط الأطعمة والمشروبات، ويظل النجس بحالته كما يظلل الطاهر بحالته كذلك.
وقد اطلعت على سؤال منشور بصحيفة الأهرام القاهرية الصادرة بتاريخ17/12/1982م تحت عنوان: ما رأي الدين في الأطعمة والمشروبات التي تلحقها مواد محرمة؟ ووجدت إجابته كما يلي: "إذا أضيفت بعض المواد المحرمة إلى المأكولات أو المشروبات أو العطور بشكل تذوب فيه خصائص هذه المادة المحرمة فإن الأشياء المضافة إليها هذه المادة تحتفظ بطهارتها وحلها، بل إنها تحول النجاسة في المادة المحرمة إلى طهور على مذهب الإمام أبى حنيفة، لأن التحول عنده وسيلة من وسائل التطهير. وعلى ذلك يحكم بطهارة الصابون إذا أضيفت إليه مادة غير طاهرة، وكذلك السمن الصناعي، وبعض أنواع الحلوى وكذلك الجبن المعقود بمادة محرمة، أو العجين الذي يخمر بإضافة خميرة البيرة وما يشبهها، والعطور التي يدخل فيها الكحول.. فإن التحول الذي يذيب خصائص الشيء المحرم يجعله طاهراً، وكذلك الحال إذا تحولت الخمر إلى خل فيصير الخل حلالاًَ ". هذا هو السؤال وهذا هو جوابه.
وإني أعرض قدراً من المعلومات التي يمكن الاستئناس بها عندما نريد التعرف على رأي الدين فيما ورد من التساؤل، وفيما يشابهه حيث يكون لعلوم المادة دور في الإيضاح. ويا حبذا لو أن مثل هذه الأقضية والمشكلات، شارك في دراستها مع علماء الدين- علماء الماديات من صيادلة وكيميائيين وغيرهم من أصحاب التخصصات المناسبة، حتى يقوموا بوضع المعلومات العلمية أمام رجال الدين لمساعدتهم على إصدار الفتاوى والأحكام الشرعية في مثل هذه التساؤلات.
أولاً: معلومات من علوم الكيمياء:
عند إضافة المواد بعضها إلى بعض فإنها تخضع لواحدة من حالتين:-
(1)
الخلط: وفيه تتداخل أجزاء مادة في مادة أخرى فيتكون: الخليط أو المستحلب أو المحلول. الخ وتظل كل مادة محتفظة بصفاتها الطبيعية والكيمائية، وبآثارها داخل الجسم الإنساني، كما أنها تمر داخل الجسم بعمليات التمثيل الغذائي كما لو كانت غير مختلطة بغيرها من المواد. وذلك بصرف النظر عماً يصبح عليه الخليط من صفات طبيعية مشتركة لوناً أو طعماً أو رائحةً أو مذاقاً.. الخ. هي محصلة الصفات الطبيعية للمكونات نفسها. والأمثلة على ذلك: خليط الملح والسكر، خليط شحم الخنزير، ودهن البقر، خليط الكحول والزيوت العطرية، خليط الدقيق وشحم الخنزير. فلا تحول يحدث لهذه المواد في الخليط، ولا تذوب خصائصها ويظل النجس بحالته والطاهر بحالته، ويظل الحرام بحالته والحلال بحالته.
أما إذا كان المعنى المقصود بالتحول وذوبان الصفات هو ما يطرأ على المادة النجسة من تغيير في صفاته الطبيعية من لون وطعم ورائحة وقوام عند إضافتها إلى مواد أخرى أو إضافة مواد إليها، فإن ذلك يؤدي إلى تعطيل أوامر التحريم وأحكام النجاسة، ويفتح الباب على مصراعيه أمام استعماله المواد النجسة أو الحرام ولو في خليط تكون فيه المواد النجسة أكثر من المواد الطاهرة، فما من مادة تخلط بمادة أخرى إلا ويطرأ على كلا المادتين تغييرات في الصفات الطبيعية تجعلها مختلفة عن المادة الأصلية المنفردة. فشحم الخنزير يختلف عن شحم الخنزير مخلوطاً بشحوم أخرى، كما أن شحم الخنزير بمفرده يختلف عن شحم الخنزير إذا أضيفت إليه مواد مكسبة للطعم أو الرائحة أو اللون. ومن السهل تغيير الصفات الطبيعية للحم الخنزير به وإخفاء لحم الخنزير تماماً وذلك بفرمه وخلطه بأطعمة ومواد أخرى وبلحوم أخرى وتقديمه باسم (لحم الخنزير) أو تحت أي اسم آخر معروف أنه لطعام يحتوي على لحم الخنزير فلو أننا أخذنا بالمعنى السابق للتحول وذوبان الصفات، لجاز للمسلمين أن يأكلوا لحم الخنزير، وشحم الخنزير، وكل حرام بهذه الحالات المقنعة، ولما بقي عليهم محرماً إلا لحم الخنزير أو شحم الخنزير أو الميتة بحالتها المفردة، وهي حالة يمكن الاستغناء عنها، وبهذا يتعطل تحريم أكل النجاسات والمحرمات، ويصبح أكلها ممكناً ومباحاً بهذه الصور المقنعة باسم التحول وإذابة الصفات بالمفهوم المطلق المذكور سابقاً.
(2)
التفاعل: وفيه تتفاعل المواد مع بعضها تفاعلاً كيميائياً مما يترتب عليه تحول هذه المواد، وتكوين مواد أخرى لها صفات تختلف بدرجات متفاوتة عن المواد الأصلية. وفي هذه الحالة تذوب خصائص المكونات الأصلية، والأمثلة على ذلك: تفاعل المعادن والقلويات مع الأحماض لتكوين الأملاح وتحول المادة إلى مادة أخرى تختلف عنها في الصفات كتحول (الكحول إلى خل) . وفي (الكيمياء العضوية) نجد تحضير المواد بعضها من بعض يكون عن طريق التحويل، إما بتحويل جزيئات المادة إلى جزيئات أكبر لتكوين مادة جديدة ذلك عن طريق ما يعرف (بالتشييد الكيميائي) أو العكس وذلك عن طريق ما يعرف (بالتحليل) إلى غير ذلك من طرق التحويل المعروفة في علوم الكيمياء العضوية.
ثانياً: معلومات في الصناعة والإنتاج:
وفي مجال الصناعة والإنتاج، ومن خلال المنظور الإسلامي، نجد تجهيز الأطعمة. والمشروبات وما يستعمله الإنسان في معاشه، يخضع لواحدة من الحالات التالية:
(1)
- تجهيزات تبدأ بمواد حلال وتنتهي بمواد حلال: والأمثلة على ذلك:
1-
تحويل (عصير العنب) غير المتخمر إلى شراب العنب (الطلاء) الخالي من الحرام.
2-
تحويل (عصير القصب) إلى العسل الأسود، أو سكر القصب.
3-
تحويل (اللبن) بواسطة (الأنفحة)[1] الحلال إلى (الجبن) .
4-
تحويل (العجين) بواسطة (الخميرة) التي هي مجرد نباتات فطرية إلى (خبز) .
(2)
تجهيزات تبدأ بمواد حلال وتنتهي بمواد حرام: كما هو الحالة في عمليات (التخمير الكحولي) التي تبدأ بالأطعمة الحلال والمشروبات الحلال، وتنتهي بالمشروبات الحرام (الخمر) .
(3)
تجهيزات تبدأ بمواد حرام وتنتهي بمواد حلال: كما هو حاصل في تحويل (الخمر) إلى (خل) وتحويل (عصير العنب) إلى (شراب العنب) الخالي من الخمر.
(4)
تجهيزات تبدأ بمواد حرام وتنتهي بمواد حرام: كتقطير (الخمر) الأقل قوة للحصول على (الخمر) الأكثر قوة.
(5)
تجهيزات تبدأ بمواد حلال ومواد حرام وتنتهي بهما معاً: والأمثلة على ذلك:
1-
تجهيز بعض أنواع السمن الصناعي، بإضافة دهن البقر (الحلال) إلى شحم الخنزير (الحرام) .
2-
تجهيز بعض أنواع الحلوى والفطائر وذلك باستخدام المواد الحلال كالدقيق والسكر مع شحم الخنزير الحرام.
3-
الفطائر المضاف إليها (الخمر) والشكولاته المحشوة (بالخمر) .
4-
الزيوت العطرية الحلال المخلوطة (بالكحول) روح الخمر النجس، وذلك لتجهيز بعض مستحضرات التجميل ومن أشهرها ما يسمى (بالكلونيا) .
5-
عصائر الفواكه (الحلال) يضاف إليها (الخمر) الحرام. لتجهيز خليط منهما.
(6)
– تجهيزات تبدأ بمواد حرام ومواد حلال وتنتهي بمواد حلال: كما يحدث في صناعة بعض المواد الطبية، حيث يستخدم (الكحولي) الحرام لاستخلاص المواد الفعالة من النباتات الطبية، ثم يطرد (الكحول) تماماً من الخليط للحصول على (خلاصة جافة) أو (مواد فعالة) خالية من الكحول.
ومما سبق ذكره من حالات التجهيزات الست ننتهي إلى ما يلي:
الحالة الأولى: تجهيزاتها حلال، وهي تمثل الجزء الأكبر من التجهيزات الست.
الحالة الثانية: تجهيزاتها حرام.
الحالة الثالثة: تحكمنا فيها أحاديث صحيحة وآثار صحيحة:
فمن الأحاديث الصحيحة: عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال:" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر:"أتتخذ خلاً؟ " قال: " لا " أخرجه مسلم والترمذي وهذا الحديث رواه أيضاً أحمد وأبو داود.
ومن الآثار الصحيحة والتي تعتبر أثاراً مطلقة: جاء رجل إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فسأله عن العصير؟ فقال:"اشربه ما كان طرياً ". قال:"إني أطبخه وفي نفسي منه شيء"قال:"أكنت شاربه قبل أن يطبخ؟ "قال:" لا "، قال:"فإن النار لا تحل شيئاً قد حُرِّمَ ".
الحالة الرابعة: تجهيزاتها حرام.
الحالة الخامسة: تجهيزاتها حرام حيث أن المواد الحرام تظل كما هي محتفظة بخواصها دون تحول، كما لا تذوب خصائصها وتظل نجاستها قائمة.
الحالة السادسة: تجهيزاتها بها شبهة، ويمكن قياسها على الحالة الثالثة.
ثالثاً: العلوم المادية من المنظور الإسلامي:
يوجد بالقرآن الكريم وبالأحاديث النبوية والآثار، كثير من اللطائف والدقائق والحقائق والتوجيهات العلمية التي يجب البحث عنها والوقوف عليها والإستفادة منها والعمل بها وتطبيقها على أمور الحياة ومتطلباتها. ولقد وضحت الحقائق لسلفنا الصالح من فقهاء الأمة الإسلامية وعلمائها الذين عنوا بأمور الأبدان ومطالب العيش كالإمام ابن القيم رحمه الله وغيره، وذلك لاستنارتهم بنور الإيمان وهدي النبوة. وفيما يلي نعرض بعض الأمثلة لنبين أسلوب البحث والإستنباط الذي يمكن به الحصول- من القرآن الكريم والسنة المشرفة- على الفوائد في مجال علوم المادة وفي مجال الصناعة والإنتاج.
مثال: (الخل) :
(1)
لقد وردت الأحاديث الصحيحة التي تحرم اتخاذ الخل من الخمر- ومنها الحديث السابق ذكره.
(2)
وردت أحاديث صحيحة تفيد بأن رسول الله عليه الصلاة والسلام كان يأكل الخل ويقول عنه: "نعم الإدام الخل".
وبالنظر إلى هذه الأحاديث نرى أننا كمسلمين أمام (أسلوب إنتاج حرام) وهو تحويل (الخمر الحرام إلى خل) . كما أننا أمام إنتاج حلال وهو (الخل) الذي يأكله الرسول عليه الصلاة والسلام وصحابته رضي الله عنهم. فإذا كان تخليل (الخمر) حراماً، فمن أين يكون (الخل) الحلال؟ وبالدراسة المتكاملة للأحاديث وبفقهها يجئ الجواب الذي ينبني عليه العمل الحلال كالآتي:
(1)
إن الخل الحلال تكون صناعته من (عصير العنب) الطازج غير المتخمر والذي يكون حلالاً، وذلك كنقطة ابتداء في الصناعة، ليمر بمراحل التحول وينتهي إلى (الخل) الذي يكون (خلاً) حلالاً.
(2)
ما بين نقطة البدء بالخامات الطاهرة الحلال، ونقطة النهاية الحلال بإنتاج المواد الطاهرة والمطلوبة من عملية التصنيع، تمر الخامات بمراحل تحول مختلفة قد تتولد أحياناً عنها مواد نجسة مرحلية لا يكون لها وجود في المادة المنتجة في نهاية التصنيع، كما أنها لا تكون مقصودة في الصناعة، كما يحدث لعصير العنب (الحلال) عند صناعة (الخل) الحلال فهو يمر بمراحل التخمر وتكوين الخمر، قبل أن يصل إلى الإنتاج النهائي المطلوب وهو (الخل) .
ومفاد ذلك أن النواتج المرحلية بين البدء الحلال، والنهاية الحلال، حتى ولو كانت حراماً، فلا ينظر إلى حكمها الشرعي، وتترك لتسير في دورتها الإنتاجية لتعطى الحلال من الأشياء.
ومن هذا الذي ذكرناه على ضوء فقه الأحاديث التي استعرضناها نخرج بالقواعد الصناعية التالية:
(1)
إذا أردنا إنتاج شيء حلال فعلينا أن نبدأ بالخامات الحلال الطاهرة.
(2)
أن يكون الإنتاج النهائي خالياً من كل محرم.
(3)
موقفنا من الحلال والحرام في الصناعة يكون حال نقطة البداية. كما يكون حال نقطة النهاية، أي حال الحصول على الشيء المطلوب. وما يجري بين البداية الحلال والنهاية الحلال من تحول وتغيير يطرأ على الخامات الطاهرة. يكون في حكم (الإكراه الصناعي) الذي لا نرغب فيه، ولا دخل لنا فيه
رابعاً: أقيسة يجب الاستئناس فيها برأي علماء المادة المسلمين:
هناك حالات من القياس! الفقهي تحتاج إلى معرفة قدر من المعلومات الواردة في علوم المادة، كعلوم الكيمياء والصيدلة والطب.. الخ. ولهذا فمن الصواب أن يستأنس رجال الدين برأي علماء المادة المسلمين في مثل هذه الأقيسة عند إصدار الفتاوى والأحكام الشرعية. فعلماء المادة هم المتخصصون في دراسة صفات المواد. واحتياج الإنسان إليها طعاماً وشراباً وعلاجاً، وهم الدارسون لطرق تجهيزها وصور استعمالها وأغراضه. إلى آخر هذه الدراسات المادية. فالتعاون إذن واجب بين الفقهاء وعلماء المادة وتضافر الجهود بينهم فيه الصواب والخير للأمة الإسلامية.
والقول- مثلاً- بأن التحول يذيب خصائص الشيء المحرم ليصبح طاهراً وحلالاً يحتاج إلى رأي علماء المادة لمعرفة طبيعة التحول في المواد وطرقها وأنواعها.. الخ.
والقول- مثلاً- بأن المائعات النجسة التي تضاف إلى الأدوية والروائح العطرية لإصلاحها يعفى عن القدر الذي به الإصلاح قياساً على (الأنفحة) المصلحة (للجبن) هو قول يحتاج إلى مراجعة على ضوء، المعارف العلمية كالآتي:
معروف أن (الأنفخة) تأتي من حيوانات مأكول لحمها بعد تذكيتها الشرعية وهي جزء من أجزاء الحيوان (كالمرارة) وبقياس طهارتها على طهارة مرارة الحيوان. تكون طاهرة. وهي جزء من الحيوان المذكى تابع له في طهارته (والجبن) في تجهيزه إنما يصلح بهذه (الأنفحة) الطاهرة التي تضاف إلى (الجبن) الطاهر الحلال إذن فالعفو عن المائعات النجسة التي تضاف إلى الأدوية وإلى الروائح العطرية (كالكحول) مثلاً- بالقدر الذي يلزم لإصلاحها. قياساً على (الأنفخة) المصلحة (للجبن) قياس غير صحيح على ضوء المعارف (العلمية) ، ويكون استخدام هذه المائعات هو استخدام لنجاسات مغلظة ما لم تكن هناك ضرورة يبينها ويحددها علماء المادة من المسلمين المشهود لهم بالعلم والصلاح
خامساً: درجة الحرمة والنجاسة للخمر ولحم الخنزير:
الخمر: هي أم الكبائر. وهي نجسة لذاتها كما قرر الفقهاء. وهي الرجس، وهي داء وليست دواء. ولقد وردت فيها نصوص القران الكريم (بالإجتناب) الذي هو أشمل من تحريم تعاطيها. كما وردت في تحريمها والتنفير من استعمالها ولو بقصد التداوي عشرات الأحاديث الصحيحة.
وهي نجسة نجاسة مغلظة، حتى أن (الأحناف) قالوا: بنجاسة سؤر شارب الخمر إذا شرب من الماء عقب شرب الخمر مباشرة فإذا كان هذا هو الحال بالنسبة للماء الذي مصدره سؤر شارب الخمر. فناهيك عن الخمر نفسه نجاسة ورجساً، وناهيك عن نجاسة (الكحول) الذي هو المادة الأساسية في الخمر، والذي أصبحت تسمى باسمه الخمور (مشروبات كحولية) وهو الذي عمت البلوى باستعماله على شكل مستحضرات للتطيب والتزين، ومنها المستحضر المعروف في الصيدلة (بماء الكولونيا) وهو في الحقيقة (خمر معطر) نجس لوجود الكحول النجس كمادة أساسية فيه، بل هو المادة الغالبة بالمستحضر.
لحم الخنزير: والمراد لحمه وعظمه ودهنه كما قرر الفقهاء. فهو أيضاً حرام بنص آيات القرآن الكريم، وهو نجس، بل إن الخنزير كله نجس لذاته نجاسة عينية. ولعابه نجس وإذا سقط في الماء نجَّسه. بل إنه إذا سقط في بئر نجس ماء البئر ووجب نزح البئر ليصبح ماؤها طاهراً. فإذا أضيف شحم الخنزير إلى شحوم حيوانات أخرى كلحم البقر الحلال لصناعة بعض أنواع المسلى الصناعي فإن الخليط منهما يكون نجساً وحراماً لوجود شحم الخنزير في هذا الخليط دون تحول. خلافاً لما يظن بعضهم ويقولون:"بتحوله وذوبان خواصه في الخليط يصبح طاهراً رغم وجود المواد النجسة فيه".
وبعد
…
فهذا ما رأيت من الواجب بيانه وعرضه
…
وبالله التوفيق
…
معنى العلاقة بالله
المراد بعلاقة الإنسان بالله، على حسب بيان القرآن الكريم، أن تكون حياته ومماته وصلاته ونُسُكُهُ لله تعالى وحده {قُلْ إنّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي للِّه رَبِّ الْعَاَلمِين} وأن يعبده مخلصاً له الدين حنيفاً.
وقد شرح النبي صلى الله عليه وسلم في عدة من أقواله هذه العلاقة بين العبد وربه بحيث لم يترك غباراً على مفهومها، فإذا تتبعنا أقواله، عليه الصلاة والسلام، علمنا أن معنى العلاقة بالله:(خشية الله في السر والعلانية) و (أن تكون بما في يدي الله أوثق منك بما في يديك) . و (أن تلتمس رضا الله بسخط الناس) خلافاً لأن تلتمس رضا الناس بسخط الله. ثم إن هذه العلاقة إذا توثقت حتى يكون حب الإنسان وعداوته ومنعه وعطاؤه كله لله وحده دون أن تشوبه شائبة من رغبته أو نفرته النفسانية، فمعنى ذلك أنه قد استكمل علاقته بالله (من أحب لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان) .
ثم عليكم أن تستحضروا في كل وقت من أوقاتكم دعاءكم الذي تدعون به كل ليلة في آخر ركعة من صلاتكم الوتر، أفلا تقولون:(اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ونؤمن بك ونتوكل عليك ونثنى عليك الخير كله، نشكرك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك. اللهم إياك نعبد ولك نصلى ونسجد. وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق) عليكم أن تتدبروا كلمات هذا الدعاء وتروا أي علاقة تقرون بإبرامها بينكم وبين الله في كل ليلة من لياليكم.
وقد انعكست صورة هذه العلاقة أيضاً في ذلك الدعاء الذي كان يدعو به النبي الكريم صلى الله عليه وسلم إذا قام يصلي بالليل. فكان عليه الصلاة والسلام يقول في هذا الدعاء مخاطباًَ ربه جل وعلا:"اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت واليك حاكمت ".
(أبو الأعلى المودودي)
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
(الأنفحة) تحضر من (بطانة معدة) الحيوانات كالعجل أو الجمل أو الجدي وذلك بنقعها في الماء الذي يستخلص (مادة تذويب اللبن) وهى خميرة (Enzyme) تسمى (رينين)(Rannin) كما توجد هذه المادة في بعض النباتات غير الخميرة أنزيمات تسمى (زيميزيز)(Zymases) وتوجد في بعض الخمائر (Yeast) وهى من الفطريات (Fungr) ومنها تتكون (خميرة الخبز) المعروض في الأسواق وكذلك (مسحوق الخميرة) المحتوى على النشا والخميرة.
حُكمُ الإِحدَادِ عَلى الملُوك والزعماء
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء
والدعوة والإرشاد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه أما بعد:-
فقد جرت عادة الكثير من الدول الإسلامية في هذا العصر بالأمر بالإحداد على من يموت من الملوك والزعماء لمدة ثلاثة أيام أو أقل أو أكثر مع تعطيل الدوائر الحكومية وتنكيس الأعلام.
ولا شك أن هذا العمل مخالف للشريعة المحمدية وفيه تشبه بأعداء الإسلام وقد جاءت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عن الإحداد وتحذر منه إلا في حق الزوجة فإنها تحد على زوجها أربعة اشهر وعشراً كما جاءت الرخصة عنه صلى الله عليه وسلم للمرأة خاصة أن تحد على قريبها ثلاثة أيام فأقل. أما ما سوى ذلك من الإحداد فهو ممنوع شرعاً وليس في الشريعة الكاملة ما يجيزه على ملك أو زعيم أو غيرهما.
وقد مات في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ابنه إبراهيم وبناته الثلاث وأعيان آخرون فلم يحد عليهم عليه الصلاة والسلام. وقتل في زمانه أمراء جيش مؤته زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحه رضي الله عنهم، فلم يحد عليهم. ثم توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو أشرف الخلق وأفضل الأنبياء وسيد ولد آدم والمصيبة بموته أعظم المصايب، ولم يحد عليه الصحابة رضي الله عنهم. ثم مات أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو أفضل الصحابة وأشرف الخلق بعد الأنبياء لم يحدوا عليه. ثم قتل عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. وهم أفضل الخلق بعد الأنبياء، وبعد أبي بكر الصديق، فلم يحدوا عليهم وهكذا مات الصحابة جميعاً. فلم يحد عليهم التابعون. وهكذا مات أئمة الإسلام وأئمة الهدى من علماء التابعين ومن بعدهم كسعيد بن المسيب، وعلي بن الحسين زين العابدين، وابنه محمد بن علي. وعمر بن عبد العزيز، والزهري، والإمام أبي حنيفة، وصاحبيه، والإمام مالك بن آنس، والأوزاعي، والثوري، والإمام الشافعي، والإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق ابن راهوية، وغيرهم من أئمة العلم والهدى فلم يحد عليهم المسلمون. ولو كان خيراً لكان السلف الصالح إليه أسبق والخير كله في أتباعهم والشر كله في مخالفتهم.
وقد دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أسلفنا ذكرها على أن ما فعله سلفنا الصالح من ترك الإحداد على غير الأزواج هو الحق والصواب. وأن ما يفعله الناس اليوم من الإحداد على الملوك والزعماء أمر مخالف للشريعة المطهرة مع ما يترتب عليه من الأضرار الكثيرة وتعطيل المصالح والتشبه بأعداء الإسلام.
وبذلك يعلم بأن الواجب على قادة المسلمين وأعيانهم ترك هذا الإحداد والسير على نهج سلفنا الصالح من الصحابة ومن سلك سبيلهم، والواجب على أهل العلم تنبيه الناس على ذلك وإعلامهم به أداء لواجب النصيحة، وتعاوناً على البر والتقوى. ولما أوجب الله سبحانه من النصيحة لله ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولائمة المسلمين وعامتهم رأيت تحرير هذه الكلمة الموجزة.
وأسأل الله عز وجل أن يوفق قادة المسلمين وعامتهم لكل ما فيه رضاه والتمسك بشريعته والحذر مما خالفها، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعاًَ إنه سميع الدعاء قريب الإجابة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وأصحابه
…
كتاب عنوانه
المسلمون في الاتحاد السوفيتي
ألفه فضيلة الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الأستاذ: محمد صفوت السقا، شمل حقائق هامة عن المسلمين في الإتحاد السوفيتي يهم كل مسلم معرفتها، ليقف على وضع المسلمين وما يلاقون من عنت في تلك الديار، وليفكر في الوسائل التي يمكن أن ينقذ بها هؤلاء الإخوة المستضعفين.
وقد صدر الكتاب المذكور ضمن مطبوعات رابطة العالم الإسلامي، ويقع، في 94 صفحة بالحجم المتوسط.
ومن الحقائق التي شملها هذا الكتاب ما يأتي:
نظرة واحدة إلى الواقع في جميع أبعاده. على خريطة الجمهوريات الست المسلمة بين جمهوريات الإتحاد السوفيتي تؤكد ما نريده في عرضنا هذا:-
ففي عام 1939 كان مجموع الجمهوريات الست (
…
ر 844 ر19) نسمة كان بينهم حوالي (
…
ر766 ر14) مسلم، و (000ر078ر5) من غير المسلمين. وفي عام 1971 صار عدد سكان الجمهوريات الست (000ر812ر38) نسمة. من بينهم (000ر000ر110ر26) مسلم، و (000ر702ر12) من غير المسلمين، فإذا اعتبرنا زيادة غير المسلمين الطبيعية يكون عدد من هاجر إلى الأراضي الإسلامية بين عام (1939- 1971) هو (000ر700ر5) شخصاً مع أولادهم وأسرهم، وهذا رقم هائل. ويعطينا نظرة مبسطة على محنة المسلمين في تلك المناطق، ولولا ازديادهم الطبيعي لصاروا أقليات ضئيلة في أكثر من جمهورية. بل في شتى الجمهوريات. وتعمل الشيوعية جاهدة على إزكاء النعرة القومية، فجريدة (البرافدا) تطبع باللهجات المحلية لكل جمهورية وتوزع. كما أن التدريس باللغة الروسية واللهجات القومية إلا العربية. فمحاربتها تأتي بهذا الطريق ولا يعرف الجيل الجديد تلك اللغة باستثناء أعداد ضئيلة منهم تقدر بالمئات.
والتشكيلات الإدارية للشؤون الإسلامية في الإتحاد السوفيتي تعتبر هذا التنظيم تنظيماً شعبياً، وهذا التنظيم مرتبطة إدارياً بوزارة الأديان (ومقرها موسكو) ويمثل هذا التنظيم سماحة المفتي الشيخ ضياء الدين بابا خانوف، أما باقي المفتيين فيمثلهم مفوض من مجلس السوفيات وفي كل جمهورية، وممثل عن وزارة الأديان، كما أن هناك ممثلاً مقيماً في موسكو هو الأستاذ الحاج أكبر أعظم وهو الذي يقوم باستقبال المسلمين من غير الإتحاد السوفيتي.
وهو من أبناء تركستان، وتوجد الآن أربع إدارات للمسلمين في الإتحاد السوفيتي، وإحدى الإدارات الدينية لمسلمي آسيا الوسطى وقازخستان ومركزها (طشقند) ويرأسها المفتي (ضياء الدين باباخانوف) وتضم الجمهوريات التالية:-
1-
أوزبكستان وعاصمتها (طشقند) ويقدر عدد المسلمين فيها بحوالي 11 مليون نسمة.
3-
طاجكستان وعاصمتها (دوشانبيه) ويقدر عدد المسلمين فيها بحوالي 5 ملايين نسمة.
3-
قيرغيزيستان وعاصمتها (فرونزي) ويقدر عدد المسلمين فيها بحوالي 5 ملايين.
4-
تركستان وعاصمتها (تشخيط) ويقدر عدد المسلمين فيها بحوالي 5 ملايين.
5-
قازخستان وعاصمتها (الماءتا) ويقدر عدد المسلمين فيها بحوالي 12 مليوناً.
ويتولى الشؤون الدينية في كل منها القاضي، وهو مسؤول أمام المفتي، ويوجد في هذه الإدارة نائب للمفتي.
ويرى المؤلف في كتابه الممتاز حقيقة- والذي يجب أن يدرسه كل من يحاول أن يكتب عن الأقليات المسلمة في الإتحاد السوفيتي كوثيقة يعتمد عليها. إن من المهم بذل المزيد من الاهتمام بهؤلاء الإخوة الخاضعين لنظام الحكم الشيوعي، وقد يكون مفيداً بادي ذي بدء إلى الاهتمام بالأمور التالية:-
1-
عدم تجاهل مسلمي الإتحاد السوفيتي في سائر المؤتمرات الإسلامية.
2-
اختيار عضو منهم لتمثيلهم في المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي.
2-
إعطاؤهم منحاً جامعية في المملكة العربية السعودية وبقية البلدان العربية والإسلامية.
4-
تشجيعهم على نشر التراث الإسلامي بكل الوسائل الممكنة..
5-
مدهم بإعداد وفيرة من مصاحف القران الكريم.
6-
تزويدهم بكتب السيرة النبوية ومختلف الكتب الأمهات للمذهب الحنفي.
7-
تبادل الزيارات بينهم وبين مسلمي البلاد العربية والإسلامية..
8-
تزويدهم بالدوريات الإسلامية من بينها على سبيل المثال لا الحصر مجلة التضامن الإسلامي- مجلة رسالة المسجد- مجلة الدعوة، مجلة الأمة القطرية، مجلة (المسلمون) مجلة الجامعة الإسلامية..
9-
استضافة وفد سنوي من علماء مسلمي الإتحاد لتأدية فريضة الحج المقدسة.
(التحرير)
من خصائص الصيام في شهر رمضان
من خصائص الصيام: أن للصائم فيه فرحتين (فرحة عند الإفطار) لإزالة الجوع وإتمام العبادة.. (وفرحة يوم القيامة) .. رجاء ثواب الله تعالى
…
ومنها أن الإخلاص في الصيام يغفر الذنوب. فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من صام رمضان إيماناً واحتساباً. غفر له ما تقدم من ذنبه".
(رواه البخاري) .
ومنها أنه شهر التقوى والرحمة: جاء في الحديث الشريف:"إذا جاء رمضان فتحت أبواب السماء وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين".
وفي رواية للإمام مسلم: " فتحت أبواب الرحمة وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين".
فوائد عسل النحل
.. يقدم نحل العسل خدمات جليلة للإنسان حيث يضع الشهد..
الذي يعتبر من أجود وأشهى الأطعمة وأسهلها هضماً وامتصاصاً، ويدخل في صناعة كثير من الأدوية، ففيه الغذاء ومنه الدواء وبالنظر إلى خواصه الكيميائية فإن العسل يحتوي على حوالي 38% سكر فركتوز وحوالي 31% سكر جلوكوز.. وهي سكريات آحدية سهلة التمثيل وإعطاء الطاقة اللازمة للجسم حيث يستفيد بها في مجالاتها المختلفة بصورة سهلة غير مرهقة للكبد..
ومن العناصر المعدنية الهامة الموجودة في العسل الفسفور، والكالسيوم، والبوتاسيوم. والكبريت، وغيرها.. وكذلك يحتوي العسل على نسبة من البروتينيات متمثلة في حبوب اللقاح الموجودة به والتي تحتوي على كثير من الفيتامينات..
كما يتم تحويل السكريات الثنائية إلى سكريات آحادية
ومن هنا فان العسل يجب أن يكون الغذاء المفضل للأطفال في معظم حياتهم. حيث أنه يفيد في حالات نقص التغذية. والأنيميا، والاضطرابات المعوية. وقد وجد أنه يفيد في حالات عسر الهضم. وحالات الإمساك، وفي حالات الحساسية. بالإضافة إلى أنه يقوي الذاكرة، ويفيد في التئام الجروح السطحية، حيث أن دهان الجروح البكتيريا يساعد على شفائها بسرعة.
ويجب أن تحلى السوائل التي يتناولها الأطفال بالعسل، وبذلك تصبح ذات قيمة غذائية عالية..
وهناك نصيحة هامة يجب أن تراعيها الأم عند تقديم العسل المتبلور أي المسكر أو المتجمد وهي أن تقدمه بصورته المتبلورة إلى المادة الغذائية المراد تقديمها إلى الطفل، ولا تحوله إلى عسل سائل مرة أخرى بالتسخين كما يفعل بعضهم باستخدام حمام مائي، ولان ذلك يتلف مكونات العسل، ومنها الإنزيمات، والفيتامينات، وبذلك يستفاد كثيراً من قيمته الغذائية
…
تاريخ مجيد لخلاوي القرآن في السودان
قال الله، تعالى:
خلوة القران الكريم هي المكان الذي يتلقى فيه الكبار والصغار مبادئ القراءة والكتابة في السودان (حتى القرن التاسع عشر الميلادي) ودورها قبل هذا التاريخ هي دور المدرسة الابتدائية اليوم، وهي تقوم غالباً على النظام الأهلي، وذلك باتفاق وتعاون أهل القرية في تحفيز مشيخة الدين لتعليم الصغار والكبار.
والدور الرائد الذي لعبته (الخلوة) في إرساء ركائز المعرفة وسط المجتمع السوداني والأفريقي: الأستاذ- حامد ضوء البيت- مفتش تعليم الخرطوم سابقاً ببيانه فيقول:
"تعتبر (خلوة) القران الكريم بالسودان هي المكان المعد لتعليم الأطفال مبادئ الكتابة والقراءة. وتحفيظ القران، وكانت (الخلاوي) حتى القرن التاسع عشر الميلادي وما قبله تقوم بتعليم الكبار والصغار مبادئ، القراءة والكتابة كالدور الذي تقوم به المدرسة الابتدائية اليوم.
والخلوة يؤسسها صاحبها على حساب الخاص وأحياناً يتعاون على إنشائها أهل القرية ثم يحفزون الشيخ الذي يتولى مهمة التعليم بها.
ويلتحق الأطفال بالخلوة في سن مبكرة، ولم يعرف السودان التعليم المدني إلا بعد الغزو التركي المصري للسودان في العقد الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي..
وفي أوائل هذا القرن (العشرين) ظهرت (المدارس) التي كان المستعمر ينشئها وفق سياسته، وكان فتحها يتم في بطء شديد، وفي أمهات المدن، واكتفت المناطق التي يشملها التعليم المدني (بالخلوة) التي زاد طلبتها- زيادة على تحفيظ القران الكريم- بشيء من علوم الفقه والسيرة واللغة العربية إلا إن العناية التي أولاها المستعمر للتعليم المدني الحديث الذي يؤهل الطالب لنيل وظيفة يعتمد عليها في مستقبله. تلك العناية كانت سبباً في جذب الأغلبية من الأطفال إلى تلك المدارس التي انتشرت في المدن والقرى والأرياف وبتلك السياسة المرسومة للقضاء على القرآن الكريم دخلت الخلوة مع المدرسة الابتدائية في منافسة وصراع غير متكافئ.
وفي السنوات الماضية (قبل الستينات) نافستها أيضاً (رياض الأطفال) التي يلتحق بها الأطفال قبل بلوغهم السن التي لا تسمح لهم بالالتحاق بالمدارس وهي سن السابعة.
وعلى الرغم من ذلك الصراع القائم بين الخلاوي والمدارس فإن عدداً من الخلاوي الكبرى، ظلت تؤدي دورها العظيم في تحفيظ كتاب الله لطلبتها- في مختلف أعمارهم، وظلت الأمور تسير على هذا المنوال حتى قامت هيئة من الشباب في الستينات تعمل في ميادين الإصلاح العام.
في عام 1964 تولى السيد (حسن عوض الله) وزارة التربية السودانية فعنى بالخلاوي وقدم لها الدعم الأدبي والمادي مما شجعها على المضي قدماً في تنفيذ مشروعاتها وواصلت نشاطها ووسع من قاعدتها حتى بلغ عدد الذين يقفون وراء الفكرة نحو سبعين رجلاً، ومما قوي من عزمهم ومضاعفة نشاطهم، أن مجلس الوزراء الموقر صدق لهم بقيام مؤسسة (مؤسسة إحياء نار القرآن الكريم) .
واختارت المؤسسة مجلساً للأمناء يتكون من (خمسة وعشرين عضواً) واختار ذلك المجلس رئيساً له من بين الأعضاء هو السيد (بدوي مصطفى) أحد الوزراء السابقين واختار للسكرتارية الأستاذ (يوسف الخليفة أبو بكر) سكرتير جامعة أم درمان الإسلامية يومئذ. وواصلت المؤسسة أعمالها ومنح وزير التربية سلطاته لمجلس الأمناء باستثناء الاتصالات الخارجية.
إن أول عمل قامت به تلك المؤسسة هو ضم (معهد القران النموذجي) بـ (ألتى) ثم فتحت معاهد مماثلة في كل من المناقل وسنكات ونيالا.
وحرصاً على أهمية الدور الذي يقوم به شيخ الخلوة في تحفيظ القرآن الكريم فإن المسئولين هيأوا له فترات تدريبية تمتد إلى ثلاثة أشهر يتلقى فيها (شيخ الخلوة) قواعد التجويد، ومعرفة القراءات الصحيحة، وشيئاً من علوم التوحيد واللغة العربية، من أساتذة متخصصين من الأزهر، أعارتهم جمهورية مصر العربية للسودان منذ عام 1968، تم ذلك في مراكز أقيمت بالخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان والدامر وبلغ عدد الذين تلقوا تدريبهم نحو 360 شيخاً، عادوا بعدها يطبقون ما تحصلوا عليه بخلاويهم..
وجدير بالذكر أنه توجد خلاوي للقرآن (خاصة بالنساء) في الإقليم الشرقي للبلاد يقوم بالتعليم فيها معلمات مدربات على تدريس القران الكريم، كما توجد في ذلك الإقليم خلاوي تسمى بأسماء منشئاتها وهن يشرفن على إدارتها.
وتشجيعاً لحفظ القران ونشره بين أفراد الأمة فقد قرر الرئيس السوداني إقامة مهرجان للقرآن الكريم يعقد بالخرطوم، أول كل عام هجري تمنح فيه الجوائز للفائزين من حفظة القرآن الكريم- من الرجال والنساء الذين لا تزيد أعمارهم عن الأربعين، وقد رصد سيادته في المهرجان الأول جائزة قدرها (عشرة آلاف جنيه) وكنتيجة للزيادة المضطرة في عدد الحفظة الذين يتقدمون لنيل هذه الجوائز كل عام، فقد تم رفع هذه الجوائز في المهرجان العاشر الذي أقيم في أول السنة الهجرية الحالية (1403 هـ) إلى (مائة ألف جنيه)
في المهرجان الرابع الذي أقيم في أول السنة الهجرية 1397 هـ وجه- السيد رئيس الجمهورية، والسيد وزير الشئون الدينية والأوقاف (الآن المجلس الأعلى للشئون الدينية والأوقاف) .. والسيد وزير التربية والتوجيه إلى إعادة النظر في (مناهج الدين الإسلام) وتكثيفها تمشياً مع القرارات الجمهورية التي نادت إلى العناية بالتربية الإسلامية الصحيحة التي تشمل حياة الفرد والجماعة وإلزام الجميع بالسلوك القويم في كل ما يمس حياة هذه الأمة المسلمة وبناءً على ذلك التوجيه الكريم، فقد تم تكوين لجان من الوزارتين، قامت بمراجعة المناهج الدينية وأوصت بتعديلات وزيادات شملت المراحل الثلاث- ابتدائية ومتوسطة وثانوية.
والأمل كبير في أن تجنى ثمرة تلك التوجيهات الكريمة
ظلت خلاوي القران الكريم تقوم بدورها الكبير في تأدية رسالتها العظيمة في تحفيظ القرآن الكريم ونشره بين الصغار والكبار معاً حتى يومنا هذا. وفيةً لرسالتها الكريمة. وظل مؤسسوها أو القائمون بأمرها يعملون في صمت وإخلاص، يبذلون في سبيل ذلك كل ما يملكون من مال كثر أو قل في سبيل الحفاظ عليها حية. تصل حاضر هذه الأمة بماضيها، طارفها بتليدها، وبذلك الإخلاص والتفاني والعزم الأكيد. تمكنوا من القيام بدورهم العظيم في نشر القرآن الكريم واللغة العربية أرجاء هذه الرقعة الواسعة في أفريقيا.
وما يثلج الصدور اليوم قيام كلية القرآن الكريم- إحدى كليات جامعة أم درمان الإسلامية، التي تم افتتاحها عام 1982 ويقبل لها طلبة من حفظة القران الكريم الذين تحصلوا على إجازة علوم القراءات وإجازة التجويد، وتعتبر هذه الخطوة أكبر انتصار للمسئولين الذين يسعون لإعلاء كلمة الله في الأرض ونشر القران الكريم وترسيخ تعاليمه والعمل بما جاء به. وهذا نفس الطريق الذي سلَكَه أسلافنا الصالحون منذ أن تم للمسلين فتح مصر في عهد الخليفة الثاني، أمير المؤمنين (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه في عام 18 هجريه الموافق 641 ميلادية، وهو التاريخ الذي وطئت أقدامهم في هذه البلاد- وفي إحصائية لخلاوي القران الكريم أعدتها إدارة التعليم الديني بمناسبة الاحتفال الذي عقده (المجلس الأعلى للشؤون الدينية والأوقاف) لاستقبال القرن الخامس عشر الهجري عام 1401هـ - كان عدد الخلاوى المسجلة آنئذ هو 2457 خلوة عاملة. نسأل الله التوفيق.. {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَاّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ وإليه أنيب..} .
(المدينة)
طريقة جديدة لعلاج الانزلاق الغضروفي:
استطاع طبيب أمريكي من التوصل إلى علاج وطريقة جديدة للانزلاق الغضروفي والتهاب العصب بين فقرتين في العمود الفقري والآلام الناتجة عنه وذلك بدون عملية.
وتتمثل الطريقة الجديدة في طريقة حقن المريض بمادة مستخرجة من ثمر (الباباي) المعروف في الدول الاستوائية لتتخلل هذه المادة وتدخل بين الفقرات ليخف الضغط على العصب ويمكن للمريض أن يغادر المستشفى خلال خمسة أيام من إجراء هذه العملية..
وقد اكتشف الطبيب اوجين نوركي من الولايات المتحدة الأمريكية هذا العلاج عندما كان يجري تجاربه العلمية على الأرانب.
العدو يستخدم المواد الكيميائية والأشعة
لإخصاء المواليد العرب
أشار تقرير خاص من الوطن المحتل إلى أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي لجأت مؤخراً إلى إجراءات جديدة تستهدف اجتثاث جذور الشعب الفلسطيني من قلب الوطن المحتل بعد أن فشلت في طرد المواطنين العرب بالطرق القسرية.
وتتمثل الإجراءات الجديدة في عمليات إخصاء المواليد العرب في الوطن المحتل بغية وضع حد للقدرة التناسلية العربية وبالتالي إضعاف النمو البشري العربي ليسهل على العدو ابتلاع الأرض وتهويدها للأبد.
ويفيد القادمون من الضفة المحتلة بأن العدو وضع سياسة جديدة تستهدف وقف النمو السكاني العربي في الوطن المحتل من خلال لجوئه إلى هذه الخطة الجهنمية التي تعبر عن نزعته العدوانية والعنصرية.
ويقوم العدو بتنفيذ خطته السرية ضد المواليد العرب في مختلف المستشفيات في الوطن المحتل ويشير القادمون إلى أن الإخصاء يتم عن طريق عملاء يقومون وبحركة سريعة من أصابعهم بالضغط على خصية المولود حتى تهشيمها.
وهناك طريقة أخرى لعملية الإخصاء تتمثل في تلقيح المولود بمادة كيميائية خاصة تعطى له مع الحليب وتعطل بصورة هادئة قدراته الجنسية عند الكبر.
كذلك بالنسبة للشباب والرجال الذين يدخلون في المستشفيات تديرها عناصر يهودية فإنهم يعطون دواء معيناً وعلى عدة جرعات تكفي للقضاء على قدراتهم الجنسية
وذكر بعض القادمين من الوطن المحتل أن إشاعات جديدة سرت بين المواطنين العرب تشير إلى أن السلطات الإسرائيلية لجأت لبعض الإجراءات السرية اللازمة لتعريض المرضى من الذكور العرب لإشعاعات معينة تصيب الذي يتعرض لها بالعقم الفوري.
وأشار التقرير إلى أن الإجراءات الإسرائيلية الجديدة امتدت لتشمل النساء العربيات حيث أوعزت سلطات الاحتلال لبعض الجهات بإعطاء نزيلات المستشفيات الإسرائيلية من النساء العربيات أدوية خاصة تذاب مع الشراب أو الطعام وتتناولها المريضة دون أن تشعر بأن شيئاً رهيباً قد حدث لها.
وخلص التقرير إلى القول بأن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تعتقد أنها بلجوئها لهذه الطريقة ستقضى على حركة النمو السكاني العربي الذي يظل السلاح الفعال والقوي الذي يهدد إسرائيل من الداخل ويعرض كيانها ووجودها للخطر خاصة وأن هناك أصواتاً صهيونية ظهرت مؤخراً تحذر من مغبة التغاضي عن التزايد السكاني العربي داخل الوطن المحتل بحجة أن العرب سيقيمون في المستعمرات والكيبوتسات الإسرائيلية مع حلول عام 2000 م.
وحذر التقرير من مغبة التغاضي عن مثل هذه الإجراءات العدوانية مشيراً إلى ضرورة أخذ الحيطة والحذر واليقظة لكافة الحيل والمكائد الإسرائيلية التي تنفذ على مراحل ضد أهلنا داخل الوطن المحتل وضد الأرض العربية.
(المدينة)
إسلام 7 تايلنديين
أشهر سبعة من التايلنديين إسلامهم أمام رئيس المحكمة الشرعية في بيشة. وقد تم تسميتهم بأسماء إسلامية جديدة.. كما أشهرت أيضاً السيدة مرضاوي سيناكرور فلبينية الجنسية إسلامها وذلك أمام رئيس محكمة خميس مشيط..
(الندوة)
ماليزيا تصر على العقوبة المشددة لتجار المخدرات
كوالالمبور-قال السيد موسى هيثم نائب رئيس الوزراء أن ماليزيا لن تنحني أمام أي ضغط سياسي خارجي في تطبيق قوانين مكافحة المخدرات التي تفرض عقوبة الموت الإلزامي على كل من يوجد في حوزته 15 غراماً من الهروين.
وأبلغ الصحفيين قوله إن الأجانب الذين يعثر في حوزتهم على مخدرات أو يتاجرون بالمخدرات لن يفلتوا من التشريع المعدل الذي أقره البرلمان أخيراً.. وقال "سنحاكم كل شخص بالتساوي دون أن نأخذ بعين الإعتبار الجنس أو الدين أو اللون إذا ما وجد أن هذا الشخص يخالف قوانين المخدرات ".
وكان كل من يعثر في حوزته على 100 غرام من المخدرات في السابق يفترض بأنه تاجر مخدرات وكان يواجه حكماً بالموت أو السجن مدى الحياة..
بمناسبة الاحتفال بالذكرى الألفية للأزهر الشريف
…
ماذا قدم الأزهر والأزهريون للإسلام والمسلمين؟
…
ماذا قدم الأزهر والأزهريون للعلم والدين؟
…
وما هي مكانته في العالم الإسلامي أمس واليوم؟
…
وماذا كانت غايته في تاريخه المديد؟
…
وما هي الخطوات التي اتخذها في سبيل خدمة الدعوة الإسلامية، نشر اللغة العربية في سائر البلاد؟
هذه أسئلة تشغل اليوم ذهن كل مسلم في مشارق الأرض ومغاربها وإن المسلمين جميعاً على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وعاداتهم وثقافاتهم- يتطلعون إلى هذه الجامعة التي هي أَكبر وأقدم جامعة إسلامية على وجه الأرض، ولها سجل تاريخي وضاح الجبين مشرق الغرة في نشر أشعة العلم والعرفان في أقطار العالم. وحفظ اللغة العربية والثقافة الإسلامية في عصر التدهور والانحطاط وسيادة الاستعمار الغربي على الأقطار الإسلامية. في مقاومة شتى تيارات الإلحاد والانحرافات والمذاهب الهدامة دعاة الفوضى والانحلال.
وهي الجامعة التي عالجت علوم الدين والأدب العربية القرون ويسرت سبلها وأكثرت كتبها وخرجت فطاحل علماء الإسلام والأدب العربي وبقيت على مدي الأجيال والقرون قائمة بعملها وفية بأمانتها وأمدت العالم الإسلامي في الشرق والغرب بما هو في حاجة إليه فاتجهت إليها أنظار المسلمين جميعاً خصوصاً بعد سقوط بعداد وإتلاف كتبها وذخائر مكاتبها العلمية فبدا طلاب النور والعرفان يفدون إلى حظيرة الأزهر من كل فج عميق. وهو الآن ملتقى آلاف الطلاب من أنحاء العالم كما أنه مصدر آلاف العلماء إلى مختلف القارات ومركز الدعوة الإسلامية إلى شتى الأمم والشعوب.
وإذا زرت كليات جامعة الأزهر ومعاهده وأروقته تجد هناك مظهراً عاماً لثقافات عديدة ولغات مختلفة وأجناس شتى، وتري فيها مظفراً عاماً أيضاً للعالم الإسلامي كله فإنه لمصداق بين للمبدأ الذي يتخذه الأزهر رمزاً لرسالته هو:
العلم رحم بين أهله
وما كانت غاية الأزهر في تاريخه الطويل إلا أن يكون دائرة في مجال تبليغ رسالة الإسلام وهذه الرسالة هي أجل ما تتطلع الإنسانية في كل مكان إلى بلوغه والانتفاع بثمراته.
وضع أساس الجامع الأزهر في 14 رمضان سنة 359 هـ (971 م) تحت إشراف جوهر الصقلي قائد المعز لدين الله الفاطمي، وتم بناؤه في سنتين. وفتح الجامع الأزهر للصلاة لأول مرة في رمضان سنة 361 هـ. فلم يلبث أن تحول الأزهر إلى جامعة تدرس فيها العلوم الدينية والعصرية، ويجتمع فيها طلاب العلوم من كافة الأقطار. وكان الخلفاء الفاطميون حريصين على الاهتمام بهذا المعهد الكبير وتزويده بكثير من الكتب وتخصيص موارد باهظة للإنفاق على طلابه والوافدين عليه، وبقي للأزهر منذ إنشائه مسجد الدولة الفاطمية الرسمي وكان الخليفة بنفسه يؤم الناس في صلاة الجمعة وعيدي الفطر والأضحى التي تقام فيه.
ومنذ عام 1961 دخل الأزهر في دور فعال وجبار في المجال العلمي والعملي، حيث جرى تطوير الأزهر تطويراً يتهيأ به لأبناء المسلمين جميعاً من العلم والمعرفة ويضيف إلى الخير التالد في رسالة الأزهر العلمية خيراً جديداً في رسالته العلمية، لكي يعالج شئون الدين والدنيا، ويخدم الإنسان بمعنييه جميعاً روحه وجسده لأن الإسلام له جانبان جانب روحي وجانب مادي، فالأول يخدم الناحية الروحية في الإنسان والثاني يخدم الجانب المادي فيه، من النواحي الاجتماعية والصحية والزراعية والهندسية والاقتصادية وغيرها.
ومن أكبر ما اهتم به هذا التطوير إنشاء (جامعة الأزهر الحديثة) وفتح الكليات العملية بها وكلية خاصة للبنات بشعبها المختلفة من علوم إسلامية وطب وأدب وفلسفة وعلوم. وجامعة الأزهر لن تختلف غايتها عن غاية الأزهر الشريف في تاريخه المديد إلا من تغيير الخطط وتعديل الوسائل بقدر ما تطلبه الحياة المتطورة، ولن ينحرف طريقها عن طرق أبيها الجليل (الجامع الأزهر) فإن التاريخ الصحيح يقول: إن الأزهر كانت تدرس فيه، في أبهائه وصحونه، إلى جانب التفسير والحديث والفقه والأدب، علوم الفلك والهيئة والميقات والطب والرياضة والحساب. وكانت تعقد فيه حلقات العلم للنساء. ويذكر التاريخ أن سيدة فضلى تقدمت فعلاً لنيل شهادة (العالمية) الأزهرية.
وأما تطوير الأزهر فخطوة جديدة تتهيأ له بها دراسة الطب والهندسة والزراعة والتجارة وغيرها من العلوم الكونية والفنون العملية، كما أنه يهيئ الفرصة للبنات من العلوم والمعرفة ما قد تهيأ للبنين. وكلية البنات الأزهرية كانت نواة للجامعة الإسلامية للبنات، لكي يقدر الأزهر بمختلف هيئاته ومعاهده وكلياته على إسداء الخير النافع العام إلى العالم الإسلامي كله، وإلى الإنسانية جمعاء.
والأزهر جزء بارز في كيان المجتمع الإسلامي، وهو تراث مجيد يعتز به كل مسلم وهو في مشارق الأرض ومغاربها، وكان يجاهد في ميادين العلم والدين والإصلاح الاجتماعي والخلقي والسياسة في العالم العربي والإسلامي ولولاه لجف الأمل وانطفأ النور في ميادين العلم والمعرفة في هذا العالم في عصر الظلمات والركود. وأما جمهورية مصر العربية فمدينة للأزهر فأصبحت بفضله منبراً تفيض منه أسمى الأبحاث الإسلامية والفكرية وقاعدة للإشعاع الثقافي الإسلامي وقد أسرعت مصر الفتية التي اعترفت بمكانة الأزهر في العالم الإسلامي وجهوده في سبيل العلم والأدب فمدت يدها بالعون له بكل الوسائل الممكنة ليقوم برسالته على أحسن وجه حتى يتبوأ مكانته اللائقة به كمبعث حضارة روحية ومادية، وقلعة حصينة للعروبة والإسلام، ومصدر رجال الفكر وزعماء الإصلاح يحملون أمانة الرسالة الإسلامية، ويكونون ورثة الأنبياء.
ولم يكن دور الأزهر مقصوراً على العلوم الدينية واللغوية كما يظن بعض الناس فإن الإسلام لا يفرق بين المعارف والعلوم بل هو يجمع بين الدنيا والدين وبين الأرض والسماء وبين المطالب الدينية والسبحات الروحية ويقرر أن طلب العلم على إطلاقه فريضة على كل مسلم ومسلمة. ولهذا كان علماء المسلمين في عصر ازدهار الإسلام يدرسون جميع أنواع العلوم والفنون فكان منهم الفقيه، والطبيب، والفلكي، والمهندس، والعالم الطبيعي، والكيميائي، والجغرافي، والمؤرخ، والرحالة، والرياضي، وكان هذا يتجلى في علماء الأزهر على نطاق يختلف قلة أو كثرة بحسب اختلاف العصور. وكانوا يُسَمُون علم الفلك بعلم الهيئة، ويُسَمُّون علوم الأحياء بعلم المواليد، والكيمياء بعلم التركيب. وظل علماء الأزهر يحرصون على دراسة هذه العلوم حتى في أشد عهود التدهور والجمود.
ولا يخفى على من تتبع تاريخ الأزهر، أن علماءه قد أسهموا في جميع المعارف والعلوم بالدرس والبحث والتأليف، سواءً في العلوم الدينية واللغوية أو في المنطق والحساب والهندسة والجبر والفلك. ولما بدأت النهضة العلمية في مستهل العصر الحديث لم تجد لها منبعاً إلا في رحاب الأزهر فقد كان معظم المبعوثين من مصر- مثلاً- إلى أوربا من رجال الأزهر وقد عادوا بعد أن تخصصوا في مختلف العلوم والفنون فوضعت أسس النهضة العلمية والفنية والثقافية في هذه البلاد، وكان البارزون من أبناء الأزهر هم الذين وضعوا أساس النهضة الحديثة في مصر، وأساتذة جامعة القاهرة وبقية الجامعات ومدرسة الألسن ومدرسة القضاء الشرعي وكلية دار العلوم وغيرها من مراكز الثقافات ودور العلم التي تفرعت من دوحة الأزهر الشريف.
وإن الاستعمار بأساليبه العديدة ووسائله المختلفة- قد نجح إلى حد كبير- في أن يعوق حركة الأزهر المطردة، واستطاع أن يحدث فجوة بين العلوم الدينية واللغوية وبين العلوم الأخرى، وكاد الانعزال يتم بين علماء الأزهر، وعلماء الجامعات الأخرى. فنادي علماء الإصلاح في العصر الحديث بعلاج هذه الحال فإن الغرب يعرف كما يعرف أبناءه، أن العلوم الحديثة العصرية إسلامية في نشأتها وتقدمها. وأن الغرب استعارها من المسلمين، وتقدم كثير من المصلحين في هذا الميدان وتوالت الصيحات في كل مكان وقد تكررت محاولات لتجديد الأزهر وتطويره بحيث يتفق ومكانته وأثره في العالم العربي والإسلامي. مع الاحتفاظ بطابعه وخصائصه وصفته التي استحق بها أن يبقى دوره بارزاً في تاريخ العرب والمسلمين أكثر من ألف سنة. ولكن هذه المحاولات المبذولة منذ أكثر من نصف قرن لم تنفذ إلى صميم المشكلة ولم تحاول علاجها جذرياً. وأما القانون الخاص بإصلاح الأزهر فوضع على أساس تقرير المبادئ اللازمة لكل إصلاح جذري شامل.. وبناءً على هذا القانون ظهرت الهيئات الخمس الأزهرية للنور وهي:
1-
المجلس الأعلى للأزهر.
3-
مجمع البحوث الإسلامية.
3-
جامعة الأزهر.
4-
إدارة الثقافة والبعوث الإسلامية.
5-
المعاهد الأزهرية.
وبالله التوفيق.
أخبَارُ الجَامعَةِ
إعداد إدارة العلاقات العامة بالجامعة
حصَاد الدراسَات العليَا
في العام الجامعي 1402-1403هـ
قسم الدراسات العليا في الجامعة الإسلامية- كما في أي جامعة- يعتبر أهم الأقسام التعليمية لأنه مركز تخريج الكوادر العلمية المتخصصة التي يسند إليها في المستقبل القريب – إن شاء الله- تولى القيادة الفكرية، وتتحمل مسؤولية البحث العلمي في مختلف مجالات المعرفة العربية والإِسلامية، ويتكون من هذه الكوادر العلمية أعضاء هيئة التدريس في الجامعة الإِسلامية وغيرها من الجامعات العربية والإِسلامية.
ويقوم قسم الدراسات العليا في الجامعة بمسئوليات جسام لتوجيه الطلاب وإعدادهم الإِعداد الذي يمكنهم من حمل الأمانة في تربية الأجيال، ويهيئهم للبحث العلمي الجاد المتعمق في جميع مجالات الدراسات الإِسلامية.
وقد كان حصاد قسم الدراسات العليا في العام الجامعي 1402/1403 هـ حصاداً وفيراً يبشر بغد مشرق للجامعة إن شاء الله
…
فقد حصلنا من قسم الإِحصاء والمتابعة بالدراسات العليا على بيان تفصيلي بالحاصلين على درجتي الدكتوراه والماجستير في المدة من أول محرم 1402 هـ إلى أواخر شعبان 3 140 هـ.
وقد بلغ عدد الحاصلين على الدكتوراه في المدة المذكورة 15 خمسة عشر طالباً من شعب الفقه، وأصوله والدعوة والسنة والعقيدة. ومن جنسيات مختلفة. كما بلغ عدد الحاصلين على الماجستير 35 خمسة وثلاثون طالباً من شعب الفقه وأصوله والدعوة والسنة والعقيدة والتفسير واللغويات والأدب والنقد، وينتمي هؤلاء الطلاب إلى جنسيات مختلفة من السعودية ومصر واليمن وإندونيسيا والهند وحضرموت ونيجيريا والسودان ونيبال وبورما وباكستان واوندى ومالي والأردن والصومال. وقد نشرنا في العدد الماضي أسماء بعض الذين حصلوا على درجة الماجستير والدكتوراه.
المخيم الصيفي السنوي لطلاب الجامعة الإِسلامية
تقيم عمادة شئون الطلاب بالجامعة الإِسلامية المخيم الصيفي السنوي، والذي اعتادت العمادة إقامته في صيف كل عام ويشارك فيه الطلاب المتخلفون عن السفر إلى أوطانهم في العطلة الصيفية.
وسيقام المخيم ويستمر لمدة شهر ابتداء من يوم 7/10/1403 هـ بمدينة النماص بمنطقة الجنوب.
ومن المقرر أن يشارك فيه مائتا طالب من مختلف الكليات والمعاهد والدور التابعة للجامعة.
وقد تم إعداد برنامج تربوي وثقافي حافل بالندوات والمحاضرات والأنشطة المختلفة التي تعمل على توجيه الطلاب توجيهاً إسلامياً صحيحاً، وتعدهم للمشاركة في إلقاء المحاضرات وإدارة الندوات.
ويصحب المخيم مجموعة من الموجهين الاجتماعيين من عمادة شئون الطلاب والمسئولين في العمادة.
نرجو الله أن يوفق الجميع لما فيه خير أبناء المسلمين في هذه الجامعة.
شخصيات ووفود إسلامية في زيارة الجامعة
من أهداف الجامعة الإِسلامية التي حددها نظامها الأساسي إقامة الروابط العلمية والثقافية بالجامعات والهيئات والمؤسسات العلمية في العالم وتوثيقها لخدمة الإِسلام وتحقيق أهدافه.
وفى إطار هذا الهدف يفد إلى الجامعة شخصيات ووفود إسلامية بقصد دعم التعاون المنشود في مجال الدعوة والتربية والتعليم والتبادل الثقافي، أو طلب دعم الجامعة لهذه الهيئات والمؤسسات التي تمثلها هذه الوفود أو هذه الشخصيات.
ومن الوفود والشخصيات التي قامت بزيارة الجامعة في الفترة الأخيرة:
(1)
وفد يمثل الإتحاد الإسلامي لشمال أمريكا، وقد ضم هذا الوفد: البروفسير سيد محمد سعيد عضو اللجنة التنفيذيه للإتحاد، والأستاذ ربيع حسن أحمد أمين عام للإتحاد، والسيد دواد زوتك، ورافق الوفد الأستاذ أحمد عبد العزيز الرشيد من وزارة التعليم العالي في المملكة العربية السعودية وقد اجتمع بالوفد معالي رئيس الجامعة الإِسلامية الدكتور عبد الله الصالح العبيد وفضيلة الأمين العام للجامعة الشيخ عمر محمد فلاته. وقد دار الحديث في هذا الاجتماع حول شئون الأقليات الإِسلامية في شمال أمريكا والصعوبات التي يلاقونها والتحديات التي يواجهونها..
وقام الوفد بجولة في الجامعة زار خلالها المكتبة المركزية وشاهد قسم المخطوطات بها، كما قام بزيارة للأماكن المقدسة في المدينة المنورة..
(2)
قام الحاج بابا سيسي مدير معهد الملك خالد الإسلامي في مدينة باماكو بجمهورية مالي بزيارة للمدينة المنورة زار خلالها الجامعة الإسلامية وحضر مناقشة رسالة الماجستير المقدمة من الطالب اسحق موسى كوني مالي الجنسية وكان موضوعها: الأحكام الثابتة بخطاب الوضع عند الأصوليين من شعبة الأصول، كما رافقه في حضور المناقشة سعادة سفير مالي لدى المملكة.
(3)
كما زار الجامعة وفد من الكلية العربية المالية بكيرالا بجنوب الهند. ويتكون هذا الوفد من الشيخ أبو بكر العمري والشيخ داد عبد الجبار، وقد التقى بهم معالي الدكتور عبد الله الصالح العبيد رئيس الجامعة وفضيلة الشيخ عمر محمد فلاته الأمين العام للجامعة.. وقد بحث هذا الوفد الأمور ذات العلاقة المشتركة فيما يتصل بالشئون التعليمية والتربوية.
(4)
كما زار الجامعة فضيلة الشيخ غالب سنجقدار رئيس جمعية التوجيه الإِسلامي الخيرية بطرابلس الغرب، وقابله كل من معالي رئيس الجامعة والأمين العام. وتباحث معهما حول رغبة الجمعية في إنشاء معهد متوسط وثانوي لتدريس المناهج الإِسلامية لأبناء المسلمين. وتناول اللقاء إمكانية مساهمة الجامعة في هذا المشروع.
(5)
وفي إطار جولة في بلدان إسلامية مختلفة ومنها المملكة العربية السعودية وصل إلى المدينة المنورة في أواخر شهر رجب 18 منه أعضاء مجلس علماء باكستان وزاروا الجامعة الإِسلامية والتقوا بمعالي الدكتور عبد الله العبيد رئيس الجامعة حيث دار الحديث حول شئون الدعوة الإِسلامي في إطار عالمي والدور الذي يمكن أن تؤديه الجامعات الإِسلامية في هذا المجال كما جرت الأحاديث حول القضايا التي تهم العالم الإِسلامي.
محاضرات الموسم الثقافي للعام الجامعي 1402هـ / 1403 هـ
في إطار الموسم الثقافي الذي تعده وتنفذه عمادة شئون الطلاب شهدت قاعة المحاضرات الكبرى بالجامعة الإِسلامية سبع عشرة محاضرة ألقاها العلماء والمفكرون من أعضاء هيئة التدريس بالجامعة، ومن غيرهم من علماء المملكة.
ومن الجدير بالذكر أن هذه المحاضرات يحضرها طلاب الجامعة وأساتذتها وعدد غفير من علماء المدينة وأدبائها والمهتمين بالحياة الثقافية والأدبية، وتمثل هذه المحاضرات نافذة يطل منها طلاب الجامعة على كثير من جوانب العلم والمعرفة خارج قاعات الدرس.
وفيما يلي نورد بياناً بعناوين هذه المحاضرات ممن لم يسبق نشره:
ا- الأفعى الباطنية: من أخبارها وأوزارها: ألقاها الدكتور عبد الفتاح إبراهيم سلامة الأستاذ المساعد بكلية الحديث في 23/2/1403 هـ.
2-
القدس قبل الإِسلام وبعده: ألقاها الدكتور شفيق الجاسر الأستاذ المشارك بكلية الدعوة وأصول الدين في 30/2/1403 هـ.
3-
منهاج أهل السنة في العقيدة والعمل: ألقاها فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين. مساء يوم 7/3/1403 هـ
4-
شبابنا بين الأصالة والتقليد: ألقاها الدكتور محمد السيد الوكيل الأستاذ المساعد بكلية الحديث. مساء يوم 14/3/1403هـ
5-
طريق الخلاص: ألقاها الشيخ أبو بكر الجزائري الأستاذ المشارك بقسم الدراسات العليا بالجامعة الإِسلامية. مساء يوم 3/5/1403 هـ.
6-
صور من الحياة الإِسلامية في أمريكا الجنوبية: ألقاها الشيخ عبد العزيز المسند. مساء 10/5/1403 هـ.
7-
العقوبات الشرعية: أسسها وأهدافها: ألقاها الشيخ محمد بن ناصر السحيباني الأستاذ المساعد وعميد القبول والتسجيل بالجامعة الإِسلامية. مساء17/5/1403 هـ.
8-
ندوة مفتوحة اشترك فيها كل من سعادة أمين المدينة المنورة الشيخ صدقة خاشقجي، وسعادة مدير مرور المدينة المنورة الرائد إبراهيم الردادي. حضرها عدد غفير من أهالي المدينة المنورة وعلمائها ومفكريها وطلاب الجامعة الإسلامية وأساتذتها. أجاب فيها كل من سعادة أمين المدينة ومدير مرور المدينة على الأسئلة التي توجه بها الحضور فيما يتصل بمشاريع المدينة ونظام المرور. وكان ذلك مساء يوم 24/5/1403 هـ.
9-
الجزاء الحق: هذا هو عنوان المحاضرة التي ألقاها الشيخ علي الحذيفي. مساء يوم 2/6/1403 هـ.
10-
معاوية بن أبي سفيان بين المنصفين والمتعسفين: ألقاها فضيلة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد رئيس المجلس العلمي بالجامعة الإِسلامية. مساء يوم 9/6/1403 هـ.
11-
واجب الإِنسان الذي كلف به من الله: ألقاها الشيخ عبد الله بن محمد الغنيمان. مساء يوم 10/6/1403 هـ.
12-
مكانة أهل الحديث: ألقاها الدكتور ربيع هادى مدخلي الأستاذ المساعد بالجامعة الإِسلامية. مساء يوم 23/6/1403هـ.
13-
جاء الإِسلام ليبقى: ألقاها الدكتور جمعة الخولي الأستاذ المشارك ورئيس قسم الدعوة بالجامعة الإِسلامية. مساء يوم 40330/6/1403هـ.
14-
أعرفت أنك بالمدينة: ألقاها الشيخ عبد الفتاح العشماوي عضو هيئة التدريس بالجامعة. مساء يوم 7/7/1403هـ.
صياغة الشيخ محمود محمد سالم
حَديثُ تفرُّق الأمَّةِ
للشيخ عبد الكريم مراد
أستاذ مشارك بكلية الشريعة
قال الإمام الحافظ سليمان بن الأشعث أبو داود السجستاني: حدثنا وهب بن بقية عن خالد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ".
إسناد الحديث: وهب بن بقية شيخ أبي داود هو وهب بن بقية بن عثمان أبو محمد الواسطي ويقال له: وهبان، ثقة من العاشرة روى عنه: مسلم وأبو داود والنسائي وخلق، ومات سنة تسع وثلاثين ومائتين (239 هـ) .
وخالد: هو خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن الطحان أبو الهيثم ويقال أيضاً أبو محمد المازني مولاهم، ثقة ثبت من الثامنة روى له الجماعة، ومات سنة اثنتين وثمانين ومائة (182 هـ) .
ومحمد بن عمرو: هو محمد بن عمرو بن علقمة الليثى المدني، صدوق له أوهام من السادسة روى له الأربعة والبخاري مقرونا بغيره ومسلم في المتابعات ومات سنة خمس وأربعين ومائة (145 هـ) .
وأبو سلمة: هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري قيل اسمه: عبد الله وقيل إسماعيل، ثقة مكثر من الثالثة روى له الجماعة ومات سنة أربع وتسعين (94 هـ) .
وأبو هريرة: هو الصحابي الجليل عبد الرحمن بن صخر أبو هريرة الدوسي اليماني رضي الله عنه حافظ الصحابة. اختلف في اسمه اختلافاً كثيراً وكان اسمه في الجاهلية: عبد شمس ومات سنة سبع وخمسين (57 هـ) .
قال ابن إسحاق في مغازيه: حدثني بعض أصحاب أبي هريرة أنه قال:"كان اسمي في الجاهلية: عبد شمس بن صخر فسميت في الإسلام: عبد الرحمن ". رواه الحاكم في مستدركه.
تخريج الحديث: أخرج حديث أبي هريرة هذا: الترمذي في باب افتراق الأمة. وابن ماجة مختصراً في باب افتراق الأمم. وابن حبان في صحيحه. والحاكم في مستدركه. وأحمد بن حنبل في مسنده. والآجري في الشريعة. وأبو يعلى في مسنده. من طرق كلها عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعاً.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم.
قلت: والترمذي والحاكم رحمهما الله معروف تساهلهما في التصحيح ومحمد بن عمرو ابن علقمة من المشهورين بالصدق ولكن لم يكن من أهل الضبط والإتقان فحديثه حسن وسبق أن البخاري روى له مقروناً بغيره ومسلم في المتابعات.
وحديث افتراق الأمة روى عن جماعة من الصحابة منهم: معاوية بن أبي سفيان وعوف بن مالك وأنس بن مالك وعبد الله بن عمرو.
أما حديث معاوية رضي الله عنه فأخرجه أبو داود والحاكم وأحمد بن حنبل بسند جيد ولفظه عند أبي داود: "ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة ".
وفي رواية له: "وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله ".
وأما حديث عوف بن مالك رضي الله عنه فأخرجه ابن ماجة في باب افتراق الأمم بسند جيد ولفظه: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وسبعون في النار وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، واحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار. قيل يا رسول الله من هم؟ قال: الجماعة ".
وأما حديث أنس بن مالك رضي الله عنه فأخرجه ابن ماجة بلفظ: "إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة وإن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة".
وفي إسناده: أبو عمرو عبد الرحمن بن يزيد بن تميم وهو ضعيف.
وأما حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه فأخرجه الترمذي والحاكم ولفظه عند الحاكم: "ليأتينّ على أمتي ما أتى على بني إسرائيل مثلاً بمثلٍ حذو النعل بالنعل حتى لو كان فيهم من نكح أمه علانية كان في أمتي مثله. وإن بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلها في النار إلا واحدة فقيل ما الواحدة؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي".
وفي رواية الترمذي: "وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة".
وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وفي إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي وهو ضعيف فتحسين الترمذي للحديث لاعتضاده بما روى في الباب من أحاديث.
وقال الحافظ ابن القيم رحمه الله في تهذيب السنن: حديث أنس رواه أبو إسحاق الفزاري عن الأوزاعي عن يزيد الرقاشي ورواه ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن عبد الله ابن غزوان عن عمرو بن سعد عن يزيد الرقاشي.
قلت: يزيد بن أبان الرقاشي ضعيف وعبد الله بن غزوان وشيخه عمرو بن سعد مجهولان. كذا في الميزان.
وقال السخاوي في المقاصد الحسنة بعد ما نقل قول الحاكم في مقدمة مستدركه: إنه حديث كبير الأصول وقد روى عن سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمرو وعوف بن مالك.
قال: وروى عن أنس بن مالك وجابر وأبي أمامة وعلي وعمرو بن عوف وعويمر أبي الدرداء ومعاوية بن أبي سفيان وواثلة بن الأسقع كما بينتها في كتابي الفرق.
شرح الحديث: افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة الخ0 هذا شك من الراوي وقد ورد ذلك في حديث معاوية وحديث عبد الله بن عمرو من غير شك وقد تقدما.
وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، هذا من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر عن غيب وقع كما قال.
والمعنى أن الأمة تفترق فرقا تتدين كل فرقة منها بخلاف ما تتدين به الأخرى. والمراد من (أمتي) أمة الإجابة.
وليس المراد بالفرق المذمومة المختلفين في فروع الفقه وإنما المقصود بالذم من خالف أهل الحق في التوحيد والقضاء والقدر وشروط النبوة والرسالة وموالاة الصحابة وما جرى مجرى ذلك لأن المختلفين في هذه الأمور يكفر بعضهم بعضاً بخلاف الفروع الفقهية فإنهم مختلفون فيها من تكفير ولا تفسيق للمخالف فيها.
فيرجع تأويل الحديث في افتراق الأمة إلى هذا النوع من الاختلاف [1] .
قلت وإلى ذلك يومئ قوله صلى الله عليه وسلم في حديث معاوية: "وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب [2] بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله ".
وفيه إشارة أيضًا إلى أن الأهواء والبدع إذا تمكنت من النفس واستحكمت بها فصاحبها على خطر عظيم قد لا يوفق للتوبة منها كما أن داء الكلب إذا تمكن من صاحبه واستحكمت به فهو على خطر من الهلاك قد لا يشفى منه.
قال الخطابي في معالم السنن: "في الحديث دليل على أن هذه الفرق كلها غير خارجة من الدين إذ جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم من أمته. وفيه دليل على أن المتأول لا يخرج عن الملة وإن أخطأ في تأويله ". أهـ0
قلت: وفي الجهمية قولان للعلماء هل هم من أهل القبلة أم لا؟ وممن قال إن الجهمية ليسوا من فرق الأمة: عبد الله بن مبارك ويوسف بن أسباط [3]
وجاء في حديث غير أبي هريرة في فرق الأمة، زيادة: كلها في النار إلا واحدة كحديث أنس بن مالك ومعاوية وعوف بن مالك وعبد الله بن عمرو وغيرهم.
والحديث بمجموع طرقه يرتقي إلى درجة الصحيح لغيره ولذا قال الحاكم بعد ما ساق حديث معاوية في 1/128: هذه أسانيد تقام بها الحجة في تصحيح هذا الحديث ووافقه الذهبي.
وأما ما قاله الشوكاني في فتح القدير 2/56: أما زيادة: كلها في النار إلا واحدة، فقد ضعفها جماعة من المحدثين بل قال ابن حزم: إنها موضوعة.
وكذلك ما نقله زاهد الكوثري عن ابن الوزير أنه قال في كتابه: العواصم والقواصم: إياك أن تغتر. بزيادة: كلها في النار إلا واحدة، فإنها فاسدة ولا يبعد أن تكون من دسيس الملاحدة
وقد قال ابن حزم:"إن هذا الحديث لا يصح ".
فقد تولى الإجابة عن ذلك محدث الشام الشيخ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله في السلسلة الصحيحة بما ملخصه:
-ولا أدرى من الذين أشار إليهم الشوكاني بقوله: فقد ضعفها جماعة،؟ فإني لا أعلم أحداً من المحدثين ضعف هذه الزيادة بل إن الجماعة قد صححوها وقد سبق ذكر أسمائهم. وأما ابن حزم فقد راجعت كتابه الفصل في الملل والنحل وقلبت مظانه فلم أعثر عليه ثم إن النقل عنه مختلف فابن الوزير قال عنه: إن الحديث لا يصح والشوكاني قال عنه: إنها موضوعة، وشتان ما بين النقلين.
فإن صح عنه ذلك فابن حزم رحمه الله معروف عند أهل العلم بتشدده في النقد فلا ينبغي أن يحتج بقوله عند تفرده فكيف إذا خالف جماعة المحدثين؟
وأما ابن الوزير فقد صحح حديث معاوية في كتابه القيم: الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم ص 262.
وقد روى حديث افتراق الأمة مقلوب السند والمتن بلفظ: "تفترق أمتي على سبعين أو إحدى وسبعين فرقة كلهم في الجنة إلا واحدة. قالوا يا رسول الله من هم؟ قال: الزنادقة وهي القدرية". أخرجه العقيلي وابن عدي.
قال أهل العلم: هذا الحديث وضعه الأبرد بن أشرس وسرقه يسين الزيات فقلب إسناده وخلط والمعروف بلفظ: كلها في النار إلا واحدة.
قال في الميزان: قال ابن خزيمة: أبرد بن أشرس كذاب وضاع ويسين بن معاذ الزيات قال ابن حبان: يروي الموضوعات وقال البخاري: منكر الحديث0
وقد أشكل حديث افتراق الأمة على بعض الناس من جهة معناه.
والإشكال في قوله: كلها في النار إلا واحدة، ومن المعلوم أن أمته صلى الله عليه وسلم خير الأمم والمرجو أن يكونوا نصف أهل الجنة مع أنهم في سائر الأمم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود كما جاء ذلك في الأحاديث فكيف يتمشى هذا؟
وقد أجاب عن ذلك الشيخ صالح بن مهدي المقبلي في كتابه: العلم الشامخ في الرد على الآباء والمشائخ ص 414.
بما ملخصه: إن الناس عامة وخاصة فالعامة آخرهم كأولهم مثل النساء والعبيد والفلاحين والسوقة ونحوهم ممن ليسوا من أمر الخاصة في شيء فلا شك في براءة هؤلاء من الابتداع.
وأما الخاصة فمنهم مبتدع أحدث البدعة واتخذها ديناً وبلغ في تقويتها كل مبلغ وجعلها أصلاً يرد إليه نصوص الكتاب والسنة. ثم تبعه قوم من نمطه في الفقه والتعصب وربما جددوا بدعته وفرعوا عليها ولكنه إمامهم المقدم. وهؤلاء هم المبتدعة حقاً.
ومن الناس من تبع هؤلاء وناصرهم وقوى سوادهم بالتدريس والتصنيف ولكنه في نفسه راجع إلى الحق وقد دس تلك الأبحاث نقوضها في مواضع على وجه خفي. ولعل هذا تخيل مصلحة دنيئة أو عظم عليه انحطاط نفسه وإيذاؤهم له في عرضه وربما بلغت الأذية نفسه. فهذا عرف الحق من الباطل وتخبط في تصرفاته وحسابه على الله إما أن يحشره مع من أحب بظاهره أو يقبل عذره.
وما تكاد تجد أحداً من هؤلاء النظار وأهل الكلام إلا وقد فعل ذلك.
ومن الناس من ليس من أهل التحقيق ولا هيئ للهجوم على الحقائق وقد تدرب في كلام الناس وعرف أوائل الأبحاث وحفظ كثيراً من غثاء ما حصلوه ولكن أرواح الأبحاث بينه وبينها حجاب.
وهؤلاء الأكثرون عدداً والأرذلون قدراً فإنهم لم يحظوا بخصيصة الخاصة ولا أدركوا سلامة العامة.
فالقسم الأول مبتدع قطعاً والثاني ظاهر الابتداع والثالث له حكم الابتداع.
وإذا حققت ما ذكرنا لك لم يلزمك السؤال المحذور وهو هلاك معظم الأمة لأن الأكثر عددا قديماً وحديثاً هم العامة. وكذلك الخاصة في الأعصار المتقدمة.
ولعل القسمين الأوسطين وكذلك من خفت بدعته من القسم الأول تنقذهم رحمة ربك من الانتظام في سلك الابتداع بحسب المجازاة الأخروية. ورحمة ربك أوسع بكل مسلم0 اهـ.
أصول فرق أهل الأهواء:
أصول فرق أهل الأهواء والبدع ثمانية:
الأول المعتزلة: ويسمون أصحاب العدل والتوحيد ويلقبون بالقدرية وهم عشرون فرقة.
والثاني الشيعة الشنيعة: وهم اثنتان وعشرون فرقة ترجع في الأصل إلى ثلاث فرق: الغالية والإمامية وهم الرافضة والزيدية.
والثالث الخوارج: ويسمون الحرورية والنواصب والشراة بضم الشين وهم عشرون فرقة0
والرابع المرجئة: والإرجاء له معنيان:
أ- التأخير، تقول: أرجأت الأمر إذا أخرته.
ب- إعطاء الرجاء، تقول: أرجيت فلاناً إذا أعطيته الرجاء.
والهمزة على الأول أصلية وعلى الثاني منقلبة عن حرف العلة.
وتسمية الجماعة مرجئة على المعنى الأول صحيح لأنهم يؤخرون العمل عن النية وعقد القلب لقولهم: إن الإيمان هو المعرفة بالله وبرسله وبما جاءت به من عند الله فقط والعمل ليس بإيمان. وتسميتهم مرجئة على المعنى الثاني واضح لقولهم: لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة. فقد أعطوا المؤمن العاصي الرجاء في ثواب الله. والمرجئة خمس فرق.
والخامس النجارية: ويسمون الحسينية أتباع أبي عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الله النجار، وافقوا أهل السنة في خلق أفعال العباد ووافقوا المعتزلة في نفي الصفات. وهم ثلاث فرق.
والسادس الجبرية: وهم الجهمية في الصفات أتباع جهم بن صفوان السمرقندي. والجبرية لا تثبت للعبد قدرة ولا فعلاً وتقول: نسبة الأفعال إلى العبد مجاز والفاعل حقيقة هو الله تعالى. وهم فرقة واحدة.
والسابع المشبهة: وهم غلاة المثبتة الذين شبهوا الخالق بالمخلوق حكى عن بعضهم أنه قال: أعفوني عن الفرج واللحية واسألوا عما وراء ذلك. تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. والمشبهة فرقة واحدة.
فهذه اثنتان وسبعون فرقة كلهم في النار والفرقة الناجية هم أهل السنة الملتزمون اتباع سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم في القليل والكثير.
واعلم أن افتراق الأمة واختلافها في أصول العقيدة قد حدثت بعد انتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى فقد حدث في آخر أيام الصحابة خلاف القدرية من معبد الجهني وأتباعه ثم شيئاً بعد شيء إلى أن تكاثرت الفرقة الضالة.
وقد رسم النبي صلى الله عليه وسلم الطريق التي يسير عليها المؤمن ووضع صلى الله عليه وسلم الميزان الصحيح الذي تعرض عليه المعتقدات ليبين صحيحها من مفاسدها فما خالف منها ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم فهو مردود على صاحبه غير مقبول منه.
وذلك يقتضي من كل مؤمن أن لا يأبه لما تزعمه كل فرقة وتدعيها لنفسها من أنها الناجية ومن عداها هالك.
فما من فرقة حتى الذين ألهوا البشر إلا وتتبجح بأنها على الحق.
فاعرض يا أخي المؤمن كل ما تسمع على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فما وافقهما فهو الحق الذي يجب أن تعض عليه بالنواجذ ولا تفارقه إلى أن تلقي ربك سبحانه. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه. وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه إنك ولي ذلك والقدير عليه.
وصلى الله وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه إلى يوم الدين.
العلم والمال
كان على بن أبى طالب رضي الله عنه يقول:
"العلم خير من المال، لأن المال تحرسه والعلم يحرسك، والمال تفنيه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق، والعلم حاكم والمال محكوم عليه
…
مات خزَان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقى الدهر، أعيانهم مفقودة وآثارهم في القلوب موجودة
…
"
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
الفرق بين الفرق للبغدادي ص9.
[2]
الكلب: بفتح الكاف. داء يصيب الكلب بجنون وعلامته أن تحمر عيناه. وإذا عقر هذا الكلب إنساناً عرض له من دلك أعراض رديئة. .
[3]
شرح العقيدة الطحاوية.
مكانة أهل الحديث ومآثرهم
وآثارهم الحميدة في الدّين
للدكتور ربيع هادي المدخلي
أستاذ مساعد بكلية الحديث الشريف
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله- صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين
وبعد- فإن الله بعث محمداً- صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرين.
وإن أسعد الناس بهديه واتباعه وحبه ومولاته ونصرة ما جاء به من الحق هم صحابته الكرام ومن اتبعهم بإحسان من القرون المفضلة. ومن سلك سبيلهم وترسم خطاهم إلى يوم الدين.
ثم إن من يدرس أحوال السابقين واللاحقين من الفرق المنتسبة إلى أمة محمد- صلى الله عليه وسلم ويدرس مناهجهم وعقائدهم وأفكارهم بإنصاف وفهم وتجرد يجد أن أهل الحديث هم أشدُّ الناس أتباعاً وطاعة وتعلقاً وارتباطاً بما جاءهم به نبيهم محمد- صلى الله عليه وسلم كتاباً وسنة في عقائدهم وعباداتهم ومعاملاتهم ودعوتهم واستدلالهم واحتجاجهم وهم على غاية من الثقة والطمأنينة بأن هذا هو المنهج الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وأنه الطريق السليم والصراط المستقيم.
وما عدا ذلك من المناهج والسبل فأمر لم يشرعه الله ولم يرض به ولا يؤدي إلا إلى الهلاك والعطب0
فمن هم أهل الحديث إذا؟
هم من نهج نهج الصحابة والتابعين لهم بإحسان في التمسك بالكتاب والسنة والعض عليهما بالنواجذ وتقديمهما على كل قول وهدي سواء في العقائد أو العبادات أو المعاملات أو الأخلاق أو السياسة والاجتماع.
فهم ثابتون في أصول الدين وفروعه على ما أنزله الله وأوحاه على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
وهم القائمون بالدعوة إلى ذلك بكل جد وصدق وعزم. وهم الذين يحملون العلم النبوي وينفون عنه تحريف المغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.
فهم الذين وقفوا بالمرصاد لكل الفرق التي حادت عن المنهج الإسلامي، كالجهمية والمعتزلة والخوارج والروافض والمرجئة والقدرية، وكل من شذ عن منهج الله واتبع هواه في كل زمان ومكان لا تأخذهم في الله لومة لائم.
هم الطائفة التي مدحها رسول الله- صلى الله عليه وسلم وزكاها بقوله: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة ".
هم الفرقة الناجية الثابتة على ما كان عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم وأصحابه، الذين ميزهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم وحددهم عندما ذكر أن هذه الأمة ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، فقيل: من هم يا رسول الله؟ قال:"من كان على ما أنا عليه وأصحابي".
لا نقول ذلك مبالغة ولا دعاوى مجردة، وإنما نقول الواقع الذي تشهد له نصوص القرآن والسنة، ويشهد له التاريخ وتشهد به أقوالهم وأحوالهم ومؤلفاتهم.
هم الذين وضعوا نصب أعينهم قول الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103) .
وقوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: 63) . فكانوا أشد الناس بعداً عن مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبعدهم عن الفتن.
وهم الذين جعلوا دستورهم {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: 65) .
فقدروا نصوص القرآن والسنة حق قدرها وعظموها حق تعظيمها فقدموها على أقوال الناس جميعاً وقدموا هديها على هدى الناس جميعاً واحتكموا إليها في كل شأن عن رضى كامل وصدور منشرحة بلا ضيق ولا حرج وسلموا لله ولرسوله التسليم الكامل في عقائدهم وعباداتهم ومعاملاتهم.
هم الذين يصدق فيهم قول الله: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (النور: 51) .
هم بعد صحابة رسول الله جميعا وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون هم سادة التابعين وعلى رأسهم سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلي بن الحسين زين العابدين ومحمد بن الحنفية وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وسالم بن عبد الله بن عمر والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق والحسن البصري ومحمد بن سيرين وعمر بن عبد العزيز ومحمد ابن شهاب الزهري ثم أتباع التابعين وعلى رأسهم مالك والأوزاعي وسفيان بن سعيد الثوري وسفيان بن عينة وإسماعيل بن علية والليث بن سعد وأبو حنيفة النعمان.
ثم أتباع هؤلاء وعلى رأسهم عبد الله بن المبارك ووكيع بن الجراح والإمام محمد بن إدريس الشافعي وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان وعفان بن مسلم.
ثم تلاميذ هؤلاء الذين سلكوا منهجهم وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني.
ثم تلاميذهم كالبخاري ومسلم وأبي حاتم وأبي زرعة وأبي داود والترمذي والنسائي.
ثم من جرى مجراهم في الأجيال بعدهم كابن جرير وابن خزيمة والدارقطني في زمنه والخطيب البغدادي وابن عبد البر النمري0
وعبد الغني المقدسي وابن قدامة وابن الصلاح وابن تيمية والمزي والذهبي وابن كثير وأقران هؤلاء في عصوهم ومن تلاهم واقتفى أثرهم في التمسك بالكتاب والسنة إلى يومنا هذا. هؤلاء الذين أعنى به أهل الحديث
جهودهم في خدمة السنة عموماً:
وتدوين أسماء رواتها وبيان أحوالهم من عدالة وضبط وإتقان أو ضعف وكذب وتدليس وغير ذلك من أحوالهم من أنواع الجرح والتعديل مما يتعلق بالأسانيد والمتون بدون مجاملة لأحد لا تأخذهم في الله لومة لائم وتلك ميزة خاصة لأمة محمد- صلى الله عليه وسلم امتازت بها على سائر الأمم حققها الله على أيدي أئمة أهل الحديث الذين أبدوا من الكفاءات العلمية المدهشة ما لا يلحقهم ولا يدانيهم فيها أهل أي علم من العلوم.
وبرهنت أعمالهم وجهودهم وما خلفوه من تراث عظيم على عبقريات عظيمة وقرائح متوقدة وعقول خصبة قادرة على تشقيق علوم الحديث وتنويعها إلى حد تحار فيه الألباب.
من هذا الإنتاج العظيم أنواع المؤلفات اللاتي ذكرها:
1 -
الجوامع.
2-
المسانيد.
3-
والصحاح.
4-
السنن.
5-
المستخرجات.
6-
كتب مفردة في أبواب مخصوصة.
ككتب في رؤية الله في الآخرة وكتب في الإخلاص والتوحيد. والطهور والسواك والأذان وصفة الصلاة.
7-
كتب مفردة في الآداب والأخلاق والترغيب والترهيب.
8-
كتب في التفسير.
9-
كتب في المصاحف والقراءات.
10-
كتب في الناسخ والمنسوخ.
11-
كتب في الأحاديث القدسية.
12-
كتب في المراسيل.
13-
الأجزاء عندهم تأليف الأحاديث المروية عن رجل واحد من الصحابة أو من بعدهم.
14-
الفوائد.
15-
الوحدانيات.
16-
الثنائيات والثلاثيات إلى العشاريات.
17-
كتب في الشمائل والسير والمغازي.
18-
كتب في أحاديث شيوخ مخصوصين.
19-
كتب في جمع طرق بعض الأحاديث.
20-
كتب في رواة بعض الأئمة أو في غرائب حديثهم0
21-
كتب في الأحاديث الأفراد.
22-
كتب في المتفق والمفترق وفي المؤتلف والمختلف. وكتب في المتشابه.
23-
كتب في معرفة الأسماء والكنى والألقاب.
24-
كتب في مبهم الأسانيد أو المتون.
25-
كتب في الأنساب.
26-
كتب في معرفة الصحابة.
27-
كتب في تواريخ الرجال وأحوالهم.
28-
كتب المعاجم.
29-
كتب الطبقات.
30-
كتب في علوم الحديث أي مصطلحه0
31-
كتب في الضعفاء وكتب في الثقات وكتب فيهما.
32-
كتب في العلل.
33-
كتب في الموضوعات.
34-
كتب في بيان غريب الحديث.
35-
كتب في اختلاف الحديث.
36-
كتب في الأمالي.
37-
كتب في رواية الأكابر عن الأصاغر.
38-
كتب في أدب الرواية.
39-
كتب في العوالي.
40-
كتب في الأطراف أي أطراف الأحاديث0
41-
كتب في الزوائد.
42-
كتب في الجمع بين بعض الكتب- الحديثية
فهذه هي بعض المجالات التي كان يخوضها علماء الحديث والأثر تأليفاً ودراسة وهو يدل على همم عالية وعقول متفتحة خصبة واسعة الأفاق وإذا كان يحق للأمة أن ترفع رؤوسها وتعتز بأسلافها فبهؤلاء العباقرة وبعلومهم الواسعة النافعة وعقولهم النيرة المتفتحة، في الوقت الذي كان غيرهم ولا يزال يبذلون جهودهم في الحجر على العقول ودفع الأمة إلى الجمود القاتل المؤدي إلى الهلاك والضياع والفناء0
جهودهم الخاصة بالعقيدة والدعوة إلى الكتاب والسنة والتثبيت عليهما والدفاع عنهما:
كان الصحابة- رضوان الله عليهم- ومن سلك منهجهم واتبعهم بإحسان في عقائدهم وعباداتهم وأخلاقهم ومعاملاتهم، مؤمنين إيماناً كاملاً بما جاء في كتاب الله المجيد وسنة رسوله المطهرة في باب أسماء الله وصفاته المقدسة من غير تحريف ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل وكذلك في الإيمان بالقدر والجنة والنار وعذاب القبر ونعيمه وسائر المعتقدات التي حصل فيها الانحراف من بعض الفرق والله الخالق العليم الحكيم- قد فطر الناس وأعدهم وهيأهم وأعطاهم عقولاً تناسب الحق وتوافقه وأنزل إليهم كتباً تتضمن من العقائد والشرائع ما يوافق العقول السليمة والفطر الصحيحة التي سلمت من الانحراف والفساد0 فيتلقى حواريو الأنبياء ومن ورثهم بحق واتبعهم بإحسان ما جاء به الرسل والكتب بالإيمان والتسليم.
وهذا كان موقف الصحابة الكرام ومن اتبعهم بإحسان.
ولما ذرت قرون شياطين البدع وقفوا لهم بالمرصاد فضللوهم وبدعوهم وكفروا من يستحق التكفير وقتلوا بعض رؤساء البدع والفتن والزندقة ثم ردوا في مقالاتهم ومؤلفاتهم على أهل البدع وبينوا خطرها وضررها على الإسلام والمسلمين.
وثبتوا المسلمين على كتاب ربهم وسنة نبيهم وبينوا لهم أن الواجب عليهم الإعتصام بكتاب ربهم وسنة نبيهم- صلى الله عليه وسلم ومنابذة الأهواء وأهلها. إيمانا منهم أن القرآن والسنة كافيان غاية الكفاية في كل ما يجب على المرء الإيمان به واعتقاده كفيلان بهداية الناس وسعادتهم في الدنيا والآخرة. وأن الضلال والشقاء في الدنيا والآخرة في مخالفتهما فاستناداً إلى ما جاء في الكتاب والسنة من وجوب اتباع الرسول- صلى الله عليه وسلم وطاعته والانقياد له وإيجاب رد ما تنازع الناس فيه إلى الله والرسول والوعيد الشديد لمن خالف هذا المنهج وشرع في الدين ما لم يأذن به الله.
ومن تحذير رسول الله- صلى الله عليه وسلم من البدع وذمه لها وحكمه على كل بدعة أنها ضلالة وأنها مردودة لا يقبلها الله.
قام من لحقتهم هذه الفتن من الصحابة بقمع أهلها والرد عليهم فقام علي- رضي الله عنه بقتل الخوارج وروى هو وغيره من الصحابة عن رسول الله ما يحض على قتلهم وأنه من أفضل ما يقرب إلى الله.
وأحرق غلاة الشيعة بالنار حينما غلوا فيه ورفعوه إلى درجة الألوهية.
ولما بلغ عبد الله بن عمر- رضي الله عنه أن قوماً ينفون القدر وأن الأمر عندهم أنف قال لمن اخبره بهم: "إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني براء منهم وأنهم مني برآء والذي نفسي بيده لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه في سبيل الله ما قبل الله منه شيئاً حتى يؤمن بالقدر خيره وشره ".
وسئل مالك عمن يقول: "القرآن مخلوق"، قال:"هو عندي كافر فاقتلوه". وعن ابن المبارك والليث بن سعد وابن عيينة وهشيم وعلي بن عاصم وحفص بن غياث ووكيع بن الجراح مثله [1] ومثله عن النووي ووهب بن جرير ويزيد بن هارون [2] 0 وقيل لعبد الرحمن بن مهدي: إن الجهمية يقولون: إن القرآن مخلوق.
فقال: "إن الجهمية أرادوا أن ينفوا أن يكون الرحمن على العرش استوى، وأرادوا أن ينفوا أن يكون القرآن كلام الله أرى أن يستتابوا وإلا ضربت أعناقهم"[3] 0
وقال الربيع بن سليمان المرادي صاحب الشافعي:"لما كلم حفص الفرد الشافعي فقال حفص القرآن مخلوق فقال له الشافعي- رضي الله عنه " كفرت بالله العظيم " [4] .
وسئل مالك عن الاستواء فقال: "الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة وما أراك إلا صاحب بدعة وأمر به فأخرج وكان يقول: إن الله في السماء. وأخرج رجلاً من حلقته لأنه مرجيء"0
وقال سعيد بن عامر: "الجهمية أشر قولاً من اليهود والنصارى. قد اجتمعت اليهود والنصارى وأهل الأديان أن الله تبارك وتعالى على العرش وقالوا هم: ليس على العرش شيء"[5] .
وقال ابن المبارك:"لا نقول كما قالت الجهمية إنه في الأرض ها هنا بل على العرش استوى".
وقيل له: كيف نعرف ربنا؟
قال:"فوق سماواته على عرشه
…
وإنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية" [6] .
وقال البخاري: "نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس فما رأيت أضل في كفرهم منهم وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم [7] ".
ونقل الإمام البخاري أقوال كثير من الأئمة في تضليل وتكفير الجهمية في إنكارهم أن الله في السماء وفي قولهم إن القرآن مخلوق0 (راجع خلق أفعال العباد له)
وخرج البيهقي بسند جيد عن الأوزاعي قال: "كنا والتابعون متوافرون نقول إن الله على عرشه ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته".
وأسند اللالكائي عن محمد بن الحسن الشيباني قال:"اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن وبالأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب من غير تشبيه ولا تفسير فمن فسر شيئاً منها وقال بقول جهم فقد خرج عما كان عليه النبي- صلى الله عليه وسلم وأصحابه وفارق الجماعة لأنه وصف الرب بصفة لا شيء".
وأخرج ابنا أبي حاتم في مناقب الشافعي عن يونس بن عبد الأعلى سمعت الشافعي يقول: "لله أسماء وصفات لا يسع أحداً ردها ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه فقد كفر وأما قبل قيام الحجة، فإنه يعذر بالجهل لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا الرؤية والفكر فنثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه فقال:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (انظر فتح الباري)(13/406- 407) .
وروى الإمام أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي المتوفى سنة 279 في جامعه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه "إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره حتى أن اللقمة لتصير مثل أحد".
وقال عقبه: هذا حديث حسن صحيح.
وروى عن عائشة عن النبي- صلى الله عليه وسلم نحو هذا ثم قال: "وقد قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبه هذا من الروايات من الصفات ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا قالوا قد ثبتت الروايات في هذا ويؤمن بها ولا يتوهم ولا يقال كيف؟.
هكذا روي عن مالك وسفيان بن عيينه وعبد الله بن المبارك أنهم قالوا في هذه الأحاديث أمروها بلا كيف وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة.
وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات وقالوا: هذا تشبيه وقد ذكر الله عز وجل في غير موضع من كتابه اليد والسمع والبصر. فتأولت الجهمية هذه الآيات ففسروها على غير ما فسر أهل العلم وقالوا: "إن الله لم يخلق آدم بيده"وقالوا:"إن معنى اليد هاهنا القوة".
وقال إسحاق بن إبراهيم:"إنما يكون التشبيه إذا قال يد كيد أو سمع كسمع أو مثل سمع، فإذا قال: سمع كسمع أو مثل سمع فهذا التشبيه".
وأما إذا قال كما قال الله تعالى يد وسمع وبصر ولا يقول كيف ولا يقول مثل سمع ولا كسمع فهذا لا يكون تشبيهاً.
وهو كما قال الله تعالى: في كتابه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الترمذي كتاب الزكاة عقب حديث 662 جـ3 ص 43 طبعة الحلبي) .
وروى أيضا حديث الحسن البصري عن أبي هريرة مرفوعاً في السماوات والمسافات بينها وأن العرش فوقها وذكر الأرضيين والمسافات بينها ثم قال هذا حديث غريب من هذا الوجه. ثم اثبت استواء الله على عرشه فقال:
"وهو على العرش"كما وصف في كتابه (48- كتاب التفسير حديث 3298)(5/404) طبعة الحلبي.
أما المؤلفات في نصرة العقيدة والرد على أهل البدع فهو كثيرة لا تحصى نذكر منها ما يأتي:
ألف الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة والحديث المتوفى سنة 241 هـ: كتاب: الرد على الجهمية والزنادقة 0 وألف كتاب: السنة. وألف ابنه عبد الله كتاب: السنة.
وألف أبو بكر بن أبي شيبة المتوفى سنة 235 هـ كتاب: الإيمان.
وألف الإمام البخاري المتوفى سنة 256 هـ: كتاب: خلق أفعال العباد ضمنه الرد على الجهمية المعطلة لصفات الله والقائلين بخلق القرآن0
وضمن كتابه الجامع الصحيح ثلاثة كتب في هذا المجال: كتاب: الإيمان وضمنه الرد على المرجئة. وكتاب: التوحيد وضمنه الرد على معطلة الجهمية. وكتاب: الاعتصام وضمنه وجوب اتباع الكتاب والسنة وضمنه الرد على أهل الرأي المفرقين في القياس والرد على منكري حجية خبر الآحاد.
وألف أبو داود كتابه: السنن وأدخل فيه كتاب السنة وضمنه الرد على القدرية والمرجئة والجهمية المعطلة وهو يضع تراجم واضحة بأسماء هذه الفرق كقوله بباب الرد على الجهمية في موضعين من كتاب السنة في الموضوع الأول رد عليهم إنكار استواء الله على العرش وفي الموضوع الثاني رد عليهم إنكار النزول.
ووضع الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد ابن ماجة مقدمة لكتابه السنن في اتباع سنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم استغرقت 98 صفحة وضمنها ستة وستين حديثاً ومائتي حديث. وضمنها أبواباً كثيرة من جملتها باب فيما أنكرت الجهمية ذكر فيه إنكارهم الرؤية والكلام والاستواء على العرش وساق أحاديث في الرد عليهم وذكر الخوارج وغيرهم من المبتدعة وعقد باباً في اجتناب الرأي.
وألف عثمان بن سعيد الدارمي المتوفى سنة 280 هـ كتاب: الرد على الجهمية. وكتاب: الرد على بشر المريسي.
وصنف أبو بكر أحمد بن علي بن سعيد المروزي المتوفى سنة 292 هـ كتاب: السنة.
وصنف أبو بكر محمد بن الحسين بن عبد الله الآجري المتوفى سنة 360 هـ كتاب: الشريعة. وكتاب: التصديق بالنظر إلى وجه الله وما أعد لأوليائه.
وألف أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الشافعي الطبراني صاحب التصانيف المتوفى سنة 360 هـ كتاب: السنة.
وألف الإمام أحمد بن محمد بن هانىء أبو بكر الأثرم المتوفى سنة 273 هـ كتاب: السنة.
وألف الإمام أبو علي حنبل بن إسحاق الشيباني ابن عم الإمام أحمد بن حنبل وتلميذه المتوفى سنة 273 هـ كتاب: السنة.
وألف الإمام أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال مؤلف علم أحمد وجامعه المتوفى سنة 311 هـ كتاب: السنة وهو في ثلاث مجلدات.
وألف الإمام أبو الشيخ عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان الأصبهاني ذو التصانيف المتوفى سنة 369 هـ كتاب: السنة.
وألف أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل الشيباني المتوفى سنة 287 هـ كتاب: السنة.
وصنفه أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان البغدادي الواعظ المعروف بابن شاهين الحافظ الكبير ذو التصانيف العجيبة المتوفى سنة 385 هـ كتاب: السنة 0
وصنف الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري المتوفى سنة 324 هـ كتاب: الإبانة وكتاب: الموجز على طريقة أهل الحديث في إثبات الصفات وضمنه الرد على الجهمية وغيرهم من فرق التعطيل.
وألف الإمام الحافظ خشش بن أصرم المتوفى 253 هـ كتاب: الاستقامة والرد على أهل البدع.
وألف إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة المتوفى سنة 311 هـ كتاب: التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل.
وألف إمام المفسرين أبو جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310 هـ عقيدة على منهج أهل الحديث وجرى في تفسيره الكبير الشهير على المنهج نفسه0
وصنف أبو عبد الله محمد بن يحيى بن مندة الحافظ الرحال المتوفى سنة 301 هـ كتاب: السنة.
وصنف الإمام أبو بكر أحمد بن إسحاق الشافعي النيسابوري المتوفى سنة 342 هـ المعروف بالصبغي كتاب: الأسماء والصفات. وكتاب: الإيمان بالقدر.
وألف أبو أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم العسال الأصبهاني المتوفى سنة 349 هـ كتاب: السنة.
وألف أبو الحسين محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الملطي الشافعي المتوفى سنة 377 هـ كتاب: التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع.
وصنف الإمام الحافظ الكبير أمير المؤمنين في الحديث أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني المتوفى سنة 385 هـ كتاب: الصفات. وكتاب: النزول. وكتاب: الرؤية.
وألف الإمام الحافظ عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري المتوفى سنة 387 هـ كتاب: الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة، والإبانة الصغرى، والسنة.
وألف الإمام الحافظ الجوال صاحب التصانيف الكثيرة محمد بن إسحاق بن يحيى بن مندة المتوفى سنة 395 هـ كتاب: التوحيد، وكتاب الإيمان.
وألف الإمام الزاهد شيخ الإسلام أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي المتوفى سنة 490 هـ كتاب: الحجة في مجلد.
وألف الإمام أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري الرازي اللالكائي محدث بغداد المتوفى سنة 418 هـ كتاب: شرح أصول السنة.
وألف الإمام أبو محمد عبد الله بن يوسف الجويني المتوفى سنة 438 هـ رسالة في إثبات الاستواء والفوقية.
وألف الإمام الكبير أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الهروي المتوفى سنة 481 هـ كتاب: الفاروق في صفات الله. وكتاب: ذم الكلام.
وألف الإمام الزاهد شيخ الإسلام أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي المتوفى سنة 490 هـ كتاب: الحجة في مجلد.
وافتتح الإمام محي السنة أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي الشافعي المتوفى سنة 516 هـ كتابه: شرح السنة. بكتاب الإيمان من ص 7- 231 ضمنه الأبواب الآتية:
1-
باب الإيمان بالقدر 30- باب وعيد القدرية0 3- باب الرد على الجهمية0 4- باب الرد على من قال بخلق القرآن0 5- باب الاعتصام بالكتاب والسنة0 6- باب رد البدع والأهواء0 7-باب مجانبة أهل الأهواء.
ونهج في كتابه التفسير نهج أهل الحديث والسنة في إثبات الصفات ومخالفة أهل الأهواء في ذلك0
وألف العلامة أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي الشافعي صاحب شيخ الإسلام الهروي المتوفى سنة 532 هـ عقيدة على منهج السلف.
وألف الإمام الحافظ أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي الطلحي الأصبهاني المتوفى سنة 535 هـ كتاب: الحجة في بيان المحجة على منهج أهل الحديث.
وألف الإمام الحافظ محدث الإسلام عبد الغني بن عبد الواحد بن سرور المقدسي الحنبلي، صاحب التصانيف المتوفى سنة 600 هـ كتاباً في الصفات في جزأين تذكرة الحفاظ 4/1374 0
وألف الإمام شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية- رحمه الله المتوفى سنة 728 هـ عدداً من الكتب في: العقيدة والدعوة إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة، ومحاربة البدع، كالعقيدة الواسطية، والعقيدة الحموية، والعقيدة التدمرية، واقتضاء الصراط المستقيم، ومنهاج السنة، والرد على البكري، والرد على الاخنائي، والفتاوى، وكلها تهدف إلى العودة بالأمة الإسلامية إلى الكتاب والسنة وإلى منهج السلف الصالح.
وألف تلميذه الإمام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية- رحمه الله المتوفى سنة 751 هـ كتاب: الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، وكتاب: اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية. والقصيدة النونية في مجال العقيدة. وأعلام الموقعين في باب الاعتصام بالسنة.
وألف الإمام الحافظ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي المتوفى سنة 748 هـ كتاب: العلو للعلي الغفار جمع فيه نصوص الكتاب والسنة في علو الله وما بلغه من أقوال الصحابة والتابعين وأئمة الحديث وأئمة الفقه وأتباعهم إلى عصره.
وألف العلامة القاضي صدر الدين علي بن علي بن أبي العز الحنفي الصالحي الدمشقي المتوفى سنة 792 هـ رسالة سماها الإتباع موضوعها وجوب اتباع السنة كما شرح العقيدة الطحاوية على منهج أهل الحديث في الصفات والقرآن والقدر وغيرها من العقائد الإسلامية.
ثم كانت حركات الدعوة إلى الكتاب والسنة وتصحيح العقائد ومحاربة البدع في العالم الإسلامي. كحركة الصنعاني والشوكاني في اليمن.
وحركة الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية وحركة أهل الحديث في الهند امتداداً لدعوة أهل الحديث ومنهجهم وهي لا تزال قائمة إلى قيام الساعة كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: " لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى قيام الساعة ".
يرزق الله العلم السعداء ويحرمه الأشقياء
عن عبد الرزاق، قال:
سمعت سفيان الثوري يقول لرجل من العرب:
"ويحكم، أطلبوا العلم، فإني أخاف أن يخرج العلم من عندكم فيصير إلى غيركم، فتذلون
…
أطلبوا العلم، فإنه شرف في الدنيا وشرف في الآخرة "
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال:
"يرزق الله العلم السعداء، ويحرمه الأشقياء ".
وقال عبد الملك بن مروان لبنيه:
"يا بني، تعلموا العلم، فإن استغنيتم كان لكم كمالاً، فإن افتقرتم كان لكم مالاً "
وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول:
"زيادة العلم: الابتغاء، ودرك العلم: السؤال
…
فتعلم ما جهلت، واعمل بما عملت " 000
(جامع بيان العلم وفضله)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لله أشد فرحاً بتوبة عبده المؤمن من رجل بأرض فلاة دوية مهلكة ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه، فنزل عنها فنام وراحلته عند رأسه فاستيقظ وقد ذهبت، فذهب في طلبها فلم يقدر عليها حتى أدركه الموت من العطش، فقال: والله لأرجعن فلأموتن حيث كان رحلي، فرجح فنام، فاستيقظ، فإذا راحلته عند رأسه، فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح "
متفق عليه.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
شرح السنة للبغوي (1/187) .
[2]
خلق أفعال العباد ص 119 تحقيق على سامي النشار.
[3]
شرح السنة للبغوي (1/187) .
[4]
شرح السنة للبغوي (1/187) .
[5]
خلق أفعال العباد ص 120.
[6]
خلق أفعال العباد ص 120.
[7]
خلق أفعال العباد ص 122.
بَيَانُ مَذهَبِ أهلِ السُّنةِ في الاستواء وَسَائِر الصِّفاتِ
لسَمَاحة الشيخ عبد العزيز بن بَاز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت أخيراًَ على ما نشر في مجلة البلاغ بعددها رقم 637 من إجابة الشيخ أحمد محمود دهلوب على السؤال الآتي: ما تفسير قوله تعالى {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وجاء في هذه الإجابة جملة نسبها إلى السلف وهي قوله: "وقال أهل السلف استوى على العرش استوى عليه وملكه كقولهم:
من غير سيف أو دم مهراق
استوى بشر على العراق
وحيث إن هذه النسبة إلى السلف غلط محض. أحببت التنبيه على ذلك لئلا يغتر من يراها فيظنها من قول العلماء المعتبرين. والصواب أن هذا التفسير هو تفسير الجهمية والمعتزلة ومن سلك سبيلهم في نفي الصفات وتعطيل الباري سبحانه وتعالى عما وصف به نفسه من صفات الكمال. وقد أنكر علماء السلف رحمهم الله مثل هذا التأويل وقالوا إن القول في الاستواء كالقول في سائر الصفات وهو إثبات الجميع لله على الوجه اللائق به سبحانه من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل. قال الإمام مالك رحمه الله:"الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة".
وعلى هذا درج علماء السلف من أهل السنة والجماعة رحمهم الله. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالة الحموية: "فهذا كتاب الله من أوله إلى آخره وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها ثم عامة كلام الصحابة والتابعين ثم كلام سائر الأئمة مملوء بما هو إما نص وإما ظاهر في أن الله سبحانه وتعالى هو العلي الأعلى وهو فوق كل شيء وهو عالٍ على كل شيء، وأنه فوق العرش، وأنه فوق السماء مثل قوله تعالى: {إليْهِ يَصْعدُ الِكَلمُ الطَيبُ والعَملُ الصَالحُ يَرفَعهُ} . {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيّ} . {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} . {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً حَاصباً} . {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} . {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} . {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} . {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} . {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} . في سبعة مواضع إلى أن قال إلى أمثال ذلك مما لا يكاد يحصي إِلا بالكلفة. وفى الأحاديث الصحاح والحسان ما لا يحصى إِلا بالكلفة مثل قصة معراج الرسول إلى ربه ونزول الملائكة من عند الله وصعودها إِليه وقوله في الملائكة الذين يتعاقبون فيكم بالليَل والنهار. "فيعرج الذين باتوا فيكم إلى ربهم فيسألهم وهو أعلم بهم"وفي الصحيح في حديث الخوارج "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحاً ومساء" إلى أن قال: "إلى أمثال ذلك مما لا يحصيه إلا الله، مما هو أبلغ المتواترات اللفظية والمعنوية التي تورث علماً يقيناً من أبلغ العلوم الضرورية أن الرسول المبلغ عن الله ألقى إلى أمته المدعوين أن الله سبحانه على العرش وأنه فوق السماء كما فطر الله على ذلك جميع الأمم عربهم وعجمهم في الجاهلية والإسلام
إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته، ثم عن السلف في ذلك من الأقوال ما لو جمع لبَلغ مئين أو ألوفاً"الخ ا. هـ0
وبما ذكرناه يتضح للقراء أن ما نسبه أحمد محمود دهلوب إلى السلف من تفسير الاستواء بالاستيلاء غلط كبير وكذب صريح لا يجوز الالتفات إليه، بل كلام السلف الصالح في ذلك معلوم ومتواتر، وهو ما أوضحه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من تفسير الاستواء بالعلو فوق العرش، وأن الإيمان به واجب، وأَن كيفيته لا يعلمها إلا الله سبحانه. وقد روى هذا المعنى عن أم سلمة أم المؤمنين وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ مالك رحمه الله وهو الحق الذي لا ريب فيه وهو قول أهل السنة والجماعة بلا ريب. وهكذا القول في باقي الصفات من السمع والبصر والرضى والغضب، واليد والقدم والأصابع والكلام والإرادة وغير ذلك. كلها يقال فيها إنها معلومة من حيث اللغة العربية، فالإيمان بها واجب والكيف مجهول لنا لا يعلمه إلا الله سبحانه مع الإيمان أن صفاته سبحانه كلها كاملة، وأنه سبحانه لا يشبه شيئاً من خلقه، فليس علمه كعلمنا ولا يده كأيدينا ولا أصابعه كأصابعنا ولا رضاه كرضانا إلى غير ذلك كما قال سبحانه:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وقال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} وقال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} والمعنى أنه لا أحد يساميه سبحانه أي يشابهه وقال عز وجل: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} والآيات في هذا المعنى كثيرة والواجب على المؤمن التمسك بما أخبر الله به ورسوله ودرج عليه سلف الأمة من الصحابة رضي الله عنهم وأتباعهم بإحسان، والحذر من مقالات أهل البدع الذين أعرضوا عن الكتاب والسنة وحكموا أفكارهم وعقولهم فضلوا وأضلوا. والله المسئول أن
يحفظنا وجميع المسلمين من مضلات الفتن وأن يعيذنا وسائر المسلمين من نزغات الشيطان واتباع خطواته إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
مَفهُومُ الأسمَاء والصِّفات
سَعد نَدَا
المدرس بالجامعة الإسلامية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن تبع هديه ووالاه، وبعد:
فإذا توهم بعض الناس أن الكتابة في أسماء الله عز وجل أمر لا أهمية له وزعموا أنهم جميعاً يعرفون الله تعالى، ولا حاجة لهم إلى مثل هذه الموضوعات.
فأقول: وهل يعرف ربه من يجهل ربه بأسمائه الحسنى وصفات كماله العليا التي اختارها هو سبحانه لنفسه وجعلها لنا سبيلاً إلى التعرف عليه جل وعلا؟
وهل يستطيع أن يعبد ربه ويجرد له عبادته من لم يتعرف على ربه ولم يعلم له اسما ولا صفة؟
وإلا فليدلني أولئك الزاعمون: ممن يطلب الواحد منهم الرزق مثلاً إن لم يكن يعرف أن من أسماء ربه سبحانه: الرزاق، ومن صفاته صفة الرزق؟ وممن يطلب المغفرة إن لم يكن يعرف أن من أسماء ربه سبحانه: الغافر والغفار، ومن صفاته صفة المغفرة؟ وهكذا.
إن معرفة العبد أسماء ربه الحسنى وصفات كماله العليا له شأن عظيم، ومن روائع ما ذكره الإمام ابن القيم- رحمه الله في أهمية التعرف على الله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله قوله: "لا حياة للقلوب، ولا سرور، ولا لذة، ولا نعيم، ولا أمان، إلا بأن تعرف ربها، ومعبودها، وفاطرها، بأسمائه وصفاته، وأفعاله، ويكون ذلك أحب إليها مما سواه، ويكون سعيها فيما يقربها إليه. ومن المحال أن تستقل العقول البشرية بإدراك ذلك على التفصيل، فاقتضت حكمةُ العزيز العليم بأن بعث الرسل به مُعَرِّفين، وإليه داعين، ولمن أجابهم مبشرين، ولمن خالفهم منذرين، وجعل مفتاحَ دعوتهم وزبدةَ رسالتهم معرفةَ المعبود سبحانه بأسمائه، وصفاته، وأفعاله. وعلى هذه المعرفة تنبني مطالبُ الرسالة جميعها، فإن الخوفَ والرجاء، والمحبة والطاعةَ والعبوديةَ تابعةٌ لمعرفة المرجُوّ، المخّوف، المحبوب، المُطاع، المعبُود.
ولما كان مفتاحُ الدعوة معرفةَ الربِّ تعالى، قال أفضلُ الداعين إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل، وقد أرسله إلى اليمن: "إنك تأتى قوماً من أهل الكتاب، فليكنْ أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا عرفوا الله، فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة
…
الحديث".
وهو في الصحيحين- واللفظ لمسلم [1] 0
ثم قال الإمام ابن القيم- رحمه الله: "والمقصود أن الله تعالى أكمل للرسول ولأمته به دينهم، وأتم عليهم به نعمته. ومحال مع هذا أن يَدَعَ ما خُلِقَ له الخلقُ، وأُرسلت به الرسلُ، وأُنزِلت به الكتبُ، ونُصِبَتْ عليه القِبْلةُ، وأسِّسَتْ عليه المِلَّةُ، وهو باب الإيمان بالله، ومعرفته ومعرفة أسمائه، وصفاته، وأفعاله ملتبساً مشتبِهاً حقُّهُ بباطله، لم يتكلم فيه بما هو الحق بل تكلم بما هو الباطل، وأن الحق في إخراجه عن ظاهره. فكيف يكون أفضل الرسلِ وأجلُّ الكتب غيرَ وافٍ بتعريف ذلك على أتم الوجوه؟ مبين له بأكمل البيان؟ موضح له غاية الإيضاح؟ مع شِدَّة حاجة النفوس إلى معرفته، وهو أفضل ما اكتسبته النفوس، وأجلُّ ما حصلته القلوب؟ [2] ".
بعد هذا التقديم، أعود إلى إتمام ما بدأته من الكلام على أسماء الله الحسنى، سائلا الله عز وجل أن يلهمني الرشاد. فأقول:
المؤمن:
هو اسم من أسماء الله عز وجل. وهو من (آمن) عباده من أن يظلمهم. وأصل (آمَنَ) : (أأمَنَ) بهمزتين لُيِّنت الثانية [3] .
وقيل: المؤمن: هو الذي يَصْدُق عبادَه وعْدَه: فهو من الإيمان: التصديق، أو يؤمنهم في القيامة من عذابه، فهو من الأمان، والأمْن ضد الخوف [4] 0
. وقد ورد اسم (المؤمن) جل وعلا في القرآن الكريم مرة واحدة فقط [5] . في قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ
…
} [الحشر آية 23]
- وقد قيل في معنى (المؤمن) في هذه الآية: أنه سبحانه الذي يؤمن خلقه من ظلمه. المصدِّق الموقن: بمعنى أن الناس آمنوا بربهم فسماهم مؤمنين، وآمن الربّ الكريمُ لهم بإيمانهم. صدقهم [6] .
- وقيل المؤمن: هو واهب الأمن [7] .
- وقيل: المؤمن: فيه ستة أقوال:
1-
أنه- سبحانه- الذي أمن الناسُ ظلمَه، وأَمِنَ مَنْ آمَنَ به عذابَه. قاله ابن عباس ومقاتل.
2-
أنه المجير- قاله القرظي.
3-
أنه الذي يُصَدِّق المؤمنين إذا وحدوه- قاله ابن زيد.
4-
أنه الذي يصدِّق عباده وعدَه- قاله ابن قتيبة.
5-
أنه الذي وحَّد نفسه لقوله تعالى {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} [آل عمران آية 118]- قاله الزجاج.
6-
أنه الذي يُصدِّق ظُنون عباده المؤمنين ولا يُخيب آمالهم، كقول النبي صلى الله عليه وسلم "أنا عند حسن ظن عبدي بي"- حكاه الخطابي- وهذا الحديث جزء من حديث قدسي رواه كل من البخاري ومسلم في صحيحهما بتمامه ولفظه عند البخاري بتمامه عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: أنا عند حسن ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإنْ ذكرني في ملإ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلىَّ شبراً تقربتُ إليه ذراعاً، وإنْ تقرب إلىَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيتُه هرولة".
والحديث يرشد إلى تحسين الظن بالله عز وجل، وهذا لا يكوِن إلا لمن تاب، وندم، وأقلع، وأَتبع السيئة الحسنةَ، واستقبل بقية عمره بوسائل النجاة فمَن فعل ذلك ثم أحسن الظن، فقد أحسن وحلَّ محلَّه، وأما مَنْ أساء وأصر على الكبائر، فوَحْشَةُ المعاصي لا يجامِعها إِحسان الظنِّ بالله تعالى [8] .
- وقيل: المؤمن: هو المُصَدِّقُ لرسله بإظهار معجزاته عليهم، ومصدِّق الكافرين ما أوعدهم من العقاب [9] .
أو هو الذي يؤمِّن أولياء من عذابه، ويؤمِّن عبادَه من ظلمه، فيقال: آمنه من الأمان الذي هو ضد الخوف، كما قال تعالى {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش آية 4] ، فهو سبحانه المؤمن [10] .
- وقيل: المؤمن: أمن خلقه من أن يظلمهم- قال الضحاك عن ابن عباس.
أو: أنه صدَّق عباده المؤمنين في إيمانهم به- قاله ابن زيد [11] .
- وقيل: المؤمن هو المصدق لنفسه ولرسله عليهم السلام فيما بلغوه عنه سبحانه، أو بخلق المعجزة.
أو: هو واهب عباده الأمن من الفزع الأكبر.
أو: هو مؤمنهم منه إِما بخلق الطمأنينة في قلوبهم، أو بإخبارهم بأنهم لا خوفٌ عليهم.
أو: أنه المصدق للمؤمنين أنهم آمنوا- قاله ثعلب.
أو: أنه المصدق للمؤمنين في شهادتهم على الناس يوم القيامة [12] .
وقيل: المؤمن هو الطاهر الذي لا تعلق به شائبة. ومنه سمي المؤمن مؤمناً [13] .
وقيل: المؤمن الذي أثنى على نفسه بصفات الكمال، وبكمال الجلال، وبكمال الجلال والجمال، الذي أرسل رسله وأنزل كتبه بالآيات والبراهين، وصدق رسله بكل آيةٍ وبرهانٍ يدل على صدقهم وصحة ما جاءوا به [14] .
أقول:
"وإذا كان علماء التفسير- على مدى العصور- قد ذكروا تلك المعاني السامية الرائعة لاسم (المؤمن) سبحانه، فإنه يبدوا لي أن هذا الاسم الكريم يعنى- بإِجمال هذه المعاني- أنه- جل وعلا- الطاهر الذي لا تعلق به شائبة ولا نقيصة، لأنه الكامل في كل صفاته كمالا مطلقا، وهو الذي يهب الأمن لعباده، فيؤمنهم جميعاً من الظلم لأنه سبحانه يتنزه عنه، ويؤمن قلوب المرسلين والمؤمنين بهم بما أنزل من الحق، ثم يؤمنهم من عذابه، لأنهم أولياؤه الذين آمنوا به ووحدوه وجردوا له العبادة، ويؤمنهم في الدنيا من كل خوف وحزن، كما قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} ] يونس آية 62 [، ويؤمنهم في الآخرة من الفزع الأكبر كما قال سبحانه: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} ] الأنبياء آية 103 [بل سيجعلهم شهداء على الناس ويجعل الرسول صلى الله عليه وسلم شهيداً عليهم يوم القيامة، كما قال تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} ] الحج آية 178 [0"
فاسم (المؤمن) - سبحانه- يشمل كل حسن وجمال وخير، يشيع أثره في هذا الكون:
أنظر إلى الأمن الذي يغشى الناس في أسرابها، والطيور في أوكارها، والأسماك والحيتان في بحارها، والزواحف في جحورها، وأسراب النمل في شقوقها، وجماعات النحل في بيوتها: حين تأكل، وحين تشرب، وحين تنام، وحين تتزاوج، وحين تتوالد. أنظر إلى الأمن السائد في كل المخلوقات، والطمأنينة المبسوطة على كل الكائنات، لتجد أن ذلك كله من آثار اسم (المؤمن) جل جلاله، الذي يهب الحياة لخلقه، ويهب الأمن للأحياء.
ومن ثم ينبغي عليك- أيها الإنسان- أن تكون مؤمناً (بالمؤمن) سبحانه، وأن تجرد له أعمالك جميعاًَ، ليطمئن به قلبك وتأمن به نفسك، وينتشر الأمن في كل كائن من حولك، وحينئذ ستشعر بلذة الحياة الآمنة الوادعة الطيبة التي تختفي فيها المعاصي ومشكلاتها، وتبرز فيها الطاعات وثمراتها، ويكون الله ورسوله فيها أحب إليك مما سواهما، والحب سبيل الطاعة، والطاعة سبيل الفوز العظيم في الدنيا والآخرة {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} ] الأحزاب آية 71 [.
المُهَيْمِنُ:
هو اسم من أسماء الله عز وجل. وهو الرقيب. وقيل: الشاهد. وقيل: المُؤتَمَن. وقيل: القائم بأمور الخلق.
- وقيل أصله: مؤتَمِن، فأبدلت الهاء من الهمزة، وهو مُفَيعِلٌ من الأمانة [15] .
. وقد ورد اسم (المهيمن) جل وعلا في القرآن الكريم مرة واحدة فقط [16]، في قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ
…
} ] الحشر آية 23 [.
- وقد قيل في معنى (المُهَيمنُ) في هذه الآية: الشهيد أو الأمين. قاله ابن عباس رضي الله عنهما. أو المصدِّق لكل ما حدث، قاله ابن زيد ثم قرأ {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [17] وقال:" فالقرآن مصدِّق على ما قبله من الكتب، والله مصدِّق في كل ما حدث عما مضى في الدنيا، وما بقي، وما يحدث في الآخرة"[18] .
- وقيل: (المُهيمن) الرقيب على كل شيء الحافظ له. مُفَيْعِل من الأمن إلا أَن همزته قلبت هاء. [19]
- وقيل (المُهَيْمنُ) : فيه أربعة أقوال:
ا- أنه الشهيد: قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والكسائى. قال الخطابي: ومنه قوله تعالى: {وَمُهَيْمِناً عَلَيْه} ] المائدة 48 [- فالله تعالى: الشاهد على خلقه بما يكون منهم من قول أو فعل.
2-
أنه الأمين: قاله الضحاك.
وقال الخطابي: وأصله: مُؤَيْمنٌ، فقُلبت الهمزة هاء، لأن الهاء أخف عليهم من الهمزة- ولم يأت: مُفَيعِل في غير التصغير إلا في ثلاثة أحرف: (مُسَيْطِر- ومُبَيْطِر- ومهَيمِن) وقد ذكر في سورة الطور آية 37 عن أبى عبيدة أنها خمسة أحرف: في قوله تعالى {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} إنه لم يأت في كلام العرب اسم على مُفَيْعِل إلا خمسة أسماء: مهَيْمِن- ومجيمر- ومُسَيْطِر- ومُبَيْطِر- ومُبَيْقِر.
فالمهيمن: الله الناظر، المحصى، الذي لا يفوته شيء- ومجيمر: جبل- ومسيطر: مسلَّط- ومبيطر: بَيْطار- ومبيقر: الذي يخرج من أرض إلى أرض يقال: بَيْقَر إذا خرج من بلد إلى بلد.
3-
أنه المُصدِّق فيما أخبر- قاله ابن زيد.
4-
أنه الرقيب على الشيء، والحافظ له،- قاله الخليل والخطابي.
وقال بعض أهل اللغة: الهيمنة: القيام على الشيء، والرعاية له ثم قال:
مُهَيْمِنُهُ التاليه في العرف والنكر
ألا إن خير الناس بعد نبيه
يريد القائم على الناس بعده بالرعاية لهم [20] 0
وقيل: (المُهَيْمنُ) : الشاهد على خلقه بأعمالهم، بمعنى هو رقيب عليهم كقوله:
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} وقوله {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} وقوله {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} - قاله ابن عباس رضي الله عنهما وغيره [21] 0
- وقيل: (المُهَيْمِن) : الرقيب المطلع على السرائر [22] 0
- وقيل: (المُهَيْمنُ) : الشهيد على عباده بأعمالهم، الرقيب عليهم- قاله مجاهد وقتادة ومقاتل.
يقال: هَيْمَن يُهَيْمن فهو مُهَيْمن: إذا كان رقيباً على الشيء.
وقال الواحدي:"وذهب كثير من المفسرين إلى أن أصله مؤَيمن من آمن يؤمن، فيكون بمعنى المؤمن- والأول أولى"[23] .
- وقيل: (المهيمن) : الرقيب الحافظ لكل شيء. مُفَيْعِل من الأمن بقلب همزته هاءً [24] 0
- وقيل: (المُهَيْمِن) : الرقيب الحافظ لكل شيء. مُفَيْعِل بقلب همزته هاء ً، وإليه ذهب غير واحد- وتحقيقه كما في الكشف: أن أَيْمَنَ على فَيْعَل مبالغة أمن العدو للزيادة في البناء- وإذا قلت: أمن الراعي الذئب على الغنم مثلاً، دل ذلك على كمال حفظه ورقبته. فالله تعالى أمن كل شيء سواه سبحانه على خلقه وملكه، لإحاطة علمه، وكمال قدرته عز وجل، ثم استعمل مجرد الدلالة بمعنى الرقيب والحفيظ على الشيء في غير ذكر المفعول بلا واسطة للمبالغة في كمال الحفظ. كما قال تعالى {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} وجعله من ذلك أولى من جعله من الأمانة، نظراً إلى أن الأمين على الشيء حافظ له، إذ لا ينبىء عن المبالغة ولا عن شمول العلم والقدرة. وجعله في الصحاح اسم فاعل من: آمنه الخوف على الأصل، فأبدلت الهمزة الأصلية باء كراهة اجتماع الهمزتين، وقلبت الأولى هاءًَ كما في هراق الماء.
وظاهر كلام الكشف: أنه ليس من التصغير في شيء.
وقال المبرد:"إنه مُصَغَّر- وقد أخطأ في ذلك، فإنه لا يجوز تصغير أسماء الله عز وجل [25] 0
- وقيل: (المهيمن) : القائم على الوجود، المسيطر على كل ذرة فيه [26]
. أقول:"في اسم: (المهيمن) سبحانه، ذكر المفسرون المعاني التي عرضت جانبا منها، وأجملها في أن المراد بمعنى (المُهَيْمِن) جل وعلا: القائم بأمور الخلق- الرقيب الحافظ لكل شيء، الشهيد على عباده، المطلع على أعمالهم وأسرارهم، الأمين، المصدق فيما أخبر ولكل ما حدث.
والذي يبدو لي أن اسم (المُهَيْمِن) جل جلاله، يتضمن معناه شمول الهيمنة بمعنى السيطرِة المطلقة لله عز وجل على كل كائن في هذا الكون، إيجاداً وإعداماً، وتحريكاً، وتسكيناًَ، بعلمٍ محيطٍ، وعدلٍ مطلقٍ، وقدرةٍ شاملةٍ، ومشيئةٍ نافذةٍ، وقدرٍ سابقٍ، فلا راد لمشيئته، ولا معقب لقدره، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد. وما أراد وقوعه في كونه سبحانه- وما دونه في اللوح المحفوظ غيبَه عن خلقه، واستأثر بعلمه وحده، وهذا الاستئثار أثر من آثار هيمنته سبحانه.
ومن أمثلته قوله عز وجل: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ] الأنعام آية 59 [.
ثم أنه سبحانه مع هذه الهيمنة التي من مقتضاها قهر عباده سبحانه: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} ] الأنعام آية 18 [، لم يهمل عباده بل يراقبهم، ويشهد كل أقوالهم وأعمالهم، بل ويطلع على أسرارهم وما تُكِن صدورهم، ويوالى إمدادهم بكل ما يحتاجون لعمارة هذه الأرض، وما يصلح لهم في دنياهم وأخراهم، ويرسل إليهم ملائكة حفظة لهم بإذن الله طول حياتهم حتى تنتهي آجالهم، كما قال سبحانه: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} ] الرعد آية 11 [، وكما قال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} ] الأنعام آية 61 [.
ومن آثار هيمنته سبحانه أنه يملك أن يتصرف في خلقه كيف يشاء، لأنهم في ملكه، والمالك من حقه أن يتصرف في ملكه بكافة أنواع التصرفات. ومن نماذج هذه التصرفات ما ذكره الله تعالى تنبيهاً لنا وتذكيراً باستمرار وشمول هيمنته على خلقه سبحانه قوله:{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ. قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} ] الأنعام آية 63- 65 [.
وقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ. قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} ] الأنعام آية 46، 47 [.
وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ. وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} ] الرعد آية 12، 13 [.
وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً. وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} ] الفرقان آية 53-54 [0
سبحانك ربَّنا العظيم، ما أعظم سلطانك، وما أكمل هيمنتك المطلقة على كل شيء في هذا الوجود، لا يفتك منها أي مخلوق صغر أم كبر، دقَّ أم عظم.
ننزهك ربَّنَا العظيم عن كل ما لا يليق بجلالك وسلطانِك، ونُقِر لَكَ وحدَكَ بسموِّ أسمائِكَ وكمالِ صِفاتِكَ، ونعترفُ لكَ بجليل فضلِكَ وإِحسانِكَ وكرمِكَ، بقلوبِنا وألسنتنا وجوارِحنَا، ونشهدُ بأنَّكَ وحدَك المستحق ِلأن تُشْكَرَ فلا تُكْفَر، وتُذْكر فلا تنسى، وتُطاع فَلا تُعْصَى.
ونَكِلُ أمورنا إليكَ وحدَكَ، فَأنتَ ملاذُنا وحدَكَ في الدنيا، ومَرِجعُنَا إليك وحدَكَ في الأخرى، أنت مولانا المهيمنُ علينا حَقَّا، ونحنُ عَبيدكَ الخاضعُون لَكَ صِدْقاً، {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً. لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً. وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} ] مريم آية 93- 95 [.
أسأل الله جل وعلا أن يثبت قلوبنا على دينه، وأن يصرفها على طاعته، وأن يختم لنا بعقيدة التوحيد ختام الإيمان.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله الكريم محمدٍ وعلى آله وصحبه.
حلاوة الإيمان
عن أنس بن مالك رضي الله عنه (في الصحيحين) قال:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان في قلبه:
(1)
من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.
(2)
ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا الله.
(3)
ومن كان يكره أن يرجع في الكفر، بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يلقى في النار ".
وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه (في صحيح مسلم) قال:"قال صلى الله عليه وسلم:
" ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً".
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
مختصر الصواعق المرسلة جـ اص 4، 5.
[2]
المرجع السابق ص 7.
[3]
مختار الصحاح في مادة (أون) . .
[4]
النهاية لابن الأثير- الجزء الأول ص 69.
[5]
المعجم المفهرس ص 90.
[6]
جامع البيان عن تأويل آي القرآن- للطبري- جزء28 ص 54.
[7]
الكشاف- للزمخشري- جزء4 ص 87. وجامع البيان للِإيجي- جزء2 ص 350.
[8]
زاد المسير في علم التفسير لأبى الفرج ابن الجوزى- ص 225- بقليل تصرف-.
[9]
الجامع لأحكام القرآن- للقرطبي- جزء18 ص 46- بقليل تصرف- وفتح القدير- جزء5 ص 207-.
[10]
الجامع لأحكام القرآن- للقرطبي- جزء18- ص 46- بقليل تصرف-. .
[11]
تفسير ابن كثير- جزء4 ص 344.
[12]
روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثانى- للألوسى جزء28- ص 63-.
[13]
التفسير القرآني للقرآن- جزء28 ص 883.
[14]
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان- للسعدي- جزء5- 301-.
[15]
النهاية لابن الأثير- الجزء الخامس- ص 275-.
[16]
المعجم المفهرس- ص 739-.
[17]
يقصد قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} ] المائدة آية 48 [0
[18]
جامع البيان للطبري- جزء28- ص 54.
[19]
الكشاف للزمخشرى- جزء4- ص 87-.
[20]
زاد المسير- جزء8- ص225-.
[21]
تفسير ابن كثير- حزء4 ص 344-.
[22]
جامع البيان- للإيجي- جزء2 ص 350-.
[23]
فتح القدير- جزء5- ص 208-.
[24]
تفسير أبى السعود- جزء7- ص 234-.
[25]
روح المعاني- جزء28- ص 63-.
[26]
التفسير القرآني للقرآن- جزء28- ص 883-.
الفقه وأصوله
سَمَاحة الشيخ عبد العزيز بن باز
يدْعُو المسلِمِين للمُبَادَرَة بالتوْبة
وجه الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز نصيحة إِلى المسلمينَ دعاهم فيها إِلى وجوب التوبة إِلى الله والضراعة إِليه عند نزول المصائب وفيما يلي نصها:
"من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إِلى من يطلع عليه من المسلمين.. وفقني الله وإِياكم للتذكر والاعتبار والاتعاظ بما تجري به الأقدار والمبادرة بالتوبة النصوح من جميع الذنوب والأوزار.. أمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. أما بعد:
فإِن الله عز وجل بحكمته البالغة وحجته القاطعة وعلمه المحيط بكل شيء يبتلي عباده بالسراء والضراء والشدة والرخاء وبالنعم والنقم، ليمتحن صبرهم وشكرهم، فمن صبر عند البلاء وشكر عند الرخاء وضرع إِلى الله سبحانه عند حصول المصائب يشكو إِليه ذنوبه وتقصيره ويسأله رحمته وعفوه أفلح كل الفلاح وفاز بالعاقبة الحميدة.. قال الله جل وعلا في كتابه العظيم:{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} .. والمقصود بالفتنة في هذه الآية الاختبار والامتحان حتى يتبين الصادق من الكاذب والصابر والشاكر.. كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَاّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} وقال عز وجل: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} وقال سبحانه: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} والحسنات هنا هي النعم من الخصب والرخاء والصحة والعزة، والنصر على الأعداء، والسيئات هي كالزلازل والرياح العاصفة والسيول الجارفة المدمرة ونحو ذلك
…
وقال عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} والمعنى أنه سبحانه قدر ما قدر من الحسنات والسيئات وما ظهر من الفساد ليرجع الناس إِلى الحق ويبادروا بالتوبة مما حرم الله عليهم ويسارعوا إِلى طاعة الله ورسوله لأن الكفر والمعاصي هما سبب كل بلاء وشر في الدنيا والآخرة. وأما توحيد الله والإِيمان به وبرسله
وطاعته وطاعة رسله والتمسك بشريعته والدعوة إِليها والإِنكار على من خالفها فذلك هو سبب كل خير في الدنيا والآخرة والنجاة من كل مكروه والعاقبة من كل فتنة. كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} .. وقال سبحانه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} .. وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} .
وقد بين سبحانه في آيات كثيرات أن الذي أصاب الأمم السابقة من العذاب والنكال بالطوفان والريح العقيم والصيحة والغرق والخسف وغير ذلك كله بأسباب كفرهم وذنوبهم.. كما قال عز وجل {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} وأمر عباده بالتوبة إليه والضراعة إِليه عند وقوع المصائب فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} وقال سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فلولا أن جاءهم فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
وفي هذه الآية الكريمة حث من الله سبحانه لعباده وترغيب لهم إِذا حلت بهم المصائب من الأمراض والجراح والقتال والزلازل والريح العاصفة وغير ذلك من المصائب أن يتضرعوا إِليه ويفتقروا إليه فيسألوه العون. وهذا هو معنى قوله سبحانه: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} والمعنى هنا إِذا جاءهم بأسنا تضرعوا، ثم بين سبحانه أن قسوة قلوبهم وتزيين الشيطان لهم أعمالهم السيئة كل ذلك صدهم عن التوبة والضراعة والاستغفار فقال عز وجل:{وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُون} .
وقد ثبت عن الخليفة الراشد رحمه الله أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أنه لما وقع الزلزال في زمانه كتب إِلى عماله في البلدان وأمرهم أن يأمروا المسلمين بالتوبة إِلى الله والضراعة إِليه والاستغفار من ذنوبهم.. وقد علمتم أيها المسلمون ما وقع في عصرنا هذا من أنواع الفتن والمصائب، ومن ذلك تسليط الكفار على المسلمين في أفغانستان والفلبين والهند وفلسطين ولبنان وإثيوبيا وغيرها.. ومن ذلك ما وقع من الزلازل في اليمن وبلدان كثيرة ومن ذلك ما وقع من فيضانات مدمرة والريح العاصفة المدمرة لكثير من الأموال والأشجار والمراكب البحرية وغير ذلك.. وأنواع الثلوج التي حصل بها ما لا يحصى من الضرر ومن ذلك المجاعة والجدب والقحط في كثير من البلدان. وكل هذا وأشباهه من أنواع العقوبات والمصائب التي ابتلى بها العباد بأسباب الكفر والمعاصي والانحراف عن طاعته سبحانه والإِقبال على الدنيا وشهواتها العاجلة والإِعراض عن الآخرة وعدم الإِعداد لها إِلا من رحم الله من عباده.
ولاشك أن هذه المصائب وغيرها توجب على العباد البدار بالتوبة إِلى الله سبحانه من جميع ما حرم عليهم، والبدار إِلى طاعته وتحكيم شريعته والتعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والصبر عليه ومتى تاب العباد إِلى ربهم وتضرعوا إِليه وسارعوا إِلى ما يرضيه وتعاونوا على البر والتقوى وتآمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر أصلح الله أحوالهم وكفاهم شر أعدائهم ومكن لهم في الأرض ونصرهم على عدوهم وأسبغ عليهم نعمه وصرف عنهم نقمه. كما قال سبحانه وهو أصدق القائلين:{وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} وقال عز وجل: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} وقال عز وجل: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} وقال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} الآية. وقال عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
فأوضح عز وجل في هذه الآيات أن رحمته وإِحسانه وأمنه وسائر أنواع نعمه إِنما تحصل على الكمال الموصول بنعيم الآخرة لمن اتقاه وآمن به وأطاع رسله واستقام على شرعه وتاب إِليه من ذنوبه.. أما من أعرض عن طاعته وتكابر عن أداء حقه وأصر على كفره وعصيانه فقد توعده سبحانه بأنواع العقوبات في الدنيا والآخرة وعجل له من ذلك ما اقتضته حكمته ليكون عبرة وعظة لغيره كما قال سبحانه: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
فيا معشر المسلمين حاسبوا أنفسكم وتوبوا إِلى ربكم واستغفروه وبادروا إِلى طاعته واحذروا معصيته، وتعاونوا على البر والتقوى، وأحسنوا إِن الله يحب المحسنين، وأقسطوا إِن الله يحب المقسطين وأعدوا العدة الصالحة قبل نزول الموت، وارحموا ضعفاءكم، وواسوا فقراءكم، وأكثروا من ذكر الله واستغفاره، وتآمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر لعلكم ترحمون واعتبروا بما أصاب غيركم من المصائب بأسباب الذنوب والمعاصي، والله يتوب على التائبين ويرحم المحسنين ويحسن العاقبة للمتقين.. كما قال سبحانه:{فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} . والله المسئول بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرحم عباده المسلمين، وأن يفقههم في الدين، وينصرهم على أعدائه وأعدائهم من الكفار والمنافقين، وأن ينزل بأسه بهم الذي لا يرد عن القوم المجرمين. إِنه وليُّ ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإِحسان إِلى يوم الدين.
الحسنة والسيئة
قال بعض السلف:
"إن للحسنة لنوراً في القلب، وقوة في البدن، وضياء في الوجه، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق
…
وإن للسيئة لظلمة في القلب، ووهناً في البدن، وسواداً في الوجه، ونقصاً في الرزق، وبغضاً في قلوب الخلق
…
نظامُ الإثبات في الفقه الإسلامي
للدكتور عوض عبد الله أبو بكر
أستاذ مساعد بكلية الشريعة
دراسة مقارنة
بينا في مقالنا السابق أن الفقه الإسلامي قد حوى نظاماً متميزاً ومتفرداً في الإثبات، يتسق مع نظامه الشامل العادل. فهو مع تحديده لأدلة إثبات الدعوى- على ما ذهب إليه جمهور الفقهاء- إلا أنه لم يحد من سلطة القاضي في تقدير الأدلة حتى لا يجعل وظيفة القاضي إلية لا أثر لها في الحكم. كما أنه لم يطلق للقاضي الحرية الكاملة في تحديد الأدلة تجنبا لتعسف القضاة في استعمال هذا الحق فيستغلون سلطة وظيفتهم.
وقبل أن نتناوله هذه الأدلة نود أن نشير إلى أن القوانين الوضعية بعد مناقشات وتعديلات قد لجأت إلى تحديد الأدلة في الدعوى المدنية والتجارية، اتفاقاً بذلك مع قول جمهور الفقهاء، إلا أنها قد خالفت الفقهاء في تحديد القيمة لكل دليل من هذه الأدلة، كما سنرى إن شاء الله- أما في الدعوى الجنائية فإن القانونيين يميلون إلى رأى ابن قيم الجوزية الذي يقضي بعدم حصر أدلة الثبوت، ولذلك نجدهم يطلقون للقاضي الحرية الكاملة في الدعوى الجنائية ليستمد إقناعه من أي دليل يعرض عليه.
أما فيما يتعلق بأدلة الإثبات في الفقه الإسلامي، فإننا نجدها قد انقسمت إلى قسمين رئيسيين: قسم اتفق الفقهاء على حجته وقبوله كدليل في الدعوى، يعول عليه القضاة، ويتمسك به الخصوم في إثبات دعواهم، وقسم اختلف الفقهاء في قبوله دليلاً للإثبات. ومنشأ هذا الإختلاف في هذا القسم الأخير هو: إما لعدم قوة الأدلة الدالة على اعتباره، أو للإحتياط الشديد الذي تميزت به بعض المذاهب الإسلامية، فاحتاطت للقضاة حتى لا يكون تعويلهم على أدلة ظنية لا تطمئن إليها النفوس، فتضطرب الأحكام وتختلط الحقوق.
ولنلق الآن نظرة عامة على هذه الأدلة، ولنشير إلى موقف القانونيين في بعض مسائلها.
القسم المتفق عليه:
أولاً: الإقرار:
الأصل في الإقرار:
وقد ثبتت حجية الإقرار بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول:
فالكتاب: قوله تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} (البقرة: 282) فأمر سبحانه من عليه الحق بالإملال، وإملاله هو إقراره وإلا لما كان فيه فائدة، ولما أمر الله به. وكذلك قوله تعالى:{كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} (النساء: 135) وشهادة الإنسان على نفسه هو إقراره بالحق.
أما السنة: فما روى متفقاً عليه من أنه صلى الله عليه وسلم قبل إقرار ماعز بالزنا. وعند مسلم وأصحاب السنن أنه قبل إقرار الغامدية بالزنا، فعامل كلا منهما بموجب الإقرار بإقامة الحد عليه [1] .
أما الإجماع: فقد أجمعت الأمة من عهده صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا على أن الإقرار حجة على المقر، وجرت بذلك في معاملاتها وأقضيتها.
أما المعقول: فهو أن العاقل لا يقر بشيء ضار بنفسه أو ماله إلا إذا كان صادقا فيه.
والإقرار هو أول الحجج الشرعية وأقواها، لأنه ليس هناك أبلغ من أن يقضي الإنسان على نفسه بالإعتراف بثبوت الحق عليه. ولما كان للإقرار هذه القوة وهذه الأهمية في الإثبات، كان لابد من عناية الفقهاء به وضبطه حتى يكون صحيحا واضح الدلالة. ولذا فقد جعلوا له شروطاً لابد من توافرها، بعضها في المقر، وبعضها في المقر له، وبعضها في المقر به.
ويمكن إجمال هذه الشروط في أنه يشترط في المقر أن يكون عاقلاً بالغاً، طائعاً، مختاراً، وأن لا يكون هازلاً، كما يشترط في المقر له أن يكون موجوداً حال الإقرار، أو وجد قبله ومات، وأن يكون أهلا للملك، وأن يكون سبب استحقاقه للمقر به مقبولاً عقلاً، فلو أقر للحمل وقال عن بيع باعه، لغا الإقرار، وألا يكون المقر له مجهولاً جهالة فاحشة [2] .
التهمة في الإقرار:
ومن الشروط التي تدل على بعد نظر فقهاء الشريعة هو أنه يشترط لصحة الإقرار عندهم ألا يكون المقر متهما في هذا الإقرار، فلو كان متهما فيه لم يصح إقراره، إذ التهمة تخل برجحان جانب الصدق على جانب الكذب، ولأن الإقرار شهادة على النفس كما قدمنا والشهادة ترد بالتهمة.
ومن الأمثلة على رد الفقهاء الإقرار بتهمة المقر، إقرار المريض مرض الموت لوارثه بدين. وتكييف هذه التهمة التي تلحق بالمريض مرض الموت: هو أن المريض وقد أحس بدنو أجله وقرب رحيله عن الدنيا وفراقه لماله الذي سيؤول إلى خلفاء غيره، ربما أراد أن يؤثر بعض هؤلاء الخلفاء على غيرهم بميل الطبع أو ربما أراد أن يحرم بعضهم لضغينة يحملها عليهم، فيذهب إلى تنفيذ غرضه بصورة الإقرار من غير أن يكون للمقر له دين عليه أصلا، فكان متهما في هذا الإقرار فيرد الإقرار.
ويظهر القول بعدم صحة إقرار المريض مرض الموت لوارثه بدين، واضحا جليا في عبارات فقهاء الحنفية والحنابلة والمالكية، أما الإمام الشافعي فإنه وإن كان متفقاً معهم في الحد من تصرفات المريض مرض الموت فيما يتعلق بالوصية والبيع والشراء بمحاباة، إلا أنه لم يوافقهم في عدم قبول إقراره لانتفاء التهمة في نظره [3] .
وما يقال عن المريض مرض الموت، يمكن أن يقال عن المدين المحجور عليه بسبب الدين، فقد ذهب فقهاء الحنفية والحنابلة إلى وقف سريان إقراره، وقالوا:"إن إقرار المدين بحق حال الحجر عليه تصرف يضر بالغرماء. ومقصود الحجر هو منع المدين من كل تصرف يضر بهم، إذ أن الحجر لحقهم، والمدين متهم في هذا الإقرار، وعليه فإنه لا يشارك المقر له الغرماء فيما حجر عليه من مال، ولكن يؤاخذ المقر بإقراره، ويلزمه بعد قضاء ديون الغرماء الذين طلبوا الحجر على المدين "[4] .
وقد قررت هذه الأحكام منذ زمن بعيد في الفقه الإسلامي لمصلحة الورثة في مال مورثهم، والدائنين في مال مدينهم، فاحتاط الفقهاء ومنعوا التصرفات التي تلحق بهم الضرر. وفي نفس الوقت وقف القانون الغربي جامداً ولم يستطع أن يقرر شيئاً من هذا القبيل. ولذا لجأ القانونيون في مصر لاستمداد هذه الأحكام من الشريعة الإسلامية.
يقول الدكتور محمد كامل مرسي: "ولكن الرأي الصحيح هو أن الأحكام التي أتى بها الشارع المصري خاصة بالبيع الحاصل في مرض الموت ليست مبنية على فكرة عدم أهلية المريض، وقد جاءت بها الشريعة الإسلامية مراعاة لمصلحة الورثة والمحافظة على حقوقهم بمنع المورث من إيثار بعضهم على بعض "[5] .
ويقول الدكتور عبد الناصر العطار: "لم يعرف القانون المدني مرض الموت، فيرجع في تعريفه إلى الشريعة الإسلامية باعتبارها مصدراً رئيسياً للتشريع، ومصدراً تاريخياً استمد المشرع منه أحكام المريض مرض الموت، ومصدر احتياطياً لابد من الرجوع إليه إذا لم يوجد نص أو عرف "[6] .
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أصالة هذه الشريعة وكمالها وتفردها بكثير من الأحكام التي عجزت القوانين الوضعية أن تأتى بمثلها.
ثانياً: الشهادة:
ويطلق عليها جمهور الفقهاء البينة، فالأصل أن البينة تطلق على كل ما يبين به الحق، ولكن جمهور الفقهاء خصوها بالشهادة، ولذا قد عتب عليهم ابن القيم في هذا التخصيص وقال:"إن من خصَّ البينة بشهادة الشهود لم يوف مسماها حقه ".
والشهادة في اصطلاحهم هي إخبار الإنسان بحق لغيره على غيره، أوهي إخبار صادق لإثبات حق بلفظ الشهادة في مجلس القضاء [7] .
الأصل في الشهادة وحكمها:
وأداء الشهادة واجب في غير الحدود، لقول الله تعالى:{وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} (البقرة: 282) وقوله تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} (البقرة: 283) .
أما جرائم الحدود فالستر مطلوب فيها، وإذا كان الستر مطلوباً فيها، فإن الأخبار بها يكون خلاف الأولى، وما كان خلاف الأولى لا يكون واجباً [8] .
نصاب الشهادة:
أما نصاب الشهادة فهو على أربع مراتب:
الأولى: الشهادة على الزنا ونصابها أربع رجال.
الثانية: الشهادة على بقية الحدود والقصاص ونصابها رجلان، ولا تقبل فيها شهادة النساء.
الثالثة: الشهادة على ما لا يطلع عليه الرجال من عيوب النساء كالولادة، والبكارة فيكتفي فيها بشهادة امرأة واحدة.
الرابعة: سائر حقوق العباد، سواء أكانت مالاً أو غير مال كالبيع والهبة والنكاح والإِجارة والوصية، ونصابها رجلان أو رجل وامرأتان.
والشهادة حجة من الحجج الشرعية تثبت بها جميع الحقوق، سواءً كانت من حقوق الله الخالصة أومن حقوق العباد، مهما كانت قيمة الشيء المدعي به، طالما توفر النصاب المشترط للحق المدعي به، وطالما توفرت الشروط والضوابط التي قررها الفقه الإسلامي لهذه الشهادة، سواء تعلقت بالشاهد وما يتعلق به من تزكية، وتحمل، وأداء، ومعاينة للمشهود به، أو سماع فيما يقبل السماع فيه، أو تعلقت بالمشهود له، أو المشهود به. والشهادة ليست كالإقرار القاصر على المقر وحده، إنما هي حجة متعدية يثبت بها الحق المدعي به على الغير.
مقارنة بين الفقه والقانون في موضوع الشهادة:
(1)
الشهادة في الفقه الإسلامي دليل كامل يثبت به جميع الحقوق سواء أكانت من حقوق الله الخالصة أومن حقوق العباد مهما كان القدر المدعي به، أما في القانون الوضعي فهي دليل احتياطي واستثنائي غير كامل، فلا يؤخذ بها كدليل إلا في حدود معينة (المواد 60 إلى 64 إثبات مصري) كما لا يثبتون بها كل دعوى مدنية إلا في حالات استثنائية كحالات فقد السند من صاحبه بقوة قاهرة من حريق أو غرق أو سرقة.
والواضح أن هدف القانونيين من ذلك هو الحد من شهادة الزور التي احترفها الكثيرون فأصبحوا حربا على العدالة. كما أن القانون قد جعل معوله في الإثبات على الكتابة والمحررات الرسمية.
ولاشك أن شهادة الزور من أكبر الكبائر في الشريعة الإسلامية، حذر منها المولى عز وجال ورسوله الكريم، يقول تعالى {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} (الحج: 30) وتضافرت الأخبار عنه صلى الله عليه وسلم بمنعها وتحريمها وتأثيم مرتكبها.
ولذا فإننا نقول أن الشريعة الإسلامية ينبغي أن تؤخذ بكامل منهجها التشريعي نظاماً وخلقاً، وإلا لما استطعنا أن نجني ثمرتها، أو نفيد من تطبيق قانونها الفائدة المرجوة، فالقانون وحده لا يكفل الأمن ولا يقيم العدل إلا إذا صحبته صحوة ضمير ممن يطبق القانون، وممن يسرى عليه القانون، وإلا لكان أشبه بجسد بلا روح، والشريعة الإسلامية بما تبذله من إصلاح للفرد؛ وما تقيمه من ضمير يقظ، يراقب الله عز وجل، تجعل من قلب كل فرد في المجتمع الإسلامي رقيباً عليه، فلا يقدم على قول أو فعل فيه غضب لله تعالى، فالقاضي بها يحكم ورائده رضا الله بإيصال الحق إلى أهله، والشاهد يشهد ورائده رضا الله بأداء الشهادة على وجهها، والخصم ينبغي أن لا يقصد بخصومته الجور والتعدي. وهكذا تندرج هذه المراقبة لله على كل فرد في المجتمع الإسلامي في أفعاله وأقواله وسلوكه.
أما الكتابة الذي عول عليها القانون وجعلها دليلاً رئيسياً في الإثبات خصوصاً في المعاملات المدنية والتجارية، فالشريعة الإسلامية مع احترامها لمبدأ الكتابة وحضها عليه، حتى ذهب بعضهم إلى وجوبه في إثبات الديون استدلالاً بالأمر بالكتابة في آية الدين في صورة البقرة: 282 [9] . إلا أن عامة الفقهاء لم يجعلوه شرطاً لا يجوز الإثبات إلا به.
(2)
إن القانونيين بالرغم من اعتدادهم بالشهادة إلا أنهم لم يتقيدوا فيها بنصاب معين كما أنهم لم يفرقوا بين شهادة الذكر وشهادة الأنثى، ولم يخصوا كل منهما بموضع على النحو الذي قدمناه في الفقه الإسلامي، ولم يلاحظوا أن شهادة الرجل كشهادة المرأتين. ولا شك أن هذه الأحكام منها ما هو مقرر وفق آيات محكمات، ومنها ما هو مستفاد من أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقضيته. فشتان بين من يكون مصدره كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن يكون مصدره العقل البشري لا يتقيد بنصوص أو أوامر إلهية.
(3)
لا يشترط عند فقهاء الشريعة أن يحلف الشاهد يميناً قبل أداء الشهادة وإن كانت محاكمنا الشرعية قد درجت على ذلك الآن. أما في القانون الوضعي فتعتبر الشهادة باطلة إذا لم يؤد الشاهد اليمين (مادة 86 إثبات مصري ومادة 28 من مشروع قانون الإثبات السوداني لسنة 1981) .
(4)
إذا كان القانون الوضعي قد انتهى إلى وجوب التفريق بين الشهود حتى يؤدي كل شاهد شهادته على انفراد (مادة 84 إثبات مصري والمادة 29 من مشروع قانون الإثبات السوداني لسنة 1981) . فإن الإمام علي- رضي الله عنه هو أول من فرق بينهم في مجلس القضاء، كما ذكر ذلك الكندي في القضاء، وابن القيم في الطرق الحكمية، وخلاصته أن شاباً شكا أن نفراً خرجوا مع أبيه للتجارة وكان معه مال كثير، فعادوا دونه، فرفع الأمر إلى شريح الذي استحلفهم وخلى سبيلهم. ثم رفع الأمر إلى علي- رضي الله عنه الذي وكل بكل شاهد رجلين وأوصاهم ألا يمكنوا بعضهم من بعض، ولا يمكنوا أحداً أن يكلمهم، ثم دعا كاتبه ونادى عليهم واحداً واحداً يسألهم عن يوم خروجهم، ونزولهم، وأين مات، أبو الفتى، ومن صلى عليه، وأين دفن، فلما رأى اختلافهم ضيق عليهم فأقروا بالقضية [10] .
مقارنة بين الشهادة والإقرار:
(1)
الشهادة حجة كاملة لاتصال القضاء بها، لأن القاضي ولايته عامة وتتعدى إلى الكل، أما الإقرار فإنه حجة قاصرة على المقر وحده، ولا يحاسب الغير بإقراره، وذلك لقصور ولايته على غيره، ولذا فإنه لو أقر مجهول النسب بالرق جاز على نفسه وماله ولا يسري هذا الإقرار على أولاده.
(2)
الشهادة لا توجب حقا إلا باتصال القضاء بها، أما الإقرار فإنه موجب للحق بنفسه عند عامة الفقهاء وإن لم يتصل به القضاء. والجدير بالذكر أن القانون الوضعي لا يعترف إلا بالإقرار القضائي، أما الإقرار في غير مجلس القضاء فلا عبرة له عندهم (مادة 16 من مشروع قانون الإثبات السوداني لسنة 1981) .
(3)
يصح الإقرار بالمعلوم والمجهول، ويقبل إقراره، بخلاف الشهادة فإنها لا تكون إلا بعد العلم بالمشهود به. فلو قال لفلان علىّ دين أو حق، قبل، ولو أقر بزناه بامرأة لا يعرفها حد ولابد من علم الشهود بالمشهود عليه فلو قالوا لا نعرفها ترد شهادتهم.
ولا يوجد دليل من أدلة الإثبات غير الإقرار والشهادة اتفق الفقهاء على حجيته، وعليه فقد تبقى لنا الأدلة المختلف فيها وهذا ما سنحاول عرضه في مقال قادم إن شاء الله تعالى0
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
صحيح مسلم بشرح النووي جـ 11 ص 195. ط المطبعة المصرية ومكتبتها. وانظر جمع الفوائد جـ1 ص 749 ط دار التأليف مصر. .
[2]
بداية المجتهد جـ 2 ص 461 ط ألبابي الحلبي سنة 1379 هـ، المرافعات الشرعية لمحمد زيد بك الابياني ص 44 وما بعدها0 الأصول القضائية في المرافعات الشرعية. علي قراعة ص 70.
[3]
أصول البزدوي وكشف الأسرار جـ 4 ص 309 ط المطبعة العثمانية سنة 1358 هـ. المغني لابن قدامة جـ 6 ص 73 ط دار المنار سنة 1367 هـ. قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي المالكي ص 242 ط دار العلم بيروت. الأشباه والنظائر للسيوطي ص 262 ط مصطفى محمد سنة 355اهـ
[4]
الهداية مع تكملة فتح القديرة8 ص 254 0 المطبعة الأميرية مصر سنة 1315هـ. المغني لابن قدامة جـ 4 ص 439
[5]
مجلة القانون والاقتصاد، العدد الثالث السنة الثامنة مارس 1938 م. ص 273. .
[6]
الدكتور عبد الناصر العطار: إثبات الملكية بند 24 ص 112. .
[7]
الطرق الحكمية ص 14، بداية المجتهد جـ 2 ص 463، فتح القدير لابن الهمام جـ 6 ص 3. .
[8]
البحر الرائق جـ 7 ص60، حاشية ابن عابدين جـ3 ص 198. .
[9]
راجع تفسير القرطبي على الآية 282 من سورة البقرة.
[10]
الطرق الحكمية ص 45.