الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 63-64
فهرس المحتويات
1-
كلمة التحرير: للدكتور صالح بن عبد الله العبود
2-
آية العدد: للشيخ أبي بكر الجزائري
3-
أوَّلُ واجبٍ على المكلفِ.. عِبَادةُ الله تَعاَلى وُضوح ذَلكَ من كِتابِ الله وَدَعواتِ الرُسُل:
للشيخ عبد الله الغنيمان
4-
منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله فيه الحكمة
…
والعقل: الدكتور ربيع بن هادي مدخلي
5-
دفاعٌ عنِ العقوُباَت الإسلَامِيةِ: للشيخ محمد بن ناصر السحيباني
6-
الإمدَادُ بأحكاَمِ الحداَدِ: للدكتور فيحان شالي المطيري
7-
نظامُ الإثبَات في الفِقهِ الإسلَامي: للدكتور عوض عبد الله أبو بكر
8-
تَحقِيقُ جُزءِ الضُّعَفَاءِ وَالمترُوكينَ "للإمام الدارقطني": د. عبد الرحيم محمد القشقري
9-
الملَكُ عَبدُ العَزِيز ِآل سُعود بين نَصرِهِ لله ونَصرِ الله لَهُ: للشيخ إبراهيم محمد حسن جمل
10-
ظاَهِرة التقاَصّ في النَّحو العرَبيَّ: للدكتور دردير محمد أبو السعود
11-
عُقُود الزّبَرجَدِ عَلىَ مُسنَد الإمام أَحمد في إعرَاب الحَدِيث: تأليف: جلال الدين السيوطي تحقيق: الدكتور حسن موسى الشاعر
12-
رسائل لم يحملها البريد: للشيخ عبد الرؤف اللبدي
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م
كلمة التحرير
للدكتور صالح بن عبد الله العبود
رئيس قسم العقيدة بالجامعة الإسلامية
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا لله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله وأصلى وأسلم على محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: فإن هذا العدد من مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة هو بداية تحديد اتجاه المجلة إلى الاقتصار على نشر الأبحاث العلمية التي يسهم فيها أساتذة المجامعة، ولذا جاء عددنا هذا حافلاً ببحوث علمية في العلوم الإسلامية والعربية لعدد من الأساتذة الفضلاء.
وما من شك أن البحث والنظر والاستدلال والتوثيق يفيد العلم وهو من خصائص الإسلام التي اقتبسها رواد الكشوفات العلمية فاستضاء بها العلم كله. وهذا المنهج من طرق التَماس العلم. فسلوكه سلوكًا يلتزم بالإِسلام وينبثق منه ويستند في دقته ونتائجه على عقيدته الحية كما يستمد مناهجه وخططه من شريعته هو سلوك راشد مشروع يرجى لصاحبه أن يسهل الله له به طريقاً إلى الجنة.
ذلك أن العقيدة الإسلامية هي التي جمعت الصدق والصلاح وسلمت من الضلال والفساد وتضمنت جميع الحَكمة والعلم النافع والعمل الصالح وهذا هو سر السيادة وسبب العز والظهور والنصر والغلبة والفوز والسعادة في الدنيا والآخرة.
إن العقيدة الإِسلامية هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله تعالى تصديقَا وِإقراراً وتسليما وانقيادًا بالقلب واللسان، والجوارح وأعلى ذلك شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ثم إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلا، وعمومَا فالإِيمان هو طاعة الله تعالى وتحقيق امتثال أمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ابتداء من أعلى شعب الإِيمان وهي شهادة أن لا إله إلا الله إلى أدناها وهى إماطة الأذى عن الطريق كما شرع الله في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والتعبد لله تعالى بهذه الطاعة حبا ورجاء وخوفا لله ومنه سبحانه وتعالى تعبدا يصل على درجة المراقبة والإحسان وهي أن يعبد الإِنسان ربه بذلك كأنه يراه فإن لم يكن يراه استشعر أن الله يراه شعورا لا يغيب عن باله في جميع أحواله التعبدية أو غالبها فيثمر تقوى الله في السر والعلن.
إن عقيدةً هذه ماهيتها تثمر الأمن والهداية في الدنيا والآخرة وبقدر اعتقادها يتحقق ثمرها من الأمن والهداية فمن اعتقدها اعتقادا تاما كان له الأمن التام والهداية التامة ومن كان اعتقاده دون التمام حصل له من الأمن والاهتداء بقدر اعتقاده. قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (الأنعام:82) .
وإن من يتأمل الواقع الذي نعيشه في المملكة العربية السعودية يدرك أن ما نحن فيه من أمن يفوق ما فيه أهل عصرنا من الدول وغيرها هو من أثر العقيدة الإسلامية التي دعا إليها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وناصره آل سعود عليها ووازروه على إعلاء كلمة الله تعالى فأقَبلوا على معرفة ما عند الشيخ من العلم والإرادة حتى إذا عرفوا صدق موافقته للحق نفذوا ذلك بالسلطان والإدارة والسيف والعزيمة يريدون ما عند الله تعالى، فصنع لهم الله من عظيم صنعه، وأظهر لهم من الدولة ما ظهروا به على سائر العرب، وكلما كان الأمر على ذلك العهد المبارك كلما كان في بحبوحة العز والنصر والظهور، ولا نزال ولله الحمد، ننعم بوارف ظلال عقيدة السلف الصالح المبنية على صحة العلم وصلاح العمل تحت دوحتي أهل العلم وأهل العمل من علماء الدعوة وأنصارها.
هذا وإن اقتصار المجلة على نشر البحوث العلمية الموثقة من الأساتذة الجامعيين ليرجى منه أن يجمع قوتها ويركزها على التخصص العلمي النافع فما ذلك إلا استجابة لمتطلبات المسيرة العلمية التي تسيرها الجامعة الإسلامية لتفي بسد بعض حاجات المجتمع الإسلامي العالمي للتخصص العلمي حسبما يُمليه وجودها إذ هي مؤسسة إسلامية عالمية من حيث الغاية، وعربية سعودية من حيث التبعية، ذات شخصية اعتبارية مستقلة، ومن أهدافها إعداد البحوث العلمية وترجمتها ونشرها وتشجيعها في مجالات العلوم الإسلامية والعربية خاصة، وسائر العلوم وفروع المعرفة الإنسانية التي يحتاج إليها المجتمع الإسلامي عامة، وتجميع التراث الإسلامي والعناية بحفظه وتحقيقه ونشره.
ونسأل الله التوفيق لما يحبه ويرضاه وأن يسلك بنا سبيل أتباع رسوله صلى الله عليه وسلم أهل البصيرة والصدق والإخلاص في العلم والعمل وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه.
ظاَهِرة التقاَصّ في النَّحو العرَبيَّ
للدكتور دردير محمد أبو السعود
أستاذ مشارك بكلية اللغة العربية بالجامعة
التَّقاص أسلوب من أساليب العرب، وطرفة من طرفهم، وملحة من ملح كلامهم، فهو يكسب التراكيب طلاوة وتبادلاً، والقواعد دقة، والقياس شمولا، واتساعاً، واللغة مرونة وتداخلاً، والكلام إحالة وتبدلاً وقد أشار إليه بعض النحاة [1] في مصنفاتهم، ولم يتناولوه تناول شمول وإحاطة، ولكن تعرضوا له تعرض إيماء وإشارة.
لذلك رأيت أن أعرض هذه الظاهرة عرضا يوقفنا عليها، ويجليها ويطلعنا على دورها في الأساليب، ويجدر بنا أن نعرفها لغة واصطلاحا ونستعين بالله تعالى فنقول:
التقاص لغة. مأخوذ من القص، والقصاص لغة فيه، وهو القتل بالقتل، أو الجرح بالجرح، أو القطع بالقطع. وفى القاموس [2] قاصصته مقاصة وقصاصا إذا كان لك عليه دين مثل ما له عليك، فجعلت الدين في مقابلة الدين، مأخوذ من اقتصاص الأثر، ومثل ذلك المعنى في المصباح والمختار.
وفي اللسان والتاج والمحكم [3] : التقاص: هو التناصف في القصاص.
قال الشاعر:
فرمنا القصاص وكان التقاص
حكما وعدلا على المسلمينا
فالمادة تدور حول معنى القطع والتتبع.
واصطلاحا: هو أن تأخذ الكلمة حكما من أخرى أخذت مثله منها تلك الكلمة الأخرى.
وبعبارة أخرى: أن تتبادل الكلمتان حكما خاصا بهما. بمعنى أن تعطي كل منهما الأخرى حكما مساويا لما أخذته منها.
وقد تتأتى هذه الظاهرة بين ألقاب الإعراب، وفى إبدال بعض الحروف من بعض، وفي زيادة بعض الحروف.
أولا: تحقيقها بين ألقاب الإِعراب:
أما ورودها بين ألقاب الإعراب فقد تحقق بين الجر والنصب حيث جاء الجر محمولا على النصب فيما لا ينصرف لشبهه بالفعل في وجود العلتين الفرعيتين أو علة تقوم مقامهما.
كما حمل النصب على الجر في جمع المؤنث السالم، وفى التثنية، وجمع المذكر السالم طلبا للمقاصة [4] .
أما نصب جمع المؤنث بالكسرة فهو تابع للجر إجراء للفرع على وتيرة الأصل الذي هو جمع المذكر السالم، فإن النصب فيه تابع للجر، لأنه لولم يحمل نصبه على جره للزم مزية الفرع على الأصل [5] .
وأما نصب المثنى فقد جاء بالياء حملا على الجر، لأنه يجر بالياء.
وأما حمل النصب على الجر في جمع المذكر السالم كما في التثنية فلأنك لو قلبت الواو ألفا في النصب لأفضى ذلك إلى الالتباس بالمثنى المرفوع [6] .
وإنما حمل النصب على الجر دون الرفع، لوجود مناسبة بينهما في وقوع كل منهما فضلة في الكلام [7] ، ولأنه يشبهه في الافتقار إلى العامل اللفظي [8] ، ولأن الفتحة إلى الكسرة أقرب من الضمة إليها فحمل على الأقرب منه [9] .
وقد علل أبوعلي الفارسي لهذه الظاهرة في هذا المقام تعليلا حسنا حيث بين أن موافقة الجر النصب فيما لا ينصرف، كموافقة النصب الجر في التثنية والجمع فليس الاتفاق للبناء، وإنما هو لاجتماع النصب والجر في كونهما فضلتين، وفي كونهما كاملتين بعد استعمال الجملة المتضمنة للفعل، أو معنى الفعل بجزئيها اللذين هما الحدث والمحدث عنه، ومن ثم اتفقا أيضا في باب الضمير [10] .
ومما يقوي هذه الظاهرة ويؤكد تحقيقها في هذا الموضع وجود شبه بذهن علامة كل من النصب والجر. فالفتحة تشبه الكسرة وإن اختلف موضعها. كما أن الياء لا يتغير وضعها سواء أكانت علامة للجر، أم علامة للنصب، وإن اختلفت حركة ما قبلها وما بعدها في التثنية والجمع.
ثانيا: في إبدال بعض الحروف من بعض:
1-
إبدال الهمزة من الهاء:
من حروف الإبدال القياسي الهمزة والهاء، لأنهما من حروف "هدأت موطيا"وهما يتبادلان الإبدال، بمعنى أن الهاء قد تبدل همزة، كما أن الهمزة قد تبدل هاء.
فإبدال الهمزة من الهاء يكون في الاسم والحرف.
فإبدالها من الهاء في الاسم جاء في قولهم: ماء وشاء [11] . والأصل موه وشوه. قلبت الواو ألفا، وأبدلت الهمزة هاء.
وكذلك جاء في الجمع. قالوا في جمع ماء: أمواء، والأصل أمواه، وإذا ثبت أن أصلها هاء، ثبت أن الهمزة مبدلة عنها قال الشاعر:
وبلدة قالصة أمواؤها
ما صحة رأد الضحى أفياؤها [12]
والدليل على أن هذه الهمزة مبدلة من الهاء، رجوعها في التصغير والتكثير، قالوا في تصغير ماء مُوَيه، وفي جمعه مياه وأمواه. والتصغير والتكثير يردان الأشياء إلى أصولها.
وقد أكد ابن عصفور إبدال الهمزة من الهاء بقوله: "وإنما جعلت الهاء هي الأصل، لأن أكثر تصاريف الكلمة عليها، قالوا: أمواه ومياه وماهت الركية [13] . إلى غير ذلك من تصاريفها"[14]
وكذلك ورد إبدال الهمزة من الهاء في قولك: (آل)[15]، وأصل آل: أهل فأبدلت الهاء همزة فقيل: أَأْل، ثم أبدلت الثانية ألفا لسكونها إثر فتح فقيل: آل، كما قالوا آدم وآخر في الاسم، وآمن وآثر في الفعل، والأصل: أأْدم وأَأخر، وأَأمن وأَأَْثر.
والدليل على أن أصل آل: أهل قول الجماعة في التصغير: أُهَيْل، ولو كانت الألف منقلبة عن غير هاء- أي عن واو- لقيل في تصغيره (أُوَيل) . وقد اختار هذا الرأي يونس [16] .
ومما يؤكد أن الهمزة في (آل) أصلها هاء الإضافة إلى الضمير، فقد قالوا أهلك وأهله كثيرا، لأن الضمير يرد الأشياء إلى أصولها. ولَا يقال: آلك وآله إلا قليلا، وذلك مثل قول عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم:
وانصر على دين الصليـ ـب
وعابديه اليوم آلَكْ [17]
وقول الآخر:
أنا الرجل الحامي حقيقة والدي
آلي كما تحمي حقيقة آلكا [18]
ونحو قول الكناني: "رجل من آلك وليس منك "[19] .
وجاء إبدال الهمزة من الهاء- أيضا- في اسم الإشارة حيث إنهم قالوا في هذا آذا. وجاء على ذلك قول الشاعر:
فقال فريق: آأذا إذ نحوتهم
نعم وفريق لا يمُنُ الله ما ندري [20]
أراد: أهذا، فقلبت الهاء همزة، ثم فصل بين الهمزتين بألف، وأبدلت كذلك في غير اسم الإشارة، مثل قولهم: الأزل والهزل، وهو مأزول ومهزول [21] .
وأما إبدالها في الحرف فقد ورد في: هَلْ وهَلَاّ. فقالوا: ألْ فعلت كذا؟ يريدون هل فعلت كذا؟ حكى ذلك قطرب [22] عن أبي عبيدة. وقالوا: ألَاّ فعلت يريدون هلَاّ فعلت.
والإبقاء على الأصل في (هل) هو الأكثر، بيد أن الهمزة والهاء في ألَاّ وهلا سواء.
وقد عدهما بعض النحويين [23] من حروف التحضيض، كما ذهب غيرهما إلى أنهما مادتان مستقلتان [24] . فالهمزة أصلية في (ألَاّ) كما أن الهاء أصلية في (هلَاّ) بخلاف (هل وأل) فإن الاستفهام بهما ليس على درجة واحدة، لكثرة الاستفهام ووضوحه بهل، وندرته بألْ.
وجاء إبدال الهمزة من الهاء- في غير ما تقدم- على قلة في اسم الفعل [25] . قالوا في هيهات: أيهات.
فإبدال الهمزة من الهاء إبدال قياسي، وهما من مخرج واحد. وكونهما من مخرج واحد جدير بأن يقوي هذا الإبدال ويؤكده.
قال الصيمري: "قلبت الهاء همزة، لأنها من مخرج الهاء، وهي أقوى منها في الصوت "[26] .
ولكن ابن يعيش [27] ذهب إلى أن هذا الإبدال إنما تم لضرب من التقاص. وذلك لكثرة إبدال الهاء من الهمزة على العكس.
وذلك أمر يقتضينا الإشارة إلى إبدال الهاء من الهمزة- عكس ما تقدم- حتى نلم بأطراف المسألة. ونؤكد الظاهرة التي ارتضاها ابن يعيش.
2-
إبدال الهاء من الهمزة:
ذهب ابن الأنباري وابن عصفور وابن يعيش إلى أن الهاء تبدل من الهمزة في مواضع كثيرة من كلام العرب [28] . وهذا الإبدال وارد في الاسم والفعل والحرف.
(أ) إبدالها في الاسم:
أما إبدالها في الاسم فقد ورد في: إياك. قالوا: هياك. قال الشاعر:
فهياك والأمر الذي إن توسعت
موارده ضاقت عليك مصادره [29]
وقال الآخر: [30]
يا خال هلا قلت إذ أعطيتني
هياك هياك وحنواء العنق [31]
كما ورد قولهم: هِبْرِيَّة، والأصل فيه: إبرية، وهو الحزاز في الرأس.
وقالوا في مهيمن، أصله: مؤيمن فأبدلت الهمزة هاء [32] .
(ب) إبدالها في الفعل:
وأما إبدالها في الفعل فقد ورد في قولهم: أنرت الثوب، وأرحت الماشية وأرقت الماء، وأردت الشيء، فأبدلوا في الجميع الهاء من الهمزة فقالوا: هنرت الثوب، وهرحت الماشية، وهرقت الماء، وهردت الشيء. وذلك لاتفاقهما مخرجا لأنهما من أقصى الحلق [33] .
(جـ) إبدالها في الحرف:
وأما إبدالها في الحرف فقد ورد في همزة إِنَّ المؤكدة، وإنْ الشرطية، وأيَا في النداء، وفي همزة الاستفهام، وإليك بيان ذلك.
جاء إبدال الهاء من همزة إِنَّ المشددة المكسورة مع اللام. وذلك على طريق اللزوم حيث قالوا: يهَنَّكَ قائم، قال الشاعر:
ألا يا سنا برق على قُلَل الْحِمْيَ
لَهِنَّك من برق عَلَيَّ كريم [34]
وكذلك أبدلت من همزة (إِنْ) الشرطية [35] مثل قولهم: هِنْ فعلت. تريد: إِنْ فعلت. وهي لغة طيء [36] .
وأما إبدالها من همزة (أَيَا) في النداء ففي قولهم: هيا وأيا، وإن كان أيا أكثر من هيا. قال الشاعر:
وانصرفت وهي حَصَان مُغضبة
ورفعت بصوتها هَيَا أَبه [37]
وإبدالها من همزة الاستفهام في مثل قولهم: هَزَيْدُ منطلقٌ. يريدون: أزيد منطلق. وأنشد الفراء:
وأتى صواحبها فقلن: هذا الذي
منح المودة غيرنا وجفانا [38]
يريدون: أذا الذي. بإبدال الهاء من الهمزة. فإبدال الهاء من الهمزة مقصور على السماع- كما بينا- غير أن ابن يعيش [39] جعله كثيرا، وقاس عليه إبدال الهمزة من الهاء، وجعله ضربا من التقاص. أي أن كل واحد منهما أخذ حكما أخذه منه الآخر. فإبدال الهمزة من الهاء، تم لأن الهاء أبدلت من الهمزة. فكل منهما فعل بالآخر مثل ما فعل الآخر به، وهذا الضرب هو الذي عرف لدى النحاة بالتقاص، وارتضوه سمة لهذه الظاهرة، ومصطلحا لهذه القاعدة.
3-
قلب الهمزة واواً:
تبين لنا مما تقدم أن ظاهرة التقاص تتأتى في إبدال الهمزة من الهاء، وإبدال الهاء من الهمزة. ونبين الآن ورودها بين الواو والهمزة، ويتحقق ذلك في إبدال كل منهما من الآخر. فالهمزة تقلب واواً، كما أن الواو تقلب همزة، ويتضح ذلك على النحو التالي:
(أ) قلب الهمزة واواً:
تبدل الهمزة واواً في عدة مواضع هي [40] :
ا- أن تكون الهمزة للتأنيث، فإنها تبدل واواً باطراد على سبيل اللزوم في التثنية والجمع بالألف والتاء والنسب. فتقول في صحراء وعشراء ونفساء: صحراوين وعشراوين ونفساوين، وصحراوات وعشراوات ونفساوات، وصحراويّ وعشراويّ ونفساوي.
2-
أن تكون الهمزة قبل الألف في الجمع الذي لا نظير له في الآحاد، بشرط أن يكتنف ألف الجمع همزتان، وذلك نحو: ذوائب في جمع ذؤابة. أصله ذآئب، فأبدلت الهمزة واواً هروباً من ثقل اجتماع الهمزتين والألف، وهذا الإبدال اطرادي لازم.
3-
أن تقع الهمزة لاماً لجمع على مفاعل وقد سلمت في المفرد، وذلك مثل: هِراوة، قالوا في جمعه هراوي، بإبدال الهمزة واوا ليشكل الجمع مفرده.
4-
أن تلتقي همزتان في كلمة وتسكن الثانية بعد ضم. فإنها يجب إبدالها واواً. وذلك نحو: أومن وأوثر. والأصل: أؤمن وأؤثر. إلا أنه رفض الأصل هروبا [41] من اجتماع همزتين.
5-
أن تكون الثانية مضمومة مطلقا. أي سواء انضم ما قبلها أو انفتح أوِ انكسر، أو تكون مفتوحة بعد فتح أو ضم. وذلك مثل: أُوُمٌ، وأوُمّ وإِوُمّ. والأصل: أُؤم، وأؤُم، وإِؤُم. ومثل أُُويدم تصغير آدم. وأَوادم جمع آدم. والأصل: أُؤيدم وأَأًدم. فأبدلت الثانية في الجميع واواً. وهذا الإبدال قياسي مطرد لازم.
(ب) قلب الواو همزة:
تقدمت مواضع قبل الهمزة واواً، وأمر هذه المسألة يحتم علينا ذكر المواضع التي تبدل فيها الواو همزة حتى ينكشف وجه هذه الظاهرة، ونصل إلى النتيجة التي نرجوها.
ومن المقرر في هذا الباب [42] أن الواو تقلب همزة في خمسة مواضع:
1 -
أن تتطرف إثر ألف زائدة مثل: كساء وسماء ودعاء. والأصل: كساو وسماو ودعاو.
2-
أن تقع عينا لاسم فاعل فعل ثلاثي أعلت عين فعله نحو: صائم وقائم، والأصل: صاوم وقاوم.
3-
أن تقع مدة ثلاثية زائدة في المفرد إذا كان جمعه على مثال مفاعل. نحو: عجائز ورعائف جمعي عجوز ورعوفة، والأصل عجاوز ورعاوف.
4-
أن تقع ثاني لينين اكتنفهما ألف مفاعل مثل: أوائل وسيائد. والأصل: أواول وسياود في جمع أول وسيد.
5-
أن تتصدر في الكلمة واوان. فإن الأولى منهما تقلب همزة بشرط أن لا تكون الثانية منهما مدة غير أصلية، أي: أن تكون الثانية غير مدة وذلك نحو قولك في جمع الأولى أنثى الأول أُوَل. والأصل: وُوَل ونحو ذلك في جمع واصلة وواقية تقول: أواصل وأواق، والأصل: وواصل، ووواق.
أو تكون الثانية مدة أصلية نحو: الأولى أنثى الأول. أصلها وولى بواوين أولاهما فاء، والثانية عين ساكنة.
هذه هي مواضع قلب الواو همزة، وقد تقدمت مواضع قلب الهمزة واواً.
وقد تم هذا القلب المتبادل بين الواو والهمزة على طريق المقاصة. لأن الهمزة وإن لم تكن من حروف العلة، فهي شبيهة بالألف، ولهذا عدها بعض الصرفيين [43] من حروف العلة.
وأيا ما كان فإن الألف أخف حروف العلة، وكذلك ما أشبهها وهو الهمزة بخلاف الواو فإنها أثقلها.
فاللجوء- حينئذ- إلى قلب الواو همزة لجوء إلى التخفيف، لأنه انتقال من الثقل إلى الخفة. بخلاف العكس، وهو قلب الهمزة واواً. لأنه انتقال من الخفيف إلى الثقيل.
لهذا كان قلب الهمزة واواً في نحو صحراء وعشراء ونفساء في التثنية والجمع بالألف والتاء، والنسب [44] ، انتقال من الخفة إلى الثقل، لأن الهمزة أخف من الواو- كما علمنا- ولكن ذلك تم على سبيل التقاص.
فكما أن الواو قلبت همزة. كذلك أبدلت الهمزة واواً على طريق المبادلة والمقاصة، نظرا لتحقيق الشبه بينهما، بسبب أن الهمزة شبيهة بالألف وهى حرف علة.
بيد أن ابن "فلاح "جعل هذه الظاهرة [45] متحققة بإبدال الهمزة واواً في الجمع بالألف والتاء فقط. في مثل صحراء وصحراوات. أي أنه قصر المقاصة على جمع المؤنث السالم، اقتصاصا من قلب الواو همزة.
ونحن إذ نقدر لابن فلاح جهده في الإشارة إلى هذه الظاهرة، وفيما ذهب إليه. نرى أنه لا ضير من جعل المقاصة شاملة لكل المسائل التي تقلب فيها الهمزة واواً، اطرادا للقاعدة، وشمولا للظاهرة، وتثبيتا للقياس، وتعميما للمصطلح، وتوسعاً في أساليب اللغة، لأنها- بلا شك- تقبل ذلك ولا تضيق به.
ثالثا: في زيادة بعض الحروف:
من المقرر أن- اللام ألف- أصلها الألف التي هي مَدَّةَ ساكنة، ولكنها دُعِمت باللام قَبْلها متحركة ليمكن الابتداء [46] بها، وليصح النطق كما صح بسائر الحروف غيرها. لأن الساكن لا يمكن الابتداء به.
وإنما دُعمت باللام قبلها ولم تُدعَم بهمزة الوصل التي يؤتى بها توصلا إلى النطق بالساكن، لأنه لا يمكن الإتيان بها قبل الألف، ولأن ذلك يؤدي إلى نقض الغرض الذي قصدوا له، لأن همزة الوصَل قد تأتي مكسورة، ولو كسرت لانقلبت الألف ياءً مكسورة لانكسار ما قبلها.
فيقال: (إي) فلا تصل إلى الألف التي اعتمدت [47] عليها، فلما لم يجز ذلك، عَدَلوا إلى اللام دون غيرها، لأن العرب توصلوا إلى النطق بلام التعريف بزيادة الألف قبلها، توصلا إلى النطق بها، فحركوا الألف فصارت همزة، وجعلوها همزة [48] وصل نحو: الغلام والفرس والجارية. فلما افتقرت الألف إلى حرف جيء باللام قبلها في (لا) توصلا إلى النطق بالألف الساكنة ليكون ذلك ضرباً من التقاص والتعويض بين الحرفين فصار لا.
وبالله التوفيق
…
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
ابن جنى في سر الصناعة ص 50، وابن الأنباري في منثور الفوائد ص 75 والسيوطي في الأشباه 1/ 134 وغيرهم.
[2]
القاموس (قصص) ، والمصباح 505 والمختار 538.
[3]
اللسان والتاج (قصص) والمحكم 6/ 66.
[4]
الأشباه والنظائر 1/ 135.
[5]
حاشية الصبان 1/ 103
[6]
شرح الألفية لابن الناظم ص 15.
[7]
المسائل العسكريات للفارسي 53 1 وابن الناظم 13، والتصريح 1/ 79 والجامي على الكافية 8 1.
[8]
التوطئة للشلوبيني 130.
[9]
التصريح 1/ 84.
[10]
العسكريات 153.
[11]
أنظر سر الصناعة1 / 113. والتبصرة 815 وشرح المفصل لابن الحاجب2/ 396. والممتع1 / 348وابن يعيش 10/15 والأشباه والنظائر 1/ 135والأشموني والصبان4/ 213، 223.
[12]
سر الصناعة 1/113 وشرح الشافية 3/ 108 والممتع1 / 348وشرح المفصل لابن الحاجب 2/ 396 وابن يعيش 10/15.
[13]
ماهت: ظهر ماؤها وكثر.
[14]
الممتع 1 / 348.
[15]
انظر التصريف الملوكي 39. وسر الصناعة 1/ 114 والإبدال والمعاقبة والنظائر للزجاجي 29 والممتع1 /348.
[16]
التصريف الملوكي 39.
[17]
الممتع 1/ 349 والدرر اللوامع 2/ 62 وتاج العروس (أهل) .
[18]
الممتع 1/ 349.
[19]
المصدر السابق 1/ 350.
[20]
الكتاب2/ 147 وسر الصناعة 1/ 130 والممتع 1/ 351 والإنصاف07 4 والإبدال والمعاقبة ص 30 والمغنى 101
[21]
الإبدال والمعاقبة ص30.
[22]
الممتع 1/ 351.
[23]
ابن النحوي في شرحه للمفصل2 /396.
[24]
انظر حاشية الصبان4/ 223.
[25]
أمالي ثعلب 47 5 وابن يعيش 0 1/ 5 1 والمزهر2 / 473 والأشباه والنظائر1 /397.
[26]
التبصرة والتذكرة ص 815.
[27]
شرح المفصل 10/15.
[28]
انظر الإنصاف 131. والممتع1 / 397وشرح المفصل 8/118 والأشباه والنظائر1 /135.
[29]
التصريف المملوكي 44. والوجيز 54 والإنصاف 131 وشرح المفصل8/8 11 والممتع1 /397.
[30]
انظر الإبدال السكيت 25 والوجيز 53 والإنصاف 131.
[31]
حنواء العنق. التي تميل عنقها من الإبل وَالغنم.
[32]
التصريح 2 /368.
[33]
الإنصاف 132.
[34]
انظر مجالس ثعلب 13 1 والخصائص1/ 315 والممتع1/ 398 وابن يعيش 0 1/ 42 واللسان (لهن) .
[35]
انظر شرح الشافية3 / 222والممتع1/ 397.
[36]
المفصل للزمخشري ص0 37.
[37]
الممتع 1/ 399.
[38]
انظر ابن يعيش 10/ 43 وشرح الشافية 3/ 224 والممتع 1/ 399.
[39]
ابن يعيش10/ 43.
[40]
انظر سر الصناعة 4 0 1 وما بعدها والتصريف الملوكي 38 والتبصرة 4 1 8 والإنصات 477 والممتع 1/ 363 والتصريح 2/ 372 والأشباه والنظائر 1/ 135 والأشموني 4/ 214.
[41]
ينظر الممتع1 /366.
[42]
أي باب الإبدال والإعلال.
[43]
رضي الدين الإستراباذي في شرحه للشافية أول باب الإعلال 3/ 79.
[44]
الممتع 1/ 363.
[45]
الأشباه والنظائر 1/ 135.
[46]
سر صناعة الإعراب 1/ 48 ومنثور الفوائد لابن الأنباري ص 75.
[47]
سر الصناعة 1/ 49.
[48]
منثور الفوائد 75.
عُقُود الزّبَرجَدِ عَلىَ مُسنَد الإمام أَحمد في إعرَاب الحَدِيث
(1)
تأليف: تحقيق:
جلال الدين السيوطي الدكتور حسن موسى الشاعر
أستاذ مساعد بكلية اللغة العربية بالجامعة
تمهيد:
أوَّلا: جلال الدين السيوطي [1] :
لقد أعاننا السيوطي في معرفة سيرة حياته وشيوخه ومؤلفاته، إذ ترجم لنفسه في كتابه حُسن المحاضرة، عند الكلام على من كان بمصر من الأئمة المجتهدين. قال: "وإنما ذكرت ترجمتي في هذا الكتاب اقتداء بالمحدثين قبلي، فقلَّ أن ألفّ أحد منهم تاريخاً إلاّ ذكر ترجمته فيه
…
".
حياته وشيوخه:
هو أبو الفضل جلال الدين عبد الرحمن بن كمال الدين أبي بكر بن محمد بن سابق الدين
…
الخضيري الأسيوطي الشافعي.
نسب إلى أسيوط، مدينة معروفة بمصر. وأما نسبة "الخضيري"فيرجح السيوطي أنها نسبة إلى محلة ببغداد، وقد قيل إن جدّه الأعلى كان أعجمياً أومن الشرق.
ولد السيوطي بعد المغرب ليلة الأحد مستهل رجب سنة 849هـ وتوفي والده سنة 855هـ وله من العمر خمس سنوات وسبعة أشهر، وكان قد وصل في حفظ القرآن الكريم إلى سورة التحريم، فنشأ يتيماً، وأسندت وصايته إلى جماعة منهم كمال الدين بن الهمام.
حفظ القرآن الكريم وله دون ثماني سنين، ثم حفظ العمدة، ومنهاج الفقه والأصول، وألفية ابن مالك.
وشرع يشتغل بالعلم من مستهلّ سنة 864 هـ فلازم كثيراً من شيوخ عصره، وأجيز بتدريس العربية في مستهل سنة 866هـ وبدأ بالتأليف في هذه السنة، فكان أول شيء ألفه شرح الاستعاذة والبسملة، وأوقف عليه شيخه علم الدين البلقيني فكتب عليه تقريظاً، ولازمه في الفقه إلى أن مات سنة 868هـ ولزم في الفقه أيضاً شيخ الإسلام شرف الدين المناوي آخر علماء الشافعية المتوفى سنة 871هـ وقرأ على الشمس السيرَامي صحيح مسلم إلاّ قليلاً منه، والشفا، وألفية ابن مالك، وقطعة من التسهيل وأجازه بالعربية وغيرها.
ولزم في الحديث والعربية شيخه تقي الدين الشمنيّ الحنفي المتوفى سنة 872هـ فواظبه أربع سنين وكتب له تقريظا على شرح ألفية ابن مالك "البهجة المرضية" وعلى تأليفه "جمع الجوامع في العربية".
ولزم شيخه العلامة محي الدين الكافيجي أربع عشرة سنة حتى مات وذلك من سنة 65 8ـ 879هـ وأخذ عنه التفسير والأصول والعربية والمعاني.
وقد سافر السيوطي إلى بلاد الشام والحجاز واليمن والهند والمغرب، ولما حجّ شرب من ماء زمزم لأمور: منها أن يصل في الفقه إلى رتبة الشيخ سراج الدين البلقيني وفي الحديث إلى رتبة الحافظ ابن حجر.
ولما بلغ السيوطي أربعين سنة ترك التدريس والإفتاء وتجردّ للعبادة، وشرع في تحرير مؤلفاته، ثم قطع صلته بالحياة العامة واعتكف بمنزله في جزيرة الروضة بالمنيل، ولم يتحول عنها إلى أن مات في سحر ليلة الجمعة تاسع عشر جمادى الأولى سنة 911هـ رحمه الله تعالى.
مصنفاته:
قضى السيوطي حياته في تحصيل العلم والدرس والتصنيف، وتنوعت ألوان ثقافته حتى صار إماماً في كثير من العلوم.
قال في كتاب حسن المحاضرة [2] : "ورزقت التبحر في سبعة علوم: التفسير والحديث والفقه والنحو والمعاني والبيان والبديع، على طريقة العرب والبلغاء لا على طريقة العجم وأهل الفلسفة، والذي أعتقده أن الذي وصلت إليه من هذه العلوم السبعة سوى الفقه والنقول التي اطلعت عليها فيها، لم يصل إليه ولا وقف عليه أحد من أشياخي، فضلاً عمنّ دونهم. وأما الفقه فلا أقول ذلك فيه، بل شيخي أوسع نظراً وأطول باعاً. ودون هذه السبعة في المعرفة: أصول الفقه والجدل والتصريف، ودونها الإنشاء والترسل والفرائض، ودونها القراءات- ولم آخذها عن شيخ- ودونها الطب. وأما علم الحساب فهو أعسر شيء عليّ وأبعده عن ذهني، وإذا نظرت في مسألة تتعلق به فكأنما أحاول جبلاً أحمله.
"وقد كملت عندي آلات الاجتهاد بحمد الله تعالى، أقول ذلك تحدّثاً بنعمة الله تعالى لا فخراً، وأي شيء في الدنيا حتى يطلب تحصيله بالفخر، وقد أزف الرحيل، وبدأ المشيب، وذهب أطيب العمر. ولو شئت أن أكتب في كل مسألة مصنفاً بأقوالها وأدلتها النقلية والقياسية، ومداركها ونقوضها وأجوبتها، والموازنة بين اختلاف المذاهب فيها لقدرت على ذلك من فضل الله، لا بحولي ولا بقوتي فلا حول ولا قوة إلاّ بالله، ما شاء الله، لا قوة إلاّ بالله.
"وقد كنت في مبادئ الطلب قرأت شيئاً في علم المنطق، ثم ألقى الله كراهته في قلبي، وسمعت أن ابن الصلاح أفتى بتحريمه فتركته لذلك، فعوّضني الله تعالى عنه علم الحديث الذي هو أشرف العلوم".
وقد ترك السيوطي عدداً ضخماً من المصنفات في أكثر الفنون ما بين مجلدات ورسائل صغيرة وقد ذكر في كتابه حسن المحاضرة أن مؤلفاته إلى ذلك الوقت بلغت ثلاثمائة كتاب سوى ما غسله ورجع عنه [3] .
وللسيوطي رسالة خاصة فهرس فيها مؤلفاته ورتبها على الفنون [4] . وقد أحصيت مؤلفاته فيها فبلغت 552 مؤلَفاً.
وقد عمل الأستاذ أحمد الشرقاوي إقبال كتاباً ضخماً لمؤلفات السيوطي رتبه على حروف المعجم وسماه "مكتبة الجلال السيوطي"قال في مقدمته: "أحصيت في هذا الفهرست التآليف السيوطية، فكانت 725 عدداً، أخرجت منها الطباعة نيفاً ومائتين
…
"
ثانيا: الكتب المصنفة في إعراب الحديث:
النحاة والحديث:
الحديث النبوي أصل من أصول النحو، ومصدر من مصادره السماعية، ولكن الناظر في كتب النحو يتملكه العجب وهو يرى قلة احتجاج النحاة بالحديث وكثرة استشهادهم بالشعر. وقد غلب هذا الاتجاه على النحاة الأوائل، وقلّدهم من جاء بعدهم. ثم اختلف موقف النحاة بعد، فمنهم من قويت عنايته بالحديث والاحتجاج به كابن الطراوة (528هـ) والزمخشري (538 هـ) والسهيلي (581هـ) وابن خروف (0 61 هـ) وابن يعيش (643 هـ) ، وبلغ الاهتمام بالحديث أوجَّهُ عند ابن مالك الأندلسي (672هـ) الذي يعدّ إمام الاحتجاج بالحديث النبوي.
وقد لخصّ السيوطي مذهب ابن مالك في الاحتجاج فقال: "كان أمة في الاطلاع على الحديث، فكان أكثر ما يستشهد بالقرآن، فإن لم يكن فيه شاهد عدل إلى الحديث، فإن لم يكن فيه شاهد عدل إلى أشعار العرب"[5] .
وهكذا مهّد ابن مالك السبيل لمن جاء بعده، فسار على دربه ابن هشام (761هـ) والدماميني (827 هـ) والأشموني (929هـ) وغيرهم.
ومن النحاة من تزعّم منع الاحتجاج بالحديث، وأشهرهم اثنان: ابن الضائع (680 هـ) وأبو حيان الأندلسي (745هـ)، وذلك لأمرين: أحدهما أن الرواة جوّزوا نقل الحديث بالمعنى، والثاني أن كثيراً من رواة الحديث كانوا غير عرب بالطبع فوقع اللحن في نقلهم [6] .
وقد رجَّح معظم المتأخرين مذهب ابن مالك في الاحتجاج بالحديث، وذلك لشدّة عناية المحدثين برواية الحديث وورعهم في نقله، وتمييز الأحاديث الصحيحة من غيرها، بعد الجهد العظيم الذي بذله علماء الحديث.
ومن العجيب أن الإمام السيوطي، وهو صاحب المصنفات الكثيرة في الحديث، ذهب إلى عدم الاحتجاج بالحديث فيما خالف القواعد النحوية، وصحح مذهب ابن الضائع وأبي حيان. فقال في كتابه الاقتراح: وأما كلامه صلى الله عليه وسلم فيستدل منه بما ثبت أنه قاله على اللفظ المرويّ، وذلك نادر جدا، إنما يوجد في الأحاديث القصار على قلة أيضا فإن غالب الأحاديث مرويّ بالمعنى، وقد تداولتها الأعاجم والمولدون قبل تدوينها، فرووها بما أدّت إليه عباراتهم، فزادوا ونقصوا، وقدموا وأخروا، وأبدلوا ألفاظاً بألفاظ. ولهذا ترى الحديث الواحد في القصة الواحدة مرويّاً على أوجه شتى بعبارات مختلفة، ومن ثَمّ أنكر على ابن مالك إثباته القواعد النحوية بالألفاظ الواردة في الحديث" [7] .
وكرر السيوطي هذا الرأي في كتابه همع الهوامع فقال:
"
…
وقد بيّنت في كتاب أصول النحو من كلام ابن الضائع وأبي حيان أنه لا يستدل بالحديث على ما خالف القواعد النحوية، لأنه مروي بالمعنى لا بلفظ الرسول، والأحاديث رواها العجم والمولدون لا من يحسن العربية، فأدوها على قدر ألسنتهم" [8] .
كما ذكر السيوطي هذا الرأي أيضا في كتابه عقود الزبرجد حيث قال:
"اعلم أن كثيراً من الأحاديث روتها الرواة بالمعنى، فزادوا فيها ونقصوا، ولحنوا وأبدلوا الفصيح بغيره، ولهذا تجد الحديث الواحد يروى بألفاظ متعددة، منها ما يوافق الإعراب والفصيح، ومنها ما يخالف ذلك".
ثم ينقل السيوطي كلام ابن الضائع وأبي حيان في هذا المجال.
التصنيف في إعراب الحديث:
لقد كان لهذه المواقف المتضاربة من النحاة أن قلّ التصنيف في إعراب الحديث، فلا نجد كتباً متخصصة في إعراب الحديث غير ثلاثة كتب: الأول للعكبري، والثاني لابن مالك، والثالث للسيوطي.
قال السيوطي في مقدمة كتابه "عقود الزبرجد":
"
…
وبعد فقد أكثر العلماء قديماً وحديثاً من التصنيف في إعراب القرآن ولم يتعرضوا للتصنيف في إعراب الحديث سوى إمامين: أحدهما الإمام أبو البقاء العكبري
…
والثاني الإمام جمال الدين ابن مالك
…
وقد استخرت الله تعالى في تأليف كتاب في إعراب الحديث مستوعب جامع
…
"
وفيما يلي وصف لهذه المصنفات:
(1)
إعراب الحديث النبوي- للإمام العكبري (538-616هـ) :
أبو البقاء محب الدين عبد الله بن الحسن العكبري الأصل، البغدادي المولد والدار، الفقيه الحنبلي الحاسب الفرضي النحوي الضرير [9] .
برع أبو البقاء في فنون كثيرة وله مصنفات عديدة منها: إعراب القرآن واللباب في علل البناء والإعراب، وشرح الإيضاح والتكملة لأبي علي الفارسي، وشرح المفصل للزمخشري وغيرها.
وقد صنف أبو البقاء العكبري أول كتاب في إعراب الحديث [10] ، وأعتمد في أخذ الأحاديث على كتاب جامع المسانيد لابن الجوزي (597هـ) الذي جمع فيه مصنفه غالب مسند أحمد وصحيح البخاري ومسلم والترمذي.
قال أبو البقاء في مقدمته:
"أما بعد فإن جماعة من طلبة الحديث التمسوا مني أن أملي مختصراً في إعراب ما يشكل من الألفاظ الواقعة في الأحاديث، وأن بعض الرواة قد يخطئ فيها، والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بريئون من اللحن، فأجبتهم إلى ذلك، واعتمدت على أتمّ المسانيد وأقربها إلى الاستعياب وهو جامع المسانيد للإمام الحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، رحمه الله، مرتّبة على حروف المعجم، والله الموفق للصواب".
ومجموع الأحاديث التي تعرّض العكبري لإعرابها نحو 430 حديثاً، كان يستشهد عليها بالقرآن والشعر، وقد يتعرض للخلافات النحوية، وقد يذكر العكبري للرواية أكثر من إعراب. وإذا خرجت الرواية عن المألوف في كلام العرب ولم يجد لها وجها في قواعد النحاة حكم العكبري عليها باللحن.
(2)
إعراب الحديث- للإمام ابن مالك الأندلسي (600-672 هـ) :
أبو عبد الله جمال الدين محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني النحوي اللغوي المقريء المحدث الفقيه الشافعي [11] . من أشهر مصنفاته: الكافية الشافية وشرحها، التسهيل وشرحه- لم يتم-، الخلاصة الألفية في النحو والصرف، شرح عمدة الحافظ وعدة اللافظ.
وقد صنف ابن مالك كتاباً في إعراب الحديث سماه: "شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح"[12] . وهو يقوم على إعراب مشكلات وقعت في صحيح البخاري. ويتضح فيه منهج ابن مالك في الاحتجاج بالحديث النبوي، واستنباط القواعد النحوية منه، ويستدل للأحاديث بالقرآن والشعر، ويخطِّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّيء النحوِيين في عدد من المسائل. وهو بذلك يتميز عن منهج العكبري الذي كان يلحّن الرواية أحيانا لمخالفتها قواعد النحاة.
(3)
إعراب الحديث- للإمام السيوطي (849 ـ ا 91هـ) :
صنف السيوطي كتاباً ضخماً في إعراب الحديث سماه: "عقود الزبرجد على مسند الإمام أحمد"اعتمد فيه غالباً على مسند الإمام أحمد، وضمّ إليه كثيرا من كتب الحديث.
قال في مقدمته:
"
…
وقد استخرت الله تعالى في تأليف كتاب في إعراب الحديث، مستوعب جامع
…
وأجعله على مسند أحمد مع ما أضمه إليه من الأحاديث المزيدة، وأرتبه على حروف المعجم في مسانيد الصحابة، وأنشيء له من بحار كتب العربية كل سحابة
…
"
وهكذا رتّب السيوطي كتابه على الطريقة التي رتب فيها العكبري كتابه. والسيوطي مطّلع على إعراب الحديث للعكبري وإعراب الحديث لابن مالك فينقل أقوالهما في إعراب الحديث ويزيد عليها بما يعنّ له وما يراه من الأقوال الأخرى. فيقول:
"قد أوردت جميع كلام أبي البقاء معزوًّا إليه، ليعرف قدر ما زدته عليه، وتتبعت ما ذكره أئمة النحو في كتبهم المبسوطة من الأعاريب للأحاديث فأوردتها بنصهّا معزوّة إلى قائلها".
والسيوطي - كعادته- جمَّاعة للآراء لا يكاد يغفِل عن نقل رأي منها له قيمته في إعراب الحديث، ولا نكاد نجد له دوراً في الإعراب إلاّ نادراً.
وأهم المصادر التي اعتمد عليها السيوطي في إعراب الحديث:
1-
إعراب الحديث للعكبري، وقد صرّح بنقله جميع كلامه.
2-
إعراب الحديث لابن مالك.
3-
شرح الطيبي على مشكاة المصابيح للتبريزي.
4-
شروح صحيح البخاري للكرماني، والزركشي، والخطابي، وابن حجر.
5-
شروح صحيح مسلم للقاضي عياض، والقرطبي، والنووي.
6-
شرح الكافية الشافية لابن مالك.
7-
أقوال النحاة واللغويين في مصنفاتهم كالزمخشري في المفصل، والرضي في شرح الكافية، والأندلسي في شرح المفصل، وابن يعيش في شرح المفصل، والجوهري في الصحاح، والزمخشري في الفائق، وابن الأثير في النهاية في غريب الحديث.
وقد اعتمدت في تحقيق هذا الكتاب على ثلاث نسخ خطية، الأولى في دار الكتب المصرِية، والثانية في أيا صوفيا، والنسخة الثالثة في الخزانة العامة بالرباط. وقد بذلت جهداً كبيرا في تقويم النصّ والتعليق عليه، وتوثيق الآراء والنقول، وتخريج الأحاديث.
وقد آثرت تقديم مادة الكتاب على طريقة النص المختار، واستبعدت الفروق بين النسخ، لعدم حاجة القاريء إليها، إلى أن يأذن الله بإتمام الكتاب، وإعادة طبعه كاملاً.
ومن الله العون وبالله التوفيق
…
* * *
كتاب
عقود الزبرجد على مسند الإمام أحمد
في إعراب الحديث
بسم الله الرحمن الرحيم
[مقدمة الكتاب]
ربّ يسر وأتمم بخير فأنت كريم
…
الحمد لله الذي خصّ هذه الأمة بالإسناد والإعراب، وصلى الله على سيدنا محمد والآل والأصحاب.
وبعد:
فقد أكثر العلماء قديماً وحديثاً من التصنيف في إعراب القرآن، ولم يتعرضوا للتصنيف في إعراب الحديث سوى إمامين: أحدهما الإمام أبو البقاء العكبري، فإنه لما ألّف إعراب القرآن المشهور [13] أردفه بتأليف لطيف في إعراب الحديث، أورد فيه أحاديث كثيرة من مسند أحمد وأعربها، إلاّ أنه لاختصاره، ونزرة ما أورده فيه من النزر القليل، لا يروي الغليل، ولا يشفي العليل.
والثاني الإمام جمال الدين بن مالك، فإنه ألّف في ذلك تأليفاً خاصاً بصحيح البخاري، يسمى "التوضيح لمشكلات الجامع الصحيح".
وقد استخرت الله تعالى في تأليف كتاب في إعراب الحديث، مستوعب جامع، وغيث على رياض كتب المسانيد والجوامع هامع [14] ، شامل للفوائد البدائع شافٍ. كافلٍ بالنقول والنصوص كاف، أنظم فيه كُلّ فريدة، وأسفر فيه النقاب عن وجه كل خريدة [15] وأجعله على مسند أحمد مع ما أضمّه إليه من الأحاديث المزيدة، وأرتّبه على حروف المعجم في مسانيد الصحابة، وأنشيء له من بحار كتب العربية كلَّ سحابة.
واعلم أن لي على كلّ كتاب من الكتب المشهورة في الحديث تعليقة، وهي الموطأ [16] ، ومسند الشافعي [17] ، ومسند أبي حنيفة [18] ، والكتب الستة [19] ولم يبق إلا مسند أحمد. ولم يمنعني من الكتابة عليه إلاّ كبر حجمه جداً، وعدم تداوله بين الطلبة كتداول الكتب المذكورة، وقدّرت التعليقة عليه تجيء في عدة مجلدّات، والتعاليق التي كتبتها لا تزيد التعليقة منها على مجلد.
فلما شرح الله صدري لتصنيف هذا الكتاب، عرّفته بمسند أحمد، عوضاً مما كنت أرومه عليه من التعليقة، ولكونه جامعاً لغالب الحديث المتكلّم على إعرابه. فإن شئت فسّمه "عقود الزبرجد على مسند أحمد"وإن شئت فقل "عقود الزبرجد في إعراب الحديث"ولا تتقيدّ.
والله أسأل أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، موجباً للفوز بجنات النعيم، إنه البرّ الرحيم
…
مقدمة
[في الاستشهاد بالحديث]
اعلم أن كثيراً من الأحاديث روتها الرواةُ بالمعنى، فزادوا فيها ونقصوا، ولحنوا، وأبدلوا الفصيح بغيره، ولهذا تجد الحديث الواحد يروى بألفاظ متعددة، منها ما يوافق الإعراب والفصيح،
ومنها ما يخالف ذلك [20] .
وقد قال الحافظ فتح الدين بن سيد الناس [21] : "إذا ورد الحديث على وجهين ما يوافق الفصيح وما يخالفه، فالموافق للفصيح هو لفظ النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن ينطق إلاّ بالفصيح".
وقد نقل هذا الكلام عن المزني [22] .
قال أبو عاصم العبادي [23]- من متقدمي أصحابنا- في طبقاته: "قال المزني: لا يروى في الحديث خطأ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أفصح العرب، فلا يجوز أن يروي خطأ".
وقال أبو الحسن بن الضائع [24]- بالضاد المعجمة- في شرح الجمل [25] :
"تجويز الرواية بالمعنى هو السبب عندي في ترك الأئمة كسيبويه وغيره الاستشهاد على إثبات اللغة بالحديث، واعتمدوا في ذلك على القرآن وصريح النقل عن العرب. ولولا تصريح العلماء بجواز النقل بالمعنى في الحديث لكان الأولى في إثبات فصيح اللغة كلام النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه أفصح العرب".
قال: "وابن خروف [26] يستشهد بالحديث كثيراً فإن كان على وجه الاستظهار والتبرك بالمروي فحسن، وان كان يرى أن من قبله أغفل شيئاً وجب عليه استدراكه فليس كما رأى".
وقال أبو حيان [27] في شرح التسهيل [28] :
"قد أكثر ابن مالك من الاستدلال بما وقع في الأحاديث على إثبات القواعد الكلية في لسان العرب، وما رأيت أحداً من المتقدمين والمتأخرين سلك هذه الطريقة غيره. على أن الواضعين الأوّلين لعلم النحو المستقرئين للأحكام من لسان العرب كأبي عمرو بن العلاء [29] ، وعيسى بن عمر [30] ، الخليل، وسيبويه من أئمة البصريين، والكسائي [31] ، والفراء [32] ، وعلي بن المبارك الأحمر [33] ، وهشام الضرير [34] من أئمة الكوفيين، لم يفعلوا ذلك. وتبعهم على هذا المسلك المتأخرون من الفريقين وغيرهم من نحاة الأقاليم، كنحاة بغداد وأهل الأندلس. وقد جرى الكلام في ذلك مع بعض المتأخرين الأذكياء فقال: إنما ترك العلماء ذلك لعدم وثوقهم أن ذلك لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ لو وثقوا بذلك لجرى مجرى القرآن في إثبات القواعد الكلية. وإنما كان ذلك لأمرين:
أحدهما: أن الرواة جوّزوا النقل بالمعنى فتجد قصة واحدة قد جرت في زمانه صلى الله عليه وسلم تقل بتلك الألفاظ جميعها. نحو ما روي من قوله "زوجتكها بما معك من القرآن""ملكتكها بما معك"، "خذها بما معك"وغير ذلك من الألفاظ الواردة في هذه القصة، فنعلم يقيناً أنه صلى الله عليه وسلم لم يلفظ بجميع هذه الألفاظ، بل لا نجزم أنه قال بعضها. إذ يحتمل أنه قال لفظاً مرادفاً لهذه الألفاظ غيرها، فأتت الرواة بالمرادف، ولم تأت بلفظه صلى الله عليه وسلم، إذ المعنى هو المطلوب، ولاسيما مع تقادم السماع، وعدم ضبطه بالكتابة، والاتكال على الحفظ، والضابط منهم من ضبط المعنى، وأما ضبط اللفظ فبعيد جداً، لاسيما في الأحاديث الطوال. وقد قال سفيان الثوري: إن قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني، إنما هو المعنى. ومن نظر في الحديث أدنى نظر علم العلم اليقين أنهم إنما يروون بالمعنى.
الأمر الثاني: أنه وقع اللحن كثيراً فيما روي من الحديث، لأن كثيراً من الرواة كانوا غير عرب بالطبع، ولا يعلمون لسان العرب بصناعة النحو، فوقع اللحن في كلامهم، وهم لا يعلمون ذلك. وقد وقع في كلامهم وروايتهم غير الفصيح من لسان العرب، ونعلم قطعا غير شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفصح الناس، فلم يكن ليتكلم إلاّ بأفصح اللغات وأحسن التراكيب وأشهرها وأجزلها، وإذا تكلم بلغة غير لغته فإنما يتكلم بذلك مع أهل تلك اللغة على طريق الإعجاز، وتعليم الله ذلك له من غير معلم.
وابن مالك قد أكثر من الاستدلال بما ورد في الأثر، متعقباً بزعمه على النحويين، وما أمعن النظر في ذلك.
"وابن المصنف رحمه الله كأنه موافق لأبيه في استدلاله بما روي في الحديث، فإنه يذكره على طريقة التسليم".
وقد قال لنا قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة. وكان ممن أخذ عن ابن مالك- قلت له: يا سيدي هذا الحديث رواية الأعاجم، ووقع فيه من روايتهم ما يعلم أنه ليس من لفظ الرسول. فلم يجب بشيء.
قال أبو حيان: "وإنما أمعنت الكلام في هذه المسألة لئلا يقول مبتديء: ما بال النحويين يستدلون بقول العرب وفيهم المسلم والكافر، ولا يستدلون بما روي في الحديث بنقل العدول كالبخاري ومسلم وأضرابهما. فمن طالع ما ذكرناه أدرك السبب الذي لأجله لم يستدل النحاة بالحديث". انتهى كلام أبي حيان.
وقال القاضي عياض [35] في شرح مسلم: قال الشعبي [36] : "إذا وقع في الحديث اللحن البينّ يعرب". وقاله أحمد بن حنبل. قال: "لأنهم لم يكونوا يلحنون". وقال النسائي: [37]"إن كان شيئاً تقوله العرب فلا يغيّر، وإن لم يكن من لغة قريش، لأنه عليه الصلاة والسلام كان يكلم الناس بألسنتهم، وإن كان لا يوجد في كلام العرب فرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلحن".
فصل
[في عزو الأقوال إلى أصحابها]
قد أوردت جميع كلام أبي البقاء معزوّا إليه، ليعُرف قدر ما زدته عليه، وتتبعت ما ذكره أئمة النحو في كتبهم المبسوطة من الأعاريب للأحاديث، فأوردتها بنصهّا معزوّة إلى قائلها، لأن بركة العلم عزو الأقوال إلى قائلها، ولأن ذلك من أداء الأمانة، وتجنب الخيانة، ومن أكبر أسباب الانتفاع بالتصنيف، لا كالسارق الذي خرج في هذه الأيام فأغار على عدة كتب من تصانيفي، وهي المعجزات الكبرى، والخصائص الصغرى، ومسالك الحنفاء، وكتاب الطيلسان وغير ذلك، وضمّ إليها أشياء من كتب العصريين، ونسب ذلك لنفسه من غير تنبيه على هذه الكتب التي استمد منها، فدخل في زمرة السارقين، وانطوى تحت ربقة المارقين، فنسأل الله تعالى حسن الإخلاص والخلاص، والنجاة يوم يقال للمعتدين لات حين مناص.
وقد رمزت على كل حديث رمز من أخرجه من أصحاب الكتب الستة المشتهرة، وإن لم يكن فيها ولا في المسند صرّحت بذكر من أخرجه من أصحاب الكتب المعتبرة.
فائدة
[هل يتعدى "سمع"إلى مفعولين؟]
يتكرر كثيرا في الحديث قول الراوي "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "وقد اختلف هل يتعدّى "سمعت"[38] إلى مفعولين؟
فجّوزه الفارسي [39] ، لكن لابد أن يكون الثاني مما يُسْمَع، نحو: سمعت زيداً قال كذا. فلو قلت: سمعت زيداً أخاك، لم يجز.
والصحيح تعدّيه إلى مفعول واحد، وما وقع بعده منصوباً فعلى الحال، والأول على تقدير مضاف، أي سمعت قول رسول صلى الله عليه وسلم، لأن السمع لا يقع على الذوات، ثم بيّن هذا المحذوف بالحال المذكور، وهي يقول، وهي حال مبيّنة، ولا يجوز حذفها.
وقال الزمخشري [40] في قوله تعالى: {سَمِعْنَا مُنَادِياً} [41] : تقول سمعت رجلاً يتكلم، فتوقع الفعل على الرجل، وتحذف المسموع، لأنك وصفته بما يسمع، أو جعلته حالا منه، فأغناك عن ذكره. ولولا الوصف أو الحال لم يكن منه بدّ وأن يقال: سمعت كلامه.
وقال الطيبي [42] : الأصل في "سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ": سمعتُ قول رسول الله، فأخّر القول وجُعل حالاً ليفيد الإبهام والتبيين. وهو أوقع في النفس من الأصل.
فائدة
[في قولنا "رضي الله عنه"و"رضوان الله عليه"]
سئل الإمام أبو محمد بن السِّيد البَلْيوسي [43] عن قولنا: "رضي الله عنه ورضوان الله عليه هل "عليه"هنا مبدلة من "عنه"كما يتبدل بعض الحروف من بعض، فيسوغ فيها على وعن، أم ليست مبدلة؟
فأجاب: ليست "على"هاهنا ببدل من "عن"التي حكم "رضي"أن يتعدى بها، بدليل أن "عليه"قد صارت خبراً عن المبتدأ، ولو كانت بدلاً من "عن"لكانت من صلة الرضوان، ولم يصح أن يكون خبرا عنه، وعن مضمنّة في الكلام، كأنه قال: رضوان الله عنه سابغ عليه، أو واقع عليه، ونحو ذلك.
فائدة
[في إعراب غير]
سئل ابن الحاجب [44] عن إعراب "غير"في قولهم: هذا الحديثُ لا نعلمُ أحداً رواه عن فلان غير فلان؟ أينصب غير أم يرفع؟.
فأجاب بما نصّه: إن جعلت "نعلم"متعدياً إلى مفعولين أحدهما "أحداً"والثاني "رواه"، كما نقول: ما أظن أحداً رواه غيرُ فلان، وهو الظاهر، فالفصيح الرفع على البدل من الضمير المرفوع المستتر في "رواه"العائد على أحد، لأنه المنفي في لا نعلم.
ويجوز نصبه على الاستثناء، وهي قراءة ابن عامر [45] ، ولا يجوز أن يرفع على أن يكون فاعلاً برواه، لأن في "رواه"ضمير فاعل عائد على أحد، فلا يستقيم أن يرفع به فاعل آخر.
فإن جعلت "نعلم" بمعنى نعرف المتعدي إلى واحد، كان "رواه"صفة له، كأنك قلت: لا نعرف راوياً غير فلان، تعينّ النصب، جعلته بدلاً أو استثناء، كقولك: ما أكرمت أحداً راوياً غير زيد. فلا يجوز في "غي" إلَاّ النصب.
نقلته من خط ابن الضائع في تذكرته، وهو نقله من خط ابن الحاجب.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
انظر ترجمة السيوطي ومؤلفاته: حسن المحاضرة للسيوطي1 /335-344.
ترجمة جلال الدين السيوطي لتلميذه الداودي/ مخطوطة بمكتبة عارف حكمت رقم 173 مجاميع.
البدر الطالع للشوكاني1/ 328.
الضوء اللامع للسخاوي 4/ 65.
الكواكب السائرة للغزي 1/ 226.
شذرات الذهب لابن العماد 8/ 51.
السيوطي وجهوده في الدراسات اللغوية- رسالة ماجستير أعدها الأستاذ محمد يعقوب تركستاني بجامعة أم القرى.
فهرست مؤلفات السيوطي/ مخطوطة بمكتبة عارف حكمت رقم 173 مجاميع.
مكتبة الجلال السيوطي- تأليف أحمد الشرقاوي جلال الدين السيوطي- بحوث ألقيت في الندوة التي أقامها المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية/ الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة 1978 م.
الأعلام للزركلي 4/ 71.
معجم المؤلفين- عمر كحالة5 /128.
تدريب الراوي للسيوطي/ المقدمة.
[2]
حسن المحاضرة 1/ 338.
[3]
حسن المحاضرة1 /338.
[4]
فهرست مؤلفات السيوطي/ مخطوط بمكتبة عارف حكمت رقم 173 مجاميع.
[5]
بغية الوعاة بتحقيق محمد أبو الفضل1 /134.
[6]
راجع موقف النحاة من الاحتجاج بالحديث في الفصل الثاني من كتابنا النحاة والحديث النبوي.
[7]
الاقتراح ص 16.
[8]
همع الهوامع2 /42بتحقيق د. عبد العال سالم.
[9]
أنظر ترجمته في: الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب 2/ 109، نكت الهميان للصمدي 178، الذيل على الروضتين لأبي شامة 199، أنباه الرواة للقفطي 2/ 116، وفيات الأعيان لابن خلكان 3/ 100، بغية الوعاة 2/ 38، شذرات الذهب5/ 67 معجم الأدلاء6/ 46، البداية والنهاية 13/ 85، الأعلام 4/ 208.
[10]
حققت هذا الكتاب مع دراسة لعنوان "النحاة والحديث النبوي "وحصلت بهما على درجة الدكتوراه من جامعة الأزهر لإشراف أستاذنا الدكتور أحمد كحيل. وقد طبعت الكتابين في عمان.
[11]
انظر ترجمته في. بغية الوعاة 1/ 130، البداية والنهاية 13 /267، نفح الطيب بتحقيق محمد محي الدين 2/ 421، طبقات النحاة واللغويين لابن قاضي شهبة 133، التسهيل/ التمهيد.
[12]
حققه محمد فؤاد عبد الباقي، وطبع في القاهرة 1376 هـ 1977م.
[13]
مطبوع باسم "إملاء ما منّ به الرحمن". وقد حققه علي البجاوي وطبعه باسم "التبيان في إعراب القرآن".
[14]
هامع أي ماطر.
[15]
الخريدة: البكر التي لم تمسس. “القاموس) .
[16]
للسيوطي “تنوير الحوالك على موطأ الإمام مالك) مطبوع.
[17]
للسيوطي "الشافي العيّ على مسند الشافعي".
[18]
للسيوطي "التعليقة المنيفة على مسند أبي حنيفة".
[19]
للسيوطي عليها: التوشيح على الجامع الصحيح، والديباج على صحيح مسلم بن الحجاج، ومرقاة الصعود إلى سنن أبي داود، وقوت المغتذي على جامع الترمذي، وزهر الربى على المجتبى، ومصباح الزجاجة على سنن ابن ماجة.
[20]
ذكر السيوطي رأيه هذا في كتابه الاقتراح، ثم نقل فيه كلام ابن الضائع وأبي حيان. انظر الاقتراح ص 16 _19. وراجع هذه المسألة بالتفصيل في كتابنا "النحاة والحديث النبوي ".
[21]
فتح الدين بن سيد الناس: الإمام العلامة فتح الدين محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الأندلسي المصري الشافعي، ولد سنة 671 هـ لازم ابن دقيق العيد وتخرج عليه وأخذ العربية عن البهاء النحاس. صنف السيرة الكبرى والصغرى. مات فجأة سنة 734هـ.
انظر طبقات الشافعية للسبكي 9/268 ذيل تذكرة الحفاظ 16، ذيل طبقات الحفاظ للسيوطي 350.
[22]
أبو إبراهيم إسماعيل بن يحي بن إسماعيل المزني المصري (75 1_ 264 هـ) كان إماماً ورعاً زاهدا، معظما بين أصحاب الشافعي، حدّث عن الشافعي ونعيم بن حماد وغيرهما. من مصنفاته: المبسط، الجامع الكبير، الجامع الصغير، المختصر. أنظر: طبقات الشافعية للسبكي2 /93، طبقات الشافعي للأسنوي1 /34.
[23]
محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن عباد (375_8 45هـ) كان إماماً مفنناً مناظراً. من تصانيفه. المبسوط، طبقات الفقهاء. انظر: طبقات الشافعية للسبكي 4/ 104، طبقات الشافعية للأسنوي2/ 190.
[24]
أبو الحسن علي بن محمد المعروف بابن الضائع، بلغ الغاية في النحو ولازم الشلوبين، وفاق أصحابه بأسرهم. ومن مصنفاته: شرح جمل الزجاجي. توفى سنة 680هـ. انظر بغية الوعاة 2/ 204.
[25]
أنظر شرح الجمل لابن الضائع/ مخطوط بدار الكتب المصرية برقم 19 نحوجـ2 ورقة 72.
[26]
أبو الحسن علي بن محمد المعروف بابن خروف الأندلسي، أخذ النحو عن ابن طاهر المعروف بالِخدَبّ. أقرأ النحو بعدة بلاد. من مصنفاته: شرح كتاب سيبويه، شرح الجمل توفى سنة 609 هـ. انظر بغية الوعاة2 /203.
[27]
محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان الأندلسي الغرناطي، نحوي عصره ومفسره ومحدثه ومقرئه ومؤرخه وأديبه من مصنفاته: البحر المحيط، التذييل والتكميل في شرح التسهيل، ارتشاف الضرب من لسان العرب، توفي سنة 745 هـ. انظر بغية الوعاة 1/ 280- هـ 28
[28]
أنظر التذييل والتكميل/ مخطوط بدار الكتب المصرية رقم 62 نحوجـ5 ورقة: 68 ا-. 17.
[29]
أبو عمرو بن العلاء أحد القراء السبعة المشهورين، كان إمام أهل البصرة في القراءات والنحو واللغة مات سنة 54 1هـ. انظر بغية الوعاة 2/ 231.
[30]
عيسى بن عمر الثقفي مولى خالد بن الوليد إمام في النحو والعربية والقراءة، أخذ عن أبي عمرو بن العلاء وعبد الله بن أبي إسحاق. وصنف في النحو الإكمال والجامع، توفى سنة 49 1 هـ. انظر بغية الوعاة2/ 237.
[31]
علي بن حمزة الكسائي، إمام الكوفيين في النحو واللغة، وأحد القراء السبعة المشهورين توفى سنة 82 اهـ انظر بغية الوعاة2 /163.
[32]
يحي بن زياد أبو زكريا الفراء، كان أعلم الكوفيين بالنحو بعد الكسائي، أخذ عنه وعن يونس. من مصنفاته: معاني القرآن، المقصور والممدود، المذكر والمؤنث. مات سنة 207 هـ. بغية الوعاة 2/ 333.
[33]
علي بن المبارك الأحمر صاحب الكسائي، كان متقدماً في النحو، واسع الحفظ. مات سنة 194 هـ. بغية الوعاة2/ 158.
[34]
هشام بن معاوية الضرير النحوي الكوفي أحد أصحاب الكسائي. صنف مختصر النحو، الحدود، القياس. توفى 209 هـ. بغية الوعاة2/ 328.
[35]
القاضي عياض بن موسى اليحصبي عالم المغرب ولد بسبتة سنة 476 هـ. قال ابن خلكان: إمام الحديث في وقته وأعرف الناس بعلومه والنحو واللغة وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم. ومن تصانيفه: "إكمال في شرح مسلم "، مشارق الأنوار في اقتفاء صحيح الآثار من الموطأ والصحيحين توفى سنة 544 هـ. انظر تذكرة الحفاظ للذهبي ص 304 ا-1307.
[36]
الشعبي علامة التابعين، عامر بن شراحيل الهمداني الكوفي، مولده في أثناء خلافة عمر، كان إماماً حافظاً فقيهاً متقناً
…
انظر تذكرة الحفاظ للذهبي1 /79.
[37]
الإمام الحافظ أبو عبد الرحمن بن شعيب الخرساني صاحب السنن، ولد سنة 215 هـ وتوفى سنة 303 هـ. برع في الحديث وتفرد بالإتقان وعلو الإسناد. سكن مصر، وكان أفقه مشايخ مصر في عصره وأعلمهم بالحديث والرجال
…
أنظر تذكرة الحفاظ للذهبي2 /698.
[38]
فصّل البغدادي القول في استعمالات سمع في خزانة الأدب جـ 9ص 67 ا-173 بتحقيق هارون.
[39]
أبو علي الفارسي: الحسن بن أحمد عالم مشهور أخذ عن الزجاج وابن السراج، وعنه أخذ ابن جني، له مصنفات كثيرة منها: الإِيضاح والتكملة، والحجة، والبغداديات والتذكرة. توفى سنة 377 هـ. انظر بغية الوعاة 1/ 496 هـ 497.
[40]
محمود بن عمر أبو القاسم جار الله وفخر خوار زم ولد سنة 497 هـ. وجاور بمكة، من مصنفاته: الكشاف في التفسير، المفصل في النحو، الفائق في غريب الحديث، أساس البلاغة. توفى سنة 538 هـ. انظر بغية الوعاة 2/ 279-. 28.
[41]
آل عمران آية 93 1. انظر تفسير الكشاف 1/ 489.
[42]
الحسن بن محمد بن عبد الله الطيبي: كان آية في استخراج الدقائق من القرآن والسنن، مقبلاً على نشر العلم. من مصنفاته: شرح الكشاف، شرح مشكاة المصابيح. توفى سنة 743 هـ. انظر بغية الوعاة1 /522.
[43]
عبد الله بن محمد بن السّيد عالم باللغة والنحو والأدب. ومن مصنفاته: شرح أدب الكاتب، شرح الموطأ، شرح ديوان المتنبي، إصلاح الخلل الواقع في الجمل. مات سنة 521 هـ. بغية الوعاة2 /55.
[44]
العلامة عثمان بن عمر المقرئ النحوي المالكي الأصولي الفقيه، من مصنفاته النحوية: الكافية وشرحها ونظمها، وفي التصريف الشافية وشرحها، وله الإيضاح في شرح المفصل، والأمالي في النحو. توفى سنة 646 هـ. أنظر بغية الوعاة 2/ 134.
[45]
في قوله تعالى {ما فعَلوه إلا قليل منهم} (سورة النساء66) . قرأ السبعة غير ابن عامر بالرفع، وقرأ ابن عامر بالنصب "قليلا"
…
أنظر التصريح 1/ 350، تفسير القرطبي 5/ 270.
رسائل لم يحملها البريد
للشيخ عبد الرؤف اللبدي
أستاذ مساعد بكلية الشريعة
أختي العزيزة: "هل":
هذه هي الرسالة الثالثة عشرة، وسوف أحدثك فيها عن همزة الاستفهام الداخلة على أداة الشرط "إِنْ"في القرآن الكريم، لقد وردت هذه الهمزة في ثلاث آيات:
الآية الأولى: قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} . (الآية 144 من سورة آل عمران) .
تتضمن هذه الآية الكريمة أن محمداً صلى الله عليه وسلم ما هو إلا رسول كغيره من الرسل الذين أرسلهم الله عز وجل إلى خلقه دعاة إليه والى طاعته ثم ماتوا وقبضهم الله إليه حين انقضت آجالهم، وبقي أتباعهم من بعدهم يلتزمون بما دعوا إليه، ومحمد مثله مثل أولئك الرسل جاء مبلغا عن الله تعالى داعيا إليه وإلى طاعته، وسوف يموت ويقبضه الله إليه حين ينتهي أجله، وعلى أتباعه أن يلتزموا بما دعا إليه الجهاد في سبيل الله تعالى، والصبر على طاعته، فلا ينبغي لأولئك الذين آمنوا به وبصدق ما دعاهم إليه، لا ينبغي لهم أن يصيبهم الفزع والهلع فينكصوا على أعقابهم فراراً من المعركة حين قيل في معركة أحد إن محمدا قتل.
والله سبحانه وتعالى لا تنفعه طاعة من أطاع، ولا تضره معصية من عصى، فالله جلّ وعلا غنيّ عن العالمين، فمن عمل صالحا فلنفسه، ومن أساء فعليها، وسيجزى الله الشاكرين الذين شكروا الله على نعمته عليهم بالإسلام، فجاهدوا في سبيله، وصبروا على طاعته، وصدقوا الله في الدفاع عن دينه، فثبتوا حَتى انتهت المعركة أو استشهدوا فيها. والشاكرون لفظ عام يندرج فيه كل شاكر فعلاً وقولاً وإن فُسّر هنا بالمجاهدين الثابتين في معركة أحد.
وجاء الاستفهام في قوله تعالى: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} جاء مفيدا العتب والإنكار: فقد عتب الله سبحانه وتعالى على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصيبهم الفزع والهلع وأن يفروا من المعركة حين قيل لهم في معركة أحد إن محمدا قتل، عتب عليهم ذلك وأنكره، فما كان ينبغي لهم أن يفعلوا ما فعلوا، كان يجب عليهم أن يثبتوا في المعركة وأن يدافعوا عن هذا الدّين الذي آمنوا به وبرسوله، سواء أكان حيا أم ميتا، فشريعة الله لا تموت بموت الرسول الذي بلّغها عن ربه، ودعا الناس إليها، فهي باقية إلى يوم القيامة يدافع عنها أتباعها الذين يؤمنون بها صادقن، ويجاهدون في سبيلها حتى النصر أو الشهادة.
وإعراب هذا الاستفهام: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} سهل واضح: فالفاء عاطفة، عطفت الجملة الشرطية التي بعدها على الجملة الخبرية التي قبل الهمزة و"مات"فعل الشرط فهو في محل جزم بـ "إن"و"انقلب"جواب الشرط فهو في محل جزم أيضا، والجار والمجرور "على أعقابكم"في محل نصب حال من فاعل انقلبتم، والتقدير انقلبتم راجعين.
وهذا الذي تقدم من أن همزة الاستفهام قد دخلت على "إن"الشرطية وقد استوفت شرطها وجزاءها هو مذهب سيبويه.
وذهب يونس إلى أنّ فعل "انقلبتم"ليس جواب الشرط، وإنما هو الفعل المستفهم عنه، فهو مدخول الهمزة فينوى به التقديم، وتقدير الكلام عند يونس: أتنقلبون إن مات أو قتل، وجواب الشرط عنده محذوف دلّ عليه مدخول الهمزة المتأخر لفظا المتقدم تقديرا، وعلى مذهبه تكون "إِنْ"مع شرطها معترضة بذهن الهمزة ومدخولها، وبرأي يونس أخذ كثير من المفسرين في هذه الآية.
ولكن أبا البقاء العكبري ذكر في كتابه "إملاء ما منّ به الرحمن" عند إعرابه هذه الآية أن مذهب سيبويه هو الحق لوجهين:
أحدهما: أنك لو قدّمت الجواب لم يكن للفاء وجه، إذْ لا يصح أن تقول أتزورني فإن زرتك، ومنه قوله تعالى:{أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} .
والثاني: أن الهمزة لها صدر الكلام، وإن لها صدر الكلام، وقد وقعا في موضعهما، والمعنى يتم بدخول الهمزة على جملة الشرط والجواب لأنها كالشيء الواحد"اهـ.
وقال الزركشي في كتابه البرهان: "وقد ردّ النحويون على يونس بقوله: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} ، ولا يجوز في "فَهُم"أن ينوي به التقديم لأنه يصير التقدير: "أفهم الخالدون فإن مت"، وذلك لا يجوز لئلا يبقى الشرط بلا جواب، إذ لا يتصور أن يكون الجواب يدل عليه ما قبله، لأن الفاء المتصلة بإن تمنعه من ذلك، ولهذا يقولون: "أنت ظالم إن فعلت"، ولا يقولون: "أنت ظالم فإن فعلت"فدلّ ذلك على أن أدوات الاستفهام إنما دخلت لفظا وتقديرا على جملة الشرط والجواب". اهـ.
وجاء في شرح الرضيّ لكافية ابن الحاجب في النحو ما يؤيّد قول العكبري وقول الزركشي.
وبناء على رأي سيبويه ومن ذهب مذهبه يكون مصبّ الاستفهام ومورده هو جملة الشرط والجواب معاً، وعلى رأي يونس يكون مصبّ الاستفهام ومورده هو جواب الشرط وإن لم يسمه يونس جواباً.
الآية الثانية: قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} . الآية (34) من سورة الأنبياء.
تتضمن هذه الآية الكريمة أن الله سبحانه وتعالى قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لم نخلِّد أحدا من بني آدم قبلك يا محمد فنخلّدك أنت، فلابدّ من أن تموت كما مات من كان قبلك، ولن يخلّد الله أحدا في هذه الدنيا، فكل نفس ذائقة الموت، وهؤلاء المشركون الذين يتمنون موتك ليشمتوا به هم ميتون على كل حال، فلا شماتة في الإماتة.
وهذا الاستفهام: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} يفيد النفي والاحتقار: النفي على معنى لن يخلد الله تعالى هؤلاء المشركين في هذه الحياة الدنيا، فكل نفس ذائقة الموت. ويفيد الاحتقار على معنى إذا كنت أنت يا محمد على علوِّ منزلتك وعظيم قدرك عند الله تعالى سوف تموت، أفيخلد الله تعالى هؤلاء المشركين وليس لهم من الفضل ما يزن مثقال ذرة!!
وإعراب هذا الاستفهام: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} سهل واضح. فالفاء عاطفة عطفت الجملة الشرطية التي بعدها على الجملة الخبرية التي قبلها، و "مت"مؤلفة من "مات"وهو فعل ماض في محل جزم فعل الشرط، ومن التاء ضمير المخاطب المبني على الفتح في محل رفع على الفاعلية، وجملة "فهم الخالدون" المؤلفة من الفاء الواقعة في جواب الشرط ومن المبتدأ أو الخبر في محل جزم جواب الشرط وقد قريء فعل الشرط السابق "مُتّ"بضم الميم وكسرها: فعلى قراءة الضم يكون الفعل على لغة مات يموت مثل صام يصوم وقام يقوم، وأصله: مَوَت يمْوُت "بفتح الواو في الماضي وضمها في المضارع" من باب نصَر ينصُر.
وحين أسند الفعل الماضي "مات"على هذه اللغة إلى ضمير الرفع المتحرك سُكَََّّّّّّّّّّّّّّّّّّن آخره وحذفت الألف لالتقاء الساكنين، وضُمّت الميم للدلالة على أن الألف المحذوفة من هذا الفعل الماضي منقلبة عن واو.
وعلى قراءة كسر الميمِ "مِتّ"يكون الفعل على لغة مات يمات مثل خاف يخاف ونام ينام، والأصل: موِت يموت "بكسر الواو في الماضي وفتحها في المضارع"من باب علم يعلم، وحين أسند هذا الفعل الماضي على هذه اللغة إلى ضمير الرفع المتحرك سكّن آخره وحذفت الألف لالتقاء الساكنين، وكسرت الميم للدلالة على أن حركة الحرف الأصلي الذي انقلبت عنه الألف في الماضي كانت كسرة.
تتضمن هذه الآيات الكريمة حواراً بين رسل أرسلهم الله تبارك وتعالى إلى أهل قرية لم يسّمها كانوا يعبدون غيره، وبين أهل تلك القرية، وفى آخر هذا الحوار قال أهلها لأولئك الرسل: لقد كنتم شؤما علينا ولإن لم تنتهوا عما تدعوننا إليه لنرجمنّكم بالحجارة وليصيبنكم منا عذاب أليم، فقال لهم الرسل شؤمكم معكم وفيكم، فهذا الضلال الذي أنتم فيه هو شؤمكم، أإنْ دعوناكم إلى الهدى ونهيناكم عن الضلال وبيّنا لكم فساد ما أنتم عليه، تشاءمتم بنا وتوعدتم وتهدّدتم؟!! بل أنتم قوم مسرفون في الضلالة ممعنون في الغيّ.
وهذا الاستفهام: {أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ} يفيد الإنكار والتوبيخ: فقد أنكر الرسل على أهل القرية أن يتشاءموا منهم وأن يجعلوا من دعوتهم إلى عبادة الله وحده ونهيهم عن عبادة الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، أن يجعلوا من ذلك طيرة وشؤما، وكان ينبغي بدلا من ذلك أن يفرحوا بقدومهم وأن يستجيبوا إلى ما دعوهم إليه، وأن يشكروا الله تعالى أن هداهم للإيمان.
لقد أنكر الرسل على أهل القرية ذلك ووبخوهم عليه، وقالوا لهم في نهاية إنكار والتوبيخ: بل أنتم قوم مسرفون قد تجاوزتم الحدّ في الضلال والظلم والعدوان، ومن هنا جاءكم الشؤم وأنزل الله بكم المصائب.
وإعراب هذا الاستفهام: {أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ} سهل واضح: فـ "ذُكّر"من ذُكرتم فعل ماض مبني للمجهول، ولك أن تقول في إعرابه مبنّي على فتح مقدر منع من ظهوره السكون العارض لأجل اتصاله بضمير رفع متحرك، ولك أن تقول مبني على السكون لاتصاله بضمير رفع متحرك، والفعل على الإعرابين في محل جزم بإن الشرطية و "تم"ضمير في محل رفع نائب فاعل، وجواب الشرط محذوف دلّ عليه الكلام السابق، وقد قدّره العكبري: كفرتم، فيكون تقدير الكلام عنده: أإن ذكرتم كفرتم. وقدّره أبو السعود في تفسيره: أإن ذكرتم تطيرّتم وتوعدتم بالرجم والتعذيب.
أختي العزيزة "هل":
بهذا تنتهي رسالتي إليك عن همزة الاستفهام الداخلة على "إِن"الشرطية، وسوف أحدثك في الرسالة القادمة إن شاء الله تعالى عن همزة الاستفهام الداخلة على "إذا" الشرطية، وأسأله تعالى أن يعين ويسدد ويوفق.
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته،،،
أختك
همزة الاستفهام
مراجع هذه الرسالة
(أ) المراجع على وجه الإجمال:
1-
تفسير أبي جعفر بن جرير الطبري/ الطبعة الثالثة/ الناشر: شركة الحلبي بمصر.
2-
تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي/ الناشر: مكتبة ومطابع النصر الحديثة بالرياض.
3 -
تفسير أبي السعود/ الناشر: مكتبة ومطبعة عبد الرحمن محمد بالقاهرة.
4-
الفتوحات الإلهية المعروفة بحاشية الجمل على الجلالين/ الناشر: الحلبي بمصر.
5-
تفسير ابن كثير/ الناشر: الحلبي بمصر.
6-
تفسير القرطبي/ الطبعة الثالثة المصورة عن طبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة.
7-
الكشاف للزمخشري/ الناشر: الحلبي بمصر.
8-
إملاء ما منّ به الرحمن للعكبري/ الطبعة الأولى/ الناشر: الحلبي بمصر.
9-
شرح الرضي على الكافية في النحو/ طبعة مصورة/ الناشر: دار الكتب العلمية بيروت.
10-
البرهان في علوم القرآن للزركشي/ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم/ الطبعة الثانية/ الناشر: عيسى الحلبي وشركاه بمصر.
(ب) المراجع على وجه التفصيل:
1-
الآية الأولى: (144) من سورة الأنعام:
الطبري: (جـ 4 ص 110) - البحر المحيط: (جـ 3 ص 68) - أبو السعود: (جـ 2 ص 92) - الفتوحات: (جـ 1ص 319) - ابن كثير: (جـ 1ص 88) - الزمخشري: (جـ 1ص 468) - القرطبي: (جـ 4 ص 226) - العكبري: (جـ 1ص ا 15) - الزركشي: (جـ 2 ص 366) - شرح الكافية: (جـ 2 ص 394) .
2-
الآية الثانية: (34) من سورة الأنبياء:
الطبري: (جـ 17 ص 24) - البحر المحيط: (جـ6 ص 310) - أبو السعود: (جـ 6 ص 66) - الفتوحات: (جـ3 ص 127) - ابن كثير: (جـ 3 ص 178) الزمخشري: (جـ 2 ص 572) .
3-
الآية الثالثة: (19) من سورة يس:
البحر المحيط: (جـ 7 ص 327) - ابن كثير: (جـ 3 ص 567) - العكبري: (جـ 2 ص 02 2) - أبو السعود: (جـ 7 ص 163) - تفسير الجلالين: (هامش الفتوحات) : (جـ 3 ص 507) .
آية العدد
للشيخ أبي بكر الجزائري
رئيس قسم التفسير بالجامعة
قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
الآية (1) من سورة الفاتحة
بسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. محمد وآله وصحبه ومن آمن به واهتدى بهداه
…
وبعد: فإن قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هو الآية الأولى من كتاب الله تعالى (القرآن الكريم) هذا على ما رجحناه، وإلا فعند الشافعي رحمه الله أن الآية الأولى هي بسم الله الرحمن الرحيم. وحينئذ فالحمد لله رب العالمين هي الآية الثانية. وعلى كلا المذهبين فآيات الفاتحة سبع لا غير، لقوله تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} . (الحجر:87) . وقوله صلى الله عليه وسلم: "هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيت". (الصحيح) .
وبناءً على أن البسملة آية من الفاتحة فالآية السابعة هي: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} . وإلا فالآية السابعة هي: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ. غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} .
وفائدة هذا الخلاف أن مَن رأى البسملة آية من الفاتحة وجب عليه أن يقرأها كلما قرأ الفاتحة في الصلاة، وإلا بطلت صلاته. ومَن لم يَر أنها آية قرأها أولم يقرأها فصلاته صحيحة إلا أن قراءتها سراً في الصلاة الجهرية أحوط وأكثر أجرا.
ومنشأ هذا الخلاف: أن الفاتحة نزلت مرتين مرةً بالبسملة ومرة بدونها والمقصود من البسملة هو التبرك بذكر اسم الله تعالى والاستعانة به على التلاوة والصلاة فلذا قراءتها أرجح من عدمها، وإنما نظراًَ لحديث أنس في الموطأ والصحيحين:"أنه صلى وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووراء أبي بكر وعمر فكانوا يستفتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين"، فإن الاختيار أن تقرأ البسملة سراً، ثم يجهر بالقراءة في الصلاة الجهرية.
بعد هذه المقدمة نشرح الآية الكريمة فنقول:
شرح الكلمات في الآية:
الحمد: "ال"فيها لاستغراق الجنس أي أن عامة ألفاظ الحمد وسائر كلمات الثناء والمحا مد التي عرفها الناس، وما لم يعرفوا منها هي لله تعالى، والله مستحق لها جميعها. وفي الحديث:"اللهم لك الحمد كما أنت أهله".
والحمد: هو الوصف بالجميلِ الاختياري والمدح مثله إلا أنه يُفارقه فيكون بالجميل غير الاختياري كأن نحمد زيداً فنقول: زيد ذو خلق فاضلٍِ، ونَمدَحُه فنقول: زيدٌ جميل الوجه معتدل القامة. فكان قولنا: زيد ذو خلق فاضِل حمداًَ، لأنه على الجميل الاختياري، وكان قولنا: زيد جميل الوجه معتدل القامة مدحاًَ، لأن جمال وجهه واعتدال قامته حصل له بالاضطرار لا بالاختيار، أي لم يكن هو الذي جمل وجهه وعدل قامته بل الفاعل لذلك هو الله تعالى بخلاف حسن خلقه فإنه حصل له بكسبه واختياره. وصفات الجمال في الله تعالى كلها اختيارية. لذا يَحسن أن نقول حمدنا الله تعالى ونحمدُه، ولا نقول مدحنا الله تعالى ونمدَحُه، كما يحسن أن نقول: مدحنا زيداً نمدحه، ولا نقول: حمدنا زيداً نحمده لما علمنا من أن الحمد هو الوصف بالجميل الاختياري، والمدح هو الوصف بالجميل الاختياري أو الاضطراري.
والشكر كالحمد، وفى الحديث الشكر رأس الحمد. إلا أن الشكر هو المدح بالفواضل وهي النعم المتعدية. والحمد هو المدح بالفضائل. وقد يجمع بينها فيقال زيد جميلٌُ كريم تصدق بألف. ولذا فالحمد يكون باللسان فقط والشكر يكون باللسان والقلب والجوارح كما قال الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة
يدي ولساني والضمير المحجبا
والشكر بالقلب معناه اعتراف القلب بنعمة المنعم فيحمده عليها بلسانه ويثنى بها عليه بتكراره.
لله: اللام في لله هي لام الاستحقاق والملك كقولنا الجائزة أو الدار لعمرو أي أن الجائزة مستحقة لعمرو والدار ملك له. وجميع المحا مد مستحقة لله تعالى ملك له، فليس لغيره من سائر خلقه حق فيها ولا استحقاق ولا ملك. وسنبين ذلك فيما بعد إن شاء الله.
الله: اسم الربّ تبارك وتعالى وهو علم على ذاته عز وجل، ولله تعالى مائة اسم إلا اسماً واحداً للحديث الصحيح. وأعظم تلك الأسماء الحسنى هو اسم {الله} وإذا نودي به تعالى قد يحذف حرف النداء (يا) وُيعوض عنه ميم مشدَّدة تلحق آخره فيقال: اللهمّ. وقد ينادى بدون إلحاق حرف الميم في آخره، فتقطع همزة الوصل فيه فيقال: يا ألله. وهو واسم الرحمان لا يسمى بهما غير الرب تبارك وتعالى. وأما لفظ الربّ فقد يطلق على غير الله تعالى مضافاً نحو: قولنا رب الدار، ورب السلعة بمعنى مالكها، ويقال: فلان ربّ، أو الرب بلا إضافة. ومن خصائص اسم الجلالة {الله} أنه يوصف ولا يوصف به فيقال: الله الرحمن الرحيم، أو العزيز الحكيم. ولا يقال الرحمن الله، أو العزيز الله، ولذا رجح بعض أهل العلم أن يكون الاسم الأعظم لله تعالى هو {اللَّهُ} أو مع الحيّ القيوم. {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم} . وذلك للخبر
…
ومعنى (الله) : المعبود بحق، إذ الأصل في تركيبه: إله فحذفت الهمزة منه وعرّف بال فصار (الله) وجُعل عَلماً على ذات الرب الواجب الوجود سبحانه وتعالى. وعلى القول بأنه مشتق غير مرتجل فإنه مأخوذ مِن أَلهه يألهه إلهة وألوهية: إذا عَبَدَه محِباً لهُ غايَة الحب مُعظما له غاية التعظيم خاشيا إياه غاية الخشية.
ومادة أَله جاءت في لغة العرب لمعان كثيرة منها أَلِهَ إذا عبد، وأله إذا تحيرّ، وإله إذا فزع، وإله إذا سكن. وكل هذه المعاني صالحة لاسم الله إذ هو تعالى المعبود بحق. قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} أي معبود فيهما معا. والله تعالى تتحيَّر العقول في معرفة كنه ذاته وتضطرب وتقر بالعجز إذ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وتفزع إليه الخلائق إذا نزل بها أمر تدعوه وتتضرع إليه ليكشف عنها ما نزل بها، وتسكن إليه القلوب المؤمنة وتطمئن بذكره قال تعالى:{أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} فلذا كان أفضل الذكر لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
رَّّّب: الربّ اسم من أسماء الله تعالى، لا يصح إطلاقه على غير الله تعالى إلا مضافاً كما تقدم بيانه. ولفظٌ يطلق ويراد به معان كثيرة فيكون بمعنى الخالق، الرازق، المدبر، المصلح، المربي، المعبود، ويكون بمعنى السيد والمالك. وكل هذه المعاني مستحقة لله تعالى فلا تطلق على الحقيقة إلا عليه عز وجل وتطلق دون الخالق والمعبود على غير الله تعالى إطلاقا إضافياً غير حقيقي، فيقال فلان مصلح أو مربٍ أو سيد أو مالك. نحو فلان مصلح السيارات، ومربى الأولاد، وسيد البلد، ومالك الدار، وما إلى ذلك. ومن شواهد اللغة على إطلاق لفظ الربّ على المعبود قول الأعرابي، وقد وجد ثعلبا شاغرً رجله يبول على صنم كان يعبده:
أربٌ يبول الثعلبان برأسه
لقد ذل من بالت عليه الثعالب
وتركه كافراً به فلم يرجع إليه أبداً
…
وللاستغاثة باسم الرب تعالى أثرٌ طيب إذا كانت بلسان صادق وقلب سليم من الشرك إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قال العبد يا رب يا رب ثلاثا، قال الله تعالى عبدي سل تعط". رواه ابن أبي الدنيا في الدعاء عن عائشة رضي الله عنها.
العالمين: العالمين جمع واحِدُهُ عالَم، والعالم كل ما سوى الله تعالى، وسمى كل شيء من المخلوقات عالماً كعالم الملائكة وعالم الجن وعالم الإنسان، وعالم الدواب وعالم الطير وعالم النبات، وعالم السماوات، لأنه علامة على خالقه ومدبره ومصلحه وحافظه عز وجل.
ومن هنا كان ربّ العالمين معناه: خالق الخلائق ومالكهم، ومدبر وجودهم وحياتهم، ومعبودهم الحق الذي لا معبود لهم على الحقيقة غيره سبحانه وتعالى.
كان ذلك شرح مفردات الآية الكريمة تفصيلاًَ. وأما تفسير الآية إجمالا فإنه:
"يخبر تعالى عباده بأن له الحمد كله، استحقه بخلقه العوالم كلها، وبملكها كلها، وتدبيرها كلها، والقائم على إصلاحها وتربيتها كلها فلا ربّ لها غيره، ولا معبود حق لها سواه. وضمن هذا الإخبار الأمرُ بحمده تعالى والثناء عليه بلفظ الحمد لله. وأنه تعالى يحب أن يحمد على آلائه، َ كأنما قال: قولوا الحمد لله ربّ العالمين"
…
هذا معنى الآية وأما ما فيها من هداية وأحكام فإلى القارئ الكريم ذلك إزاء الأرقام التالية:
(1)
فضل "الحمدُ لله " حيث قالها الله تعالى لنفسه وأمر بها عباده أن يقولوها له، وفى الحديث [1] الصحيح الحمد رأس الشكر، وأن الله تعالى يحب من العبد إذا أكل الأكلة أو شرب الشربة أن يحمده عليها. وما من عبد أنعم الله عليه بنعمة فقال فيها: الحمد لله، إلا كان الذي أعطى أفضل مما أخذ. وما من أحد أحب إليه الحمد من الله تعالى، ولذا حمد نفسه بنفسه فقال الحمد لله.
(2)
أن الحمد لا يكون إلا لمن له فضائل أوفواضل اقتضت حمده فلا يحلّ حمد أو مدح من لا فواضل له ولا فضائل، إذ مدح البخيل بالكرم زور، ومدح السخيف بالكمال كذب. ومدح الجبان بالشجاعة باطل، ومدح الظالم بالعدل حرام. ودليل هذه الحقيقة أننا بالاستقراء والتتبع ما وجدنا الله تعالى حمد نفسه إلا وذكر موجب الحمد ومقتضاه مثل الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب
…
(3)
وجوب قول الحمد لله في الصلاة ومشروعيته بالندب عند حصول كل نعمة وتجددها، ومن ذلك عند لبس الثوْب والفراغ من الأكل أو الشرب، وعند دخول المسجد والخروج منه "بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسوله"وعند افتتاح الخطبة، وختم الدعاء. "سبحان ربك ربّ العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين"وعند ركوب الدابة أو السيارة والطائرة والسفينة للآية {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْه} . ولازم ذكر النعمة شكرها والحمد لله رأس الشكر. اللهم اجعلنا من الحامدين لك الشاكرين لإنعامك وإفضالك بطاعتك وطاعة رسولك صلى الله عليه وسلم
…
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
أورد هذه الأحاديث ابن كثير في تفسير سورة الفاتحة فليراجعها من شاء.
أوَّلُ واجبٍ على المكلفِ.. عِبَادةُ الله تَعاَلى
وُضوح ذَلكَ من كِتابِ الله وَدَعواتِ الرُسُل
2
للشيخ عبد الله الغنيمان
رئيس قسم الدراسات العليا
القسم الثاني: توحيد التوجه والقصد بالنفس واللسان والقلب رغبة ورهبة بالعبادة لله وحده والخلوص من الشرك جليله ودقيقه، فإذا نوى المرء بما يأتي وما يترك التقرب إلى الله تعالى وطلب ما لديه صار موحدا له وبصرفه شيئاًَ من ذلك لغير الله يكون مشركاً علم أنه شرك أولم يعلم إذ أساس العبادة سواء كانت لله أو لغيره هو توجه القلب بالذل والخضوع التام المستولى على الخاضع من القوى الغيبية والأمور الخفية التي يرهبها ممن يذل له أو يطمع فيها على غير الأسباب التي يجري عليها نظام الكون على الدوام سواء كانت تلك القوى الخفية وهمية أو حقيقية، هذا هو باعث العبادة في الغالب، والذي يحمل العابد عليها بالتوجه إلى معبوده بالدعاء وما يتبعه من الأعمال والأقوال، فرع عن وجودها ودليل على عبودية من صدرت منه، لأن التوجّه إليه شاهد على اتخاذه إلها، والأعمال هي شواهد لله ولعباده على الخلق، ودليل على صدق ما ادعى أو كذبه مع أن الله لا يخفى عليه خافية.
وما كان من هذا الذل والخضوع خال عن المحبة والتعظيم، وبدافع الأمور الظاهرة التي تجري عليها السنن الكونية والأسباب التي ربطها الله بمسبباتها ونتائجها مما يدخل تحت مقدور من يخافه العباد، أومن يرجونه من الخلق فهو من تتمة العبادة غير أن ما كان جارٍ منها على الطبائع لا يقدح في إخلاص من داخله شيء منه، لأن الأنبياء فمن دونهم كانوا يخافون من عدوهم، ومن يقدر على أذاهم، ويرجون من يملك أن ينفعهم ويعاونهم من أتباعهم وغيرهم، مع اعتمادهم على الله في حصول مطلوبهم وهذه من الأسباب التي جعلها الله مقتضية وجود مسبباتها.
ولم يسجل التاريخ نبأ كائن ينكر وجود إله عليٍّ قدير، حتى العقائد الوثنية التي كانت ومازالت تؤمن بآلهة متعددة، حتى هذه تدين بالتقديس لإله واحد من آلهتها وتؤمن بأنه فوق الكل عزة وعظمة وقدرة، وهو مالك الملك رب السماوات والأرض وأنه رب الأرباب، ومالك كل شيء، إلا أنهم أشركوا بعض عباده معه في الدعاء والتوجه إليهم بصفتهم مقربين إليه ملكهم ما يطلب منهم، بزعمهم ولكن الذي وقف في وجه دعوة الرسل أمم كانت تعبد مع الله آلهة أخرى.
ولهذا لم تكن رسالة الرسل في دعوة الناس إلى الإيمان بوجود الله أو ربو بيته، إذ كان هذا مستقراً في القلوب وإنما كانت دعوة الرسل إلى توحيد الله في إلهيته بأن يعبد وحده لا شريك له والتخلي عما اتخذوه معبوداً من دون الله تعالى، وأولياء يلجأون إليهم وشفعاء يعبدونهم بالحب والدعاء والخوف والرهبة والرجاء قال الله تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} . والطاغوت كل من أضلك عن سبيل الله، أو صرفك عن طريق الحق، أو احتكمت إليه في دينك بحكم يحكم فيه بالهوى أو عبدته من دون الله، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} . لم يقل لا رب سواي لأن الناس جميعاًَ يوحدون الله في ربو بيته ولم يقل إني إله لأنهم جميعاًَ يؤمنون بذلك ولكنه قال: {لا إِلَهَ إِلا أَنَا} وأمر بعد ذلك بعبادته ليوحده الناس في الألوهية ويعبدوه وحده وهذه رسالة الرسل وهى توحيد الله في إلهيته بأن يعبدوه وحده لا شريك له، وفى يوم النداء من الطور، في تجلي النور، كان أول ما أمر به موسى أن يسمعه ويطيعه، ويبلغه {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} (سورة طه:14) . وملاك ذلك أن لا يعبد إلا الله، وأن لا يعبده إلا بما شرع، فمن ابتغى بعمل غير وجه الله، فهو مشرك، ومن عَبَدَ الله وحده، بما لم يأذن به الله ولم يشرعه فهو مبتدع ضال، ولا يكون الدين لله خالصا إلا إذا كان كل ما نعمله ونقوله هو لله خالصا وسواء كان من شئون الدين أومن شئون الحياة مادمنا نرجو الثواب من الله تعالى عليه، قال صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل:"من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه"[1] فذكر العمل مطلقاًَ غير مقيد بكونه عمل ديني أو دنيوي، ليكون وجود العبد كله في الحياة
والاتجاه وغيره لله وحده، وقال صلى الله عليه وسلم:"ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح الدجال قالوا بلى يا رسول الله؟. قال: الشرك الخفي يقوم الرجل فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل"[2] فمجرد تزين الصلاة لأجل ملاحظة عيون الناس بالإعجاب شرك بالله، فتوحيد الله لا يتحقق إلا أن يكون ظاهر الإنسان وباطنه سره وعلانيته عمله وقوله دينه ودنياه كله لله وحده، فيجب أن يكون هوى قلبك وباعث عملك وغاية جهادك في الحياة لله وحده، وقد يكفر الإنسان بمعبود في لسانه وقلبه مستكين له ومملوك عليه، وتشهد عليه أعماله بأنه عبد الدينار وعبد الدرهم، أو عبد الشيطان، ألم تر إلى قول إبراهيم عليه السلام:{يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} وما كان آزر يسمى معبوده شيطاناً ولا يؤمن بأنه شيطان، ولكن الذي يصده عن عبادة الله هو الشيطان، أو ولي الشيطان، فهو عونه وأخوه قال الله تعالى:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} (يس: 60) .
وأنواع العبادة كثيرة متعددة: "وهي اسم لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة "[3] وتكون في القلب كالإخلاص في الأعمال، واليقين بالأمور الغيبية، والخوف والرجاء، والتوبة، والندم على ما صدر من سيئ الأعمال، ومنها ما يدفعه قلب العبد على اللسان من الدعاء، والنداء والاستغاثة ممن يرجو ويتوكل عليه لقضاء حاجة، أو تفريج كربة، ومنها ما يكون باللسان والقلب والجوارح، كالمحبة، فمن أشرك في الحب الذي لا يصلح إلا لله، مع الله غيره، فقد جانب التوحيد، وأتى بما يضاده، قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله} ، (سورة البقرة: 165) . ومنها الصلاة والركوع والسجود والذبح قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} . (سورة الكوثر: 2) . وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} ، (سورة الحج: 77) ، ومنها الطواف، فلا يطاف إلا في بيت الله، ولله وحده، قال تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ، (سورة الحج:29) ، وأنواعها كثيرة يصعب حصرها جدا.
وضد التوحيد الشرك وهو أقسام ثلاثة شرك أكبر بأن يجعل شيئاً من العبادة لله وغيره وهذا فاعله إذا مات ولم يتب منه يخلد في النار، كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} . (سورة النساء: 48)
والثاني شرك أصغر مثل يسير الرياء وقوله لرجل ما شاء الله وشئت والحلف بغير الله وما شابه ذلك، ولو كان المحلوف به خاتم النبيين، وأشرفهم صلى الله عليه وسلم.
الثالث الشرك الخفي وهذا قد يكون أكبر وقد يكون أصغر، حسب الباعث عليه والاسترسال معه، ومن أنواع الشرك أن يتوجه الإنسان بالدعاء إلى الله تارة وإلى غيره أخرى سواء قصد ذلك على سبيل الوساطة، أو طلب منه أي من غير الله- غرضه، بالنداء والاستغاثة واللجاء إليه والتمسكن له، فمن فعل ذلك فقد جعل لله عديلا، ومساويا، سواء سمى ذلك توسلا أو شفاعة، وسواء كان المتوسل به نبيا، أو وليا، أو عدوا طريدا، فكل ذلك شرك ينافى التوحيد، ومن الأعمال القبيحة سؤال الله بجاه مخلوق، أو بحقه وعمله لأن من سأل الله بذلك فقد اعتقد أنه يؤثر على الله، كالشفاعة على الرؤساء، ولهذا لا يتوسلون ويسألون الله إلا بجاه من يعتقدون له الجاه العريض، والمكانة الحاملة لله على أن يعطيهم حاجتهم بزعمهم والجاه والمنزلة أصبحت في عرف الناس ولغتهم هي النفوذ والقوة المؤثرة، على من يتوجه إليه لتحصيل خيره، أو دفع شره، فعلى هذا ما يسميه توسلا وزوراً معيدوا الوثنية، من منتحلي الإسلام، وهو على لغة القرآن والعرب، العبادة بعينها، فإذاًَ التوسل الذي يعنونه هو الشرك
الأعظم وهو يشمل عندهم.
أولاً: الطواف عند قبور من يقدسونهم، وتقبيلها وأخذ ترابها للاستشفاء به والتبرك بها، وذبح الذبائح لهم، لأنهم يرجون بذلك أن يعطوهم، أضعاف ما قدموا لهم.
الثاني: ما ينفقونه في هذا السبيل، من الحرث والأنعام، طمعا أن يبارك لهم بدعواتهم، وأسرارهم ونفحاتهم الإلهية في أموالهم وأنفسهم وذرياتهم.
الثالث: عمارتهم قبورهم، بالبناء العالي، والقباب المزخرفة، والستائر الفاخرة، والإِضاءة عليها وبذل المال في هذا السبيل، وتحمل مشقات السفر إليها.
الرابع: الحلف بهم، والخوف منهم، والتخويف بهم، وتحذير بعضهم بعضا من عقابهم، لاعتقادهم أنهم يقدرون على ذلك، كما يعتقدون فيهم النفع لمن يحبهم، ويفي لهم بالنذور، ويزور أوثانهم.
الخامس: توجههم إليهم بالدعاء والنداء والاستغاثة والاستعانة بهم إذا نزل بهم ضر، أو مسهم كرب.
السادس: سؤالهم الله بحقهم، وتوسلهم إليه بجاههم ومنزلتهم، وما لهم عنده من الدرجات.
السابع: تعبدهم وصلاتهم عند قبورهم، وتفضيل البقاع التي يوجدون فيها، اعتقادا منهم أن الدعاء عندهم مقبول، ومستجاب لما لهم من القداسة. وهذا كله شرك بالله وخروج عن دينه الذي جاءت به رسل الله كلهم.
الثامن: السفر إلى مشاهدهم، قصدا للعبادة عندهم، لاعتقادهم أنها في تلك الأماكن أفضل منها في المساجد، وهذا كله مناقضة لشرع الله، الذي جاء به خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه، وإعادة لدين الوثنية، ومن المؤسف أن تصدر مثل هذه الأفعال من خريجي الجامعات، والمتصدرين للفتوى والتوجيه.
ومما يتعلق به المشركون قديما وحديثا الشفاعة:
الشفاعة: لقد كانت الشفاعة في قديم الزمان وحديثه طريقا إلى الشرك، ثم أصبحت تطلق على الشرك بعينه كما قال الله تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} ، والشفاعة مأخوذة من الشفع، وهى ضم طلب الشافع إلى طلب المشفوع له، وما عبد المشركون في كل عصر صالحيهم إلا بحجة أنهم يشفعون لهم عند الله، وعملهم لهذه الغاية صادر بلا ريب عن اعتقادهم في أوليائهم أنهم يملكون الشفاعة، ولو كان عندهم عقل لأخلصوا العبادة لله وحده، لأن الشفاعة وغيرها ملكه لا يشاركه في ذلك أحد، وهو الرحمن الرحيم الغفور الودود، وهؤلاء يدعون العبيد الأموات، أن يمنحوهم ما يملكه الله وحده، ولا يسألون مالك الملك بدل إذلالهم أنفسهم لأصنامهم وطواغيتهم، وإذا كانوا لا يؤمنون بالقرآن، أيجوز في عقل الإنسان أن يطلب الشيء ممن لا يملكه، إنّ عقل المشركين هو الذي أباح للعبيد أن يسألوا الصخرة الصماء رحيق الجنة والميت إمداد البركات، في الحياة، والعاجز الضعيف الفقير أن يهب لهم القدرة، والقوة والغنى، وزين الشيطان لهم، أن رحمة القبور، أقرب إليهم من رحمة الخلاق الرحيم، فاستجاروا بمن لا يجير نفسه، من دود الأرض، واسترحموا من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا.
إن الشفاعة ملك خاص لله وحده، فمن الشرك القول:"نسألك الشفاعة يا رسول الله "لأن السائل ذلك يسأله ما يملكه الله وحده، فيحبب أن يقول: اللهم اجعلنا ممن يستحق شفاعة نبيك. بيد أن الشيطان زين لعباده أنه لا فرق بين الأمرين، وأن التفريق بينهما تزمت وتنطع، في الدين قال الله تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . نفى الله عمن سواه كل ما يتعلق به المشركون، نفى أن يكون لغيره ملك أو قسط من الملك، أو يكون عوناًَ لله، فلم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب كما قال:{وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} فالشفاعة التي يظنها المشركون، منفية {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} . وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يبدأ بالشفاعة أولا، بل يسجد لله ويحمده ثم يأذن له في الشفاعة بقول الله له اشفع. وقال أبو هريرة: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: "من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه"[4] فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص وهي محرمة على المشرك، وحقيقتها تفضل الله سبحانه على أهل الإخلاص بمغفرته بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه، وينال المقام المحمود، فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، والتي أثبتها هي ما كانت بإذنه، ولمن رضي عنه، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
رواه مسلم في صحيحه انظر مسلم بشرح النووي ج18ص115، وابن ماجه في سننه ج2ص1405
[2]
أحمد. انظر المسند ج3ص30 وسنده صحيح
[3]
قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنظر الرسالة المعروفة بالعبودية فاتحتها
[4]
فتح الباري ج اص193 وج ا 1ص418
منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله فيه الحكمة
…
والعقل
(1)
الدكتور ربيع بن هادي مدخلي
رئيس قسم السنة بالدراسات العليا بالجامعة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله، فلا مضل له، ومن يضلل، فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولوكره الكافرون.
وبعد: فإن الدافع لاختيار هذا الموضوع عدة أمور من أهمها:
أولاً: أن الأمة الإسلامية اختلفت في مناحٍ شتى عقدية وغيرها وتفرقت بها السبل، فنزل بها من الويلات- نتيجة لهذا التفرق ولعدم الاحتكام في قضايا الخلاف إلى كتاب الله وسنة نبيهم- مالا يعلم مداه وفداحته إلا الله من تمزق صفوفهم وتأجج نيران الخلاف والخصومات فيما بينهم، ثم تغلب أعداء الإسلام على أوطانهم واستباحتهم لبيضتهم واستعبادهم واستذلاهم.
ثانيا: حدوث تيارات فكرية برزت في الساحة الإسلامية بطرق ومناهج، لإصلاح حال الأمة وإنقاذها:
منها السياسي.
ومنها الفكري.
ومنها الروحي.
وكل واحد من هذه التيارات يدعى ممثلوه أنه المنهج الإسلامي الحق الذي يجب اتباعه والذي لا ينقذ الأمة سواه.
هذان السببان مع أسباب أخر دفعتني إلى القيام بواجب من أعظم الواجبات وأهمها ألا وهو بيان منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله في ضوء الكتاب والسنة وبيان مزاياه التي لا يُشارك فيها وبيان ضرورة اتّباعه وحده لأنه الطريق الأوحد الذي يوصل إلى الله ويكسب رضاه وهو السبيل الأوحد لإنقاذ الأمة والموصل إلى السيادة في الدنيا والسعادة في الأخرى.
نص المحاضرة مع إضافات واسعة ومهمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فإن الله تعالى الخالق البارئ المصور العليم الحكيم قد خلق هذا الكون العظيم ودبره ونظمه بعلمه المحيط وحكمته العالية وقدرته الشاملة، لحكم جليلة وغايات نبيلة بعيدة كل البعد عن العبث والباطل واللعب.
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ، مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} . (الدخان: الآيتان 38، 39) .
وقال تعالى: {حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ الله الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} (الأحقاف: 1- 3) .
وخلق الجن والإنس وبين الحكمة العظيمة والغاية الكريمة التي خلقهم من أجلها. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} . (الذاريات: 56_ 8 هـ) .
وقال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ، فَتَعَالَى الله الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} . (المؤمنون: 115- 116) .
وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} (القيامة: 36) . أي لا يؤمر ولا ينهى.
وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} . (الملك: 1-2) . فأخبر تعالى أنه ما خلقهم إلا للابتلاء، والاختبار ليتبين أيهم أحسن عملاً بانقياده لمنهج الله واتباعه لرسل الله.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ً الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . (البقرة: 21-22) . فأمرهم أن يقوموا بالغاية التي خلقهم من أجلها، وبين لهم أنه قد وفر وهيأ لهم كل الأسباب التي تساعدهم على القيام بمهمتهم
العظيمة، وحذرهم من الانحراف عن هذه الغاية، والتنكر لهذه النعم الجليلة، {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .
وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} . (الإسراء: 70) ، وما أكرم الله الإنسان هذا الإكرام وأحله هذه المنزلة الرفيعة إلا لعظم الغاية التي خلق من أجلها، ألا وهى عبادة الله وحده وتعظيمه وتنزيهه، عن كل النقائص وعن اتخاذ الشركاء والأنداد تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وكثيراً ما نوّه الله بكرامة الإنسان ومنزلته في هذا الكون، وأن هذا الكون، قد سخر لراحته وسعادته، حتى يؤدى وظيفَته ويقوم بغايته التي خلق من أجلها على أتم الوجوه وأكملها.
إكرام الإنسان بالعقل والفطرة [1]
وإلى جانب هذه النعم العظيمة والإكرام الفائق لهذا الإنسان فقد منحه نعمة العقل الذي يرفعه إلى مستوى التكاليف الإلهية ويؤهله لإدراكها وفهمها، وزوده بالفطرة التي توائم ما يأتي به رسل الله عليهم الصلاة والسلام من الوحي الكريم ومن الدين الحق الذي يشرعه الله وينهجه لهذا الإنسان على ألسنة الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} . (الروم: 30) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء"، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه:{فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} . الآية [2]
وعن عياض بن حمار، المجاشعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم، فقال في خطبته: "إن ربي عز وجل أمرني أن أعلمكم ما جهلتم، مما علمني في يومي هذا كل مال نحلته [3] عبادي حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء [4] كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم [5] عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم، أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا
…
" [6] الحد يث.
إكرام البشر بإرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم
ثم لم يكِلهم الله إلى ما آتاهم من فطرة وعقل، بل أرسل إليها الرسل مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتب لتبيّن لهم الحق من الباطل ولتكون مرجعا لهم، فيما يختلفون فيه، حتى لا يبقى للناس أي عذر، ولتقوم عليهم الحجة، فلا يبقى لهم حجة على الله بعد الرسل.
وكلّف جميع الأمم بطاعة هؤلاء المصطفين الأخيار واتباعهم والانقياد لهم وأنزل أشد العقاب بمن كذبهم وعاندهم في الدنيا، وسوف ينزل بهم العذاب الأنكى والأشد، العذاب السرمدي الخالد في دار الجزاء العادل.
ما هي رسالة هذه الصفوة المختارة من البشر صلوات الله وسلامه عليهم وما الذي قدموه لأممهم؟
إن رسالتهم تشمل كل خير وتبعد من كل شر، فقدموا للإنسانية كل ما يسعدها في الدنيا والآخرة، فما من خير إلا دلوا الناس عليه، ولا شر إلا حذروا الناس منه.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: كنا في سفر، فنزلنا منزلا فمنا من يصلح خباءه، ومنا من ينتضل [7] ، ومنا من هو في جشَره [8] إذ نادى منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة جامعة [9] فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"إنه لم يكن نبي قبلي إلا وكان حقا عليه أن يدل أمته على خيرِ ما يعلمه وينذرهم شرما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها وسيصيب آخرها بلاء، وأمور ينكرونها. وتجئ فتن فيرقق [10] بعضها بعضا، وتجئ الفتنة، فيقول المؤمن: هذه مهلكتي ثم تنكشف. وتجيء الفتنة، فيقول المؤمن: هذه هذه فمن أحب أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله، واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إماما، فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر".
هذه رسالة كل الأنبياء تدل على كل خير وتحذر من كل شر، لكن من أين تنطلق وبماذا تبدأ وعلى أي شيء تركز؟
إن هناك دعائم وقواعد وأصولا تركز عليها دعواتهم وتكون أول منطلقاتهم في دعوة الناس إلى الله.
تلك الأسس والقواعد هي: (1) التوحيد، (2) النبوات، (3) المعاد [11]
هذه الأسس الثلاثة هي ملتقى دعواتهم وأصولها وقد أهتم بها القرآن غاية الاهتمام وبينها غاية البيان وهي أهم مقاصده التي يدور عليها ويكررها، ويورد الأدلة العقلية والحسية عليها في جميع سوره وفي غالب قصصه وأمثاله، يعرف ذلك من له كمال فهم وحسن تدبر وجودة تصور. وقد عنيت بها كتب الله بأجمعها واتفقت عليها الشرائع السماوية بأسرها.
وأهم هذه الأسس الثلاثة وأجلها وأصل أصولها هو توحيد الله تبارك وتعالى الذي تضمنته غالب سور القرآن، بأنواعه الثلاثة المشهورة بل تضمنته كل سورة من سور القرآن، فإن القرآن:
(1)
إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته، وهو التوحيد الخبري.
(2)
وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي.
(3)
وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته، فذلك من حقوق التوحيد، ومكملاته.
(4)
وإما خبر عن إكرامه لأهل التوحيد، وما فعل بهم في الدنيا، وما يكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء التوحيد.
(5)
وإما خبر عن أهل الشرك، وما فعل بهم نما الدنيا من النكال وما يحل بهم في العقبى من العذاب، فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد.
فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم [12] .
توحيد الألوهية وأهميته
وسوف أتناول توحيد الألوهية وأهميته لسببين:
أولا: أنه الجانب الأهم من دعوات الرسل الذي عرضه علينا القرآن ولأنه موضوع الصراع الدائر بينهم وبين خصومهم من المستكبرين والمعاندين من كل الأمم، ولا يزالا موضوع الصراع إلى اليوم، ولعله يستمر إلى يوم القيامة ابتلاء واختباراً لورثة الرسل ورفعاً لمنزلتهم.
ثانيا: أن أخطر وأشد وأصعب انحراف مني به المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها في هذا الجانب في أكثر جهال المسلمين وفى كثير من مثقفيهم والمنتسبين إلى العلم منهم.
فلنبدأ بعرض دعوات الأنبياء بصفة عامة ثم نعرض دعوات بعضهم بصفة خاصة.
قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى الله وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} . (النحل:36)، وقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} . (الأنبياء: 25)، وقال تعالى بعد أن ذكر قصص عدد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام:{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} . (الأنبياء:92)، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (المؤمنون:51_52) .
قال الحافظ ابن كثير: قال مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} . يقول: دينكم واحد [13] .
وفى معنى الآيتين من السنة، قوله صلى الله عليه وسلم:"أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلات [14] أمهاتهم شتى ودينهم واحد"[15] .
وقال تعالى عنِ أولى العزم من الرسل عليهم الصلاة والسلام: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الله يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} (الشورى:13) . تلك دعوة الأنبياء جميعاً وعلى رأسهم أولوا العزم منهم الأنبياء الذين يبلغ تعدادهم أربعة وعشرين ألفا ومائة ألف [16] يسيرون في دعوتهم في منهج واحد، وينطلقون من منطلق واحد، هو التوحيد، أعظم القضايا والمبادئ التي حملوها إلى الإنسانية جميعا في جميع أجيالهم ومختلف بيئاتهم وبلدانهم وأزمانهم.
مما يدل على أن هذا هو الطريق الوحيد الذي يجب أن يسلك في دعوة الناس إلى الله، وسنة من سننه التي رسمها لأنبيائه واتباعهم الصادقين، لا يجوز تبديلها ولا العدول عنها.
نماذج لدعوات بعض الرسل
ثم إن الله تعالى أخبر عن بعض أفراد الأنبياء العظام كيف واجهوا أقوامهم وإذا بهم يسيرون في الخط العام الذي رسمه الله لهم وإذا بهم في المنهج الذي قرره الله لجميعهم لا تند عنه دعوة أحد منهم:
وهكذا دعوات كل الأنبياء، كلهم ساروا في هذا المنهج في الدعوة إلى توحيد الله وعبادته وحده أولاً وواجههم أقوامهم- إلا من هدى الله- بالسخرية والتكذيب والاستهزاء، كما قال تعالى:{وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ، وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} . (الزخرف: 6-7) .
وما أشد التكذيب والاستهزاء والسخرية على النفوس المؤمنة الأبية، إنها أشد عليهم من وقع السيوف ومن السجون والتعذيب ولقد عبر عن هذا المعنى الشاعر العربي بقوله:
وظلم ذوى القربى أشد مضاضة
على النفس من وقع الحسام المهند
ولقد سألت عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: "هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة، قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال، لتأمره، بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلم علي، ثم قال: يا محمد! إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربى إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين [17] ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو الله أن يخرج من أصلابهم، من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً"[18] .
وقد ذكرت كتب السيرة بعض أجوبة هؤلاء الساخرة ومواقفهم المزرية، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمد إلى نفر من ثقيف هم سادة ثقيف وأشرافهم وهم أخوة ثلاثة، عبد يا ليل ومسعود، وحبيب
…
فجلس إليهم، فدعاهم إلى الله وكلمهم لما جاءهم له من نصرة الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه، فقال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة، إن كاَن الله أرسلك، وقال الآخر: أما وجد الله أحدا أرسله غيرك، وقال الثالث: والله لا أكلمك أبداً، لإن كنت رسولا من الله كما تقول، لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام، ولإن كنت تكذب على الله، ما كان ينبغي لي أن أكلمك. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يئس من خير ثقيف [19] .
والشاهد من الحديث، والقصة أن ما يلقاه الأنبياء من السخرية والاستهزاء ومن أذى المشركين السفهاء أشد على أنفسهم من كل بلاء حتى من المعارك الطاحنة التي تزهق فيها الأرواح وتراق فيها دماء أصحابهم الزكية. فلقد قتل يوم أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من سبعين شهيداً [20] ، فيهم مصعب بن عمير [21] وحمزة بن عبد المطلب [22] عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشُجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وكُسرت رباعيته [23] ، ولقي ما لقي هو وأصحابه من أذى المنافقين، ولقي ما لقي قبل ذلك وهو بمكة وفي يوم بدر وغيرها من المشاهد، ومع كل ذلك يرى أن أشد ما لقيه هو يوم الطائف، لأنه لقي من السخرية والاحتقار مالا تحتمله النفوس الأبية.
ومن هنا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل "[24] فالأمثل ثم الأمثل هم الصالحون السائرون في منهاجهم في الدعوة إلى الله والداعون إلى ما دعوا إليه من توحيد الله وإخلاص العبادة له وحده، ونبذ الشرك بما سواه، وينالهم من الأذى والبلاء مثل ما أصاب أسوتهم الأنبياء.
ومن أجل هذا ترى كثيراً من الدعاة يحيدون عن هذا المنهج الصعب، والطريق الوعر، لأن الداعي الذي يسلكه سيواجه أمه وأباه وأخاه وأحبابه وأصدقاءه وسيواجه المجتمع وعداوته وسخرياته وأذاه، يحيدون إلى جوانب من الإسلام لها مكانتها ولا يتنكر لها من يؤمن بالله لكن هذه الجوانب ليس فيها تلك الصعوبة والشدة والسخرية والأذى خصوصا في المجتمعات الإسلامية فإن سواد الأمة الإسلامية يلتفّون حول هذا اللون من الدعاة ويحيطونهم بهالَة من التبجيل والتكريم لَا سخرية ولا أذى اللهم إلا إذا تعرضوا للحكام وهددوا كراسيهم فإنهم حينئذ يقمعونهم بكل شدة كأحزاب سياسية تناوئ الحكام وتهدد عروشهم، والحكام في هذا الباب لا يحابون قريبا ولا حميما ولا مسلما ولا كافراً.
وعلى كل حال نقول لهؤلاء الدعاة مهما شنشنوا وطنطنوا ومهما رفعوا أصواتهم باسم الإسلام أربعوا على أنفسكم فإنكم خرجتم عن منهج الله وصراطه المستقيم اللاحب الذي مرت به مواكب الأنبياء واتباعهم في الدعوة إلى توحيد الله وإخلاص الدين له ومهما تفلسفتم ورفعتم عقيرتكم باسم الإسلام فإنكم عن منهج الأنبياء الذي سنه الله لناكبون.
ومهما بذلتم من الجهود وجسمتم دعوتكم ومنهجكم فإنكم تتشاغلون بالوسائل قبل الغاية وما اقل جدوى الوسيلة إذا أضرت بالغاية وضُخمت على حسابها بل يا ويل هؤلاء الدعاة إن أصروا على المضي فيما ابتدعوه من مناهج وحاربوا منهج الأنبياء في الدعوة إلى توحيد الله تحت شعارات براقة تخلب ألباب البلهاء والجهلاء بمنهج الأنبياء.
إن الحديث عن دعوات الأنبياء إلى توحيد الله ومنهجهم وما لاقوا في سبيل ذلك من الأهوال والبلايا والمحن أمر لا يتسع له مجال كهذا.
ولسوف أقتصر على عرض دعوات خمسة منهم صلوات الله وسلامه عليهم وذلك سيجعلنا على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك:
1-
فأولهم نوح، أبو البشر الثاني، وأول رسول إلى أهل الأرض عاش هذا النبي العظيم عمراً مديدا ودهراً طويلا ألف سنة إلا خمسين عاما لبثها في دعوة قومه إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له، لا يكل ولا يمل، ليلاً ونهاراً سراً وجهاراًَ قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلا فِرَاراً، وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً، ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً، ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً، فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً، مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً، أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً، وَالله أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً وَالله جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطاً، لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً، قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ
إِلا خَسَاراً، وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراًً، وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً، وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا ضَلالاً مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ الله أَنْصَاراً} (نوح: 1- 25) .
ماذا في دعوة هذا الرسول الكريم، وقد قص الله علينا خلاصة دعوته الكريمة التي استغرقت ألف سنة إلا خمسين عاماً.
إنها دعوة جادة إلى توحيد الله وعبادته وحده، في جهد دائب ما ترك وسيلة تمكنه إلا استخدمها لإقناعهم بدعوته سرا وجهاراً وترغيبا وترهيبا ووعداً ووعيداً، واحتجاجا واستدلالا بالأدلة العقلية والحسية، من واقع أنفسهم وحياتهم ومما بين أيديهم من السماء والأرض، وما فيهما من آيات وعبر وكل ذلك لم يُجد فيهم نفعا ولا دفعهم إلى استجابة بل أصروا على كفرهم وضلالهم، واستكبروا استكبارا.
أصروا على التشبث بأصنامهم ومعبوداتهم الباطلة، فكانت النتيجة لهذا الإصرار والاستكبار، الهلاك والدمار، وفى الآخرة الخلود في عذاب النار.
وهنا نتساءل لماذا يستمر هذا النبي العظيم كل هذه الآماد الطويلة، ويبذل هذه الجهود الكبيرة، دون كلل أو ملل يدعو إلى مبدء التوحيد؟.
ولماذا يمدحه الله ويثني عليه الثناء العاطر، ويخلّد ذكره ويجعله في عداد الرسل أولي العزم؟.
هل دعوة التوحيد تستحق كل هذه العناية والإكبار؟، هل هذا المنهج وتحديد هذا المنطلق لهذا النبي الكريم مجانب للمنطق والحكمة والعقل؟ أو أنه عين الحكمة ومقتضى المنطق الصحيح، والعقل الواعي الرجيح لماذا يقره الله على سلوك هذا المنهج في الدعوة طوال ألف سنة إلا خمسين عاما ويشيد به ويخلد اسمه وقصصه، ويكلف أعظم الرسل وأعقل البشر أن يجعل منه أسوة في دعوته وصبره؟.
الجواب المنصف القائم على العقل والحكمة، ومعرفة مكانة النبوة والثقة العظيمة فيها وتقديرها حق قدرها، أن دعوة التوحيد ومحاولة القضاء على الشرك وتطهير أرض الله منه تستحق كل هذا وانه عين الحكمة ومقتضى الفطرة والعقل.
وأن الواجب على كل الدعاة إلى الله أن يفهموا هذا المنهج، وهذه الدعوة الإلهية العظيمة، والمطلب الكبير، فيكرسوا كل جهودهم وطاقاتهم لتحقيقه ونشره في أرض الله كلها، وأن يتعاونوا ويتكاتفوا ويتحدوا، ويصدق بعضهم بعضا، كما كان الرسل دعاة التوحيد يبشر سابقهم بلاحقهم ويصدق لاحقهم سابقه ويؤيد دعوته ويسير في مضماره.
يجب أن نعتقد أنه لو كان هناك منهج أفضل وأقوم من هذا المنهج لاختاره الله لرسله وآثرهم به، فهل يليق بمؤمن أن يرغب عنه ويختار لنفسه منهجاً سواه ويتطاول على هذا المنهج الرباني وعلى دعاته.
وثانيهم: أبو الأنبياء وإمام الموحدين الحنفاء- إبراهيم خليل الله- الذي أمر الله سيد المرسلين، وخاتم النبيين وأمته باتباعه والاتساء بدعوته والاهتداء بهديه ومنهجه [25] .
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ، فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ، فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام: 74-79) . دعوة حارة قوية متدفقة إلى توحيد الله، وإخلاص الدين له ونبذ الشرك ورفضه، تبدأ بالأسرة وتمتد إلى الأمة تحارب الشرك بالأصنام، وتزلزل الشرك بالكواكب.
ويسلك خليل الله أقوم الطرق في المناظرة والمحاجة، لإقامة حجة الله ودحض الشرك وباطله وشُبَهِهِ.
فالتعبير بالأصنام تحقير لآلهتهم المزعومة المصطنعة، وتسفيه لأحلامهم، ورصده للكواكب المذكورة واحدا تلو الآخر وهى تغيب وتأفل عنهم ليأخذ من حالها البرهان الواضح على بطلان ما يزعمون من ألوهيتها فمن يرعاهم ويحفظهم ويدبر شؤونهم وشؤون هذا الكون حين غيابها وأفولها، وإذن فعليهم أن يرفضوا هذه الآلهة المزعومة الباطلة ويكفروا بها، وينفضوا أيديهم منها، ويتجهوا إلى إلههم الحق، الذي فطر السماوات والأرض، والذي لا يغيب ولا يحول يعلم جميع أحوالهم ومطلع على حركاتهم وسكناتهم، ويرعاهم ويحفظهم ويدبر شؤونهم حجج قوية يستمدها من الواقع الملموس والكون المنظور.
قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً، إِذْ قَالَ لأبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً، يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً، قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً، قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً، فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاً جَعَلْنَا نَبِيّاً، وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} (مريم: 41-50) . دعوة حارة إلى التوحيد، قائمة على العلم والمنطق والعقل وعلى الخلق القويم، وتهدي الضال إلى الصراط المستقيم يقابلها تعصب أعمى يقوم على الهوى والجهل والعناد والمكابرة وإلا فكيف يعبد ويخضع لمن لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنه شيئاًَ.
إن علم التوحيد أيها القارئ، هو العلم الذي يعتز به جميع الأنبياء وبه يصولون على الباطل والجهل والشرك، فالجهل بهذا العلم- علم الأنبياء الهادي إلى الحق والمنقذ من الضلال والشرك- هو الجهل المميت والسم القاتل الذي يقتل العقل والفكر. {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} .
وبعد هذه الجولات القوية الواعية يقوم بها إبراهيم صلى الله عليه وسلم في ميدان الدعوة إلى الله دعوة الأسرة والأمة التي أقام فيها على أبيه وقومه الحجج الدامغة واجه بهذه الدعوة العظيمة ذلك الحاكم الجبار الطاغية المتأله بكل قوة وشجاعة. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ الله الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَالله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (البقرة: 258) .
لقد دعا إبراهيم صلى الله عليه وسلم هذا الطاغية المتأله إلى توحيد الله والإيمان بربوبيته وألوهيته، فطغى واستكبر عن الإجابة إلى توحيد الله والتنازل عن دعوى الربوبية. فحاجّه إبراهيم وناظره هذه المناظرة النيرة البرهان الواضحة المعالم قال إبراهيم:{رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي هو المنفرد بالخلق والتدبير والإحياء والإماتة. فقال الغبي المتجبر: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} .
أي أقتل من أردت قتله واستبقي من أردت استبقاءه. وهذا الجواب فيه تمويه وتضليل للأغبياء وحَيدة عن الجواب، لأن قصد إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن ربه ينشئ الحياة في الإنسان والحيوان والنبات من العدم، ويردها إلى الأموات بقدرته وأنه هو الذي يميت الناس والحيوانات بآجالها بأسباب ربطها وبغير أسباب، فلما رآه إبراهيم يموه ويدجل تدجيلا ربما انطلى على الأغبياء والهمج، قال ملزما له بتصديق قوله إن كان كما يزعم:{فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} أي وقف متحيراً مشدوها، منقطع الحجة قد ألقم حجرا وأخرس لسانه وزهق باطله، {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} .
وفى هذا درس لمن ألقى السمع وهو شهيد، إنها دعوة إلى التوحيد تمثل قمة الإخلاص والحكمة، والعقل، وتأتي البيوت من أبوابها وتنطلق من حيث أراد الله، لا مصارعة على الملك، ولا منافسة على الحكم، ولو كان هدف إبراهيم عليه الصلاة والسلام الوصول إلى الحكم لسلك منهجا غير هذا المنهج ولوجد من يلتف حوله ويصفق له ولكن يأبى الله وأنبياؤه وصالحوا الدعاة من أتباع الأنبياء حقا في كل زمان ومكان إلا سلوك طريق الهداية والرشاد وبيان الحق وإقامة الحجة على المكابر والمعاندين.
وقد قام إبراهيم عليه السلام بهذا الواجب العظيم على أكمل الوجوه وأتمها أقام الحجة على أبيه وقومه حكومة وشعبا، فلما رأى منهم الإصرار على الشرك والكفر والإقامة على الباطل والضلال لجأ إلى الإنكار والتغيير باليد والقوة.
فمن أين يبدأ بالتغيير وما هو الأسلوب الرشيد لتغيير هذا الواقع المظلم الجاثم على أمته أيثور على الدولة لأنها منبع الشرور والفساد ومصدر الشرك والضلال كيف لا والحاكم يدعي الربوبية ويصر عليها. لماذا لا يدبر انقلابا يطيح فيه بهذه الحكومة الكافرة وعلى رأسها جبار متأله وبذلك يقضي على كل ألوان الفساد والشرك وتقوم على أنقاضه الدولة الإلهية بقيادة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، والجواب حاشا الأنبياء وحاشا نزاهتهم من سلوك هذه الطرق أو التفكير فيها فإنها طرق الظلمة والجهلة والسفهاء وطلاب الدنيا والملك.
إن الأنبياء دعاة توحيد ورواد هداية إلى الحق وإنقاذ من الباطل والشرك فإذا امتدت أيديهم إلى التغيير وهم أعلم الناس وأعقلهم فلابد أن تبدأ بالقضاء على منابع الشرك وضلال الحقيقية وكذلك فعل إبراهيم الحليم الحكيم الرشيد البطل الشجاع.
العقيدة وفساداً في الحكم. أمة انحط تفكيرها وضلت عقولها، فعبدت الأصنام من الأخشاب والأحجار والكواكب وتحكمها حكومة فاسدة يقودها جبار متأله فأسلموا له القياد.
فمن أين يبدأ بالإصلاح يا ترى؟
أيبدأ بمصاولة الحاكم لأنه قطعا يحكم بغيِر شريعة الله ويحكم بقوانين وتشريعات جاهلية، لاشك في ذلك، ويدعي الربوبية جهاراًَ وحق التشريع أو يبدأ بإصلاح العقيدة عقيدة الأمة وعقيدة الحكومة الجاهلية.
القرآن يحدثنا عن هذا النبي الرشيد إمام الأنبياء أنه بدأ بإصلاح العقيدة أي الدعوة إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له وحده ومحاربة الشرك والقضاء عليه وعلى أسبابه واقتلاعه من جذوره فدعاهم فعلا إلى توحيد الله ونبذ عبادة ما سواه، وجادلهم في هذا المجال وجادلوه، فدمغهم بالحجج القاهرة والبراهين الظاهرة وجردهم من كل سلاح من أسلحة الحجة حتى ألجأهم إلى الاعتراف بالظلم والضلال والتعصب الأعمى والجمود القاتل على تقليد الآباء {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} .
فلما رأى إبراهيم أهواء جامحة وعقولا متحجرة، دبر لهم مكيدة ورسم لهم خطة حكيمة شجاعة لتحطيم آلهتهم وتم تنفيذ هذه الخطة بكل قوة وشجاعة وجرأة وأثار هذا العمل البطولي [26] الحكومة والشعب ضده واستدعوه للمحاكمة العلنية، ووجهوا إليه الاتهام {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} فأجابهم بأسلوب تهكمي ساخر {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} فكان هذا الجواب التهكمي المفحم كالصاعقة العنيفة هوت على رؤوسهم المخبولة {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ} ثم لما أعوزهم سلاح الحجة لجأوا إلى القوة سلاح كل عاجز عن الحجة في كل زمان ومكان، {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} ِ ونجىّ الله خليله إبراهيم وردّ الله كيد الكافرين الخاسرين في نحورهم {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ. وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} .
وكان في نجاة إبراهيم من تلك النار العظيمة بعد أن حولها الله برداً وسلاما على إبراهيم آية عظيمة من أعظم آيات الله على نبوته وصدقه وصدق ما جاء به من التوحيد وبطلان ما هم عليه من الشرك والضلال، وكافأ الله إبراهيم عليه السلام على هذه الدعوة الحكيمة وعلى هذا الجهاد والتضحية الرائعة {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ. وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ. وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} (الأنبياء: 71- 3 7) .
(ثالثهم) : يوسف الكريم ابن الكريم ابن الكريم [27] الذي أنزل الله في شأنه سورة طويلة تقصّ لنا حياته الكريمة ومراحلها من طفولته إلى موته وكيف تقلبت به الأحوال، وما واجه من صعاب، فتلقاها بقوة النبوة وصبرها وحكمتها وحلمها.
رأى يوسف عليه السلام، فساد قصور الفراعنة في مصر وظلمها وعرف عقائد الأمة التي عاش فيها عرف ما فيها من فساد ووثنية تتخذ الأصنام والأبقار آلهة مع الله.
قصة هذا النبي الكريم عليه السلام طويلة نأخذ منها الإشارة إلى سجنه ودعوته.
عاش هذا النبي الكريمٍ عليه السلام في القصور وعرف مفاسد الحكم والحكام عن كثب، وذاق من ويلاتهم كيدا وظلما واضطهاداًَ وسجنا وعاش بين ظهراني أمة وثنية تعبد الأصنام والأبقار والكواكب، فمن أين ينطلق للإصلاح ومن أين تكون نقطة البدء؟. هل يبدأ في الدعوة إلى الله وهو مسجون ظلما ويشاركه في السجن مظلومون مثله من إثارتهم وتهييجهم على الحكام الظلمة المستبدين، وهذا منطلق سياسي لاشك فيه والفرصة متاحة أمامه أو يبدأ بالدعوة من حيث انطلق آباؤه الكرام وعلى رأسهم إبراهيم خليل الله وإمام الدعاة إلى توحيد الله ومن حيث انطلق جميع رسل الله لاشك أن طريق الإصلاح الوحيد في كل زمان ومكان هو طريق الدعوة إلى العقيدة والتوحيد وإخلاص العبادة لله وحده.
إذن فليبدأ يوسف من هذا المنطلق مقتديا بآبائه الكرام ومعتزاً بعقيدتهم ومحقراً ومندداً بسخف المشركين واتخاذهم أربابا من دون الله من الأصنام والأبقار والكواكب.
وبعد هذا البيان الواضح والدعوة الصارخة إلى التوحيد ونبذ الشرك يؤكد دعوته وحجته بقوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ} [28] ثم يفسر هذه الحاكمية بتوحيد الله وعبادته وحده {أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} ، ويقول عن التوحيد {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} .
ويصل يوسف عليه الصلاة والسلام إلى أعلى منصب في هذه الدولة [29] وهو يدعو إلى توحيد الله ويقيم على دعوته ونبوته البينات. قال تعالى في بيان هذه الأمور: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ. قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (يوسف: 54- هـ 5) .
وقال شاكراً لمولاه: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (يوسف: 101) .
وقال الله في بيان دعوته: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} (غافر: 34) .
من فقه سيرة يوسف عليه السلام التي عرضتها علينا هذه الآيات الكريمة أن الدعوة إلى التوحيد أمر لابد منه، وأن الشرك لا هوادة ولا مداهنة في محاربته فلا يجوز السكوت عنه مهما كانت ظروف الداعية إلى الله بل لا يجوز لمسلم إطلاقا أن يحابى ويداهن في أمره وهذا يبين مكانة العقيدة وعظم شأنها عند الله وعند أنبيائه ورسله وأن الفرق والبون شاسع جدا بينها وبين فروع الإسلام فلا يجوز أن يكون المسلم- خصوصا الداعية- كاهنا من كهنة المشركين أو سادنا لأصنامهم، فإن فعل ذلك كان من المشركين الضالين.
أما الجانب التشريعي، فإن قامت دولة الإسلام فلابد من تطبيق شريعة الله، وإلا {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} والكفر حينئذ على ما فصله علماء الإسلام من الصحابة وغيرهم قد يكون كفراً أكبر إذا كان يحتقر شرع الله ويستحل الحكم بغيره، وقد يكون كفراً أصغر إذا كان يعظم شريعة الله ولا يستحل الحكم بغيرها لكن غلبه هواه فحكم بغير ما أنزل الله.
أما إذا كانت دولة الإسلام غير قائمة، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها وللمسلم أن يتبوأ منصبا في دولة غير مسلمة شريطة أن يقوم بالعدل وأن لا يطيعهم في معصية الله ولا يحكم بغير ما أنزل كما فعل نبي الله يوسف. تبوأ منصب النيابة عن ملك كافر وما كان يحكم بشريعته {
…
مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِك} (يوسف: 76) ، وكان يقوم بالعدل بين الرعية ويدعوهم إلى توحيد الله.
وفى هذا رد حاسم على من يهون من أمر عقيدة التوحيد ويجامل ويحابي في قضية الشرك الذي ملأ الدنيا وينظر إلى دعاة التوحيد وأعداء الشرك بعين الاحتقار والازدراء ويربأ بنفسه ويشمخ بأنفه أن يهبط إلى مستوى دعاة التوحيد- وهو من دعاة السياسة ومَا اثقل على سمعه وقلبه أن يسمع أو يقول كلمة توحيد أو شرك. لقد أوقع هذا النوع من الدعاة أنفسهم في هوة سحيقة في حين يظنون أنهم في أعلى القمم الشامخة. وهل يفلح قوم هذا موقفهم من دعوة الأنبياء إلا أن يتوبوا عما هم فيه إلى الله توبة نصوحاً.
(رابعهم) : موسى كليم الله، القوي الأمين، نرى دعوته تتجه إلى التوحيد وتحمل في طياتها أنوار الهداية والحكمة.
لقد تربى موسى ودرج في قصور أعظم طاغية متأله وعرف من ألوان الفساد والكفر والطغيان والظلم والاستبداد في قصور الحكم عن مشاهدة واطلاع ما يصعب تصوره واحتماله ورأى ما نزل بقومه بنى إسرائيل من استعباد واستذلال واستحياء النساء وقتل الأبناء ما فاق كل ظلم عرفته البشرية.
قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (القصص:4) وكان قوم فرعود أهل وثنية دون شك.
فكيف كان بدء دعوة موسى هل اتجهت إلى إصلاح عقيدة هذه الأمة الوثنية أو بدأت بالمطالبة بحقوق بنى إسرائيل والمصارعة على الحكم والسعي الجاد في إقامة الدولة الإسلامية وانتزاع السلطة من أيدي الطغاة وعلى رأسهم فرعون المتأله.
لقد كانت دعوة موسى كغيرها من دعوات آبائه وإخوته من الأنبياء لقد لقنه ربه أصل التوحيد واصطفاه لحمل رسالته والقيام بعبادته. قال تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأى نَاراً فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً. فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً، وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى. إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي. إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} . (طه: 9-15) . هكذا في مفتتح رسالته تملى عليه عقيدة التوحيد ويكلف شخصياً أن يقوم بها في واقع نفسه ويتمثلها في حياته.
ثم يكلفه بالدعوة لهذا المبدء العظيم فيرسله إلى فرعون ويبيّن له طريق الدعوة وأسلوبها الحكيم الذي يواجه به فرعون. قال تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} (النازعات: 7 ا-19) .
ويشد عضده بأخيه هارون مبالغة في إقامة الحجة ويعلمهما الرفق واللين في الدعوة فإن ذلك أقرب الطرق إلى هداية من يريد الله هدايته {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى. فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه: 43-44) . فنفذا أمر ربهما ودعواه إلى الله قاصدين هدايته وتزكيته ليكون ممن يخشى الله ويتقي عواقب الشرك والظلم، فلم يستجب لهذه الدعوة الهادئة الحكيمة فبرهن موسى على نبوته وصدق رسالته بآيات كبرى لكن الطاغية فرعون زاد طغيانا وتكذيبا {فَكَذَّبَ وَعَصَى، ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى، فَحَشَرَ فَنَادَى، فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى، فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى} .
ازدياد طغيان فرعون وعسفه وظلمه ومواجهة موسى وقومه هذا الطغيان بالصبر الجميل والتحمل:
ما ذنب موسى وقومه في نظر هؤلاء المجرمين، لا ذنب لهم إلا الدعوة إلى توحيد الله والثبات عليها والكفر بفرعون ومعبوداته، ثم ما موقف موسى من هذه الانتهاكات البشعة والتي تجاوزت حدود الوحشية والهمجية. إنه الثبات على العقيدة والصبر الجميل والاستعانة بالله في مواجهة هذه الشدائد ثم انتظار العاقبة الطيبة والنصر نتيجة وثمرة حميدة لهذا الثبات والصبر {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} . (الا عراف: 128) .
ولما لم يبق أي أمل في إيمان فرعون وقومه واشتد البلاء على بني إسرائيل كان مطلب موسى الوحيد من فرعون أن يترك لبنى إسرائيل حرية الخروج والهجرة إلى حيث يريد الله لهم إنقاذا لهم من التعذيب والتنكيل {فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} . (طه: 47) . إنها لدعوة سامية إلى توحيد الله فيها النور والحكمة وفيها الحرص على هداية المدعوين وتزكيتهم، وفيها أقوى أنواع الصبر في تحمل الأذى وفي مواجهة الطغيان والكبرياء وفيها معالجة المواقف الصعبة بالحكمة والصبر مع قوة الأمل في الله في نصر المؤمنين وإهلاك الظالمين وفيها دروس وعظات لمن يريد بدعوته وجه الله ويريد إصلاح البشر وربطهم بالله وهدايتهم إلى صراطه المستقيم.
(والخامس) : سيد الأنبياء وخاتمهم محمد بن عبد الله صاحب أعظم رسالة وأكملِها وأشملها، الذي أرسله الله رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ما ترك خيراً إلا دل أمته عليه ولا شراً إلا حذرها منه.
بماذا بدأ هذا النبي العظيم من مبادئ الإِسلام؟ ومن أين انطلقت دعوته؟
إنه عليه الصلاة والسلام بدأ بما بدأ به كل الأنبياء وانطلق من حيت انطلقوا بدعواتهم من عقيدة التوحيد والدعوة إلى إخلاص العبادة لله وحده، من لا إله إلا الله محمد رسول الله وهل يتصور منه أومن أحد من الأنبياء أن يبدأ بغير هذا الأصل العظيم أصل أصول الرسالات كلها. لقد بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الأصل فأول شيء طرق مسامع قومه قولوا لا إله إلا الله. فقال المستكبرون منهم {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ. وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} . (ص: 5- 6) ، واستمر داعيا إلى هذا المبدأ الأسمى والمطلب الأعلى طيلة العهد المكي من رسالته ثلاثة عشر عاما لا يكل ولا يمل صابراً على كل ألوان الأذى في سبيل نشر هذا المبدأ فلم يُفرض عليه من التشريعات وأركان الإسلام إلا الصلاة في السنة العاشرة من البعثة اللهم إلا ما كان يأمر به قومه من معالي الأخلاق كصلة الرحم والصدق والعفاف ولكن محور الدعوة وموضوع الصراع والخصومة إنما هو ذلك الأصل العظيم.
لقد كلف الله هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم تكليفا خاصا أن يقوم بهذا الأصل العظيم. قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} . (الزمر: 2-3) .
وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ، قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} . (الزمر: 11-14) . {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} . (الأنعام: 162-163) .
كما أمره أن يقوم بدعوة الناس جميعاً إلى تحقيق هذا المبدأ والنهوض به. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . (البقرة: 21-22)، وقال تعالى:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} . (البقرة: 163)، وقال تعالى:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} . (الأعراف: 158) .
والآيات في هذا كثيرة والذي قدمناه إنما هو نموذج لمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى التوحيد.
أما السنة ففيها الشيء الكثير الدال على افتتاح رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوته بالتوحيد واختتامها بذلك واستمراره فيما بين ذلك طوال حياته صلى الله عليه وسلم.
1_
فعن عمرو بن عنبسة السلمي رضي الله عنه قال: "كنت وأنا في الجاهلية، أظن أن الناس على ضلالة، وأنهم ليسوا على شيء، وهم يعبدون الأوثان، فسمعت برجل بمكة يخبر أخباراً، فقعدت على راحلتي، فقدمت عليه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفيا جرءاء عليه قومه فتلطفت، حتى دخلت عليه، بمكة، فقلت له: ما أنت؟ فقال: "أنا نبي". فقلت: وما نبي؟ قال: "أرسلني الله". فقلت: وبأي شيء أرسلك. قال: "أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا يشرك به شيء". فقلت: ومن معك على هذا. قال: "حر وعبد". قال: ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن به.." [30](الحديث) .
2-
ولما وفد عمرو بن العاص وعبد الله بن ربيعه المخزومي كلما النجاشي ملك الحبشة فقالا له يغريانه بالمسلمين المهاجرين إلى الحبشة: "أيها الملك إنه قد صبأ إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين مبتدع، لا نعرفه نحن ولا أنت
…
فسألهم النجاشي فقال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا ديني ولا دين أحد من هذه الأمم؟
…
فكان الذي كلمه جعفر بن أبى طالب فقال له: أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام ونسئ الجوار، يأكل القوى منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نحن نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة، والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش، وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئاً، قال فعدد عليه أمور الإسلام، فصدقناه وآمنا به واتبعناه، على ما جاء به فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئا وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك
…
" [31] الحديث.
وفي أسئلة هرقل لأبي سفيان في مدة صلح الحديبية عن حال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي سفيان: "ماذا يأمركم؟ "قال أبو سفيان قلت: "يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاًََ واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمر بالصلاة، والصدق والعفاف، والصلة"[32] .
فهذه الأحاديث توضح لنا دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم في العهد المكي والمدني.
تعذيب أصحابه من أجل لا إله إلا الله عقيدة التوحيد:
لقد عذب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اشد ألوان التعذيب من أجل تمسكهم بالعقيدة وإخلاص العبادة لله وحده ونبذ الشرك والكفر. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. قال: "أول من أظهر الإسلام سبعة، رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمار، وأمه سمية، وصهيب وبلال، والمقداد. فأما رَسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله تعالى بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر، فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم، فأخذهم المشركون، وألبسوهم أدراع الحديد، صهروهم في الشمس، فما منهم من أحد إلا وآتاهم على ما أرادوا، إلا بلالا فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة، وهو يقول: أحد أحد "[33] .
وفي السيرة لابن هشام "وكان أمية بن خلف يخرجه (يعني بلالا) إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة، فتوضع على صدره، ثم يقول: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى. فيقول وهو في ذلك البلاء: أحد أحد"[34] .
وقال ابن إسحاق: وحدثني حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، قال:"قلت لابن عباس أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ "قال: "نعم. والله إن كانوا ليضربون أحدهم، ويجيعونه ويعطشونه، حتى ما يقدر أن يستوي جالساً، من شدة الضرب الذي نزل به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة حتى يقولوا له: اللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم. حتى إن العجل ليمر بهم فيقولون له أهذا العجل إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم افتداء مما يبلغون من جهده"[35] ، وهذا إسناد حسن صرّح فيه ابن إسحاق بالتحديث فأمن تدليسه.
وتُعذَّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّب سمية حتى الموت من أجل عقيدة التوحيد، لا لأنها كانت زعيمة سياسية. فعن مجاهد قال:"أول شهيدة في الإسلام سمية والدة عمار أتى أبو جهل فطعنها بحربة في قبلها"[36]، وقال ابن سعد:"أسلَمت قديما بمكة، وكانت ممن يعذب في الله لترجع عن دينها، وصبرت، حتى مر بها أبو جهل يوما، فطعنها بحربة في قبلها، فماتت"[37] .
الاهتمام بعقيدة التوحيد في العهد المدني:
وبعد أن هاجر رسول الله وأصحابه إلى المدينة، وقامت دولة الإسلام على كواهل المهاجرين والأنصار، وعلى أساس التوحيد ظل الاهتمام بالتوحيد عَلى أشده والآيات القرآنية تنزل به والتوجيهات النبوية تدور حوله ولم يكتف رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل هذا.
(1)
المبايعة على التوحيد (1)
فكان يبايع عليها عظماء الصحابة فضلا عن غيرهم بين الفينة والفينة وكلما تسنح له فرصة للبيعة عليها. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (الممتحنة: 12) ، وهذه الآية وإن كانت في بيعة النساء فإن رسوله الله صلى الله عليه وسلم كان يبايع على مضمونها الرجال.
فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس، فقال: "تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاًَ ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم- قرأ الآية التي أخذت على النساء {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ} فمن وفّى منكم، فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا، فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه" [38] .
وساق ابن كثير عدداً من الأحاديث التي فيها أن رسول الله كان يبايع النساء بمضمون هذه الآية [39] منها حديث عائشة، وحديث اميمة بنت رقيقة، وحديث أم عطية [40]، وحديث سلمى بنت قيس إحدى خالات الرسول [41] وحديث رائطه بنت سفيان الخزاعية [42] . ثم قال: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعاهد النساء بهذه البيعة. ثم ساق حديث ابن عباس [43] وأحاديث أخر.
أقول: وكذلك كان يتعاهد الرجال، فمما يدل على ذلك حديث عبادة بن الصامت السابق، ومن ذلك حديث عوف بن مالك الأشجعي رضى الله عنه قال:"كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، تسعة أو ثمانية أو سبعة، فقال: "ألا تبايعون رسول الله؟ "وكنا حديث عهد ببيعة فقلنا: بايعناك يا رسول الله، ثم قال: "ألا تبايعون رسول الله". فقلنا: بايعناك يا رسول الله، ثم قال: "ألا تبايعون رسول الله؟ " قال: فبسطنا أيدينا وقلنا قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟ قال: "على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، والصلوات الخمس وتطيعوا- وأسر كلمة خفية- ولا تسألوا الناس شيئاً" فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحداً يناوله إياه "[44] .
2-
وكان يرسل دعاته ومعلميه وقضاته وأمراءه إلى الملوك والجبابرة في الأقطار المختلفة بدعوة التوحيد. فعن أنس رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى [45] وقيصر وإلى النجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله، وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم" [46] .
يوضح ذلك نص كتابه إلى قيصر وأن هدفه الدعوة إلى التوحيد ونصه: "بسم الله الرحمن الرحيم
…
من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى أما بعد- فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت، فإن عليك إثم الأريسيين [47]- ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباًَ من دون الله فإن تولوا، فقولوا: اشهدوا بأنا مسلمون" [48] .
وعندما وصل الكتاب النبوي إلى قيصر، أرسل إلى أبي سفيان بن حرب في ركب من قريش، وكانوا تجاراً بالشام في المدة التي ماد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان، وكفار قريش، فأتوه وهم بابلياء فوجه أسئلة إلى أبي سفيان من جملتها، قال قيصر:"ماذا يأمركم، قال أبو سفيان، قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمر بالصلاة، والصدق والعفاف والصلة"[49]
(2)
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهز جيوشه للجهاد في سبيل الله لأعلاء كلمة التوحيد:"من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"، ويرشد قواده وجنوده إلى البدء قبل القتال بدعوة الناس إلى التوحيد. فعن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على سرية أو جيش، أوصاه بتقوى الله في خاصة نفسه، وبمن معه من المسلمين خيراً، وقال: "إذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال أو خلال، فإن أجابوك إليها فاقبل منهم، وكف عنهم ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك، فاقبل منهم، وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهَاجرين
…
فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصن، فارادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم، فإنكم لا تدرون ما يحكم الله فيهم ولكن انزلوهم على حكمكم، ثم اقضوا فيهم بعد ما شئتم" [50] .
ومثل حديث بريدة حديث النعمان بن مقرن المزني رضي الله عنه أشار إليه كل من مسلم وأبي داود وابن ماجة، بقولهم قال علقمة فحدثت به مقاتل بن حيان، فقال: حدثني مسلم بن هيصم، عن النعمان بن مقرن، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك.
(4)
وبعث معاذاً إلى اليمن أميراً وقاضيا ومعلماً فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصيته: "إنك تأتى قوما من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله. وفى رواية إلى أن يوحدوا الله وأني رسوله الله، فإن هم أطاعوك لذلك فاخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوك لذلك، فاخبرهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب"[51] ، ولا يشك أنه كان يوصي كل دعاته وأمرائه وقضاته بمثل هذه الوصية.
(5)
وشرع الجهاد من أجل التوحيد وتطهير الأرض من فتنة الشرك. قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ} .
قال ابن جرير [52] رحمه الله: يقول تعالى ذكره لنبيه: "وقاتلوا المشركين الذين يقاتلونكم، حتى لا تكون فتنة يعني حتى لا يكون شرك بالله، وحتى لا يعبد دونه أحد، وتضمحل عبادة الأوثان والآلهة والأنداد، وتكون العبادة والطاعة لله وحده دون غيره من الأصنام والأوثان
…
"، قال قتادة: "حتى لا يكون شرك". وساق أسانيده بهذا التفسير إلى قتادة ومجاهد والسدى وابن عباس، وقال المراد بالدين الذي ذكره الله في هذا الموضع: العبادة والطاعة لله في أمره ونهيه. قال ومن ذلك قول الأعشى:
هودان الرباب إذ كرهوا
الدين دراكاً بغزوة وحيال
ثم ساق إسناده إلى الربيع {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} يقول: حتى لا يعبد إلا الله، وذلك لا إله إلا الله عليه قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإليه دعا.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله"[53] .
وقال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لأبي بكر الصديق خليفة رسول الله حين عزم على قتال المرتدين بما فيهم مانعي الزكاة فقال له الفاروق رضي الله عنه: "كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله". فقال أبو بكر رضي الله عنه:"والله لا قاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسوله الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها"[54] .
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم، وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله" ثم قرأ {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} " [55] .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسوله الله صلى الله عليه وسلم:"أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله"[56] .
ويُلاحَظ أن حديث عمر وأبي بكر وأبي هريرة وجابر قد اقتصرت على قضية التوحيد، ولم تتعرض لغيرها. ولعل السبب في ذلك شدة اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه القضية بحيث أنه يحدثهم بها المرة تلو المرة مقتصراً عليها تنبيهاً منه لهم على عظمتها وأهميتها وإدراكا منه صلوات الله وسلامه عليه أنهم يفهمون أن كل أمور الإسلام من مقتضياتها ومستلزماتها وحقوقها خصوصا أركان الإسلام والإيمان.
أقول: وبسبب اقتصار الرسول صلى الله عليه وسلم على ما يتعلق بالعقيدة كان استدلال عمر بهذا القدر وكان جواب أبي بكر في تأييد موقفه بقياس الزكاة على الصلاة "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة
…
"ولو كان يحفظ ما رواه ابن عمر لاستدل به رأسا، ولو كان عمر يحفظ ما رواه ابنه لما اعترض على أبي بكر ولو كان الحاضرون وفيهم أبو هريرة يحفظون ما رواه ابن عمر لذكروا الشيخين به، ولعل السر هو ما أشرنا إليه شدة اهتمام الرسول بالعقيدة وإشادته بها وكثرة حديثه عنها.
ولما كان أبرز جانب وأهمه فيما جاء به الأنبياء من تعاليم ربانية هو توحيد الإلهية، وكان هو في الواقع أعظم قضايا الصراع مع كل أعداء الأنبياء.
وكان أبرز جانب من جوانب الباطل والضلال مما أعلن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عليه الحرب من جهة واستمات المشركون المكذبون من كل الأمم في الدفاع عنه من جهة أخرى هو عبادة الأصنام والأوثان، وقبور الصالحين والأنبياء وتقديسها وتقديم القرابين لها وتعلق قلوب البشر حكاما ومحكومين بها حبا ورجاء وخوفا وطمعاً وأملا في شفاعتها لهم عند الله في قضاء مطالبهم، وكان هذا اللون هو الشرك الأكبر الذي لا يغفر كان لابد- إلى جانب ما قدمناه من الحديث عن منهج الأنبياء خصوصا في الحديث عن إبراهيم إمام الحنفاء ومحطم أصنام السخفاء- من ذكر طرف من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم الشعواء لهذا الشرك الأكبر ممثلة في سحق هذه الأوثان فعلا وفى سد كل ذريعة يستدرج بها الشيطان أولياءه من البشر إلى عبادتها واتخاذها أنداداً من دون الله باسم الآلهة أو الأولياء أو تحت أي شعار مضل.
فمن تلك الحرب التي شنها القرآن ورسول منزل القرآن قول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (النجم: 9 ا-23) . فهذا تحقير لمعبوداتهم وأي تحقير وحرب عليها أي حرب، وقول الله تعالى: {
…
فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} (الحج: 30- ا 3)، وقول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (المائدة: 90) .
وعن عمرو بن عنبسة رضي الله عنه وقد تقدم حديثه وفيه: "قلت: الله أرسلك، قال: نعم، قلت: بأي شيء أرسلك، قال: بأن يوحد الله، ولا يشرك به شيء، وكسر الأوثان وصلة الرحم"[57] .
وفى حديث جعفر بن أبى طالب: "
…
حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة، والأوثان
…
" [58] الحديث.
وفي حديث أبى سفيان مع هرقل ملك الروم: "يقول- يعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً واتركوا ما يقول آباؤكم"[59] .
وفى حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله بعثني رحمة للعالمين. وأمرني ربي عز وجل بمحق المعازف والمزامير، والأوثان والصلب، وأمر الجاهلية
…
" الحديث.
ولقد طاشت ألباب زعماء قريش وضاقت ذرعا بهجوم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أوثانها سواء فيما أنزل عليه من القرآن أوفي دعوته السرية والعلنية لأن هذا أمر لا هوادة فيه، ودعوته الصادقة تقتضيه.
عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: "لما مرض أبو طالب، دخل عليه رهط من قريش، فيهم أبو جهل، فقالوا: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا، ويفعل ويفعل، ويقول ويقول: فلو بعثت إليه، فنهيته، فبعث إليه، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل البيت
…
فقال له أبو طالب: أي ابن أخي، ما بال قومك يشكونك، يزعمون أنك تشتم آلهتهم، وتقول وتقول. قال: وأكثروا عليه من القول، وتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"يا عم إني أريدهم على كلمة واحدة، يقولونها تدين لهم بها العرب وتؤدى إِليهم بها العجم الجزية، ففزعوا لكلمته، ولقوله وقالوا: كلمة واحدة! نعم وأبيك عشرا، فقالوا: ما هي؟ وقال أبو طالب: وأي كلمة هي يا ابن أخي، فقال: لا إله إلا الله. فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم، وهم يقولون: أجعل الآلهة إلها واحداً إن هذا لشيء عجاب"[60] .
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "اجتمعت قريش يوما فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فيأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب ديننا، فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه؟ فقالوا: ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة. فقالوا: أنت يا أبا الوليد، فأتاه عتبة، فقال: يا محمد أنت خير أم عبد الله؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك، فقد عبدوا الآلهة التي عبت وإن كنت تزعم أنك خير منهم، فتكلم، حتى نسمع قولك، إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك، فرقت جماعتنا وشتت أمرنا، وعبت ديننا وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحراً، وأن في قريش كاهنا، والله ما ننظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى، أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا، وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش فلنزوجك عشرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فرغت؟ " قال: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " {بسم الله الرحمن الرحيم، حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
…
- حتى بلغ-
…
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} فقال عتبة: حسبك! حسبك! ما عندك غير هذا؟ قال: "لا". فرجع إلى قريش، فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئاً أرى أنكم تكلمونه به إلا كلمته، قالوا: فهل أجابك؟ قال: لا، والذي نصبها بنية، ما فهمت شيئاً مما قال غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود. قالوا: ويلك أيكلمك الرجل بالعربية ما تدري ما قال؟ قال: لا والله ما فهمت شيئاً مما قال غير ذكر الصاعقة" [61] .
تلك الحرب كانت حربا كلامية ونفسية بالنقد اللاذع والتحقير والسخرية ودمغ المشركين بالضلال والجهل مع إقامة الحجة عليهم ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة، وكان من آثار تلك الحرب ومن آثار تلك الدعوة والبيان أن هدى الله كثيراً من العرب من قريش وغيرهم ومن الأوس والخزرج وفتح الله بصائرهم وعرفوا حقيقة التوحيد ومكانته وعرفوا حقارة الشرك بالأوثان وغيرها وخطورته في الوقت نفسه على المشركين في الدنيا والآخرة.
وهذه ثمار طيبة عظيمة كانت نتيجة لجهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وصبرهم في ميدان الدعوة الحقة إلى الله وحملتهم المكثفة على الطواغيت والأوثان والأنصاب.
ثم لما أصبح للمسلمين شوكة ودولة انتقل رسول التوحيد صلى الله عليه وسلم إلى خطوة عملية جديدة هي سحق الأصنام وتحطيمها وإبادتها وتطهير الأرض منها إدراكا منه لخطورتها فهي المصدر الأساسي والخطير على الأجيال البشرية من فجر تاريخها وإلى أن ينتهي تاريخها كما قالٍ إمام الحنفاء: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} (إبراهيم: 35-36) . فمن هنا قرر الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم القيام بتطهير الأرض من الأوثان وتسوية القبور لأنها قرينة الأصنام في إضلال البشرية.
فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول الكعبة ثلاثمائة وستون نصبا، فجعل يطعنها بعود في يده ويقوله:"جاء الحق وزهق الباطل "، جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد" [62] .
وجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا لذى الخلصة من المدينة إلى خثعم فغزاها. عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال:"كان بيت في الجاهلية يقال له ذو الخلصة، والكعبة اليمانية، والكعبة الشامية، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ألا تريحني من ذي الخلصة؟ فنفرت في خمسين ومائة فارس من أحمس، فكسرناه وقتلنا من وجدنا عنده فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فدعا لنا ولأحمس، وفى لفظ للبخاري: وكان ذو الخلصة بيتا باليمن لخثعم وبجيلة فيه نصب تعبد يقال له الكعبة [63] . ولفظه في البخاري ومسلم وأحمد: "ألا تريحني من ذي الخلصة".
انظر إلى هذا التعبير النبوي فكان وجود الأوثان يقض مضجعه ويقلقه عليه الصلاة والسلام فلا يقر له قرار ولا يجد راحة واعجب من واقع كثير من الدعاة اليوم يرون أمام أعينهم مظاهر الشرك فلا تحرك فيهم ساكنا ولا يحسبون لهذا الواقع المر حسابا بل الأدهى والأمر انهم يتذمرون ممن ينكر ويتألم لهذا الواقع الجاهلي السيئ.
وعن أبي الطفيل عامر بن واثلة، قال:"لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة، وكانت بها العزى، وكانت على ثلاث سمرات فقطع السمرات، وهدم البيت، الذي كان عليها ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: "ارجع فإنك لم تصنع شيئاً" فرجع خالد فلما أبصرته السدنة وهم حجبتها أمعنوا في الجبل، وهم يقولون: يا عزى، يا عزى فأتاها خالد، فإذا هي امرأة عريانة ناشرة شعرها تحفن التراب على رأسها فغمسها بالسيف حتى قتلها، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاخبره فقال: "تلك العزى " [64] .
وكانت مناة للأوس والخزرج ومن دان بدينهم من أهل يثرب، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان ليهدمها وقيل علي بن أبى طالب [65] .
وسألت ثقيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدع الطاغية وهي اللات، لا يهدمها، ثلاث سنين فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما برحوا يسألونه سنة سنة، ويأبى عليهم، حتى سألوه شهراً واحدا بعد قدومهم، فأبى عليهم أن يدعها شيئاً مسمى. وإنما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذرياتهم
…
فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يبعث أبا سفيان ابن حرب والمغيرة بن شعبة يهدمانها [66] ، وعن عثمان بن أبي العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجعل مسجد الطائف حيث كان طاغيتهم [67] .
قال ابن جرير [68] : "وكانوا قد استقوا اسمها من اسم الله فقالوا: اللات يعنون مؤنثة منه تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً. وروى بأسانيده إلى قتادة، وابن عباس ومجاهد وابن زيد، إن اللات بتشديد التاء رجل كان يلت السويق للحاج فمات فعكفوا على قبره فعبدوه.
وقال الإمام البخاري: حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا أبو الأشهب، حدثنا أبو الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: اللات والعزى. "كان اللات رجلا يلت سويق الحاج"[69] .
ولما كانت فتنة القبور والأوثان من باب واحد، والرباط بينها وثيق جداً حيث إن الأوثان والأنصاب إنما نحتت وصورت وعبدت حبا وغلوا في الصالحين كما فعل قوم نوح بود وسواع ويغوث ويعوق ونسر لأنهم رجال صالحون كذلك إنما شيدت القبور وشدت إليها الرحال وقدمت لها القرابين حبا وغلوا في رجال صالحين وفي أقوامٍ اللهُ أعلم بأحوالهم وبمآلهم.
وعلى كل حال فلما كان النوعان من باب واحد لم يدخر رسول الله صلى الله عليه وسلم وسعا في الأمر بهدم القبور ونهى أن يبنى عليها أو يزاد عليها ونهى عن تجصيصها ونهى عن الصلاة عليها وإليها وحذر التحذير الشديد من شرها ولعن من يتخذون المساجد عليها، عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبِى طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، "ألا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبراًَ مشرفا إلا سويته "[70] .
ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث عليا لتسوية القبور كما يبعثه لطمس التماثيل ولا تستبعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجند رجالا هنا وهناك للقيام بهدم الأصنام والقبور كما مر بنا سابقا.
وعن ثمامة بن شفي قال: كنا مع فضالة بن عبيد، بأرض الروم برودس، فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بن عبيد بقبره، فسوى ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها [71]، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبني عليه [72]، وعن أبى مرثد الغنوى رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها"[73] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"[74] .
وتستمر هذه العناية النبوية الواعية، لأخطار الأوثان والقبور إلى آخر لحظة من لحظات حياة الرسول الناصح الأمين صلوات الله وسلامه عليه. فعن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاًَ، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك"[75] .
وعند احتضاره وبعد اختياره للرفيق الأعلى كان شغله الشاغل خطر فتنة القبور على هذه الأمة التي جهل أكثرها قدر هذه الاهتمامات النبوية وجهلت خطر هذه الفتنة الماحقة.
فعن عائشة أم المؤمنين وابن عباس رضي الله عنهم قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال: وهو كذلك: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"يحذر مثل ما صنعوا [76] .
وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي مات فيه: "ادخلوا عليّ أصحابي، فدخلوا عليه وهو مقنع ببردة معافري [77] فكشف القناع، فقال: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد [78] .
وعن أبي عبيدة رضي الله عنه قال: كان آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اخرجوا يهود الحجاز من جزيرة العرب، واعلموا أن شرار الناس الذين يتخذون القبور مساجد"[79] .
سرّح طرفك في مشارق بلاد المسلمين ومغاربها تر العجب العجاب تر واقعا يتحدى هذه النصوص النبوية، وإذا قرأت عليهم هذه النصوص وبينت لهم مصادرها وتمسك الصحابة واعيان الأمة بها واجهوك بتأويلات اسخف من تأويل من قالوا:{إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} . واتهموك بعداء الأولياء.
والآن نتساءل إذا كانت دعوات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تحمل في طياتها كل خير، وتحذر من كل شر، فما بالنا نرى فيما قص الله علينا في كتابه وفى دراستنا لسنة وسيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن دعواتهم إلى التوحيد ومحاربة الشرك ومظاهره وأسبابه ووسائله قد أخذت مساحة كبيرة جداً من دعواتهم واستغرقت زمنا طويلا من حياتهم حتى لكأنما كان هذا الجانب هو شغلهم الشاغل. فأين مواقفهم من الحكام الطغاة المستبدين؟.
والجواب إن ما انتهجه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هو عين الحكمة والصواب ومقتضى العقل السليم.
فليس في مشاكل البشر سياسيها واقتصاديها واجتماعيها من الخطر ما يساوى مشكلة الشرك ومضاره ولا يقاربها {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ، {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} ، {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} .
فالعقل والحكمة والفطرة تقتضي إذاً أن يبدأ بمحاربة خطر الشرك وأن تستمر دعوات الأنبياء واتباعهم على محاربته ما بقيت منه بقية أو بقى له شكل أو مظهر. فإذا أحاطت بأمة مشاكل عقائدية شرك يدمر عقيدتها ومشاكل اقتصادية ومشاكل سياسية فبأيها تبدأ المعالجة الحكيمة.
أما الأنبياء فلم يبدؤا إلا بمعالجة مشكلة العقيدة بكل قوة والبدء بمعالجة الأمر الأخطر أمر يتفق عليه كل عقلاء البشر. فمثلا لو رأى عاقل ثعبانا ونملة يدبان إلى إنسان لأملى عليه عقله أن يبادر إلى دفع الثعبان أو قتله لشدة خطره على هذا الإِنسان ولا يمكن أن يلقى بالاً للنملة ولا لألف نملة.
ولو رأى عقلاء أسداً هصوراً وجماعة من الفئران تهجم عليهم لحملوا حملة واحدة لصد هجوم الأسد وتناسوا الفئران ولو كان معها جماعة أخرى من الضفادع.
ولو أن مسافرين انتهى بهم السير إلى طريقين لا خيار لهم من سلوك أحدهما. أحدهما فيه براكن تقذف بلهبها ونيران تلتهم أشجارها وأحجارها، وثانيهما فيه الأشواك والرمضاء وأشعة الشمس اللاهبة لما أختار عقلاؤهم إلا سلوك الطريق الثاني.
لنأخذ الآن أشد المفاسد أعني المفاسد السياسية والاجتماعية والاقتصادية وأشدها فساد الحكم لنوازنها بفساد العقيدة فهل هما في ميزان الله وميزان الأنبياء سواء. أو أن أحدهما أشد خطراً وأدهى وأمر عاقبة.
ففي ميزان الله وميزان أنبيائه أن أشدهما خطراً وأجدر بالتركيز عليه على مر الدهور والعصور وفى كل الرسالات إنما هو الشرك ومظاهره الذي لا يضاهيه فساد مهما عظم شأن هذا الفساد، وبناء على هذا نعود فنقول: إنَّ بَدْأ جميع الأنبياء بإصلاح الجانب العقائدي ومحاربة الشرك ومظاهره هو مقتضى الحكمة والعقل وذلك للأمور الآتية:
أولاً: أن المفاسد المتعلقة بعقائد الناس من الشرك والخرافات وأنواع الضلال أخطر آلاف المرات من المفاسد المترتبة على فساد الحكم وغيره، فإن لم نقل هذا ونعتقده سفهنا من حيث لا نشعر جميع الأنبياء. ونعوذ بالله من الضلال. إن هذه المفاسد تشمل الحاكم والمحكوم فالحكام أنفسهم في كل زمان ومكان إلا المؤمنين منهم- يخضعون للأصنام والأوثان والقبور ويقومون بتشييدها وحمايتها وعبادتها وتقديم القرابين لها، ويعتقدون أن لها سلطة غيبية قاهرة فوق سلطانهم المادي، فهي تضرهم وتنفعهم بذلك السلطان الغيبي في زعمهم وبتلك القوة القاهرة الخفية أو على أقل تشفع لهم عند الله في تحقيق مآربهم.
وأوضح مثال لخضوع الحكام للأوثان ذلك الطاغية المتأله فرعون الذي قال متبجحاً: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} ، فقد حكى الله مقالة قومه له وهم يستثيرون فيه الحمية والغيرة لآلهته ومعبودا ته فقال:{وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} . (الأعراف: 127) ألا ترى أكبر طاغية عرفته الأرض مع دعواه الربوبية يخضع للأوثان ويتخذها آلهة.
وهذا النمروذ ملك الكلدانيين الذي ادعى الربوبية يأمر بإحراق إبراهيم عليه السلام عندما حطم الأصنام أخذاً بثأر هذه الأصنام لأنها آلهته.
وهؤلاء ملوك الهند والفرس يعبدون الأوثان والنيران وملوك الرومان في الماضي وحكام أوربا وأمريكا في الحاضر يعبدون الصلبان والصور، وكم من حكام المسلمين في الماضي والحاضر من فُتِنَ بالأموات وشاد عليهم القبور وتعلق بها قلبه حبا ورجاء وخوفا وارتكبوا ما خشيه رسول الله على هذه الأمة وحذر منه.
ومن هنا يتضح لك جدية منهج الأنبياء وأحقيته، ويتضح لك أهمية مواقف الرسول الحاسمة من الأوثان والقبور كما يتضح لك حكمة إبراهيم وعمق فكره وبعد نظره حينما أطلقها صيحة مدوية تتجلجل في الأفاق والأجيال {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (إبراهيم 5 3، 6 3) .
فترى إبراهيم وهو على غاية من الحق والصواب- يجأر إلى الله من مخاطر الأصنام ولا يجأر إليه من مخاطر الحكام على جسامة فسادهم وخطرهم.
ثانياً: أن الله ما أرسل الرسل إلا ليعلموا الناس الخير وينذرونهم بطش الله والشر قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} (البقرة: 213)، وقال تعالى:{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (الأنعام: 48)، وقال تعالى:{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} (الكهف: 56)، وقال تعالى: {
…
رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (النساء: 165) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولا أحد أحب عليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين"[80]، وقال تعالى:{فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} (النحل: 35)، وقال تعالى:{وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} (النور: 54)، وقال تعالى:{وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} وهذه مهمة الإنذار والتبشير والإبلاغ مهمة جليلة وعظيمة نبيلة يكفيها عظمة ونبلا أنها مهمة الأنبياء وتتناسب مع مكانتهم الرفيعة فإنها أشق وأعظم ما يتحمله البشر أو يتحمله ورثتهم من الدعاة الصادقين المخلصين السائرين في منهاجهم ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشهد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل". وقد ذكرنا سلفا مدى ما يواجه الداعية إلى التوحيد من المشقة وكيف لا يستطيع غيرهم أن يجول في هذا الميدان.
ثالثاً: أن الله سبحانه وتعالى، لم يكلفهم بإقامة دول وإسقاط أخرى وذلك في غاية الحكمة، لأن الدعوة إلى إقامة دولة تلوح فيها المطامع لطلاب الدنيا وطلاب الجاه والمناصب وأصحاب الأغراض والأحقاد وأصحاب التطلعات والطموحات فما أسرع ما تستجيب هذه الأصناف للدعوة إلى قيام دولة يرون فيها تحقيق مآربهم وشهواتهم ومطامعهم.
لمثل هذه الاعتبارات- والله أعلم- وغيرها مما يعلمه الله الخلاق العليم الحكيم ابتعدت دعوات الأنبياء ومناهجهم عن استخدام هذا الشعار البراق الملوح أو المصرح بالأطماع والشهوات العاجلة وسلكت منهجا حكيما نزيها شريفا ينطوي على الابتلاء والاختبار فيتبعهم ويؤمن بهم كل صادق مخلص متجرد من كل المطامع والأغراض الشخصية، لا يريد بإيمانه وتوحيده وطاعة رسل الله عليهم الصلاة والسلام إلا الجنة ومرضاة ربه، ولا يخاف إلا من غضبه وأليم عقابه. ولهذا لا يتبعهم في الغالب إلا الفقراء والمساكين والضعفاء. قال تعالى- حكاية عن قوم نوح:{قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} (الشعراء: 111)، وقال عن قوم صالح:{قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ، قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} (الأعراف: 75-76) . وجاء في أسئلة هرقل لأبى سفيان، "فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟. قال أبو سفيان، فقلت: بل ضعفاؤهم. ثم قال هرقل: وسألتك أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم، فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم اتباع الرسل".
فالدعوة إلى إقامة دولة أسهل بكثير وكثير، والاستجابة لها أسرع، لأن أكثر الناس طلاب دنيا وأصحاب شهوات ولما ذكرنا من الأسباب والعقبات والصعاب في طريق دعوات الرسل نجد أنه لا يتبعهم إلا القليل فنوح، لبث ألف سنة إلا خمسين عاما يدعو إلى الله ومع ذلك {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ} (هود: 40) .
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب"[81] .
وهذا إبراهيم الخليل قامع المشركين بالحجج الدامغة والبراهين قال الله تعالى في شأنه وشأن من آمن له {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (العنكبوت: 26) ، وهذا لوط يقول الله في نجاة من معه من العذاب ولعلهن بناته فقط {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (الذارايات: 35-36) .
ولا يغض ذلك من منازل الأنبياء مثقال ذرة بل هم في أعالي المنازل وهم أنبل الناس وأجل الناس وأكرمهم وفوقهم في كل شأن في الرجولة والشجاعة والفصاحة والبلاغة والبيان والنصح والتضحية وقد قاموا بواجبهم على أكمل الوجوه من الدعوة إلى التوحيد والتبليغ والتبشير والإنذار فإذا قل اتباعهم أو لم يتبع بعضهم أحد فالعيب كل العيب على الأمم التي رفضت الاستجابة لدعوتهم لأنها في نظرهم- لا تحقق لهم أغراضهم الدنيئة ومع ذلك ما كانوا طلاب ملك بل كانوا دعاة هداية وتوحيد ولا كانوا يعدون اتباعهم للثورات والانقلابات السياسية.
وقد يهدي الله قوم نبي من الأنبياء فيستجيبون له أو كثير منهم فتكون لهم دولة، ثمرة طيبة، لإيمانهم وتصديقهم وأعمالهم الصالحة، فيقومون بواجبهم من الجهاد لإعلان كلمة الله وتطبيق التشريعات والحدود وغيرها من الأمور التي شرعها الله لهم كما حصلَ لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام توج الله إيمانهم وعملهم الصالح وصبرهم الجميل على بغي المشركين وتطاولهم بأن نصرهم، وأظهر دينهم، ومكن لهم في الأرض كما قال تعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} ولقد عرض على رسول الله الملك بمكة فرفض إلا المضي في الدعوة إلى التوحيد ومحاربة الشرك والأوثان أرسلت قريش- لما أقلقها أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عتبة بن ربيعة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من السطة في العشيرة، والمكان في النسب وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت بهم أحلامهم وعبت به آلهتهم، ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني اعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منا بعضها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل يا أبا الوليد أسمع". قال: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك منِ أموالنا حتى تكون من أكثرنا أموالاًَ، وإن كنت تريد به شرفا سودناك حتى لا نقطع أمراًَ دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا وان كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه أو كما
قال- حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه، قال:"أفرغت يا أبا الوليد؟ "قال: نعم. قال: "فاستمع مني". قال: أفعل. قال: {بسم الله الرحمن الرحيم
…
حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} . ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها عليه. فلما سمع عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليها يسمع منه ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد ثم قال: "قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك
…
"فذهب عتبة إلى قريش فلما جلس إليهم. قالوا ما وراءك يا أبا الوليد. قال: ورائي إني قد سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالسحر ولا بالشعر ولا بالكهانة. يا معشر قريش: أطيعوني واجعلوها لي خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فوا الله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه. قال: هذا رأي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم "[82] .
وروى ابن إسحاق بإسناده إلى ابن عباس أنه اجتمع نفر من قريش وعرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضا قريبا من عرض عتبة ومقالته لرسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثتي إليكم رسولا وأنزل عليّ كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه على أصبر لأمر الله، حتى يحكم الله بيني وبينكم
…
" [83] . ومن هنا رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب بعض القبائل أن يكون الأمر لهم بعد موته إن صح هذا الخبر.
قال ابن إسحاق: وحدثني الزهري أنه أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم، يقال له بيحرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش، لأكلت به العرب. ثم قال: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال:"الأمر إلى الله، يضعه حيث يشاء"، فقال له: أفتهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله، كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك فأبوا عليه" [84] .
وخلاصة هذا أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما جاؤا لإسقاط دول وإقامة أخرى، ولا يطلبون ملكا ولا ينظمون لذلك أحزابا وإنما جاؤا لهداية البشر وإنقاذهم من الضلال والشرك وإخراجهم من الظلمات إلى النور وتذكيرهم بأيام الله ولو عرض عليهم الملك لرفضوه، ومضوا في سبيل دعوتهم، وعرضت قريش الملك على رسول الله فرفضه وقد عرض عليه أن يكون ملكا نبيا أو عبدا رسولا فاختار أن يكون عبدا رسولا. عن أبي هريرة رضى الله عنه قال:"جلس جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى السماء، فإذا ملك ينزل فقال جبريل: إن هذا الملك ما نزل منذ يوم خلق قبل الساعة، فلما نزل، قال: يا محمد! أرسلني إليك ربك قال: أفملكا نبيا يجعلك أو عبدا رسولا. قال جبريل: تواضع لربك يا محمد، قال: بل عبداً رسولا"[85] .
ومن هنا ما كان يبايع الأنصار وغيرهم إلا على الجنة وكانت بيعة الأنصار في أحلك الظروف وأشدها فما كان فيها وعد بالمناصب لا الملك ولا الإمارات ولا بالمال وبغير ذلك من حظوظ العاجلة. عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: "إني من النقباء الذين بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: بايعناه على أن لا نشرك بالله شيئاً ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل النفس التي حرم الله، إلا بالحق، ولا ننتهب، ولا نعصي- بالجنة".
وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه العباس عمه إلى السبعين من الأنصار عند العقبة تحت الشجرة، فقال: ليتكلم متكلمكم ولا يطيل الخطبة فإن عليكم من المشركين عيناً، وإن يعلموا بكم يفضحوكم، فقال قائلهم- وهو أبو أمامة: سل يا محمد لربك ما شئت ثم سل لنفسك ولأصحابك ما شئت، ثم أخبرنا مالنا من الثواب على الله عز وجل، وعليكم إذا فعلنا ذلك. فقال: أسألكم لربي عز وجل أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأسألكم لي ولأصحابي أن تؤونا وتنصرونا، وتمنعونا مما منعتم منه أنفسكم. قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: لكم الجنة. قالوا: فلك ذلك" [86] .
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين يتتبع الناس في منازلهم بعكاظ ومجنة، وفى المواسم بمنى، يقول: من يؤيني، من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أومن مضر كذا فيأتيه قومه، فيقولون: احذر غلام قريش، لا يفتنك، ويمشى بين رجالهم، وهم يشيرون إليه بالأصابع، حتى بعثنا الله إليه من يثرب، فآويناه، وصدقناه فيخرج الرجل منا، فيؤمن به ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا فيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام، ثم ائتمروا جميعا، فقلنا حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة، ويخاف، فرحل إليه منا سبعون رجلا، حتى قدموا عليه في الموسم، فواعدناه شعب العقبة، فاجتمعنا عليه من رجل ورجلين، حتى توافينا، فقلنا: يا رسول الله نبايعك. قال: تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافون في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني، فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة. قال: فقمنا إليه فبايعناه وأخذ بيده أسعد بن زرارة، وهو أصغرهم فقال: رويداً يا أهل يثرب، فإنا لم نضرب أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب، كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك، وأجركم على الله، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم جبينة، فبينوا ذلك، فهو عذركم عند الله، قالوا: أمط عنا يا أسعد فوالله لا ندع هذه البيعة أبداً ولا نسلبها أبداً، قال: فقمنا إليه فبايعناه، فأخذ علينا وشرط ويعطينا على ذلك الجنة"[87] .
ومن هنا أيضا كان يربي أصحابه على القرآن والسنة وعلى الإيمان والصدق والإخلاص لله في كل عمل بعيداً عن الأساليب السياسية والإغراء بالمناصب العالية. فما كانَ يمنى أحداً منهم قبل دخوله في الإسلام أو بعده بمنصب في الدولة هذا عمر بن الخطاب رضى الله عنه أحد عظماء الصحابة وأقواهم شخصية ما كان يعده رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمناصب ولا تتطلع نفسه إليها حتى جاء يوم خيبر أي بعد عشرين سنة من البعثة فاجأهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "لأعطين الراية غداً رجلا يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه فبات هو والصحابة يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها "وقال عمر رضي الله عنه: "ما أحببت الإمارة إلا يومئذ"[88] .
لأي شيء تطلع هؤلاء الصحابة الكرام الإمارة نفسها أم لنيل هذه المنزلة العظيمة حب الله ورسوله؟ ولماذا كان عمر بن الخطاب لا يحب الإمارة لو كان رسول الله يحببها إليهم ويربيهم عليها ويمنيهم بها. بل كان ينفرهم منها ويحذرهم من الحرص عليها، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:"إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة وبئست الفاطمة "[89] ، وينهى عن طلبها والحرص عليها، عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال:"قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عبد الرحمن! لا تسأل الإمارة. فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها"[90] .
بل فوق كل هذه الأساليب يرسى قاعدة إسلامية تحرم المناصب على من يتعشقها ويحرص عليها، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال:"دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي فقال أحد الرجلين: يا رسول الله أمِّرنا على بعضِ ما ولاك الله عز وجل. وقال الآخر مثل ذلك، فقال: إنا لا نولي على هذا العمل أحداًَ سأله ولا أحداًَ حرص عليه"[91] . وفي لفظ عند مسلم: "ما تقول يا أبا موسى أويا عبد الله بن قيس قال: فقلت: والذي بعثك بالحق ما أطلعاني على ما في أنفسهما وما شعرت أنهما يطلبان العمل، قال: وكأني انظر إلى سواكه تحت شفته وقد قلعت، فقال: لن أو لانستعمل على عملنا من أراده، ولكن اذهب أنت يا أبا موسى، فبعثه إلى اليمن ثم أتبعه معاذاً "، وفي النسائي:"إنا لا نستعين في عملنا بمن سألنا".
قال الحافظ. قال المهلب: "الحرص على الولاية هو السبب في اقتتال الناس عليها حتى سفكت الدماء واستبيحت الأموال والفروج وعظم الفساد في الأرض بذلك ووجه الندم أنه قد يقتل أو يعزل أو يموت فيندم على الدخول فيها- لأنه يطالب بالتبعات التي ارتكبها، وقد فاته ما حرص عليه بمفارقته. قال: ويستثنى من ذلك من تتعين عليه كأن يموت الوالي ولا يوجد بعده من يقوم بالأمر غيره، وإذا لم يدخل في ذلك يحصل الفساد بضياع الأحوال"[92] .
وعلى كل حال فالإمارة والقضاء من الأمور التي لابد منها ولا تقوم حياة المسلمين إلا بها وبها تعصم الدماء والأموال. ولكن يجب أن نسلك في اختيار الأمراء والقضاء منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تعطى هذه المناصب لمن يسألها أو يحرص عليها أو يرشح نفسه لها عن طريق الانتخابات مثلا فإن هذا من الحرص عليها، وإنما يختار لها الأكفاء علما وزهداً فيها وتقوى. ثم ينبغي أن نستفيد من هذا المنهج النبوي في التربية، فلا ينبغي أن ننشئ الشباب على حب القيادة والرئاسة والسيادة والإمارة فلو نشأناهم على حب هذه الأشياء خالفنا هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوقعنا الشباب في المهالك وأي فلاح ننتظره في الدنيا والآخرة إن خالفنا منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً: يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم. ويكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال"....
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
الفطر الابتداء والاختراع، والفطرة: الحالة، كالجلسةِ والركبة
والمعنى. أنه يولد على نوع من الجبلة، والطبع المتهيئ لقبول الدين فلوترك عليها لاستمر على لزومها، وإنما يعدل بالآفة من آفات البشر والتقليد "النهاية لابن الأثير (3/457) .
وقال الحافظ ابن حجر- رحمه الله: في الفتح (3/248) .
"اختلف الناس في المراد بالفطرة، وأشهر الأقوال، أن المراد بالفطرة. الإِسلام قال ابن عبد البر: هو المعروف عند عامة السلف، وأجمع أهل العلم بالتأويل على أن المراد بقوله تعالى: "فطرة الله التي فطر الناس عليها"الإسلام
[2]
أخرجه البخاري 23- كتاب الجنائز 79- باب إذا أسلم الصبي فمات يصلى عليه، حديث 1358، 1359، 92- باب ما قيل في أولاد المشركين حديث 1385، 65- كتاب التفسير، حديث 5 477. ومسلم، 46- كتاب القدر، حديث 22، 23، وأبو داود، 34- كتاب السنة 18- باب في ذرا ري المشركين، حديث 4714، وأحمد في المسند (2/ 5 31، 346، 393) ، (2/ 233، 275) ، ومالك في الموطأ (1: 241) 16، كتاب الجنائز. حديث (52) ، والترمذيَ في السنن (1/ 47 4) ، 33- كتاب القدر5- باب ما جاء كل مولود يولد على الفطرة، حديث (2138) ، وفي لفظ في البخاري ومسند أحمد والموطأ والترمذي "كل مولود يولد على الفطرة"
[3]
نحلته أعطيته، والمراد: كل مال أعطيته عبداً من عبادي فهو له حلال، والمراد: إنكار ما حرموا على أنفسهم من السائبة والوصلة والبحيرة والحامي وغير ذلك، وإنها لم تصر حراماَ بتحريمهم وكل مال ملكه العبد فهو له حلال حتى يتعلق به حق.
[4]
أي مسلمين.
[5]
أي استخفوهم فذهبوا بهم وأزالوهم، عما كانوا عليه، وجالوا معهم في الباطل.
[6]
أخرجه مسلم (4/2197) ، 51- كتاب الجنة 26- باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، حديث 63.
[7]
من المناضلة، وهي: المرامات بالنشاب.
[8]
الجشر: هي الدواب التي ترعى، وتبيت مكانها.
[9]
الصلاة جامعة، هي: بنصب الصلاة على الإغراء، ونصب جامعة على الحال.
[10]
أن يصير بعضها رقيقاً أي حفيفاً لعظم ما بعده.
[11]
ألف في بيان هذه الأسس الثلاثة الإمام الشوكاني كتابا سماه: "إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد، والمعاد والنبوات "طبع دار الكتب العلمية ببيروت لبنان، وقد ساق أدلته من القرآن والتوراة والأناجيل.
[12]
شرح الطحاوية ص 88 الطبعة الأولى 1392 نشر المكتب الإسلامي وأصله من كلام الإمام ابن تيميه وتلميذه ابن القيم- رحمهما الله-.
[13]
التفسير (365/5) .
[14]
العلات- بفتح المهملة: الضرائر، وأصله من تزوج امرأة ثم تزوج أخرى، كأنه علّ منها، والعلل: الشرب بعد الشرب وأولاد العلات: الإخوة من الأم، وأمهاتهم شتى "فتح الباري (6/ 9) وفى النهاية (3/ 291) ، الأنبياء أولاد علات "أولاد علات الذين أمهاتهم مختلفة، وأبوهم واحد، أراد أن إيمانهم واحد وشرائعهم مختلفة".
[15]
أخرجه البخاري0 6- الأنبياء حديث (43 34) ، ومسلم (4/1837) 43- كتاب الفضائل، 0 4- باب فضل عيسى عليه السلام، حديث (45 1) وأحمد في المسند (2/ 319، 406، 482)
[16]
إشارة إلى حديث أبي ذر أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (5/447) وأحمد في المسند (5/178)(5/ 179)
من طريق المسعودي عن أبي عمر الدمشقي عر عبيد بن الخشخاش عن أبي ذر.
وابن حيان كما في الموارد رقم 94 وأبو نعيم في الحلية (1/ 166_168) وأشار إلى طرق أخرى أبي ذر، وأحمد (5/ 265) وابن أبي حاتم في تفسيره نقلا عن ابن كثير (2/423) والطبراني (8/258)
وهناك طرق أخرىَ عن أبي إمامه! عدد الرسل وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر أخرجه الطبراني (8/ 139) وابن حيان كما في الموارد رقم (2085) قال ابن كثير وهذا على شرط مسلم وقال الهيثمي رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير أحمد بن خليد الحلبي وهو ثقة.
[17]
الاخشبانْ جبلان بمكة، هما أبو قبيس والجبل الذي تقَابله.
[18]
أخرجه البخاري 59- كتاب بدء الخلق، حديث (3231) ومسلم (3/ 421 1) ، 29- باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين، حديث (111) .
وفي الحديث بيان دعوة رسول الله وصبره في سبيلها وحلمه على قومه وانظر كيف استأنى بهم واستبقاهم من الهلاك الماحق الذي اشفوا عليه أملا في الله ورجاء أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئا ويالها من غاية نبيلة لا يعرفها إلا من ذاق نعمة التوحيد وعرف مكانته.
[19]
البداية والنهاية لابن كثيرِ (3/135) ، والدرر في اختصار المغازي والسير لابن عبد البر ط دار الكتب العلمية بيروت (ص105)
[20]
قال البخاري- رحمه الله في 64-: المغازي 26- باب من قتل من المسلمين يوم أحد، حديث 4078 حدثنا عمرو بن علي، حدثنا معاذ بن هشام، قال. حدثني أبي عن قتادة، قال:"ما تعلم حيا من أحياء العرب أكثر شهيداً أغر يوم القيامة من الأنصار قال: قتادة: وحدثنا أنس بن مالك، أنه قتل منهم يوم أحد سبعون، ويوم بئر معونة سبعون، ويوم اليمامة سبعون ".
[21]
عن خباب- رضي الله عنه قال: هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن نبتغي وجه الله فوجب أجرنا على الله، فمنا من مضى- أو ذهب- لم يأكل من أجره شيئا وكان منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد فلم يترك إلا نمرة، كنا إذا غطينا ما رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطيت رجلاه خرجتَ رأسه فقال النبي صلى الله عليه وسلم غطوا بها رأسه واجعلوا على رجليه الإ ذخر..، أخرجه البخاري64- كتاب المغازي 26- باب من قتل يوم أحد حديث (4082) ومسلم كتاب الجنائز. (7/ 2) مع شرح النووي وأحمد في المسند (5 /09 1) . والنسائي (4/32)
[22]
قصة استشهاده في البخاري 64- كتاب المعازي32- باب قتل حمزة بن عبد المطلب- رضي الله عنه حديث (4072) ومسند أحمد (3/500،501)
[23]
عن أنس- رضي الله عنه قال شج النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقال: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم فنزلت. {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ} (آل عمران129) أخرجه البخاري 64- كتاب المغازي 21- باب ليس لك من الأمر شيء، بدون رقم ومسلم (3/1416) ، 32- كتاب الجهاد والسير 37- باب غزوة أحد، حديث 104.
وفيه حديث سهل بن سعد برقم 101 بلفظ جرح وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه ".
[24]
أخرجه الترمذي (2/4 0 6) ، 56- باب ما جاء في الصبر على البلاء، حديث (2398) وابن ماجة (2/ 1334) 13- باب الصبر على البلاء، حديث (4033) ، والدارمي (2/228) حديث 2786 وأحمد والمسند (1/ 172، 174، 180، 185) كلهم من طريق عاصم بن أبى النجود وهو صدوق له أوهام عن مصعب بن سعد قال: الترمذي حديث حسن صحيح.وفي تصحيح الترمذي له نظر وكأنه لاحظ في الحكم شواهده فإن له شواهدْ:
1_
عن أبي سعيد الخدري أخرجه ابن ماجة (2/ 6334) 32- باب الصبر على البلاء حديث (24 0 4) قال في الزوائد إسناده صحيح نقلا عن محمد فؤاد.
2-
من حديث فاطمة بنت اليمان أخرجه أحمد (6/329)
3-
من حديث أبي هريرةَ أشار إليه الترمذي بقوله وفي الباب عن أبي هريرة وأخت حذيفة بعد إخراجه حديث سعد.
[25]
اشارة إلى قول الله تعالى. {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (النحل:123)
وإلى قوله تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} سورة آل عمران الآية 95.
[26]
هذا العمل البطولي العظيم وماسبقه من دعوة حكيمة إلى التوحيد ونبذ الشرك في ميزان كثير من دعاةَ الإصلاح اليوم يعتبرِ من الاهتمامات بالقشور والتوافه فلا حوِل ولا قوة إلا بالله إنما لا تعمى الأبصار، ولكنها تعمى القلوب التي في الصدور.
[27]
إشارة إلى حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال. "الكريم ابن الكريم ابن الكريم، يوسف بن يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام". أخرجه البخاري 0 6 كتاب الأنبياء باب 8 1 (3382، 0 339) وأحمد في المسند (2/96) . وإلى حديث أن هريرة رضى الله عنه سئل رسول الله: صلى الله عليه وسلم: "من أكرم الناس؟ فقال اتقاهم لله، قالوا. ليس عن هدا نسألك، قال: فاكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله، قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: فعن معادن العرب تسألوني؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا". أخرجه البخاري 0 6 الأنبياء، حديث (3383) ، ِوالترمذي (293/5) التفسير، باب13، حديث (3116) ، "وأحمد في المسند (2/332، 416) كلاهما عن طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ "إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم".
[28]
هذه الآية قاعدة أساسية من قواعد التوحيد كما بين الله ذلك على لسان يوسف عليه السلام، ومن المؤسف جدا أن ترى كثيرا من دعاة الإصلاح السياسيين قد ابتعدوا بتفسيرها جدا عن مدلولها الأساسي إخلاص العبادة لله وحده إلى مدلول سياسي هو إقامة الدولة التي يزعمون انها ستطبق شريعة الله في الأرض بالنيابة عنه وبالغوا في هذا الاتجاه حَتى انسوا الناس المعنى الأصلي للآية ولا يفهمون عنها إلا المعنى الجديد فلا حول وِ لا قوة إلا بالله وهكذا عاملوا كل أو معظم آيات التوحيد وارتكبوا كل هذا تحت شعار الحاكمية وهذا شيء لم يسبقوا إليه فإلى الله المشتكي.
[29]
قال شيخ الإسلام ابن تيميه- رحمه الله في الحسبة (ص 7)
"وكذلك يوسف الصديق كان نائبا لفرعون مصر وهو وقومه مشركون وفعل من العدل والخير ما قدر عليه، ودعاهم إلى الإيمان بحسب الإمكان ".
[30]
أخرجه مسلم (1/ 569) ، 6- كتاب صلاة المسافرين. 52- - باب إسلام عمرو بن عنبسة، حديث (294) وأحمد في المسند (4|112) .
[31]
أخرجه الإمام أحمد (1/202) ، (5/ 290) قال أحمد ثنا يعقوب (يعني ابن إبراهيم ابن سعد الزهري) ثقة ثنا أبي عن محمد بن إسحاق حدثني محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي عن أم سلمة بنت أبى أميه (يعنى أم المؤمنين رضي الله عنها وهو إسناد صحيح إلا محمد بن إسحاق وقد صرح بالتحديث فحديثه حسن.
[32]
أخرجه البخاري 1- كتاب بدء الوحي باب 7- حديث 6 وهو حديث طويل.
[33]
أخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 284) ، وصححه، وذكره الذهبي في سير أعلام، النبلاء (1 /348) وقال وله إسناد صحيح، وانظر في الاستيعاب (1/145_146) والحلية لأبي نعيم (1/ 149) .
[34]
(1/ 318) .
[35]
السيرة لا بن هشام (1/ 320) .
[36]
الطبقات لا بن سعد (8/ 264-265) قال أخبرنا إسماعيل بن عمر أبو المنذر، حدثنا سفيان الثوري، عن منصور عن مجاهد قال: فذكره وهو إسناد صحيح إلى مجاهد.
[37]
الطبقات لا بن سعد (8/ 264) .
[38]
رواه البخاري 2- كتاب الإيمان باب1 1- حديث 18، 63- كتاب مناقب الأنصار 43- باب وفود الأنصار، حديث (3892) ، ومسلم 29- كتاب الحدود 0 1- باب الحدود كفارات لأهلها، حديث (41_44) ، والنسائي (7/128) .
[39]
البخاري 65- كتاب التفسير تفسير سورة الممتحنة 2- باب إذا جاءك المؤمنات مهاجرات حديث (4891) وابن ماجة (2/ 959) 24- كتاب الجهاد 43- باب بيعة النساء حديث (2874) 2- مسند أحمد (6/357) والنسائي كتاب البيعة باب بيعة النساء (7/134) .
[40]
أخرجه البخاري 65- كتاب التفسير تفسير سورة الممتحنة 3- إذا جاءك المؤمنات يبايعنك حديث (4892) ومسلم كتاب الجنائز (6/ 238) شرح النووي.
[41]
مسند أحمد (6/ 379-. 38، 422-423) وفي إسناده سليط بن أيوب قال الحافظ. مقبول وقال الذهبي في الكاشف (1/ 88 3) وثق فهو حسن لشواهده.
[42]
مسند أحمد (6/365) .
[43]
في البخاري 65- كتاب التفسير 3- باب إذا جاءك المؤمنات يبايعنك حديث (4895) ومسلم 8- كتاب صلاة العيدين 8- باب صلاة العيدين حديث (1) والحديث طويل وفيه "فقال. يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا"فتلا هذه الآية حتى فرغ منها ثم قال حين فرغ منها "انتن على ذلك، فقالت امرأة واحدة لم يجبه غيرها منهن: نعم يا نبي الله
…
"
[44]
أخرجه مسلم 2 1- كتاب الزكاة 35- باب المسألة للناس حديث 18، وأبو داود 3- كتاب الزكاة، 72- باب كراهية المسألة حديث (1642) ، وأحمد (6/ 27) ، والنسائي (1/ 186) . وابن ماجة 24- كتاب الجهاد، 41- باب البيعة، حديث (2867) .
[45]
وانظر كتابه إلى كسرى ملك الفرس في البداية والنهاية (4/ 369) بقريب من كتابه إلى قيصر.
[46]
أخرجه مسلم 32- كتاب الجهاد 27- باب كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الكفار يدعوهم إلى الله عز وجل حديث 75 (3/ 1397) ، والترمذي، 43- كتاب الاستئذان 23- باب في مكاتبة المشركين، حديث (6 271) من حديث أنس. وأحمد (3/336) من حديث جابر، للفظ "وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس إلىكسرى وقيصر، وإلى كل حبار ".
[47]
الأريسيون: الفلاحون، ويقال لهمْ الاكارون، والمراد: اتباعه من الضعفاء وغيرهم لأنه صار سببا في استمرارهم على الشرك، وهذا عدل الله وسنته في الزعماء أنهم يحملون أوزارهم، وأوزار من يتبعوهم في الانحراف عن التوحيد والحق ومحاربته، قال تعالى:{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ} ، وقال صلى الله عليه وسلم:"من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة، ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة، لا ينقص من أوزارهم شيئا".
[48]
أخرجه البخاري 1- كتاب بدء الوحي 7- حديث 6، وهو حديث طويل اختصرناه وأحمد (1/262) .
[49]
المصدر السابق.
[50]
أخرجه مسلم 33- كتاب الجهاد2- باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث حديث (3) ، (3/356ا-357 1) . وأبو داود،9- كتاب الجهاد9- باب في دعاء المشركين، حديث (2 161)(3/83) ، والترمذي، 22- كتاب السير، 48- باب وصية النبي: صلى الله عليه وسلم في القتال، حديث (1617)(4/ 182) وابن ماجة 24- كتاب الجهاد، 38- بابا وصية الإمام، حديث (2858) .
[51]
أخرجه البخاري64- كتاب المغازي 60- باب بعث أبي موسى ومعاد إلى اليمن قبل حجة الوداع، حديث (4347) ، 97- كتاب التوحيد 1- باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى توحيد الله تبارك وتعالى حديث 7372، ولفظ البخاري هنا "فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله، فإذا عرفوا ذلك
…
" الحديث، ومسلم 1- كتاب الإيمان75- باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، حديث 29، 30 ولفظ الأخير، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وحل فإذا عرفوا ذلك
…
" الحديث.
[52]
التفسير (2/ 194- هـ 19) .
[53]
البخاري، 56- الجهاد، 102- باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى الإسلام والنبوة، ولا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله، حديث (2946) ومسلم- كتاب الإيمان، 8- حديث (33) ، وأبو داود 9- الجهاد 4 0 1- باب على ما يقاتل المشركون، حديث (2640) وابن ماجة 36- كتاب الفتن، باب الكف عمن قال: لا إله إلا الله، حديث (3927) .
[54]
أخرجه البخاري، 24- كتاب الزكاة 1- باب وجوب الزكاة، حديث (1399) ومسلم- كتاب الإيمان 8- باب حديث (33) .
[55]
أخرجه مسلم 1- كتاب الإيمان 8، حديث 35 والترمذي، 48- كتاب التفسير، تفسير سورة الغاشية، حديث (1 334)(5/ 439) ، وابن ماجة 36- كتاب الفتن، باب (1) ، حديث (28 39) .
[56]
أخرجه البخاري 2- كتاب الإيمان 17- باب، فإن تابوا وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم حديث (25) ، ومسلم، 1- كتاب الإيمان باب 8 حديث (36) .
[57]
تقدم تخريجه (ص هـ 4) .
[58]
تقدم تخريجه (ص 6 4) .
[59]
تقدم تخريجه (ص 46) .
[60]
مسند الإمام أحمد (1/ 362) والترمذي 48 _ كتاب التفسير، تفسير سورة (ص) حديث (3232) وفى إسناده يحي بن عمارة ويقال ابن عباد ذكره ابن حبان في الثقات تهذيب التهذيب (11/259) وقال الحافظ مقبول.. تقريب (2/354) وقال الذهبي: وثق الكاشف (3/ 224) ورواه ابن جرير (23/ 165) بإسناده إلى الأعمش ثنا عباد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ورواه من طرق إلى الأعمش عن يحي بن عمارة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ولم أقف لعباد على ترجمة وفي الإسناد ضعف وقد يحتمل التحسين.
ملاحظة في مسند أحمد عباد بن جعفر ولم أقف له على ترجمة وقد نص ابن كثير أن أحمد رواه عن عباد غير منسوب انظر تفسير ابن كثير (7/46) .
[61]
المنتخب في المسند عبد بن حميد (ص 208) رقم (1121) ومسند أبى يعلى الموصلي (ل 101) كلاهما عن أبى بكر بن أبي شيبة حدثنا علي بن محمد عن الاجلح عن الذيال بن حرملة الأسدي عن جابر- رضي الله عنه مرفوعا قال ابن كثير في تفسيره (7/ 151) بعد أن ساق الحديث بإسناده عن عبد بن حميد وأبى يعلى. "وقد ساقه البغوي في تفسيره بسنده عن محمد بن فضيل عن الاجلح وهو ابن عبد الله الكندي وقد ضعف بعض الشيء عن الذيال
…
"لكن الحافظ قال فيه "صدوق شيعي من السابعة"تقريب (1/ 46) وقال الذهبي: وثقه ابن معين وغيره وضعفه النسائي وهو شيعي "الكاشف (1/ 99) وشيخه الذيال قال الحافظ عن جابر وابن عمر والقاسم بن مخيمرة وعنه فطر بن خليفة وحصين والأجلح وحجاج بن أرطأة وثقه ابن حبان تعجيل المنفعة (84) وبقية رجال الإسناد ثقات.
[62]
أخرجه البخاري 46- باب المظالم حديث (2477) ، و 64- كتاب المغازي48- باب أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم رايته يوم الفتح، حديث (4287) وه 6- تفسير سورة الاسراء2 1- باب "وقل جاء الحق وزهق الباطل، حديث (4720) ومسلم 32- كتاب الجهاد 32- باب إزالة الأصنام من حول الكعبة، حديث (87) والترمذي 48- كتاب التفسير 18- تفسير سورة الإسراء حديث (38 1 3) . والإمام أحمد في المسند (1 /377) .
[63]
البخاري 64-كتاب المغازى 62- باب غزوة ذي الخلصة، أحاديث (4355، 4356، 4357) ، ومسلم 44- كتاب فضائل الصحابة، 29- باب من فضائل جرير بن عبد الله- رضي الله عنه، حديث (136، 137) . وأبو داود 9- كتاب الجهاد، 172- باب بعثة البشراء (2772)(3/5 1 2) والإمام أحمد في المسند (4/ 0 36، 362) .
[64]
أخرجه النسائي في التفسير في الكبرى كما في تحفة الأشراف (4/ 235) أخبرنا على بن المنذر أخبرنا ابن فضيل، حدثنا الوليد بن جميع، عن أبى الطفيل، لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة.. "الحديث، وهو إسناد حسن. وانظر تفسير ابن كثير (7/429 -430) .
[65]
السيرة لابن هشام (1/ 5 8- 86) .
[66]
السيرة لابن هشام (2/ 0 54- ا 54) . وابن جرير (3/0 4 1) ، والبداية والنهاية (5/ 32) ط مكتبة المعارف وعيون الأثر لابن سيد الناس (2/228) وزاد المعاد (3/ 499-500) .
[67]
ابن ماجة 4- كتاب المساجد، حديث (743) ، وأبو داود 2- الصلاة، حديث (450) ورجاله ثقات إلا محمد بن عبد الله ابن عياض "مقبول ".
[68]
في التفسير (27/58، 59) ، والسيرة لابن هشام (78 9 8) وقد أطال النفس في الحديث عن أصنام العرب ومعبوداتها وبيان عبادتها.
[69]
في الصحيح 65- كتاب التفسير، تفسير سورة النجم 2- باب "أفر أيتم اللات والعزى".
[70]
أخرجه مسلم 11 _كتاب الجنائز، 31- باب الأمرِ بتسوية القبر، حديث (93) ، وأبو داود 15- كتاب الجنائز، 72- باب في تسوية القبر، حديث (3218)، والترمذي8- كتاب الجنائز: 56- باب ما جاء في تسوية القبور، حديث (49 0 1) والنسائي (4/ 73) . وأحمد في المسند (1/ 96، 29 1) .
[71]
أخرجه مسلم 1- كتاب31- باب الأمر بتسوية القبر حديث (92) وأبو داود 15- كتاب الجنائز:72- باب في تَسوية القبور، حديث (19 32) ، والنسائي (4/ 72-73) .
[72]
أخرجه مسلم 11- كتاب الجنائز، 32- باب النهي عن تجصيص القبور والبناء عليها حديث (94) وأبو داود 15- كتاب الجنائز، 76- باب في البناء على القبر حديث (3225) ، والنسائي (4/72) .
[73]
أخرجه مسلم 11 - كتاب الجنائز 33- باب النهي عن الجلوس على القبر حديث (97،98) وأبو داود، 5 1- كتاب الجنائز، ِ 77- باب كراهية القعود على القبر، حديث (3229) .
[74]
مالك في الموطأ 9- كتاب قصر الصلاة في السفر 24- باب جامع الصلاة حديث85 مرسلا وأحمد (2/246) تنا سفيان عن حمزة بن المغيرة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة-رضي الله عنه – مرفوعا وابن سعد في الطبقات (2/ 240- ا 24) من طريق مالك به، (2 /241-242) من طريق سفيان عن حمزة به وأبو نعيم في الحلية (7 /317) من طريق سفيان عن حمزة به.
[75]
أخرجه مسلم 5- كتاب المساجد 3- باب النهي عن بناء المساجد على القبور حديث (23) ، والنسائي في الكبرى، كما في تحفة الإشراف (2/443) وأبو عوانه (1/ 1 40) والطبراني (2/ 180) حديث (1686) . وابن سعد في الطبقات (2/ 0 24) مختصرا.
[76]
أخرجه البخاري 23- كتاب الجنائز. 1 6- باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور، حديث (1330) وباب 96- حديث (1389) ومسلم، 5- كتاب المساجد باب النهي عن بناء المساجد على القبور حديث (9 1) عن عائشة، وحديث (22) عن عائشة وابن عباس- رضي الله عنهم والنسائي (2 /33) والإمام أحمد في المسند (1/218) ، (6/ 34) والدا رمي (1/ 267) .
[77]
برود باليمن منسوبة إلى معافر وهي قبيلة باليمن (لابن الأثير) .
[78]
ر واه أحمد في مسنده (5/ 4 0 2) والطبراني في الكبير (1/ 27 1) حديث (393) ، (1/ 131) حديث (411) والطيالسي في مسنده (ص 88) حديث (634) وفي إسناده قيس بن الرميح الأسدي قال الحافظ "صدوق تغير لما كبر وادخل عليه ابنه ما ليس من حديثه، وفيه كلثوم الخز اعي قال فيه الحافظ (مقبول) لكنه مع ذلك يصلح في الشواهد.
[79]
أخرجه الإمام أحمد (195/1) ثنا أبو أحمد الزبيرى، ثنا إبراهيم بن ميمون عن سعد بن سمرة عن سمرة بن جندب عن أبى عبيدة بن الجراح أبو أحمد الزبيرى ثقة ثبت/ع وإبراهيم بن ميمون مولى آل سمره وثقه ابن معين وقال أبو حاتم محله الصدق (تعجيل المنفعة)(ص. 2) وسعد بن سمره وثقة النسائي وابن حبان تعجيل (ص 101) ، فهو إسناد صحيح إن شاء الله.
[80]
أخرجه البخاري97-كتاب التوحيد 2- باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا شخص اغير من الله، حديث (7416) ، ومسلم 19- كتاب اللعان حديث (17)(2/ 136 1) ، وأحمد في المسند (4/248) . والدارمي (2/73) ، حديث (2233) .
[81]
أخرجه البخاري 76- كتاب الطب 17- باب من اكتوى أو كوى غيره حديث (5 570) ، ومسلم 1- كتاب الإيمان 94- باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب، حديث (374) . وأحمد في المسند (1/ 271) .
[82]
أورده ابن إسحاق في السيرة، قال حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرطبي قال حدثت أن عتبة بن ربيعة وساق القصة. السيرة لابن هشام (1/293_294) ولها شاهد من حديث جابر أخرجه عبد بن حميد وأبو يعلى تقدم تخريجه وبه تتقوى القصة وتعتضد.
[83]
السيرة لابن هشام (1/295_296) قال ابن إسحاق حدثني بعض أهل العلم عن سعيد بن جبير وعن عكرمة مولى ابن عباس، عن عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما قال: اجتمع نفر من قريش عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو سفيان
…
"وهذا يقوى ما قبله ويشد كل منهما الآخر.
[84]
السيرة لابن هشام (1/ 424-425) والسيرة النبوية للذهبي (ص 89 ا- 190) .
[85]
مسند أحمد (2/ 1 23) وابن حبان كما في الموارد (ص هـ 52) رقم (37 1 2) كلاهما من طريق محمد بن فضيل عن عمارة بن القعقاع عن أبى زرعة عن أبى هريرة- رضي الله عنه قال الألباني وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم- الصحيحة (3/4) - وله شاهد من حديث ابن عباس قال الألباني أخرجه البغوي في شرح السنة (3/473) وسنده ضعيف "لكني لم أجده في الموضع المشار إليه ".
[86]
رواه الإمام أحمد في المسند (4/ 19 1-. 12) قال: ثنا يحي بن أبى زكريا بن أبي زائدة، حدثني أبي عن عامر يعني الشعبي. ثم رواه بهذا الإسناد عن مجالد عامر الشعبي عن أبي مسعود الأنصاري ثم رواه بهذا الإسناد عن إسماعيل بن أبى خالد عن الشعبي يقول: ما سمع الشيب ولا الشبان خطبة مثلها.
وقد تابع أبا الزبير الإمام الشعبي رحمه الله قال البزار رحمه الله "حدثنا محمد بن معمر، ثنا قبيصة ثنا سفيان عن جابر وداود (هو ابن أبى هند القشيرى، ثقة متقن، كان يهم في آخر حياته التقريب) عن الشعبي عن جابر قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم للنقباء من الأنصار: "تؤوني وتمنعوني قالوا: نعم، فما لنا. قال الجنة"، قال البزار لا نعلمه يروى عن الشعبي إلا بهذا الإسناد انظر كشف الإسناد (2/ 307) .
وقد ذكر الحافظ ابن حجر هذه الأحاديث وحكى تصحيح بعضها وحسن بعضها وقوى بعضها انظر فتح الباري (7/222_223) .
[87]
أخرجه الإمام أحمد (3/ 322) : ثنا عبد الرزاق، أنا معمر عن ابن خثيم عن أبي الزبير عن جابر، (3/ 339) : ثنا إسحاق بن عيسى، ثنا يحي بن سليم، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن أبي الزبير أنه حدثه عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث.
وأخرجه ابن حبان في صحيحه، كما في موارد الظمآن (ص 408) والحاكم (2/ 624) وصححه ووافقه الذهبي.
[88]
أخرجه مسلم 44- كتاب الفضائل 4- باب فضائل علي رضي الله عنه حديث (33) عن أبي هريرة وحديث (34) عن سهل بن سعد وفيه. فباتوا يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها وفيه رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله.
وحديث (32) عن سعد بن أبي وقاص وفيه: لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله قال: فتطاولنا لها". والسبب هو ما ذكرناه حرصهم على هذه المنزلة الرفيعة عند الله لا على الإمارة نفسها.
وأخرجه البخاري 56- كتاب الجهاد 143- باب فضل من اسلم على يديه رجل حديث (09 30) ، 62- كتاب فضائل الصحابة. 9- باب مناقب علي رضي الله عنه حديث (3701) .
والترمذى0 5- كتاب المناقب باب 1 2- حديث (4 373) . (5/438) وابن ماجة في المقدمة 11 – حديث (117) إسناده ضعيف فيه محمد بن أبي ليلى وهو ضعيف.
[89]
أخرجه البخاري 93- كتاب الأحكام، 7- باب ما يكره من الحرص على الإمارة حديث (48 71) والإمام أحمد في المسند (2/448) والنسائي في كتاب آداب القاضي (8/ 199) .
"نعم المرضعة لما فيها من حصول الجاه والمال ونفاذ الكلمة، وتحصيل اللذات الحسية والوهمية حال حصولها وبنت الفاطمة عند الانفصال عنها بموت أو غيره وما يترتب عليها من التبعات في الآخرة"فتح الباري (126/13) .
[90]
البخاري 93- باب من سأل الإمارة وكل إليها حديث (47 71) ومسلم 33- كتاب الإمارة 3- باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها حديث 13- والنسائي (198/8) .
[91]
(3) البخاري 93- كتاب الأحكام 7- باب ما يكره من الحرص على الإِمارة (49 71) ومسلم 33- كتاب الإمارة باب النهي عن طلب الإمارة، حديث 4 1، 15 (3/ 456 1) والنسائي (8/198) .
[92]
فتح الباري (13/ 126) .
دفاعٌ عنِ العقوُباَت الإسلامِيةِ
للشيخ محمد بن ناصر السحيباني
عميد كلية الشريعة بالجامعة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
…
أما بعد:
فقد سبق أن وعدت في مقالة سابقة تكلمت فيها عن مزايا التشريع الإسلامي، وأشرت إلى ما تتعرض له الشريعة الإسلامية من استنقاص وازدراء من قِبَل أعدَائها، ومن قبل من يتظاهرون بأنهم من أبنائهَا، وقد وعدت في تلك المقالة أن أخص العقوبات الإسلامية بكلمة مختصرة موجزة، أبين فيها ما تبين من وجوه الحكمة فيها، وما تمتاز به عن العقوبات التي وضعها الإنسان وضعا ارتجاليا متأثراًَ بأهوائه ورغباته، مسترشدا بنظره القاصر، وتفكيره المحدود، وقبل أن أدخل في موضوع العقوبات، أقدم بكلمة قصيرة عن الجريمة ونظرة الإسلام إليها، فأقول مستعينا بالله:
أولا: تعريف الجريمة:
الجريمة عند أهل اللغة تأتي بمعنى الجناية وبمعنى الذنب. قال في اللسان: "وجرم إليهم وعليهم جريمة وأجرم: جنى جناية"[1] .
وفي تاج العروس، والجرم بالضم الذنب كالجريمة. وقال: والمجرمون في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} الكافرون لأن الذي ذكر من قصتهم التكذيب بآيات الله والاستكبار عنها قاله الزجاج [2] ، والذي يلفت النظر، أن لفظة الإجرام وردت في كثير من الآيات الكريمة، وكلها والله أعلم يقصد بها الكافرون أو المشركون ونحوهم من المكذبين والمنافقين. كما نقله صاحب التاج عن الزجاج، كما ورد في قوله تعالى:{سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} الأنعام: 124.
وقوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} . (طه: 74)[3] .
أما عند الفقهاء فقد عرفها الماوردي بقوله: "الجرائم محظورات شرعية زجر الله تعالى عنها بحد أو تعزير "[4] .
وقوله تعالى: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ} ، (المعارج: 11) ، وقوله تعالى:{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} (القلم: 35) ، وهي تصل إلى أكثر من خمسين آية [5] ، بينما في السنة لم ترد هذه الكلمة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في حالات قليلة جدا، كما في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن أعظم المسلمين جرماًَ من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته". أخرجه البخاري [6] .
وحديث عائشة رضي الله عنها قالت:"قيل لها إن ابن عمر يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم إن الميت يعذب ببكاء الحي، قالت: وهل أبو عبد الرحمن، إنما قال إن أهل الميت يبكون عليه، وأنه ليعذب بجرمه"[7] .
ولم تستعمل هذه الكلمة من قبل الفقهاء في الصدر الأول بمعنى الجناية إلا في حالات قليلة، فقد بوب البخاري رحمه الله في كتابه على حديث كعب بن مالك رضي الله عنه في قصته المشهورة لما تخلّف هو ومن معه عن غزوة تبوك، بوب بقوله: باب هل للإمام أن يمنع المجرمين وأهل المعصية من الكلام معه والزيارة ونحوه [8] مع أن الحديث كما هو معروف لم يتضمن هذه الكلمة، وقد ذكر الحافظ رحمه الله أن رواية ابن التين الإسماعيلي والجرجاني، لم تكن بلفظ المجرِمين، وإنما بلفظ المحبوس بدل المجرمين. كما بوب في الديات بقوله: باب إثم من قتل ذمياًَ بغير جرم، وساق حديث عبد الله ابن عمرو بهذا الصدد [9] ، مع أنه لم يتضمن هذه الكلمة، ومثل ذلك فعل في كتاب الجزية فعنون بهذا العنوان وساق الحديث.
فقد يكون السلف رضي الله عنهم يتحرجون من إطلاق هذه الكلمة في حق العصاة من المسلمين لما لاحظوه من ورودها في القرآن الكريم في حق الكفار في أكثر المواضع، وإن كان لا يمتنع استعمالها لغة في هذا الموضع، أعني موضع الجناية
…
والله أعلم.
ثانيا: نظرة الإِسلام إلى الجريمة:
إنه باستقراء النصوص من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة نلاحظ أن نظرة الإسلام إلى الجريمة- الجناية- نظرته إلى الظاهرة العادية فهو يعتبر الجريمة جزءً من المجتمع الإنساني لا تنفك عنه. فكما أن النقص والتقصير لا ينفك عن الإنسان، وبالتالي عن المجتمع الإنساني، فإن الجريمة كذلك، فهي ليست إلا صورة من صور النقص والتقصير الذي يعتبر صفة ملازمة لبني آدم في هذه الحياة يقول سبحانه وتعالى عن الإنسان:{قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} . (عبس: آية 17){كَلَاّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى} (العلق: 6) . {وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً} . (الإسراء: 11) . {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} . (الأحزاب: 7 2) وفى الحديث عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه قال حين حضرته الوفاة: قد كنت كتمت عنكم شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لولا أنكم تذنبون لخلق الله تبارك وتعالى قوماً يذنبون فيغفر لهم". رواه أحمد [10]، وفى الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون"[11] . أخرجه الترمذي. وقال: "هذا حديث غريب"، والحديث وان اختلف في صحته فمعناه صحيح.
إذن فالجريمة بحد ذاتها كظاهرة اجتماعية، تعتبر في نظر الإسلام أمراً مسلما به، ولابد منه لأن الكمال لله سبحانه، والعصمة لله وحده. ولكن كونَ الجريمة ظاهرة لابد منها، لا يعني هذا أنه يسلم بوجودها وتترك في المجتمع لتنمو وتنتشر وتتكاثر دون أن تستنكر وتحارب، بل إن الإسلام وضع لها الحل السليم والعلاج الشافي والحكم العادل، فالإسلام يحارب تكاثر الجرَيمة وتصاعدها، إلا أنه من الأمور المسلم بها أنه لا يمكن بحَال من الأحوال أن يخلو مجتمع من جريمة، ولو كان ذلك ممكناً، لكان المجتمع النبوي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عهد الخلفاء الراشدين، لكان هذا المجتمع أولى المجتمعات وأقريها إلى الخلو من الجريمة وأحراها بالقضاء عليها، إلا أنه من المعروف أن هذا المجتمع الطاهر النظيف قد وجدت فيه الجرائم على اختلاف أنواعها، فالإسلام لا ينظر إلى المجتمع الإنساني نظرة مثالية خيالية، تهدف إلى إنهاء الجريمة من الَمجتمع والقضاء عليها قضاء مبرماً، لأن من المبادئ الرئيسية أن الإنسان مبتلى بالخير والشر- والله سبحانه قد سلط عليه الشيطان، ابتلاءً وامتحاناً، فمادام الشيطان موجوداً، فالجريمة موجودة لأنه هو الذي يوسوس بها في نفس الإنسان، وهو الذي يدعوه إلى ارتكابها ويحسنها له {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَاّ غُرُوراً} (النساء: 120) {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (الحجر: 39-0 4) .
والآيات بهذا الشأن كثيرة جدا والمسألة واضحة. إلا أن الإسلام وهو يسلّم بوجود الجريمة لا يتركها هكذا كما أسلفت بل يسعى إلى تقليلها، ووضعهاَ في حجم معين ويسعى إلى حصر آثارها والتخفيف من نتائجها، ومن ناحية أخرى فالإِسلام بهذه النظرة لا يقطع خط الرجعة على المجرمين، بل يدعوهم ويطالبهم بالعودة إلى المجتمع، ويعيد لهم اعتبارهم، ولا يجعل من مقار فتهم للجريمة أياً كانت سبباً في نبذهم وطردهم إلا بقدر محدود، عندما يصرون على ارتكاب الجريمة وير تكسون في الإجرام حيث لا تجدي فيهم الموعظة [12] ، فإنه في هذه الحالة ينتقل إلى العقوبة ومع العقوبة كذلك لا يعتبرهم منبوذين، بل يعتبرهم جزء من المجتمع، ويترك لهم الفرصة ليعيدوا الاعتبار إلى أنفسهم إذا كانوا أحياء، وإذا كانوا في عداد الأموات- في حالة العقوبة المتلفة- فهو يعتبرهم مسلمين، لهم ما للمسلمين من حقوق واحترَام، في الحديث أن خالد بن الوليد رضي الله عنه سب المرأة التي رجمت من الزنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مهلا يا خالد، فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له، ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت". رواه أحمد ومسلم وأبو داود.
وقال لعمر رضي الله عنه عندما قال: تصلي عليها وقد زنت. "لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله". رواه مسلم وغيره، في بعض روايات قصة ماعز بن مالك الأسلمي فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب، فسكت عنهما، وسار ساعة حتى مر بجيفة حمار شائلا رجله. فقال:"أين فلان وفلان؟ " فقالا: نحن ذان يا رسول الله. قال: "كلا من جيفة هذا الحمار" فقالا: يا نبي الله من يأكل من هذا؟ قال: "فما نلتما من عرض أخيكما أنفاَ أشد من أكل منه، والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها". رواه أبو داود.
ولما جاءوا بالسارق بعد قطعه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل استغفر الله وأتوب إليه فقال: استغفر الله وأتوب إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم تب عليه". رواه أحمد وأبو داود.
ولما أتي بشارب خمر وأمر الناس بضربه، فقال بعض القوم أخزاك الله، فقال صلى الله عليه وسلم:"لا تقولوا هكذا لا تعينوا عليه الشيطان". رواه أحمد والبخاري.
فهذه النصوص وأمثالها تؤكد ما أشير إليه من أن المسلم إذا ارتكب جرماً مهما كان لا يبرر نبذه وطرده، ولكن تقام عليه العقوبة المقررة شرعاً، وفق الأحكام الشرعية في الإثبات والحكم والتنفيذ، ويعاد له اعتباره بعد ذلك حيا كان أو ميتاً إذا تاب وصلحت توبته.
العقوبة ضرورة اجتماعية [13] :
تعتبر العقوبة من الأمور الضرورية للمجتمعات، ولا يمكن أن يعيش مجتمع دون أن تفرض فيه عقوبة، فكما أن الجريمة جزء من المجتمع ملازمة له ولا يتصور وجود مجتمع بدون جريمة، فكذلك لا يتصور وجود مجتمع بدون عقوبة، فالعقوبة تعتبر رد فعل للجريمة، ولذلك نجد حتى في المجتمعات الحيوانية ومجتمع الطيور والحشرات نجد العقوبة فيما بينها يوقعها بعضها على بعض.
والمجتمعات الإنسانية وان كانت العقوبة موجودة فيها، إلا تفاوتاً كبيراً بين مجتمع وآخر في مدى تأثير هذه العقوبة، ونتائجها في المجتمع وذلك من حيث تناسب العقوبة مع الجريمة باعتبارها رد فعل، فما لم يكن رد الفعل متناسباَ مع أن هناك الفعل بل مساوياً له، فإن العقوبة تكون في هذه الحالة فاشلة في علاج الإجرام.
والذي يحصل أن كثيراً من المجتمعات في العقوبة تفرق بين الإفراط والتفريط فبعضها يتشدد في العقوبة ويقسو حتى تكون العقوبة أكبر من الجريمة، مما يدفع بالمجرم أو عائلته أو عصابته أن يسعوا في استعادة الفرق، وقد تكون العقوبة أقل من الجريمة بحيث تغرى المجرم بالعودة إلى الجريمة أو تدفع المعتدى عليه إلى الأخذ ببقية حقه بنفسه، أما بالنسبة للمجتمعات المفرطة في العقوبة المتساهلة فيها فأمثلتها كثيرة ونستطيع أن نقول إن أكثر الدول الغربية في الوقت الحاضر ومن سار في ركابها من الدول الإسلامية على هذه الشاكلة، من تدليل المجرم وعدم معاملته بحزم.
أما المجتمعات المفرطة المتشددة فمنها بعض المجتمعات الغربية إلى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، فقد عرفت بريطانيا في القرن التاسع عشر التشهير بمرتكبي جنايات الغش في مواد التموين، فكان الخباز الذي يبيع خبزاً يقل وزناَ عن الوزن القانوني، يربط إلى إطار خشبي ويتدلى عنقه من فتحة الإطار، وقد علق بعنقه رغيفٌ، وربما عوقب بوضع أصابع اليدين في آلة ضاغطة أو بالضغط عَلى الساقين، وعرفت الصين حتى تاريخ حديث ألوانا من العقوبات القاسية، كوضع ألواح من الخشب حول أعناق المتهمين ليتمكن الناس من معرفتهم عندما يمرون بهم وقد وقفوا خارج جدار السجن [14] . وفى الهند أشد وأبشع فقد نشرت جريدة الرياض في أحد أعدادها أن وكالات الأنباء الهندية أعلنت أن إحدى النساء أرغمت خادمتها البالغة من العمر خمسة عشر عاما على غمس يديها في زيت حار لإثبات برائتها من تهمة سرقة ساعة وقعت في الأسبوع الماضي في مدينة راجكوت غربي الهند. وقالت الوكالة أن الضحية مانجو لا ديفي نفت التهمة التي وجهتها لها سيدتها بسرقة ساعة، وعندها قامت السيدة التي لم يعلن عن اسمها بإرغام الخادمة على غمس يديها في زيت كان يغلى على النار لإثبات أنها لا تكذب والجدير بالذكر أن مثل طرق التعذيب هذه مألوفة في الريف الهندي، ومن أمثلتها قيام الشرطة الهندية بفقأ عيون عشرين متهما في جرائم السرقة في ولاية بيهار الهندية الشرقية مؤخرا [15] وكل هذه المجتمعات المفرطة منها والمفرطة فشل في محاربة الجريمة، ولا يرجع فشل هذه المجتمعات في محاربة الجريمة لمجرد أن العقوبات لا تتناسب مع الجرائم، بل هناك أمر مهم وهو أن هذه المجتمعات المفرطة والمفرطة لا تؤمن بشرع الله ولا تحكم بحكم الله بل تتبع الهوى في أحكامها وأنظمتها وتتخبط في اجتهادها ولذلك لا يمكن أن تصل إلى نتيجة مرضية وحالة مسعدة والله تعالى يقول: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ
السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} . (المؤمنون: 71) .
أما الشريعة الإسلامية فإنها في عقوباتها متوسطة لا إفراط ولا تفريط خاصة عندما تطبق بأمانة وعدالة، فإنَها تؤثر تأثيرا بالغاً في التقليل من الإجرام والحد منه.
الحكمة من العقوبة:
إن الحكمة من العقوبة بصفة عامة هي معالجة الأمراض الاجتماعية فإذا نظرنا إلى المجتمع كوحدة واحدة وجسم واحد، ونظرنا إلى الأفراد وهم يمثلون خلايا الجسم وأعضائه وأطرافه، أمكننا أن نتصور كيف أن إيقاع العقوبات على بعض الأفراد يعتبر علاجاً للمجتمع، تماماً كما يعالج جسم الإنسان، إما بأدوية مرة، أو بالمضاد، أو بالشق والجراحة، وقد يصل الأمر إلى بتر العضو وإزالته حتى لا يكون سببا في تلف الجسم كله، وهذا ما يحصل لخلايا وأعضاء هذا الجسم الكبير المجتمع، فقد يعالج بعض أفراده بالجَلد، أو الهجر أو الحبس أو القطع أو القتل إذا لزم الأمر.
وللعقوبة من ناحية أخرى أهداف ترجع إلى الجاني وأهداف ترجع إلى عموم الناس، فبالنسبة للجاني تهدف العقوبة إلى استصلاحه وزجره إذا لم تكن العقوبة متلفه (قتلا) ، وبالنسبة لسائر الناس فإن العقوبة تهدف من ناحية إلى حماية مصالحهم الضرورية في الأعراض والأموال والأبدان، والعقول، وغير ذلك من المصالح، ومن ناحية أخرى تهدف إلى ردع المجرمين وتخويفهم وتحذيرهم من الوقوع فيما وقع فيه المتهم فيحل بهم مثل ما حل به من العقوبة.
هل العقوبات الإسلامية قاسية:
تعرضت العقوبات التي شرعها الله سبحانه وتعالى، وشرعها رسوله صلى الله عليه وسلم، لتأديب المجرمين وزجرهم وردعهم، من جلد وهجر أو قطع أو رجم أو قتل، لقد تعرضت للهجوم والسخرية والاستهزاء من قبل كثير من الكتاب، فتارة توصف بأنها وحشية وتارة توصف بأنها عقوبات قاسية قديمة ولا تليق بالعصر الحديث، ومن المؤسف أن نجد مثل هذا الانتقاد عند بعض الكتاب المسلمين، فهذا أحد الكتاب وهو يتحدث عن العقوبات وتطورها يقول: والتعويض المدني يمتاز عن الدية بأنه مرن يزيد وينقص حسب مقدار الضرر الناتج عن الجريمة، كما أنه يمتاز عن القصاص في أنه لا يقصد به مجرد الانتقام من الجاني وإنما يقصد به إزالة الضرر الواقع على المجني عليه إذا أمكن، أو تعويضه عن هذا الضرر ليخفف أثره إذا لم تكن الإزالة ممكنة، كما أن التعويض المدني يمتاز عن الدية والقصاص في أنه حق مدني منفصل عن العقوبة فيمكن للمجني عليه أن يتنازل عنه، ولكن ذلك لا يعفى الجاني من العقوبة التي هي حق للمجتمع [16] وهذا كلام جاهل بالشريعة، وإلا فأي مرونة أكثر من المرونة في تقاد ير الديات في التشريع الإسلامي وتقديرها بحسب الضرر الذي يصيب المجني عليه، ولم تبلغ شريعة من الشرائع ولَا نظام من الأنظمة ما بلغته هذه الشريعة في تقدير الديات بحسب الإصابة، حتى قدروا للظفر ديته، وللشعر ديته، ولكل جرح بحسب غوره في البدن ديته التي تناسبه، فأي مرونة أكثر من هذه المرونة، ومن ذا الذي يجهل أن للمجني عليه أن يتنازل عن الدية، بل هو مدعو إلى ذلك ومرغّب فيه، كما أن التنازل عن الدية لا يعنى الإعفاء من المسئولية مطلقا، بل لولى الأمر أن يعزر الجاني تعزيراً مناسبا، كل هذه المعلومات يدركها أقل المسلمين اطلاعا، ولكنه الجهل أو التجاهل.
وفي موضع آخر يقول: "ومنذ بدأت حركة إصلاح النظم الجنائية في العصور الحديثة أصبحت العقوبات البدنية محل هجوم شديد من ناحية الفلاسفة والمصلحين، باعتبار أنها تتضمن امتهاناً لكرامة الإنسانية الواجب رعايتها حتى بالنسبة للمجرمين
…
"إلى أن قال: "ولم تشذ التشريعات العَربية عن تأثير المذاهب الإصلاحية بل نرى أن التطور التشريعي في بلادنا يأخذ نفس الاتجاه
…
"ثم يمضى في كلامه
…
"ورغم أن الاتجاه الحديث يرمى إلى الغاء هذه- العقوبات الجسمانية، لما يترتب عليها من مهانة وإذلال للآدمي بمعاملته معاملة الحيوان، فإن بعض المؤلفين يرى ضرورة بقائها في أحوال معينة، ولكن الاتجاه الغالب في العالم المتحضر يدعو إلى الغائها باعتبارها لا تتناسب مع المدنية الحاضرة"[17] أما عقوبة القتل فهي بزعمهم أصبحت محل نقد كثير من الفلاسفة والباحثين، لأنهم يرون أن القتل إجراء وحشي لا يجوز أن يرتكبه المجتمع ضد أحد الأفراد لأي سبب كان مادام يمكن الاستعاضة عنه بالسجن المؤبد [18] .
وعن عقوبة الجَلد: لقد تأثرت التشريعات المعاصرة بالنقد الموجه إلى عقوبة الجلد أو الضرب ذلك النقد الذي يستند إلى منافاتها لكرامة البشرية إذ أن استعمال الضرب في تأديب الإنسان تشبيه له بالحيوان ونزول به إلى مرتبة الدواب مما يتعارض مع الاحترام الذي تقتضيه الَصفة الإنسانية التي لا يمكن نزعها عن الشخص لمجرد أرتكابه جريمة [19] . هذا نموذج من النماذج الكثيرة. ونحن نرد على هؤلاء المتهجمين بردين رد مجمل ورد مفصل مع الاختصار الذي يقتضيه المقام.
فأما الرد المجمل:
فإن هؤلاء المتهجمين على العقوبات الإسلامية أحد رجلين، أما كافر بالإسلام لا يؤمن بالله ولا برسوله صلى الله عليه وسلم، وأما مسلم، فبالنسبةَ للكافر فإن القضية مع الكفار أكبر وأعظم من أن تقف عند فرع من فروع الدين فهم أصلا لا يؤمنون بالله سبحانه ومن يزعم منهم أنه يؤمن بالله فهولا يؤمن به الإيمان الصحيح الكامل، ولا ينطلق في إيمانه من تصور صحيح. فهم لا يؤمنون بالرسول ولا يقرون برسالته ولا يؤمنون بالقرآن ولا بالبعث بعد الموت والحساب والجزاء. وهذه القضايا أخطر وأكبر من قضية العقوبات. فمادام هؤلاء لا يسلمون بأصول الدين ولا يسلمون لله سبحانه بالحكمة والعدالة والرحمة، بل إنهم ليتهجمون على الشريعة الإسلامية ويسخرون منها فمن باب أولى ألا يسلموا بما دون ذلك. وأما المسلم الذي يتهجم على العقوبات الإسلامية فإما أن يكون متظاهرا بالإسلام مجرد تظاهر وهو يبطن الكفر والإلحاد والنفاق، فهذا شأنه شأن الفريق الأول، وإما أَن يكون مسلما ضعيفا جاهلا، فهذا ينبغي أن يعرف أنه لا يصح إيمانه حتى يسلم بكل ما شرعه الله وشرعه رسوله صلى الله عليه وسلم، فالله سبحانه وتعالى عليم حكيم خبير، متصف بكل صفات الكمال منزه عن كل صفات النقص فأحكامه وشرائعه تبدو فيها صفاته من الحكمة والرحمة وقد ندرك ذلك وقد لا ندركه ولكن مقتضى الإيمان أن نسلم لله سبحانه بكل ما شرعه لنا، وإن كان هذا لا يمنع أن نتحرى الحكمة ونبحث عن أسرار التشريع بأدب مع الله سبحانه ومع رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا هو الرد المجمل باختصار.
أما الرد المفصل فإنه:
يحتاج منا إلى وقفات وهى وقفات سريعة حيث أن المقام لا يتحمل الإطالة.
الوقفة الأولى:
مقارنة العقوبات الإسلامية بالعقوبات في المجتمعات الأخرى لنرى مدى القسوة والشدة فيهما، ولقد تطرق الأستاذ عبد القادر عوده رحمه الله في كتابه التشريع الجنائي الإسلامي إلى شيء من ذلك فقال:"فإذا قدرنا أن الجرائم التعزيرية التي يمكن العقاب عَليها بالقتل تصل إلى خمس جرائم، كانت كل الجرائم المعاقب عليها بالقتل في الشريعة لا تزيد على عشر جرائم عند من يجيزون القتل تعزيرا، وكان عددها لا يزيد على خمس جرائم عند من لا يجيزون القتل تعزيرا، وتلك ميزة انفردت بها الشريعة الإسلامية من يوم نزولها، فهي لا تسرف في عقوبة القتل ولا تفرضها دون مقتضى، ونستطيع أن نحيط بمدى تفوق الشريعة في هذه الوجهة، إذا علمنا أن القوانين الوضعية كانت إلى آواخر القرن الثامن عشر تسرف في عقوبة القتل إلى حد بعيد، بحيث كان القانون الإنجليزي مثلا يعاقب على مائتي جريمة بالإعدام، والقانون الفرنسي يعاقب على مائة وخمس عشرة جريمة بالإعدام"[20] .
ويقول في موضع آخر وهو بصدد الحديث عن أساس المسئولية الجنائية، "كانت القوانين الوضعية في العصور الوسطى والى ما قبل الثورة الفرنسية تجعل الِإنسان والحيوان بل والجماد محلا للمسئولية الجنائية، وكان الجماد يعاقب كالحيوان على ما نسب إليه من أفعال ضارة، كما يعاقب الإنسان على ما ينسب إليه من أفعال محرمة، وكانت العقوبة تَصيب الأموات كما تصيب الأحياء، ولمِ يكن الموت من الأسباب التي تعفى الميت من المحاكمة والعقاب. ولم يكن الإنسان مسئولا جنائياً عن أفعاله فقط وإنما كان يسأل عن عمل غيره ولو لم يكن عالماً بعمل هذا الغير، ولو لم يكن له سلطان على هذا الغير، فكانت العقوبة تتعدى المجرم إلى أهله وأصدقائه وتصيبهم كما تصيبه، وهو وحده الجاني وهم البرءاء من جنايته.
وكان الإنسان يعتبر مسئولا جنائيا عن عمله، سواء كان رجلا أو طفلا مميزا أو غير مميز وسواء كان مختَارا أو غير مختار، مدركا أو فاقد الإدراك وكانت الأفعال المحرمة لا تعين قبل تحريمها، ولا يعلم بها الناس قبل مؤاخذتهم عليها، وكانت العقوبات التي توقع غير معينة في الغالب
…
" الخ [21]
وكان من الممكن في بعض الشرائع القديمة بل وفي العصور الوسطى في أوربا نفسها أن توقع العقوبات الجنائية على حيوان، أو على جثة الجاني بعد موته أو على من به مس من الجنون [22] .
ولقد ألمحتُ في الفقرة السابقة إلى بعض العقوبات القاسية التي تمارس في بعض المجتمعات كما في الهند والصين- فالعقوبات الإسلامية كما نلاحظ من هذا العرض المختصر المقارن أشد ما تكون قتلا أو قطعا ومع ذلك فعدد الجرائم التي يعاقب عليها بالقتل لا يجاوز العشر أو الخمس، والجرائم التي يعاقب عليها بالقطع جريمتان فقط. وسوف نلاحظ فيما بعد الحكمة الدقيقة في سن هذه العقوبات للجرائم الخاصة بها.
والقوانين الوضعية وإن كان أغلبها في العصر الحاضر قد استبدل عقوبة الحبس المؤبد بعقوبة الإعدام وصارت تركز على عقوبة السجن مؤقتا أو مؤبدا فإن السجن المؤبد أو الطويل الأجل ليس إلا قتلا بالتقسيط للمجرم، وقتلا لأسرته معه، فلا هو بالميت الذي استراح من عناء السجن ورهبته وأفضى إلى ما قدم من خير أو شر، ولا هو بالمطلق سراحه ليعمل ويكدح، وكم تعاني أسرة السجين من الشقاء والضياع، وكم تفقد من العناية والرعاية.
ولقد لخص "عودة"رحمه الله عيوب عقوبة الحبس بعدة نقاط مؤيدة بالأرقام الإحصائية فذكر منها [23] :
أولا: إرهاق خزانة الدولة وتعطيل الإنتاج فلاشك أن الدولة سوف تتحمل نفقات كبيرة لإعداد السجون وصيانتها والعناية بها، ومع ذلك فلا يزال السجناء يعانون في كثير من الدول من قلة العناية والرعاية.
ثانيا: إفساد المسجونين ويقول بهذا الصدد وكان من الممكن أن تتحمل الجماعة هذه الخسارة الكبيرة سنوياً أي نفقات هذا السجن والسجناء لو كانت عقوبة الحبس تؤدي إلى إصلاح المسجونين، ولكنها في الواقع تؤدي بالصالح إلى الفساد وتزيد الفاسد فساداَ على فساده، فالسجن يجمع بين المجرم الذي ألف الإجرام وتمرس بأساليبه، وبين المجرم المتخصص في نوع من الإجرام وبين المجرم العادي، كما يضم السجن أشخاصاً ليسوا بمجرمين حقيقين، وإنما جعلهم القانون مجرمين اعتبارا كالمحكوم عليهم في حمل الأسلحة أو لعدم زراعة نسبة معينة من القمح والشعير، وكالمحكوم عليهم في جرائم الخطأ والإهمال، إلى آخر ما ذكره رحمه الله. فحاصل ما ذكر أن السجن أصبح مدرسة إجرامية يلقن فيها المجرمون العتاة والمعتادون المبتدئين من المجرمين.
إلى أن قال: ولقد دلت المشاهدات على أن الرجل يدخل السجن لأمر لا يعتبره العرف جريمة كضبط قطعة سلاح معه، وكان المعروف عنه قبل دخوله السجن أنه يكره المجرمين ويأنف أن يكون منهم، فإذا خرج من السجن حبب إليه الإجرام واحترافه بل صار يتباهى به إلى آخر ما ذكر، وهو كلام جيد مدعم بالإحصائيات فيحسن الرجوع إليه.
ثالثا: قتل الشعور بالمسئولية: وعقوبة الحبس فوق أنها غير رادعة فإنها تؤدى إلى قتل الشعور بالمسئولية في نفوس المجرمين، وتحبب إليهم التعطل، خاصة من يقضى منهم مدة طويلة في السجن.
رابعا: انعدام قوة الردع: إن عقوبة الحبس قد فرضت على أساس أنها عقوبة رادعة ولكن الواقع قد أثبت أنها لا فائدة منها ولا أثر لها في نفوس المجرمين، فالذين يعاقبون بالأشغال الشاقة وهى أقصى أنواع الحبس لا يكادون يخرجون من السجن حتى يعودوا لارتكاب الجرائم، ولو كانت العقوبة رادعة لما عادوا، لما عوقبوا عليه بهذه السرعة ثم ذكر إحصائيات تدعم ذلك.
ومن الطريف ما ذكره بعض الكتاب أنهم في أمريكا قاموا بعرض أفلام على السجناء عن بعض المجرمين وكيف كانت نهايتهم المحزنة، وأن الجريمة لم تجرهم إلا إلى الخيبة والفشل، ثم استطلعوا آراء السجناء ليعرفوا مدى تأثرهم بهذه الأفلام وتأثيرها في سلوكهم، وكان الباحثون يتوقعون أن يعتبر السجناء بمصير المجرمين ويتعظوا، ولكن الذي حصل هو أن السجناء كانوا يركزون على البحث في نقاط الضعف في الخطط التي سلكها المجرمون، ويركزون على الأخطاء التي صدرت عنهم، وكانت سببا في القبض عليهم، فكانوا يقولون لو أن المجرم عمل كذا لنجا، ولو أنه لم يعمل كذا لما قبض عليه وهكذا، مما يدل على تأصل الروح الإجرامية في هؤلاء، وأن السجن لم يزدهم إلا عتوا وتمردا، مصادقا لما ذكره عودة رحمه الله.
خامسا: ازدياد سلطان المجرمين بعد خروجهم من السجن وتمردهم على المجتمع.
سادسا: انخفاض المستوى الصحي والأخلاقي نظرا لأن السجون ثابتة المساحة. بينما السجناء يزداد عددهم يوما بعد يوم، وبالتالي ينخفض مستوى الخدمات التي تقدم لهم.
سابعا: ازدياد الجرائم: وقد وضعت عقوبة الحبس على اختلاف أنواعها لمحاربة الجريمة ولكن الإحصائيات التي لا تكذب تدل على أن الجرائم تزداد عاماً بعد عام زيادة تسترعى النظر وتبعث على التفكير الطويل ثم أورد الإحصائيات الرسمية التي تؤيد ذلك.
ثامنا: وأمر مهم أغفله "عودة"رحمه الله ألا وهو وضع عوائل المسجونين. من ينفق عليها، ومن يقوم بشأنها، ومن يتولى تصريف شئونها وتدبير أمورها، من يغمر صغارهم بالعطف والمودة، لاشك أن أسرة السجين سوف تتعرض للضياع، وربما لحقت بوليها في ركاب الإجرام نتيجة الانحراف الذي ينجرف بها إلى الإجرام، وبسبب الحاجة الماسة وانعدام الشفقة والعطف، وربما قيل إن المجرم وجوده كعدمه في الأسرة. بل قد يكون وجوده وبالا عليها وسببا في ضلالها وانحرافها إن كان وليا لها أو مجرد فرد من أفرادها ربما قيل ذلك.
ولكننا نقول أولا إن أكثر المسجونين والعدد الأكبر منهم ليسوا مجرمين بمعنى الكلمة كما ذكر "عودة"رحمه الله، وليست قضاياهم بالقضايا الإجرامية الخطيرة، بل قد لا تكون جريمة على الإطلاق، ولكنها مخالفة بسيطة وبالتالي فلا خوف على السجين لأنه ليس مجرما.
ثانيا: إن المجرم مهما كان متماديا في الأجرام فإنه أولى برعاية أسرته وهو أشفق عليها وأرحم بها من غيره، كما أن الحيوانات المتوحشة تعطف على أبنائها وتربيهم رغم ما فيها من القسوة والوحشية، فكذلك هذا الإنسان المجرم اللهم إلا في الجرائم الخطيرة جدا وهي قليلة نادرة فقد تقتضي المصلحة عزلة الَمجرم وإبعاده عن أسرته لألا يفسدها وهذا نادر.
فمن هذه الوقفة يتبين لنا كيف أن العقوبات الإسلامية هي أفضل بكثير من العقوبات الوضعية التي تتمثل أكثر مما تتمثل بالسجن المؤقت أو المؤبد والذي ذكرنا شيئا من مساؤه وعيوبه فالعقوبات الإسلامية أفضل في حق المجرم وفي حق المجتمع.
الوقفة الثانية:
هؤلاء الذين يزعمون أن العقوبات الإسلامية قاسية هل درسوها حقيقة وعرفوا الجرائم الشنيعة التي فرضت من أجلها هذه العقَوبات، وهل أدركوا مدى تأثير هذه الجرائم على المجتمع وخطورتها عليه، ولو أنهم لاحظوا ذلك لما نبسوا ببنت شفه. ومن ناحية أخرى هل درسوا أدلة الإثبات في هذه الجرائم وكيف أن أدلة الإثبات متناسبة مع العقوبة ومع الجريمة فكما أن العَقوبة مشددة فإن أدلة الإثبات كذلك مشددة فيها، وهناك شروط متعددة ودقيقة ولابد من توافرها في المجرم والجريمة كي توقع العقوبة على المتهم.
إن أغلب الظن أن هؤلاء المتهجمين على العقوبات الشرعية يسمعون بها مجرد سماع دون أن يدرسوها دراسة متأنية منصفة متجردة، وإلا لو فعلوا ذلك لما وسعهم إلا الإكبار لهذه الشريعة في أحكامها العادلة.
الوقفة الثالثة:
لماذا هؤلاء دائما في صف المجرم، ولا يرِد في تصورهم إلا المجرم وهو تحت العقوبة جلداً أو قطعا أو قتلاً، ولا يرد في تصورهم مطلقاَ ذلك الضحية المسكين، الذي اعتدى عليه بغير حق، فجرح أو فقئت عينه أو قتل ظلماً وعدواناً، أليس المعتدى عليه أولى بالعطف والشفقة والرحمة من ذلك المجرم.
الوقفة الرابعة:
إن العقوبات الشرعية التي تبدوا شديدة لا تخرج عن حالتين:
الحالة الأولى: القصاص حيث يجرح من جرح قصاصاً، وتفقأ عينه قصاصاً إذا فقأ عين غيره عمدا أو جرحه عمدا. ويقتل من قتل قصاصاً، إذا قتل على وجه العمد، ولا يمكن أن يعترض حكيم أو عاقل منصف على هذه النظرية، نظرية القصاص حيث يعاقب المجرم بنفس الطريقة التي أرتكبها مع الضحية ما أمكن ذلك، إلا في الحالات التي لا يمكن تنفيذ القصاص فيها، أو أن القصاص يؤدى إلى مفسدة. فيما عدا ذلك فالقصاص هو الأصل ولا يعترض عليه أو ينتقده إلا مغفل أو مغرض. هذه حاله.
الحالة الثانية: أن تكون العقوبة التي تبدو شديدة جدا، والعقوبات الحدية التي قد تكون شديدة لا تزيد عن ثلاث: عقوبة الزاني المحصن رجما، والمحارب قاطع الطريق، بقطعه من خلاف، يده اليمنى، ورجله اليسرى والسارق بقطع يده اليمنى، وهذه الجرائم لا يمكن بحال من الأحوال أن تعالج إلا بهذه العقوبات، هذا أمر، والأمر الثاني أن من ينظر في هذه الحدود الثلاثة وطرق إثباتها يلاحظ أنها لا تثبت إلا عن طريقين فقط.
الطريق الأولى: طريِقة الاعتراف الصحيح، الخالي من الموانع، الصادر من عاقل بالغ، وفى حالة معتبرة شرعاً، دون إكراه أو ضرورة، وأن يثبت على إقراره حتى يتم تنفيذ العقوبة فيه، وله الحق أن يرجع عن إقراره ولو بعد الشروع في معاقبته.
فأي شدة أو قسوة في ذلك؟ إذا كان إنسان عاقل بالغ مدرك يختار عقوبته بنفسه ويعلم أنه سوف يرجم أو تقطع يده أو يجلد إذا أصر على إقراره واستمر فيه، فما ذنب الحاكم في ذلك، إذا كان هذا المتهم مؤمن ومعتقد بأنه سوف يقدم على ربه، ويعتبر تحمل هذه العقوبة من باب التوبة الصادقة مع العلم بأنه لا يجوز التحايل لأخذ الإقرار في الحدود، بل القاعدة على العكس حيث يستحب تلقين المتهم ما يصرفه عن الاعترَاف الصريح.
الطريقة الثانية: أن تثبت هذه الحدود عن طريق الشهادة، وإنها لطريق صعبة، ومسلك وعر، فقد وضعت شروط دقيقة عديدة، قل أن تتوفر، خاصة بالنسبة للزنا، فهناك شروط في الشاهد، وهناك شروط في الشهادة وشروط في الإحصان، وشروط في الزنا، ومن النادر جدا أن تتوفر هذه الشروط في قضية من القضايا [24] .
ولقد سألنا من نعرف من العلماء والباحثين عما إذا كانوا يعرفون واقعة زنا ثبتت في عصر من العصور بالشهادة، فلم نجد عندهم جوابا، مما يدل على أن هذا الأمر نادر جدا، فهذه العقوبات والله أعلم هي للتهويل والتخويف، والتهييب للمجرمين، أكثر مما يراد بها إيقاعها بهم. فالمجرم لاشك أنه إذا علم بهذه العقوبة الشديدة، سوف يتصور أنها ربما أوقعت به، ولا يزال في ذهنه شيء من الاحتمال مهما كان قليلا، وهذا التصور وهذا الاحتمال له دور كبير في صرف المجرم عن جريمته، ولفت نظره لإعادة الحساب. والله سبحانه وتعالى أعلم.
الوقفة الخامسة:
لننظر في نتائج وآثار العقوبات الإسلامية في المجتمع الإسلامي، وآثار العقوبات الوضعية في المجتمعات الأخرى.
لقد كانت آثار هذه العقوبات التي يزعمون أنها قاسية، لقد كانت آثارها الاستقرار والأمن الذي لا يتصور، فلا تكاد تحدث جريمة، فاطمأن الناس على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم وانصرفوا إلى العمل والإنتاج والإصلاح حتى إن الرجل ليترك متاعه في الطريق دون أن يتعرض له أحد بسوء، وينقل لنا الأستاذ أبو الحسن الندوي انطباعات الأستاذ محمد أسد، وهو من النمسا عندما زار دمشق في أول القرن العشرين الميلادي، ويوم كانت دمشق تعيش تحت ظل الخلافة العثمانية، على ما كان فيها من تقصير وإهمال يقول:"وقفت على ذلك الاستقرار الروحي في حياة سكانها، إن أمنهم الباطني كان يمكن أن يرى في الطريقة التي كان أحدهم يتصرف بها نحو الآخر، ثم يسترسل فيقول: وفي الطريقة التي كان أصحاب الدكاكين يعاملون بعضهم بعضا، أولئك التجار في الحوانيت الصغيرة الذين كانوا يبدون وكأنما ليس فيهم أيما قدر من الخوف أو الحسد، حتى إن صاحب دكان فيهم ليترك دكانه في عهدة جاره ومزاحمه، كل ما دعته حاجته إلى التغيب بعض الوقت، وما أكثر ما رأيت زبونا يقف أمام دكان غاب صاحبه عنه، يتساءل فيما بينه وبين نفسه، ما إذا كان ينتظر عودة البائع أو ينتقل إلى الدكان المجاور، فيتقدم التاجر المجاور دائما "التاجر المزاحم "، ويسأل الزبون عن حاجته ويبيعه ما يطلب من البضاعة، لا بضاعته هو بل بضاعة جاره الغائب، ويترك له الثمن على مقعده، أين في أوربا يستطيع المرء أن يشاهد مثل هذه الصفقه. هذه صورة [25] .
أما الصورة الثانية: فينقلها لنا الأستاذ الدكتور عبد القادر عودة رحمه الله، وهو يشير إلى ازدياد الجرائم في المجتمع المصري، بسبب عدم تطبيق التشريعات الإسلامية، مقارناً بين المجيمع المصري والمجتمع السعودي في ظل الإسلام، فيقول إن الحالة الإقتصادية مهما قيل فيها لا تكون سبباً في ازدياد الجرائم، ما دامت العقوبة رادعة، وليس أدل على صحة هذا القول من الحالة في الحجاز، فلا شك أن الحالة الإقتصادية والاجتماعية في مصر أفضل منها في الحجاز، ومع ذلك فقد قلت الجرائم في الحجاز وازدادت في مصر وانتشر الأمن هناك واختل هنا. ولقد كان الحجاز في يوم ما مضرب الأمثال في اختلال الأمن والنظام، والجرأة على ارتكاب الجرائم وترويع الآمنيين، والحجاج والمسافرين، وقطع الطريق عليهم لنهب مالهم ومتاعهم، ولعل الحالة الإقتصادية والاجتماعية في الحجاز الآن ليست خيراً منها يوم كان الفساد مستشرياً في الحجاز، والفرق بين الحجاز قديماً وحديثاً هو نفس الفرق بين مصر والحجاز اليوم، هو وجود العقوبة الرادعة في الحجاز الآن، وانعدامها قديماً، وهو كذلك انعدام هذه العقوبة في مصر اليوم، فهذه العقوبة الرادعة في ظل الشريعة الإسلامية هي التي وطدت الأمن في الحجاز، وقضت على السلب والنهب وقطع الطريق، وجعلت الأمن فيه مضرب الأمثال، فلا يسقط من مسافر شيء إلا وجده في دار الشرطة، ولا يضيع لأحد شيء إلا رد إليه حيث كان، ولو لم يبلغ بضياعه مادام مع المال ما يدل على اسم صاحبه [26] وهذا ما نعيشه الآن في هذه البلاد والحمد لله حيث أن الإنسان دائما- إلا في حالات نادرة- مطمئن على متاعه وعلى أمواله يتركها غالبا دون ماَ حراسة تذكر ودون اهتمام بها فيوفر المجتمع بذلك طاقات كبيرة وجهودا كثيرة بينما الدول الأخرى كما هو معروف، حيث نقرأ يوميا عن الجرائم البشعة التي لا تتصور، حيث تداهم البيوت والمؤسسات المالية ويهجم على المصارف ويختطف التجار
والسياسيون، أو أبناؤهم ولا يطلقون إلا مقابل فدية مالية كبيرة، وتختطف الطائرات أما لأغراض سياسية أو لأغراض إجرامية بحته، وأصبح الناس في كثير من الدول التي تزعم أنها متطورة ومتقدمة وفي قمة الحضارة، أصبح الناس يحذرون من التجول بعد غروب الشمس، وهذا الأستاذ محمد قطب يذكر في إحدى محاضراته أنه في سان فرنسسكو حدثه أكثر من شخص وأنه قرأ في الصحف كذلك، أن الإنسان لا يملك أن يخرج وحده في هذه المدينة بعد غروب الشمس، ويقول: كنت في زيارة قصيرة لمدينة صغيرة في فلادليفيا مدينة أشبه بالمدن الريفية وهي بالنسبة لمدننا كبيرة ولكنها بالنسبة للمدن الأمريكية صغيرة جدا، وجاء الغروب فحدثتنا أنفسنا أن نخرج قليلا للتنزه، فقال لنا المقيمون هناك، احذروا، لا تستطيعون أن تخرجوا، قلنا لماذا، قالوا بسبب العصابات، حيث إنها تبدأ عملها بعد غروب الشمس، قتلا وخطفا وسرقة [27] .
وهذه دولة من الدول الحديثة، المتقدمة صناعيا، وهي ألمانيا، تقول عنها إحدى الجرائد اليومية، أنه في تقرير نشر عنها أظهر أن لصوص ألمانيا الغربية يحافظون على سمعة مواطنيهم، بوصفهم شعباً عرف بتفانيه في العمل، فقد أوضح التقرير أن هؤلاء اللصوص يرتكبون حادث سرقة كل دقيقة في شتى أنحاء البلاد، وتقدر لجنة غير حكومية قيمة الممتلكات التي تتعرض للفقد أو الإتلاف نتيجة للسرقات بثلاثة آلاف مليون مارك في العام الواحد، وقد طالبت اللجنة المواطنين الذين يقضون عطلاتهم خارج مساكنهم بتأمين منازلهم بواسطة الأقفال والسلاسل، أو أجهزة الإنذار [28] .
ولم يزل الإجرام يفتك بالدول الغربية وغيرها حتى أصبح المجرمون لهم مراكز خطيرة، وكلمة نافذة، بل أصبح لهم مؤسسات رسمية أو شبه رسمية، تحميهم وتدافع عنهم، حتى صاروا كما يقال حكومات داخل الحكومات. ويقول الأستاذ عودة رحمه الله في هذا الصدد، وهو يتحدث عن سلطان المجرمين "ومن المجرمين من يغادر السجن ليعيش عالة على الجماعة، يستغل جريمته السابقة لإخافة الناس وإرهابهم، وابتزاز أموالهم، ويعيش على هذا السلطان الموهوم وهذا المال المحرم، دون أن يفكر في حياة العمل الشريف والكسب الحلال، وقد أصبح سلطان هؤلاء المجرمين على السكان الآمنين، يزاحم سلطان الحكومات، بل أصبح المجرمون في الواقع أصحاب الكلمة النافذة، والأمر المطاع، ومن الوقائع التي اعرفها ويعرفها غيري أن رجال الإدارة يستعينون بالمجرمين أيام الانتخابات العامة، ليوجهوا الناخبين المتمسكين بحزبيتهم، وجهات معينة بعد أن يعجزوا هم عن هذا التوجيه.
وقد أدى هذا المركز الخطير، إلى زيادة المجرمين الشباب الذين يتطلعون بدافع من طموحهم إلى نوال كل مركز ممتاز كما أدى إلى قلب الموازين والأوضاع، فبعد أن كانت الجريمة عارا وذلا في القديم، أصبحت اليوم مدعاة للتباهي والتفاخر، وبعد أن كان المجرم يطرد ذليلا مهانا، أصبح اليوم عزيز الجانب مسموع الكلمة نافذ السلطان" [29] .
فهذه هي بعض آثار العقوبات الوضعية في المجتمعات الغربية ليست إلا خوفا واضطرابا ورعبا وزيادة مضطردة في عدد الجرائم وأساليبها وأنواعها.
وتلك بعض آثار العقوبات الشرعية ونتائجها في المجتمع الإسلامي قديما وحديثا، أمن واستقرار واطمئنان وانخفاض في نسبة الجرائم، فأي الفريقين أحق بالأمن، وأي الفريقين أحق بالفخر والاعتزاز، فليصفوا العقوبات الشرعية بما شاءوا من الأقاويل، وليتهجموا مادامت تلك آثارها وهذه نتائجها.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وآله وأصحابه أجمعين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
لسان العرب لابن منظور ج/12 ص 91.
[2]
تاج العروس للزبيدي ج/8 ص 224.
[3]
انظر تفسير النسفي ج/3، ج/ 4 ص 60، 341، ص 282.
[4]
الأحكام السلطانية للما وردي ص 219.
[5]
وانظر القرطبي ج/19 ص 267، ج/18 ص 286، 246.
[6]
انظر فتح الباري ج/13 ص 264.
[7]
المسند ج/6 ص 57، الفتح الرباني ج/7 ص 116.
[8]
انظر فتح الباري ج/13 ص 216.
[9]
انظر فتح الباري ج/2 1 ص 259، ج/6 ص 269.
[10]
المسند ج/5 ص 4 41 وهو صحيح وقد أخرجه مسلم والترمذي أنظر سلسلة الأحاديث الصحيحة ج/ 4 ص هـ 34.
[11]
جامع الأصول ج/ 2 ص هـ 1 5، سنن الترمذي ج/7 ص 1 9 1 وراجع كشف الخفاء ج/ 2 ص 76 1 وأسنى المطالب للحوت البيروتي ص 167.
[12]
لا ينبغي أن يفهم من ذلك أن العقوبة لا توقع عليهم إلا في حالة الإصرار بل أن العقوبة توقع على المجرم بمجرد ارتكابه للجريمة ولو لم يصر أو تتكرر منه، إلا في التعازير فالأمر فيها يختلف.
[13]
تعريف العقوبة:
يقول صاحب اللسان: العقاب والمعاقبة أن تجزي الرجل بما فعل سوء، والاسم العقوبة وعاقبه بذنبه معاقبة وعقابا: أخذه به. هذا عند أهل اللغة. (لسان العرب لابن منظور 1/ 619) .
عرفها بعض الفقهاء "بأنها الجزاء المقرر لمصلحة الجماعة على عصيان أمر الشارع". (أورده عبد القادر عودة في التشريع الجنائي (1/609) .
[14]
الجريمة والعقاب في المجتمع القبلي الإفريقي: محمد عبد الفتح إبراهيم (ص 40 ا-141) .
[15]
جريدة الرياض العدد 4723 الصادر بتاريخ 3/1/ 1 0 4 1 هـ.
[16]
العقوبات الجنائية في التشريعات العربية: د. توفيق الشاوي الصفحات 24، 73- هـ 7.
[17]
العقوبات الجنائية في التشريعات العربية. د. توفيق الشاوي الصفحات 24، 73- هـ 7.
[18]
العقوبات الجنائية في التشريعات العربية. د. توفيق الشاوي الصفحات 24، 73- هـ 7.
[19]
العقوبات الجنائية في التشريعات العربية. د. توفيق الشاوي 24، 73- هـ 7.
[20]
التشريع الجنائي الإسلامي ج 1ص 9 68.
[21]
التشريع الجنائي ج1 ص 381.
[22]
محاضرات عن المسئولية الجنائية في التشريعات العربية. د. توفيق الشاوي ص 32.
[23]
لقلتها من التشريع الجنائي ج1 من الصفحة 732-.74. ملخصة بشيء من التصرف.
[24]
ذكر صاحب المغنى أنه حصل في عهد الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله واقعة زنا ثبتت بالشهادة وذلك في الجزء السابع ص163 في كتاب الفرائض.
[25]
من نهر كابل إلى نهر اليرموك أبو الحسن الندوي ص 155.
[26]
التشريع الجنائي ج 1ص 740.
[27]
من محاضرة ألقاها الأستاذ محمد قطب في كلية الشريعة لجامعة قطر في أول عام 401 اهـ.
[28]
جريدة الرياض العدد 1333 الصادر بتاريخ 6/ 5/ 396 1 هـ.
[29]
التشريع الجنائي 1/737.
الإمدَادُ بأحكاَمِ الحداَدِ
(2)
للدكتور فيحان شالي المطيري
أستاذ مساعد بكلية الشريعة
الفصل الخامس في زمن، الإحداد
عرفت آنفاً أقسام الإحداد من حيث الجملة وأنها قسمان جائزٌ وغير جائزٍ وأن كل منهما ينقسم إلى قسمين إذا تقرر هذا فاعلم أن كلامنا هنا خاصٌ بزمن الإحداد والجائز في شريعتنا إذ أننا مطالبون بما فيها من أحكام فنقول: الحداد الجائز على ضربين. على ما بينا قريباً، حداد على القريب الميت غير الزوج وحداد على الزوج وطبقا لهذا التقسيم يكون الكلام في المدة الزمنية اللازمة للإحداد.
وقد رأيت أن أجعل هذا الفصل مبنيا على مبحثين. المبحث الأولى زمن الإحداد على القريب الميت غير الزوج، المبحث الثاني زمن الحداد على الزوج الميت.
المبحث الأول: زمن الحداد على القريب الميت:
إعلم أن الحداد على القريب الميت هو ابتعاد المرأة عن كل مظاهر الزينة التي يدعو فعلها إلى الفرح والسرور ويتنافى مع مظاهر الحزن من المرأة على ذلك الميت. ومن المعلوم أن الشريعة الإسلامية قد رسمت الطريق الذي ينبغي أن تسلكه المرأة عند فقد قريبها وبينت المدة اللازمة للإحداد والتي لا ينبغي تجاوزها وقد رعت الشريعة في ذلك حق المرأة وحق القريب على حد قوله: "لا ضرر ولا ضرار" ومقدار هذه المدة ثلاثة أيام بلياليها يوضحه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة أن تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا".
فقوله: "فوق ثلاث" يفيد جواز الثلاث فما دونها وعدم جواز الزيادة عليها إلا فيما دلّ عليه الاستثناء. قال ابن حجر في الفتح بعد ما ذكر الحديث: "واستدل به على جواز الإحداد على غير الزوج من قريب ونحوه ثلاث ليال فما دونها وتحريمه فيما زاد عليه وكأن هذا القدر أُبيح لأجل حظ النفس ومراعاتها وغلبة الطباع البشرية ولهذا تناولت أم حبيبة وزينب بنت جحش رضي الله عنهما الطيب لتخرجا عن عهدة الإحداد وصرحت كل منهما بأنها لم تتطيب لحاجة إشارة إلى أنّ آثار الحزن باقية عندهما، لكنهما لا يسعهما إلا امتثال الأمر"[1] .
وهذا الذي ذكره ابن حجر رحمه الله وما دلت عليه الأحاديث الصحيحة الصريحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي تفيد بمنطوقها ومفهومها أن الحد الأعلى في حق المرأة للحداد على قريبها الميت هو ثلاثة أيام بلياليها.
وقد ذكر أبو داود في المراسيل بإسناده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده حديثا يعارض ظاهره هذه الأحاديث ونصه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم رخّص للمرأة أن تحد على أبيها سبعة أيام وعلى من سواه ثلاثة أيام"[2] . والجواب عن الاستدلال بهذا الحديث من وجهين: (أ) أنه ضعيف لا تقوم به حجة لكونه مرسل قال: فإن عمرو بن شعيب لم يكن من الصحابة بل ولا من التابعين، والمرسل في ضعف الاحتجاج به إنما يكون من التابعين فإذا كان الأمر كذلك فلا تعارض به الأحاديث الصحيحة.
(ب) لو سلّمنا بصحته وسلامة الاستدلال به لم نسلّم بمعارضته للأحاديث الصحيحة بل نقول هو مخصص للأب من عمومها فتحد ابنته عليه سبعة أيام بلياليها على ما هو مبين في الحديث ويبقى ما عداه من الأقارب على العموم الوارد في الأحاديث والذي يتعين اتباعه والمصير إليه هو ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة التي تم ثبتها قريباً أكثر من مرة.
المبحث الثاني: زمن الإِحداد على الزوج الميت
زمن الإحداد على الزوج الميت هو زمن العِدة ولهذا نستعرض بشيء من التفصيل لعِدة المتوفى عَنها زوجها لما بين الأمرين من العلاقة ليتّضح المراد وبالتالي نخلص لمعرفة زمن الإحداد.
والمعتدة من الوفاة لا يخلو إما أن تكون حائلا أو حاملا.
والحائل لا يخلو إما أن تكون ممن تحيض أو يئست من الحيض أو صغيرة لم يأتها الحيض بعد وطبقا لهذا التقسيم فقد ضمنت هذا المبحث المطالب التالية:
المطلب الأول: عدة غير ذات الحمل:
غير ذات الحمل وهى الحائل التي عرفت براءة رحمها إما بالحيض أو لكونها آيسة أو صغيرة لم تحض وقد أجمع أهل العلم من عصر الصحابة رضي الله عنهم إلى يومنا هذا على أن عدة المرأة المتوفى عنها زوجها غير ذات الحمل أربعة أشهر وعشرا سواء كانت صغيرة أو كبيرة. مدخولا بها أو غير مدخول بها وهذا هو الزمن اللازم للإحداد فإذا انقضت عدتها بإتمام هذه المدة انقضى الإحداد بانقضائها وإنما أجمع أهل العلم على ذلك لما جاء في الكتاب والسنة. فمن الكتاب قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرا} . ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا". متفق عليه [3] . فهذا الكتاب والسنة قد اتفقا على بيان الظرف الزمني الذي يجب أن تتربصه المعتدة من الوفاة ولا تحل قبله للأزواج وهو الظرف الزمني للإحداد إذ أن العدة والإحداد شقيقان في هذا الباب فإن قيل هذا النص عام شامل لكل معتدة من الوفاة فتكون عدتها أربعة أشهر وعشرا من غير تخصيص قيل ليس الأمر كذلك لأننا نقول إن هذا النص في المعتدات من الوفاة غير الحوامل والشرع شاهِدٌ بذلك فإن الله تعالى أخرج من عموم هذا النص الحامل المعتدة من الوفاة فإن عدتها تنقضي بوضع حملها وبالتالي يزول عنها حكم الإحداد.
تنبيهان:
التنبيه الأول: لو قيل هذا الحكم خاص بالمدخول بها بمعنى أن المدخول بها هي التي تتربص أربعة أشهر وعشرا بدليل أن الله تعالى خصها من عموم قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} قلنا الجواب عن ذلك من ثلاثة أوجه:
(أ) أن الله تعالى خص المطلقة قبل الدخول من عموم آية البقرة فلم يوجب عليها عدة وذلك بآية الأحزاب وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [4] .
وليس الأمر كذلك في المتوفى عنها قبل الدخول فهي داخلة في العموم وليس ثمة ما يخرجها ولا يجوز إخراجها إلا بدليل ولا دليل.
(ب) قد ورد في السنة ما يفيد صراحة وجوب العدة على غير المدخول بها المتوفى عنها زوجها وذلك أن عبد الله بن مسعود "أُتِي بامرأة تزوجها رجل ثم مات عنها ولم يفرض لها صداقا "ولم يكن دخل بها قال فاختلفوا إليه فقال: أرى لها مثل مهر نسائها ولها الميراث وعليها العدة فشهد معقل بن سنان الاشجعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بَروَع ابنة واشق بمثل ما قضى". رواه الأربعة وصححه الترمذي [5] .
فهذا الحديث نص على إيجاب العدة على غير المدخول بها وبهذا لا يكون للاعتراض حظّ من النظر.
(جـ) لو سلّمنا بعدم النص وأنّ المعتدة من الوفاة غير المدخول بها مخصصة من عموم آية البقرة وذلك بالقياس على المطلقة قبل الدخول لم نسلّم بهذا التخصيص وذلك لأمرين:
أحدهما: أن النكاح عقد عُمْر فإذا مات أحد الزوجين انتهى والشيء إذا انتهى تقرر أحكامه كتقرر أحكام الصيام بدخول الليل وأحكام الإجارة بانقضائها والعدة من أحكامه.
ثانيهما: أن المطلقة إذا أتت بولد يمكن للزوج تكذيبها ونفيه باللعان وهذا ممتنع في حق الميت فلا يؤمن أن تأتى بولد فيلحق الميت نسبه وما له من ينفيه فاحتطنا بإيجاب العدة عليها لحفظها عن التصرف والميت في غير منزلها حفظا لها [6] .
التنبي هـ الثاني: فإن قيل قد ورد في الأثر عند أحمد وابن حبان والطحاوي من حديث أسماء بنت عميس قالت: "دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم الثالث من قتل جعفر بن أبى طالب. فقال:ٍ"لا تحدى بعد يومك" هذا لفظ أحمد. وفى رواية له ولابن حبان والطحاوي لما أصيب جعفر أتانا النبي صلى الله عليه وسلم تسلّي ثلاثا ثم اصنعي ما شئت"[7] .
قال العراقي في شرح جامع الترمذي: ظاهره أنه لا يجب الإحداد على المتوفى عنها بعد اليوم الثالث لأن أسماء بنت عميس كانت زوج جعفر بن أبى طالب بالاتفاق وهي والدة أولاده عبد الله ومحمد وعوف وغيرهم قال: "بل ظاهر النهي أن الإحداد لا يجوز"[8] .
قيل الجواب عن هذا الاعتراض من وجوه:
الوجه الأول: ما ذكره العراقي نفسه بأن هذا الحديث شاذ ومخالف للأحاديث الصحيحة
وقد أجمعوا على خلافه. قال: "ويحتمل أن يقال إن جعفر قُتِل شهيدا والشهداء أحياء عند ربهم. قال وهذا ضعيف لأنه لم يرد في غير جعفر من الشهداء ممن قطع بأنهم شهداء كما قطع بجعفر كحمزة بن عبد المطلب وعبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر"[9] .
فأنت ترى أنه حكم على الحديث بالشذوذ وحديث الشاذ ضعيف لا تقوم به حجة.
الوجه الثاني: ما ذكره الطحاوي من أن هذا الحديث منسوخ وأن الإحداد كان على المعتدة كذلك في وقت ثم أمرت بالإحداد أربعة أشهر وعشرا [10] .
وإن كانت هذه دعوى بلا دليل إذ أن النسخ لا يكون إلا بمعرفة التاريخ وهو تقدم المنسوخ وتأخر الناسخ إلا أن احتمال النسخ وارد هنا لأن حديث أسماء هذا متقدم في الغالب على أحاديث الإحداد الأخرى. فإن حديث أسماء هذا في غزوة موءته وهي في السنة الثامنة من الهجرة والنبي الكريم توفى في السنة الحادية عشرة لكن دعوى النسخ لا تثبت بالاحتمال.
الوجه الثالث: هو أن المراد بالإحداد والمقيد بالثلاث قدرا زائدا على الإحداد المعروف فعلته أسماء مبالغة في حزنها على جعفر فنهاها عن ذلك بعد الثلاث.
الوجه الرابع: هو أن أسماء كانت حاملا فوضعت بعد ثلاث فانقضت العدة فنهاها بعدها عن الإحداد ولا يمنع ذلك قوله في الرواية الأخرى.
الوجه الخامس: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم عَلِم أن عدتها تنقضي عند الثلاث فأمرها بهذا الأمر.
الوجه السادس: يحتمل أن جعفر قد أبانها بالطلاق قبل استشهاده فلم يكن عليها إحداد.
الوجه السابع: ما ذكره البيهقي من أن هذا الحديث منقطع وقال لم يثبت سماع عبد الله ابن شداد من أسماء بنت عميس [11] .
وَرُدَّ هذا بأنه تعليل مدفوع فقد صححه أحمد ويجاب عنه بأن أحمد قال أنه -أي حديث أسماء- مخالف للأحاديث الصحيحة في الإحداد قال ابن حجر في الفتح: "وهو مصير منه إلى أنه يعله بالشذوذ وذكر الأشرم أن أحمد سُئلَ عن حديث حنظلة عن سالم عن ابن عمر رفعه لا إحداد فوق ثلاث فقال: "هذا منكر والمعروف عن ابن عمر من رأيه" [12] .
قال ابن حجر تعقيبا على كلام أحمد وهذا يحتمل أن يكون لغير المرأة المعتدة فلا نكارة فيه بخلاف حديث أسماء والله أعلم [13] .
هذا وبعد عرض ما تقدم تعلم أن الأوجه التي ذكرناها كلها محتملة اللهم إلا ما ذكره العراقي من اعلال الحديث بالشذوذ والذي ينبغي أن يُعلم هو أن هذا الحديث على فرض صحته معارض لما هو أصحّ منه وأكثر شهرة ومن المعلوم أن الحديث الصحيح إذا تعارض مع ما هو أصح منه وتعذر الجمع قُدم الأصح فإذا كان الحديث في الصحيحين ويعارضه آخر في أحدهما قُدم ما كان في الصحيحين والأمر كذلك فيما كان في صحيح البخاري ويعارضه حديث آخر في صحيح مسلم فإن ما كان في صحيح البخاري يقدم على ما كان في صحيح مسلم عند التعارض وعدم إمكان الجمع وما كان فيهما أوفي أحدهما يقدم على غيره عند التعارض وعدم إمكان الجمع وهذا الحديث الذي نحن بصدد الكلام عنه على فرض صحته لم يكن في الصحيحين ولا في أحدهما بخلاف الأحاديث التي تعارضه فإنها صحيحة لامطعن لأحد في صحتها لكونها في الصحيحين.
هذا وتجدر الإشارة هنا إلى أن المدة المعتبرة للعدة والإحداد في حق الحائل من النساء هي أربعة أشهر وعشرا ولا يشترط وجود الحيض في هذه المدة وإنما تنقضي عدة المعتدة المشار إليها وإتمام أربعة أشهر وعشرا لأن الأدلة التي تفيد هذا المعنى من الكتاب والسنة لم تجعل انقضاء عدتها منوطا بشرط حيض ولا غيره وإنما الزمن الوحيد لانقضاء هذه المدة هو أربعة أشهر وعشرا ولأنه لو اعتبر الحيض في حقها لاعتبر ثلاثة قروء كالمطلقة [14] .
والحاصل هو أن زمن الإحداد في حق المتوفى عنها زوجها غير الحبلى هو زمن العدة وزمن العدة في حقها أربعة أشهر وعشرا وإنما هو لكون الجنين يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم أربعين يوما علقة ثم أربعين يوما مضغة فتلك مائة وعشرون يوماً وهى أربعة أشهر. وهذا منصوص عليه في حديث ابن مسعود الصحيح ولفظه"حدثنا رسول الله وهو الصادق المصدوق: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي وسعيد
…
" الحديث [15] .
فالحديث دليل على أن النفخ يكون بعد المدة المذكورة في الحديث وهى العشرة التي لم نذكرها هنا فأمرت المعتدة إلى تربص هذه المدة ليستبين الحبل إن كان ثمة حبل هذا ما يمكن أن يقال في هذا المقام وقبل أن نترك هذا المطلب يحسن أن نشير إلى مسألتين لهما علاقة بما نحن فيه.
المسألة الأولى: متى يبدأ الإحداد؟، المسألة الثانية هل المعتبر لخروج المعتدة المتوفى عنها زوجها من عدتها الليالي أو الأَيام في قوله عشراً؟.
فنقول المسألة الأولى متى يبدأ الإحداد اختلف الفقهاء في تحديد الزمن الذي تبدأ فيه المعتدة عدتها وبالتالي إحدادها أهو من وقت موت الزوج أومن وقت علمها؟ على قولين:
القول الأول للجمهور: وهو أن عدة المتوفى عنها تبدأ من حين موت الزوج وهو زمن وجوب الإحداد عليها سواء علمت بذلك حين الوفاة أولم تعلم إلا بعد ذلك ما لم تنقضي أربعة أشهر وعشرا. فإذا انقضت قبل علمها فلا عدة عليها ولا إحداد وذلك لأن المقصود من العدة هو عدم التزوج وقد وجدوا أيضاًَ العالمة بالوفاة لو مرت عليها أربعة أشهر ولم تحد خرجت من العدة اتفاقا فكذا هنا [16] . فالعدة هي مضي المدة وذلك يتحقق بدون علمها فهي وعدة الطلاق سواء. غاية ما في الأمر أنها لم تفعل الإحداد ولكن ذلك لا يمنع من انقضاء العدة كما لو كانت عالمة بموت زوجها.
القول الثاني: عن علي رضي الله عنه وهو أن العدة تبدأ من وقت علمها بالوفاة فعلى هذا لا تجب عليها العدة وكذلك الإحداد إلا إذا علمت بوفاة زوجها حتى ولو مرت على وفاته أربعة أشهر وعشرا قبل علمهَا لم تنقضي عدتها لأن عليها الإحداد ولا يمكنها إقامته إلا بالعلم بموته [17] . ولأن هذه العدة تجب بطريق العبادة فلابد من علمها بالسبب لتكون مؤدية للعبادة.
ورد هذا بأن العبادة تبع لا مقصود بدليل أن العدة تجب على الكتابية إذا كانت تحت مسلم وهي لا تخاطب بالعبادات.
وعندي أن العدة تجب عليها من وقت الوفاة لما بيّنا ولأن المقصود براءة الرحم وقد وجدت فلا مجال لإيجاب العدة عليها بعد مرور المدة المنصوص عليها.
المسألة الثانية: هل المعتبر لخروج المعتدة المتوفى عنها زوجها من عدتها الليالي أو الأيام في قوله عشراً؟ المدة المنصوص عليها التي تخرج بها المعتدة من عدتها والحال أنها متوفى عنها هي أربعة أشهر وعشرا وهذا لا خلاف فيه لأنه منصوص عليه وإنما اختلف الفقهاء في أمر واحد وهو الاحتمال الوارد في قوله عشراً فإنه يحتمل أن يكون المراد بذلك الأيام وأن يكون المراد بذلك الليالي ولهذا اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:
القول الأول للجمهور: وهو أن المعتبر في ذلك الأيام مع الليالي لأن الاستعمال في مثل هذا من ذكر عدة الليالي يدخل ما بإزائها من الأيام على ما عرف بالتاريخ حيث يكتب بالليالي فيقال لسبع خلون مثلا ويراد كون عدة الأيام كذلك [18] .
القول الثاني: للأوزاعي وعبد الله بن عمرو بن العاص وهو أن المعتبر في ذلك الليالي دون الأيام فلو تزوجت في يوم العاشر جاز وذلك أخذاً من التذكير [19] . فإن جمع المؤنث يذكر وجمع المذكر يؤنث فيقال عشرة أيام وعشر ليال والعدد المختلف هنا هو قوله عشراً فتذكيره دليل على أن المراد بذلك الليالي دون الأيام وهذا واضح من الكتاب والسنة. فمن الكتاب قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرا} . [20] ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاثة أيام إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً". كون المعدود الليالي وإلا لأنّثه.
والراجح عندي هو القول الأول صحيح أن العدد يذكر مع المؤنث ويؤنث مع المذكر إلا أن العرب تغلب اسم التأنيث في العدد خاصة على المذكر فتطلق لفظ الليالي وتريد الليالي بأيامها كما قال الله تعالى لزكريا: {آيَتُكَ أَلَاّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} [21] يريد بأيامها بدليل أنه قال في موضع آخر: {آيَتُكَ أَلَاّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَاّ رَمْزاً} يريد بلياليها ولهذا لو قرر أحد اعتكاف العشر الأخيرة من رمضان لزمه الليالي والأيام معا. ويقول القائل سرنا عشرا يريد الليالي بأيامها فلم يجز نقلها عن العدد إلى الإباحة بالشك [22] هذا إذا كانت عالمة بوفاته يقينا أما إذا شكت في وقت وفاته فإنها تعتد من الوقت الذي تستيقن فيه بموته لأن العدة يؤخذ فيها بالاحتياط والاحتياط هو الأخذ باليقين وفى الوقت المشكوك فيه لا يقين فلهذا لا تعتد إلا من الوقت المتيقن [23] .
المطلب الثاني: في سبب وجوب الإِحداد:
عرفت قريباً أن الفقهاء مختلفون في وجوب الإحداد على من يجب واختلافهم في الجملة راجع إلى أمرين: المعتدة من الوفاة، والمعتدة من طلاق بائن. فالحنفية يتوسعون في الإيجاب فيوجبون الحداد في الأمرين معاً أعني المعتدة من الوفاة والمعتدة من الطلاق البائن البَينونة الكبرى، والجمهور يضيقون دائرة الإيجاب فيجعلونه خاصاً بالوفاة وتبعا لهذا الاختلاف يكون سبب الإيجاب.
فعند الحنفية ومن قال بقولهم يكون سببه الوفاة والبينونة الكبرى، وعند الجمهور يكون سببه الوفاة لا غير وإنما كان سبب الوفاة لما يأتي. في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرا} فالآية دليل على إيجاب العدة على المتوفى عنها زوجها ووجوب العدة عليها يستلزم إيجاب الإحداد وعدم إيجابه على غيرها بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله وباليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا" هذا من جهة ومن جهة أخرى فالعدة والإحداد يوجبان إظهارا للحزن بفوت النعمة وتعريفاً بقدرها والمراد بالنعمة هنا هي نعمة النكَاح. إذ النكاح كان نعمة عظيمة في حقها فإن الزوج كان سبب صيانتها وعفافها وإيفائها بالنفقة والكسوة والمسكن [24] . ولهذا كان لفراق الزوج أثر في نفسها فما كان من أمر الشارع إلا أن أوجب عليها للزوج حقوقا اظهاراً للمصيبة بموته ومن تلك الحقوق العدة والإحداد هذا في المعتدة من الوفاة. وقد عرفت ما استدل به فقهاء الحنفية لإيجاب الحداد على البائن وهو سبب وجوب عندهم.
المطلب الثالث: في شرح وجوب عدة المتوفى عنها:
شرط وجوب العدة هو النكاح الصحيح فلا تجب على المنكوحة نكاحا فاسدا ولا الموطوءة بالشبهة ولا الموطوءة بالزنا وإنما تجب على المتوفى عنها زوجها سواء كانت مدخولا بها أو غير مدخولٍ بها وسواء كانت ممن تحيض أو ممن لا تحيض لعموم قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرا} ولما تقدم من أن العدة تجب اظهارا للحزن بفوت نعمة النكاح وقد وجد وإنّما شرطنا النكاح الصحيح لأن الله تعالى أوجبها على الأزواج ولا يصير زوجاً حقيقة إلا بالنكاح الصحيح وسواء كانت مسلمة أو كتابية تحت مسلم لعموم النص ولوجود المعنى الذي وجبت من أجله وسواء كانت حرة أو أمة أو مُدبِرة أو مكاتبة فإنه لا يختلف أصل الحكم لأن ما وجبت له لا يختلف [25] . ولم أجد في هذا كله خلافا عند أهل العلم إلا ما كان من أمر الحنابلة من تفصيل في ذلك يحسن ذكره وهو أن الرجل لو مات عن امرأة نكاحها فاسد أن عليها عدة الوفاة وهو ما ذهب إليه القاضي من فقهاء الحنابلة وقد نص على ذلك أحمد في رواية جعفر بن محمد واختارها أبو بكر وقدمها الأكثر لأنه نكاح يلحق بالنسب فوجبت به العدة كالصحيح وقال ابن حامد من الحنابلة لا عدة عليها للوفاة في ذلك لأنه لا يثبت الحمل فلم يوجب العدة كالباطل [26]
ومن المعلوم أن المنكوحة بنكاح باطل مجمع على بطلانه كنكاح القريبة من النسب ونكاح المحرمة بالمصاهرة أو الرضاع ونحو ذلك لا تجب عليها عدة الوفاة إجماعا [27] . لأن الفقهاء مختلفون في وجوب عدة الوفاة على الموطوءة بشبهة وأكثرهم على عدم وجوبها فإذا كان الأمر كذلك فعدم الوجوب في النكاح الباطل أولى هذا ويشكل على قول الفقهاء القائلين بعدم وجوب العدة على الموطوءة بنكاح فاسد الحكم بوجوب عدة الطلاق على المد خول بها إذ أنه لا فرق بينها وبين المطلقة في هذا المعنى فالمطلقة إذا كانت ممن تحيض فعدتها ثلاثة قروء وإذا لم تكن كذلك فعدتها ثلاثة أشهر وهذه مثلها إذا حصلت الخلوة والإصابة وإن كان بعدها قبل الإصابة فالمنصوص عند الحنابلة أن عليها العدة أيضاً لأنه أجري مجرى الصحيح في لحوق النسب فكذا في العدة [28] . لكن يزول الإشكال إذا عرفنا أن عدة الوفاة إنما تجب على الزوجة دون غيرها وهو منصوص عليه في الكتاب والسنة والمنكوحة بنكاح فاسد ليست بزوجة في الحقيقة فلا تجب عليها عدة الوفاة وإنما وجبت عليها عدة الطلاق لما بينّا من الدليل هذا في العدة والأمر كذلك في الإحداد والحنفية يستثنون الصغيرة والمجنونة والكتابية من ذلك في حين أنهم يرون إيجابَ العدة على الجميع وقد أسلفنا ما يتعلق بذلك قريبا.
المطلب الرابع: في وجوب الحداد على المطلقة إذا مات زوجها قبل انقضاء عدتها من الطلاق:
المطلقة لا تخلو من أحد أمرين إما أن تكون رجعية أو بائنا والبائن لا تخلو من أن يكون طلاقها في صحة الزوج وإما أن يكون في حالة مرضه وطبقا لهذا التقسيم يكون الكلام في هذا المطلب ولهذا فقد رأيت أن يكون البحث في جانبين. أحدهما متفق عليه والآخر مختلف فيه.
فأما المتفق عليه فهو قسمان:
(أ) الطلاق الرجعي.
(ب) البينونة في حالة الصحة.
وأما المختلف فيه فهو البينونة في حالة المرض وإليك تحرير المقام والله المستعان.
القسم الأول: من الجانب الأول عدة الرجعية إذا مات زوجها قبل انقضاء عدتها لا خلاف بين أئمة الفتوى في أن الرجعية إذا مات زوجها قبل انقضاء عدتها من الطلاق تنتقل من عدة الطلاق إلى عدة الوفاة فيكون ابتداء عدتها من حين وفاة زوجها ولا تعتد بالزمن الذي مضى قبل وفاته والحكم في الإحداد هو نفسه لأنه لا يوجد بوجود العدة وينعدم بعدمها وإنما قلنا بذلك لما يأتي:
(1)
أن النكاح قائم بينهما بعد الطلاق الرجعى فكان منتهيا بالموت وبانتهاء النكاح بالموت يلزمها عدة الوفاة.
(2)
أن العدة بعد الطلاق الرجعى تكون بالحيض وهي لا يزول الملك بها إلا بعد تمامها وقد زال بالموت فعليها العدة التي هي من حقوق النكاح وهي عدة الوفاة [29] .
(3)
أن الرجعية زوجة يلحقها طلاقه وينالها ميراثه فتعتد للوفاة كغير المطلقة إذ الطلاق الرجعي لا يوجب زوال الزوجية وإنما تزول بالموت أو بالبينونة أو بخروج الرجعية من عدتها ومن المعلوم أن موت الزوج يوجب على زوجته عدة الوفاة لما بيّنا أكثر من مرة فوجوب عدة الوفاة على الزوجة بعد الطلاق الرجعى لا يختلف عنه قبله ولهذا كله قال ابن المنذر: "أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على ذلك"[30] . وهو كما قال فإنني لم أجد خلافا بين أهل العلم في أن المعتدة الرجعية تستأنف عدة الوفاة إذا مات زوجها في عدتها وتكون عدتها أربعة أشهر وعشرا.
القسم الثاني: من الجانب الأول في عدة المبتوتة إذا مات زوجها قبل انقضاء عدتها وكان الفراق بينهما في حالة الصحة إذا أبان الرجل زوجته في صحته ثم مات عنها قبل انقضاء عدتها لم تنتقل إلى عدة الوفاة وإنما تعتد عدة الطلاق لا أعلم في ذلك بين أهل العلم خلافا وذلك لأن النكاح لم ينتهي بالوفاة هنا وإنما زال الملك بالطلاق والسبب الموجب لعدة الوفاة هو الموت لأن الله تعالى قال: {َيَذَرُونَ أَزْوَاجً} وهذه ليست بزوجة له عند وفاته حتى لا ترث منه بالرجعية شيئاً ولا يلزمها عدة الوفاةأيضا [31] فهي أجنبية منه في نكاحه وميراثه وتحل له أختها فلم تعتد لوفاته كما لو انقضت عدتها [32] هذا ما يمكن أن نقوله في هذا الجانب وهو كما ترى متفق عليه بقسميه على ما بيّنا.
وأما الجانب المختلف فيه وهو في حكم عدة المبتوتة في حالة المرض إذا مات زوجها قبل عدتها فقد اختلف الفقهاء في هذا الجانب على قولين ونحن نذكر آراءهم وما استدل به كل فريق ونخلص إلى القول الراجح حسب الإمكان.
القول الأول: لأبي حنيفة وأحمد ومحمد بن الحسن وسفيان الثوري وهو أن زوج المبتوتة إذا طلقها في مرض موته ثم مات عنها قبل انقضاء عدتها تعتد أطول الأجلين من عدة الوفاة أو ثلاثةقروء [33] وعلى هذا القول يلزمها الإحداد لأنه تبع لعدة الوفاة وقد وجدت هاهنا وقد استدل أصحاب هذا القول بدليل عقلي وهو أن المبتوتة في مرض الموت ترث زوجها بعد وفاته وميراثها له بعد موته إنما كان بسبب الزوجية وكونه أبانها في مرض موته فهو متهم بحرمانها من الميراث فيلزمها عدة الوفاة كما لو طلقها طلاقا رجعيا وهذا لأنا أعطيناها الميراث باعتبار أن النكاح بمنزلة القائم بينهما حكما إلى وقت موته أو باعتبار إقامة العدة مقام أصل النكاح حكما إذ لابد من قيام السبب عند الموت لاستحقاق الميراث والميراث لا يثبت بالشك والعدة تجب بالشك وإذا جعل في حكم الميراث النكاح كالمنتهي بالموت حكما ففي حكم العدة أولى وسبب وجوب العدة عليها بالحيض متقرر حكما فألزمناها الجمع بينهما [34]
القول الثاني: للمالكية والشافعية وأبي يوسف من الحنفية وأبي ثور وأبي عبيد وابن المنذر وهو أن المبتوتة في مرض الموت تبقى على عدة الطلاق إذا مات زوجها قبل انقضاء عدتها ولا تستأنف عدة الوفاة [35] ، وذلك لأن حكم النكاح انقطع بينهما بالطلاق وسبب وجوب عدة الوفاة انتهاء النكاح بالموت فإذا لم يوجد لا يلزمها عدة الوفاة كما لو كان الطلاق في صحته وإنما أخذت الميراث بحكم الفرار وذلك لا يلزمها عدة الوفاة بدليل المرتد إذا مات أو قتل على ردته ترثه زوجته المسلمة وليس عليها عدة الوفاة لأن زوال النكاح كان بردته لا بموته [36] ، ورد هذا بأن النكاح لما بقي في حق الإرث فبقائه في حق وجوب العدة أولى لأن العدة يحتاط في إيجابها فكان قيام النكاح من وجه كافيا لوجوب العدة احتياطا فيجب عليها الاعتداد أربعة أشهر وعشراً [37] .
ولهذا نقول أن الراجح عندنا هو القول الأول لما بيّنا ولأن الزوج لما أبانها في مرض موته كان متهما بحرمانها من الميراث فيعاقب بنقيض قصده وهو توريثها من ماله بعد موته فدل على أن علاقة الزوجية لم تنقطع تماماً إذ لو كان الأمر كذلك لما كان لها حق في الميراث وانقطاع الزوجية بالموت لا خلاف فيه بين أئمة الفتوى فتجب عليها عدة الوفاة لهذا المعنى ويجب عليها الإحداد وكذلك لأن الإحداد تابع للعدة وإنما قال من قال بأن البائن تعتد في هذه الصورة بأطول الأجلين لأن الباَئن وارثة هنا على ما قلنا فيجب عليها أن تعتد للوفاة ومن حيث أنها مطلقة يجب عليها أن تعتد للطلاق فيجب أن تعتد بأطولهما ضرورة فإنها لا تخرج عن العهدة بيقين إلا بذلك [38] . هذا وتجدر الإشارة هنا إلى أن الزوج المريض المطلق لو مات عن زوجته بعد انقضاء عدتها بالحيض أو بالشهور أو بوضع الحمل أو كان طلاقه قبل الدخول لم تجب عليها العدة لموته وبالتالي لا يجب عليها الإحداد لأن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَ} [39]، قال تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوء} [40]، وقال تعالى:{وَاللَاّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَاّئِي لَمْ يَحِضْنَ} [41] فهذه الآيات كلها تبين عدة المطلقة بيانا شافيا وهي كما ورد في الآيات على ثلاثة أقسام: إما أن تكون مطلقة قبل الدخول وهذه لا عدة عليها، إما أن تكون مطلقة بعد الدخول وهي ممن تحيض فعدتها ثلاثة قروء أو تكون آيسة أو صغيرة وهذه عدتها ثلاثة أشهر وقد انقضت عدة طلاقها قبل وفاة زوجها فليس ثمة ما يدعو إلى إيجاب عدة الوفاة عليها
لأنها أجنبية تحل للأزواج ويحل للمطلق نكاح أختها وأربع سواها فلم تجب عليها عدة موته كما لو تزوجت ولا يرد عليه ما قررناه قريبا من وجوب عدة الوفاة على المطلقة إذا مات زوجها قبل انقضاء عدتها إذا لم يكن الطلاق في حالة الصحة لأنها لا تحل لغير مطلقها مادامت في عدتها وهذه بخلافها فإنها قد خرجت من عدتها وحل نكاحها لغير زوجها [42] .
المطلب الخامس: في إحداد المتوفى عنها الحامل
عرفت قريبا أن الإحداد يجب على المتوفى عنها زوجها من وقت وفاة زوجها وهذا قول الجمهور وهو ينقضي في حَق الحائل بمرور أربعة أشهر وعشراً كما تم ثبته آنفا.
والأمر كذلك في الحامل فإن الحامل المتوفى عنها تحتسب لها مدة الإحداد من وقت وفاة زوجها وعلى هذا لا يكون فرقا بين الحائل والحامل في هذا المعنى إذ أن الإحداد تابع للعدة والعدة تبدأ من وقت الوفاة بيد أن الحامل تختلف عن الحائل في انقضَاء العدة والإحداد فالحائل تحل للأزواج بعد مرور أربعة أشهر وعشرا على وفاة زوجها وليس الأمر كذلك في الحامل، وعلى هذا نقول متى تنقضي عدة الحامل المتوفى عنها؟ سؤال اختلفت في جوابه كلمة الفقهاء على قولين:
القول الأول: ذهب الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة إلى أن عدة الحامل المتوفى عنها تنقضي بوضع حملها ولو كان ذلك بعد وفاة زوجها بمدة يسيرة وبالتالي لا يجب عليها الإِحداد بعد وضع حملها لكون وجوب الإحداد تابعا لوجود العدة [43]، الاستدلال بهذا القول من أربعة طرق:
(1)
طريق الكتاب. (2) طريق السنة.
(3)
الآثار المروية عن بعض الصحابة. (4) المعقول.
وإليك تحرير المقام في ذلك:
(1)
الاستدلال بالكتاب: استدل أصحاب هذا القول بقوله تعالى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [44] . فالآية دليل على أن الحامل تنقضي عدتها بوضع حملها لأن الأجل المذكور في الآية هو العدة وهو معلق بغاية وهي وضع الحمل والآية شاملة بعمومها لكل حامل سواء كانت متوفى عنها أو مطلقة وفى هذا يُسر بديع فإن الله تعالى حينما جعل الظرف الزمني لعدة المتوفى عنها أربعة أشهر وعشرا أخرج من هذا العموم بدليل آخر عدة الحامل فتكون عدتها بوضع حملها وهو ما يعرف في علم الأصول بتخصيص العام والقول بقصرها على عدة الحامل المطلقة دعوى بلا دليل كما سيأتي.
(2)
وأما استدلالهم من السنة فقد استدلوا منها بما يأتي:
(أ) ما روى الجماعة إلا أبا داود وابن ماجة عن أم سلمة: "أن امرأة من أسلم يقال لها سبيعة كانت تحت زوجها فتوفى عنها وهى حبلى فخطبها أبو السنابل بن بعكك فأبت أن تنكحه. فقال: والله ما يصلح أن تنكحي حتى تعتدي آخر الأجلين. فمكثت قريبا من عشر ليال ثم نفِست ثم جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إنكحي" [45] .
وللجماعة إلا الترمذى في قصة سبيعة قالت: "فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزويج إن بدالي"[46] .
فهذا الحديث دليل على أن عدة الحامل المتوفى عنها تنقضي بوضع حملها وهو حديث صحيح لا كلام لأحد في صحته وبانقضاء عدتها بوضع حملها يجوز نكاحها وهو ما صرح به في الحديث فجواز نكاحها دليل على انقضاء عدتها وانقضاء عدتها دليل على عدم وجوب الإحداد عليها بعد وضع حملها فإن قيل الاستدلال بالحديث على محل النزاع فيه نظر وذلك لأَمرين:
الأمر الأول: ما ورد في قصة سبيعة نفسها من مخالفة ظاهرة لهذا الحديث وهي رواية صحيحة لا مطعن في صحتها ولفظها عند البخاري كما ورد في رواية يونس عن الزهري وهو أن عمر بن عبد الله بن الأرقم كتب إلى عبد الله بن عتبة يخبره أن سبيعة بنت الحرث أخبرته أنها كانت تحت سعد ابن خوله فتوفى عنها في حجة الوداع وهي حامل فلم تنشب أن وضعت حملها فلما تعلّت من نفاسها تجملت للخطاب فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك رجل من بني عبد الدار فقال: "مالي أراكِ تجملتِ للخطاب؟ فإنكِ والله ما أنتِ بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشرا". قالت سبيعة: "فلما قال لي ذلك جمعت عليَّ ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزويج"[47] .
فظاهر هذه الرواية يخالف ما قبلها وذلك أن ما قبلها يفيد أنها مكثت قريبا من عشر ليال ثم جاءت النبي صلى الله عليه وسلم وظاهر هذه الرواية يفيد أنها توجهت إلى النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي قال لها فيه أبو السنابل ما قال فإنها قالت جمعت علي ثيابي حين أمسيت وهذا يدل على أنها توجهت إلى النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم نفسه فإذا كان الأمر كذلك فالحديث لا يكون دليلا على محل النزاع وإنما يصار إلى الأدلة التي تخالفه كما سيأتي:
والجواب عن هذا الاعتراض بأن الجمع ممكن هنا وهو أولى لأن فيه أخذٌ بالأدلة جميعا وبيان ذلك هو أن نحمل هذه الرواية وهي قولها: "حين أمسيت"على إرادة توجهها ولا يلزم منه أن يكون في ذلك اليوم الذي قال لها فيه ما قال [48] . بذلك تجتمع الأدلة ويحصل الأخذ بها جميعا.
وما كان في الصحيحين مقدم على غيره عند التعارض وعدم إمكان الجمع.
الأمر الثاني: اختلاف روايات هذا الحديث مما يجعل الناظر فيه يشك في دلالته وذلك أنه ورد بروايات مختلفة في المبنى والمعنى. ففي رواية أنها ولدت قريبا من عشر ليال وفي رواية لأحمد فلم أمكث إلا شهرين حتى وضعت، وفى رواية للبخاري فوضعت بعد موته بأربعين ليلة، وفى أخرى للنسائي بعشرين ليلة أو خمس عشرة، وفى رواية للترمذي والنسائي فوضعت بعد وفاة زوجها بثلاثة وعشرين يوما أو خمسة وعشرين يوما ولابن ماجة ببضع وعشرين، وفى ذلك روايات أُخر مختلفة [49] .
والجواب عن ذلك ما ذكره ابن حجر في الفتح بعد ذكر هذه الروايات حيث قال: "والجمع بين هذه الروايات متعذر لاتحاد القصة ولعل هذا هو السر في إبهام من أبهم المدة إذ محل الخلاف أن تضع لدون أربعة أشهر وعشرا وهو هنا كذلك فأقل ما قيل في هذه الروايات نصف شهر وأما ما وقع في بعض الشروح أن في البخاري رواية عشر ليال وفى رواية الطبري ثمان أو سبع فهو في مدة إقامتها بعد الوضع إلى أن استفتت النبي صلى الله عليه وسلم في مدة بقية الحمل وأكثر ما قيل فيه بالتصريح شهرين وبغيره دون أربعة أشهر [50] .
(2)
ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: "كنت أنا وابن العباس وأبو هريرة فجاء رجل فقال: افتني في امرأة ولدت بعد زوجها بأربعين ليلة. فقال ابن عباس: تعتد آخر الأجلين. وقلت أنا: وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن. قال ابن عباس: ذلك في الطلاق. وقال أبو سلمة: أرأيت لو أن امرأة تأخر حملها سنة فما عدتها. قال ابن عباس: آخر الأجلين. قال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي يعنى أبا سلمة فأرسل ابن عباس غلامه كريبا إلى أم سلمة يسألها هل مضت في ذلك سنة؟ فذكرت أن سبيعة الأسلمية وضعت بعد موت زوجها بأربعين ليلة فخطبت فأنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم"[51] .
(3)
كما أخرجه ابن أبى شيبة وعبد بن حميد وابن مردويه من حديث أبي السنابل أن سبيعة وضعت بعد موت زوجها بثلاث وعشرين يوما فقال صلى الله عليه وسلم: "قد حَل أجلها"[52] .
(4)
ما روى البخاري أن عبد الله بن عبد الله أخبره عن أبيه أنه "كتب إلى ابن الأرقم أن يسأل سبيعة الأسلمية كيف أفتاها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إذا وضعت أن انكح"[53] .
(5)
روى البخاري عن المسور بن مخرمة "أن سبيعة الأسلمية نُفِست بعد وفاة زوجها بليال فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فأستأذنته أن تنكح فآذن لها فنكحت"[54] .
فهذه الأحاديث قاضية بأن عدة الحامل المتوفى عنها لها غاية وهي وضع حملها فهل لأحد أن يقول بخلاف ما دلت عليه هذه النصوص الصحيحة الصريحة التي تفيد بمنطوقها ومفهومها ما يفيده ظاهر الكتاب وهو انقضاء عدة الحامل المتوفى عنها بوضع حملها.
(3)
الآثار:
وأما الآثار المروية عن بعض الصحابة التي تفيد هذا المعنى فنورد منها ما يأتي:
(1)
ما روي عن ابن مسعود "أنه بلغه أن عليا يقول تعتد آخر الأجلين فقال: من شاء لاعنته أن الآية التي في سورة النساء الصغرى نزلت بعد سورة البقرة بكذا وكذا شهر".
(2)
أخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود أيضا "أن سورة النساء الصغرى نسخت ما في البقرة".
(3)
أخرج ابن مردويه عنه أن سورة النساء الصغرى نسخت كل عدة.
(4)
أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري. قال: "نزلت سورة النساء الصغرى بعد التي في البقرة بسبع سنين"[55] .
فهذه الآثار مصرحة بأن قوله تعالى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} عامة في جميع العِدَدِ وأن عموم آية البقرة مخصص بها وهو المراد بالنسخ المذكور في الآثار المذكورة وليس المراد النسخ الاصطلاحي وهو إزالة الحكم الأول وتبديله بحكم آخر بل المراد التخصيص على ما بينا.
(4)
وأما استدلالهم بالمعقول فمن وجهين:
الوجه الأول: أن المعتدة المطلقة تنقضي عدتها بوضع حملها إذا كانت حاملا إجماعاً فكذا المتوفى عنها قياسا عليها لأن العدة إنما شرعت في الأصل لمعرفة براءة رحمها من الحمل ووضعه أدل الأشياء على البراءة منه فوجب أن تنقضي العدة.
الوجه الثاني: أنه لا خلاف بين أهل العلم في بقاء العدة والمرأة حاملا فإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن تنقضي العدة بوضعه كما لو كانت الحامل المطلقة [56] .
القول الثاني مروي عن علي وابن عباس وابن مسعود وأبي السنابل وعبد الرحمن بن أبي ليلى وسحنون من المالكية أن المتوفى عنها الحامل لا تنقضي عدتها بوضع حملها وإنما تعتد أطول الأجلين ومعناه أنها إن وضعت قبل مضي أربعة أشهر وعشر تربصت إلى انقضائها ولا تحل بمجرد الوضع وإن انقضت المدة قبل الوضع تربصت إلى الوضع على اختلاف في نسبة هذا القول إلى هؤلاء الأئمة الأعلام.
وتحرير المقام في ذلك ما ذكره ابن حجر في الفتح وهو أن هذا القول ثابت عن علي رضي الله عنه بإسناد صحيح كما أخرجه سعيد بن منصور وعبد بن حميد وليس كما ذكر بعض الفقهاء من أنه مروي عن علي بإسناد منقطع.
أما ابن عباس فالذي يظهر أنه رجع عن هذا القول يحققه أن المنقول عن تلاميذه وفاق الجماعة في ذلك.
كذلك عبد الله ابن مسعود رجع عن قوله أولاً إلى قول الجماعة كما تم ثبته قريبا فإنه قال من شاء باهلته (أي لاعنته) في أن سورة النساء الصغرى نزلت بعد سورة البقرة.
والأمر كذلك عن أبي السنابل فإنه يظهر من مجموع الطرق في قصة سبيعة أنه رجع عن فتواه أولاً [57] .
ولو فرض أن هؤلاء قالوا كلهم بهذا القول ولم يرجع منهم أحد فلا حجة إلا فيما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير.
وأما ما روى عن سحنون من فقهاء المالكية فقد رده ابن حجر في الفتح بأنه شذوذ مردود لأنه إحداث خلاف بعد استقرار الإجماع [58] .
وحجة من قال بأن الحامل المتوفى عنها زوجها تعتد أطول الأجلين هو الحرص على العمل بالآيتين اللتين تعارض عمومهما فقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرا} عام في كل من مات عنها زوجها يشمل الحامل وغيرها- وقوله تعالى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} عام أيضا يشمل المطلقة والمتوفى عنها- فجمع أولئك بين العمومين بقصر الثانية على المطلقة بقرينة ذكر عدد المطلقات كالآيسة والصغيرة قبلهما ثم لم يُهملوا ما تناولته الآية الثانية من العموم لكن قصروه على من مضت عليها المدة ولم تضع فكان تخصيص بعض العموم أولى وأقرب إلى العمل بمقتضى الآيتين من الغاء أحدهما في حق بعض من شمله العموم [59] .
والجواب عن هذا الاستدلال من وجهه:
الوجه الأول: ما ذكره القرطبي بعد ما ذكر ما في المسألة من خلاف حيث قال بعد إيراد دليل المخالفين للجمهور "والجمع أولى من الترجيح باتفاق أهل الأصول وهذا نظر حسن لولا ما يعكر عليه من حديث سبيعة الأسلمية وأنها نُفِست بعد وفاة زوجها بليال وأنها ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تتزوج فبين بالحديث أن قوله تعالى {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} محمول على عمومه في المطلقات والمتوفى عنهن أزواجهن فتكون عدتهن بوضع الحمل ويعتقد هذا بقول ابن مسعود من شاء باهلته أن آية النساء الصغرى نزلت بعد آية عدة الوفاة وليس الأمر كما زعم بعض من زعم من أن كلام ابن مسعود يفيد أن آية الطلاق ناسخة لآية البقرة وإنما يعني كلام ابن مسعود أن آية الطلاق مخصصة لآية البقرة فإنها أخرجت منها بعض ما تناولتها وكذلك حديث سبيعة متأخر عن عدة الوفاة لأن قصة سبيعة كانت بعد حجة الوداع وزوجها هو سعد بن خولة وهو من بني عامر بن لؤي وهو ممن شهد بدراً توفى بمكة حينئذ وهى حامل وهو الذي رثى له رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن توفى بمكة [60] .
فكلامه يفيد أن عموم آية البقرة مخصوص بقوله تعالى {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} لا منسوخا بدليل قصة سبيعة المتفق على صحتها وتخصيص العام وتقييد المطلق أمر شائع عند الأصوليين ولا ضرورة هنا للجمع وهو ما اعتمده أصحاب القول الثاني لأنه تعارض بين النصوص فهذا عام وهذا مخصص فيحمل العام على الخاص ويخرج من عمومه ما دل عليه هذا الخاص.
أضف إلى هذا ما قاله أبو عمر بن عبد البر تعقيبا على هذه المسألة "لولا حديث سبيعة لكان القول ما قال علي وابن عباس لأنهما عدتان مجتمعتان بصفتين وقد اجتمعتا في الحامل والمتوفى عنها زوجها فلا تخرج من عدتها إلا بيقين واليقين آخر الأجلين [61] .
الوجه الثاني: لو سلمنا بوجود التعارض وعدم التخصيص لم نسلم بأن آية البقرة عامة لأنه تقرر في الأصول أن الجموع المنكرّة لا عموم فيها وآية البقرة من ذلك القبيل فلا إشكال.
الوجه الثالث: لو سلمنا بالعموم وسلمنا بالتعارض وعدم التخصيص لم نسلم بأن عدة الحامل المتوفى عنها لا تنقضي بوضع حملها بدليل آخر وهو ما تفيده الأحاديث الصحيحة الصريحة فإنه لا يمكن التخلص منها بوجه من الوجوه [62] .
هذا ما يمكن أن يجاب به عن هذا الاستدلال والحق صراح لا غبار عليه وإن اشتبه أحيانا في بعض المسائل الفرعية لتكافؤ الأدلة إلا أن هذا المعنى لا يوجد هنا ولهذا فإن الراجح عندنا هو القول الأول لما ذكرنا من الكتاب والسنة والآثار المروية عن بعض الصحابة والمعقول وقصة سبيعة نص في هذا المعنى وهي قصة صحيحة ثابتة في الصحيحين وغيرهما وهي كافية في الاستدلال بوضع حملها لو لم يوجد غيرها زد على هذا أن أئمة الفتوى أجمعوا على أن المطلقة الحامل تنقضي عدتها فأي فرق بين هذه وتلك؟. وأيضا مما يرجح مذهب الجمهور أن الآيتين وإن كانتا عامتين من وجه خاصتين من وجه فكان الإحتياط أن لا تنقضي العدة إلا بآخر الأجلين لكن لما كان المعنى المقصود الأصلي من العدَة براءة الرحم ولاسيما فيمن تحيض فإنه يحصل المطلوب بالوضع وهو ما دل عليه حديث سبيعة ويقويه قول ابن مسعود في تأخر نزول آية الطلاق عن آية البقرة [63] .
وكذلك يترجح مذهب الجمهور بما روي عن أبيّ بن كعب قال قلت يا رسول الله {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} للمطلقة ثلاثا وللمتوفى عنها زوجها فقال:"هي للمطلقة وللمتوفى عنها زوجها "رواه أحمد والدارقطني.
فهذا الحديث نص في محل النزل وهو موافق لما تم ثبته قريبا من الأحاديث القاضية بأن عدة الحامل المتوفى عنها تنقضي بوضع حملها بل هو أدل على محل النزاع لأنه جواب عن سؤال السائل فالمقام مقام بيان وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
فتح الباري جـ 9 ص 487.
[2]
نيل الأوطار جـ6 ص331.
[3]
المغنى جـ7 ص 470.
[4]
سورة الأحزاب "49 ".
[5]
سنن أبى داود جـ 2 ص 588. جامع الترمذي جـ5 ص114. وسنن النسائي جـ 6ص121. سنن ابن ماجة جـ1 ص 189.
[6]
المغنىجـ7 ص 470 وما بعدها.
[7]
فتح الباري جـ9 ص 487.
[8]
فتح الباري جـ9 ص 487.
[9]
فتح الباري جـ 9 ص 484.
[10]
شرح معاني الآثار للطحاوي جـ3 ص 75.
[11]
تعليق بياض السنن الكبرى للبيهقي جـ7 صر 438.
[12]
تعليق بياض السنن الكبرى للبيهقي ج4 ص438.
[13]
أنظر الفتح ج9 ص 487.
[14]
المغنى ج 7 ص 471.
[15]
صحيح مسلم ج 4 ص 36 0 2.
[16]
مواهب الجليل ج 4ص53 1 1، المهذب ج2 ص 186، المغنى ج7 ص 471.
[17]
فتح القدير ج ص 313.
[18]
فتح القدير ج4 ص 313، المغنى ج 7 ص 471.
[19]
فتح القدير ج 4ص 313، المغنى ج 7 ص 471، المبسوط ج 6ص ا 3.
[20]
سورة البقرة "234 ".
[21]
سورة آل عمران "41 ".
[22]
المغنى ج7 ص 471.
[23]
المبسوط ج 6 ص 39.
[24]
بدائع الصنائع جـ3 ص 192.
[25]
بدائع الصنائع جـ 3 ص 192، نهاية المحتاج جـ7 ص 126، شرح الخرشي جـ 4 ص 143.
[26]
المبدع جـ ص 115.
[27]
المصدر السابق.
[28]
المصدر السابق.
[29]
المبسوط جـ6 ص 39، مغنى المحتاج جـ3 ص 396، نهاية المحتاج جـ 7 ص 46 1، شرح الخرشي جـ 4 ص 46 1.
[30]
المغنى جـ7 ص72 4.
[31]
المبسوط جـ6 ص 39، المغنى جـ 7 ص 472، شرح الخرشي جـ 4 ص146، نهاية المحتاج جـ 7 ص 46 1.
[32]
المبدع جـ 8 صح114.
[33]
المغنى جـ 7 ص 472، المبسوط جـ 6ص 43.
[34]
المبسوط جـ6 ص 44.
[35]
نهاية المحتاج جـ7 ص 46 1، مغنى المحتاج جـ3 ص 396، شرح الخرشي جـ4 ص 46 1، والمغنى جـ7 ص 472، المبسوط جـ6 ص 43.
[36]
المبسوط جـ6 ص 43.
[37]
بدائع الصنائع جـ3 ص 200.
[38]
المبدع جـ8 ص 114.
[39]
سبق تخريجها.
[40]
سورة البقرة "228 ".
[41]
سورة الطلاق "4 ".
[42]
المغنى جـ7 ص 472.
[43]
تبيين الحقائق جـ 3 ص 28، بدائع الصنائع جـ3 ص 192، المغنىجـ7 ص 483، الخرشي جـ4 ص 43 1، مغنى المحتاج جـ3 ص 388.
[44]
سورة الطلاق "4 ".
[45]
صحيح البخاري جـ 7 ص 72، صحيح مسلم جـ4 ص 48 1، سنن النسائي جـ6ص 196، جامع الترمذى جـ 2ص 332، وسنن ابن ماجة جـ 7 ص 2 0 2 مسند أحمدجـ6 ص 432
[46]
المصادر السابقة وسنن أبي داود جـ 2 ص728.
[47]
سبق تخريجه.
[48]
نبيل الأوطار جـ 6ص 323، فتح الباري جـ9 ص473.
[49]
المصدرين السابقين
[50]
فتح الباري جـ9 ص 473.
[51]
سبق تخريجه.
[52]
نيل الأوطار جـ 6 ص هـ 32.
[53]
صحيح البخاري مع فتح الباري جـ9 ص 469.
[54]
المصدر السابق
[55]
أنظر هذه الآثار في نيل الأوطار جـ6 ص5 32.
[56]
أنظر المغنى جـ 7 ص 474.
[57]
أنظر فتح الباري جـ9 ص 474.
[58]
المصدر السابق.
[59]
فتح الباري المصدر السابق.
[60]
أنظر الجامع لأحكام القرآن جـ3 ص هـ 17.
[61]
فتح الباري جـ9 ص 474.
[62]
نيل الأوطار جـ6 ص 325.
[63]
فتح الباري جـ 9 ص 474.
نظامُ الإثبَات في الفِقهِ الإسلَامي
(5)
دراسة مقارنة
للدكتور عوض عبد الله أبو بكر
أستاذ مساعد بكلية الشريعة
الإِثبات بالكتابة:
تأتي أهمية الكتابة لكونها وسيلة كبرى من وسائل المعرفة، وأداة هامة لتبليغ المعاني، وتقدم بما تقدم به الألفاظ في بيان المقاصد والأهداف. ولعله لا يخفى على عاقل أهمية الكتابة واعتماد الأمة عليها في دينها ودنياها.
فقد اعتمد خيار هذه الأمة وسلفها من الصحابة الكرام على الكتابة، فوافقوا مجتمعين على تدوين كتاب الله عز وجل الذي هو شرع هذه الأمة ودستورها. كما أن المصدر الثاني من التشريع وهو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نقل إلينا مكتوبا حفظته كتب السنن. وصدق الإمام ابن القيم رحمه الله حين قال:"ولو لم يعتمد على ذلك- أي الكتابة- لضاع الإسلام اليوم، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس بأيدي الناس- بعد كتاب الله- إلا هذه النسخ الموجودة من السنن، وكذلك كتب الفقه الاعتماد فيها على النسخ"[1] .
ومن عناية الشارع الكريم بالكتابة جعلها وسيلة لإثبات الحقوق، حيث أرشد المولى عز وجل إلى كتابة الحقوق في أطول آية في القرآن وهى آية الدين، فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ....} الآية (البقرة: 282) .
فإذا كانت هذه الأمة قد أرشدت إلى كتابة الدين وأمرت بتوثيقه، لكون ذلك أحفظ للمال، وقاطعا لطريق إنكاره، فلننظر إلى أي مدى أخذ الفقهاء بهذا الأمر، فهل حملوه على الوجوب بحيث لا يصح إثبات الدَّين إلا بالكتابة والإشهاد عليه، أم هذه للندب والإرشاد فيجوز ترك الكتابة عند ائتمان المدين والوثوق بصدقه؟
(1)
ذهب فريق من الفقهاء إلى أن كتابة الديون الآجلة والإشهاد عليها قد كانا واجبين بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوه} ولكن قد نسخ الله هذا الوجوب بقوله تعالى في الآية التي تليها: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ
…
} الآية (البقرة: 283) . روي هذا القول عن الشعبي والحسن [2] .
(2)
قال آخرون: هذه الآية محكمة ولم ينسخ منها شيء، فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:"لا والله آية الدين محكمة، وما فيها نسخ". وعن أبي بردة عن أبي موسى قال: "ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم، رجل كانت له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل أعطى ماله سفيها وقد قال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} (النساء: هـ) ، ورجل له على رجل دين فلم يشهد عليه". قال الجصاص: "قال أبو بكر: وقد روي هذا الحديث مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم".
وروي عن الضحاك عن الذي لم يكتب دينه الآجل ولم يشهد عليه: "إن ذهب حقه لم يؤجر وإن دعا لم يجب لأنه ترك حق الله وأمره".
وقال سعيد بن جبير: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} . (البقرة: 282) . يعني أشهدوا على حقوقكم إذا كان فيها أجل أولم يكن أجل، فأشهد على حقك على كل حال [3] .
فعلى قول هؤلاء فإن الأمر هنا محمول على الوجوب ولابد للدائن من إثبات دينه كتابة إذا كان الدين مؤجلا، فإن لم يكتبه فقد خالف أمر الله الوارد في الآية، وضيع حقه بتفريطه في التوثيق لماله. ولا وجه لمطالبته عند إنكار مدينه للدين لأنه ما أعد عدته لهذا الإنكار.
(3)
وهذا هو قول الجمهور: إن الأمر بالكتابة في قوله تعالى: {فَاكْتُبُوهُ} والأمر بالإشهاد في قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} وفي {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} لا يخلو من أن يكون موجبا لكتابة الديون الآجلة والإشهاد عليها حال نزولها، وكان هذا حكما مستقرا ثابتا إلى أن نسخ إيجابه بقوله تعالى:{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} ، أو يكون نزول الجميع معا، فإن كان كذلك فليس جائزا أن يكون المراد بالكتابة والإشهاد الإيجاب لامتناع ورود الناسخ والمنسوخ معا في شيء واحد، إذ غير جائز نسخ الحكم قبل استقراره.
ولماّ لم يثبت تاريخ نزول هذين الحكمين- الأمر بالكتابة والإشهاد- وقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} وجب الحكم بورودهما معا، فلم يرد الأمر بالكتابة والإشهاد إلا مقرونا بقوله تعالى:{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} فثبت بذلك أن الأمر بالكتابة ليس للوجوب إنما هو للندب أي تندب الكتابة.
أما قول ابن عباس رضي الله عنهما: "أن الآية محكمة ولم ينسخ منها شيء"، فلا دلالة فيه على أنه يرى وجوب الكتابة والإشهاد إنما يريد أن الجميع قد ورد معا ونسق التلاوة يقتضي أن يكون ذلك مندوبا وهو ورود قوله تعالى:{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} .
وكذلك ما روي عن أبي موسى: ثلاثة لا يستجاب لهم من له على رجل دين فلم يشهد عليه، فلا دلالة فيه أيضا على وجوب الكتابة والإشهاد لأنه قد ذكر معه من له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ولا خلاف في أن ذلك ليس بواجب، بل يقال أنه تارك للاحتياط والتوصل إلى ما جعل الله له فيه المخرج والخلاص.
ويؤيد صحة مذهب الجمهور في ندب الكتابة وعدم الوجوب أنه لم تنقل إلينا كتابة الصحابة والتابعين وسلف الأمة لديونهم أوبيوعهم أو عقودهم مع حاجتهم لها، لم ينقل نكيرهم أو اعتراضهم على من ترك الكتابة، فلو كانت الكتابة واجبة لنقل ذلك نقلا مستفيضا ولتواتر إنكارهم على تاركها. فدل عدم النقل وعدم إظهار النكير على أن آية الكتابة ليست واجبة إنما ورد الأمر في هذه الآية للندب والاحتياط حتى لا يقع جحود أو نسيان [4] .
حجية الكتابة في الإِثبات:
إذا كنا قد تناولنا آراء الفقهاء في كتابة الديون من حيث الوجوب وعدمه، ورأينا أن البعض يرى الوجوب والبعض الآخر يرى نسخ الوجوب، والجمهور يرى ندب الكتابة من غير نسخ، فهل تكفي الكتابة دليلا في الإثبات، وما قيمة السند المكتوب وما مدى حجيته على ما دُوِّن فيه؟ وهل يحكم القاضي بما هو مسطور في السند متى ما رفع إليه سند يتضمن حقا من الحقوق وليس عليه أن يقبل أي طعن في صحته وصحة ما حمله السند؟.
لاشك أن الكتابة المشار إليها في الآية الكريمة أصبحت مستندا خطيا لأن المكتوب يحوي إقرارا بما تضمنه السند موقعا عليه من المدين المقر وبشهادة كاتب السند أو الشهود الذين وقعوا على صحة إقرار المدين بالسند وعليه فإن حجية السند هنا تأتي من توقيع المقر والإشهاد فقويت دلالته على الحق، ولاشك أن الفقهاء عاملوا الإقرار بالكتابة معاملة الإقرار باللسان سواء بسواء.
غير أننا نلاحظ خلافا بين الفقهاء في قبول الكتابة كدليل إثبات للحقوق، والذي يبدو لي من أغلب عباراتهم أنهم يقصدون المكتوب الذي لم يشهد عليه كإقراره بدين أو بحق لآخر بخط يده، أو كتابته لهبة لم يشهد عليها، وكذلك الأوراق التي لا تصدر من جهة رسمية، فإن بعض الفقهاء يرون أن مثل هذه المكاتيب لا يثبت القاضي بها ما تضمنته من حقوق لعدم تيقن صدورها من المنسوبة إليه ولإمكان تزوير الخطوط.
وقد أبرز ابن القيم رحمه الله هذا الخلاف في كتابه الطرق الحكمية في فصل (الطريق الثالث والعشرون- الحكم بالخط المجرد) ومن أقواله في ذلك:
"أن يرى القاضي حجة فيها حكمه لإنسان، فيطلب منه إمضاءه والعمل به فقد اختلف في ذلك، فعن أحمد ثلاث روايات، إحداهن: أنه إذا تيقن أنه خطه نفذه وإن لم يذكره، والثانية: أنه لا ينفذه حتى يذكره، والثالثة: أنه إذا كان في حرزه وحفظه نفذه وإلا فلا".
"والمشهور من مذهب الشافعي أنه لا يعتمد على الخط لا في الحكم ولا في الشهادة، وفى مذهبه وجه آخر أنه يجوز الاعتماد عليه إذا كان محفوظا عنده كالرواية الثالثة عن أحمد".
"وأما مذهب أبي حنيفة، فقال الخفاف، قال أبو حنيفة: إذا وجد القاضي في ديوانه شيئا لا يحفظه- كإقرار الرجل بحق من الحقوق- وهولا يذكر ذلك ولا يحفظه، فإنه لا يحكم بذلك ولا ينفذه حتى يذكره".
"وأما مذهب مالك فقال في الجواهر: لا يعتمد على الخط إذا لم يذكره لإمكان التزوير عليه".
"وقال إسحاق بن إبراهيم: قلت لأحمد: الرجل يموت وتوجد له وصية تحت رأسه من غير أن يكون أشهد عليها أو أعلم بها أحدا، هل يجوز إنفاذ ما فيها؟ قال: إن كان قد عرف خطه وكان مشهور الخط فإنه ينفذ ما فيها".
"قال القاضي: وثبوت الخط في الوصية يتوقف على معاينة البينة أو الحاكم لفعل الكتابة لأنها عمل، والشهادة على العمل طريقها الرؤية".
"وأجاز مالك الشهادة على الخطوط..... وذكر ابن شعبان عن ابن وهب أنه قال: لا آخذ بقول مالك في الشهادة على الخط، وقال الطحاوي خالف مالك جميع الفقهاء في ذلك وعدوا قوله شذوذا"[5] .
يظهر من هذا النقل أن بعض الفقهاء يتحرجون من الإثبات بالكتابة ويرون أنها لا تصلح دليلا يعتمد عليه، وكما قدمت أن الشبهة التي يعتمد عليها هذا الفريق من الفقهاء في رد الدليل الكتابي هي تشابه الخطوط وإمكان محاكاتها وتزويرها، ولذا يجب على القاضي ألا يبني حكمه على مجرد الخط. ولعل هؤلاء يدور بخلدهم قصة عثمان رضي الله عنه والفتنة التي أدت إلى مقتله، فإن المتسببين في قتله- كما يحكي لنا التاريخ الإسلامي- قد صنعوا مثل خاتمه وكتبوا مثل كتابه فكان ما كان.
غير أن أدلة هؤلاء المانعين للإثبات بالكتابة تضعف تماما أمام الحجج الواضحة التي أوردها المجيزون للإثبات بالكتابة والتي تقوم- زيادة على ما قدمنا من ندب الله عز وجل لكتابة الديون بسبب القرض أو بسبب عقد مالي- على:
أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث بكتبه ورسائله إلى الملوك وغيرهم وتقوم بها حجته، وفى الجامع للبخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى الروم قالوا: إنهم لا يقرءون كتابا إلا مختوما، فاتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتما من فضة كأني أنظر إلى وبيصه ونقشه محمد رسول الله [6] .
ثانيا: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده"[7] .
قال ابن القيم: "ولو لم يجز الاعتماد على الخط لم تكن لكتابة وصيته فائدة"[8] .
ثالثا: كُتُب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل خيبر: "إما أن يدوا صاحبكم وإما أن تؤذنوا بحرب"[9] .
رابعا: إجماع أهل الحديث على اعتماد الراوي على الخط المحفوظ عنده وجواز التحديث به، ولم يخالف في ذلك إلا بعض الشذوذ [10] .
خامسا: اعتماد فقهاء هذه الأمة وأئمتها على الكتابة في حفظ السنة والفقه، وقد تقدم قول ابن القيم في ذلك.
وفي نظري أن هذا القول هو الصواب وهو الأرفق بالناس في معاملاتهم وأقضيتهم ولأن الكتابة تدل على المقصود كدلالة الألفاظ، ولأن هذا القول هو الذي أختاره حذاق الأئمة كما هو ظاهر من النقول.
كيفية الإِثبات بالكتابة:
إن كنا قد انتهينا إلى جواز الإثبات بالكتابة بناء على القول الغالب عند الفقهاء وتسهيلا على الناس، فإن هذا الجواز لم يجعل من الكتابة دليلا يمنع أو يحد من قوة غيرها من الأدلة كما ذهب بعض القانونيين. فرجال القانون الوضعي قد انتهوا إلى وجوب الإثبات بالكتابة في بعض الحقوق، ولا يجوز الإثبات إلا عن طريقها، ومنعوا الإثبات بشهادة الشهود في هذه الحقوق، مقيدين بذلك طريق الإثبات بالشهادة، وجعلوا حجية الكتابة أقوى من حجية الشهادة. ورجال القانون إن كانوا قَد عذروا أنفسهم في هذا المسلك بدعوى انتشار شهادة الزور مما أدى إلى الفوضى في ساحات العدالة، فإن الفقه الإسلامي لم يكن بحاجة لمثل هذا التصرف وهذا التقييد مادام منهجه تربية الفرد، وغرس روح الأمانة والمراقبة لله عز وجل بحيث تندرج هذه المراقبة على أفعاله كلها فيكون بذلك بعيدا عن تهمة التزوير. ثم إن هذا المحذور الذي أدى تقييد الشهادة عند القانونيين لا يؤمن دخوله في الكتابة والمستندات الخطية، وما كان إنكار المانعين للإثبات بالكتابة إلا لتخوفهم من الغش والتزوير.
بقي لنا الآن أن نرى كيف يكون اعتداد الفقهاء بالمستندات المكتوبة في الإثبات.
فإذا نظرنا إلى كتابات الفقهاء- المتقدمين منهم والمعاصرين- في الأدلة الكتابية نجدهم يقسمونها إلى قسمين رئيسيين:
القسم الأول: المستندات الصادرة من دائرة رسمية:
وهي تلك التي يثبت بها موظف عام أو شخص مكلَّف بخدمة عامة ما تم على يديه أو ما تلقاه من ذوي الشأن وذلك طبقا للقواعد المرعية وفي حدود سلطته أو ولايته أو اختصاصه. ولذلك فإن أهم ما يشترط للسند الرسمي ما يلي:
(1)
أن يكون تحريره بمعرفة موظف عمومي أو جهة رسمية.
(2)
أن يكون ذلك الموظفة أو تلك الجهة الرسمية مختصة بتحرير مثل هذا السند وفي حدود سلطتها أو ولايتها.
(3)
أن يكون تحرير هذا السند قد تم بحسب القواعد الموضوعة له [11] .
ومثال المستندات الرسمية: صور الأحكام التي تستخرجها المحكمة ممهورة بإمضاء القاضي وختم المحكمة، وثائق الزواج والطلاق، شهادات الميلاد، صكوك الأراضي وعقودها المستخرجة من سجلات مصلحة الأراضي، مخالصات مصلحة الضرائب وصندوق الزكاة وغير ذلك من المستندات التي تستخرج من الجهات المختصة معتمدة بختمها وإمضائها.
والورقة الرسمية حجة على ما تضمنته من حقوق وبيانات مادامت قد استوفت الشروط المتقدمة، ولذلك لا يقبل إنكار ما جاء فيها إذ أن الجهة الرسمية لا تستخرج هذا السند إلا إذا توثقت من صحة بياناته بالتحري الدقيق أو بشهادة الشهود أو بالرجوع إلى سجلاتها.
ونستدل لهذا القول من كتب السابقين ما ورد عنهم في كلامهم عن كتاب القاضي إلى القاضي أو الحاكم إلى عماله فإنه يكون حجّة وكذلك يكون حجّة ما يصدره القضاة من أوراق للخصوم تتضمن الحكم الذي أصدروه في قضاياهم وغير ذلك. ومن هذه الأقوال:
يقول البخاري في صحيحه "باب الشهادة على الخط المختوم وما يجوز من ذلك وما يضيق منه وكتاب الحاكم إلى عامله والقاضي إلى القاضي". وقال بعض الناس: كتاب الحاكم جائز إلا في الحدود، قال: وإن كان القتل، فالخطأ والعمد واحد، لأنه مال بزعمه وإنما صار مالا بعد أن ثبت القتل، فالخطأ والعمد واحد. وقد كتب عمر إلى عامله في الحدود، وكتب عمر بن عبد العزيز في سن كسرت.
وقال إبراهيم كتاب القاضي إلى القاضي جائز إذا عُرِف الكتاب والخاتم. وكان الشعبي يجيز الكتاب المختوم بما فيه من القاضي، ويروى عن ابن عمر نحوه. وقال معاوية بن عبد الكريم الثقفي شهدت عبد الملك بن يعلى قاضى البصرة وإياس بن معاوية والحسن وثَمامة بن عبد الله بن أنس وبلال بن أبي بردة وعبد الله بن بريدة الأسلمي وعامر بن عبيدة وعباد بن منصور يجيزون كُتُب القضاة بغير محضر الشهود، فإن قال الذي جيء عليه بالكتاب أنه زور قيل له اذهب فالتمس المخرج من ذلك" [12]
ويقول ابن القيم: "وقال أبو يوسف/ محمد: ما وجد القاضي في ديوانه من شهادة شهود شهدوا عنده لرجل على رجل بحق، أو إقرار رجل لرجل بحق، والقاضي لا يحفظ ذلك ولا يذكره فإنه ينفذ ذلك ويقضي به إذا كانت تحت خاتمه محفوظا، ليس كل ما في ديوان القاضي يحفظه"[13] .
هذا، وقد عقد صاحب جامع الفضولين فصلا في حجية المحاضر الرسمية للقضاة والصور المستخرجة منها إذا كانت موقعة بختم القاضي وامضائه، وبين أن محاضر القضاة وما دون فيها من أقوال الخصوم وسماع الشهود ومنطوق الحكم تكون حجة، وكذلك الصورة التي يستخرجها القاضي من سجلات المحكمة تتضمن حكم قاض آخر في دعوى من الدعاوى [14] .
يظهر من كلام الفقهاء أن إنكار الورقة الرسمية لا يقبل، غير أنه إذا طعن في الورقة الرسمية بالتزوير، وقال إنهم قد زوروا توقيعه أو توقيع القاضي أو ختم جهة الاختصاص، فللقاضي أن يحيل الأوراق إلى جهة الاختصاص أو أهل الخبرة للمضاهاة والإفادة بصحة الورقة أو التزوير، وهل يحكم القاضي بقول أهل الخبرة أن المستند صحيح؟ قيل لا يحكم لكون شهادتهم ليست شهادة على الحق، وقيل يحكم بذلك [15] . وعندي أن السير في الدعوى يتوقف على مدى اقتناع القاضي بصحة السند استئناسا بقول أهل الخبرة، ومدى قوة السند وأثره على الدعوى.
القسم الثاني: المستندات العرفية:
والمستندات العرفية هي الأوراق والمستندات التي لم تصدر من دائرة رسمية أو موظف مختص، وهي ككتابة المُقِر بخط يده أن لفلان عليه كذا، أو كتابة الوصية بخط الموصي من غير أن يُشهد على وصيته، وكذلك هبته لآخر من غير أن يقوم بتسجيل الهبة، ومن ذلك أيضا أن يجد الوارث في دفتر مورثه أن له عند فلان كذا، ومنه أيضا دفاتر التجار التي تبين تعاملهم ودائنيهم ومدينيهم.
والورقة العرفية حجة فيما تضمنته، ويجوز للقاضي أن يحكم بمقتضاها، فهي كالإقرار بالكتابة، والإقرار بالكتابة كالإقرار باللسان عند الفقهاء. فمتى ما أقر الشخص بتوقيعه أو بخطه، أو أقر الوارث بأن هذاَ خط مورثه أو توقيعه أو كان ذلك الخط أو التوقيع معروفا ومشهورا فعلى القاضي أن يعمل بمقتضى هذا السند.
يقول ابن القيم: "والحديث المتقدم- أي حديث الوصية- كالنص في جواز الاعتماد على خط الموصي، وكتبه صلى الله عليه وسلم إلى عماله وإلى الملوك وغيرهم تدل على ذلك ولأن الكتابة تدل على المقصود فهي كاللفظ ولهذا يقع بها الطلاق.
قال القاضي: "وثبوت الخط في الوصية يتوقف على معاينة البينة أو الحاكم لفعل الكتابة، لأنها عمل، والشهادة على العمل طريقها الرؤية".
وقول الإمام أحمد وإن كان قد عرف خطه وكان مشهور الخط، ينفذ ما فيها، يرد على ما قاله القاضي، فإن أحمد علق الحكم بالمعرفة والشهرة من غير اعتبار لمعاينة الفعل، وهذا هو الصحيح، فإن القصد حصوله العلم بنسبة الخط إلى كاتبه، فإذا عرف ذلك وتيقن كان كالعلم بنسبة اللفظ إليه، فإن الخط دال على اللفظ واللفظ دال على القصد والإرادة " [16] .
ويقول في موضع آخر"وقد صرح أصحاب أحمد والشافعي بأن الوارث إذا وجد في دفتر مورثه أن لي عند فلان كذا، جاز له أن يحلف على استحقاقه وأظنه منصوصا عليها، وكذلك لو وجد في دفتره: إني أديت إلى فلان ماله عليّ جاز له أن يحلف على ذلك إذا وثق بخط مورثه وأمانته"[17] .
غير أننا نلاحظ اختلاف معاملة الفقهاء للورقة العرفية عن معاملة المستند الرسمي، إذ أنهم لم يقبلوا إنكار من كان السند الرسمي حجة عليه أما الورقة العرفية فقد جعلوا كتابته وتوقيعه كالإقرار، ولذا فإنه إذا أنكر إقراره أو قال إنه لم يوقع وليس هذا توقيعه فوجب على المدعي إثبات الإقرار بطريق آخر غير الورقة العرفية.
نخلص من هذا أنه يجوز الإثبات بالكتابة عموما، فإن كان المستند صادرا من جهة رسمية فهو حجة، وعلى مُدعي خلاف ما في السند إثبات بطلان هذا السند بالتزوير. أما إن كان السند عرفيا، فهو دليل على الحق غير أنه يجوز لمن كان السند حجة عليه أن ينكر دلالة هذا السند العرفي على الحق لكون الفقهاء عاملوا الورقة العرفية معاملة الإقرار، والإقرار يجوز الرجوع فيه، ولذا يمكن الطعن في هذه الورقة العرفية بإنكارها أو تزويرها.
شهادة الخبراء:
ومن الوسائل التي تُعين على إظهار الحق وكشف وجه الدعوى قول الخبراء. والخبراء هم الذين لهم المعرفة والخبرة بالمسائل الفنية إذا كان موضوع النزاع فيه مسألة فنية أو عدمية تغيب على القاضي، ومن ذلك قول الطبيب الشرعي في سبب الوفاة، وغير ذلك مما يختص بمعرفته الطبيب. وكذلك قول المهندسين والفاحصين والمختصين بمعرفة الخطوط والبصمات، كلٌ فيما يتعلق ويتصل بمجال تخصصه، وكذلك قول البيطار في عيوب الحيوان ودائه.
ويمكن القول بأن الشريعة الإسلامية قد اعتدت بقول أهل الخبرة، فقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم قول القائف وسرّ عليه الصلاة والسلام حينما أثبت نسب أسامة- رضي الله عنه من زيد- رضي الله عنه بمقارنة الشبه في أقدامهما [18] .
وقد أشارت الآية الكريمة في قوله تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} . (القيامة: 4) . إلى اختلاف بصمات الأصابع من شخص لآخر. فلا حرج إذن إذا استدل القاضي على المتهم بقول الخبراء الذين قارنوا بصمات المتهم مع البصمات التي وجدت في مكان الجريمة واتضحت المطابقة. ولما كان قول الخبير ليس شهادة مباشرة في موضوع النزاع إنما هو تقرير فني يتعلق فقط بالمسألة الفنية القائمة في الدعوى جاز للقاضي أن يحكم بمقتضاه إذا وافق الأدلة الأخرى القائمة في الدعوى، كما يجوز له تركه أوترك بعضه إذا رأى عدم سلامته أو عدم سلامة بعضه لكونه يخالف أدلة أخرى مقنعة وواضحة في الدعوى، ذلك لأن القاضي لا يحكم إلا بما تطمئن إليه نفسه حسب الأدلة المقدمة في الدعوى. وليس هذا إنكارا للفائدة العلمية لتقرير الخبير ولكن قد توجد أدلة أخرى أكثر دلالة ووضوحا في محل النزاع، فوجود بصمة الشخص في محل الجريمة مثلا لا تعني دائما أن صاحب البصمة هو الجاني لاحتمال أن يكون القاتل غيره كما إذا وجده مقتولا فأراد أن يتبين فصار لامسا للقتيل أو كان حاملا له بقصد إسعافه، أو كان مدافعا عن نفسه وغير هذا من الاحتمالات.
ثم إنه لما كان قول الخبير شهادة يستعين به القاضي في الدعوى القائمة كما أسلفت، وجب أن يراعى في هذا المقال الشبُه التي تردّ الشهادة فيجب ألا يكون الخبير الذي قدم تقريره في الدعوى قريبا لأحد الخصوم أو قريبا لزوجته أو صهرا لأحد الخصوم أو وكيلا له أو لزوجته في أعماله أو وصيا أو قيما أو مظنونا وراثته بعد موته، كما يجب ألا تكون بينه وبين أحد الخصوم عداوة أو خصومة ما لم تكن هذه الخصومة قد أقيمت بعد الدعوى يقصد منعه من الإدلاء بقوله أو تقريره [19] .
وبانتهاء الكلام عن شهادة أهل الخبرة نكون قد فرغنا من عرض أهم وسائل الإثبات في الفقه الإسلامي، وقد رأينا أن هناك قسما قد اتفق الفقهاء على حجيته وهو الإقرار والشهادة، وقسما اختلفوا فيه وعرضنا فيه اليمين النكول عنه، وعلم القاضي، والقرائن والفراسة، والكتابة وشهادة الخبراء، وقبل أن أختم هذا البحث أرى أن أقرر بعض الحقائق المهمة:
الأولى: إن هذه الأدلة التي سقناها تدل على الحق غالبا، ولا يخلو دليل منها- متفق عليه أو مختلف فيه- من احتمال، ولكن هذا الاحتمال لا يمنع غالبا دلالتها على الحق، ولذا جعلها الشارع وسائل للإثبات لأن الحكم للكثير الغالب لا للقيل النادر.
الثانية: إنه لا يجوز التوصل إلى هذه الوسائل بطريق غير مشروع، ولابد للقاضي من التأكد من سلامة إجراءات حصوله على أي من هذه الأدلة ويظهر تقرير الفقه الإسلامي لقواعد سلامة إجراءات الوصول إلى الأدلة في أمرين:
(أ) عدم جواز تعذيب المتهمين للحصول على إقرارهم:
يرى ابن حزم أن الامتحان في الحدود وغيرها من الجرائم بالضرب وبالسجن أو التهديد لا يحل شرعا لأنه لم يرد بذلك قرآن ولا سنة ولا إجماع، بل قد منع الله تعالى من ذلك على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:"إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام"[20] . ولا يجوز ضرب المسلم إلا إذا ثبت عليه حق فمنعه فيكون ظالما في هذه الحالة فوجب ضربه لإخراج الحق منه.
ويرى ابن حزم تأسيسا على ذلك أنه لو ضرب المتهم حتى أقر فإن إقراره لا يعمل به، لأنه قد أخذ بصفة لم يوجبها قرآن ولا سنة ولا إجماع [21] .
بيد أننا نجد الجمهور من الفقهاء قد قسموا الناس في الدعوى على طوائف ثلاث. طائفة لا يجوز حبسهم ولا ضربهم ولا يضيق عليهم بشيء بل ذهب بعض الفقهاء إلى تعزير من اتهمهم لأن التهمة لا تليق بأمثالهم لكونهم من أهل الورع والتقوى ومعروفين بالدين والصلاح، وطائفة مجهول حالها لم تعرف بصلاح أو فسق، فهذه قالوا لا يضرب المتهم منها ولكن يحبس حتى ينكشف أمره، وطائفة المشتهرين بالفساد والفجور ونقب الدور والسرقات، فهذا لا مانع من ضربه لمناسبة التهمة له ولكونه لوترك لضاعت الحقوق وعمت الفوضى [22] .
(ب) ألا يكون في الحصول على الدليل اعتداء على الحرية الشخصية:
وفي نظري أن الحصول على الدليل إذا كان باعتداء على الحرية الشخصية للفرد فإن ذلك سبب كاف في منع الاحتجاج به، إذ أن الشريعة الإسلامية تمنع التجسس على الناس في حياتها الخاصة، فيقول تعالى:{وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} . (الحجرات: 12) . كما توجب الستر وعدم مضايقة الناس في بيوتهم، ولذا فإن الدليل المأخوذ بأحد هذه الطرق يجب عدم الالتفات إليه.
ونستدل لذلك بما رواه البيهقي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فذكر البيهقي أن عبد الرحمن بن عوف حرس مع عمر ليلة بالمدينة، فبينما هم يمشون شب لهب سراج في بيت، فانطلقوا يؤمونه حتى إذا دنوا منه إذ باب مجاف على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة ولغط فقام عمر رضي الله عنه وأخذ بيد عبد الرحمن فقال:"أتدري بيت من هذا؟ "قلت: "لا". قال: "هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف وهم الآن شرب فما ترى؟ "قال عبد الرحمن: "أرى قد أتينا ما نهى الله عنه {وَلا تَجَسَّسُوا} فقد تجسسنا"فانصرف عنهم عمر رضي الله عنه وتركهم [23] .
وفى رواية أن عمر رضي الله عنه كان يمر ليلة في المدينة فسمع صوتا في بيت فارتاب في أن صاحب الدار يرتكب محرما، فتسلق المنزل وتسور الحائط ورأى رجلا وامرأة ومعهما زق خمر فقال:"يا عدو الله أظننت أن الله يسترك وأنت على معصية"، وأراد أن يقيم عليه الحد فقال الرجل:"لا تعجل يا أمير المؤمنين إن كنت قد عصيت الله في واحدة فقد عصيته أنت في ثلاث فقال تعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا} وأنت تجسست. وقال: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} (البقرة: 189) . وأنت تسورت وصعدت الجدار ونزلت. وقال تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} . (النور: 27) . وأنت لم تسلم". فخجل عمر وبكى وقال للرجل: "هل عندك من خير إن عفوت عنك"قال: "نعم". فقال: "اذهب فقد عفوت عنك"[24] .
معنى ذلك أن صاحب الدار دفع بعدم مشروعية الدليل. فقد ضبط بالفعل متلبسا بجريمة شرب الخمر ولكن هذا الضبط كان وليد إجراءات غير مشروعة، وهو التجسس وتسور الحائط وعدم السلام، وقد أخذ عمر واقتنع بصحة الدفع وترك الرجل، وليست المسألة أن عمر أراد أن يجري مقاصة بين ما ارتكبه صاحب الدار وما ارتكبه هو وعفا عنه لذلك، لأنه لا يملك العفو عن الحد، بل إنه أسقط الدليل المستمد من الواقعة بعد تبينه أنه وليد إجراءات غير مشروعة.
الثالثة: "الأصل في الذمة البراءة"[25] معنى ذلك أنه ما لم يثبت بطريق من طرق الإثبات أن الشخص معتد أو غاصب فالأصل براءته، فهذه قاعدة وأصل مقرر في الفقه الإسلامي.
والحمد لله أولا وآخرا وصلى الله على سيدنا محمد حتى يرضى
…
أهم مراجع البحث
أولا: كتب تفسير القرآن الكريم:
(1)
أحكام القرآن: أبو بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص (370هـ) ط. الأوقاف القسطنطينية 1338هـ.
(2)
الكشاف: محمود بن عمر الزمخشري (528) ط. مصطفى محمد بمصر 1354هـ.
(3)
أحكام القرآن: أبو بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي (542) ط. دار إحياء الكتب العربية 1357هـ.
(4)
التفسير الكبير: عمد فخر الدين الرازي (656 هـ) ط. الأميرية بولاق 1289 هـ.
(5)
الجامع لأحكام القرآن: أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي (671 هـ) ط. دار الكتب المصرية 1351 هـ.
(6)
لباب التأويل في معاني التنزيل: علاء الدين علي بن محمد الخازن (725 هـ) ط. الأزهرية 1313هـ.
(7)
روح المعاني: شهاب الدين الألوسي (1270هـ) إدارة الطبعة المنيرية بيروت.
ثانيا: كتب الحديث النبوي وشروحه:
(8)
الموطأ- مطبوع مع شرح الزرقاني: مالك بن أنس الأصبحي (179 هـ) ط. الخيرية.
(9)
سنن الدارمي: محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي (255 هـ) ط. الفنية. مصر 1386 هـ.
(10)
صحيح البخاري: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري (256 هـ) ط. العامرة. مصر 1286 هـ.
(11)
صحيح مسلم: مطبوع مع شرح النووي: مسلم بن الحجاج النيسابوري (261 هـ) ط. المصرية ومكتبتها 1349 هـ.
(12)
سنن الترمذي: محمد بن عيسى بن سورة الترمذي (275 هـ) ط. الصاوي. مصر 1353هـ.
(13)
سنن أبي داود: أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني (275 هـ) ط. هندية حديثة.
(14)
نوادر الأصول: محمد بن علي بن الحسين الحكيم الترمذي (285 هـ) ط. العثمانية.
(15)
سنن الدارقطني: علي بن عمر الدارقطني (385 هـ) ط. دار المحاسن. مصر (1386) هـ
(16)
السنن الكبرى: أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي (485 هـ) ط. دائرة المعارف العثمانية 1344 هـ.
(17)
النهاية في غريب الحديث والأثر: المبارك بن محمد بن الأثير (606 هـ) ط. العثمانية 1311 هـ.
(18)
شرح النووي على صحيح مسلم: يحي بن شرف النووي (676 هـ) ط. المصرية ومكتبتها.
(19)
فتح الباري شرح صحيح البخاري: أحمد بن حجر العسقلاني (852 هـ) ط. البهية. مصر 1348 هـ.
(20)
نيل الأوطار: محمد بن علي الشوكاني (1255 هـ) ط. العثمانية.
(21)
حاشية عون المعبود: أبو الطيب شمس الحق العظيم آبادي (1320 هـ) ط. هندية حديثة.
(22)
التعليق المغني على سنن الدارقطني: أبو الطيب شمس الحق العظيم آبادي (1320 هـ) دار المحاسن.
ثالثا: كتب الفقه الإسلامي:
(أ) الفقه الحنفي:
(23)
المبسوط: محمد بن أحمد بن سهل السرخسي (438 هـ) ط. السعادة. مصر 1324هـ.
(24)
بدائع الصنائع: علاء الدين بن مسعود الكاساني (587 هـ) ط. المطبوعات العلمية، مصر 1327 هـ.
(25)
الاختيار لتعليل المختار: أبو الفضل عبد الله بن محمود الموصلي (683 هـ) ط. السعادة. مصر 1376 هـ.
(26)
تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: فخر الدين عثمان بن علي الزيلعي (742 هـ) ط. الأميرية1376 هـ.
(27)
الفوائد الطرسوسية: نجم الدين إبراهيم بن علي الطرسوسي (758 هـ) ط. الشرق. مصر 1344 هـ.
(28)
جامع الفضولين: أبو بكر علي المعروف بالحدادي (800 هـ) ط. الخيرية. مصر 1322هـ.
(29)
معين الحكام: علاء الدين الطرابلسي (844 هـ) ط. الأميرية بولاق.. 13 هـ.
(30)
فتح القدير: كمال الدين بن الهمام (861 هـ) ط. الأميرية 1315 هـ.
(31)
البحر الرائق: إبراهيم بن نجيم المصري (970 هـ) ط. دار المعرفة. بيروت.
(32)
الأشباه والنظائر: إبراهيم بن نجيم المصري (970 هـ) ط. العامرة. مصر 1290 هـ.
(33)
حاشية ابن عابدين: محمد أمين الشهير بابن عابدين (1252 هـ) ط. العثمانية 13 25 هـ.
(34)
رسائل ابن عابدين: محمد أمين بن عابدين (1252 هـ) ط. العثمانية.
(35)
مجلة الأحكام العدلية: لجنة من العلماء (1298 هـ) ط. العثمانية.
(ب) الفقه المالكي:
(36)
بداية المجتهد ونهاية المقتصد: أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد (595 هـ) ط. البابي الحلبي 79 13هـ.
(37)
الفروق: أحمد بن أدريس القرافي (684 هـ) دار إحياء الكتب العربية 1346 هـ.
(38)
قوانين الأحكام الشرعية: أبو القاسم محمد بن جزى (741 هـ) دار العلم للملايين بيروت.
(39)
مختصر خليل: خليل بن إسحاق بن موسى (779 هـ) مع الشرح الكبير للدردير.
(40)
تبصرة الحكام: إبراهيم بن فرحون (799 هـ) ط. البهية. مصر 2 130 هـ.
(41)
مواهب الجليل: محمد بن عبد الرحمن الحطاب (954 هـ) ط. السعادة مصر 1329 هـ.
(42)
شرح مختصر خليل: أبو عبد الله الخرشي (1101هـ) ط. الأميرية 1317 هـ.
(43)
الشرح الكبير- هامش حاشية الدسوقي- أحمد بن محمد الدردير (1201 هـ) .
(44)
حاشية الدسوقي: محمد بن عرفة الدسوقي (1230 هـ) ط. السعادة. مصر 1329هـ.
(جـ) الفقه الشافعي:
(45)
الأم: أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي (204 هـ) ط. الفنية.
(46)
مختصر المزني- هامش الأم: إسماعيل بن يحي المزني (264 هـ) .
(47)
المهدى: إبراهيم بن علي الشيرازي (476 هـ) ط. البابي الحلبي 1343 هـ.
(48)
مغني المحتاج: محمد الشربيني الخطيب (977 هـ) ط. البابي الحلبي 1377 هـ.
(49)
نهاية المحتاج: محمد بن أبي العباس الرملي 1004 هـ.
(د) الفقه الحنبلي:
(50)
المغني: عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي (620 هـ) ط. دار المنار 67 13 هـ.
(51)
السياسة الشرعية تقي الدين أبو العباس بن تيمية (728 هـ) دار الكتاب العربي.
(52)
مجموعة فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (728 هـ) ط. كردستان.
(53)
إعلام الموقعين محمد بن قيم الجوزية (751 هـ) ط. الجيل. بيروت.
(54)
الطرق الحكمية: محمد بن قيم الجوزية (751 هـ) ط. مصر.
(55)
كشاف القناع: منصور بن يونس البهوثي (1051 هـ) ط. أنصار السنة.
الفقه الظاهري:
(56)
المحلى: أبو محمد علي بن أحمد بن حزم (456 هـ) ط. الإمام. مصر.
رابعا: كتب أصول الفقه الإسلامي:
(57)
المستصفى من علم الأصول: أبو حامد الغزالي (505 هـ) ط. الأميرية 1322 هـ.
(58)
كشف الأسرار: عبد العزيز البخاري (730 هـ) ط. العثمانية.
(59)
الموافقات: إبراهيم بن موسى الشاطبي (0 79 هـ) ط. السلفية 1 134 هـ.
(65)
علم أصول الفقه: عبد الوهاب خلاف. ط. النصر.
خامسا: اللغة والتراجم:
(61)
لسان العرب: محمد بن مكرم بن منظور (711 هـ) ط. الأميرية 1300 هـ.
(62)
التعريفات: علي بن محمد السيد الجرجاني (816 هـ) ط. البابى الحلبي 57 13 هـ.
(63)
تاج العروس شرح القاموس: محمد بن محمد مرتضى الزبيدي (1205 هـ) ط. الخيرية 6. 13 هـ.
(64)
الإعلام: خير الدين الزركلي ط. بيروت.
سادسا: مؤلفات حديثة:
(65)
طرق القضاء في الشريعة الإسلامية: أحمد إبراهيم ط. السلفية مصر 1347 هـ.
(66)
التعليق على نصوص قانون الإثبات: أحمد أبو الوفا ط. منشأة المعارف.
(67)
علم القضاء: أحمد الحصَري.
(68)
أصول المرافعات الشرعية: أنور العمروسي.
(69)
دروس في قانون الإثبات: عبد الودود يحي ط. دار النهضة العربية.
(70)
مباحث في المرافعات الشرعية: محمد زيد الابياني ط. عبد الله الكتبي. مصر.
(71)
من طرق الإثبات في الشريعة والقانون: محمد البهي. ط. دار الفكر العربي.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
الطرق الحكمية ص 300.
[2]
أحكام القرآن للجصاص 1/ 481.
[3]
تفسير القرطبي 3/383، أحكام القرآن للجصاص 1/ 1 48.
[4]
أحكام القرآن للجصاص 1/ 482، تفسير القرطبي 3/383.
[5]
الطرق الحكميه ص 299- هـ 30.
[6]
صحيح البخاري4/237 (كتاب الأحكام- باب الشهادة على الخط) .
[7]
صحيح البخاري 3/ 124 (كتاب الوصايا) .
[8]
الطرق الحكمية ص 301.
[9]
صحيح البخاري4/237 (كتاب الأحكام- باب الشهادة على الخط) .
[10]
الطرق الحكمية ص 301، وأنظر المستصفى للغزالي 1/166.
[11]
أصول المرافعات الشرعية أنور العمروسي فقره 318، علم القضاء. أحمد الحصري 1/48.
[12]
صحيح البخاري 4/237 (كتاب الأحكام) .
[13]
الطرق الحكمية ص 299.
[14]
جامع الفضولين 1/325 وما بعدها.
[15]
علم القضاء: أحمد الحصرى 1/48 وما بعدها.
[16]
الطرق الحكمية ص 302.
[17]
المرجع السابق ص 303.
[18]
صحيح البخاري 3/ 139. (كتاب الفرائض- باب القائف) .
[19]
أصول المرافعات الشرعية: أنور العمروسي فقرة 365.
[20]
صحيح البخاري (كتاب الحدود) 4/ 105.
[21]
المحلى 11/135.
[22]
لفتاوى الكبرى ابن تيميه 4/ 190 وما بعدها، معين الحكام للطرابلسي ص 217، والحبس في التهمة والامتحان على طلب الإقرار مؤلفه سعد الدين بن الديري الحنفي ص16.
[23]
السنن الكبرى 8/ 333، ورواه الحاكم في المستدرك 4/ 377. قال الذهبي في تلخيص المستدرك صحيح.
[24]
تاريخ الطبري 5/ 20 المطبعة الحسينية: مصر.
[25]
الأشباه والنظائر لابن نجيم وشرح الحمدي على الأشباه 1/ 89 والمادة "8"من محلة الأحكام العدلية، والمدخل الفقهي العام للأستاذ مصطفى الزرقاء 1/648.
تَحقِيقُ جُزءِ الضُّعَفَاءِ وَالمترُوكينَ
"للإمام الدارقطني"
(3)
د. عبد الرحيم محمد القشقري
أستاذ مساعد بكلية الحديث بالجامعة
حرف الغين
(425)
غياث بن إبراهيم كوفي عن العالم [1] .
(426)
غياث بن كلوّب له نسخة عن مطرف بن سمرة بن جندب لا يعرف إلا به ويروي عن شريك.
(427)
غالب بن عبيد الله الجزري عن عطاء والزهري وأبي إسحاق.
(428)
غانم بن الأحوص حجازي عن أبي صالح السمان.
(429)
غطيف [2] بن أعين كوفي عن مصعب بن سعد.
(430)
غطيف الجزري ويقال الطائفي روي عنه أسد بن عمرو البجلي ويروي عنه القاسم بن مالك فيقول روح بن غطيف. هو. هو.
حرف الفاء
(431)
فايد بن عبد الرحمن أبو الورقاء كوفي عن ابن أبي أوفى ومحمد بن المنكدر [3] .
(432)
فرات بن السائب جزري عن ميمون بن مهران وأبي إسحاق [4] .
(433)
فرقد بن يعقوب السبخي أبو يعقوب بصري عن مرة الطيب والنخعي [5] .
(434)
فهد بن حيان بصري عن شعبة وأبي عوانة [6] .
(435)
فهد بن عوف أبو ربيعة ويقال زيد. بصري. عن حماد بن زيد [7] .
(436)
فطر بن محمد العطار الأحدب. حدثوا عنه. كذاب.
حرف القاف
(437)
قاسم بن عبد الله بن عمر العمري عن أبيه وعمه وعبد الله بن دينار.
(438)
قاسم بن إبراهيم الملطي عن مالك يكذب [8] .
(439)
قاسم بن أبي شيبة عن البصريين والكوفيين [9] .
(440)
قاسم بن محمد بن حماد الدلال كوفي.
(441)
قزعة بن سويد البصري يغلب عليه الوهم.
حرف الكاف
(442)
كثير بن سليم بصري عن أنس.
(443)
كثير بن عبد الله الأبلي أبو هاشم عن أنس [10] .
(444)
كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده.
(445)
كثير بن مروان المقدسي عن إبراهيم بن أبي عبلة.
(446)
كوثر بن حكيم الحلبي عن نافع.
حرف اللام
(447)
لوط بن يحي الكوفي أبو مخنف إخباري. ضعيف.
حرف الميم
(448)
محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير مكي [11] .
(449)
محمد بن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه. وزيد بن أسلم. وعطاء، والحكم، وعبيد الله هذا. ليس بصاحب علي. ذاك عبيد الله بن علي بن أبي رافع.
(450)
محمد بن عبيد الله بن أبي سليمان العزرمي. وهو ابن أخي عبد الملك بن أبي سليمان.
(451)
محمد بن عبد الرحمن. أبو جابر البياضي عن ابن المسيب.
(452)
محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني. يماني. عن أبيه وأبوه يعتبر به.
(453)
محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر المليكي القرشي الجدعاني عن جعفر بن محمد، وعبيد الله بن عمر، وابن أبي مليكة [12] .
(454)
محمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبه. مراسيل. عن سعد وابن عمر [13] .
(455)
محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي الزناد، والزهري.
(456)
محمد بن عبد الملك الأنصاري. مدني. عن نافع والزهري وابن المنكدر.
(457)
محمد بن حجاج المصفر بغدادي. عن شعبة ومالك.
(458)
محمد بن حجاج اللخمي. الواسطي. يكذب. عن عبد الملك بن عمير ومجالد.
(459)
محمد بن حجاج بن سويد البرجمي كوفي عن هشام بن عروة. من الشيعة.
(460)
محمد بن سعيد بن أبي قيس المصلوب شامي عن عبادة بن أنسي، والزهري، وإسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر [14] .
(461)
محمد بن سالم أبو سهل كوفي عن الشعبي والحكم.
(462)
محمد بن كريب مدني عن أبيه.
(463)
محمد بن عثيم أبو ذر عن ابن البيلماني.
(464)
محمد بن عون الخراساني سكن الكوفة عن نافع وسعيد بن جبير.
(465)
محمد بن زياد الميموني [15] .
(466)
محمد بن مهران يكذب [16] .
(467)
محمد بن السائب الكلبي.
(468)
محمد بن زاذان شامي. عن محمد بن المنكدر وأم سعد الأنصارية. هي لا تُعرف إلا به.
(469)
محمد بن زيد العبدي بالبصرة عن أبي الأعين وسعيد بن جبير.
(470)
محمد بن مروان السدي أبو عبد الرحمن كوفي. مصنف. عن عبيد الله بن عمر ويزيد بن أبي زياد.
(471)
محمد بن معاوية النيسابوري حدث ببغداد ثم بمكة وليس هو ابن مالج، ابن صالح ثقة [17] .
(472)
محمد بن كثير القصاب السلمي بصري. وقال يحي بن معين ثقة عن يونس ابن عبيد.
(473)
محمد بن الحسن بن زبالة. مدني. عن مالك، وسليمان بن بلال.
(474)
محمد بن الحسن بن آتش صنعاني.
(475)
محمد بن الفضاَء المعبر بصري عن أبيه عن علقمة بن عبد الله عن أبيه. لا يعرفون إلا به [18] .
(476)
محمد بن فرات كوفي عن أبي إسحاق وعبد الله بن الحسن.
(477)
محمد بن عمر الواقدي مختلف فيه. فيه ضعف بيّن في حديثه [19] .
(478)
محمد بن القاسم الأسدي. أبو إبراهيم. كوفي يكذب. عن الثوري، والأوزاعي.
(479)
محمد بن ذكوان بصري. خال ولد حماد بن زيد، يروى عن عمرو بن دينار وابن المنكدر ومجالد.
(480)
محمد بن أبى حميد ويقال حماد. مدني، عن ابن المنكدر، ونافع، وزيد بن أسلم.
(481)
محمد بن يحي الزهري. أبوغَزية مدني عن عبد الوهاب بن موسى يضع.
(482)
محمد بن الفضل بن عطية الخرساني ضعيف عن أبى إسحاق ومنصور من المتأخرين.
(483)
محمد بن زكريا الغلابي بصري يضع.
(484)
محمد بن عيسى بن حيان المدايني [20] . عن ابن عيينة ومحمد بن الفضل بن عطية.
(485)
محمد بن عبد بن عامر. طواف. في البلدان يكذب ويضع [21] .
(486)
محمد بن يونس بن موسى الشامي الكديمي [22] .
(487)
محمد بن إبراهيم بن زياد الرازي.
(488)
محمد بن عكاشة الكرماني. بصري يضع الحديث.
(489)
محمد بن عكاشة. كوفي. ضعيف.
(490)
محمد بن عبد الرحمن بن غزوان. هو ابن زيد، متروك بغدادي.
(491)
محمد بن أيوب بن سويد الرملي. ضعيف.
(492)
محمد بن عبد الله بن نمران. ضعيف.
(493)
محمد بن عيسى الهذلي. ضعيف. يروى عن محمد بن المنكدر يكنى أبا يحي.
(494)
محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن ثابت الأشناني كذاب دجال ()[23] يضع الأحاديث.
(495)
محمد بن هارون بن عيسى بن بُرَيْه. الهاشمي.
(496)
معبد الجهني. قدري. عن حمران.
(497)
محرر بن هارون بن عبد الله التيمي الهديري. مدني عن الأعرج عن أبيه لا يعرف إلا به [24] .
(498)
مبارك بن سحيم أبو سحيم بصري. مولى عبد العزيز بن صهيب [25] .
(499)
مبشر بن عبيد الحمصي. يكذب. عن الزهري، وزيد بن أسلم وحجاج ابن أرطأه.
(500)
مهدي بن هلال. يضع عن هشام بن عروة. وجعفر.
(501)
مينا. مولي عبدا لرحمن بن عوف عن ابن مسعود.
(502)
مطير بن خالد. وقيل، مطر الاسكاف عن أنس.
(3. 5) معلى بن عرفان. كوفي. عن أبي وائل.
(504)
معلى بن هلال بن سويد الطحان. كوفي يكذب. عن أبي إسحاق وعبيد الله بن عمر. يروي عنه الحماني فيقول علي بن سويد. ويروي فروة بن أبي المغراء فيقول عبد الله بن عبد الرحمن ويروي عنه غيرهما فيقول أبو عبد الله الطحان [26] .
(505)
معلى بن عبد الرحمن. واسطي. عن شريك، وعبد الحميد بن جعفر [27] .
(506)
مسعدة بن اليسع باهلي، بصري. عن جعفر بن محمد، وابن جريج ومحمد ابن عمرو.
(507)
مسيب بن شريك. كوفي. أبو سعيد عن الأعمش وعبيد الله بن عمر وهشام ابن عروة. روى عنه إسحاق بن بهلول فقال أبو سعيد الشقري. وروى عنه علي بن الجعد فقال أبوسعيد. ضعيف [28] .
(508)
مسور بن الصلت. مدني عن نافع وابن المنكدر وزيد بن أسلم.
(509)
ميسرة بن عبد ربه بغدادي. عن زيد بن أسلم كتاب العقل لداود بن المحبر تصنيفه [29] .
(510)
معاوية بن يحي الصدفي يكتب ما روي الهقل عنه ويتجنب ما سواه خاصة ما روى عنه إسحاق بن سليمان الرازي.
(511)
معاوية بن عمر أبو مطيع الاطرابلسي. روى عنه الوليد بن مسلم وشعبة وهشام بن عروة وعلي بن عياش.
(512)
موسى بن مطير كوفي. عن أبيه، وعاصم بن بهدله. وموسى بن طلحة. ومطير أبو لا يعرف إلا به.
(513)
موسى بن عمير أبو هارون الجعدي المخزومي. مولى بني جعدة بن هبيرة عن الحكم وأبي إسحاق.
(514)
موسى بن سعد أبو علي الحنفي. حديث منكر عن الحكم فقال حدثنا أبو هارون الشامي [30] .
(515)
موسى بن عمير العنبري. ثقة عن علقمة بن وائل بن حجر [31] .
(516)
موسى بن عبيدة الربذي. لا يتابع على حديثه. وأخوه عبد الله صالح.
(517)
موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي. عن أبيه والزهري، ومجاهد.
(518)
موسى بن دينار مكي عن هشام.
(519)
موسى بن طريف كوفي. عن عباية بن ربعي. متروك.
(520)
موسى بن عمير العنبري عن عبد الجبار وأبي وائل بن حجر [32] .
(521)
موسى بن سهل ألوشاء عن إسماعيل بن علية حدثونا عنه هو غير موسى بن سهل بن عبد الحميد الجوني. والجوني صالح الحديث.
(522)
موسى بن دهقان حدثونا عنه بصري عن ابن كعب بن مالك.
(523)
موسى بن محمد بن عطاء المقدسي أبو طاهر عن مالك والموقري.
(524)
مغيرة بن سعيد الكوفي. دجال. أحرق بالنار زمن النخعي أدعى النبوة [33] .
(525)
مسلمة بن علي الخشني عن الأوزاعي، وهشام بن عروة وعبيد الله بن عمر.
(526)
مقاتل بن سليمان. خراساني. يكذب.
(527)
ميمون أبو حمزة القصاب الأعور. كوفي عن النخعي والحسن.
(528)
مروان بن سالم الجزري. قرقساني. عن عبد الملك بن أبي سليمان والزهري. (قال البرقاني استدركت من هنا إلي آخره من كتاب غيري) .
(529)
مطر بن ميمون المحاربي.
(530)
مطرح بن يزيد. شامي.
(531)
مجالد بن سعيد. كوفي. ليس بقوي.
(532)
المثنى بن الصباح مكي.
(533)
مجاشع بن عمرو.
(534)
منذر بن زياد الطائي.
(535)
معارك بن عباد عن عبد الله بن سعيد المقبري.
حرف النون
(536)
ناصح بن عبد الله أبو عبد الله كوفي. عن سماك بن حرب.
(537)
ناصح بن العلاء أبو العلاء بصري. عن عمار بن أبي عمار.
(538)
نوح بن أبي مريم أبو عصمة.
(539)
نوح بن دراج. كوفي.
(540)
النضر بن عبد الرحمن الخزاز. كوفي. عن عكرمة.
(541)
النضر بن سلمه. شاذان.
(542)
النضر بن مِطْرَق كوفي أبا لينة.
(543)
نصر بن طريف أبو جزي.
(544)
نصر بن باب. خراساني.
(545)
نصر بن حماد. أبو الحارث الوراق. عن شعبة.
(546)
نصر بن مزاحم المنقري. كوفي.
(547)
نفيع بن الحارث أبو داود الأعمى. كوفي.
(548)
نافع. أبو هرمز بصري عن أنس وعطاء [34] .
(549)
نجيح. أبو معشر [35] .
(550)
نهشل بن سعيد، خراساني.
(551)
نعيم بن المورع بن توبة. عن الأعمش، وهشام بن عروة.
(552)
نوفل بن سليمان الهنائي. حجازي.
حرف الواو
(553)
واقد بن سلامة مدني. وقيل وافد بالفاء عن يزيد الرقاشي [36]
(554)
واصل بن السائب الرقاشي. كوفي.
(555)
وازع بن نافع العقيلي. جزري.
(556)
وهب بن وهب أبو البختري. بغدادي. كذاب.
(557)
وليد بن محمد الموقري. شامي [37] .
(558)
وليد بن العباس بن مسافر. الخولاني. مصري.
(559)
وليد بن وليد الدمشقي عن ابن ثوبان. وسعيد بن بشير.
حرف الهاء
(560)
هشام بن زياد أبو المقدام بصري عن محمد بن كعب. وهشام بن عروة وأخوه الوليد ثقة.
(561)
هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبي مخنف ومجاهد [38] .
(562)
هيثم بن جماز البكاء بصري.
(563)
هيثم بن عدي الطائي.
(564)
هيثم بن عبد الغفار بصري.
(565)
هذيل بن بلال المدائني يكنى أبا البهلول.
(566)
هارون بن هارون مدني [39] .
(567)
هارون بن حيان الرقى عن ابن المنكدر وليث بن أبي سليم.
(568)
هارون بن دينار [40] .
حرف الياء
(569)
يحي بن عبيد الله بن موهب عن أبيه.
(570)
يحي بن أبي أنيسة الجزري.
(571)
يحي بن مسلم البكاء بصري. عن ابن عمر.
(572)
يحي بن سلمة بن كهيل.
(573)
يحي بن عقبة بن أبي العيزار.
(574)
يحي بن أبي حية. أبو جناب الكلبي [41] .
(575)
يحي بن سعيد المديني. التميمي وهو الفارسي قاضي شيراز عن الزهري وهشام بن عروة.
(576)
يحي بن كثير أبو النضر. بصري ضعيف. عن أيوب، وسليمان التيمي وعامر. الأحول، وعطاء بن السايب، وداود بن أبي هند.
(577)
يحي بن العلاء الرازي البجلي.
(578)
يحي بن ميمون بن عطاء أبو أيوب التمار بصري.
(579)
يحي بن بسطام بن حريث بصري.
(580)
يحي بن هاشم السمسار. أبو زكريا. كان ببغداد.
(581)
يحي بن عمرو بن مالك. بصري.
(582)
يحي بن راشد. بصري.
(583)
يحي بن سالم. كوفي.
(584)
يحي بن ثعلبه أبو المقوم [42] .
(585)
يحي بن عنبسة بغدادي كذاب.
(586)
يزيد بن عياض بن جعدبة. مكي [43] .
(587)
يزيد بن سنان أبو فروة الرهاوي.
(588)
يزيد بن ربيعة أبو كامل الرحبي. من صنعاء دمشق.
(589)
يزيد بن سفيان أبو المهزم بصري ضعفه شعبة [44] .
(590)
يزيد بن عبد الملك بن المغيرة بن نوفل مدني.
(591)
يزيد بن إبان الرقاشي عن أنس.
(592)
يزيد بن بيان المعلم.
(593)
يزيد بن يوسف الشامي.
(594)
يزيد بن عطاء مولي أبي عَوانة واسطي.
(595)
يعقوب بن الوليد مدني.
(596)
يوسف بن محمد بن المنكدر عن أبيه.
(597)
يوسف بن السفر أبو الفيض عن الأوزاعي روى عنه عبد الله بن عمران العابدي فقال يوسف بن الفيض شامي [45] .
(598)
يوسف بن خالد السمتي بصري.
(599)
يوسف بن عطية الصفار أبو سهل بصري.
(600)
يوسف بن عطية الوراق كوفي. أبو المنذر.
(601)
يوسف بن ميمون الصباغ كوفي. عن عطاء.
(602)
يونس بن خباب كوفي سيء المذهب [46] .
(603)
يعلى بن الأشدق.
(604)
ياسين بن معاذ أبو خلف الزيات كوفي.
(605)
يمان بن المغيره أبو حذيفه العنزي بصري [47] .
(606)
يمان أبو حذيفة. وقيل ابن حذيفة. بصري.
(607)
يمان بن سعيد. أبو رضوان شامي.
(508)
يمان بن عدي أبو عدي الحضرمي ضعيف.
(609)
يمان بن رئاب خراساني يرى رأي الخوارج.
الكنى
(610)
أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة مديني [48] .
(611)
أبو حامد الحنفي مجهول.
(612)
أبو داود النخعي كذاب رماه أحمد بن حنبل بالكذب.
(613)
أبو كرز القرشي مجهول [49] .
(614)
أبو ناشرة مجهول.
(615)
أبو سورة مجهول يروي عن أبي أيوب الأنصاري [50] .
(616)
أبو أدام كوفي سليمان بن زيد المحاربي عن ابن أبي أوفي ضعيف.
(617)
أبو همدان. القاسم بن بهرام قاضي هيت متروك.
(618)
أبو توبة القاص بصري ضعيف.
(619)
أبو سفيان الصوفي. ويقال العوفي. قال الدارقطني ليس أعرفه.
(620)
أبو حماد الكوفي الحنفي المفضل بن صدقة ليس بالقوي.
(621)
أبو حفص العبدي عمر بن حفص ضعيف.
(622)
أبو أمية بن يعلى الثقفي ضعيف [51] .
(623)
أبو سفيان السعدي طريف ضعيف.
(624)
أبو عبد السلام مجهول [52] .
(625)
أبو صفوان عبد الله بن سعيد بن عبد الملك بن مروان من الثقات عن يونس ابن مالك
(626)
سعيد بن مسلمة بن هشام بن عبد. الملك ضعيف يعتبر به.
(627)
ومسلمة بن سعيد بن عبد الملك يعتبر به ضعيف.
(628)
بقية يروي عن قوم متروكين مثل.
(629)
مجاشع بن عمرو [53] .
(630)
وعبيد الله بن يحي لا أعرفه ولا أعلم روى عنه غير بقية.
(631)
وعبد الحميد بن السري الغنوي يروي عن عبيد الله بن عمر يقال له أبو اليسر ضعيف [54] .
(632)
الوليد بن مسلم يرسل، يروي عن الأوزاعي أحاديث الأوزاعي عن شيوخ ضعفاء عن شيوخ قد أدركهم الأوزاعي مثل نافع وعطاء والزهري فيسقط أسماء الضعفاء ويجعلها عن الأوزاعي عن عطاء يعني مثل عبد الله بن عامر الأسلمي وإسماعيل بن مسلم [55] .
(آخر الكتاب والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما كثيرا)
…
وهو حسبنا ونعم الوكيل. بلغ العرض.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
قال الذهبي. تركوه ديوان 245.
[2]
قال الحافظ: ويقال بالضاد المعجمة. تقريب التهذيب 274.
[3]
قال ابن حجر: متروك اتهموه من صغار الخامسة- ت ق- تقريب التهذيب274.
[4]
قال البخاري تركوه منكر الحديث. التاريخ الكبير 4/ 1/ 130.
[5]
قال الذهبي: وثقه ابن معين وقال أحمد ليس بقوي وقال الدارقطني ضعيف، ديوان 247.
[6]
قال الذهبي: ضعفوه. ديوان 250.
[7]
قال ابن المديني كذاب. ديوان 250.
[8]
في أصل المخطوط قاسم بن إبراهيم المطلي والتصويب من ميزان الاعتدال 3 /367.
[9]
قال الذهبي: القاسم بن محمد بن أبي شيبه أخو أبي بكر. ديوان 252.
[10]
قال الذهبي: ذهب ابن حبان إلى أن هذا وكثير بن سليم واحد وليس هذا بشيء. ميزان الاعتدال3 /406.
[11]
قال الذهبي: تركوه واجمعوا على ضعفه وهو محمد المحرم ديوان 276.
[12]
في أصل المخطوط محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر المكي والتصويب من كتب الرجال. أنظر ميزان الاعتدال 3/ 619، ديوان 279.
[13]
قال ابن حجر: محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة بفتح اللام وكسر الموحدة وسكون التحتانية وفتح الموحدة الأخرى. ويقال ابن أبي لبيبة. تقريب التَهذيب 9/ 301، تقريب التهذيب 308.
[14]
قال الذهبي: كذاب صلب في الزندقة أخرجه البخاري في أماكن من تاريخه لاختلافهم في اسمه ونسبه وتقلص اسمه على وجوه. ديوان273.
[15]
هو محمد بن زياد اليشكري الميموني الطحان. ميزان الاعتدال 3/552.
[16]
قال الذهبي: محمد بن مسلم ويقال محمد بن مهران بن مسلم بن المثنى، ميزان الاعتدال4 / 36.
[17]
قال الذهبي محمد بن معاوية النيسابوري وهو محمد بن معاوية ابن أعين الهلالي يكنى أبا علي. وقال ابن حجر. ابن مالج بميم وجيم واسم جده يزيد الأنماطي. وأبو جعفر البغدادي صدوق ربما وهم. أنظر ميزان الاعتدال 3/ 44، تقريب التهذيب 319.
[18]
محمد بن فضا بفتح الفاء والمعجمة مع المد. تقريب التهذيب 315.
[19]
في أصل المخطوط محمد بن عبد الله والصواب ما هو مثبت قال ابن حجر: متروك مع سعة علمه من التاسعة- ق- تقريب التهذيب 312.
[20]
هنا عبارة لم أتبينها ولم أجدها في كتب الرجال.
[21]
أنظر ميزان الاعتدال 3/633.
[22]
قال الذهبي: سئل عنه الدارقطني فقال: يتهم بوضع الحديث. وما أحسن فيه القول إلا من لم يخبر حاله. ميزان الاعتدال 4/ 75.
[23]
هنا عبارة غير واضحة. وأنظر تاريخ بغداد 5/ 439.
[24]
قال ابن حجر: محرر براءين وزن محمد علي الصحيح. تقريب التهذيب329.
[25]
مبارك بن سحيم بمهملتين مصغرا. تقريب التهذيب 327.
[26]
أنظر تهذيب التهديب 10/ 240.
[27]
قال الذهبي: قال الدارقطني كذاب ديوان 304.
[28]
أنظر لسان الميزان 6/38.
[29]
قال الخطيب البغدادي. روى عنه شعيب بن حرب المدائني خطبة الوداع. وداود بن المحبر بن قحذم أحاديث باطلة في كتاب العقل. تاريخ بغداد 13/ 222.
[30]
أنظر لسان الميزان 7/116.
[31]
وثقه ابن معين وأبو حاتم والعجلي تهذيب التهذيب 10/ 364.
[32]
أنظر الترجمة السابقة. ولعل هذا التكرار سبق قلم من الناسخ.
[33]
قال الجوزجاني قتل المغيرة علي ادعاء النبوة كان أشعل النيران بالكوفة علي التمويه والشعوذة حتى أجابه خلق. ميزان الاعتدال 4/ 161.
[34]
قال الذهبي: نافع بن هرمز أبو هرمز وسماه العقيلي نافع بن عبد الواحد. ميزان الاعتدال 4/ 243.
[35]
قال الذهبي: نجيح أبو معشر السندي الهاشمي مولاهم المدني صاحب المغازي. ميزان الاعتدال 4/ 246.
[36]
قال الذهبي: وافد بالفاء أو بقاف. ضعفوه ميزان الاعتدال 4/ 330.
[37]
قال الذهبي: الوليد بن محمد الموقري صاحب الزهري يكنى أبا بثير البلقاوي مولى بني أمية. والموقر حصن بالبلقاء. ميزان الاعتدال 4/ 346. قال الذهبي: الوليد بن محمد الموقري صاحب الزهري يكني أبا بثير البلقاوي مولي بني أمية. والموقر حصن بالبلقاء. ميزان الاعتدال 4/ 346.
[38]
قال الذهبي: النسابة العلامة وقيل أن تصانيفه أزيد من مائة وخمسين مصنفا. ميزان الاعتدال 4/ 304.
[39]
هارون بن هارون بن عبد الله بن محرز بن الهدير أخو محرز ابن هارون. ميزان الاعتدال 4/287
[40]
قال الذهبي: شيخ بصري. ضعفه الدارقطني وغيره. ميزان الاعتدال 4/283.
[41]
يحي ابن أبي حية بمهملة وتحتانية أبو جناب بحيم ونون خفيفتين. تقريب التهذيب374.
[42]
أنظر ميزان الاعتدال 4/267.
[43]
يزيد به عِياض بن جُعدبة بضم الجيم والمهملة بينهما مهملة ساكنة. تقريب التهذيب 384.
[44]
أبو المهزم بتشديد الزاي المكسورة اسمه يزيد وقيل عبد الرحمن. تقريب التهذيب428.
[45]
أنظر ميزان الاعتدال 4/ 466.
[46]
ما بين القوسين كلمة غير واضحة وقد وجدت ترجمة هدا الرجل في ميزان الاعتدال وتهذيب التهذيب وعثرت فيهما علي قول الدارقطني ونصه. "كان رجل سوء فيه شيعية مفرطة كان يسب عثمان "أنظر ميزان الاعتدال 4/479، تهذيب التهذيب 11/438.
[47]
جعل الذهبي هذه الترجمة وما بعدها لرجل واحد. ميزان الاعتدال 4/ 460
[48]
قيل اسمه عبد اللَه وقيل محمد. تقريب التهذيب 396
[49]
عبد الله بن كرز القرشي لسان الميزان 7/98.
[50]
قال الذهبي: يقال أنه أبن أخي أبي أيوب. ميزان الاعتدال 4/ 535.
[51]
قال الذهبي: هو إسماعيل. ميزان الاعتدال 4/493.
[52]
قال الذهبي: قيل اسمه الزبير وقيل أيوب. ميزان الاعتدال 4/548.
[53]
انظر ميزان الاعتدال 3/ 436.
[54]
قال الذهبي: من المجاهيل. ضعفه الدارقطني. ميزان الاعتدال 2/ 541.
[55]
قال الذهبي: إذا قال الوليد بن مسلم عن ابن جريج أو عن الأوزاعي فليس بمعتمد لأنه يدلس عن كذابين فإذا قال حدثنا فهو حجة. ميزان الاعتدال 4/348.
الملَكُ عَبدُ العَزِيز ِآل سُعود بين نَصرِهِ لله ونَصرِ الله لَهُ
(3)
للشيخ إبراهيم محمد حسن جمل
المدرس بالمعهد الثانوي للجامعة
كان الملك عبد العزيز دائم الشكر لله سبحانه وتعالى على تأييده له في كل مواقفه، وكان دائما يفيض في الحديث بنعمة الله عليه، وبتوفيقه في جميع أموره، قال رحمه الله: "التوفيق
…
والتوفيق لا يكون إلا بالله
…
{وَمَا تَوْفِيقِي إِلَاّ بِاللَّهِ} . (هود: 88) . والإنسان بلا توفيق لا يستطيع أن يعمل شيئا
…
نسأل الله أن يوفقنا لما فيه الخير لهذا الوطن العَزيز
…
إن توفيق الله هو المقدم والنافذ
…
وأمره بين الكاف والنون {كُنْ فَيَكُونُ} . (يس: 82) والقدرة وحدها لا تنفع ما لم تكن مؤيدة من الله سبحانه وتعالى
…
نسأل الله التوفيق، وأن ينصر دينه، ويعلى كلمته، ويعز الإِسلام والمسلمين.
ونسأله تعالى العناية والتوفيق وإصلاح النية، وأن يوفقنا إلى ما فيه الخير والفلاح" [1] .
ولقد قالوا:
"التوفيق قوة من عالم الغيب، يؤمن بها من تتبع أمثال سيرة عبد العزيز. خطط الحرب فن، والتغلب أو بسط السيطرة فن، والسياسة والإدارة وما إليها من شئون المجتمع، كل منها فن له قواعده ومدارسه. ومن المدارس التجارب والمِران وطول الممارسة. أما "التوفيق"فأمر فوق ذلك كله. لا فائدة له، ولا مدرسة، ولا سابقة ينسج على منوالها.
وفى الناس من يُسعف بالحظ مرة أو مرات، فيقال: قد وفُقّ، ولكنه لا يكون "موفقا"مادام يتأرجح أحيانا بين التوفيق ونقيضه. أما الموفق- حقا- فذلك الذي تجري الأحداث، أو تكاد تجري متتابعة متجانسة، على وفق غرضه، وعلى مدى مصلحته" [2] .
وإن جليل توفيق الله على الملك عبد العزيز، أن أيده في كل ما قام به من عمل، فهو سبحانه وتعالى موفقه ومؤيده، ومؤازره في كل خطوة خطاها، فقد فتح الرياض، وضم الخرج، والمحمل، والشعيب، والوشم، وانتصر على الأعداء فخلّص القصيم، وفتح الأحساء، وضم عسير، وفتح حائلا، والجوف، وكان توفيق الله في أسمى صورة حينما ضم الحجاز، ووجه كل اهتمامه وعنايته إلى الحرمين الشريفين.
وهكذا فقد خلّص- رحمه الله البلاد والعباد مما دهاهم مئات السنن، واجتمع الناس عليه، فأصبح مسئولا عنهم أمام الله سبحانه وتعالى، فعليه أن يرعى الله فيهم، فيسلك بهم طريق النجاة للدنيا والآخرة.
كان الملك عبد العزيز آل سعود صادقا مع نفسه، وما عاهد الله عليه من التمسك بالمنهج الإلهي، والدستور السماوي القرآن الكريم، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطريق السلف الصالح من الصحابة والتابعين بلا تأويل، أو ابتداع، أو تغيير.
كان أول ما نادى به، إخلاص التوحيد لله، ومما علق به من كل شائبة، وجعله لله وحده، فلا يشرك به، منفردا بالعبادة والقصد.
وهذا هو الأساس المتين الذي يجتمع عليه المسلمون، حتى يثبت الإيمان، ويرسخ في الصدور، وبعده يهون كل شيء.
{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} . (النساء: 61) .
وما ترك- رحمه الله مناسبة ولا اجتماعا، دون أن يذكرّ الناس بالتوحيد الخالص لله، فهو يعرف أن التوحيد إذا علق به شيء ضعفت النفوس، وأصبح من السهل أن تنقاد لغير الله، قال رحمه الله:
"هذه هي العقيدة التي قام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب يدعو إليها، وهذه هي عقيدتنا، وهي عقيدة مبنية على توحيد الله عز وجل خالصة من كل شائبة، منزهة من كل بدعة، فعقيدة التوحيد هذه، هي التي ندعو إليها، وهي التي تنجينا مما نحن فيه من محن وأوصاب "[3] .
"إن المسلمين في خير ماداموا على كتاب الله، وسنة رسوله، وما هم ببالغين سعادة الدارين إلا بكلمة التوحيد الخالصة "[4] .
"وقد نصرنا الله بقوة التوحيد الذي في القلوب، والإيمان الذي في الصدور، ويعلم الله أن التوحيد لم يملك علينا عظامنا وأجسامنا فحسب، بل ملك علينا قلوبنا وجوارحنا، ولم نتخذ التوحيد آلة لقضاء مآرب شخصية، أو لجر مغنم، وإنما تمسكنا به عن عقيدة وإيمان قوي، ولنجعل كلمة الله هي العليا"[5] .
ثم ينطلق الملك عبد العزيز بالدعوة إلى التوحيد من محيط الجزيرة العربية، فيتخذ موقف الداعي إلى الله، ليبلغ ما يجب عليه تجاه نشر الدعوة، فيدعو المسلمين جميعا في أنحاء الأرض إلى التوحيد الصحيح، وينطلق بهم إلى العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وحينما يرى المسلمين قد نفذوا ذلك، واتحدوا على العمل بما يدعو إليه، سيجدون أنه واحد منِ المسلمين يسعى لخيرهم، ويسهر على راحتهم، لا بصفته ملكا أو زعيما أو أميرا، بل فردا من عامة المسلمين، وليس هو وحده فحسب بل ومعه أولاده وجيشه وقومه، ثم يشهد الله على قوله وتبليغه للمسلمين فيقول:
"إن المسلمين بخير إذا اتفقوا، وعملوا بكتاب الله وسنة رسوله
…
ليتقدم المسلمون للعمل بذلك، فيتفقوا فيما بينهم على العمل بكتاب الله وسنة نبيه، وبما جاء فيهما، والدعوة إلى التوحيد الخالص فإنني- حينذاك- أتقدم إليهم فأسير وإياهم جنبا إلى جنب في كل عمل يعملونه، وفي كل حركة يقومون بها
…
والله إني لا أحب الملك وأبهته، ولا أبغي إلا مرضاة الله، والدعوة إلى التوحيد
…
ليتعاهد المسلمون فيما بينهم على التمسك بذلك، وليتفقوا، فإنني أسير وقتئذ معهم لا بصفة ملك أو زعيم أو أمير، بل بصفة خادم
…
أسير معهم أنا وأسرتي وجيشي وبنو قومي؟ والله على ما أقول شهيد، وهو خير الشاهدين" [6] .
ثم يذهب رحمه الله إلى أبعد من ذلك، فيرى أن كلمة التوحيد الصحيحة ونشرها، والعمل بها بين المسلمين، لو تمت على يد أعدائه، لكان فرحا بذلك، ولاتحد معهم، وسار في طريقهم، وإن تمت على يده اعتبر ذلك منّة، وفضلا من الله سبحانه وتعالى.
"وإني أجاهد لإعلاء كلمة التوحيد، والحرص عليها، وأحب أن أراها قائمة ولو على يد أعدائي، وإن تمَت على يدي فذلك من فضل الله"[7] .
* * * * * *
كان رحمه الله في كل اجتماعاته الخاصة والعامة، بين أهله وخاصته، أوبين أهل البلاد، حينما يلتقي بهم في كل مناسبة، أوفي اجتماعاته الدولية بين عامة المسلمين، يوصي بالتمسك بالكتاب والسنة، وأن يجتمع الناس عليهما وأن يعملوا بما فيهما، فليس في الحياة أمر إلا وتعرض له القرآن الكريم {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} والسنة الشريفة، وليس هناك خصلة مفيدة ونافعة إلا يدعوان إليها. خطب يوما أهل مكة فكان مما قاله:
"ولكن هناك نعمة حقيقية لا تزول، وخزينة لا ينضب معينها، هي الاعتقاد بأن لا إله إلا الله، وهذه النعمة مشروعة في كل مكان، ولكنها لهذه البقعة المباركة ألزم، لأن الحسنات والسيئات تتضاعف فيها، ولأن الله أختارها لتكون مهبطا للوحي، وجعل زيارة حرمها من أركان الإسلام".
وقال رحمه الله حينما جاء إلى المدينة المنورة، وسلم على رسول صلى الله عليه وسلم، وصلى بالمسجد النبوي، ثم خطب الناس فكان مما قاله:
"وإن خطتي التي سرت، ولا أزال أسير عليها، هي إقامة الشريعة السمحاء، كما أنني أرى من واجبي ترقية جزيرة العرب، والأخذ بالأسباب التي تجعلها في مصاف البلاد الناهضة، مع الاعتصام بحبل الدين الإسلامي الحنيف".
وخطب يوما في حجاج بيت الله الحرام فقال في خطبة طويلة:
"والمقصود من هذا الاجتماع هو أن نحدد اسم الإسلام، ونعمل بمعناه، والإسلام معناه: الاستسلام لله تعالى، والطاعة له، والإيمان بكتابه ورسله، وقواعد الإسلام قائمة على كتاب الله، وسنة رسوله، وأعمال الخلفاء الراشدين، وما اتفق عليه الصحَابة الكرام، وما جاء به فيما بعد الأئمة الأربعة فهو حق لا نحيد عن ذلك قط"[8] .
ولقد ظهر جماعة من المتفرنجين من المسلمين، يدعون إلى ما يسمونه بالتجديد، وإلى الأخذ بكل ما في الغرب، ونادوا بالخروج على تقاليد الدين الإسلامي الحنيف، ودعوا الشرق بأن يسير وراء الغرب، وكانوا مغرضين في ذلك، فانبرى لهم الإمام رحمه الله، ففند مزاعمهم، وسفه أحلامهم، ورد عليهم بالحجة والدليل والمنطق في كَثير مما قاله في خطبه ومجالسه ومنتداه.
قال رحمه الله:
"يقول كثير من المسلمين: يجب أن نتقدم في مضمار المدنية والحضارة، وإنّ تأخُرَنا ناشئ من عدم سيرنا في هذا الطريق، وهذا ادعاء باطل، فالإسلام قد أمرنا بأخذ ما يفيدنا ويقوينا على شرط أن لا يفسد علينا عقائدنا وشيمتنا، فإذا أردنا التقدم يجب أن نتبع الإسلام، وإلا كان الشر كل الشر في اتباع غيره"[9] .
"يقولون: (الحرية) ويدعي البعض أنها من أوضاع الأوربيين، والحقيقة أن القرآن الكريم قد جاء بالحرية التامة الكافلة لحقوق الناس جميعا، وجاء بالإخاء والمساواة المطلقة التي لم تحلم بها أمة من الأمم، فآخى بين الصغير والكبير، والقوي والضعيف، والغني والفقير، وساوى بينهم [10] .
ويقولون التمدن والمدنية الأوربية هي الغاية القصوى، وهذا وهم باطل، فإن الله جعل من كل شيء أفضله مباحا لنا، وأحب شيء إلينا هو العمل الخالص، والنية الحسنة" [11] .
"إننا لا نبغي التجديد"الذي يفقدنا ديننا وعقيدتنا
…
إننا نبغي مرضاة الله عز وجل، ومن عمل ابتغاء مرضاة الله، فهو حسبه، وهو ناصره، فالمسلمون لا يعوزهم التجديد، وإنما تعوزهم العودة إلى ما كان عليه السلف الصالح" [12] .
ولقد بدأ رحمه الله بالدور العملي في تنفيذ حدود الله في جميع مناحي الحياة، وعلى الجميع، لا فرق بين غني وفقير، وأمير وغير أمير، وأصبح الناس كلهم سواء أمام القانون السماوي، وهدد أولئك الذين قد تحدثهم أنفسهم بالفوضى، والمضاربة بالأقوال، والتلاعب بالكلمات والألفاظ، ويظهرون الأمور على ما ليست عليه، لقد حذرهم فكان مما قاله:
"إن البلاد لا يصلحها غير الأمن والسكون، لذلك أطلب من الجميع أن يخلدوا للراحة والطمأنينة، وإني أحذر الجميع من نزعات الشيطان، والاسترسال وراء الأهواء التي ينتج عنها إفساد الأمن في هذه الديار، فإني لا أراعي في هذا الباب صغيرا أو كبيرا، وليحذر كل إنسان أن تكون العبرة فيه لغيره"[13] .
لقد شغل بال الملك عبد العزيز الأمن والسكينة في هذه البلاد المترامية الأطراف، الواسعة المساحة، وللبادية وسكانها خطرهم، فهم منتشرون في مساحات شاسعة بين الخليج العربي والبحر الأحمر، وما بين خليج عدن، وما يقابله في الشمال.
هذه المساحة الكبيرة لم تر الأمن والسكينة من زمن بعيد، فقد رجعت عناصر الشر إلى عاداتها وطبائعها، إذا استثنينا فترات قصيرة، كانت بمثابة هدنة. وفي العهد التركي وعهد الشريف أصبحت أشد خطرا، وأعظم فتكا، فليس هناك ما يردعهم، أو يقلم أظافرهم، ولأن البلاد ممزقة بسبب الثأرات بين القبائل، فكانت الإغارة والسلب والنهب والقتل من المهن المعترف بها، وكان أهل البادية دائما يتربصون بالقوافل وقطعان الماشية الدوائر.
ولكي يأمن التاجر على نفسه وما معه إذا كان يجتاز الصحراء، عليه أن يدفع الإتاوات على طول الطريق الذي يمر به، فالتاجر الذي يجيء من البحرين مثلا يدفع قبل أن تطأ رجله العقير إتاوة للعجمان، ومن العقير إلى النخل خمسة أميال، أتاوة للمناصير، وكذلك أم الذر وبني هاجر
…
وإذا فاز التاجر بحياته وبقى شيء في كيسه فمن المؤكد أن أحماله لا تصل كلها إلى المكان الذي يريده. وكان في عهد الترك إذا خرج العسكر لتأديب جماعة من هؤلاء البدو، يطاردهم البدو، فيغلبونهم، ويأخذون خيلهم وثيابهم، ويرجعونهم إلى مكان إقامتهم حفاة عراة.
والأدهى والأمر ما كان يصنع بحجاج بيت الله الحرام، كانوا عرضة للسلب والنهب والقتل، وكان الحجاج يخرجون من بلادهم، ولا أمل لهم في العودة، وقد حملوا معهم أكفانهم، فكانوا في جهاد وقتال مع أهل البادية الذين يأخذون منهم ما يطلبون، ولم يكونوا يكتفون بما أخذوا بل كانوا يغيرون على مؤخرات القوافل يسلبون ويقتلون، ولا أحد يستطيع أن يغير شيئا مما كان يحدث.
حتى أرض الحجاز لم تسلم من بطش أهل البادية في معظم جهاتها، والعلة في ذلك أن حكام الحجاز لم يكونوا على كثير من الحكمة والسياسة التي تلائم العرف عند القبائل، أو لم يكونوا متفرغين للأمن، ولم يكن يجدي ما يدفعون من أموال، فقد كانت القبائل تأخذ الأموال، ولا تمتنع عن السلب والنهب، ولم يخطر على بال أحد منهم أن يحكم الشريعة الإسلامية، لذلك فإن الفوضى الأمنية قد عمت جل البلاد، فمثلا طرق المدينة المنورة لم يكن في الاستطاعة أن يقام فيها الأمن وأن يستتب، فكانت مسرحا لحوادث جسام، فالقبائل تعتدي على الحجاج، وتسلب ما معهم، وقد تفرض عليهم إتاوات كبيرة.
يقول الصحفي المصري محمود أبو الفتح- رحمه الله في صحيفة الأهرام عام 1930 م:
"كان بعض الأعراب يذبحون الحاج وإن كان فقيراً لاستلاب ما معه، وكانوا يذبحون الحاج في رابعة النهار، ولم يسلم من أذاهم أحد، ولمَ يجدوا من يردعهم، فعاثوا فسادا، حتى كان المسلم يخرج وهو لا يدري أيعود إلى وطنه أم يقتله السفاحون"[14] .
وحتى أهل البادية، لم يكونوا في صفاء مع أنفسهم، كانوا متفرقين مختلفين، تزداد العداوة والبغضاء بينهم نُموا يوما بعد يوم، يقتل بعضهم بعضا لأتفه الأسباب، ويأكل القوي منهم الضعيف، تنشب المعارك الضارية، فيقتل منهم العشرات، لا ينامون على خير، بل يعدون للشر والانتقام، ويندفعون للتخريب لذلك لم يهدأوا ولم يأمنوا، وكانوا يسيرون في جماعات حاملين السلاح، وكأنما رجعت الجاهلية الأولى فاشتعلت نار الفتن، وتقطعت الأرحام وتواثبوا في الأسواق، وعلى حدود القبائل، وخاف بعضهم بعضا، فحملوا السلاح ليلا ونهارا.
يقول صاحب كتاب "عنوان المجد":
"كانت الفتن مستمرة، والغارات دائمة بين القبائل ففي 1239 هـ وقعت فتن وقتل رجال، وأخذت أموال من كل بلد وناحية من القصيم والعارض والخرج والجنوب وغير ذلك.
وكان بعض القَبائل يغير على القرى والمدن ففي 1237 هـ مثلا أغارت بوادي سبيع على- قرية- منفوحة، وأخذوها عنوة ونهبوا وسلبوا النساء، وقطعوا الثمار واستولوا على البلد
…
وعم القتل في هذه السنة في القصيم وسدير والوشم والعارض والخرج والجنوب" [15] .
وهكذا فقد ساد الجزيرة فوضى، رجع الناس بسببها إلى ما كان قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم.
استرشد الملك عبد العزيز برأي الدين في معالجة كل أموره، وبما هداه الله إليه من عمل، ووهبه من ذكاء وخبرة، لم يلجأ رحمه الله في أول الأمر إلى القوة واستخدام السيف للخارجين على الدين، والعابثين في الأرض فسادا، وكان الخطر الداهم على البلاد من البادية، لأن أهلها جُبلوا على عادات وطباع خاصة، هم في حاجة إلى علاج ناجع يحسم الداء، ويجعل منهم مجتمعا صالحا للحياتين.
لقد رأى أن هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله، وأن لهذا الدين سحراً عجيباً في قيادة الناس على اختلاف مشاربهم وحياتهم، وأنه هو الذي صنع من أهل البادية أعظم أمة عرفها التاريخ، وأن الناس حينما تخلوا عن مبادئ هذا الدين الحنيف، تخلى الله عنهم فتاهوا في الظلمات سنين طويلة، أما وقد وفق الله لإقامة شعائر هذا الدين، فقد رأى الإمام والملك المصلح- رحمه الله تبصير أهل البادية بأمر دينهم، وجمع كلمتهم على هدى الإسلام.
لقد أرسل إليهم من يبصرهم بأمر دينهم، ويرشدهم إلى الطاعات، فكان في كل قبيلة من قبائل البدو الرحالة والمستقرة من يعلم الناس أصول هذا الدين القويم، ويوجههم إلى ما ينفعهم في حياتهم، ويجيب عما يسألون عنه في أمور الدنيا والآخرة، فالتفوا حوله، وشغلوا بالعمل الصالح، وأصبح له مكانة كبيرة في نفوسهم، وصار يخطب لهم يوم الجمعة وكل المناسبات الدينية كالعيدين والاستسقاء وغيرهما، ويصلي بهم، ويعلم أبناءهم، ويفتي كبارهم، ويعقد الزواج، وبقسم المواريث، ويتوسط في حل المشاكل.
ورأى الملك عبد العزيز- رحمه الله أن عامل الحالة الاجتماعية يساعد كثيرا على الاستقرار ويقوي الناحية الدينية، ويسد الطريق على من تحدثه نفسه بأن يسلك طريقا غير مشروع لجلب الرزق، فأراد أن ينتقل بالبدو من حياة البادية المتنقلة، إلى حياة الهِجَر، ليتركوا حياة السفر والتنقل من مكان إلى آخر قد يجدون فيه ما يسد رمقهم، وقد لا يجدون، فيميلون إلى السطو والنهب أراد أن ينتقل بهم إلى حياة السكون والاستقرار، وليتركوا حياة الرعي إلى حياة الزراعة والرعي. وأنشئت الهجرة الأولى على آبار الأرطاوية على طريق بين الزلفي والكويت عام 1330 هـ، وأصبحت خلال بضع سنوات مدنا فيها من السكان ما يزيد على العشرين ألفاً، ثم تلي الأرطاوية حركة عامة بين البدو لترك حياتهم البدوية والسكنى في قرى جديدة، كانوا ينشئونها بمعونة من بيت مال المسلمين، تحفر البئر ويبنى المسجد الذي هو مجتمع القرية ومدرستها، وكانت السرعة هي الرائد في كل ما يقومون به من أعمال.
وهكذا فقد أصبحت المساجد غاصة بأهلها ممن تركوا الخرافات والبدع وعادات الجاهلية، وواظبوا على الصلاة في أوقاتها، وتواصوا بالأخلاق الإسلامية الصحيحة التي تحث على الفضيلة والإيمان.
وأصبحت الزراعة هي موردهم الذي منه يأكلون ويتاجرون ويربحون، فتكونت عندهم الثروات والمال الكثير، وفي نفس الوقت فقد انتشرت المعسكرات، ليكوّنوا من الشباب أمة مسلمة تدافع عن مبادئها، وترد كيد كل من يحاول أن ينال من دولتهم الفتية بقيادة قائدهم الأعظم عبد العزيز آل سعود، وهم على استعداد للقتال معه في أي وقت.
لقد كانت خطة الإمام عبد العزيز منذ تولى إمارة الرياض، أن ينفذ حكم الله في كل من خرج على حدوده، فَكان يتتبع الجرائم الكبيرة بنفسه، ويتعقبها، ويحث جهات الاختصاص على رفع نتائج الحوادث وتطورها إليه أولا فأولا، ويصدر أوامره بشأنها، ويشفع كل ذلك بالحزم والدقة حتى تنكشف الجناية، وكان إذا عرضت عليه قضية درسها من جميع الوجوه بما له من علم ومعرفة وخبرة وذكاء مبينا ما جاء في الكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين ثم يصدر حكمه.
وكان كثيرا ما يقرأ ظروف وملابسات كل قضية يطلب منه التصديق عليها، وقد يعيد الحكم فيها، من ذلك ما رفع إليه من قضية طُلِبَ منه التصديق على حكم أصدرته إحدى المحاكم الشرعية، بإعدام جندي قتل زوجته وجنديا آخر، وكان تنفيذ الحكم معلقا على موافقة الإمام.
درس رحمه الله القضية، فظهر له أن الزوجة كانت قد غابت عن بيتها أياما، وبحث عنها زوجها فوجدها عند أحد الجنود، فأطلق عليها الرصاص وسألته المحكمة، فأقر بالقتل، ولم يحسن الدفاع عن نفسه فحكمت المحكمة بإعدامه.
ولم يكد ينتهي من القضية، حتى دعا رئيس المحكمة إليه فقال له:
"ألم تقرأ الحديث الذي فيه "إنني أغيركم، والله أغير مني""[16] .
ثم أطلق القاتل لأنه كان يدافع عن عرضه. وهذا من توفيق الله [17] .
ولما اتسعت البلاد، جعل لكل ناحية أميرا، وكان على كل أمير أن يجمع رؤساء القبائل والعشائر، ويؤمنهم على أنفسهم ومعيشتهم، ويشترط عليهم أن يكونوا قادرين على حفظ الأمن في حدود أراضى قبيلتهم، وكل حادثة تحدث في منطقة أحدهم يكون مسئولا عنها هو وقبيلته، سواء أكانت بين بعضهم أو حوادث لأجانب من التجار أو الحجاج أو غيرهم.
علم أمير الطائف في أوائل ضم الحجاز أن البدو اختطفوا اثنين من حجاج الهند وقتلوهما، وأخذوا أمتعتهما، فأمر بإحضار كبار القبيلة التي حصل في حدودها الحادث، وحدد لهم ثلاثة أيام لإحضار المسروقات، والإرشاد عن جثث القتلى، وأقسم أنه إذا انقضى الميعاد المضروب دون نفاذ المطلوب، ليبيدن القبيلة بأكملها، وقبل مضي الميعاد، أحضر رجال القبيلة المسروقات، وأرشدوا إلى جثث القتيلين، وأخيرا أرشدوا إلى اثنين اعترفا بالقتل، فأمر بقطع رقبتهما.
وفى هذه المرة اعتداء على السعوديين فقد جاء إلى القصر في الرياض بضعة رجال من إحدى القبائل، يطلبون عيشا وكسوة، فكان لهم ما ابتغوا، ثم ارتحلوا، فمروا في طريقهم ببعض الجمال والنوق، فساقوها أمامهم، فشكاهم أصحابها إلى السلطان عبد العزيز، فبعث السلطان من يحمل الخبر إلى أمير الاحساء، فما وصل إليه الخبر، حتى تحرك رجال الدولة يبحثون عن اللصوص، وما هي إلا أربع وعشرون ساعة حتى جيء بهم وبالمسروقات ولقوا جزاءهم.
لقد ألقى الله في قلب كل من تُسوّل له نفسه السير في طريق العدوان والفساد وسادت الرغبة في الحفاظ على حقوق الله وحقوق العباد، فكان يُرَدَد في كل مكان:"الحكم للشرع"، "السارق تقطع يده"، "القاتل يقتل""دل عبد العزيز"، "التمسك بشريعة الإسلام""الصلاة الصلاة ".
كلمات تسمع في البادية، وفي القرى والمدن، وفى البر والبحر، وفى الأماكن المقدسة، يرددها الناس فتزلزل القلوب، وتخيف النفوس المريضة، وتزيد المؤمنين إيمانا وطمأنينة.
بل لقد انتقلت هذه الكلمات إلى عامة المسلمين في جميع البلاد الإسلامية، في الصحراء وفى المدن والدساكر، في أعماق بلاد المسلمين، يهنيء بعضهم بعضا، بسبب ما وصل إليه الأمن والأمان في البلاد المقدسة، وبنجاح التجربة الإسلامية، وعودة بلد من بلاد المسلمين إلى الحكم بكتاب الله، ويتمنى أن تنال هذه التجربة الناجحة بلاد المسلمين فيرجعوا إلى كتاب الله.
لقد شجع بعضهم بعضا على أداء الحج والعمرة، وغاب عامل الخوف والرعب، فكانوا يقولون:
هيا إلى الحج، هيا إلى العمرة، إلى الأماكن المقدسة، إلى مكة وإلى المدينة، الطريق آمن، ابن سعود يحكم بالشرع، عبد العزيز قضى على القتلة والسفاحين، سنرجع بسلامة الله.
كلمات لا يزال يحكيها المعمرون في أقاصي البلاد الإسلامية، الذين رأوا بأعينهم الأعمال العظيمة التي قام بها عاهل الجزيرة الملك عبد العزيز آل سعود، فكانت خير شاهد على توفيق الله له.
ولقد جاء في الحديث الصحفي الذي نشره محمود أبو الفتح- رحمه الله وقد زار البلاد، ورأى بعينيه ما وصلت إليه البلاد منذ أكثر من خمسين سنة ما يأتي:
"وجاء ابن سعود، فضرب أمثلة
…
كان يأمر بالسارق فتقطع يمناه، وبالقاتل فيجز رأسه في السوق العامة
…
تلك أمثلة
…
ولكنها كانت درسا نافعا، فقد قطع ابن سعود عشرات من رءوس اللصوص والقتلة، وأنقذ بذلك رءوس الألوف من حجاج بيت الله الحرام".
ثم يكمل حديثه فيقول:
والآن تسير الفتاة من طرف الجزيرة الغربي إلى طرفها الشرقي، تحمل الذهب، فلا يتطلع إليها أحد، بل يرى الناس قطعة الذهب أو الفضة ملقاة على الأرض، تسقط من بعض المارة، فلا يقربونها، وإنما يبلغون عنها الشرطة.
ويحدثني المعتمد البريطاني في جدة عن حالة الأمن فقال:
"إنها إن دامت سنوات بلغت البلاد درجة عظيمة من الرقي. إنّ الأمن في الحجاز، لا مثيل له في أي بلد من بلاد العالم الآن"[18] .
وقال محمد بن عبد الله الأنصاري الاحسائي:
"والمملكة العربية السعودية تتقدم من حسن إلى أحسن، قد عمها الأمن، وشملها العدل، واتسع الرزق، وكثرت موارده، وعم اليسار معظم طبقات الشعب بما أجرى الله في جهات الاحساء من ينابيع الزيت بحكمة هذا الملك المصلح فقد طبق في مملكته الأحكام الشرعية التي جاء بها القرآن ونطقت به سنة النبي الكريم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فقتل القاتل، وقطع يد السارق، وجلد شارب الخمر، ورجم الزاني المحصن، وشدد العقاب على المعتدين والعابثين بالأمن، فنعمت البلاد بأمن لم تكن تحلم به، ولم يحصل لغيرها من رعايا الدول الكبيرة المتمدينة، وأقام الدليل الواضح على أن شريعة الإسلام هي الشريعة الكفيلة لسيادة البشر في كل زمان ومكان، فجزاه الله عن المسلمين خيرا"[19] .
والحمد لله، لقد أصبحت حدود الله، والمحافظة عليها قائمة إلى وقتنا هذا، وستظل دائما إن شاء الله، بفضل الله، ثم بفضل أولئك الذين وفقهم الله، لإقامة حدود الله، وإن شريعة الله تتفق مع فطرة الله التي فطر الناس عليها، ففيها الأمن والأمان والهدوء والاطمئنان.
لقد أرسى أَسَاسًا متينا للإصلاح الاجتماعي الذي هو الغاية العظيمة من جهاد تلك السنين الطويلة الشاقة، والمتاعب الجسام. التي وفقه الله فتغلب عليها، فلم يهن، ولم يضعف، بل ظل على حيويته ونشاطه، وابتساماته العريضة التي يقابل بها جميع الناس، وصدره الذي شرحه الله دائما فهو الهاش الباش لجميع الذين يلقاهم ويلقونه، فإذا رأيته لحظات غاضبا، فإنما غضبه لله وفي الله.
والحمد لله لقد تخطى عقبتين كؤدين ومشكلتين عظيمتين هما الهجر والأمن والاطمئنان، فاستحق عن جدارة أن يلقب بالمصلح والرائد الاجتماعي في العصر الحديث.
ولقد واصل الإصلاح بتفكيره المنطلق، وعقله الواعي، وإيمانه الأكيد، وآماله العريضة، لجلب كل مَا يدخل السعادة على هذه الأمة التي قاست مئات السنين، فكانت ريادته للنهضة الاجتماعية والعمرانية والاقتصادية والثقافية.
كان- رحمه الله في أول الأمر يفكر من أين يبدأ؟ وما الطريق الذي يسلكه؟ ومن أين له بالمال الكثير الذي به يبني وعليه يقيم ما يرجو ويتمنى.
لقد أدى ما وجب عليه تجاه الله سبحانه وتعالى، وأن الله لن ينساه أبدا، فقد كان دائم التوكل عليه، وسيظل مادام فيه عرق ينبض، وأنه مازال يذكر فضله ونعمته عليه، ولا ينسى حينما كان في مكة، وهو مخيم في محلة "الشهداء"وقد فقد ما ادخر من مؤن وأقوات، ولاح شبح الجوع أو كاد، وأحس من معه بما عليه الحال، فضاقت صدور الرجال، حين قلّ المال، أما عبد العزيز فكان مطمئنا إلى أن الله لن ينساه، وسيرزقه من حيث لا يعرف ولا يفكر، فكان حينما يسأل عن هذا، يقول:
"المؤن متوفرة في نجد، غير أن الجمال مشيها وئيد
…
من شاء الرحيل فليرحل أما أنا فمقيم. والفرج من عند الله".
لقد كانت ثقته بالله عظيمة، وتوكله عليه أقوى وأشد، فلم يأت المساء، حتى وصلت قافلة يتقدمها إسماعيل بن مبيريك أمير رابغ. وكان الشريف حسين قد قتل أخا له، فلما علم بما صارت إليه الأمور في مكة، وإقامة عبد العزيز بها، جاءه بفروض الطاعة، ومعه عشرون جملا تحمل التمر والسمن والبرّ وكان هذا رزقاً ساقه الله إليه [20] .
إن الله لا ينسى عباده المخلصين، وقد كان عبد العزيز من أخلص الخلق لله تعالى، فهو يتوكل عليه حق توكله، ولابد أن الله سيرزقه من حيث لا يعلم، وسوف تفتح له أبواب من الرزق ليس عليها بواب.
وقد كان، فقد فتحت له كنوز الأرض، على حين كان يشغله أمر البلاد والعباد.
فكانت سعادته الفائقة في أن يصرف كل ما يصل إليه على هذه الأمة، فقد زاد المال ونما، وأدخل الله الخير على هذه البلاد، وقد يكون كل هذا بسبب دعاء رجل واحد.
ولكن الملك عبد العزيز لم يغير شيئا من عاداته، ولا من مأكله ومشربه وملبسه حتى آخر نفس من حياته المباركة.
قال طبيبه أمين رويحة: "لقد اشتدت عليه أزمة المرض في أواخر أيامه- رحمه الله ورضي عنه: طلبنا إلى جلالته أن يستلقي في سريره للاستراحة، لأن بقاءه مستويا على الكرسي لا يُؤمّن له الراحة الضرورية للقلب.
أجاب ابن سعود على طلبنا بقوله: "ما يخالف هاتوا السرير".
فتوجه الخادمان اللذان يتوليان خدمته الخاصة
…
فجلبا السرير
…
سرير الملك العظيم، فنصباه في الغرفة، ويا لعظمة ما رأيت!! إنه سرير من خشب عادي متواضع، وفراش محشو بالقش صلب قاسي، وفوقه غطاء صوفي، ووسادة من النوع ذاته.
ذلك هو مضجع ذلك البطل الكبير الذي لا يكتسي إلا بثوب بسيط من القطن، وقد كان يستطيع بما وهبه الله من جاه ومال ومنزلة في القلوب ألا يكتفي بتوسد الفراش الوثير فحسب، بل حبات القلوب أيضا، وأن يحوط نفسه بالخدم والحشم والممرضات ليلا ونهارا، ولكنه عبد العزيز المتقشف الذي لا تأخذه بهارج الحياة" [21] .
راح- رحمه الله يبحث عن وسائل الرقي والنهوض بهذه الأمة، فما عرف شيئا فيه مصلحة إلا دعا إليه، ولا عرض عليه أحد رجالاته موضوعا صالحا إلا ناقشه ونفذه، ولم يكن متعجلا في طريقة الإصلاح، بل كان كعادته يفضل التؤدة والتأني وتعرف استعداد الشعب لما يريد من الإصلاح.
كان يعتقد أنه بهذه الطريقة سيأتي اليوم الذي تبلغ به الجزيرة أسمى آيات التقدم والرقي في ظل عقيدة التوحيد، وقد كان
…
فما نرى شيئا. من النهضة العظيمة في جميع المجالات إلا وهو يدين بالفضل لبانيها ومؤسسها المصلح العظيم- رحمه الله. إن النهضة الإصلاحية التي قام بها هذا الرجل الكبير تحتاج إلى مجلدات ضخمة ولكن نورد بعضا منها لنَستدل به على العقلية الموهوبة، والمتفتحة على كل معالم الحياة بلا حدود، والضاربة بعمقها في كل المجالات، والمحوطة بالرعاية والتوفيق من الله.
كانت البلاد مترامية الأطراف، بعيدة الأماكن والبلاد، ووسائل الاتصال بها بطيئة، فأمر رحمه الله بربط أجزاء البلاد بعضها ببعض بشبكة من المحطات اللاسلكية فكانت وحدة متقاربة الأطراف والثغور، يستطيع أن يتصل بها في أي وقت بالليل أو النهار، وفي دقائق معدودة.
وقد سمح- وهو راض مسرور- للرعية بأن يستعملوا السيارات، وأن يقتنوها ويسيروا بها في طول البلاد وعرضها ولقد كانت من قبل ذلك محرمة، فلم يسمح لأحد من أفراد الرعية باقتنائها أو الاستفادة منها.
وكان- رحمه الله قد ركب السيارة لأول مرة عام 1344 هـ. ورأى فوائدها في تقريب المسافات، فلم يستقل بها، بل سمح لجميع أفراد الشعب باستخدامها، فدخل في البلاد السيارات بأنواعها وأحجامها.
ولقد أنشئت في عهده إدارات عامة للصحة والشرطة والأوقاف والبريد والبرق واللاسلكي، وأنشئت كذلك مديرية للشئون العسكرية، ومديرية للشئون الخارجية، والمديرية العامة للزراعة، وشكلت المحاكم الشرعية، وبيوت المال، وكتاب العدل، والمجالس التجارية وكذلك مؤسسة للنقد العربي السعودي.
أعفى جميع المواد الغذائية، ومواد البناء وغيرهما من الرسوم الجمركية، وقام بشراء الآلات الزراعية الحديثة، ووزعها على الفلاحين للنهوض بالزراعة، ولقد اهتم بالتعليم، ففتح كثيرا من المدارس المتنوعة، واهتم بالمعاهد الدينية، والمكتبات العامة، وأرسل البعثات العلمية إلى الخارج، للإسهام في النهضة التعليمية، وأنشأ- رحمه الله المستشفيات والمستوصفات في المدن الكبيرة، وأنشأ المراكز الصحية في طريق الحجاج، وأدخل نظام التطعيم، وصرف الدواء بالمجان [22] .
هذا قليل من كثير في داخل البلاد، فقد عاش لخدمة شعبه ورعايته، ولم يمر يوم إلا وفيه جديد، مما يعود على البلاد بالخير العميم.
ولقد نادى الملك عبد العزيز بتأليف لجنة عام 1937 م تضم عدة شخصيات عربية مخلصة، تعمل على وضع الأسس لتوحيد الجهود لما فيه خير الأمة العربية، وطالب بإنقاذ فلسطين، وله في ذلك مواقف حاسمة، وآراء ناضجة، ووسائل سليمة.
ولقد أسهم في تأسيس جامعة الدول العربية، ونادى بالتضامن الإسلامي، واشترك في منظمة الأمم المتحدة عام 1945 م، وعاون كذلك في حل كثير من المشكلات في الشرق الأوسط.
هذه لمحات من حياة رجل من رجال الإسلام، ضرب الله لنا به مثلا أعلى في عصرنا الحاضر، وبعد مضي أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان على رسالة سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ضرب به المولى سبحانه وتعالى مثلا على دوام صحة التمسك بشريعته الغراء، وعلى إمكان تنفيذ حق الله وحق العباد كما جاء به إمام المرسلين صلى الله عليه وسلم، والله خلق عباده وهو أعلم بما ينفعهم، ويعود عليهم بالخير العميم، فكان ذلك خير شاهد، وأنصع دليل على أن هذا الدين صالح لكل زمان ومكان.
ومازال- ولا يزال- إن شاء الله- ما وضع أساسه الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود واستمده من كتاب الله وسنة رسوله شامخ البنيان، واضح المعالم، جزل العطاء، مضاعف الثمرات، من الراحة والاطمئنان والهدوء النفسي والرزق الرغد، والتقدم في جميع المجالات، وفوق كل هذا، إخلاص العبادة لله ومضاعفة الشكر والحمد لله المنعم الوهاب.
فهلا قرأ حكام المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها تلك السيرة العطرة، ووعوا ما قام به صاحبها رحمه الله، وهلا تدبروا إخلاصه وحبه لله، فاقتدوا به في أقواله وأفعاله، وسلكوا طريقه، واهتدوا بما اهتدى به مما جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعمل به الصحابة والتابعون رضي الله عنهم أجمعين.
هلا عرفوا ذلك؟ وفعلوا مثل ما فعل هو ومن سبقه على هذا الدرب!!
لو عرفوا ذلك، لكان فيه قوة للمسلمين في هذا الزمان المملوء بالكيد للإسلام، ولأصبحنا قوة يقدرها الناس حق قدرها.
فبدل أن يشرق بعضنا، ويغرب آخرون. ونجري وراء السراب ونتوه في دروب التبعية والاستغلال، الأمر الذي جر علينا الوبال، وبؤنا فيه بالخسران، وأصبحنا قنطرة يعبر فوقها أعداء الإسلام إلى ما يريدون تحقيقه، وهذا ضد أهدافنا وآمالنا وديننا ودنيانا، بدل كل هذا الضياع أَمامنا كتاب الله وسنة رسوله قيل فيهما كل ما نريد، ولا فائدة أن نخترع كتبا تستمد من الأفكار المجردة، البعيدة عن الكتاب والسنة، وليست إلا سراباً بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.
لقد كان الملك عبد العزيز رحمه الله عنوانا لهذا الدين بما علم وعمل وقدم، فجزاه الله خير الجزاء، ورفع منزلته مع النبيين والصديقين والشهداء، وحسن أولئك رفيقا.
المراجع
ا- القرآن الكريم.
2-
مع عاهل الجزيرة لعباس محمود العقاد.
3-
حياة محمد. لمحمد حسين هيكل دار المعارف بمصر الطبعة الثالثة عشر.
4-
سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم للإمام محمد بن عبد الوهاب.
5-
شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبد العزيز آل سعود لخير الدين الزركلي.
6-
كتاب آل سعود لأحمد علي. دار العباد بيروت 1957 م.
7-
صقر الجزيرة لأحمد عبد الغفور عطار.
8-
المصحف والسيف جمع وإعداد محي الدين القابسي- الرياض المطابع الأهلية.
9-
المتوكل على الودود عبد العزيز آل سعود. لمحمد منير البديوي. الرياض 97 13 هـ.
10-
الإصلاح الاجتماعي في عهد الملك عبد العزيز. د. عبد الفتاح حسن أبو عيلة. مطبوعات دارة الملك عبد العزيز 1396 هـ.
11-
الإمام العادل الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود- السيد عبد الحميد الخطيب. مصطَفى البابي الحلبي مصر 1 195م.
12-
نجد وملحقاتها. لأمين الريحاني.
13-
تاريخ الحجاز. لحسين محمد نصيف. القاهرة. مطبعة خضير.
14-
عنوان المجد في تاريخ نجد. لعثمان بن بشر. مطابع القصيم بالرياض.
15-
تحفة المستفيد في القديم والجديد. مطابع الرياض 1379 هـ.
16-
عبد العزيز للمؤرخ ا. افون ميكوس. ترجمة أمين رويحة.
17-
الأمن في المملكة العربية السعودية. لواء يحي عبد الله المعلمي. 1398 هـ.
18-
تاريخ المملكة العربية السعودية في ماضيها وحاضرها. ج 2 بيروت مكتبة – الحياة.
19_
المملكة العربية السعودية بقلم خالد السديري دار الكتاب العربي. بيروت 1907 م.
20-
تاريخ ملوك آل سعود
…
سعود بن هذلول.
21-
تاريخ المملكة العربية السعودية للدكتور حسن سليمان محمود. دار الثناء للطباعة مصر.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
مختارة من كلمات وخطب الملك عبد العزيز (أنظر المصحف والسيف) .
[2]
شبه الجريرة في عهد الملك عبد العزيز. ج 2 ص 581.
[3]
من خطبة ألقاها جلالته، بمكة في ذي الحجة 1347 هـ (المصحف والسيف ص 85_86) .
[4]
من خطبة ألقاها جلالته بمكة في ذي الحجة 1347 هـ (المصحف والسيف ص هـ8 _ 86) .
[5]
من خطبة ألقاها جلالته بمكة بمناسبة سفره إلى المنطقة الوسطى من المملكة في محرم 1348 هـ (المصحف والسيف ص 89) .
[6]
المصحف والسيف ص 87.
[7]
الإمام العادل جـ ص 132.
[8]
المصحف والسيف ص 93.
[9]
المصحف والسيف ص 123.
[10]
المصحف والسيف ص 93.
[11]
المصحف والسيف ص 93.
[12]
المصحف والسيف ص 86.
[13]
المصحف والسيف ص 217.
[14]
صحيفة االأهرام في 6 1/ 11/ 1930 م.
[15]
عنوان المجد لعثمان بشرج 1 ص 277.
[16]
عن أبى هريرة قال: قال سعد بن عبادة يا رسول الله لو وجدت مع أهلي رجلا لم أمسه حتى آتي بأربعة شهداء. قال صلى الله عليه وسلم: "نعم". قال: كلا والذي بعثك بالحق إن كنت لأعالجه بالسيف قبل ذلك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسمعوا إلى ما يقول سيدكم إنه لغيور وأنا أغير منه والله أغير مني"- صحيح مسلم بشرح النووي ج 10 ص 131. باب اللعان. المطبعة المصرية.
[17]
شبه الجزيرة ج 2 ص 452.
[18]
صحيفة الأهرام في 16/ 11/. 193.
[19]
تحفة المستفيد في القديم والجديد ص 124 - هـ 12.
[20]
شبه الجزيرة العربية ج 2 ص 584.
[21]
عبد العزيز للمؤرخ الألماني الكبير (اكوبرت فون ميكوس) . ترجمة أمين رويحة ص 282.
[22]
تاريخ المملكة العربية السعودية للدكتور حسن سليمان محمود وسيد محمد إبراهيم ص84 _ هـ 8، وكتاب التوكل على الودود عبد العزيز آل سعود لمحمد منير البديوي ص 248 _ 249.