الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 65-66
فهرس المحتويات
1-
ذَمّ الفرقة وَالاخْتِلَاف في الكتاب والسنة: للشيخ عبد الله بن محمد الغنيمان
2-
الوحدة الإسلامية أسسها ووسائل تحقيقها: للدكتور أحمد بن سعد حمدان الغامدي
3-
عقود التأمين حَقِيقَتُهَا وحُكْمُهَا: للدكتور حمد حماد عبد العزيز الحماد
4-
البدع وآثَارُهَا السَّيِّئَة: للشيخ عبد الكريم مراد
5-
القُرْآن الكَرِيْم مَصْدَرٌ لِلتَّاريخ: للدكتور بشير كوكو حميدة
6-
لا
…
لخصُوَمةِ المسْلِمِ مَعَ الدُّنيَا وَالنّاس: للدكتور جميل عبد الله محمد المصري
7-
عُقُودُ الزَّبَرجَد على مُسْنَدِ الإمَام أحمَد في إعْرَاب الحَدِيث: تأليف: جلال الدين السيوطي
8-
رسائل لم يحملها البريد: للشيخ عبد الرؤوف اللبدي
9-
ألْفِيَّةُ ابْن مَالِك مَنْهَجُهَا وَشرُوحُهَا: للأستاذ الدكتور غريب عبد المجيد نافع
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م
ذَمّ الفرقة وَالاخْتِلَاف في الكتاب والسنة
للشيخ عبد الله بن محمد الغنيمان
رئيس قسم الدراسات العليا
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، الذي أنعم على عباده المؤمنين بالهداية والاعتصام بحبله المتين، وجمعهم على الحق، ووقاهم شر التشاحن، وذل التخاذل، ومنَّ عليهم بالإخاء والألفة، وجنبهم الاختلاف والفرقة.
أحمده أن هدانا لمعرفة الحق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله لبيان سبيله الموصلة إليه، والتحذير من سلوك سبل الضلال، فجمع به القلوب بعد الفرقة، وأعز به بعد الذلة صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
وبعد فإنه لا يستقيم للناس حال في دنياهم، ومآلهم إلا بالاتفاق والائتلاف، واجتناب التنابذ والاختلاف.
ولابد أن يكون الاجتماع والاتفاق على أمر عام، يشتركون في نفعه، ويؤملون جميعا عائدته وفضله، في عاجل أمرهم وآجاله.
ولا يحصل الاتفاق الكامل، الذي تكون فيه المحبة والألفة، إلا مع اتفاق الدين والعقيدة، فإذا كان الدين حقا، والعقيدة صافية من الشوائب، وسالمة من الانحرافات، والغوائل فهناك يقوى الاتفاق ويتم، وتتأصل الرابطة، ويحصل البذل والإيثار، ولهذا أمر الله تعالى عباده بتقواه المستلزم لحصول الإيمان، وفعل المأمور، واجتناب المحظور، ثم أمر بالاعتصام بحبله جميعا ونهى عن التفرق والاختلاف، فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون} [1] .
قال ابن جرير: " {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} المعنى وتعلقوا بأسباب الله جميعا، يريد بذلك أن تمسكوا بدينه الذي أمركم به، وعهده الذي عهده إليكم، في كتابه من الألفة والاجتماع على كلمة الحق، والتسليم لأمر الله".
والاعتصام: هو الامتناع بالشيء والاحتماء به، والعصم: هو المنع، فكل مانع شيئا فهو عاصمه، والممتنع به معتصم به، ومن ذلك قول الفرزدق:
أنا ابن العاصمين بني
تميم إذا ما أعظم الحُدْثان نابا
والحبل: هو السبب الذي يُوصل إلى المراد، ولذلك سمي الأمان حبلا، لأنه يوصل إلى زوال الخوف، والنجاة من الفزع والذعر، ومنه قول أعشى بني ثعلبه:
وإذا تُجوِّزها حبال قبيلة
أخذت من الأخرى إليك حبالها
ومن ذلك قول الله تعالى: {إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [2] .
وقد فسر حبل الله بأنه الاجتماع على الحق.
وفسر بأنه القرآن وعهد الله الذي عهده إلى عباده فيه.
وفسر بأنه التوحيد وإخلاص العمل لله تعالى.
روى ابن جرير بسنده إلى ابن مسعود، قال:"حبل الله الجماعة"[3] .
وروى عن قتادة قال: "حبل الله المتين الذي أمر أن يعتصم به: هذا القرآن".
وكذا قال مجاهد والضحاك وعطاء.
ورُوي عن ابن مسعود، قال:"إن الصراط محتضر، تحضره الشياطين، ينادون: يا عبد الله هلم هذا الطريق، ليصدّوا عن سبيل الله، فاعتصموا بحبل الله فإن حبل الله هو كتابه"[4] .
وقال مجاهد: "حبل الله عهده وأمره".
وفي مسند الإمام أحمد والترمذي قال: "حسن غريب" عن أبى سعيد قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض" [5] .
وروى ابن جرير عن أبى العالية: قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} قال: "الإخلاص لله وحده"[6] .
وهذه الأقوال كلها حق، وليس فيها اختلاف، فحبل الله هو كتابه، ودينه وأمره الذي أمر به عباده، وعهد إليهم به، وهو الذي أمر بالاجتماع عليه، ونهى عن التفرق فيه.
والمقصود من ذلك كله أن يوحدوا الله تعالى بالطاعة والعبادة، ويخلصوا له العمل، والاعتصام بحبل الله يتضمن الاجتماع على الحق، والتعاون على البر والتقوى والتناصر على أعداء الله وأعداء المسلمين، والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر ولذلك بعد أن أمر الله تعالى بالاعتصام بحبله، وهو الاجتماع على دينه والاحتماء به، أكد ذلك بالنهي عن الفرقة، فقال تعالى:{وَلا تَفَرَّقُوا} قال ابن جرير: "يعني ألا تفرقوا عن دين الله وعهده إليكم في كتابه، من الائتلاف والاجتماع على طاعة الله، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والانتهاء إلى أمره"، ثم روى عن قتادة، قال: إن الله تعالى كره لكم الفرقة، وقدم إليكم فيها، وحذركموها، ونهاكم عنها ورضي لكم السمع والطاعة والألفة والجماعة، فارضوا لأنفسكم ما رضي الله لكم إن استطعتم، ولا قوة إلا بالله.
وروى عن ابن مسعود قال: "يا أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة، فإنها حبل الله الذي أمر به، وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة هو خير مما تحبون في الفرقة"[7] .
ومن الأمور المسلَّم بها أنه لابد للناس من أمر يجتمعون عليه، يحكم بين المختلفين ويفصل بين المتنازعين إذ الاختلاف من طبيعتهم، ولابد له ممن يلزم من يأبى ذلك، وينفذ الأحكام، حتى يأمن الناس على أنفسهم، وأموالهم، ويكون اتجاههم موحدا، كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
وما الدين إلا أن تقام شريعة
وتأمن سبل بيننا وشعاب [8]
ولهذا اتفقت المجتمعات على اختلاف أديانها، ووجهاتها على وضع قانون يرجعون إليه عند الاختلاف، ويحكمونه عند المنازعات، فهو من الضروريات التي لا تصلح دنياهم إلا به.
ومعلوم أن الإنسان ظلوم جهول، فلابد أن يقع في الجهل والظلم في وضع القانون وغيره، ولذلك أنزل الله تعالى الشرائع من عنده، لتحكم بين العباد بالعدل وأوجب تعالى على عباده الرجوع إلى شرعه، عند الاختلاف، ليحكم بينهم فيما اختلفوا فيه، وجعل ذلك شرطا في حصول الإيمان، فقال تعالى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [9] .
ثم لابد للمجتمع من رئيس مطاع ذي قوة وسلطان حتى يقوم بتنفيذ شرع الله تعالى على من يَلْزَمُهُ الحكم ويأباه أو يجهله وأمر الله تعالى عباده أن يكونوا عونا له على ذلك؛ لأن هذا هو الذي تحصل به مصالح الدنيا والآخرة وبدونه يعم الفساد والفوضى والظلم فلابد من إلزام الخلق بالحق ومنعهم من الظلم والتعدي في الدماء والأموال والأعراض وقطع السبل، وإلا فسدت الأمور وانتهكت الأعراض ونهبت الأموال وسفكت الدماء.
ولابد من العدل في ذلك، وهو الميزان الذي أنزله الله على رسله، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [10] وقال تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [11] وقال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [12] وقد جاء عن رسول الله - صلى الله عليه سلم - أنه قال: "لا تزال هذه الأمة بخير ما إذا قالت صدقَت، وإذا حكمت عدلت وإذا استرحمت رحمت"[13] ومفهوم ذلك أنها إذا لم تكن كذلك فهي في شر. قال الحسن: "إن الله أخذ على الحكام ثلاثا، أن لا يتبعوا الهوى، وأن يخشوه ولا يخشوا الناس، وأن لا يشتروا بآياته ثمنا قليلا"قال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [14] وقال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [15] .
والمقصود أن الله تعالى أوجب على المسلمين أن يجتمعوا على دين الحق الذي هو الإسلام وأن يعتصموا بكتاب الله تعالى، وأن تكون وحدتهم عليه، فعليه يجتمعون وبه يتحدون، لا بالقوميات والجنسيات، ولا بالمذاهب والأوضاع السياسية التي اخترعوها بأفكارهم القاصرة.
ونهاهم تعالى عن التفرق والانقسام، بعد الاجتماع والاعتصام بكتاب الله تعالى في التفرق من زوال الوحدة التي هي معقد العز والقوَة فبالاجتماع تقوى الأمة، وبالقوة يعتز الحق فيعلو على الباطل، ويحفظ من هجمات المواثبين، ويحمى من كيد الكائدين، قال تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [16] فالإسلام هو سبيله، والعصبيات والقوميات هي السبيل المشتتة التي تؤدي إلى الضعف والهلاك.
والإسلام يأمر بالوفاق، والاتفاق، بين كل من تحكمهم شريعته، وأن يعتصموا بحبل الله جميعا، وقد بددت العصبيات القبلية العرب قبل الإسلام، فلم يكن لهم شريعة تجمعهم ولا نظام يحكمهم، وحيفي لجئوا إلى الإسلام نالوا به العزة والسيادة، والسعادة ولما سرى سمَّ العصبيات الموبوءة التي نقلها متفرنجة المسلمين إليهم، يخادعون بذلك قومهم موهمين، بأنهم يريدون النهوض بأوطانهم، وإعلاء شأنهم، أصبح الأمر معكوسا فلم يجنوا من ذلك سوى الضعف والتفكك، والتفرق الذي مهد السبيل أمام أعدائهم للاستيلاء على خيرات بلادهم، وعلى أفكارهم، وفي النهاية أصبح أعداؤهم يتحكمون فيهم، وان أوهموهم بأن الأمر بأيديهم.
فالإسلام وحده هو الأساس الذي ينبع منه إيجاد المجتمع المتكامل، المتساند الذي يعمل من أجل خير الجميع، لأن الإسلام يعتبر الفرد هو النواة للجماعة، ولا يعترف بالجماعة إلا إذا كانت لا تعمل على ضمان صالح الفرد.
ومن المتيقن أن المسلمين لن تقوم لهم دولة عزيزة قوية إلا إذا اجتمعوا على ما اجتمع عليه أوائلهم وأسلافهم، الذين فتحوا البلاد بعدل الإسلام وعزته، وفتحوا القلوب لعبادة الله وحده لا شريك له، وبذلك صاروا هم القادة.
ولتكن دويلة اليهود في فلسطين معتبرا لمن يعقل ويعتبر، كيف أصبحت تتحداهم وتهددهم، ولا يستطيعون الإمتناع منها، وليس لذلك سبب سوى انصراف المسلمين عن د ينهم الذي هو مصدر عزهم وقوتهم.
فبالإسلام وحده استطاع أجدادنا لما كان إمامهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم وقائدهم القرآن أن يكونوا أكبر دولة وأعظمها، لا تستطيع القوى المادية مجتمعة إيجاد مثلها.
وقد علم لكل من يقرأ التاريخ أن المسلمين كلما حادوا عن دينهم، حاق بهم ما وقع بهم في الأندلس، وغيره، أن ما وقع للمسلمين قديما وحديثا كله بسبب انصرافهم عن دينهم، فيجب أن يكون ذلك لهم عبرة، فقد أبيدت أمم من المسلمين وسلبت بلادهم، وسبيت نساؤهم وأولادهم، وارتد من بقي منهم في تلك البلاد عن الإسلام كما حصل في الأندلس، بسبب التفكك والاختلاف الذي نهاهم عنه دينهم وحذرهم الله منه على لسان رسوله- صلى الله عليه وسلم، كما في حديث ثوبان "وأني سألت ربي أن لا يهلك أمتي بسنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال: "يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من في أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا" [17] .
ولما كانوا مجتمعين، تسودهم روح الإسلام، ويلتزمون أحكامه، لم يكن العدو يطمع بهم وليس له فيهم منفذ، حتى صاروا هم يدمرون أنفسهم وبلادهم، بتفرقهم، واختلافهم.
وقد اتفق أهل النظر وعلماء التاريخ والاجتماع من المسلمين وغيرهم من الأمم المختلفة أن العرب ما قاموا ببناء حضارتهم، ومدنيتهم الواسعة الأرجاء إلا بتأثير الإسلام، في جمع كلمتهم، وإصلاح شئونهم النفسية، والعلمية، والخلقية.
ولهذا لما رأى الكفار قوة المسلمين، ووحدة صفهم على عدوهم، عملوا على تمزيق هذه الوحدة، بوسائل متعددة، منها تقسيم بلادهم إلى دويلات متعددة، وجعلوا لكل دويلة حدودا، ونظاما، وأمورا قد يحصل بسببها القتال بينها وبن جارتها وبذلك أمكنهم السيطرة على المسلمين، من نواحي متعددة.
ومعرفة الجماعة وأهميتها في الدين، وكذلك معرفة حكم الفرقة وعظيم ضررها مما ينبغي الاعتناء به، وكذلك معرفة منشأ الفرقة وأسبابها، فإن بالفرقة يحصل التلاعن والتباغض والتقاطع، ثم القتال، وهذا أصل محرم في الشرائع كلها التي أنزلها الله على رسله، وإنما ترتكب بظلم الناس وجهلهم.
وكذلك تمييز السنة من البدعة مما يجب الاعتناء به، إذ السنة ما أمر الله به والبدعة ما لم يشرعه الله من الدين.
وقد كثر اضطراب الناس في ذلك قديما وحديثا، وحصل بسبب ذلك من التفرق والتباعد والتباغض شر عظيم، وضعف كبير، وتباعد شاسع، إذ كل فريق يزعم أنه المهتدي، والسنة معه، والفريق المخالف له ضال أو ربما كافر، فينشأ عن ذلك من التفرق والشرور ما الله به عليم.
وقد ذم الله تعالى الاختلاف ونهى عند أشد النهي، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [18] .
فأخبر تعالى عن اتفاق الناس في الأصل، وأنهم كانوا جماعة متحدة، ثم اختلفوا.
وهذا الاختلاف في الدين، هو الاختلاف الذي يكون به تضليل بعضهم بعضا ومعاداة بعضهم لبعض، ثم بعد ذلك يكون القتال وشدة التفرق.
وقد بعث الله تعالى إلى العباد النبيين مبشرين من أطاعهم واجتمع على الهدى الذي جاءوا به، بالسعادة والسيادة، ومنذرين من عصاهم، بالعذاب في الآخرة والعقوبة في الدنيا، بما ينغص عليهم حياتهم، أو يهلكهم بعذاب متصل بعذاب الآخرة.
ولما كان عقل الإنسان وفكره قاصرا عن الوصول إلى كل ما فيه مصلحته، وهدايته من العدل في حقه وحق غيره، ولتفاوت عقول الناس، وإدراكا تهم، فلابد من اختلافهم، مع ما فيهم من النقص، لذلك أنزل الله الكتاب ليحكم بينهم فيما اختلفوا فيه من العلم والاعتقاد، والعمل والحكم.
لأن الاختلاف إما أن يكون في الأقوال، كاختلاف الفقهاء الذين يتكلمون في مسائل العلم، ولا يدعون إلى أقوال مبتدعة فهؤلاء أهل اجتهاد، إذا أخطأوا فخطأهم مغفور، وهم مثابون على اجتهادهم.
وإما أن يكون الاختلاف في القول والعمل، غير أن الأقوال مبنية على تأويل فاسد، إتباعا للهوى، ويدعون إليها، ويحاربون عليها، ويوالون ويعادون فيها كفعل الخوارج، والروافض، والمعتزلة، ونحوهم، ويدخل في ذلك من يقاتل لأجل الملك والدنيا والرئاسة، فهؤلاء ما بين معتد ظالم أو مفرط ضال أو عابد لهواه وشهوته، فهؤلاء هم أهل الضلال، والخذلان، وهم الذين توجه إليهم الذم في الكتاب والسنة.
وأول هؤلاء هلاكا هم الخوارج المارقون عن الحق، حيث حكموا لنفوسهم بأنهم المتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله-صلى الله عليه وسلم وأن علي بن أبي طالب، ومعاوية وعسكريهما هم أهل المعصية، والبدعة، فاستحلوا ما استحلوا من دماء المسلمين بسبب ذلك.
وفى صحيح مسلم، عن أبي هريرة، عن النبي- صلى الله عليه وسلم أنه قال:"وإن الله يرضى لكم ثلاثا، ويكره لكم ثلاثا، يرضى لكم أن تعبدوه، ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا، ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم [20] ، ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال"[21]
وروى ابن أبي شيبة، عن حذيفة قال:"من فارق الجماعة شبرا، فارق الإسلام"[22] .
وروى عن علي قال: "الأئمة من قريش، ومن فارق الجماعة شبرا، فقد نزع ربقة الإسلام من عنقه "[23] . والمقصود بالجماعة أهل الحق الذين اجتمعوا عليه، ولم يخالفوا ما جاء به رسول الله- صلى الله عليه وسلم بحسب الاستطاعة.
وهذه النصوص وأمثالها تدل على وجوب جمع كلمة المسلمين واجتناب كل ما يكون سببا للخلاف، حتى مسائل العلم الاجتهادية التي ينشأ عنها تفرق ومعاداة.
فإنه قد يكون في مسائل الاختلاف اعتقاد وجوب بغض المخالف في تلك المسألة أو تفسيقه، أو لعنه وتكفيره، أو قتاله، ويكون ذلك في حق المبغض المفسق أو المكفر المقاتل بلاء ومحنة وفتنة، كما هو حال البغاة المتأولين، مع أهل الحق والعدل من أهل الأمر والنهى أو أهل العلم والعمل، يعني الأمراء والعلماء والعباد.
ولكن الاجتهاد السائغ لا يبلغ له مبلغ الفتنة والفرقة، إلا مع البغي والعدوان، ولهذا قال تعالى:{وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [24] . وذكر هذا تعالى في آيات أخر، كقوله تعالى:{وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [25] . وقوله تعالى: {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [26] . فبين تعالى أن الاختلاف الموجب للفتنة والفرقة إنما هو بغي، وعدوان، فلا تكون فتنة وفرقة مع الاختلاف السائغ في الشرع.
ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن القتال في الفتنة، وصار هذا من أصول أهل السنة التي تذكر في العقائد لأهميته.
وان كان بعض العلماء يرى إذا كانت إحدى الطائفتين لديها العلم التام بأحكام الشرع، والأخرى باغية أنه يجب القتال مع الطائفة العادلة العالمة وحكموا بأن الأصوب القتال مع علي بن أبي طالب في قتال الفتنة، وأن ذلك أولى من اعتزال القتال.
ولكن النصوص الكثيرة دلت على أن الصواب اعتزال القتال، كما فعله أكثر الصحابة، كقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن أبي شيبة عن محمد بن مسلمة قال: أعطاني رسول الله –صلى الله عليه سلم - سيفا فقال: "قاتل به المشركين، فإذا رأيت الناس يضرب بعضهم بعضا، فأعمد به إلى صخرة فأضربه بها حتى ينكسر، ثم أقعد في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة أو منية قاضية".
وكما في سنن أبي داود والترمذي عن أبي موسى الأشعري، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال: في الفتنة: "كسروا فيها قِسيكم، وقطعوا أوتاركم، والزموا فيها أجواف بيوتكم، وكونوا كابن آدم".
وفي الصحيحين عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، ومن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به".
وفي صحيح مسلم عن أبي بكرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: "أنها ستكون فتنة، ألا ثم تكون فتن القاعد فيها خير من الماشي، والماشي خير من الساعي إليها، فإذا وقعت، فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كان له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه، فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت من لم تكن له إبل ولا غنم، ولا أرض؟ قال: يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاة، اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت، فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين أو إحدى الطائفتين، فضربني رجل بسيفه، أو يجيء سهم فيقتلني؟ قال: يبوء بإثمه وإثمك ويكون من أصحاب النار".
وفي الصحيحين من حديث أبي بكرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، فقيل: يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه أراد قتل أخيه".
وفيهما عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن ".
والأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بالكف عن القتال في الفتن، واعتزال المقاتلين كثيرة جدا، وواضحة جلية، وهي من الأمور المانعة من التفرق، لأن هذا هو العلاج في مثل تلك الحال، فإذا لم تمنع بالكلية فبها العمل على تقليلها، ولو باعتزال أصحابها ومن الأصول المتفق عليها عند أهل السنة، ودلت عليه النصوص الكثيرة، أنه إذا كان للناس إمام جائر ظالم، فإن الناس يؤمرون بالصبر على جوره وظلمه، وبغيه ولا يقاتلونه وأن مجرد وجود البغي من إمام، أو من طائفة لا يبيح قتالهم.
فدفع البغي لم يأذن الشرع به مطلقا بالقتال، بل إذا كان فيه فتنة، ويترتب عليه ضرر أعظم منه وجب الكف عنه، وأمر بالصبر والاحتمال؛ لأن الشريعة مبناها على دفع أعظم المفسدتين بالتزام أقلهما ضررا إذا لم يمكن دفع الفساد مطلقا.
والنبي- صلى الله عليه وسلم إذا وصف طائفة بأنها باغية ليس معنى ذلك أنه أمر بقتالها بل ولا مبيحاً له، سواء كان بغيها بتأويل أو بغير تأويل.
وكل ما أوجب فتنة أو فرقة بين المؤمنين فليس هو من الدين، سواء كان قولا أو فعلا. والفتنة والفرقة لا تقعان إلا مِن تَرْك ما أمر الله به، والله تعالى أمر بالحق والعدل وأمر بالصبر، والفتنة تكون من ترك الحق أومن ترك الصبر.
فالمظلوم إذا كان على حق فإنه يؤمر باحتمال الأذى والصبر على البلوى، فإذا ترك الصبر فإنه يكون تاركا لما أمر الله به.
وإن كان المظلوم مجتهدا في معرفة الحق ولم يصبه، ثم لم يصبر على البلوى، كان مقصرا في معرفة الحق وآثما بترك الصبر، ولكن قد يؤجر على اجتهاده ويعفى له عن تقصيره، وأما ترك الصبر فعليه إثم ذلك.
وأما إذا كان غير مجتهد في معرفة الحق ولم يصبر، فإنه يجتمع عليه ثلاثة ذنوب، الأول لتركه الاجتهاد في طلب الحق والثاني لتركه الصبر على البلوى والثالث لعدم إصابته الحق ووقوعه في الخطأ.
والمقصود أنه لا يحل دفع الأذى الذي يكون في دفعه فتنة بين الأمة، أو ينتج عنه شر عظيم أو أعظم من الأذى المطلوب دفعه، أو يكون في دفعه ظلم وعدوان، بل المتعين حينئذ الصبر والاحتمال وضبط النفس، فإن ذلك في حق المظلوم ابتلاء وامتحان، وإذا صبر واحتسب كانت العاقبة له، وقد قال الله تعالى:{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} أي يبتلى بعضكم ببعض لينظر من يصبر فيستحق الجزاء الأوفى، في الدنيا والآخرة.
وأخبر تعالى عن رسله أنهم قالوا لقومهم: {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} فجعلهم أئمة بالصبر واليقين، فبذلك تُنال الإمامة في الدين.
والخطأ يحصل في هذا إما بسبب جزع المظلوم أو بسبب قلة صبره أو ضعف رأيه فإنه قد يظن أن القتال أو نحوه في الفتنة يدفع الظلم عنه ولا يدري أنه يضاعفه ويزيد الشر كما هو الواقع.
والمظلوم وإن كان مأذونا له في دفع الظلم عنه، كما في قوله تعالى:{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} فذلك مقيد بشرطين.
أحدهما القدرة على ذلك؛ فإنه إذا كان غير قادر زاد ظلمه.
والثاني أن لا يتعدى، كما قال الله تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ، وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} فأخبر تعالى أن الانتصار جائز لمن يقدر عليه ولا يعتدي وأن الصبر أفضل، فإذا لم يتوافر الشرطان لم يجز.
وهذا كله إذا لم يكن الباغي الظالم هو الإمام الذي له قوة وأتباع، فإذا كان هو لم يجز الانتصار والانتقام، لما يترتب على ذلك من الشر العريض والفتنة التي فيها من الضرر والفساد أضعاف ما في الانتصار من المصلحة ودفع الظلم.
ولهذا جاء ت النصوص عن النبي- صلى الله عليه وسلم في النهي عن قتال الأئِمة الجائرين الظالمين.
ففي صحيح مسلم والترمذي أن سلمة بن يزيد الجعفي سأل رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال: "يا نبي الله أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألون حقهم ويمنعوننا حقنا فما تأمرنا، فأعرض عنه مرارا- وهو يعيد السؤال - ثم قال: اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم".
وفي الصحيحين عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: "إنها ستكون أثرة وأمور تنكرونها، قالوا: يا رسول الله كيف تأمر من أدرك ذلك منا؟ قال: تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم".
وفيهما أيضا عن ابن عمر، أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم قال:"وعلى المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره، إلا أن يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة". وفي صحيح مسلم والنسائي عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: "عليك السمع والطاعة، في عُسرك ويُسرك، ومَنشطك ومَكرهك، وأثرة عليك".
وفي الصحيحين، عن ابن عباس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال:"من كره من أميره شيئا فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية".
وهذا كله محافظة على الاجتماع وخوفا من التفرق الذي يضعف الأمة أمام هجمات الأعداء ومحافظة على دمَاء المسلمين وأعراضهم وأموالهم؛ لما يحصل في الخروج على الإمام من الفتن وسفك الدماء وذهاب الأموال وهتك الأعراض؛ كما جرب الناس ذلك وعانوا منه العنت والشر الكثير، والشرع جاء باحتمال أقل الأمرين ضررا؛ لدفع ما هو أعظم؛ ولهذا جاءت النصوص عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم بالأمر بقتل من خرج بطلب السلطة، والمسلمون لهم سلطان قائم لما في ذلك من الفتن والتفرق، كما في صحيح مسلم عن عوف بن عرفجة قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم يقول: "ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان". وفي النسائي، عن أسامة بن شريك، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: "أيما رجل خرج، يفرق بين أمتي فاضربوا عنقه".
وفي صحيح مسلم والنسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: "من خرج من الطاعة وفارق الجماعة، فمات مات ميتة جاهلية، ومن قتل تحت راية عُمِّيّة يغضب لعصبية أو يدعو إلى عصبية فقُتل فقِتلةً جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها لا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي بعهد ذي عهدها فليس مني ولست منه".
فحذر- صلى الله عليه وسلم مما يفرق ويوهن الجماعة وأمر بقتل من يريد أخذ السلطة ممن هي بيده واجتمع عليه المسلمون سواء كان برا أو فاجرا وأخبر أن من قتل تحت راية عُمِّيّة أن قتلته جاهلية ومن قاتل لعصبية أنه كذلك وتبرأ ممن يفرق بين أمته.
وأما قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} فليس فيه الأمر بالقتال ابتداءً ولكن إذا حصل القتال بين طائفتين من المؤمنين يجب الإصلاح بينهما بدون قتال ما أمكن ذلك امتثالا لأمر الله تعالى، ويكون الإصلاح بالعدل والإنصاف وقد تكون إحدى الطائفتين أقرب إلى الحق، فتعان على الحق ويحال بين الأخرى وبين البغي والظلم، فإن أبت إحداهما قبول الصلح والحكم بينهما بالحق، وأبت إلا البغي وركوب العسف والتمادي في الباطل، فعند ذلك تقاتل تلك الطائفة منعا للقتال الذي هو أعظم من قتالها لأنها إذا لم تقاتل حتى تفيء إلى أمر الله بل تركت حتى تتقاتل هي والأخرى صار الفساد أعظم، ثم إن الذي يقاتل الطائفة الباغية غير الطائفة المبغي عليها، فهذا من نصر المظلوم ودفع الفساد العظيم بما هو أقل منه فسادا.
قال ابن جرير: "يقول جل ذكره: وإن طائفتان من أهل الإيمان، اقتتلوا، فأصلحوا أيها المؤمنون بينهما بالدعاء إلى حكم كتاب الله، والرضا بما فيه لهما وعليهما وذلك هو الإصلاح بينهما بالعدل، فإن بغت إحداهما على الأخرى، يقول: فإن أبت إحدى الطائفتين الإجابة إلى حكم كتاب الله لها أو عليها، وتعدت ما جعل الله عدلا بين خلقه وأجابت الأخرى منهما، فقاتلوا التي تبغي؛ أي التي تعتدي وتأبى الإجابة إلى حكم الله حتى تفيء إلى أمر الله، أي حتى ترجع إلى حكم الله الذي حكم في كتابه بين خلقه، فإن فاءت {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} يقول: فإن رجعت الباغية بعد قتالكم إياهم إلى الرضا بحكم الله في كتابه فأصلحوا بينها وبين الطائفة الأخرى بالعدل يعني الإنصاف بينهما وذلك حكم الله في كتابه جعله عدلا بين خلقه"وهذا ليس فيه قتال الأئمة الذين بأيديهم السلطة، بل هذا نوع آخر وإنما المأمور به في هذه الآية دفع الفتنة وتقليلها ما أمكن بالإصلاح أو بالقتال إذا لم يمكن بدونه، فتقاتل الفئة الباغية على الأخرى، حتى تذعن لحكم الله، ويصير الدين كله لله وكلمة المسلمين مجتمعة.
والمأمور بالقتال هم المؤمنون الذين ليسوا من إحدى الطائفتين، أمر الله تعالى بأن يقاتلوا من بغى على أخيه، وتعدى بقتال، ولم يقبل الصلح بالعدل، فقتال مثل هؤلاء من باب الجهاد، ونصر المظلوم.
أما إذا وقع بغي ابتداء بغير قتال مثل أخذ المال أو رئاسة بظلم فهذا لم يأذن الله تعالى بقتالهم على ذلك بل أمر الرسول- صلى الله عليه وسلم مع ذكره لظلمهم بالصبر وإعطائهم حقوقهم وأن يطلب المظلوم حقه من الله تعالى ولم يأذن للمظلوم المبغي عليه بقتال الباغي في مثل هذه الصور التي يكون القتال فيها قتال فتنة وحذر من الخروج على الأئمة؛ وإن كانوا ظلمة وجائرين يضربون الظهور ويأخذون المال ويمنعون الحقوق؛ بل نهى عن معصيتهم حينئذ ونزع يد الطاعة منهم ما لم يأمروا بمعصية الله تعالى، فعند ذلك لا طاعة لهم ولا يسمع لقولهم وكذلك إذا ارتدوا عن الإسلام وكفروا به صراحة فلا يجوز أن يكونوا حينذاك أئمة على المسلمين، فطاعتهم مقيدة بأن لا يأمروا بمعصية الله تعالى، فهم لا يطاعون في كل شيء وإنما يطاعون إذا أمروا بطاعة الله أو بما ليس فيه معصية لله تعالى، أما إذا أمروا بمعصية الله تعالى فلا سمع لهم ولا طاعة.
وكذلك النهى عن الخروج عليهم مقيد بكونهم مسلمين مصلين، أما إذا كفروا كفراً صريحا وارتدوا ردةً واضحة جلية فلا يجوز حينئذ أن يكونوا ولاة على المسلمين وعلى هذا دلت النصوص عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم.
جاء في صحيح مسلم عن علي بن أبي طالب قال: "بعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلا من الأنصار وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا، فأغضبوه في شيء فقال: أجمعوا لي حطبا، فجمعوا له ثم قال: أوقدوا نارا، فأوقدوا ثم قال: ألم يأمركم رسول الله- صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى، قال: فأدْخلوها، قال: فنظر بعضهم إلى بعض، فقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم من النار، فكانوا كذلك، وسكن غضبه وطفئت النار، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي- لصلى الله عليه وسلم - فقال: "لو دخلوها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف" [27] .
وفيه أيضا عن أم سلمة أن النبي- صلى الله عليه وسلم قال: "سيكون أمراء تعرفون وتنكرون فمن عرف برئ ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع قالوا: أفلا ننابذهم؟ قال: لا ما صلوا".
وفيه أيضا عن عوف بن مالك سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم يقول: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلُّون عليكم وتصلُّّون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم قال: قلنا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما أقاموا فيكم الصلاة، إلا من ولى عليه والٍ فرآه يأتي شيئا من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية ولا ينزعن يداً من طاعة".
قال النووي: "أجمع العلماء على وجوب طاعة ولاة الأمور من غير معصية وعلى تحريمها في المعصية، نقل الإجماع القاضي عياض وآخرون" قال: "وتجب طاعتهم فيما يشق على النفوس وما تكرهه وغيره فيما ليس بمعصية، فإن كانت لمعصية فلا سمع ولا طاعة، كما صرح به في الأحاديث، فتحمل الأحاديث التي فيها إطلاق السمع والطاعة على المقيدة، وفي حديث عبادة قال: "بايعنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: إلا أن ترون كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان".
ونقل النووي عن عياض أنه قال: "أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل "إ. هـ يعني انعزل حكما، لأنه لا يجوز أن يتولى الكافر على المسلمين، فولي الأمور هو الذي يقيم الحدود ويقود المسلمين في جهاد أعدائهم ويذود عن بلادهم، فإذا لم يكن على دينهم لا يتوقع منه فعل ذلك.
والمقصود أن النبي- صلى الله عليه وسلم حذر من الخروج عن الطاعة ومفارقة الجماعة وذم ذلك وجعله من أمر الجاهلية، لأن أهل الجاهلية لم يكن لهم رئيس يجمعهم وشأنهم التفرق والاختلاف، ويرون السمع والطاعة مهانة وذِلَّة والخروج عن الطاعة وعدم الانقياد عندهم فضيلة يمتدحون بها.
فجاء الإسلام مخالفا لهم في ذلك آمرا بالصبر على جور الولاة والسمع والطاعة لهم في غير معصية والنصح لهم، وبالغ صلوات الله وسلامه عليه في ذلك حتى قال فيما أوصى به في حجة الوداع:"اسمعوا وأطيعوا لمن ولاه الله أمركم، وإن كان عبدا حبشيا مُجْدِع الأطراف ".
مع أنه- صلى الله عليه وسلم كان دائما يأمر بإقامة رئيس حتى في الجماعة القليلة والمدة القصيرة ويحث على طاعته، كما أمر المسافرين إذا كانوا ثلاثة أن يؤمروا أحدهم، مبالغة في طلب الاجتماع وحرصا على عدم الفرقة ومخالفة لأمر الجاهلية وتقدم الحديث الذي في صحيح مسلم:"إن الله يرضى لكم ثلاثا، ويكره لكم ثلاثا، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، ويكره لكم قيل، وقال:وكثرة السؤال وإضاعة المال " وهذه أصول الإسلام فإنه بني على عبادة الله وحده، والجن والإنس خلقوا لذلك.
ولهذا صار من أصول أهل السنة صلاة الجمع وغيرها خلف البر والفاجر، ويرون أن ترك الصلاة خلفهم من سنة المبتدعين، وإذا كان الإمام مستورا فإنه يصلى خلفه بالاتفاق من أئمة المسلمين، ومن زعم أنها غير جائزة فقد خالف الإجماع من أهل السنة وقد كان الصحابة يصلون خلف الفسقة والظلمة بل ومن كان متهما بالإلحاد كابن أبي عبيد وكان داعيا إلى الضلال، ولم يكونوا يعيدون الصلاة وقد أنكر الإمام أحمد على من يعيدها إنكارا شديدا وعد ذلك من البدع.
والاعتصام بحبل الله يتضمن الاجتماع على الحق والتعاون على البر والتقوى والتناصر على أعداء الله وأعداء المسلمين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأكد ذلك بقوله:{وَلا تَفَرَّقُوا} .
وفى الحديث الذي أخرجه الترمذي وصححه، قوله- صلى الله عليه وسلم:"وأنا آمركم بخمس أمرني الله بهن، السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة، فإن من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه".
وفى خطبة عمر رضي الله عنه المشهورة التي ألقاها في الجابية، قوله:"عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد"وفيها: "من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة".
والمراد بالجماعة أهل الحل والعقد من كل عصر.
وقال البخاري: "الجماعة هم أهل العلم"، وهذا لا يخالف قول الجمهور من العلماء لأن أهل العلم، يقولون بمقتضى أحاديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم التي تنص على وجوب طاعة الأمراء الذين يتولون أمور المسلمين، وإن كانوا فجرة ماداموا على الإسلام لم يخرجوا إلى الكفر الصريح كما في صحيح مسلم من غير وجه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال:"من أطاعني فقد أطاع الله، ومن يعصني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني".
وفيه عن ابن عباس، قال: "نزل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} في الإسراء.
وفي صحيح مسلم عن حذيفة، قال:"قلت يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر فجَاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قلت: فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال نعم وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي ويهتدون بغير هدي تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها فقلت: صفهم لنا؟ قال: نعم، قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، قلت: يا رسول الله فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فأعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك".
وفي لفظ آخر: "قلت: وهل وراء ذلك الخير شر؟ قال: نعم. قلت: كيف؟ قالت: يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهدي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان الإنس. قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك فأسمع وأطع".
وفي رواية قال عن الخير الثاني: "صلح على دخن وجماعة على أقذاء فيها وقلوب لا ترجع إلى ما كانت عليه".
فالخير الأول: النبوة وما اتصل بها من خلافة ليس فيها فتنة، والشر هو ما حصل من الفتنة بسبب مقتل الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه وتفرق الناس حتى صار حالهم شبيها بحال الجاهلية يقتل بعضهم بعضا، ولهذا قال الزهري:"وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم متوافرون فأجمعوا على أن كل دم أو مال أو فرج أصيب بتأويل القرآن فهو هدر، أنزلوهم منزلة الجاهلية"فيبين أنهم جعلوا ذلك غير مضمون كما أن ما يصيبه أهل الجاهلية بعضهم من بعض غير مضمون، لأن الضمان إنما يكون مع العلم بالتحريم فأما مع الجهل كحالة البغاة من أهل القبلة والكفار فلا ضمان، لهذا لم يضمن النبي- صلى الله عليه وسلم أسامة دم الذي قتله بعد ما قال: لا إله إلا الله "، مع تغليظه- صلى الله عليه وسلم في ذلك، وردد عليه قوله: أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله، ثلاث مرات حتى قال أسامة فتمنيت أني لم أسلم قبل ذلك.
والخير الثاني: اجتماع الناس على معاوية بعد أن تنازل الحسن له عن الأمر، وكان ذلك صلحا على أقذاء، ودخن في ذلك الاجتماع حيث لم ترجع القلوب إلى ما كانت عليه زمن النبي- صلى الله عليه وسلم – وخلفائه قبل الفتنة.
والمقصود أن النبي- صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه يكون أئمة لا يهتدون بهديه- صلى الله عليه وسلم ولا يستنون بسنته وأخبر أن فيهم رجالا قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان الإنس، ومع ذلك أمر بالسمع والطاعة للأمير، وإن ضرب الظهر وأخذ المال وفي ذلك بيان وجوب طاعة السلطان، سواء كان عادلا أو ظالما جائرا وهذا حماية منه- صلى الله عليه وسلم للأمة من التفرق، الذي يضعفها ويجعلها نهبة للأعداء، كما هو الواقع من حال المسلمين اليوم لما تفرقوا وأصبحوا دويلات لكل دويلة حدودها واتجاهاتها.
وعلاقتها مع أعدائها أوثق من علاقتها مع الدول الإسلامية، وبذلك صار المسلمون غثاء كغثاء السيل ذهبت مهابتهم من قلوب أعدائهم وقذف في قلوبهم الوهن فوصلوا إلى حالة من الشقاق والاختلاف وصاروا فيها من أبعد الناس عن الاتفاق الائتلاف. والواجب عليهم الحذر مما وقع فيه من قبلهم من الاختلاف في دينهم أشد الحذر وقد أكثر الله ورسوله في تحذيرهم من ذلك ورتب تعالى العذاب على الاختلاف.
وهم قد جربوا ذلك بأنفسهم فلما كانوا ممتثلين لأمر ربهم بالاتفاق والاعتصام بكتاب الله تعالى، منتهين عن التفرق والاختلاف، كانوا خير أمة أخرجت للناس، فحصل لهم الخير العظيم الذي لم يطرق العالم مثله، من كثرة الإيمان بالله وانتشار العدل بين الناس وقوة المسلمين وسيطرتهم على معظم الأرض وقمع الباطل وحزب الشيطان، فلما سلكوا مسالك من تقدمهم من التفرق في الدين وتقليد أعدائهم ذهبت ريحهم، ثم لم يزل النقص فيهم إلى أن صاروا أذلة يستجيرون بأعدائهم، مع كثرة عددهم، والله تعالى جعل الاختلاف من طبيعة البشر فلذلك بين علاجه بيانا واضحاً بأن نرد ما اختلفنا فيه إلى كتَابه، وسنة رسوله، وبذلك يحصل الاتفاق والاعتصام بحبل الله.
والمقصود أن الله تعالى لم يأذن بقتال الأمراء والولاة، والخروج عليهم لما في ذلك من الفتن والفساد الكبير، والواقع أكبر شاهد لذلك.
وأما إذنه بدفع الصائل بالقتال كما في الحديث: "من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد" ونحو ذلك، فهذا ليس فيه فتنة ولا هو من دواعي التفرق والاختلاف، فهو مثل قتال اللصوص وقطاع الطرق فليس قتالهم فتنة، إذ الناس كلهم أعوان على قتالهم، فلا يكون في قتال هؤلاء ضرر عام يشمل الظالم والمظلوم وغيرهما، كقتال ولاة الأمور، فإن فيه فتنة وشرا عاما أعظم من ظلمهم، فالمشروع فيه الصبر والاحتمال.
وبهذا تجتمع النصوص وتتفق، ويزول التعارض الذي يتوهمه بعض الناس.
وهذا الأمر مما ينبغي الاهتمام بفهمه، فإن خطره عظيم، والنصوص التي تقدم ذكر بعضها تدل على وجوب الكف عن القتال في الفتنة، ولكن إذا كان الخارج مارقا من الدين ظاهر الضلال ويتدن بقتال المسلمين كالخوارج والروافض الذين يرون قتل المسلمين من فضائل الأعمال، فإنهم يُقاتلون وُيرغب في قتالهم، كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتال الخوارج ورغب فيه والروافض أشر من الخوارج.
وما قاله بعض العلماء من وجوب القتال مع من هم أولى بالحق، فالصواب خلافه- أي وجوب الكف عن القتال - لأن القتال فيه من الشر العظيم والفتنة والفساد أعظم مما في ترك القتال كما هو الواقع، لأن القتال في مثل ذلك لأجل ترك واجب مثل الامتناع من طاعة معين والدخول في الجماعة، وفي قتال الممتنعين ما فيه من سفك دماء المسلمين والفتن العظيمة أعظم مما يحصل بتركه، وإن كان غيرهم أولى بالطاعة والمقصود أن الله تعالى نهى عن التفرق وعن أسباب الفتن، مما يضعف الأمة ومن تتبع تاريخ المسلمين عرف أن أكثر الاختلاف والتفرق حصل في مسائل الصفات والقدر والإمامة وغالب ذلك مما يدخله الاجتهاد، فهم في ذلك ما بين مجتهد مخطئ ومخطئ باغ وباغ من غير اجتهاد أو مقصر فيما أمر به من الصبر والاحتمال، فحصل بسبب ذلك من القتال والشرور ما هو معلوم لمن نظر في التاريخ والواقع.
وقد قال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} فأمر تعالى بالصبر على أذى الكفار من اليهود والنصارى والمشركين مع التقوى.
وفي هذا تنبيه على وجوب الصبر على أذى المؤمنين بعضهم لبعض متأولين كانوا أو غير متأولين.
والله تعالى قد أمر بالعدل مع الكفار وغيرهم كما قال تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} .
فنهى تعالى أن يحمل المؤمنين بغضهم للكفار على عدم العدل فيهم، فكيف إذا كان البغض لفاسق مؤمن أو مبتدع متأول، فهو أولى بوجوب العدل معه وأن لا يحمل بغضه على ظلمه.
والإسلام جاء بتأليف القلوب وجمعها على الحق ومناصرة المؤمنين ومعاونتهم على البر والتقوى قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} فأمر بتنمية الخير وتكثيره وبإماتة الشر وتقليله، وأمر بالأسباب التي تجلب الخير ومودة المسلم لأخيه، ونهى عن الأسباب التي تجلب العداوة والبغضاء، مما يدل على أن الإسلام مبني على وجوب التآلف بين أهله والاجتماع عليه، وتحريم الفرقة والاختلاف.
فلهذا حرم السب والسخرية واللمز والتنابز بالألقاب، وما أشبه ذلك مما يسبب الفرقة بجلب العداوة والبغضاء وتنافر القلوب.
وحرم الأفعال الداعية إلى ذلك ففي الصحيحين عن ابن مسعود أن النبي- صلى الله عليه وسلم قال: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر".
وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} فهذه الأمور التي نهى عنها وهي السخرية واللمز والتنابز بالألقاب، هي مما يوغر الصدور ويحدث البغضاء الداعية إلى التقاطع والاختلاف وتفرق القلوب والأفكار ثم تفرق الأبدان.
وأمر بعكس ذلك مما يدعو إلى الألفة والمحبة كطيب الكلام، ولين الجانب وإفشاء السلام، والدعاء بأحسن الأسماء وأحبها إلى المدعو، والهدية، وما أشبه ذلك مما يجلب المحبة، ويجمع القلوب، ويشعر بالأخوة الصادقة.
وهذا لا ينافي لزوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن المقصود منه رحمة الخلق وامتثال أمر الله تعالى وقد قال تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} قال أبو هريرة: "كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأتون بهذا في الأقياد والسلاسل تدخلونهم الجنة".
فهذه الأمة خير الأمم لبني آدم، فإنهم يعاقبونهم بالقتل والأسر، وسبي الأموال والأولاد، ومقصودهم بذلك الإحسان إليهم، وسوقهم إلى كرامة الله تعالى ورضوانه من دخول الجنة، والحيلولة بينهم وبين النار، عكس ما يفعله النصارى والملحدون، الذين يجهدون أنفسهم ويبذلون أموالهم يبعدون بذلك الناس عن الله تعالى وهدايته، ويكرهون إليهم لإسلام بما يظهرونه من تشويه للإسلام وأهله.
وكذا إذا رد المؤمن على أهل البدع، فإنه يجب أن يكون مقصوده بيان الحق وهداية الخلق، ورحمتهم والإحسان إليهم، وإذا بالغ في ذم بدعة أو معصية فينبغي أن يكون قصده بيان ما فيها من الفساد، وتحذير الناس من الوقوع فيها.
وكذا إذا هجر إنسانا أو عزره، أو أقام عليه الحد، فلا يجوز أن يكون ذلك للتشفي والانتقام، بل يكون للرحمة والإحسان، فإن العقوبات الشرعية إنما شرعت رحمة من الله بعباده، فهي صادرة عن رحمة الله لخلقه، وإرادة الإِحسان إليهم ونفعهم، كما يقصد الوالد بتأديب ولده نفعه والإحسان إليه، وكما يقصد الطبيب بإجراء العملية للمريض شفاءه والإحسان إليه.
ولهذا أمر الله تعالى بالصلاة على من أقيم عليه الحد والاستغفار له، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله، وأمر بالصلاة على الأموات من المسلمين، فكل مسلم لم تعلم ردته، ولا نفاقه فإنه يصلى عليه، ويستغفر له، وإن كان فيه بدعة وفسوق هذا هو مذهب أهل السنة، مخالفين بذلك نهج أهل الزيغ من الخوارج والمعتزلة، الذين يكفرون بالذنوب، أو يحكمون على أصحابها بالخلود في النار.
ومن القواعد التي قررها شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من المحققين، أن المتأول إذا قصد متابعة الرسول- صلى الله عليه وسلم فاجتهد وأخطأ أنه لا يكفر ولا يفسق سواء كان ذلك في المسائل العملية الفرعية، أو في العلمية الاعتقادية الأصولية.
والتفريق بين مسائل العمل والاعتقاد في ذلك من أقوال أهل البدع.
ولا يعرف عن أحد من الأئمة أنه كفر كل مبتدع، بل المنقول عنهم يخالف ذلك.
ولكن قد ينقل عن بعضهم أنه كفر من قال بعض الأقوال، ويكون مقصوده أن هذا القول كفر ليحذر منه، ولا يلزم إذا كان القول كفرا أن يكفر كل من قاله مع الجهل والتأويل فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعين، كثبوت الوعيد في الآخرة في حقه، وذلك له شروط وموانع.
وإذا لم يكن الإنسان في نفس الأمر كافرا ولا منافقا فهو من جملة المؤمنين فيستغفر له ويترحم عليه، وإذا قال المسلم في دعائه:"ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان"دخل في ذلك كل من سبقه من قرون الأمة بالإيمان، وإن كان قد أخطأ بتأويل تأوله فخالف السنة، أو أذنب ذنبا، فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان، فيدخل في العموم، وكذا الموجودون ومن يوجد بهذه الصفة يدخلون في ذلك، وإن كانوا من الثنتين والسبعين فرقة، فما من فرقة إلا وفيها خلق كثير ليسوا كفارا، بل مؤمنين فيهم ضلال، وذنوب يستحقون بها الوعيد، كما يستحقه عصاة المؤمنين من غير أهل البدع.
والنبي- صلى الله عليه وسلم، لم يخرج الثنتين والسبعين من الإسلام، بل جعلهم من أمته، ولم يقل إنهم مخلدون في النار، فينبغي مراعاة هذا الأصل، فإنه أصل عظيم ومعلوم أن كثيرا من المنتسبين إلى السنة فيهم بدع من جنس بدع الجهمية والمعتزلة، ولا يقول عاقل يعرف شيئا من علم الكتاب والسنة أن مثل هؤلاء كفار، أو أنهم خارجون من الفرقة الناجية مطلقا.
قال شيخ الإسلام: "من كفَّر الثنتين والسبعين فرقة كلهم، فقد خالف الكتاب والسنة، وإجماع الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، مع أن الحديث في ذلك قد ضعفه ابن حزم وغيره، لكن حسنه غيره، وصححه الحاكم وغيره ورواه أهل السنن من طرق".
وليس قوله في: الثنتين والسبعين "كلها في النار" لما بأعظم من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} وقوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} وأمثال ذلك من نصوص الوعيد الصريحة بإدخال من فعل ما ذُكر النار، ومع ذلك لا نشهد على معين ممن أكل مال اليتيم ظلما، أو أكل مالا بالباطل، أو ارتكب ما توعد عليه بدخول النار، لا نشهد عليه بالنار، لإمكان أنه تاب، أو كانت له حسنات محت سيئاته، أو كفَّر الله عنه بمصائب أصيب بها أو غير ذلك.
والمقصود أنه يجب العدل في الحكم والقول، وأن يتبع كتاب الله تعالى، فإن الله تعالى قد أغنانا به، وبين لنا به ما نحتاجه في جميع شئوننا، وأن نرجع إليه إذا حصل بيننا خلاف، فهو كفيل بحل جميع مشكلاتنا، ففيه الهدى والنور.
وقد ذكر الله تعالى أن المختلفين اختلفوا بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فلذلك ذمهم الله، لأن العلم جاءهم من الله واضحا جليا فاختلفوا، قاصدين البغي معرضين عن الهدى، مع علمهم بالحق، ولم يكونوا باختلافهم مجتهدين مخطئين قال تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} قال الزجاج: "اختلفوا للبغي، لا لقصد البرهان".
وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} يعني أن الذين اختلفوا في الكتاب هم اليهود والنصارى، الذين قال رسولنا- صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة ستسلك مسالكهم فهدى الله المؤمنين من هذه الأمة لما اختلف فيه أولئك من الحق.
وقال تعالى: {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ، إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} فهذه الآيات ونظائرها في كتاب الله تعالى، فيها البيان أن المختلفين ما اختلفوا حتى جاءهم العلم، والبينات- أي الدلائل الواضحات - بأن ما جاءت به الرسل هو الحق، فاختلفوا للبغي والظلم، لا لأن الحق اشتبه عليهم بالباطل، وهذه حال أهل البدع، والاختلاف المؤدي إلى الضلال.
فأصحاب الأهواء عامة لا يختلفون إلا بعد ظهور الحق لهم، ووضوح الهدى، فيبغي بعضهم على بعض، فكل فريق منهم له نحلة يضلل من خالفه فيها، ويرد الحق إذا لم يتفق مع باطله، ويكذب به.
وأما رسل الله تعالى فإنهم جاءوا بدين واحد- هو دين الإسلام - وأمرهم أن يدعوا إليه، ونهاهم عن التفرق فيه، وهو في الحقيقة دين أول الرسل وآخرهم، كما قال تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} .
وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} ، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ، وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} فقوله أمتكم أمة واحدة، يعني شريعتكم ودينكم واحدا، ولكن الناس اتخذوا كتبا كتبوها مبتدعين فيها غير ما جاءتهم به رسلهم مختلفين متفرقين بغيا وعدوانا.
وقد قال تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ، رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً، فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ، وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَاّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ، وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} ونظير هذه الآيات قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ، مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} فنهاهم أن يكونوا من المشركين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا يعني فرقا متعددة وأحزابا متعادية، وأعاد لفظة (من) في قوله:{مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} ليبين أن هذا بدل من الذي قبله، والبدل هو المقصود، وما قبله توطئة له، فهذا تحذير بليغ عن الاختلاف والتفرق.
ودلت هذه الآية على أن الاختلاف والتفرق شيعا لا ينفك عن الشرك لما فيه من عبادة الأهواء.
فالله تعالى جعل دينه واحدا، وأمر رسله أن تدعوا إليه من أولهم إلى خاتمهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، كما قال تعالى عن أولهم نوح عليه السلام:{وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وقال تعالى عن خليله، وأبى الأنبياء بعده:{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أي أن إبراهيم ويعقوب كلاهما وصى بنيه بهذا القول وقال يوسف عليه السلام: {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} وقال موسى لقومه: {يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} وقال المؤمنون الذين كانوا سحره فهداهم الله: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} وقالت ملكة اليمن بعد أن هداها الله تعالى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وأخبر تعالى عن أنبياء بني إسرائيل بقوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} وقال حواري عيسى عليه السلام: {قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} وقال تعالى عن خاتم رسله: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا
مُسْلِمُونَ} وفي الصحيحين أن النبي-صلى الله عليه وسلم قال: "إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد".
وليس تنوع الشرائع مخالفا لذلك أو مانعا منه، بل أصل الدين الذي جاءت به الرسل كلهم واحد، هو الإسلام، وهو عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وإن كان لكل نبي شرعة، وهذا مثل ما كان في أول الإسلام لما كانت القبلة إلى بيت المقدس ثم حولت إلى الكعبة، والدين واحد في كلتا الحالتين، وهكذا شرائع الأنبياء، ولهذا إذا ذكر الله الحق جعله واحدا، وإذا ذكر الباطل جعله متعددا، كقوله تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} .
فالمتعين على المسلم أن يكون أصل قصده توحيد الله تعالى بعبادته وحده لا شريك له، وطاعة رسوله- صلى الله عليه وسلم بإتباع أمره، واجتناب نهيه، يدور مع ذلك حيث وجده، في قوله، وعمله، فلا ينتصر لقول شخص مهما كان، انتصارا مطلقا إلا لرسول الله- صلى الله عليه وسلم لأنه لا ينطق عن الهوى، وهو معصوم عن الخطأ في ما يبلغه عن الله تعالى، ويعلم أن أفضل الناس بعد الأنبياء هم الصحابة رضوان الله عليهم أجمعن، فلا ينتصر لطائفة انتصارا عاما مطلقا إلا لهم، ومن عداهم فالانتصار لهم يجب أن يكون بقدر ما معهم من الحق، وذلك لأن الحق والهدى يدور مع الرسول- صلى الله عليه وسلم، وأصحابه إذا اجتمعوا فهم على الحق قطعا، بخلاف أصحاب غيره من الأئمة، فيجوز أن يجتمعوا على الباطل، أما مجموع الأمة فلا تجتمع على الباطل ومن الممتنع أن لا يعرف الصحابة الحق الذي جاء به رسول الله- صلى الله عليه وسلم وأن يعرف أحد من العلماء بعد الصحابة، ما لا يعرفه الصحابة بمجموعهم، أو يعرف حقا يخالف ما جاء به الرسول- صلى الله عليه وسلم بل كل ما خالف قوله أو فعله فهو باطل.
والصحابة هم الذين بلغوا الدين عن الرسول- صلى الله عليه وسلم -فلا يمكن معرفة ما جاء به الرسول- صلى الله عليه وسلم إلا بواسطتهم، ولهذا صار الطعن فيهم طعنا في الدين.
والمؤمن بالله حقا، ظاهرا وباطنا هو الذي قصده إتباع الحق، وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وإن وقع في خطأ فهو غير مقصود، بخلاف أهل البدع والاختلاف فإنهم لا يقصدون إتباع الحق، بل يتبعون أهواءهم، وما تزينه لهم شياطينهم وعلى ذلك يعادون ويوالون، ويقصدون نصر جاههم، ورياستهم، وما ينسب إليهم، لا يريدون أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله.
ولهذا نجدهم يغضبون على من خالفهم، وإن كان مجتهدا معذورا، ويرضون على من يوافقهم وإن كان جاهلا منافقا سيئ القصد، ليس له علم ولا حسن قصد، ولهذا يذكر العلماء: أن من عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضا، ولعن بعضهم بعضا ومن مدائح أهل السنة أنهم يخطئون ولا يكفرون، فأهل البدع يحمدون من لم يحمده الله ورسوله، ويذمون من حمده الله ورسوله.
فهم في الحقيقة يتبعون أهواءهم، ولهذا يسميهم السلف أهل الأهواء، لأنهم لا ينظرون إلى أن يكون دين الله هو الظاهر، وكلمته العالية، ومن هنا تنشأ الفتن بين الناس، قال الله تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} فإذا لم يكن الدين كله لله فالفتنة موجودة.
وأصل هذا الدين أن يكون الحب لله، والبغض لله، والموالاة له، والمعاداة فيه، والعبادة كلها لله، وهذا لا يمكن إلا بمتابعة الرسول- صلى الله عليه وسلم.
ولهذا قال العلماء: إن قول الرسول- صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرىء ما نوى" نصف الدين، ونصفه الآخر قوله- صلى الله عليه وسلم:"من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" لأن الأول يتضمن المقاصد، والثاني يتضمن المتابعة، وكلاهما شرط في صلاح العمل وتهيئته للقبول.
فلابد من إخلاص العمل لوجه الله تعالى، ومن الاعتصام بحبل الله، وهو إتباع كتابه وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم فإن لم يكن ذلك فالهلاك أقرب إلى الإنسان من عنقه، وألزم له من ظله، نسأل الله الهداية والتوفيق وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
الآيات من سورة آل عمران رقم 102- 107.
[2]
تفسير الطبري ج7 ص 71 بتحقيق محمود شاكر ط المعارف.
[3]
تفسير ابن جرير الطبري ج7 ص 71.
[4]
المصدر نفسه.
[5]
المسند ج3 ص14 ،17 26،59 وانظر الترمذي 4 ص 343.
[6]
تفسير الطبري ج7 ص 73.
[7]
ابن جرير ج7 ص 75.
[8]
نسبه شيخ الإسلام ابن تيمية إليه ولم أجده في ديوانه.
[9]
الآية رقم:65 من سورة النساء.
[10]
الآية 90 من سورة النحل.
[11]
الآية 58 من سورة النساء.
[12]
الآية 152 من سورة الأنعام.
[13]
قال السيوطي رواه أبو يعلى والخطيب في المتفق والمفترق انظر الجامع الكبير المصور عن المحطوطةج1 ص887
[14]
الآية 26 من سورة ص.
[15]
الآية 44 ص سورة المائدة.
[16]
الآية 153 من سورة الأنعام.
[17]
رواه مسلم جـ 4 رقم 2889.
[18]
الآية 159 من سورة الأنعام.
[19]
الآية 213 من سورة البقرة.
[20]
المنهاج جـ 3ص33.
[21]
انظر صحيح مسلم جـ 2 ص1340 رقم 1715.
[22]
المصنف جـ15ص21.
[23]
المصدر نفسه جـ 15 ص 24.
[24]
الآية 213 من سورة البقرة.
[25]
الآية 19 من سورة آل عمران.
[26]
الآية 17 من سورة الجاثية.
[27]
صحيح مسلم جـ7 ص 227.
الوحدة الإسلامية أسسها ووسائل تحقيقها
للدكتور أحمد بن سعد حمدان الغامدي
أستاذ مساعد بكلية الدعوة وأصول الدين
قال الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إلَاّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} .
(آية 163 سورة البقرة)
{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} .
(آية 52- سورة المؤمنون)
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمن.. وبعد:
فإن إحساس الأمة المسلمة بحاجتها إلى اللقاء والتعاون إحساس منطقي وواقعي.. وذلك لأنها قد أضرت بها الخلافات.. وانهكتها النزاعات التي كانت سببا لضعفها وضياع حقوقها في عصر لم يعد يسمع فيه صوت الضعفاء ولا أنين الجرحى.
قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [1] .
فارتفاع الأصوات المسلمة هنا وهناك تنادى بضرورة وحدة الأمة واجتماع كلمتها أصوات صادقة ينبغي أن تتجاوب لها الأقطار الإسلامية لتنقذ نفسها وتحمى حقها.
قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [2] .
ولكنه لابد للأمة المسلمة- وهي تلم شعثها وتوحد صفوفها- لابد لها من إدراك صحيح للأسباب التي كانت وراء هذا الواقع السيئ الذي تعيشه والأسس التي ينبغي أن تلتقي عليها والوسائل التي يمكن أن تتحقق بها تلك الأسس، وذلك لئلا تنتقل من واقع منحرف إلى واقع آخر منحرف.
وإنني إذ أكتب هذا البحث لآمل أن ينفع الله به عز وجل الأمة المسلمة وهى تتجه إلى الله عز وجل وتعمل على توحيد كلمتها إنه سميع مجيب.
وعنوان البحث: (الوحدة الإسلامية: أسسها ووسائل تحقيقها)، وقد تضمن أربعة أقسام وخاتمة.. وذلك على النحو التالي:
القسم الأول: واقع الأمة الإسلامية:
أولا: في العقيدة.
ثانيا: في العبادة.
ثالثا: في الشريعة.
القسم الثاني: أسباب هذا الواقع:
أولا: الجهل بدين الله عز وجل.
ثانيا: الغزو العسكري لبلدان المسلمين.
ثالثا: الغزو الفكري.
القسم الثالث: أسس وحدة الأمة الإسلامية:
أولا: وحدة الغاية.
ثانيا: وحدة العقيدة.
ثالثا: وحدة القيادة.
رابعا: وحدة التشريع.
القسم الرابع: وسائل تحقيق أسس الوحدة:
أولا: التعليم الموجه.
ثانيا: الإعلام الملتزم.
ثالثا: الاقتصاد المستقل.
رابعا: العمل على الاكتفاء الذاتي.
خامسا: إيجاد مراكز علمية.
الخاتمة:
وأخيرا أسأل الله عز وجل أن يهيئ أسباب وحدة الأمة وأن يجمع كلمتها على الحق إنه سميع مجيب.
القسم الأولى
واقع الأمة الإِسلامية
أولا: في العقيدة:
أ- انحرافات إلحادية.
ب- انحرافات في الجانب النظري- العلمي- من العقيدة.
ج- انحرافات طائفية قديمة.
د- انحرافات طائفية حديثة.
ثانيا: في العبادة:
أ- الغلو المفرط في أدائها.
ب- الإهمال المطلق بها.
ج- عدم الالتزام بالأداء الصحيح لها.
ثالثا: في الشريعة:
أ- محاربة الشريعة واستبدال القوانين الوضعية بها.
ب- محاولة التوفيق بين الشريعة الإسلامية والأنظمة الوضعية.
القسم الأول
واقع الأمة الإسلامية
واقع الأمة الإسلامية واقع مكشوف لا يكاد يجهله أحد، فقد تعرض لأمراض متعددة وانحرافات متنوعة بحيث لا يكاد يسلم جانب من جوانبه- لا في العقيدة ولا في العبادة ولا في الشريعة-.
وسأحاول فيما يأتي الإشارة إلى هذا الواقع بشيء من الإيجاز.
أولا: في العقيدة:
إن أخطر الانحرافات التي تعرضت لها الأمة المسلمة هي الانحرافات في العقيدة ولا نستطيع هنا استيعابها وتفصيلها ولكنا سنكتفي هنا بالتنبيه على بعضها.
أ- انحرافات إلحادية:
هدف أصحابها استبدال المبادئ الكافرة بعقيدة الإسلام، وهم طوائف متعددة وسلكوا طرقاً متنوعة يقول الأستاذ مصطفي صبري: "ومن البلية أن الحركات التي تثار في الأزمنة الأخيرة ترمى إلى محاربة الإسلام في بلاده بأيدي أهله والتي لاشك أنه الكفر وأخبث أفانين الكفر
…
" [3] .
ويقول في مكان آخر: "لكن البلاد الإسلامية عامة ومصر خاصة مباءة اليوم لفئة تملكوا أزمة النشر والتأليف ينفثون من أقلامهم سموم الإلحاد غير مجاهرين بها وربما يتظاهرون بالدين"[4] .
ويقول الدكتور محمد محمد حسين بعد عرضه للدعوات الهدامة: "كانت هذه الدعوات تسلك إلى أهدافها مسالك متباينة وتلبس أثوابا مختلفة ولكنها جميعا ترمى في آخر الأمر إلى توهين أثر الإسلام في النفوس وتفتيت وحدته التي استعصت على القرون الطوال"[5] .
ب- انحرافات في الجانب النظري- العلمي من العقيدة:
وذلك فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته وأفعاله.
فقد وجدت الاتجاهات المنحرفة التي تتنكر لهذا الجانب أو لبعضه فأولت الآيات القرآنية والأحاديث المتواترة وردت الأحاديث الأخرى والتي تعرف الناس بربهم عز وجل.
وكان أول من أظهر هذه البدعة الضالة- بدعة الحديث في أسماء الله وصفاته وتأويلها- الجعد بن درهم فأول الاستواء والكلام لله عز وجل [6] وتبعه على ذلك المعتزلة الذين أصبحوا فيما بعد فرقة مستقلة في منهجها وفهمها تقابل أهل السنة.
قال الشهرستاني: "الفريقان من المعتزلة والصفاتية متقابلان تقابل تضاد"[7] .
وقد أتى القوم من ضلال عقولهم القاصرة وظنهم أن إثبات تلك الصفات الواردة في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم -يقتضي التشبيه بالمخلوق.
وينتج عن هذا المذهب أن القرآن الكريم والسنة النبوية لم يستطيعا بيان مراد الله عز وجل من خلقه من أقرب الطرق.
فتعددت بذلك الفرق وانقسم المسلمون إلى متابع لهذه الطائفة ومخالف لها وحدثت في تاريخ الأمة الإسلامية بسببه وحدثت ومشكلات، ولازالت آثار هذه الطائفة قائمة في المجتمع الإسلامي إلى اليوم.
جـ- انحرافات طائفية قديمة:
لازالت قوية ونشطة رغم انحرافها وفساد معتقداتها.
ومن تلك الطوائف: (طائفتا الشيعة والصوفية) .
فالأولى تقوم على عقيدة تخالف عقيدة الإسلام التي جاء بها رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم.
فمن ذلك إسباغ صفات الألوهية على أئمتهم وادعاؤهم أنهم يعلمون الغيب وأنهم يتلقون الوحي من السماء وفي كلا الأمرين إساءة إلى الله عز وجل وتكذيب لدينه.
وأخيراً فإنهم يتهمون أصحاب رسول الله له بالخيانة والردة عن الإسلام، وهذا يؤدى إلى إبطال الإسلام.
فأما ادعاؤهم علم الغيب لأئمتهم فقد ورد في أهم مصادرهم بألفاظ صريحة في أبواب مستقلة.
فقد ورد في كتاب: (أصول الكافي) - وهو أهم كتاب عندهم-[8] عناوين تؤكد ذلك.
منها: (باب أن الأئمة يعلمون متى يموتون وأنهم لا يموتون إلا باختيارهم)[9]
ومنها: (باب أن الأئمة إذا شاءوا أن يعلموا علموا)[10] .
ومنها: (باب أن الأئمة عليهم السلام يعلمون ما كان وما يكون وأنه لا يخفى عليهم الشيء صلوات الله عليهم)[11] .
وأما ادعاء نزول الوحي على الأئمة فيذكرون عن جعفر الصادق أنه قال- وهو يتحدث عن مصادر علم الأئمة-: "وأما النقر في الأسماع فأمر الملك"[12] أي صوت الملك.
فعلم الغيب لا يظهر الله عز وجل عليه إلا أنبياءه ورسله كما جاء ذلك في كتاب الله عز وجل حيث يقول: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلَاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} [13] .
ولكن الشيعة تعتقد أن الأئمة يأتيهم خبر السماء كما روى ذلك الكليني مؤلف أصول الكافي فقال: "إن المفضل سأل أبا عبد الله- أي جعفر الصادق- بقوله: جعلت فداك بفرض الله طاعة عبد على العباد ويحجب عنه خبر السماء".
قال: "لا: الله أكرم وأرحم وأرأف بعباده من أن يفرض طاعة عبد على العباد ثم يحجب عنه خبر السماء صباحا ومساء"[14] ويعلق الشارح على هذا القول فيقول: "ولذلك الإمامية ذهبوا إلى أن الإمامة لا تصلح إلا لمن له منزلة النبوة"[15] .
هذه بعض عقائدهم المنحرفة والتي تجعل لهم اتجاها آخر ودينا يخالف دين المسلمين.
وأما الصوفية فقد ابتدعت تقديس الأفراد ورفع التكاليف عن بعض الناس كما أعادت إلى الأذهان تلك الطقوس الكنسية التي أفسدت الدين النصراني حيث اتخذت من البشر وسائط عند الله بها تقضى الحاجات وتغفر الزلات إلى عشرات أخرى من الا نحرا فات.
فأما دعوى سقوط التكاليف فإنهم يزعمون أن للإنسان درجة إذا وصل إليها سقط عنه التكليف.
قال ابن تيمية رحمه الله: "ومن هؤلاء- أي الصوفية- من يحتج بقوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} ويقول معناها: أعبد ربك حتى يحصل لك العلم والمعرفة فإذا حصل ذلك سقطت العبادة، وربما قال بعضهم: اعمل حتى يحصل حال فإذا حصل لك حال تصوفي سقطت عنك العبادة"[16] .
ويقول عنهم كذلك: "والغالبة في المشايخ قد يقولون: أن الولي محفوظ والنبي معصوم وكثير منهم إن لم يقل ذلك بلسانه فحاله حال من يرى أن الشيخ أو الولي لا يخطئ ولا يذنب"[17] .
ويقول الدكتور إبراهيم هلال وهو يتحدث عن نتائج غلو الشيعة والصوفية في ذكر فضائل الأولياء: "ولعل أبرز مظاهر هذا التفضيل ما يدعيه بعض الصوفية من حلول الله فيهم أو اتحادهم به مما يتضمن القول بألوهيتهم وتصرفهم في الأكوان وفي الناس"[18] .
ولعل هذا هو السبب وراء التقديس وصرف العبادة إلى الأولياء المتمثل في بناء القباب على قبورهم والطواف حولها ودعاء أصحابها والذبح والنذر لهم إلى غير ذلك من صور العبادات التي لا يكاد يسلم منها بلد من بلدان المسلمين إلا من رحم الله عز وجل.
وقد كان هذا الانحراف في الفكر الصوفي من الأسباب المباشرة لظهور الشرك في الأمة بتقديس الأموات وطلب الحاجات منهم واتخاذ قبورهم مزارات وأماكن عبادة فزاحم تعظيم الأموات توحيد الله عز وجل في القلوب، فكثرت الأضرحة وتعددت الفرق والأحزاب لكل حزب ضريح به يستغيثون وعنده ينيخون وإليه عند نزول الحوادث يلجئون.
6-
انحرافات طائفية حديثة:
تتمثل في طوائف مستقلة ـ كالبهائية والقاديانية ـ ونحوها من الطوائف التي خرجت على عقيدة
الإسلام بدعوى النبوة لزعمائها ونزول الوحي عليهم وهى تتستر في كثير من البلدان باسم الإسلام وهي خارجة عليه لمخالفتها العقيدة (ختم النبوة) التي هي جزء من عقيدته.
فإن زعيم البهائية (حسن علي المازندراني) يزعم أنه نزل عليه الوحي وجمعه في كتاب سماه (الأقدس)[19] وقد ورد في هذا الكتاب ما يلي: "لا تحسبن إنا أنزلنا لكم الأحكام بل فتحنا ختم الرحيق المختوم بأصابع القدرة والاقتدار يشهد بذلك ما نزل من قلم الوحي تفكروا يا أولى الأفكار"[20] فهو يزعم بهذا أنه قد فتح باب النبوة وفض ختمها ليوحي إلى البهاء وهو ما صرح به في كتاب آخر من كتبه حيث ذكر انه: "فك ختم النبيين"[21] .
وكذلك زعيم القاديانية (غلام أحمد بن غلام مرتضى) له كتاب اسمه (تذكرة وحي مقدس)[22] يزعم أنه أوحي إليه وقد كتب بأربع لغات وهي: العربية، والفارسية، والأردية، والإنجليزية.
وقد ورد فيه ما يلي: "إنا أرسلنا أحمد إلى قومه فأعرضوا وقالوا كذاب أشرا"[23] و "هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق وتهذيب الأخلاق"[24] .
وليست هاتان الطائفتان هما الوحيدتين في ادعاء نزول الوحي بل هناك طوائف أخرى وأشخاص آخرون ادعوا نزول الوحي كزعيم البلاليين: (اليجا محمد علي) في أمريكا وغيره.
ثانيا: في العبادة
لقد تعرضت العبادات إلى انحرافات أخرى متعددة نورد طرفا منها:
أ- الغلو المفرط في أدائها:
والذي كان يتمثل فيما سبق في طائفتي الخوارج والصوفية حيث كان لكل منهما غلو مفرط في جانب أو جوانب منها.
فالخوارج شددوا على أنفسهم وحملوها فوق طاقتها من قيام بالليل وصيام بالنهار حتى ظهر ذلك على ملامح وجوههم ومظاهر أجسادهم.
وقد وصفهم ابن عباس بعد زيارة لهم فقال: "فدخلت على قوم لم أرقط أشد منهم اجتهادا، جباههم قرحة من السجود وأياديهم كأنها ثفن [25] الإبل وعليهم قمص مرحضة [26] مشمرين مسهمه [27] وجوههم من السهر.."[28]
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الطائفة بقوله: "يخرج قوم من أمتي يقرؤون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء يقرؤون القرآن يحسبون انه لهم وهو عليهم ولا تجاوز صلاتهم تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية
…
" رواه مسلم وأبو داود [29] .
وأما الصوفية فقد بالغوا في الذكر والزهد وعاشوا في ظلمات الخلوات للوصول إلى (درجة اليقين) التي تسقط عندها عنهم كل التكاليف الشرعية- بزعمهم-[30] .
وقد أنكر ابن عقيل رحمه الله عليهم هذه الأهواء والبدع فقال: "ما أعجب أموركم في المتدين: إما أهواء متبعة أو رهبانية مبتدعة"[31] .
ب- الإهمال المطلق للعبادات والاكتفاء بالتلفظ بالشهادتين:
وهذا الانحراف كان من ثمرات الإرجاء الذي لا يعطي للعمل اهتماما إذ أن الإيمان يثبت عند المرجئة بالقول فقط- عند بعضهم- وبالاعتقاد عند البعض الآخر.
وكان جهم بن صفوان هو أول من زعم أن: "الإيمان هو المعرفة بالله تعالى فقط والكفر هو الجهل به فقط"[32] .
وذكر البغدادي أن المرجئة: "إنما سموا مرجئة لأنهم أخروا العمل عن الإيمان".
ج- عدم التزام كثير من المسلمين بالأداء االصحيح للعبادات:
فترى أحدهم يؤدى هذه العبادات ولا يلتزم فيها بشروطها وواجباتها وأوقاتها.
ثالثا: في الشريعة:
لم تقتصر الانحرافات على الجانبين السابقين بل شملت- كذلك- حتى جانب الشريعة حيث تعرضت في الآونة الأخيرة التي تمزقت فيها الأمة وتحطمت فيها الخلافة الإسلامية- تعرضت إلى انحراف وفساد بل إلى حرب وعداء في كثير من البلدان الإسلامية نعرض طرفا منها:
أ- محاربة الشريعة واستبدال القوانين الوضعية بها:
وهذا من آثار الاستعمار العسكري والفكري الذي فرق الأمة وأفسد عقليتها بحضارته وصناعته وكفره وجحوده. فوجد في المسلمين من يتحمس لقوانينه وفكره ويدعو إلى تطبيقها ومتابعتها.
وقد حظيت هذه الفئة بعناية الاستعمار ورعايته وسلم له زمام المجتمعات التي كان يسيطر عليها فخلفه فيها وقام على تطبيقها وتنفيذها بكل دقة.
ولعل الشروط التي فرضتها دول الاستعمار على مصطفي كمال أتاتورك تبين المخطط الاستعماري لحرب الإسلام ومحاولة فصل الأمة عنه.
يقول الأستاذ محمد محمود الصواف: "وهذه هي الشروط الأربعة المشئومة التي فرضتها دول الاستعمار على تركيا:
ا- إلغاء الخلافة الإسلامية نهائيا من تركيا.
2-
أن تقطع تركيا كل صلة مع الإسلام.
3-
أن تضمن تركيا تجميد وشل حركة جميع العناصر الإسلامية الباقية في تركيا.
4-
أن يستبدلوا الدستور العثماني القائم على الإسلام بدستور مدني بحت.
فقبل مصطفي كمال هذه الشروط ونفذها بحذافيرها فتركته دول الاستعمار" [33] .
ب- محاولة التوفيق بين الشريعة الإسلامية والأنظمة الوضعية:
فيؤخذ من الشريعة ما يتعلق بالأمور الشخصية وتكمل بقية الجوانب من القوانين الوضعية.
وقد ذكر الأستاذ محمد الخضر الحسين [34] عن أسلوب دعاة هذا المبدأ فقال: "فاخترع هؤلاء طريقا حسبوه أقرب إلى نجاحهم وهو: أن يدَّعوا أن الإسلام: توحيد وعبادات ويجحدوا أن يكون في حقائقه ما له مدخل في القضاء والسياسة وجمعوا على هذا ما استطاعوا من الشبه لعلهم يجدون في الناس جهالة أو غباوة فيتم لهم ما بيتوا"[35] .
ويقول الأستاذ مصطفي صبري [36] عن هذه المحاولة والتي تعني فصل الدين عن الحكم والسياسة: "لكن حقيقة الأمر أن هذا الفصل مؤامرة بالدين للقضاء عليه وقد كان في كل بدعة أحدثها العصريون المتفرنجون في البلاد الإسلامية كيد للدين ومحاولة الخروج عليه لكن كيدهم في فصله عن السياسة أدهى وأشد من كل كيد في غيره وهو ثورة حكومية على دين الشعب"[37]
هذا عرض موجز لواقع المسلمين الذي قد أصيب في كل جانب من جوانبه مما كان له أسوأ الأثر على وحدة الأمة واجتماع كلمتها.. فقد أصيبت الأمة في عقائدها.. وعباداتها.. وشريعتها..
وما لم يصحح هذا الواقع على ضوء التوجيهات الواردة في كتاب الله عز وجل وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم -فلن تقوم للأمة قائمة ولن تجتمع لها كلمة.
القسم الثاني
أسباب هذا الواقع
أولا: جهل الأمة بدينها.
ثانيا: الغزو العسكري.
ثالثا: الغزو الفكري.
القسم الثاني
أسباب هذا الواقع
لقد كانت هناك أسباب متعددة وراء ذلك الواقع نذكر أهمها:
أولا: جهل الأمة بدينها:
فقد انتشر الجهل في الأمة قيادات وشعوبا حتى أصبح كثير منهم لا يعرف من دينه إلا اسمه فلا يعرف أحكامه وعقائده ولا أخلاقه وآدابه فسهل على أعداء الله عز وجل أن ينشروا ضلالهم وأن يبثوا سمومهم بل وسهل عليهم أن يصنعوا لهم عملاء من أبناء المسلمين يحاربون عقيدة المسلمين وينشرون الضلال في صفوفهم.
قال الأستاذ محمد كرد علي: "أصبح الناس بعد المائة السادسة تفتر هممهم شيئا فشيئا في طلب العلم ورغبوا عن الافتنان بفنونه وحصروا نطاقه وعفوا بعض معالمه فأصبحت مجاهل وكثرت البدع وكثر الدعاة إليها والتعويل عليها "[38] .
ويذكر الأستاذ الندوي وهو يتحدث عن الجهل الذي أصاب تركيا "إنه لم يكن الجمود العلمي والكلال الفكري مقتصرين على تركيا وأوساطها العلمية والدينية فحسب بل كان العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه مصابا بالجدب العلمي وشبه شلل فكرى قد أخذه الإعياء والفتور واستولى عليه النعاس"[39] .
ثانيا: الغزو العسكري لبلدان المسلمين:
كانت الأمة الإسلامية أمة واحدة تستظل براية واحدة وتخضع لقيادة واحدة فكانت ذات شوكة ومنعة ثم لم تلبث أن سرت فيها أمراض فتاكة خلخلت بناءها وأفسدت أبناءها فضعفت قوتها وذلت عزتها فسهل على أعدائها القضاء عليها وتمزيقها إلى دويلات وإمارات واستولت على كثير منها فترات طويلة استطاعت فيها أن تفسد عقائدها وأخلاقها وتغير ولاءها.
يقول برنارد لويس: "وفي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين تعدلت وتغيرت الولاءات التي كانت قائمة للخلافة الإسلامية القديمة والتي كانت تحكم العرب والعجم والترك وحلت محلها أفكار ممزقة مبعثرة أوروبية هي مزيج من الوطنية والقومية ونظريات خيالية عن الوطن والقوم حجبت الحقائق القديمة الواقعية في الدولة والعقيدة"[40] .
فأصبحت بعد ذلك الأمة الواحدة أمما مختلفة ومجتمعات متعددة لكل منها شعاره ومذهبه فتمزقت وحدة الأمة وتعددت ولاءاتها بحسب شعاراتها ومذاهبها.
وكان هذا كله بسبب الغزو العسكري الذي احتل بلاد المسلمين فترات متفاوتة ركز خلالها على إفساد عقيدة الأمة وأخلاقها وقسمها بعد ذلك إلى دول ومناطق أقام لكل واحدة منها حاكما مستقلا.
ثالثا: الغزو الفكري:
لم يكتف الاستعمار بتحطيم الخلافة الإسلامية وتفريق الأمة إلى دول وشعوب.. ونهب خيراتها وتشتيت ولاءاتها.. بل أضافوا إلى ذلك غزوا للعقول والقلوب بشعارات ومبادئ جديدة تفسد العقول وتخرب القلوب ليبقى لهم السيطرة والنفوذ مادامت هذه الشعارات والمبادئ تحكم هذه البلاد.
وقد ذكر الأستاذ محمد محمود الصواف عن وسائل الاستعمار في غزو المسلمين والجبهات التي تشترك في ذلك الغزو، وأكد أن جميع تلك الجبهات تعمل: "سرا وجهرا لأهداف الاستعمار التي يرمى من ورائها إلى إيقاف الوعي الإسلامي وصد المسلمين عن دينهم إبقاء لسَيطرته ونفوذه في بلاد المسلمين وليتمتع هو وجنوده الأبالسة في خيرات بلاد المسلمين ويسعى في سرقة ثرواتهم والسيطرة عليهم فكريا وسياسيا واقتصاديا.
لذا أخذ المستعمرون يبذلون كل الجهود لإشاعة الفساد في المجتمع الإسلامي العظيم وزرع الشكوك في العقول الإسلامية وقتل الطموح في نفوس المسلمين، وبث الفرقة والشقاق في الصف الإسلامي حتى تعاونت جميع أجهزة الاستعمار من دعائية وسياسية وفكرية واقتصادية لتحقيق أهداف الاستعمار" [41] .
وقد شارك اليهود الاستعمار الصليبي في تصدير الأفكار والمذاهب المنحرفة إلى بلاد المسلمين.. بل لعل اليهود أكثر حماسا وحقدا على الإسلام، والتاريخ يؤكد هذه الحقيقة حيث كان اليهود هم أول من وقف في وجه الإسلام وحاولوا القضاء عليه ولكن الله عز وجل رد كيدهم في نحورهم وحفظ دينه وأعلا كلمته.
فعبد الله بن سبأ (يهودي) أظهر الإسلام لإفساد الإسلام، ودعاة الإلحاد وزعماؤه اليوم (يهود) أرادوا إفساد العالم:
كارل ماركس الشيوعي (يهودي)[42]
وفرويد (يهودي)[43]
ودور كايم (يهودي)[44]
وهؤلاء هم زعماء المذاهب المنحرفة في الاقتصاد والأخلاق والاجتماع وقد أثرت مذاهبهم في المجتمعات البشرية عموما وفي المجتمعات الإسلامية على وجه الخصوص.
يقول الأستاذ أنور الجندي: "ولا ريب أن اليهودية العالمية هي التي أثارت في العالم الإسلامي تمزيق وحدة العروبة والإسلام للحيلولة دون الوحدة وعملا على تعميق التجزئة الإقليمية.
ولما كانت وحدة العرب والمسلمين لها جذورها الضخمة البعيدة المدى في الفكر الإسلامي وفي القرآن نفسه فقد طرحت عشرات المذاهب والقضايا والدعوات والأنظمة والنماذج التي طرحت في أوروبا لإفساد المفهوم الإسلامي الجامع للعرب والإسلام" [45] .
ويعترف اليهود بذلك في (بروتوكولاتهم) حيث يقول البروتوكول التاسع: "ولقد خدعنا الجيل الناشئ من الأميين وجعلناه فاسدا متعفنا بما علمناه من مبادئ ونظريات معروف لدينا زيفها"[46] .
وكان من جراء هذا الغزو المشترك أن ظهرت في بلاد المسلمين اتجاهات منحرفة تتبنى تلك العقائد الضالة وتحاول نشرها في المجتمعات الإسلامية، ولعل الصورة التي يعرضها اللورد كرومر المصري الجديد – كما تصورها هو – تنطبق إلى حد ما على مجموعات من أبناء المسلمين الذين أثر فيهم الغزو الفكري الغربي.
يقول: "إن المجتمع المصري في مرحلة الانتقال والتطور السريع وكان من نتيجته الطبيعية إن وجدت جماعة من أفرادهم "مسلمون "ولكنهم متجردون عن العقيدة الإسلامية والخصائص الإسلامية وان كانوا "غربيين "فإنهم لا يحملون القوة المعنوية والثقة بأنفسهم وإن المصري الذي خضع للتأثير الغربي فإنه وان كان يحمل الاسم الإسلامي لكنه في الحقيقة ملحد وارتيابي والفجوة بينه وبين عالم أزهري لا تقل عن الفجوَة بين عالم أزهري وبين أوربي"[47] .
هذه هي ثمار الغزو الفكري في بلاد المسلمين.
القسم الثالث
أسس الوحدة الإسلامية
أولا: وحدة الغاية.
ثانيا: وحدة العقيدة.
ثالثا: وحدة القيادة.
رابعا: وحدة التشريع.
القسم الثالث
أسس الوحدة الإسلامية
إن الأمة الإسلامية تملك أسسا مشتركة تستطيَع بها أن تجمع شتاتها وتوحد كلمتها.. فهي أمة واحدة.. ذات دين واحد.. وكتاب واحد.. ورسول واحد.. وهذه هي الأصول والأسس التي تشترك فيها الأمة الإسلامية.
فإذا ما أدركت جيدا والتزمت بمقتضياتها فإن ذلك يجعل منها أمة واحدة تلتقي على:
أولا: وحدة الغاية.
ثانيا: وحدة العقيدة.
ثالثا: وحدة القيادة.
رابعا: وحدة التشريع.
وبهذا تصبح الشعوب الإسلامية "أمة واحدة"تذوب فيها جميع الأجناس والتجمعات شعارها: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} فتحقق للأمة الإسلامية عزتها وقوتها المنشودة.
وفيما يلي نبين بإيجاز تلك الأسس:
أولا: وحدة الغاية:
إن لهذا الإنسان الذي يعيش على ظهر هذه الأرض: "غاية"يؤديها أثناء وجوده إذا عرفها وتمثلها في حياته سعد في دنياه وآخرته وإذا جهلها أو أعرض عنها فانه يشقى في الدنيا والآخرة.
هذه الغاية حددها الله عز وجل بنفسه وبينها في كتبه.. فمن أجلها خلق الإنسان..
ألا وهي: "عبادة الله عز وجل "كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إلَاّ لِيَعْبُدُونِ} [48] .
والمسلمون ولله الحمد يدركون هذه الغاية ويعرفونها ولكنهم فرطوا في القيام بها والعمل بمقتضاها مما كان له أسوأ الأثر في حياتهم.
فلابد من العودة الصادقة إلى تحقيق هذه الغاية والالتزام بمقتضياتها ليحقق المسلمون لأنفسهم السعادة في الدنيا والآخرة.
السعادة في الدنيا باجتماع الكلمة ووحدة الأمة وطمأنينة النفس واستقامة الحياة.. وهي آمال يحلم بها جميع شعوب العالم ولكنهم لم يهتدوا إلى أسبابها ووسائلها.
ولكن تعدد الغايات وتنوعها يفتت الأمة ويشتت كلمتها ويجعل كل فئة من الأمة لها غاية تخالف غاية الفئة الأخرى تسعى لتحقيقها والوصول إليها.
فغاية اقتصادية.. وغاية سياسية.. وغاية شهوانية.. وهكذا غايات متعددة تنتهي بهم إلى فئات متصارعة وسبل متفرقة.
قال عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [49] .
ثانيا: وحدة العقيدة:
إن التفرق الذي ابتليت به الأمة في عقيدتها- كما رأينا طرفا منه في أول البحث- لا يمكن أن يكون معه اجتماع للأمة ولا تعاون ولذلك فإنه لابد أولا من علاجِ لذلك التفرق برد الملحدين إلى الله عز وجل وتصحيح عقائد المنحرفين لتتوحد القلوب وتتآلف النفوس. فأما الذين ابتلوا بمرض الإلحاد فقد كان ذلك في غيبة من الوعي الإسلامي وفي وقت الانبهار بالحضارة الغربية التي تمردت على الدين بل حملت لواء الحرب ضده.
والآن وقد بدأ المسلمون يدركون حقيقة الحضارة الغربية وما تحمله من سلبيات وثمرات فاسدة.. بدأ الوعي يدب في صفوفهم ويدركون قيمة هذا الدين وأنه لا سعادة للإنسان في هذه الحياة بدون أن يلتزم بعقيدته وتوجيهاته.
يقول الأستاذ محمد محمود الصواف: "وفي يقيني أن الزمن الذي كان يسمى فيه الإسلام "رجعية"و"تزمتا"قد مضى وانقضى حيث تعرى خصوم الإسلام وانكشفوا وظهر زيف دعواتهم الباطلة من قومية واشتراكية وحزبية قاتلة وغيرها من فتن هذا العصر المضللة ورأى الناس خيبتها وخسرانها وتضييعها للأوطان وتدميرها وعبثها بحقوق الإنسان، ورأوا عن كثب ويلاتها على العرب الذين ابتلوا بها، بل ويلاتها على الجنس البَشرى في جميع أنحاء الأرض ومن دعاتها من رأى ذلك بأم عينه ولكنه معاند مكابر لا يعترف بإخفاقه ولا يريد الخضوع أمام غيره.
ولم يعد الإسلام "رجعية"كما كانوا يسمونه وتسميه إذاعاتهم بأصواتها المنكرة المبحوحة.. بل عاد الإِسلام والناس يتلمسونه في الميدان ويسألون عنه في كل مكان ونادى به اليوم من لم يكن يعرفه بالأمس ولم يعرف عنه النداء باسمه من قبل. وامتلأت المساجد بالوافدين الجدد وآب الكثير ون إلى الله سبحانه يسألونه العز والنصر والفرج القريب لهذه الأمة المنكوبة برجالها وشبابها وقادتها في هذا الجيل المخفق الخاسر الذي هو جيل الهزيمة المنكرة.. فإذا كثر سواد الصالحين وزاد عدد المؤمنين فبشر الأمة بالنصر المبين" [50] .
فالوعي الديني استيقظ في الأمة وهو في حاجة إلى من يوجهه وجهة صحيحة ليكون أساسا واحدا لجمع كلمة الأمة ويقضى على المذاهب المنحرفة والعقائد الضالة المتسللة إلى مجتمعات المسلمين.
وأما الانحرافات الأخرى التي طرأت على عقائد المسلمين سواء في التوحيد العملي أوفي التوحيد العلمي فإن ذلك يستدعى جهودا مخلصة وأقلاما صادقة تعالج تلك الانحرافات بحكمة وموعظة حسنة إذ أن أصحابها أو كثيرا منهم لم يتعمد الانحراف ولا يرضى به لو كشف له، لذلك فإن مخاطبتهم يجب أن تكون بأسلوب لين وبجدال حسن. فإذا قدر للأمة أن تجتمع في عقيدتها فإن ذلك سيفسح المجال للاجتماع والوحدة الإسلامية.
ثالثا: وحدة القيادة:
للمسلمين قيادة واحدة على مدار الزمن واختلاف المكان وتعدد المذاهب.. وكل قيادة سواها إنما تستمد شرعيتها من متابعتها لهذه القيادة والالتزام بمنهجها والسير على طريقها.
هذه حقيقة يقوى وضوحها في أذهان المسلمين كلما صفت العقيدة وقوى الإيمان.
وهي حقيقة قررها الله عز وجل في كتابه وأكدها في مواطن كثيرة لئلا تغفل عنها الأمة الإسلامية.
وقال عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [52] .
وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [53] .
وهكذا تكرر التأكيد على هذه الحقيقة في عشرات المواضع من القرآن الكريم.
فإذا ما اتضحت هذه الحقيقة وتقررت في أذهان المسلمين فإنه يمكن أن يتحد كلمتهم وتجتمع صفوفهم.
فالرسول أن هو: (القائد) والجميع اتباع له وأنصار به يتأسون ولحكمه يخضعون وإلى سنته يتحاكمون.. هذا أصل لا يمكن أن تتوحد الأمة بدون إدراكه والالتزام به.. وهذا ما يقتضيه الإيمان بالله عز وجل وإلا فإن الإيمان يبقى دعوى بدوت دليل.
وكل قيادة أخرى تحاول أن تلغى هذه القيادة أو تقلل من شأنها فإنها قيادة خارجة عن الإسلام محاربة له.. بل كل قيادة تتمي هي في ذات نفسها عن هذه القيادة أو تنحرف عن متابعتها فهي قيادة منحرفة.
رابعا: وحدة التشريع:
من الأسباب الرئيسية لتمزق الأمة الإسلامية تعدد التشريعات وتنوعها تلك التشريعات التي لا صلة لها بها ولا علاقة لها بدينها، بل هي مضادة لدينها محاربة لعقيدتها.. فوقعت الفجوة بسم التشريعات والواقع.. وبين القيادات والشعوب.. بل بين القيادات أنفسها.. فانعكست تلك الخلافات على الأمة الإسلامية.
وما لم يوحد التشريع الذي يحكم الأمة فيكون تشريعا مستمدا من دينها القويم فإن كل محاولة لوحدة الأمة أو لجمع شتاتها فإنها محاولة فاشلة.
فإنه ليس هناك مكان لتشريعات أخرى في المجتمع الإسلامي وليس لأحد من البشر حق وضع تشريع يحكم الحياة في المجتمع الإسلامي، فالحقَ لله عز وجل وحده وليس لأحد من خلقه أن يتلقى تشريعاته من غيره سبحَانه.
قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [54]
فالنفس البشرية ذات طبيعة معقدة ومعرفة ضوابط إصلاحها أو أسباب فسادها أمر لا يعلمه إلا الله عز وجل وقد اعترف علماء الغرب بذلك وأكدوا أن العلوم البشرية لم تستطع أن تبين حقيقة الإنسان.
وأشهر من أعلن هذه الحقيقة هو الطبيب الفرنسي: (الكسيسر كاريل) حيث يقول:
"فمن الواضح أن جميع ما حققه العلماء من تقدم فيما يتعلق بدراسة الإنسان مازال غير كاف وأن معرفتنا بأنفسنا مازالت بدائية في الغالب"[55] .
فإذا كانت معلومات الإنسان عن نفسه رغم ما يملكه من وسائل المعارف المذهلة التي لم يكن يحلم بوجودها الإنسَان في الزمن الماضي- إذا كانت رغم كل ذلك بدائية.. فهل يمكن أن يضع تشريعا يحكم حياته ويقوده إلى تحقيق إنسانيته؟!
ولهذا فإن العودة إلى شريعة الله عز وجل أمر ضروري.. ضروري لأنه أمر أوجبه الله عز وجل.
وضروري لأن الإنسان ليس له قدرة وضع التشريع المناسب.
وضروري لأن الأمة لا تجتمع وتشريعاتها مختلفة.. إذ للتشريع أثر في حياة الإنسان.. في مفاهيمه.. في تصوراته.. في موازينه.. فلابد من وحدة التشريع لتتحد مفاهيمه وتصوراته وموازينه.. ومن ثم تتحقق له وحدته المنشودة.
القسم الرابع
وسائل تحقيق الوحدة
أولا: التعليم الموجه.
ثانيا: الإعلام الهادف الملتزم.
ثالثا: الاقتصاد المستقل.
رابعا: العمل على الاكتفاء الذاتي.
خامسا: ايجاد مراكز إسلامية.
القسم الرابع
وسائل تحقيق الوحدة
عرضنا في القسم السابق أسس الوحدة الإسلامية التي لابد من تحقيقها لتوحيد الأمة الإسلامية وهى وان كانت شرطا في تحقيق إيمان المسلم فلا يكون مسلما بدونها فإنها شرط في تحقيق الأمة واجتماع كلمتها كذلك.
ولكن هذه الأسس- كما رأينا من قبل- قد تعرضت للفساد والانحراف واختفت أو تشوهت في كثير من المجتمعات الإسلامية فكان لابد من إظهار ما اختفى منها وتصحيح ما تشوه.
وهذا أمر يحتاج إلى وسائل متعددة وجهود مكثفة للقيام بذلك الدور ورعايته في المجتمعات الإسلامية.
ومن تلك الوسائل ما يلي:
أولا: التعليم الموجه.
ثانيا: الإعلام الملتزم.
ثالثا: الاقتصاد المستقل.
رابعا: الاكتفاء الذاتي.
خامسا: إيجاد مراكز علمية.
ونذكر ما يتعلق بهذه الوسائل فيما يلي:
أولا: التعليم الموجه:
إن المناهج التعليمية من أخطر الوسائل وأكثرها تأثيرا في المجتمع إذ أنها طريق للغالبية من المجتمع أو لجميع أفراده بحسب مستوى المجتمع وحرصه على التعليم.
فالمدارس الرسمية والأهلية تحتوي على مناهج تعليمية إجبارية وكل منتسب إليها لابد له من هضمها واستيعابها وبالتالي فلابد من حصول التأثر بها خاصة وهى ترافق الفرد في كل مراحل حياته.
ولقد عرف المستعمرون وأعوانهم من مبشرين أهمية "التعليم الموجه"فأنشأوا المدارس المختلفة لإفساد أبناء المسلمين عن طريقها.
يقول اليسوعيون: "إن المبشر الأولى هو المدرسة"[56] .
ويقول جب: "إن مدارس البنات في بلاد الإسلام هي بؤبؤ عيني لقد شعرت دائما أن مستقبل الأمر في سوريا إنما هو بمنهج تعليم بناتها ونسائها"[57] .
فالتعليم له شأنه وخطره وعدم تصحيح مناهجه وتوجيه أبنائه إلى الغاية الصحيحة في جميع بلاد المسلمين يبقى عائقاً دون توحيد المفاهيم والتصورات والموازين التي لا تكاد تلتقي على أمر واحد في بلاد المسلمين اليوم ولازالت تسير وفق المخططات التي رسمها لها أعداء الإسلام- إلا ما رحم ربك-.
"فإذا أراد العالم الإسلامي أن يستأنف حياته ويتحرر من رق غيره وإذا كان يطمح إلى القيادة فلابد إذن من الاستقلال التعليمي بل لابد من الزعامة العلمية وما هي بالأمر الهين إنها تحتاج إلى تفكير عميق وحركة التدوين والتأليف الواسعة وخبرة إلى درجة التحقيق والنقد بعلوم العصر مع التشبع بروح الإسلام والإيمان الراسخ بأصوله وتعاليمه إنها لمهمة تنوء بالعصبة أولى القوة، إنه هي شأن الحكومات الإسلامية فتنظم لذلك جمعيات وتختارلها أساتذة بارعين في كل فن فيضعون منهاجا تعليميا يجمع بين محكمات الكتاب والسنة وحقائق الدين التي لا تتبدل وبين العلوم العصرية النافعة والتجربة والاختبار ويدونون العلو العصرية للشباب الإسلامي على أساس الإسلام وبروح الإسلام
…
" [58] .
وبذلك يمكن أن تصحح المفاهيم وتقوم الموازين في الأمة فتتحد في أفكارها وعقائدها وتلتقي على أسس مشتركة من العلم المعرفة.
ثانيا: الإعلام الهادف الملتزم:
ونعني به أن يكون الإعلام في بلاد المسلمين بكل أنواعه المسموعة والمرئية والمقروءة إعلاما هادفا له رسالة يسعى لتحقيقها من خلال ما يبثه أو يكتبه، وتلك الرسالة هي:"تحقيق العبودية لله في أرضه"وهي الغاية التي من أجلها خلق الإنسان ويعمل لها المسلمون بكل طبقاتهم.
فيكون للإعلام في بلاد المسلمين رسالة يتمثلها عند كل خطوة يخطوها وكل كلمة يبثها أو يكتبها.
وقد فطن اليهود إلى قوة تأثير الصحافة عندما برزت وخططوا لاستغلالها.
فقد ورد في كتاب (بروتوكلات حكماء صهيون) : "إن الأدب والصحافة هما أعظم قوتين خطيرتين"[59] .
وفي كتاب: (التبشير والاستعمار في البلاد العربية) نقلا عن مصادر تبشيرية أجنجية: "إن الصحافة لا توجه الرأي الَعام فقط أو تهيئه لقبول ما تنشر عليه بل هي تخلق الرأي العام"[60] .
وبعد ظهور"التلفاز"والذي لا يكاد يخلو منه بيت فإن خطره يكون أكبر وتأثيره أعظم.. فإذا كانت الصحف لا يقرؤها إلا المتعلمون فإن "التلفاز"يراه ويشاهده كل إنسان وليس خاصا بنوعية معينة.
لذا فإن توجيه الإعلام والتزامه بـ: "هدف"أمر ضروري ولا يمكن أن تتحد الأمة وإعلامها إعلام ضائع لا هوية له ولا هدف.. بل في كثير من بلدان المسلمين قد وجه لإفساد الأمة وخلخلة عقائدها.
فإصلاح الإعلام وتصحيح مساره ضرورة بل واجب شرعي تأثم الأمة بإهماله وتضييعه.. ثم تخسر عقيدتها وعزتها.. ولا تتحقق لها وحدة واجتماع وهذه الوسائل تسير مسارا عشوائيا أو تخريبيا.
ووسائل الإعلام في كثير من البلدان الإسلامية غير ملتزمة بالمنهج الإسلامي الذي يبث الخير وينشر الفضيلة ويحذر من الشر والأخلاق الرذيلة بل إن بعض تلك الوسائل تحارب الإسلام وتسيء إلى أهله بما تنشره من البرامج السيئة والحلقات المنحرفة.. وهذا كله مضاد لدين الأمة ومفرق لجمعها وهادم لأسس الوحدة التي تقوم عليها.
ولن يكون هناك لقاء أو اتحاد وإعلام المسلمين أو بعضه بهذه الصورة فلابد أذن من إعادة بناء الإعلام بناء صحيحا بحيث يكون قادرا على توجيه الأمة وتعميق العقيدة في نفوسها وتذكيرها بغايتها في هذه الحياة، وتبرز المنهج الذي اختاره الله عز وجل لها كما تبين إلى جانب ذلك وحدة القيادة للأمة الإسلامية وانه لم يعد هناك مجال لظهور قيادات أخرى
تنازع هذه القيادة المحمدية أو تزاحمها وان القيادات الموجودة تستمد شرعيتها في حق الطاعة على الأمة بمتابعتها لتلك القيادة.
فإذا استطاع الإعلام في البلدان الإسلامية أن يثبت هذه القضايا الأساسية في نفوس الأمة فإنه عندئذ يكون قد أدى دوره الصحيح في المجتمع وساهم في وحدة الأمة.. وإلا فلا وحدة ولا اجتماع.
ويتحقق ذلك بالاختيار الأمين للعاملين في الإعلام فيختار الكفاءات المؤمنة التي تدرك أهداف الأمة وغايتها.
ثالثا: الاقتصاد المستقل:
إن التشابك المعقد في العلاقات الدولية اليوم واختلاف الأنظمة الاقتصادية في العالم قد انعكس أثره على أكثر المجتمعات الإسلامية فتعددت فيها الأنظمة الاقتصادية تبعا للاتجاه الذي يغلب على كل بلد فكان له آثاره السلبية على وحدة الأمة الإسلامية. والاقتصاد العالمي اليوم في قبضة "اليهود"فهم يتحكمون فيه كما يشاءون، وقد جاء في كتاب:"بروتوكولات حكماء صهيون"موضوع خاص لبيان كيفية التحكم في اقتصاد العالم والوسائل التي يجب أن تتخذ لتنفيذ هذا المخطط نورد بعضا من فقراته.
فقد وضعوا في حسبانهم إيجاد الأزمات الاقتصادية المفتعلة لزيادة ثرواتهم ويبين ذلك قولهم: "إن الأزمات الاقتصادية التي دبرناها بنجاح باهر في البلاد الإسلامية- قد أنجزت عن طريق سحب العملة من التداول فتراكمت ثروات ضخمة
…
" [61] .
وعن سحب الذهب من العالم ورد فيه: "وأظنكم تعرفون أن العملة الذهبية كانت الدمار للدول التي سارت عليها لأنها لم تستطع أن تفي بمطالب السكان ولأننا فوق ذلك قد بذلنا أقصى جهدنا لتكديسها وسحبها من التداول"[62] .
فالاقتصاد جانب مهم في حياة المجتمع ولهذا فقد عنى به القرآن الكريم والسنة الشريفة بتنظيمه وبيان جوانبه المباحة والمحرمة إضافة إلى خطورة ارتباطه بأنظمة غير مسلمة لا تفرق بين الحلال والحرام ولا نألو جهدا في إضعاف الأمة المسلمة وتمزيق وحدتها.
لذا فإن العناية به أمر مطلوب شرعا ولا بد للأمة وهى تحاول العودة إلى دينها ووحدتها
من التحرر من تلك الأنظمة الدخيلة على المجتمعات الإسلامية والعودة إلى النظام الاقتصادي الإسلامي الذي هو جزء من الشريعة الإسلامية الواجب أتباعها.
ولابد من إيجاد اقتصاد إسلامي ليس مرتبطاً بأي نظام آخر لئلا يبقى بين الأمة فجوات تحول دون وحدتها.
ويتم ذلك بإيجاد أسواق مشتركة وعملة موحدة وهيئة اقتصادية تشرف على ذلكم الاقتصاد الإسلامي المستقل.
وبهذا تستقل عن التبعية الاقتصادية الضارة وتقيم لها وحدة اقتصادية قوية على أسس إسلامية.
والاقتصاد في الحقيقة هو جزء من الشريعة الإسلامية المتكاملة والتي تعتبر أساسا ثابتا لوحدة الأمة.. والذي أريده هنا هو إيجاد أسواق مشتركة وعملة موحدة تعطى للأمة شخصيتها المستقلة وتمهد السبيل لوحدة الأمة وعزتها.
رابعا: الاكتفاء الذاتي:
للأمة مطالب متنوعة لا تستطيع الاستغناء عنها وتلك المطالب تشتمل على كل جوانب الحياة.
ومطالب ثقافية وسياسية.
ومطالب اقتصادية.
ومطالب عسكرية.
ومطالب صناعية مختلفة.
هذه المطالب لا يجوز بقاء الأمة عالة على أعدائها فيها كل بلد إسلامي له وجهة يوليها ويشحذها.. بل لابد من الاستغناء والاكتفاء في هذه الجوانب بالإنتاج الإسلامي في بلاد المسلمين وبأيد مسلمة.
فالعمل على اكتفاء الأمة بإنتاجها من أقوى الوسائل لاستقلالها وقوتها وبالتالي لوحدتها واجتماعها إذ انقسام الأمة إلى أجزاء تابعة للبلدان المصنعة لن يمكنها من توحيد صفوفها ولا استقلالها، فلا بد من هذا الاكتفاء ولو على المدى الطويل.
خامسا: إيجاد مراكز علمية.
لما كانت هذه الوسائل المتقدم ذكرها لابد لها من إعداد وتخطيط بحيث تتحقق
بالصورة الصحيحة كان لابد من إيجاد مراكز علمية متخصصة في كل جوانب الحياة تكون مهمتها التخطيط الدقيق والدراسة المتأنية لتحديد الوسائل والضوابط لتحقيق المطلوب.
وهذه المراكز متعددة الأغراض تمثل هيئات استشارية وتخطيطية تشترك فيها جميع البلدان الإسلامية تضم في داخلها كفاءات علمية من أبناء الأمة الذين يؤمنون بعقيدتها ويسعون إلى تحقيق أهدافها.
وبهذا كله يمكن للأمة أن تجمع شملها وتتحد كلمتها وتتحقق لها مكانتها التي أرادها الله لها عز وجل ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله وما ذلك على الله بعزيز.
الخاتمة
بعد هذا العرض الموجز لواقع الأمة والأسس التي يجب تحقيقها لوحدة الأمة وتصحيح واقعها والوسائل التي يمكن أن تعين على تحقيق الهدف المطلوب يتبين لنا عدة أمور نجملها فيما يلي:
إن واقع الأمة واقع مؤلم ولا يرضى الله عز وجل.
وأن هذا الواقع لا يمكن أن تتوحد الأمة مع استمراره.
وأن وحدة الأمة مرهونة بتغيير هذا الواقع على ضوء الكتاب والسنة.
وأن هناك أسسا لهذه الوحدة تعتبر قاعدة ضرورية لوحدة الأمة.
حتى وان التغيير المطلوب يحتاج إلى وسائل متعددة لتحقيقه.
هذا واجتماع كلمة الأمة الِإسلامية حلم يراود أفرادها وجماعاتها المخلصة التي يحزنها أن ترى أن القيادة والريادة مكبلة بسلاسل الجهل والمعاصي والانحطاط وتترقب اليوم الذي تعتز فيه الأمة وتحتل مكانها الصحيح.
أمة هادية.
أمة رائدة.
أمة قائدة.
وان كانت هناك عقبات في هذا الطريق وعراقيل يضعها أعداء الله فيه لكن الأمل في الله عز وجل عظيم أن يحي نفوس هذه الأمة ويوقظ عقولها ويقوى عزمها ويومئذ تتحطم كل عقبة وتتلاشى كل السدود ويرتفع صوت الحق وينصب ميزان العدل وتستظل البشرية بظلال الخير والسعادة.
وصلى الله وسلم على سيدنا وإمامنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
سورة الأنفال: آية 46.
[2]
سورة آل عمران: آية 103.
[3]
موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين 4/ 281- الحاشية.
[4]
المصدر السابق 4/ 287.
[5]
الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر 2/ 305.
[6]
راجع الفتاوى 5/20، ولوامع البهية1/23
[7]
الملل والنحل1/43.
[8]
يقول أحد شراح هذا الكتاب وهو. عبد الحسين بن عبد الله المظفر في مقدمة الشرح. "إن كتاب الكافي في طليعة الكتب "لأربعة التي هي محور العمل عليها"، 3/ ثم قال مفضلا له على تلك الكتب: (وهذا الكتاب أوفاها في الحديث ولم يعمل الإمامية مثله.. وعليه اعتماد العلماء منذ أن دونه مؤلفه حتى اليوم 1/5.
[9]
أصول الكافي 3/ 232.
[10]
أصول الكافي 3/ 271.
[11]
أصول الكافي3/ 240.
[12]
أصول الكافي 3/248
[13]
سورة الجن آية 26-27.
[14]
أصول الكافي 3/241.
[15]
أصول الكافي 3/244.
[16]
الفتاوى11/417.
[17]
منهاج السنة 1/44.
[18]
ولاية الله والطريق إليها/187/.
[19]
هدا الكتاب مطبوع مع كتاب (خفايا الطائفة البهائية) .
[20]
ص 141.
[21]
ذكره محي الدين الخطيب في كتابه: "البهائية"ص 27.
[22]
وهو مطبوع في الهند.
[23]
ص403.
[24]
ص 406
[25]
الثفن:جمع ثفنة: ركبة البعير ونحوها مما يحصل فيه غلط من أثر البروك.
[26]
رحضة:وصف للملابس القديمة التي بليت من كثرة استعمالها وغسلها.
[27]
مسهمة:أي مغيرة.
[28]
تلبيس إبليس ص 205
[29]
رواه مسلم ح (1066) وأبو داود ح (4768) وما بعده.
[30]
الفتاوى 11/417.
[31]
تلبيس إبليس 206.
[32]
مقالات الإسلاميين1/214، الفرق بين الفرق211ـ 212.
[33]
المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام ص 128.
[34]
عالم جزائري هاجر إلى دمشق ثم إلى القسطنطينية واستقر أخيرا بمصر وتولى مشيخة الأزهر توفي عام 1377 هـ. أنظر معجم المؤلفين 279.
[35]
رسائل الإصلاح1/105-106.
[36]
وهو عالم تركي تولى مشيخة الإسلام في تركيا وقد عاصر بداية فصل الدين عن السياسية في عهد مصطفي كمال وقاومها؟ أشد المقاومة تم هاجر إلى مصر وتوفي بها عام 1373هـ. انظر الإعلام 8/281.
[37]
موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المسلمين 4/ 281.
[38]
الإسلام والحضارة العربية2/45.
[39]
ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص 151.
[40]
الغرب والشرق ص110.
[41]
المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام 99ـ 100.
[42]
- مذاهب فكرية معاصرة ص 101
[43]
- مذاهب فكرية معاصرة ص107
[44]
- مذاهب فكرية معاصرة ص144
[45]
الإسلام والعالم المعاصر 427.
[46]
بروتوكولات حكماء صهيون ص 128.
[47]
ذكره الأستاذ الندوي في الصراع بين الفكرة الغربية والفكرة الإسلامية ص 114.
[48]
سورة الذاريات: آية 56.
[49]
سورة الأنعام: آية 153.
[50]
معركة الإسلام ص 26ـ 27.
[51]
سورة النساء: آية59.
[52]
سورة النساء: آية 115.
[53]
سورة الحشر: آية 7.
[54]
سورة الأحزاب: آية 36.
[55]
الإنسان ذلك المجهول ص 19.
[56]
أنظر التبشبر والاستعمار ص 71.
[57]
المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام ص 213، وانظر رسالة واقع المسلمين وسبيل النهوض بهم ص 176، والغزو الفكري والتيارات المعادية ـ بحوث مقدمة لمؤتمر الفقه الإسلامي الذي عقدته جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض عام 1396 هـ، والحلول المستوردة ص 36.
[58]
ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص 276.
[59]
ص 142.
[60]
ص 213.
[61]
ص 174.
[62]
ص 175.
عقود التأمين حَقِيقَتُهَا وحُكْمُهَا
للدكتور حمد حماد عبد العزيز الحماد
الأستاذ المشارك بالدراسات العليا
إن الحمد لله نحمده وستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد فإن موضوع التأمين قد طرق كثيراً وكتبت فيه عدة كتب وأبحاث ونوقش في أكثر من مؤتمر وقد لاحظت أن الباحثين فيه قسموه إلى نوعين تجاري وتعاوني وأٍن كثيرًا منهم قد انتهوا إلى القول بجواز التعاوني دون أن يقدموا له تكييفا فقهياً واضحا أو فارقاً معتبراً بينه وبين ما يسمونه تجارياً لذا أحببت المشاركة في هذا المجال مبيناً رأيي في حقيقة عقود التأمين وحكمها في الشرع وفق الأدلة الشرعية والقواعد المرعية والله المسئول أن يوفق للصواب ويهدى للرشاد وأن يجعله خالصاً لوجهه وذخرا ليوم المعاد إنه ولي ذلك والقادر عليه.
مبدأ عقود التأمين وأصلها:
إن أصل عقود التأمين ينبع من عقود ربوية مبنية على الغرر والمقامرة ويذكر الباحثون في التأمين أن فكرته موجودة في كثير من النظم القديمة تمتد إلى ألفي عام قبل الميلاد وربما أكثر من ذلك إلا أن أول وثيقة تأمين بحري عرفت كانت سنة 1347م وهى المعروفة بالوثيقة الإيطالية ومنذ ذلك الوقت بدأ تنظيم التأمين في أوربا إلى أن وصل إلى ما وصل إليه في عصرنا [1] .
وإثر حريق هائل شب في لندن سنة1666م نشأ التأمين البري حيث بدأ التأمين من خطر الحريق [2] .
ثم توالت بعد ذلك صور التأمين المختلفة مثل: التأمين من حوادث العمل، والتأمين من المسئولية، والتأمين على الحياة، والتأمين من تلف المزروعات، والتأمين من موت المواشي، والتأمين من السرقة والتبديد، والتأمين من حوادث النقل الجوى
…
إلى غير ذلك من الصور المختلفة [3] .
تعريف عقد التأمين:
ويعرف عقد التأمين بأنه عقد يلتزم المُؤَمن بمقتضاه أن يؤدي إلى المُؤَمن له مبلغاً من المال أو مرتباً أو أي عوض مالي آخر في حالة وقوع الحادث أو تحقق الخطر المبين في العقد وذلك نظير قسط أو أية دفعة مالية أخرى يؤديها المُؤَمن له للمُؤَمن [4] .
ويعتبر ابن عابدين (ت1252 هـ) من أول من تكلم عن التأمين وحكمه في الشريعة الإسلامية وأطلق عليه اسم (سوكرة) وانتهى إلى أنه عقد لا يحل حيث قال: "مطلب مهم فيما يفعله التجار من دفع ما يسمى سوكرة وتضمين الحربي ما هلك في المركب وبما قررناه يظهر جواب ما كثر السؤال عنه في زماننا وهو أنه جرت العادة أن التجار إذا استأجروا مركبا من حربي يدفعون له أجرته ويدفعون أيضاً مالاً معلوماً لرجل حربي مقيم في بلاده يسمى ذلك المال سوكرة على أنه مهما هلك من المال الذي في المركب بحرق أو غرق أو نهب أو غيره فذلك الرجل ضامن له بمقابلة ما يأخذه منهم
…
والذي يظهر لي أنه لا يحل للتاجر أخذ بدل الهالك من ماله لأن هذا التزام ما لا يلزم " [5] .
وفي العصر الحديث انتشرت شركات التأمين في بعض بلدان المسلمين واجتهد المروجون لها في سبيل استصدار فتوى شرعية بجوازه من بعض المحسوبين على الفقه والفقهاء من ذلك ما جاء في جواب محمد عبده لسؤال أحد مدراء شركات التأمين عن رجل اتفق مع جماعة على أن يعطيهم مبلغاً معلوماً في مدة معينة على أقساط معينة للاتجار به فيما يبدو لهم فيه الحظ والمصلحة وأنه إذا مضت المدة المذكورة وكان حياً يأخذ هذا المبلغ منهم مع ما ربحه من التجارة في تلك المدة وإن مات في خلالها تأخذ ورثته
…
المبلغ المذكور مع الربح الذي نتج مما دفعه.
فأجاب بأن ما ذكر يكون من قبيل شركة المضاربة وهي جائزة [6]
…
وواضح من السؤال أن المسئول عنه عقد تأمين ليس من باب المضاربة في شيء فهو يدفع أقساطا معينة هي أقساط التأمين وقول السائل للاتجار به إنما هو للتمويه والتضليل، وقولهم:"إذا مضت المدة المذكورة وكان حياً يأخذ هذا المبلغ منهم مع ما ربحه من التجارة في تلك المدة "هذا هو مبلغ التأمين وهو هنا لا يذكر إلا الربح فقط [7] ، ومن المعلوم أن المال في المضاربة خاضع لمبدأ الربح والخسارة.
وقولهم: "وإن مات في خلالها تأخذ ورثته
…
المبلغ المذكور"ظاهره أنه يأخذ الوارث أومن يقوم مقامه المبلغ كاملا مع أن الرجل قد مات في خلال المدة قبل أن يوفي جميع الأقساط وهذه حقيقة التأمين المبني على الغرر والمقامرة حيث يأخذ الورثة مالا لم يدفعه مورثهم.
وقد علق الدكتور عيسى عبده على السؤال ببيان المكر في صياغته حيث أنه لم يعرض للعناصر الأساسية للتأمين التي منها أنه في التأمين على الحياة تلتزم الشركة المُؤَمنة بدفع رأس مال العقد كاملا إن حصلت الوفاة أثناء سريان العقد وإن كان المستأمن قد دفع قسطا واحداً من عشرات أو مئات الأقساط التي كان سيدفعها لو امتد به الأجل، وأيضاً لم يعرض السؤال لنوع الربح الذي يعوِد على المستأمن أهو جزء من الربح الذي تحققه الشركة بتشغيل أمواله أو هو قدر محدد سلفاً
…
والواقع أن جميع شركات التأمين تحسب الربح على جملة الأقساط وجملة الفترات الزمنية
…
أما السؤال ففيه إبهام مقصود وتلويح بما يشبه المضاربة الشرعية [8] .
هذا وقد تبع محمد عبده في فتواه عدد من المحْدثين فقالوا بجواز التأمين ومن هؤلاء الدكتور محمد يوسف موسى [9] والشيخ على الخفيف [10] والدكتور محمد البهى [11] ومصطفى الزرقا ومحمد سلام مذكور وعبد الرحمن عيسى.. وغيرهم [12] .
وقد أبدى بعضهم تحفظات على شيء من فروع التأمين وجزئيا ته فاشترط محمد يوسف موسى أن تخلو المعاملة فيه من الربا ورد عبد الرحمن عيسى على بعض صور التأمين على الحياة كما رد محمد سلام مذكور بعض الشروط التعسفية [13] .. إلا أن هذا لا ينافي أن الرأي عندهم حل التأمين في الجملة..
ويستدلون لقولهم بجوازه بقياسه على بعض العقود الجائزة ولو عند بعض الفقهاء وسنعرض لذكرها والرد عليها في المباحث التالية:
حكم عقود التأمين.
عقود التأمين تشتمل في جوهرها على أمور تجعلها عقوداً محرمة من هذه الأمور ما يلي:
أولا: الغرر:
والنهي عن الغرر أصل عظيم من أصول البيوع يدخل تحته مسائل كثيرة مثل بيع المعدوم وبيع المجهول وبيع ما لا يقدر البائع على تسليمه وبيع ما لم يتم ملك البائع له والأصل في هذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر"رواه مسلم [14] . الغرر: الخطر.
والغرر مناط البطلان عند جميع العلماء [15] . وهو متحقق في عقود التأمين بشكلٍ ظاهر لا يجادل فيه عاقل، فكل واحد من المتعاقدين لا يدرى كم يعطي ولا كم يأخذ فهو إذا عقد على مجهول فيه مخاطرة عظيمة.
وقد أورد التقنين المدني عقد التأمين ضمن العقود الاحتمالية أو عقود الغرر وبيان ذلك أن المُؤَمن والمُؤَمن له لا يعرفان وقت إبرام العقد مقدار ما يأخذ كل منهما ولا مقدار ما يعطي كل منهما إذ أن ذلك متوقف على وقوع الكارثة أو عدم وقوعها [16] .
من هنا نعلم أن وجود الغرر والمخاطرة في عقود التأمين من الأمور الواضحة وضوح الشمس في رابعة النهار بل إن الغرر والمخاطرة فيها أبين وأظهر من مثل صورة بيع الحصاة [17] وبيع المنابذة [18] وبيع الملامسة [19] وغيرها مما ورد فيه النهى الصريح لما فيها من الغرر الظاهر.
ومن الغرر أيضاً في عقد التأمين الجهل بأجل العقد وذلك أن الخطر وهو محل عقد التأمين لا يعلم هل يقع أم لا؟ وإن وقع فلا يعلم متى يقع؟ وعدم العلم بوقوعه ووقت وقوعه من شروط العقد الواجبة في التأمين وهو أن يكون الخطر غير محقق الوقوع وهذا هو العنصر الجوهري في عقد التأمين [20] .. فأي غرر أكثر وأشد مما في هذا العقد..
ومن العجيب أن يغالط بعض المنتسبين إلى الفقه فينازع في أن التأمين من العقود الاحتمالية كما فعل مصطفى الزرقا [21] مع وضوحه كما تقدم.
شبه المخالفين في الغرر في عقد التأمين والرد عليها:
ا- قال بعضهم أنه ليس من عقود الغرر المحرمة بدعوى أن ما ألفه الناس وتعارفوا عليه دون ترتب نزاع يكون غير منهي عنه [22]
وهذه دعوى باطلة فإن التراضي بين المتعاقدين لا يصير العقود المحرمة حلالاً وقد كانت كثير من صور عقود الغرر مألوفة في عهد الجاهلية ومع ذلك نهى الشرع عنها لأنها من أكل أموال الناس بالباطل كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَاّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُم} [23] . والمعنى تجارة لا غرر فيها ولا مخاطرة ولا قمار وهذا أمر متفق عليه عند أهل العلم [24] ..
ومن المعلوم أن اتفاق المتعاقدين على المعاملات الربوية وتراضيهما عليها وكون ذلك لا يؤدى إلى نزاع بينهما لا يجعل هذه المعاملات مشروعة فكذا هنا.
2-
دعوى أن عقود التأمين من قبيل التعاون بين مجموعة من الناس وفي التعاون والتبرع يغتفر الغرر الكثير استنادا لقول مالك رحمه الله في تصرفات الإحسان الذي لا يقصد به تنمية المال كالصدقة والهبة والإبراء [25] .
وبناء على ذلك حاولوا أن يجعلوا عقد التأمين من هذا الباب كما فعل السنهوري حيث ذكر أن التأمين لا يفهم على الوجه الصحيح إلا إذا نظر إلى الجانب الآخر وهو جانب العلاقة بين المُؤَمن ومجموع المُؤَمن لهم حيث يكون المُؤَمن وسيطاً بينهم ينظم تعاونهم جميعاً على مواجهة الخسارة التي قد تصيب بعضهم [26] .
يقول السنهوري عن الجانب الآخر من عقد التأمين - على حد تعبيره- "إنه يبر ز التأمين في ثوبه الحقيقي ويبين أنه ليس إلا تعاوناً منظما تنظيماً دقيقاً بين عدد كبير من الناس معرضين جميعاً لخطر واحد حتى إذا تحقق الخطر بالنسبة إلى بعضهم تعاون الجميع على مواجهته بتضحية قليلة يبذلها كل منهم يتلافون بها أضرارًا جسيمة تحيق بمن نزل الخطر به منهم لولا هذا التعاون، وشركة التأمين ليست في الواقع من الأمر إلا الوسيط الذي ينظم هذا التعاون على أسس فنية صحيحة
…
فالتأمين إذاً هو تعاون محمود، تعاون على البر والتقوى يبر به المتعاونون بعضهم بعضاً ويتقون به جميعاً شر المخاطر التي تهددهم فكيف يجوز القول بأنه غير مشروع؟ " [27] .
وقد استند على قول السنهوري هذا كل المشاغبين على مسألة وجود الغرر في عقود التأمين.
فهذا مثلاً علي الخفيف يقرر نفس المعنى في بحثه عن التأمين [28] . وكذا محمد سلام مدكور حيث يقول: "إن شركات التأمين تقوم بدور الوسيط بين الأفراد المتعاونين"[29] . والزرقا حيث يقول: "إن التأمين قائم على فكرة التعاون على جبر المصائب والأضرار الناشئة من مفاجآت الأخطار"[30] .
ولو سلمنا القول بما ذهب إليه الإمام مالك رحمه الله فلا يصلح مستنداً لما ذهبوا إليه البتة لأنها لا تصح أبداً دعواهم أن عقد التأمين من قبيل التبرعات بل هو عقد معاوضة محضة ويتضح ذلك من التعريف القانوني لعقد التأمين [31] .فليس هناك شك أن عقد التأمين عقد معاوضة بين متعاقدين يلتزم بمقتضاه كل منهما بعوض مقابل ما يلتزم به الآخر وإذا كان كذلك فلا يجوز في مذهب من المذاهب الفقهية ما في عقد التأمين من غرر كثير وكبير ولا تعدو هذه الدعوى أن تكون مغالطة بعيدة عن الواقع الحقيقي لعقد التأمين.
ولا يجادل عاقل في أن مقصد شركات التأمين إنما هو تحقيق الربح الوفير لها من جراء اتجارها بدعوى توفير الأمن للمتعاقدين معها فلا يصح بحال دعوى أن هذه الشركات ليست إلا الوسيط الذي ينظم التعاون
…
إنها مغالطة للواقع.
3-
حاول الزرقا دفع الغرر عن عقد التأمين بدعوى أن في عقد التأمين معاوضة محققة النتيجة فور عقده.. وأن الاحتمال فيه بالنسبة للمُؤَمن إنما هو بالنظر إلى كل عقد على حدة وأما بالنظر إلى مجموع العقود فإن التأمين يعتمد على أساس إحصائية تنفي عنه الاحتمال عادة.. وأما بالنسبة إلى المستأمن فإن الاحتمال معدوم؛ ذلك لأن المعاوضة الحقيقة في التأمين بأقساط إنما هي بين القسط الذي يدفعه المستأمن وبين الأمان الذي يحصل عليه وهو حاصل بمجرد العقد لأنه بهذا الأمان لم يبق بالنسبة إليه فرق بين وقوع الخطر وعدم وقوعه [32] .
وهذه المحاولة غير صحيحة أما بالنسبة للمُؤَمن فكل عقد يجريه فيه غرر كبير يوجب بطلانه والتحايل بلفت النظر إلى مجموع العقود لا يصح فإنه ليس له وجود في الخارج وإنما الذي له وجود هو العقد الغرر وهو يتضمن غرراً كبيراً من الجانبين.
ومقتضى قوله بالصحة بالنظر إلى مجموع العقود يلزم منه أن العقد الباطل في ذاته إذا انضم إليه غيره مما يشبه في البطلان صار بهذا الانضمام صحيحاً وهو لازم باطل لا وجه له عند أحد من فقهاء المسلمين.
على أن دعوى زوال احتمال الغرر من مجموع العقود مغالطة ظاهرة فشركات التأمين لا يمكن أن تعرف مجموع ما سوف تأخذ وما تعطى وإنما تستعين بالإحصائيات لمعرفة صورة تقريبية وهذا لا ينفي عنها عنصر الاحتمالية
…
هذا وهناك أحداث وأخطار غير متوقعة تقلب كل توقعات المُؤَمنين فكيف يقال إنه يعتمد على أسس إحصائية تنفي عنه الاحتمال؟ وحاصل ما تقدم أن الغرر الكبير في عقود التأمين موجود رغم كل ما قالوه حتى بالنسبة لمجموع العقود وهذا يقتضي بطلانها على أية حال.
وأما بالنسبة للمُؤَمن له فالغرر متحقق لديه وقت العقد في أنه لا يدرى ماذا سيعطى وماذا سيأخذ وهذا كاف للحكم ببطلانه.. ودعوى أن القسط في مقابل الأمان دعوى غير صحيحة ذلك أن عقد التأمين مذكور فيه أن القسط في مقابل مبلغ والتأمين هكذا يقول شراح القانون [33] .
وأما الأمان فلا يقدر عليه إلا الله وشركات التأمين لا تستطيع أن تضمن عدم وقوع الخطر وإنما تعوض عن بعض آثاره بعد وقوعه.
وقول الزرقا: "لم يبق بالنسبة إليه- أي المُؤَمن له- فرق بين وقوع الخطر وعدمه
…
الخ "مغالطة ظاهرة وهل يعقل ذلك فيمن يُؤَمن على حياته أو على أعضائه؟ أيستوي عنده أن يفقد حياته وأعضاءه أو أن يبقى حياً معافى؟ لا يستويان فكل هذا إنما هو تحايل ومغالطة لنفي الغرر من عقود التأمين وهو متحقق فيها على أية حال.
ومن خلال النظر إلى أركان هذا العقد وشروطه كما تقدم تصويره لا يراودنا أدنى شك في بطلانه.. ولا اعتبار بعد ذلك لأي دعاوى تتعلق في أمر خارج عن هذه الأركان والشروط لأن العبرة في الحكم على العقود إنما هو بالنظر إلى ما تضمنته من أركان وشروط.
ثانيا: الربا:
عقد التأمين يتضمن الربا بنوعيه أما النسيئة فدائماً وأما الفضل فغالباً وذلك أنه عندما يضع الخطر المُؤَمن منه وتسلم شركة التأمين مبلغ التأمين المتعاقد عليه فإنه لا يخلو في الغالب من أن يكون أقل أو أكثر مما دفعه المُؤَمن له وفي هذه الحالة يتحقق ربا الفضل بسبب عدم تساوى البد لين وكذا ربا النسيئة لتأخر أحد البد لين وإن كان المبلغ مساوياً- وهذا نادر- تحقق ربا النسيئة لتأخر أحد البد لين لأن عقود التأمين لا تخرج عن الصرف إذ هي نقد بنقد وهذا واضح من تعريفه حيث أن المُؤَمن يلتزم بدفع مبلغ من المال في نظير قسط مالي وعقد الصرف يشترط فيه التقابض مطلقاً سواء اتحد الجنس أو اختلف ويشترط أيضاً التماثل عند اتحاد الجنس وهذا كله متحقق بين مبلغ التأمين وقسطه وبهذا يتبين أن عقود التأمين تشتمل على نوعي الربا.
والنصوص الواردة في طلب التماثل والتقابض في مبادلة المال الربوي بجنسه متواترة وقد أجمع المسلمون على مدلولها [34] .
شبه المخالفين في تضمن التأمين للربا والرد عليها:
ا- كما ادعوا في باب الغرر أن عقود التأمين من قبيل التعاون الذي يغتفر فيه الغرر ادعوا هنا أيضاً أن التأمين من أساسه قائم على فكرة التعاون على جبر المصائب فيغتفر ما فيه من ربا أو شبهة ربا [35] .
وهي دعوى مردودة كما تقدم فعقود التأمين ليست من قبيل التعاون وإنما هي عقود معاوضة وتجارة فلا يمكن حملها على تصرفات التبرع والإرفاق التي يغتفر فيها ما لا يغتفر في عقود المماكسة التي يقصد منها الربح.
2-
حاول بعضهم أن يحصر شبهة الربا في بعض صور التأمين وهو ما يحصل في التأمين على الحياة حيث يشترط فائدة ربوية علاوة على مبلغ الأقساط التي يستفيدها إذا ظل حياً بعد مدة العقد ومن ثم يحكم على هذا الشرط وحده دون الحكم على نظام التأمين في ذاته ولذا يقترح الزرقا إلغاء شرط الفائدة في هذه الصورة من التأمين بحيث يرد مبلغ الأقساط بعينه دون فائدة [36] .
والجواب عن هذا أن جوهر عقد التأمين لا يخلو من شبهة الربا حتى لو خلا من مثل هذا الشرط فإنه وإن انتفى التفاضل فإن النَسَاء متحقق على أية حال.
ثالثا: القمار:
عقد التأمين يتضمن شبهة القمار وذلك أنه معلق على خطر قد يقع وقد لا يقع فهو يشبه في معناه معنى ميسر القمار وهو ما يتخاطر الناس عليه. قال ابن عباس: "كان الرجل في الجاهلية يخاطر الرجل على أهله وماله فأيهما قامر صاحبه ذهب بماله وأهله فنزلت الآية:
وأي مخاطرة ومقامرة أشد من دفع مبلغ التأمين كاملاً مقابل قسط واحد فيما إذا وقع الخطر المُؤَمن عليه ففي مقابل ماذا دفع المُؤَمن هذا المبلغ الكبير؟ وكيف تكون المخاطرة والمقامرة إذا لم تكن هذه مخاطرة ومقامرة؟
والحقيقة أننا لو نظرنا إلى عناصر عقد المقامرة عند شراح القانون لوجدناها متوفرة في عقود التأمين ولذا قال السنهوري إنه إذا نظرنا إلى عقد تأمين بمفرده لم يعدُ أن يكون عقد مقامرة [38] .
شبه المخالفين في تضمن عقد التأمين للمقامرة والرد عليها:
وقد حاول الزرقا ومن على شاكلته إيجاد فروق بين عقد التأمين وبين القمار سوف أذكرها حسب ورودها في بحثه وأجيب عليها.
أ- يقول: "إن القمار لعب بالحظوظ ومقتلة للأخلاق
…
فأين القمار الذي هو من أعظم الآفات
…
من نظام يقوم على أساس ترميم الكوارث الواقعة على الإنسان في نفسه أو ماله
…
" [39] .
والجواب عن هذا أن وجه الشبه بين عقد التأمين وبين القمار هو عنصر المخاطرة في كل منهما حيث أن عقد التأمين يكون على شيء غير محقق الوقوع وهو عنصر أساسي فيه وفي القمار أيضاً وهذا هو مناط التحريم وأما ما يقر بسبب القمار من العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة فهذا من حكمة التحريم فإن القمار حرام حتى ولو قدر خلوه من ذلك فكذا عقد التأمين حرام لتضمنه مناط التحريم وهو المخاطرة على أن نظام التأمين يقع فيه شيء من العداوة والبغضاء حين يأخذ أحد الطرفين في عقد التأمين مبلغاً كبيراً دون مقابل. وحتى لو سلمنا بأن القمار يؤدي إلى العداوة والبغضاء وعقود التأمين لا تؤدى إلى ذلك فإن معنى المخاطرة والمقامرة متحقق فيها على أية حال.
2-
يقول: "إن عقد التأمين يعطى المستأمن طمأنينة وأماناً من نتائج الأخطار
…
فأين هذا الأمان والاطمئنان لأحد المقامرين في ألعاب القمار التي هي بذاتها الكارثة الحالقة؟ " [40] ..
والجواب عن هذا أنه لو سلمنا جدلا أن في التأمين أماناً وطمأنينة لا توجد في المقامرة فإن هذا ليس له أثر في الحكم إذ أن العنصر الذي له أثر في الحكم هو عنصر المخاطرة في إجراء العقد على واقعة غير محققة في كل من التأمين والقمار وهذا لا صلة له بما يصحب العقد من خوف أو أمان فالمقامرة في عقد التأمين متحققة حتى لو سلمنا بهذا الفارق المزعوم.
3-
يقول: "ومن جهة ثالثة عقد التأمين من قبيل المعاوضة وهذه المعاوضة مفيدة فائدة محققة للطرفين ففيها
…
ربح اكتسابي للمُؤَمن وفيها أمان للمستأمن
…
فأين هذه المعاوضة في القمار؟ وما هي الفائدة التي عادت على الخاسر فيه من ربح الفائز " [41] ..
والجواب عن هذا أن كونه عقد معاوضة لا يمنع أن يكون فيه معنى القمار وأيضاً فإن مثل هذا الفارق لو سلم بوجوده لا أثر له في الحكم فعنصر المخاطرة الذي هو مناط التحريم متوفر على أية حال فلا يفيد بعد ذلك ما قاله الزرقا من أن التأمين معاوضة مفيدة للطرفين فسواء كانت مفيدة أو غير مفيدة فحكمها لا يتغير طالما اشتملت على عنصر يقتضي تحريمها.
وأخيراً فإن شراح القانون قد قرروا أنه بالنظر إلى عقد التأمين من جهة العلاقة بين المُؤَمن وأي من المستأمنين لا يعد أن يكون عقد مقامرة كما في قول السنهوري المتقدم وإذا تقرر ذلك فهو كاف في الحكم عليه بالتحريم ولا تأثير بعد ذلك للفروق التي ادعوها حتى ولو سلم بشيء منها.
رابعا: بيع الدين بالدين:
يقول الدكتور محمد بلتاجي: "ويكون قسط التأمين عادة مبلغاً سنوياً والمستأمن لا يدفعه في مجلس العقد إنما يدفعه بعد ذلك على أقساط فهو دين في ذمة المستأمن يلزمه أداؤه حسبما نص على ذلك في العقد والذي يقابله يبلغ التأمين الذي تلتزم الشركة بدفعه إذا حدث الخطر المُؤَمن منه فهو الآخر دين في الذمة معلق على وقوع الخطر ومن ثم فعقد التأمين يتضمن بيع دين بدين"[42] .
وما ذكره بلتاجي متحقق حقيقة في عقد التأمين وقد أجمع المسلمون على تحريم بيع الدين بالدين [43] ..
والخلاصة أنه اجتمع في عقد التأمين الغرر والربا والقمار وبيع الدين بالدين وواحد من هذه الأمور يكفي للحكم بتحريمه فكيف وقد اجتمعت كلها على نحو ما تقدم؟..
احتجاج المجوزين للتأمين والرد عليهم
حاول المخالفون في تحريم عقد التأمين أن يطبقوا عليه بعض القواعد العامة أو أن يقيسوه على بعض الصور في الفقه الإسلامي بشكل عام وهذا ما سأتناوله في النقاط التالية:
1-
أن عقد التأمين عقد جديد فهو جائز بناء على أن الأصل في العقود الإباحة إلا ما ورد الشرع بتحريمه [44] وأن الشريعة تركت الباب مفتوحاً للناس أن يحدثوا أنواعاً جديدة من العقود إذا دعت الحاجة لها بشرط أن تتوفر فيها الأركان والشروط العامة المعتبرة في العقود وفي هذا الصدد يمثل الزرقا بعقد بيع الوفاء وأنه أشبه بواقعة عقد التأمين فعقد بيع الوفاء "عقد جديد ذو خصائص وموضوع وغاية يختلف فيها عن كل عقد من العقود المسماة المعروفة قبله لدى فقهاء الشريعة وهو ينطوي على غاية يراها الفقهاء محرمة لأنه يخفي وراءه أنواعا من الربا المستور وهو الحصول على منفعة من وراء القرض حيث يدفع فيه الشخص مبلغاً من النقود ويسميه ثمناً لعقار يسلمه صاحبه إلى دافع المبلغ الذي يسميه مشترياً للعقار لينتفع به بالسكنى أو الإيجار بمقتضى الشراء بشرط أن صاحب العقار متى وفى المبلغ المأخوذ على سبيل الثمنية استرد العقار
…
ولكل منهما الرجوع عن هذا العقد أي فسخه وطلب التراد ولو حددت له المدة" [45] .
وقد اختلف الفقهاء فيه وقت ظهوره فمنهم من أعتبره بيعاً فاسدا لاقترانه بشرط مفسد للعقد. ومنهم من أعتبره بيعاً صحيحاً وأبطل الشرط وحده واعتبره لغوا. ومنهم من نظر إلى الهدف من هذا العقد والشرط فاعتبره في معنى الرهن الذي يشترط فيه المرتهن الانتفاع بالشيء المرهون فأبطل شرط الانتفاع بالمرهون وأبقاه رهناً لأن العبرة في التصرفات للمقاصد. إلا أنه استقرت الفتوى في المذهب الحنفي بعد ذلك على أنه عقد جديد ذو خصائص مختلفة عن هذه العقود الثلاثة لذا قرروا له أحكاماً مستمدة منها جميعاً.
والمقصود من هذا أن قضية عقد التأمين تشبه بيع الوفاء من ناحية أن بيع الوفاء شاهد تاريخي واقعي في الفقه على جواز إحداث عقود جديدة وإن تعرض في أول نشأته لمثل ما تعرض له اليوم عقد التأمين من اختلاف [46]
…
والرد على ذلك أن وجه الحرمة في عقد التأمين ليس لأنه عقد جديد يختلف عن العقود المعروفة لدى فقهاء الشريعة الإسلامية بل وجه الحرمة فيه ما يتضمنه من غرر وربا وقمار وبيع دين بدين كما تقرر، وبناء على هذا فهذا العقد الجديد غير جائز لا لأنه جديد بل لأنه تضمن أمورا تقتضي بطلانه.
وليعلم أنه من المتفق عليه عند القائلين إن الأصل في العقود الإباحة تقييد ذلك بأن لا يرد الشرع بتحريمه وعليه فقد اشتمل عقد التأمين على عدة أمور ورد الشرع بتحريمها فلا يندرج عقد التأمين تحت هذا الأصل القائل بأن الأصل في العقود الإباحة حتى على تقدير رجحانه على القول بأن الأصل فيها الحظر إلا ما ورد الشرع بإباحته. وغنى عن البيان القول بأن عقد الوفاء مختلف عن عقد التأمين في موضوعه وهذا ما سلم به الزرقا نفسه [47] .
على أن الصواب في بيع الوفاء أنه لا يخرج عن أن يكون بيعاً أو رهنا اقترن به شرط فاسد والحكم فيه هو إبطال العقد بسبب هذا الشرط أو إبطال الشرط وحده على الخلاف المذكور آنفاً وعلى هذا فليس هنا عقد جديد أصلاً وإنما هو عقد قديم- بيع أو رهن- اقترن بشرط.
والحقيقة أن جر الكلام إلى موضوع إيجاد عقود جديدة إبعاد للمسألة عن مناط الحكم فيها فليس المحذور في عقد التأمين كونه عقداً جديداً- كما تقدم - وإنما لأنه تضمن الغرر والربا والقمار وبيع الدين بالدين وكل هذه الأمور قد اعتبرها الشارع مبطلة للعقود.
- عقد الحراسة:
يقول الزرقا إن المستأجر للحراسة ليس لعمله نتيجة سوى تحقيق الأمان لمن استأجره باطمئنانه على سلامة الشيء المحروس
…
وهكذا الحال في عقد التأمين يبذل المستأمن فيه جزءاً من ماله في سبيل الحصول على الأمان من نتائج الأخطار [48] .
ويرد عليه بأن عقد الحراسة ليس محل العقد فيه هو الأمان وإنما الأجير يستحق الأجرة في مقابل القرار في مكان معين للقيام بالحراسة وهذا هو محل العقد وهو المتحقق في الواقع وأما الأمان فهو الهدف من العقد والباعث عليه وهذا الهدف قد يتحقق وقد لا يتحقق والأجير يستحق الأجرة بمجرد قيامه بالحراسة سواء حصل الأمان أولم يحصل وليس عليه شيء إذا لم يفرط.
فالأمان إذاً ليس محلاً للعقد وإنما هو أمر معنوي نفسي لا يمكن أن يباع ويشترى بل قد يأتي بلا ثمن وقد يدفع في طلبه الثمن الكثير ولا يتحقق.
والحقيقة أن عقد الحراسة معاوضة معلومة من الطرفين فصاحب الشيء المحروس يدفع أجرة معلومة والأجير يقوم بعمل معين فليس هناك غرر أو جهالة في هذا العقد.
وأما عقد التأمين ففيه جهالة العوضين وجهالة مدة العقد فلا وجه لإلحاقه بعقد الحراسة المعلوم المحدد.
وهذه المقايسة لا تعد أن تكون وسوسة شيطانية الهدف منها التضليل والمغالطة.
ودعوى أن الأمان هو محل العقد في عقد الحراسة وعقد التأمين دعوى باطلة يكذبها العقل والواقع فليس في مقدور أحد من البشر توفير ذلك وإنما هو حقيقة بيد الله سبحانه وتعالى.
3-
ضمان خطر الطريق:
ضمان خطر الطريق هو فيما إذا قال شخص لآخر أسلك هذه الطريق فإنها آمنة وإن
أصابك شيء فأنا ضامن حيث يضمن القائل عند بعض الفقهاء.
يقول الزرقا: "فإني أجد فيه فكرة فقهية تصلح أن تكون نصاً استثنائياً قوياً في تجويز التأمين على الأموال من الأخطار"[49] ..
والرد على هذا أن الأصل في ضمان خطر الطريق عند من قال به أن المغرور إنما يرجع على الغار إذا حصل الغرور في ضمن المعاوضة أو ضمن الغار صفة السلامة للمغرور [50] ..
والتنظير بين هذا وبين التأمين غير صحيح فشركات التأمين لا تغر الناس ولا تضمن صفة السلامة لمن يتعاقد معها فليس هنا تغرير يشبه التغرير في مسألة ضمان خطر الطريق عند من يقول به وعليه فلا يمكن قياس عقد التأمين على ضمان خطر الطريق.
وهنا فارق جوهري آخر وهو أن ضمان خطر الطريق التزام من طرف واحد فلا يمكن أن يقاس عليه عقد التأمين وهو عقد معاوضة والتزام من الطرفين.
وأخيراً فإن السلامة شأنها شأن الأمان ليست شيئاً يباع ويشترى لأنها ليست في مقدور البشر فالتلويح بها مغالطة ظاهرة.
وأما قول الزرقا: "إن فقهاءنا الذين قرروا هذا الحكم في الكفالة
…
لو أنهم عاشوا في عصرنا اليوم
…
لما ترددوا لحظة في إقرار التأمين نظاماً شرعياً " [51] . فلا يستطيع أن يقنعنا بصدق قوله إلا أن يعيد أولئك الفقهاء فيصدقوه فيما زعم وليس بقادر، ومن جانبنا لا نظن في أولئك الفقهاء أن يقروا التأمين نظاماً شرعياً وقد تضمن ما يقتضي بطلانه من الغرر والربا.
4-
إلحاق عقود التأمين بولاء الموالاة عند الحنفية:
وصفة هذا الولاء أن الرجل يوالى رجلا آخر على أن يعقل عنه إذا جنى ويرثه إن مات وليس له وارث ويمكن أن يشترطا الإرث من الجانبين وهو عند الحنفية خاصة والإرث به عندهم مؤخر عن أرث ذوى الأرحام ومن شرط هذا العقد عندهم أن يكون المعقول عنه حراً مجهول النسب وأن لا يكون عربياً وليس عليه ولاء عتاقة ولا ولاء مولاة مع أحد قد عقل عنه.
وأن لا يكون عقل عنه بيت المال وأن يشترط العقل والإرث في العقد [52] .
وفي صدد القول بجواز عقود التأمين ينتهي أحد الباحثين إلى أن أركان عقد ولاء الموالاة تتفق إلى حد كبير مع أركان عقد التأمين من المسئولية لأن ولاء المولاة رابطة قانونية بين شخصين بمقتضاها يتعاقدان على أن يعقل أولهما عن الآخر إذا جنى فيدفع عنه الدية في مقابل أن يرثه مولى الموالاة إذا توفي غير مخلف وارثاً قط وهو في هذا يناظر عقد التأمين من المسئولية [53] .
والأصل في عقد ولاء الموالاة قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [54] .
والجمهور على القول بعدم صحة هذا العقد فلا يحصل به توارث ولا عقل.. والحق في هذا مع الجمهور لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: "إنما الولاء لمن أعتق "[55] . حيث أفاد حصر الولاء في نوع واحد هو العتق لشخص واحد هو المعتق وأما الآية فهذا كان في صدر الإسلام ثم نسخ بآية المواريث.
وقول الحنفية في ولاء الموالاة على تقدير التسليم بصحته جدلاً لا يشبه عقد التأمين من المسئولية ذلك أن الهدف الذي بني عليه ولاء الموالاة ليس هو هدف الذي بني عليه عقد التأمين.. فولاء الموالاة بني على النصرة والحماية ولجوء الضعيف الغريب إلى القوى النسيب ولذا فهولا يعتبر من عقود المعاوضة عند الحنفية القائلين به وإنما هو من عقود التبرع التي يغتفر فيها ما لا يغتفر في غيرها.. أما عقد التأمين فهو عقد معاوضة ظاهرة لا يقصد منه عند إنشائه إلا الربح والاستغلال فلا يصح أن يقاس على ولاء الموالاة مع وجود هذا الفارق الجوهري.. على أن قول الحنفية بمشروعية عقد ولاء الموالاة قول ضعيف مرجوح كما تقدم.
5-
إلحاق عقد التأمين بالوعد الملزم عند بعض المالكية:
وخلاصة مسألة الوعد الملزم عندهم أن الشخص إذا وعد غيره عدة مما ليس بواجب عليه في الأصل هل يصبح بهذا الوعد ملزما بالوفاء؟
من المالكية من يقول إنه ملزم مطلقاً ومنهم من يقول إنه غير ملزم مطلقاً ومنهم من يقول يلزم إذا ذكر لها الواعد سبباً وإن لم يباشر الموعود ذلك السبب كأن يقول أريد أن أقرضك كذا لتتزوج، والراجح عندهم أنه يلزم إذا دخل الموعود في سبب ذكر في الوعد [56] .
يقول الزرقا: "فإنا نجد في قاعدة الالتزامات هذه متسعاً لتخريج عقد التأمين على أساس أنه التزام من المُؤَمن للمستأمنين ولو بلا مقابل على سبيل الوعد أن يتحمل عنه أضرار الحادث الخطر
…
ولا يخفي أن أقل ما يمكن أن يقال في عقد التأمين إنه التزام تحمل الخسائر عن الموعود في حادث معين محتمل الوقوع بطريق الوعد الملزم نظير التزام بتحمل خسارة المبيع عن البائع مما نص عليه المالكية" [57] .
وقول بعض المالكية في هذه المسألة على التسليم بصحته جدلاً لا يصح أن يقاس عليه عقد التأمين لوجود الفارق بينهما.. فالوعد الملزم عند من قال به تبرع محض لا معاوضة فيه وهذا أمر واضح لا يحتاج إلى بيان حيث أن الموعود لا يلتزم بشيء مقابل وعد الواعد أما عقد التأمين فمعاوضة واضحة والتزام من الجانبين كما تقرر.. والتبرعات يغتفر فيها ما لا يغتفر في المعوضات كما تقرر أيضاً فلا يمكن أن تقاس المعاوضة من الطرفين في عقد التأمين على التبرع من طرف واحد في الوعد الملزم مع وجود هذا الفارق الجوهري.
6-
إلحاق عقد التأمين بمسألة عقل العاقلة: [58]
في هذا الصدد يقول الزرقا: "إن نظام العواقل أصله عادة حسنة قائمة قبل الإسلام في توزيع المصيبة المالية
…
وقد أقر الشرع الفكرة لما فيها من مصلحة
…
وجعلها إلزامية في جناية القتل لأن فيها مسئولية متعدية بسبب التناصر وذلك بعد إخراج حالة العمد منها
…
فما المانع من أن يفتح باب لتنظيم هذا التعاون على ترميم الكوارث بجعله ملزماً بطريق التعاقد والإرادة الحرة كما جعله الشرع إلزامياً دون تعاقد في نظام العواقل؟ " [59] .
يقول الزرقا: "يكفي في القياس التشابه بين المقيس والمقيس عليه في نقطة ارتكاز الحكم ومناطه وهي العلة وهذا ما رأيناه في نظام العواقل الإسلامي ونظام التأمين الحديث في بعض فروعه"[60] .
وهذا القياس المزعوم قياس باطل من أساسه لأن نظام العقل في الإسلام إلزام من الشارع لمجموعة من الناس تربطهم رابطة معينة بتحمل ما توجبه جنايات بعضهم وليس التزام منهم باختيارهم بتحمل شيء ما مقابل عوض كما هو الحال فيعقد التأمين فأين وجه الشبه المزعوم؟.
وأيضا فإن نظام العقل في الإسلام مبنى على التناصر والبر بين أفراد عائلة واحدة وله أهداف جليلة وحكمة فأين هو من نظام التأمين المبني على التجارة وطلب الكسب والربح واستغلال الناس؟ ومن أين للزرقاء أن يزعم مع كل ذلك أن نقطة ارتكاز الحكم ومناطه وهى العلة متفقة في النظامين؟.
والخلاصة أنه لا يصح هذا القياس مع وجود هذه الفروق الأساسية في جوهر النظامين.
7-
الاحتجاج بالمصلحة:
وفي هذا يقول عبد الرحمن عيسى: "إن التأمين التجاري يحقق مصالح اقتصادية كبيرة للمجتمع.."وبعد سرد شواهد تدل على اعتبار المصلحة في الشرع يقول: "وقد بينا بوضوح تام أن التأمين يحقق مصالح عامة هامة فيكون حكمه الجواز شرعاً اعتبارًا لما يحققه من المصالح"[61] ..
وبناء الشريعة على مبدأ جلب المصالح ودرء المفاسد أمر معروف ومسلم به لكن المراد بالمصالح ما اعتبرها الشرع كذلك وأما المصالح الملغاة في الشرع فلا اعتبار لها ولو اعتبرها العقل البشرى مصالح. فالأمور المنهي عنها أو التي تتضمن ارتكاب نهى لا اعتبار لما يزعم فيها من مصالح فهي على تقدير وجودها مصالح ملغاة.
وما يزعم في نظام التأمين من مصالح وهي- على تقدير وجودها- مصالح ملغاة لتضمن عقد التأمين أموراً وردت النصوص القطعية بالنهي عنها والوعيد الشديد عليها من الغرر والربا والقمار وبيع الدين بالدين كما سبق فإن رأت بعض العقول البشرية في نظام التأمين مصلحة ما فهي مصلحة مهدرة ملغاة شرعا لما تقدم.
وجميع ما نقل عن الصحابة وفقهاء السلف من تقرير أحكام استناداً إلى المصلحة إنما كان ذلك في أمور موافقة لمقاصد الشريعة ولم يرد فيها نص عن الشارع فالمصلحة المعتبرة عندهم ما فهموه من الشرع اعتباره في اقتضاء الأحكام ولا يستقل العقل بدركه [62] .. وبهذا يعلم يقيناً أنه لا اعتبار لما يزعم في عقود التأمين من مصلحة لعدم موافقتها لمقاصد الشريعة بل لورود النص بالنهى عما تضمنته هذه العقود من غرر وربا
…
الخ.
8-
الاحتجاج بأن التأمين ضرورة اقتصادية:
خلاصة الاحتجاج بالضرورة أن حاجة الناس إلى التأمين قد اشتدت وعظمت وأنه يشق عليهم تركه خوفاً من الكوارث حيث أصبح التأمين ضرورة لحفظ أموالهم وإن لم يكن من ضروريات الناس فإنه من حاجياتهم التي يترتب على فقدها الضيق والمشقة حيث أنهم قد ألفوه وتغلل في جميع نواحي حياتهم فلو منعوا منه لوقعوا في حرج ومعلوم في الشريعة الإسلامية أن المشقة تجلب التيسير والضرورات تبيح المحظورات [63] ..
وتقريرهم للاحتجاج على النحو السابق يتضمن اعترافهم بأن عقد التأمين يشتمل على أمور محرمة.
وهذا الاحتجاج يدل على جهل قائله بأصول الشريعة الإسلامية ومبادئها إذ كيف يتصور أن توجد الضرورة إلى نظام كنظام التأمين؟ قد توجد الضرورة في حالات فردية تقدر بقدرها وتقيد بشروطها مثل اضطرار الذي يخشى الهلاك إلى أكل الميتة ومثل هذه الصورة لا تتصور في نظام كهذا النظام.
وإذا عرفنا أن للضرورة حدوداً يعرف بها ما يكون ضرورة في واقع الأمر وما لا يكون وعرفنا معنى الضرورة وأنها ما يرتب على تركه تلف النفس أو العضو فهل الحاجة إلى التأمين من هذا الصنف؟ كلا.
وإذا وجدت ضرورة فإنما تقدر بقدرها كما تقدم وتعتبر أمراً استثنائيا يزول بزوال الحالة التي ألجأت إليه ولا يمكن أن يجعل قاعدة عامة في صورة نظام عام فإن مثل هذا يستلزم حاجة الشريعة إلى أنظمة وعقود محرمة واعتقاد مثل هذا قد يؤدى بصاحبه إلى الكفر والعياذ بالله لأنه يستلزم الاعتقاد بنقص الشريعة الإسلامية وتكذيب الله عز وجل القائل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
…
} [64] .
وحتى الحاجة التي تُنَزّل منزلة الضرورة مشروطة بأن يكون قد شهد لها الشرع بالاعتبار فليس كل ما يسبب حرجاً للناس يستباح به المحظور وقد ذكر القرطبي في تفسير قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} [65] قول العلماء: "رفع الحرج إنما هو لمن استقام على منهاج الشرع"[66] .
وما من شك أن من استقام على منهاج الشرع واتقى الله عز وجل فلن يجد حرجاً حين يمتنع من عقود التأمين.
والخلاصة أن الاحتجاج بالضرورة لا يصلح دليلاً لإباحة عقود التأمين إذ ليس هناك في الحقيقة ضرورة بالمعنى الشرعي.
الاحتجاج بنظام التقاعد:
يستدل الزرقا بموقف فقهاء الشريعة- كما يقول- من نظام التقاعد مع أنه نظام تأميني بكل ما في كلمة التأمين من معنى
…
يقول: "فما الفرق بين هذا النظام وبين التأمين على الحياة؟
…
ويضيف بأن الغرر والجهالة في نظام التقاعد أعظم منها في التأمين على الحياة ومع هذا يقره علماء الشريعة
…
فلماذا يحسن وجود هذا النظام التقاعدي بين الدولة وموظفيها ولا يجوز نظيره تعاقدًا بين الناس [67] ..
والرد على تساؤله هو وجود الفارق بينهما فالتأمين عقد بين طرفين مبني على الغرر والربا مراد به الربح والكسب وأما نظام التقاعد فليس فيه تعاقد وإنما هو إلزام من طرف الدولة وحدها ليس فيه اتفاق وتعاقد مع الموظف ولا يراد به الربح والتجارة.. وحقيقة أن الراتب ومعاش التقاعد كله من الدولة وكان بإمكانها أن تحسب الرواتب صافية دون الإشارة إلى حسم تقاعد وتلتزم بإعاشة الموظف بعد التقاعد وهي ملزمة برعاية رعيتها وعلى الأَخص الذين قضوا حياتهم في خدمتها.. فعلماء الشريعة لم يعلنوا النكير على نظام التقاعد لأنهم لم يروا فيه صورة العقد الذي يشترط له ما يشترط للعقود وإنما هو إجراء وإلزام من جانب الدولة وحدها في مجال تنظيم رواتب ومعاشات موظفيها.
وليس كلامي هنا في مجال الحكم على نظام التقاعد من حيث جوازه أم لا وإنما كلامي يدور حول وجود الفارق الجوهري والأساسي بين عقود التأمين وبين نظام التقاعد فلا يصح مع هذا التنظير بينهما.
10-
الاحتجاج بالتراضي:
ورد في كلام بعضهم أن كلا من طرفي العقد في التأمين يتعاقد مع الآخر عن رضى تام ورغبة تامة [68] .. وهذا القول يدل على جهل فاضح فمتى كان التراضي على العقد المحرم مبيحاً له فعقد الربا المحرم بالإجماع لا يمكن أن يحله التراضي فكذلك عقد التأمين لا يحله التراضي وهو يتضمن أموراً يحرمها الشرع، فالتراضي المعتبر في قوله عز وجل:{إِلَاّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [69] . هو فيما أحله الله من العقود ولا اعتبار للتراضي فيما حرمه الله سبحانه وتعالى.
11-
إلحاق عقود التأمين بالجعالة:
زعم محمد البهي أن عقد التأمين هو عقد جعالة بين الشركة وجميع المُؤَمنين [70] ..
ولا وجه لزعمه هذا فالجعالة إجارة على منفعة مظنون حصولها مثل مشارطة الطبيب على البرء والناشد على وجود العبد الآبق.. ويشترط فيها عند من أجازها أن يكون الثمن معلوماً وأن يكون العمل مما لا ينتفع الجاعل بجزء منه.. والأصل فيها قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [71] . وما في الأثر من أخذ الثمن على الرقية بأم القرآن [72] .
فالجعالة إذاً معاوضة بين الجاعل وبن من يعمل العمل.. الجاعل يلتزم بمال معلوم والآخر يقوم بعمل معين فأين هذا من عقد التأمين بين المُؤَمن والمستأمن؟ وأيهما الجاعل؟ وأيهما الذي يقوم بالعمل؟ كل هذا لا ينطبق على عقد التأمين فالتأمين التزام بمال مقابل التزام بمال وهذا الالتزام غير معلوم المقدار وفي الجعالة يشترط أن يكون معلوماً.. والالتزام في عقد التأمين لا يقابله عمل وإنما يقابله التزام بمال أيضاً وفي الجعالة يقابل الثمن المعلوم عمل معين فلا يمكن أن يقاس عقد التأمين على الجعالة للاختلاف الظاهر بينهما بوجود مثل هذه الفروق الجوهرية التي تمنع القياس.
وبهذا يتبين أنه ليس هنا مستند صحيح للقائلين بجواز عقود التأمين وقد أغفلت بعض أقوالهم مما لا وجه له ولا يستحق المناقشة.. وفي الحقيقة أن كل ما أثاروه لا قيمة له ولكنها وساوس وشبه أثيرت فلزم البيان.
وقد أصاب السنهوري عندما قال: "لا يجوز قياس عقد التأمين على عقود أو نظم معروفة في الفقه الإسلامي فهولا يشبه عقد المضاربة ولا هو كفالة ولا هو وديعة بأجر ولا هو عقد موالاة ولا يدخل في ضمان خطر الطريق ولا في الوعد الملزم ولا في نظام العواقل
…
وإنما التأمين عقد جديد له مقوماته وخصائصه وهو ليس بين العقود أو النظم التي عرفها الفقه الإسلامي [73] .
وهكذا ننتهي إلى أن عقد التأمين لا يشبه أي عقد من عقود المعاوضة في الفقه الإسلامي وكل ما أثاروه من شبه تبين بطلان الاحتجاج بها وبهذا ننتهي إلى الجزم بتحريم عقود التأمين لتضمنها ما نهى الشرع عنه من الغرر والربا والقمار وبيع الدين بالدين..
عقد التأمين التعاوني
لقد انتهى أكثر الباحثين في التأمين إلى أن عقود التأمين عقود محرمة إلا أن بعضهم استظهر جواز عقد التأمين التعاوني وفرق بينه وبين التأمين التجاري معتمداً على بعض الشواهد والفروق وقالوا إنه يمكن إيجاد نظام تأمين تعاوني يتفق مع نصوص الشريعة وقواعدها [74] .
وقد استدلوا لذلك بالنصوص الآمرة والمرغبة بالتعاون على البر والتقوى والتواد والتراحم والتعاطف بين أفراد المسلمين.
كما ذكرت بعض الشواهد الواردة في هذا المجال وهى كالتالي:
ا- حديث جابر بن عبد الله أنه قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً قبل الساحل فأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح وهم ثلاثمائة وأنا فيهم فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد [75] فأمر أبو عبيدة بازواد ذلك الجيش فجمع ذلك كله فكان مِِزوَدَى تمر فكان يقوتناه كل يوم قليلاً قليلاً حتى فني فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة
…
"الحديث متفق عليه [76] .
وجمع الطعام في السفر يدخل في النهد والتناهد هو إخراج القوم نفقاتهم على قدر عدد الرفقة وقيده بعضهم بالسوية وبالسفر ولعل هذه أصله- خلط الزاد في السفر- لكن قد يتفق حصوله في الحضر [77] . وقيده ابن الأثير بسفر الغزو فقال: "ما تخرجه الرفقة عند المناهدة إلى العدو وهو أن يقسموا نفقتهم بينهم بالسوية حتى لا يتغابنوا ولا يكون لأحدهم على الآخر فضل ومنة"[78] .
2-
حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: خفت أزواد القوم وأملقوا [79] فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم في نحر إبلهم فأذن لهم فلقيهم عمر فاخبروه فقال ما بقاؤكم بعد إبلكم؟ فدخل على النبي –صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ما بقاؤهم بعد إبلهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ناد في الناس يأتون بفضل أزوادهم فبُسط لذلك نِطع وجعلوه على النطع فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا وبرك عليه [80] ثم دعاهم بأوعيتهم فاحتثى [81] الناس حتى فرغوا
…
"الحديث متفق عليه [82] .
3-
حديث أبى موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الأشعريين إذا أرملوا [83] في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية فهم مني وأنا منهم" متفق عليه [84] .
والأحاديث في هذا الباب تدل على أنه لا يتقيد بالتسوية إلا في القسمة [85] وأما في الأكل فلا تسوية لاختلاف حال الآكلين ولأن الذي يوضع للأكل سبيله المكارمة لا التشاح
…
وقد اغتفر الربا في النهد لثبوت الدليل على جوازه [86] وذلك أن الشخص قد يأكل أكثر أو أقل مما أخرج وكذلك في القسمة قد يكون ما يقسم للشخص أكثر أو أقل ما أخذ منه لكنه اغتفر هذا الفضل للدليل الدال على جوازه.
وما حصل فيما ذكر لم يتم عن طريق التعاقد والالتزام بين أطراف في هذا التعاقد بدفع شيء معين أو غير معين مقابل التزام آخر وإنما يتم عن طريق المواساة في أوقات الحاجة والمجاعة.
وكذلك ليس فيما ذكر إرادة المبايعة والبدل وإنما يفضل بعضهم بعضاً بطريق المواساة.. فما ذكر في هذه الأحاديث إنما هو خلط الزاد في السفر والإقامة من باب الإيثار والمواساة وطلب البركة [87] فلا يصلح أن يستدل بها لإنشاء عقد تأمين بدعوى أنه تعاوني وليس تجاري.
والذي يظهر أن ما ورد في هذا إنما هو حالة استثنائية خاصة فيمكن أن يطبق حكمها على ما يماثلها فقط ولا يصح أن تجعل قاعدة عامة يبنى عليها تنظيم عام وهذا ما يدل عليه تقييد العلماء للنهد بما تقدم كما يدل عليه الحالات التي حصلت فيها الشواهد المذكورة.
ثم إنه لا عبرة بتسميته تأمين تعاوني وإنما العبرة بالكيفية التي يتم بها هذا الشيء فإن كان على سبيل التبرع والإحسان بحيث لا يلزم أحد بدفع أقساط معينة بل كل يدفع ما شاء متى شاء وكذلك لا يلتزم له بدفع تعويض عن خطر ما وإنما يواس ويجبر دون التزام له بذلك فإن كان بمثل هذه الكيفية فلا بأس به إن شاء الله و {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} ويغتفر في التبرعات ما لا يغتفر في غيرها.
وأما إن كان عن طريق التعاقد بان يلتزم كل واحد بدفع أقساط معينة ويلتزم له بتعويض لما يصيبه فهذا لا يُخرِجه عن صورة العقد المحرم كونه يراد منه التعاون والتكافل وكذا لا يغير من الحقيقة شيئاً تسميته عقد تأمين تعاوني أو إسلامي أو غير ذلك فالعبرة بجوهره وحقيقته وهي هنا التزام بما لا يلزم ومشتمل على شبهة المحاذير السابقة.
والذي يظهر من كلام المجوزين للتأمين التعاوني أنهم يريدون إنشاء تعاقد في هذا المجال يدل على هذا تسميته عقداً حيث يوحي بأنه التزام كما يدل عليه أيضاً وصفهم له بأنه تبادلي. يقول: الدكتور محمد بلتاجي: "لابد أن يكون تعاونياً
…
وتبادلياً لأن لكل من المشتركين فيه أصلاً نفس الحقوق والواجبات " [88] فوصفه بأنه تبادلي يقتضي أنه عقد معاوضة لأن البيع هكذا أصله مبادلة مال بمال [89] .
ومن ذلك أيضاً ما يرد في كلامهم عن التأمين التعاوني من قولهم:"أطراف التعاقد". "نظاماً تعاقدياً". "ومن ثم يتفقون فيما بينهم على قسط الإسهام ونوع الخطر المُؤَمن منه ومبلغ التأمين"[90] .
يقول محمد بلتاجي: "يصبح الاتجاه إلى تكون التعاونيات الإسلامية أمراً مطلوباً ليس لأنه بديل عن الزكاة والصدقات والتزام بيت المال بل هو يؤازرها بتعاقدات ااختيارية "[91] .
ويقول: "فهل هناك مانع من قيام نظم تعاقدية اختيارية تؤازر هذا النظام؟ إن ذلك فيما نرى أمر مطلوب
…
" [92] .
فكل هذه التعبيرات وغيرها تدل على أنهم يعنون بالتأمين التعاوني ما يتم عن طريق التعاقد الذي يلتزم فيه المستأمن بدفع أقساط معينة ويلتزم له بدفع تعويض عن آثار خطر ما وهو بهذه الكيفية لا يخرج عن صورة عقد التأمين الممنوع ولا يفيد كونه يراد منه التعاون أو يسمى تعاونياً كما لا يفيد أيضاً وصفه بأنه اختياري فما يسمون عقد تأمين تجاري يكون اختيارياً وهم لا يجوزنه فكذلك ما يسمونه تعاونياً بل إن عقد الربا يكون اختيارياً بين أصحابه ولا يحله ذلك وبهذا يتبين أن مثل قولهم "تعاقدات اختيارية" لا معنى منه.
وأما دعوى قيام الحاجة إلى مثل هذا العقد [93] فهي في ظل الإسلام لا تعد أن تكون خرافة لا أساس لها فعند التطبيق الكامل للإسلام لن يكون هناك حاجة إليها أبداً والذين يدعونها ينطلقون فبتقديراتهم من واقع مجتمعات لا تطبق الإسلام في الأموال فلو طبق لما قامت الحاجة المدعاة كما لم تقم هذه الحاجة في الماضي عندما كان يطبق نظام الإسلام كاملا.
هذا ما انتهيت إليه فيما يسمى التأمين التعاوني مع التسليم بأن التبرعات يغتفر فيها ما لا يغتفر في المعاوضات إلا أن التبرعات تتم من طرف واحد دون التزام من الطرف الآخر وكذا ما يتم بطريق المواساة في أوقات المجاعة كما في الأحاديث المتقدمة وما لم ير فيه المسلمون بأساً من النهد لأن ما يقدم للأكل مبني على المكارمة لا التشاح فكل ذلك يدل على جواز ما يتم من طريق التبرع والإحسان والمواساة والمكارمة- وخلط الإزواد في السفر لأجل ذلك وطلباً للبركة- لكن لا يدل هذا على جواز إنشاء عقود تبادلية فيها التزامات من أطراف العقد ولو كان القصد منها التعاون لأن جوهرها في الحقيقة معاوضة مادامت مبنية على تعاقد والتزام من أطراف التعاقد وهو التزام بما لا يلزم وترد عليه شبهة المحاذير السابق بيانها
…
والله سبحانه وتعالى أعلم و صلى الله وسلم - وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه وآخر دعوانا أن الحمد لله..
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
انظر كتاب الخطر في التامين البحري تأليف محمود الشرقاوي ص 31 الدار القومية للطباعة والنشر بالقاهرة 1385هـ.
[2]
انظر الوسيط لعبد الرزاق السنهوري 7/1906 دار النهضة العربية بالقاهرة 1968م.
[3]
راجع السابقين.
[4]
انظر الوسيط 7/1085.
[5]
حاشية ابن عابدين (رد المحتار 4/170) الطبعة الثانية 1386 هـ طبعة مصطفى الحلبي.
[6]
انظر عقود التأمين من وجهة الفقه الإسلامي لمحمد بلتاجي ص 26 و27 الناشر دار العروبة الكويت1402 هـ والتأمين وموقف الشريعة الإسلامية منه لمحمد الدسوقي ص 75 المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالقاهرة 1387 هـ.
[7]
لم يأت ذكر للخسارة مع احتمال حصولها والذي يظهر أنه ربح محدد عند التعاقد بنسبة معينة ويزيد الأمر وضوحاً رأى محمد عبده في أن ربا النسيئة لا يكون إلا في الديون ولا يكون في العقود عند إنشائها فقد جاء في تفسير المنار 3/97 طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب أنه لا يدخل في الربا الجلي المحرم بنص القرآن من يعطى آخر مالا يستغله ويجعل له من كسبه حظاً معيناً.
وهذا وإن كان من صياغة تلميذه رشيد رضا إلا أنه أقره كما جاء في مقدمة التفسيرِ المذكور 1/15 أن أستاذه الشيخ كان يقرأ ما يكتبه عمه ويقره.
وقد تبعه في هذا الرأي تلميذه رشيد رضا انظر كتابه الربا والمعاملات في الإسلام ومحمود شلتوت انظر مجلة لواء الإسلام العددان 11و12 وعبد الكريم الخطيب انظر مجلة البنوك الإسلامية عدد 11 وغيرهم.
ومقتضى ما تقدم أن محمد عبده يحلل القرض بفائدة ولذا لم يتوقف بالإجابة بالجواز فيما سئل عنه في شأن العقد المذكور.
[8]
انظر التأمين لعيسى عبده ص 31 دار البحوث العلمية بالكويت.
[9]
انظر الإسلام والحياة ص 216 وهو من تأليف المذكور.
[10]
انظر بحث التَأمين له المقدم لندوة التشريع الإسلامي بالجامعة الليبية عام 1392 هـ.
[11]
انظر له رأى الدين بين السائل والمجيب ص 186 وما بعدها- دار الفكر- 1392 هـ.
[12]
انظر أصول الفقه الإسلامي ص 382 وما بعدها طبع بواسطة المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب بالقاهرة عام 1382 هـ وهو مجموعة البحوث المقدمة للمؤتمر الذي عقد بدمشق 16 ـ21شوال 1380هـ. ومجلة العربي العددان 192، 195 والمعاملات الحديثة لعبد الرحمن عيسى.
[13]
انظر المراجع المتقدمة.
[14]
صحيح مسلم3/1153 كتاب البيوع رقم 4 بترقيم محمد فؤاد عبد الباقي- دار إحياء الكتب العربية- بمصر.
[15]
انظر النووي على مسلم 10/156-157 طبعة -المطبعة المصرية- والمقدمات الممهدات لأبى الوليد بن رشد 2/ 222 طبعه- مطبعة السعادة - بمصر وبداية المجتهد 2/153 الناشر- مكتبة الكليات الأزهرية-.
[16]
انظر الوسيط 7/ 1140 وأصول الفقه الإسلامي 461.
[17]
انظر من فقه السنة ص 36- 37 الطبعة الأولى عام1405 هـ.
[18]
انظر من فقه السنة ص 36- 37 الطبعة الأولى عام1405 هـ.
[19]
انظر من فقه السنة ص 36-37 الطبعة الأولى عام1405 هـ.
[20]
انظر الوسيط 7/ 1218.
[21]
انظر أصول الفقه الإسلامي ص 401.
[22]
انظر بحث التأمين للشيخ علي الخفيف ص 6 وعقود التأمين لمحمد سلام مدكور مجلة العربي العدد 195.
[23]
سورة النساء آية 29
[24]
انظر الأم 3/ 2-3 للإمام الشافعي وبهامشه مختصر المزني - طبعة دار الشعب - والمقدمات الممهدات2/ 222.
[25]
انظر الفروق للقرافي 1/150 بهامشه تهذيب الفروق - دار المعرفة للطباعة والنشر- بيروت وبداية المجتهد 2/327 والمغنى لابن قدامة 5/657 الناشر- مكتبة الجمهورية العربية- بمصر ومكتبة الرياض الحديثة-.
ويجب أن يعلم أن مذهب مالك فيما يستباح فيه الغرر يشترط أن يكون من باب الإحسان المحض حالياً من أي صفات المعاوضة أي تكون الرغبة محضة لتصد الهبة والتبرع وليس عقد التأمين هكذا.
[26]
انظر مصادر الحق في الفقه الإسلامي 3/ 32-33 والوسيط 7/ 089 1 وكلاهما للمذكور.
[27]
1لوسيط 7/1087.
[28]
ص 59 وما بعدها.
[29]
انظر مجلة العربي العدد 192.
[30]
انظر أصول الفقه الإسلامي ص 401 وما بعدها.
[31]
تقدم في أول البحث.
[32]
انظر أصول الفقه الإسلامي صر 402 وما بعدها.
[33]
انظر الوسيط 7/ 1139.
[34]
انظر طرفا من ذلك من فقه السنة ص 100 وما بعدها.
[35]
انظر نظام التأمين لمصطفى الزرقا ص 25 وأصول الفقه الإسلامي ص 404 وما بعدها.
[36]
انظر أصول الفقه الإسلامي ص 406.
[37]
سورة المائدة الآية 90 -91 وانظر تفسير الطبري2/357 -359 و7/32-35 جامع بيان عن تأويل آي القرآن لابن جرير الطبري الطبعة الثالثة طبعه-مصطفى الحلبي - بمصر، وتفسير القرطبي 3/52 الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله القرطبي الطبعة الثالثة عن - طبعة دار الكتب المصرية-.
[38]
انظر الوسيط 7/1087.
[39]
أصول الفقه الإسلامي ص 398 وانظر بحث الخفيف ص 17.
[40]
أصول الفقه الإسلامي ص 399.
[41]
المصدر السابق ص 399
[42]
عقود التأمين من وجهة الفقه الإسلامي ص 117.
[43]
انظر بداية المجتهد 2/123 ونيل الأوطار شرح منتقى الأخبار 5/166 لمحمد بن علي الشوكاني الطبعة الثالثة- ملتزم الطبع والنشر مصطفى الحلبي-.
[44]
في هذا خلاف أصولي لا مجال لذكره هنا راجع إن شئت الإحكام في أصول الأحكام لا بن حزم 1/52 وما بعدها - منشورات دار الآفاق الجديدة - بيروت. والقواعد النورانية لشيخ الإسلام ابن تيمية ص184 وما بعدها تحقيق الفقي - مطبعة السنة المحمدية -.
[45]
انظر أصول الفقه الإسلامي ص 387.
[46]
انظر المصدر السابق ص 388.
[47]
انظر المصدر السابق ص515.
[48]
انظر المصدر السابق ص 404.
[49]
انظر المصدر السابق ص 410.
[50]
انظر حاشية ابن عابدين 4/ 70 ا- ا 17.
[51]
أصول الفقه الإسلامي ص 410.
[52]
انظر شرح الدر المختار بحاشية ابن عابدين 6/ 25 ا-127.
[53]
انظر بحث الأحمد السنوسي في مجلة االأزهر 25/232-303.
[54]
سورة النساء آية 33.
[55]
صحيح البخاري بشرح فتح الباري5/.19 و 326 رقم 2563 بترقيم محمد فؤاد عد الباقي- المطبعة السلفية – وصحيح مسلم 2/1141 و 1142 و 1143 حديث رقم6و7.
[56]
انظر الفروق للقرافي 4/22 وما بعدها.
[57]
انظر أصول الفقه الإسلامي ص 410.
[58]
عاقلة الرجل عصبته التي تعقل عنه: أي التي تؤدي عنه دية الخطأ.
[59]
انظر أصول الفقه الإسلامي ص 412.
[60]
انظر المصدر السابق ص 517.
[61]
انظر المصدر السابق ص 473 وما بعدها.
[62]
راجع إن شئت المستصفى لأبي حامد الغزالي ص250 وما بعدها تحقيق محمد أبو العلا الناشر- مكتبة الجندي - بالقاهرة والاعتصام للشاطيى 2/ 66 وما بعدها الناشر - دار التحرير للطباعة والنثر-.
[63]
انظر أصول الفقه الإسلامي ص 464 و476 وما بعدها.
[64]
سوره المائدة آية 3
[65]
سورة الحج آية 78.
[66]
تفسير القرطبي 12/ 101
[67]
انظر أصول الفقه الإسلامي ص- 414 وما بعدها.
[68]
انظر أصول الفقه الإسلامي ص 473.
[69]
سورة النساء آية 29.
[70]
انظر رأى الدين بيت السائل والمجيب ص186 وما بعدها.
[71]
سورة يوسف آية 72.
[72]
انظر بداية المجتهد 2/ 234-235 والمغنى 5/ 722 وحديث الرقية بأم القرآن رواه البخاري ومسلم. انظر صحيح البخاري بشرح فتح الباري4/453 رقم الحديث 2276 صحيح مسلم 4/ 1727-1728 كتاب السلام حديث رقم 65 و 66.
[73]
1لوسيط 7/ 1089.
[74]
من هؤلاء الشيخ محمد أبو زهره وبحثه في أصول الفقه الإسلامي ص 526 ومحمد الدسوقي في كتابه التأمين وموقف الشريعة منه ص 39 1 وما بعدها المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالقاهرة عام 387 اهـ. وحسين حامد حسان في كتابه حكم الشريعة في عقود التأمين ص 136 وما بعدها دار الاعتصام. وعباس حسنى في كتابه عقد التأمين في الفقه الإسلامي والقانون الوضعي ص 73 ومحمد بلتاجى في كتابه عقود التأمين ص200 وما بعدها.
[75]
أي كاد يفنى.
[76]
صحيح البخاري بشرح فتح الباري 5/128 رقم 2483 ومسلم 3/1537 صيد رقم 21 واللفظ للبخاري.
[77]
انظر فتح الباري 5/129.
[78]
النهاية في غريب الحديث والأثر 5/135 تحقيق الطناحى طبعة عيسى الحلبي.
[79]
أملقوا: أي افتقروا.
[80]
برك: عليه: أي دعا بالبركة.
[81]
إحتثى: من الحثى وهو الأخذ بالكفين.
[82]
صحيح البخاري بشرح فتح الباري 5/128 رقم الحديث 2484 وصحيح مسلم 3/1354-1355القطة رقم الحديث 19 وروى نحوه عن أبى هريرة 1/55-56 كتاب الإيمان رقم الحديث 44.
[83]
أرملوا: أي فني زادهم وأصله من الرمل كأنهم لصقوا بالرمل من القلة كما قيل في قوله تعالى: {ذَا مَتْرَبَةٍ} البلد/16.
[84]
صحيح البخاري بشرح فتح الباري 5/128-129 رقم 2486 ومسلم 3/944 ا-1945 فضائل الصحابة رقم 167
[85]
في حديث سلمة لم يذكر فيه التسوية في القسمة إلا أن يقال إن مثل هذا داخل في موضوع المعجزات فلا يستدل به لهذا الباب أصلا وهذا هو الظاهر.
[86]
انظر فتح الباري 5/ 129 وعمدة القاري شرح صحيح البخاري 13/ 40 و. 5 للعيني الناشر دار الفكر.
[87]
يدل لهذا ما رواه أبو عبيد في الغريب عن الحسن قال: "أخرجوا نهدكم فإنه أعظم للبركة وأحسن لأخلاقكم "انظر فتح الباري 5/ 129وقال العيني: "وحكى عن عمرو بن عبيد عن الحسن فساقه وزاد "وأطيب لنفوسكم "عمدة القاري 13/ 40والله أعلم بالصواب.
[88]
عقود التأمين ص 215.
[89]
انظر المصباح المنير 1/77 طبعة مصطفى الحلبي.
[90]
عقود التأمين من وجهة الفقه الإسلامي ص 233.
[91]
المصدر السابق ص 236.
[92]
المصدر السابق ص 241.
[93]
انظر المصدر السابق 232.
البدع وآثَارُهَا السَّيِّئَة
للشيخ عبد الكريم مراد
أستاذ مشارك بكلية الشريعة بالجامعة.
الحمد لله الذي أكمل لنا ديننا وأتم علينا نعمته ورضي لنا الإسلام دينا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده المصطفى ورسوله المجتبى المبعوث رحمة للعالمين، فتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا، ترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
وبعد فقد صدق النبي صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ"فإن البدع قد فشت ومدت أعناقها حتى أصبحت سننا ثابتة وشرائع مقررة حسبها العامة والجمهور دينا لا يرون الحق غيره. والمتمسك بمحض السنة عندهم كالخارج عنها. ولقد صدق حذيفة رضي الله عنه: "والله لتفشون البدع حتى إذا ترك شيء منها قالوا: تركت السنة". والمؤمن المتبصر في أمر دينه لا يشك في أن اتباع البدع خروج عن الصراط المستقيم ورمى في عماية وضلالة. أعاذنا الله منها.
وهذه كلمة موجزة منتخبة من كلام أئمة الإسلام مثل شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام أبي إسحاق الشاطبي وغيرهما رحمهم الله في معنى البدعة شرعا وذمها وسوء منقلب أهلها مع إلقاء الضوء على الاستحسان الفقهي والاستدلال المرسل المسمى بالمصلحة المرسلة حتى يتبين أن البدع ليست من هذين الأصليين الفقهيين في ورد ولا صدر ولا تبقى لأحد شبهة في أنه ليس في البدع مستحسن وفي أن كل بدعة ضلالة.
معنى البدعة:
أصل مادة (بدع) معناه الاختراع على غير مثالا سابق. ومنه قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي مخترعاهما لا عن مثال سابق متقدم. والبِدْع: الشيء الذي يكون أولاً، يقال: فلان بدع في هذا الأمر أي أولٌ لم يسبقه أحد. ومنه قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُل} أي ما كنت أول رسول أرسل قد أرسل قبلي كثيرون [1] .
ومن هذا المعنى سميت البدعة بدعة، فإحداثها واستجراحها للسلوك عليها هو: الابتداع، وكيفيتها وهيئتها هي: البدعة.
وقد يسمى العمل المعمول على هذا الوجه أيضا بدعة.
تعريف البدعة:
البدعة شرعا: هي طريقة مخترعة في الدين تضاهي الطريقة الشرعية يقصد بالسلوك عليها التعبد لله تعالى.
شرح التعريف: (طريقة) الطريقة والطريق والسبيل والصراط والسنة ألفاظٌ معناها واحد وهو: ما رسم للسلوك عليه.
(مخترعة في الدين) محدثة فيه على غير مثال سابق من الشرع. خرج بهذا القيد كل ما يظهر لبادئ الرأي أنه مخترع مما له أصل في الشرع كجمع القرآن وتدوين السنن.
وإنما قيدت بالدين لأن البدعة تحدث في الدين وإليه يضيفها صاحبها وهو المبتدع، فلو كانت مخترعة في الأمور الدنيوية على الخصوص لم تسم بدعة كالمخترعات الحديثة وسائر مالا عهد به فيما تقدم من الزمان.
(تضاهي الطريقة الشرعية) أي تشابهها يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية وهو: التعبد لله تعالى وفي الحقيقة هي مخالفة لظاهر الشريعة من جهة ضرب الحدود وتعيين الكيفيات والتزام الهيئات الخاصة أو الأزمنة المعينة مع الدوام ونحو ذلك كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد ورفع الأيدي في الدعاء جماعيا بعد الصلوات الخمس على الدوام واتخاذ يوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم عيدا مضاهاة للنصارى في عيد ميلاد عيسى عليه السلام، وقد أحدث عيد الميلاد هذا في الإسلام بعد المائة السادسة من الهجرة لم يفعله السلف مع قيام المقتضى له وعدم المانع منه ولو كان هذا خيرا محضا أو راجحا لسبق إليه السلف من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيماً له منا وهم على الخير أحرص وإنما كمال محبته صلى الله عليه وسلم وتعظيمه في متابعته وطاعته وهي طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين تبعوهم بإحسان [2] .
وكذلك صوم يوم النصف من شعبان وقيام ليلته. والحديث الذي رواه ابن ماجه في ذلك ضعيف جدا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فضل ليلة النصف من شعبان مختلف فيه بين أهل العلم من السلف والخلف وأما صوم يوم النصف مفردا فلا أصل له وكذلك ما أحدث في ليلة النصف من الاجتماع العام للصلاة الألفية في المساجد الجامعة ومساجد الأحياء مكروه لم يشرع. والحديث الوارد في الصلاة الألفية موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث. وسميت بالصلاة الألفية لقراءة سورة الإخلاص فيها ألف مرة.
وكذلك صوم يوم أول خميس من رجب وقيام ليلة تلك الجمعة والصلاة فيها المعروفة عند الجهال بصلاة الرغائب المحدثة في الإسلام بعد المائة الرابعة من الهجرة. والحديث في ذلك أيضا موضوع.
والبدعة لو كانت لا تضاهي الأمور الشرعية ولا تشابهها لم تكن بدعة شرعا بل تصير من باب الأفعال العادية.
(يقصد بالسلوك عليها التعبد لله تعالى) هذا إتمام لمعنى البدعة إذ هو المقصود بابتداعها.
خرج بهذا القيد العادات، فكل ما أحدث مما لم يقصد به التعبد لا يسمى بدعة شرعاً. ومن سمى ذلك بدعة فهو إما ملبس على غيره أو جاهل بمواقع السنة والبدعة فلا يكون قوله معتدا به ولا معتمدا عليه.
والتعريف يشمل البدع التركية فإن من ترك شيئا من المطلوبات الشرعية تدينا فهو مبتدع قطعاً حيث تدين بضد ما شرعه الله تعالى.
وأما الترك إذا كان لغير التدين من كسل أو لتضييع أو نحو ذلك من الدواعي النفسية فلا يكون بدعة بل هو عائد إلى المخالفة للأمر فيكون التارك عاصياً لمخالفة ما أمر الله تعالى به.
كل بدعة ضلالة:
ذم البدع والمحدثات في الدين عام لا يخص محدثةً دون محدثةٍ. والأدلة الشرعية تدل على العموم من وجوه:
الأول: أنها جاءت مطلقة عامة على كثرتها لم يقع فيها استثناء البتة ولم يأت ما يقتضي أن من البدع ما هو هدى، فلو كان هنالك بدعة يقتضي النظر الشرعي فيها الاستحسان لأشير إلى ذلك في آية أو حديث لكنه لا يوجد.
فدل ذلك على أن تلك الأدلة بأسرها على حقيقة ظاهرها من الكلية والعموم لا يتخلف عن مقتضاها فرد من أفراد البدعة.
الثاني: أنه قد تقرر أن كل قاعدة كلية ودليل شرعي إذا تكررت في مواضع كثيرة ولم يقترن بها تقييد ولا تخصيص مع تكرارها فذلك دليل على بقاء تلك القاعدة على مقتضى ظاهر لفظها من العموم مثل قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . وقوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى} وما أشبه ذلك.
وما نحن بصدده من هذا القبيل إذ جاء في الأحاديث المتعددة والمتكررة في أوقات شتى وبحسب الأحوال المختلفة أن كل بدعة ضلالة وأن كل محدثة بدعة، ونحو ذلك من العبارات التي تدل على عموم ذم البدع والمحدثات في الدين ولم يأت في آية ولا حديث تقييد ولا تخصيص ولا ما يفهم منه خلاف ظاهر العموم والكلية فيها.
فدل ذلك دلالة واضحة على أن تلك الأحاديث على ظاهرها من العموم والإطلاق.
الثالث: إجماع السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان على ذم البدع بدون استثناء والهروب عنها وعن أصحابها.
فهذا بحسب الاستقراء إجماع ثابت يدل على أن كل بدعة مذمومة.
الرابع: أن معنى البدعة ومفهومها يقتضي عموم ذم البدع كلها بدون استثناء لأنه باب مضادة الشارع واطراد للشرع، وكل ما كان كذلك فممتنع أن ينقسم إلى: حَسن وقبيح وأن يكون منه ما يمدح ومنه ما يذم إذ لا يصح في معقول ولا منقول استحسان مشاقة الشارع ومخالفته [3] .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في اقتضاء الصراط المستقيم (268) بعد الكلام على أعياد الكفار والمشركين: "ومن المنكرات في هذا الباب سائر الأعياد والمواسم المبتدعة لما في ذلك من المشابهة للكفار ولأنها من البدع".
وهذه المواسم إنما نهى عنها لما حدث فيها من الدين الذي يتقرب به إلى الله تعالى. فما أحدث من المواسم والأعياد فهو منكر وإن لم يكن فيه مشابهة لأهل الكتاب والمشركين لأن ذلك داخل في مسمى البدع والمحدثات فيدخل في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة"، وفي رواية النسائي:"وكل ضلالة في النار"، وفي حديث العرباض ابن سارية الصحيح:"وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة". رواه أبو داود وغيره.
وقوله: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"متفق عليه ولمسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد".
واعلم أن هذه القاعدة وهي الاستدلال بكون الشيء بدعة على كراهته سواء بلغت الكراهة التحريم أولم تبلغه هي قاعدة عظيمة دل عليها السنة والإجماع مع ما في كتاب الله من الدلالة عليها أيضا.
وأما ما ثبت حسنه بدليل شرعي فليس من البدع الشرعية فيبقى العموم محفوظاً لا خصوص فيه إذ البدعة شرعا: ما لم يدل عليه دليل شرعي.
تقسيم البدعة إلى: حسنة وسيئة تقسيم محدث لا يدل عليه دليل شرعي:
فإن قيل إن غير واحد من العلماء قسم البدعة إلى قسمين: بدعة حسنة وبدعة سيئة مثل النووي وملا علي القاري وغيرهما بدليل قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صلاة التراويح: "نعمت البدعة هذه"، وبدليل أشياء من الأقوال والأفعال أحدثت بعد عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ليست مكروهة بل حسنة للأدلة الدالة على ذلك من الإجماع أو القياس وقد بسط القول في ذلك أبو العباس شهاب القرافي من المالكية فقال: "اعلم أن الأصحاب فيما رأيت متفقون على إنكار البدع نص على ذلك ابن أبى زيد وغيره والحق التفصيل وأنها خمسة أقسام:
الأول: واجب وهو ما تناولته أدلة الوجوب وقواعده من الشرع كجمع القرآن وتدوين الشرائع إذ خيف عليها الضياع.
الثاني: محرم وهو ما تناولته أدلة التحريم وقواعده من الشرع كالمكوس والمحدثات من المظالم.
الثالث: مندوب وهو ما تناولته أدلة الندب وقواعده من الشرع كصلاة التراويح في المسجد جماعة.
الرابع: مكروه وهو ما تناولته أدلة الكراهة وقواعدها من الشرع كتخصيص بعض الأيام أو الليالي بنوع من العبادات. والزيادة في المندوبات المحدودة من هذا الباب والزيادة في الواجب أو عليه أشد في المنع.
الخامس: مباح وهو ما تناولته أدلة الإباحة وقواعدها من الشرع مثل اتخاذ المناخل للدقيق وغسل اليدين بالأشنان.
قال: فالبدعة تعرض على قواعد الشرع وأدلته فأي شيء تناولها من الأدلة ألحقت به من إيجاب أو تحريم أو غيرهما".
وقد قسم البدعة قبل القرافي شيخه عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام إلى الأحكام الخمسة.
وملخص الإيراد والمعارضة: ليست كل بدعة ضلالة.
أقول: قد تقدم الجواب عن ذلك في كلام الشاطيي وأشير إليه في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله وأعيد الجواب موجزاً لمسيس الحاجة إلى ذلك.
فأقول: إن هذا تقسيم محدث لا يدل عليه دليل شرعي بل هو تقسيم في نفسه متدافع منها ولا أساس له لأن البدعة الشرعية هي ما لم يدل عليه دليل شرعي فإذا دل دليل شرعي على وجوب أمر أو ندبه أو نحو ذلك لم يكن بدعة.
فالجمع بين عد بعض الأشياء من البدع وبين كون الأدلة تدل عليها من وجوب أو تحريم أو غيرهما جمع بين المتنافيين [4] .
قال في الدين الخالص: إن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لا يرضيان بدعة أي بدعة كانت. فلو كانت بدعة حسنة لما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة".يا لله العجب من أمثال هذه المقالة، ألم يعلموا أن في إشاعة البدع إماتة السنن وفي إماتتها إحياء الدين وعلومه.
والذي نفسي بيده إن دين الإسلام كامل تام غير ناقص لا يحتاج إلى شمس في إكماله وإتمامه. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإن شر الأمور محدثاتها وإن كل محدثة بدعة وإن كل بدعة ضلالة"، نص من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يحل لأحد أن يدفع في دلالته على ذم البدع، ومن نازع في دلالته فهو مراغم. وقال: لا يحل لأحد أن يقابل هذه الكلمة الجامعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلية وهي: قوله: "كل بدعة ضلالة"، بسلب عمومها وهو أن يقال: ليست كل بدعة ضلالة. فإن هذا إلى مشاقة الرسول – صلى الله عليه وسلم أقرب منه إلى التأويل.
وقال: وقصد التعميم المحيط ظاهر من نص رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة الجامعة فلا يعدل عن مقصوده بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
والمجادلة المحمودة إنما هي بإبداء المدارك وإظهار الحجج التي هي مستند الأقوال والأعمال من الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع نصا أو استنباطاً. وأما إظهار الاعتماد على ما ليس هو المعتمد في القول والعمل فليست هي طريقة أهل العلم بل هو نوع من النفاق في العلم والجدل والكلام والعمل.
قال: وأما صلاة التراويح فليست بدعة بل سنة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله فرض عليكم صيام رمضان وسننت لكم قيامه".
وكذلك صلاتها جماعة في المسجد ليست بدعة بل سنة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الشهر ليلتين بل ثلاثا وصلاها في العشر الأواخر مرات ثم تركها وقال لهم في الليلة الثالثة أو الرابعة لما اجتمعوا: "إنه لم يمنعني أن أخرج لكم إلا كراهة أن يفرض عليكم"، فعلل الترك بخشية الافتراض على الأمة.
وأما الجواب عن قول عمر رضي الله عنه "نعمت البدعة هذه"ففي قول الصحابي الذي لم يخالف فيه، قولان لأهل العلم:
أحدهما: حجة يقدم على القياس ويخص به العموم وهذا قول مالك والقديم للشافعي ورواية عن أحمد وقول بعض الحنفية.
والثاني: ليس بحجة لأن الصحابي لم تثبت عصمته يجوز عليه الخطأ والغلط.
وهذا قول عامة المتكلمين والجديد للشافعي واختاره أبو الخطاب [5] . وعلى القولين لا تصلح ولا تصح معارضة الحديث بقول الصحابي. وهو ظاهر. نعم أكثر ما في هذا هي تسمية عمر تلك بدعة.
وهذه تسمية لغوية لا شرعية وذلك أن البدعة في اللغة تعم كل ما فعل ابتداء من غير مثال سابق.
فلما كانت صلاة التراويح في عهد عمر بهذه الهيئة وهي اجتماعهم في المسجد على قارئ واحد مع إسراج المسجد عملا محدثا لم يعهد من قبل سماه بدعة.
فإذا دل نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على استحباب شيء أو إيجابه بعد موته أو دل على ذلك مطلقا ولم يعمل بذلك إلا بعد وفاته – صلى الله عليه وسلم صح أن يسمى بدعة في اللغة لأنه عمل مبتدأ كما أن نفس الدين الذي جاء به صلى الله عليه وسلم يسمى بدعة ومحدثا في اللغة كما قالت رسل قريش للنجاشي عن المهاجرين إلى الحبشة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هؤلاء خرجوا من دين آبائهم ولم يدخلوا في دين الملك وجاءوا بدين محدث لا يعرف"[6] .
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "البدعة ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، وأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعا وإن كان بدعة لغة فقوله –صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة"، من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيء. وهو أصل عظيم من أصول الدين.
وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية فمن ذلك قول عمر رضي الله عنه في التراويح: "نعمت البدعة هذه"، وروى عنه:"إن كانت بدعة فنعمت البدعة"[7] .
من آثار البدع السيئة:
من شؤم البدعة وآثارها السيئة أنها لا يقبل معها عمل من صلاة ولا صيام ولا صدقة وغيرها من القربات، وهي مانعة من الورود على حوض النبي صلى الله عليه وسلم ومانعة من شفاعته، وعلى المبتدع إثم من عمل ببدعته إلى يوم القيامة، وليس له توبة.
وقد تبرأ منه النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، يخاف عليه من سوء الخاتمة والعياذ بالله والبدعة لا يقبل معها عمل إما أن يراه بذلك عدم القبول مطلقا على أي وجه وقع عمل المبتدع وافق السنة أو خالفها أو أن يراد منه أنه لا يقبل ما ابتدع فيه من الأعمال خاصة دون ما لم يبتدع فأما الأول وهو أن المبتدع لا تقبل أعماله مطلقا سواء داخلتها بدعة أم لا، فيدل على ذلك أدلة:
منها ما صح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في القدرية وهو قوله: "فو الذي يحلف به عبد الله بن عمر لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما تقبله الله حتى يؤمن بالقدر"ثم استشهد بحديث جبريل الذي رواه مسلم.
ومنها ما في حديث الخوارج وهو قوله - صلى الله غليه وسلم -: "يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية"، بعد قوله:"تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم"الحديث. ومنها حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه المشهور بحديث الصحيفة المتفق عليه وفيه قوله: "المدينة حرم ما بين عير وإلى ثور، من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا".
والحديث عام يشمل كل حدث ينافي الشرع والبدع أقبح المحدثات وهو وإن كان خاصاً بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم فغيرها داخل في المعنى، وهذا الحديث من أشد ما يكون على أهل البدع.
وأما الاحتمال الثاني وهو أن يراد عدم قبول ما داخلت البدعة من الأعمال خاصة فذلك ظاهر جدا يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" متفق عليه ولمسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد".
وقوله: كل بدعة ضلالة.
والبدعة مانعة من الورود على حوض النبي صلى الله عليه وسلم ومن شفاعته فذلك للحديث الصحيح: "فليذاد رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال" وفي رواية: "أنا على الحوض أنتظر من يَرِد علىّ منكم فيؤخذ أناس دوني فأقول يا رب مني ومن أمتي فيقال: أما شعرت ما عملوا بعدك؟ وفي رواية: ما تدرى ما أحدثوا بعدك؟ فأقول: سحقا سحقا".
والمبتدع عليه إثم من عمل ببدعته إلى يوم القيامة فذلك لقول الله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْم} الآية وقوله صلى الله عليه وسلم: "من سن سنة سيئة فعمل بها بعده كان عليه وزرها ووزر من عمل بها". فما من بدعة يبتدعها أحد فيعمل بها من بعده إلا كتب على مبتدعها إثم من عمل بها زيادة على إثم ابتداعه أولا ثم عمله ثانيا.
وأيضاً فإذا كانت كل بدعة تستلزم رفع السنة التي تقابلها كان على المبتدع إثم ذلك زائدا على إثم الابتداع.
والتوبة محجوبة عن صاحب البدعة فيدل على ذلك حديث أنس رضي الله عنه المرفوع: "إن الله حجز أو قال حجب التوبة عن كل صاحب بدعة". رواه ابن أبي عاصم في السنة وقال الألباني: "صحيح بشواهده".
ويدل عليه ما في حديث الخوارج وهو قوله: "يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه".
ويدل على ذلك قوله في حديث الفرق: "وإنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله"، وعدم قبول التوبة من المبتدع يقتضي ظاهر الحديث عموم ذلك فهو محمول على العموم العادي لأن الغالب عادة في الواقع الإصرار من المبتدعة على البدع.
وأما براءة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من أهل البدع فيدل على ذلك قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} الآية وقوله صلى الله عليه وسلم: "من رغب عن سنتي فليس مني".
وقول ابن عمر رضي الله عنهما في أول فرقة من أهل البدع في الإسلام وهم القدرية: "إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وهم براء مني".
والآثار عن السلف في التحذير عن أهل الأهواء والبدع والابتعاد عن مجالستهم كثيرة.
والمبتدع يخاف عليه من سوء الخاتمة وذلك أن سوء الخاتمة لا يكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه، والحمد لله على ذلك وإنما يكون سوء الخاتمة لمن له فساد في العقل أو إصرار على الكبائر أو يكون مستقيما في أول أمره ثم تغيرت حاله وأخذ في طريق غير طريق الاستقامة فيكون عمله ذلك سببا لسوء عاقبته وخاتمته والعياذ بالله.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} الآية. وقال سبحانه: {َفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَاّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} . والمكر جلب السوء من حيث لا يفطن له وسوء الخاتمة من مكر الله إذ يأتي الإنسان من حيث لا يشعر.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة.
الفرق بين البدع وبين المصالح المرسلة والاستحسان
لما كان هذا المقام مزلة قدم لأهل البدع ومشتبها عليهم حتى استدلوا على البدع من جهته كان لابد من بيان الفرق بين البدع وبين الاستدلال المرسل المسمى بالمصالح المرسلة والاستحسان الفقهي حتى يتبين أن البدع ليست من المصالح المرسلة ولا من الاستحسان
فأقول أولا: إن المصالح المرسلة لابد فيها من اعتبار أمور:
الأول: الملائمة لمقاصد الشرع بحيث لا تتنافى مع أصل من أصوله ولا دليل من أدلته.
الثاني: أن النظر المصلحي إنما يكون فيما عقل معناه وجرى على المناسبات المعقولة التي إذا عرضت على العقول تلقتها بالقبول.
فلا مدخل للمصالح المرسلة في الأمور التعبدية ولا ما جرى مجراها لأن العبادات لا يعقل لها معنى على وجه التفصيل مثل الوضوء والتيمم والصلاة والصوم والحج وسائر العبادات.
ألا ترى أن الطهارات على اختلاف أنواعها قد اختص كل نوع منها بتعبد مخالف جدا لما يظهر لبادئ الرأي فإن البول والبراز خارجان نجسان يجب فيهما تطهير أعضاء الوضوء دون الاكتفاء على تطهير المخرجين فقط.
والتطهير من ذلك واجب مع نظافة الأعضاء وغير واجب في قذارتها بالأدران والأوساخ إذا فرض عدم وجود الحدث.
ثم التراب من شأنه التلويث يقوم مقام الماء الذي من شأنه التنظيف.
وأوقات الصلوات الخمس لا توجد فيها مناسبة تعقل لإقامة الصلوات فيها دون غيرها من الأوقات.
والصيام والحج نجد فيهما من التعبدات غير المعقولة شيئا كثيرا.
وهكذا توجد سائر العبادات إلا قليلا منها ظهر فيه معنى مناسب فهم من الشارع فاعتبر به.
لقد صدق على رضى الله عنه: "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه".
لذلك التزام الإمام مالك بن أنس رحمه الله في العبادات عدم الالتفات إلى المعاني وإن ظهرت لبادئ الرأي وقوفا منه رحمه الله مع ما فهم من مقصود الشارع في التعبدات من التسليم لها على ما هي عليه بخلاف العادات فهي جارية على المعاني المناسبة الظاهرة للعقول فإن مذهب مالك فيها الرجوع إلى المصالح المرسلة والاستحسان.
الأمر الثالث: أن المصالح المرسلة ترجع إلى حفظ ضروري من الضروريات فهو من باب الوسائل ومالا يتم الواجب إلا به.
أو ترجع إلى دفع جرح لازم فهو من باب التخفيف.
فإذا تقرر ذلك علم أن البدع مخالفة للمصالح المرسلة لأن موضوع المصالح المرسلة: ما عقل معناه على التفصيل مثل الأمور العادية فلذا كانت مظنتها بخلاف العبادات فليس حكمها حكم العادات لاهتداء العقول لها في الجملة وعدم اهتدائها لوجوه التقربات إلى الله تعالى. فلذا لا يقدم على اختراع عبادة لا أصل لها في الشرع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن أعمال العباد تنقسم إلى: عبادات يتخذونها دينا ينتفعون بها في الآخرة أوفي الدنيا والآخرة، وإلى عادات ينتفعون بها في معاشهم.
فالأصل في العبادات أن لا يشرع منها إلا ما شرعه الله تعالى.
والأصل في العادات أن لا يحظر منها إلا ما حظر الله تعالى" [8] .
ونكرر ونقول: إن المصالح المرسلة مرجعها إما حفظ ضروري فهو من باب الوسائل لا من المقاصد. أو رفع جرح لازم فهو راجع إلى التخفيف لا إلى التشديد.
فلا يمكن إذًا إحداث البدع من جهة المصالح المرسلة لأن البدع متعبد بها فليست وسائل بل هي من المقاصد عن أصحابها، ولأن البدع زيادة في التكليف فهي منافية للتخفيف، فلا حجة لأهل البدع في المصالح المرسلة أصلا.
وبذلك كله يعلم من قصد الشارع أنه لم يكل شيئا من التعبدات إلى آراء العباد فلم يبق إلا الوقوف عند ما حده في العبادات والزيادة عليه بدعة كما أن النقصان منه بدعة.
وثانيا أن الاستحسان أيضا مظنة شبهة لمن أراد أن يبتدع فقد يقول: "إن استحسنت كذا وكذا ففلان من العلماء قد استحسن".
لذلك كان لزاما من بيان معنى الاستحسان عند من اعتبره في الأحكام من أهل العلم حتى لا يغتر به جاهل ولا يحتج به مبتدع.
فنقول: قد اعتبر الاستحسان الإمامان: أبو حنيفة ومالك رحمهما الله والذي يُستقرى من مذهبهما أن مرجع الاستحسان هو العمل بأقوى الدليلين كما قال ابن العربي المالكي ويشعر به قول الكرخي من الحنفية حيث يقول: "إن الاستحسان هو العدول عن الحكم في المسألة بحكم نظائرها إلى خلافه لوجه أقوى".
وعرفه ابن العربي فقال: "إنه إيثار ترك مقتضى الدليل على طريق الاستثناء والترخص لمعارضته ما يعارض به في بعض مقتضياته".
وقسمه إلى عدة أقسام وذكر منها: ترك الدليل للعرف وتركه للمصلحة وتركه في اليسير لرفع المشقة ومثل لذلك.
وعرفه ابن رشد المالكي بقوله: "الاستحسان طرح للقياس وعدول عنه في بعض المواضع لمعنى يؤثر في الحكم يختص ذلك الموضع". والاستحسان على هذه التعريفات ليس بخارج عن الأدلة. والأدلة يقيد بعضها ويخصص بعضها بعضاً.
فلا حجة في الاستحسان لمبتدع ولا يمكن أن يتمسك به من أراد أن يستحسن بغير دليل أصلا.
وأما تعلق أهل البدع بالاستحسان على قول من عرفه بأنه: "ما يستحسنه المجتهد بعقله ويميل إليه برأيه أو أنه: دليل ينقدح في نفس المجتهد ولا تساعده العبارة عنه ولا يقدر على إظهاره".
فلم يعرف التعبد بذلك لا بضرورة ولا بنظر ولا بدليل من الشرع قاطع ولا مظنون. والاستحسان بهذا المعنى مصداق قول الإمام الشافعي رحمه الله: "من استحسن فقد شرع".
ومعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم قد حصروا نظرهم في الحوادث والوقائع التي لا نصوص فيها في الاستنباط والرد إلى ما فهموه من الأصول ولم يقل أحد منهم: "إني حكمت في كذا لأن عقلي استحسنه أو طبعي مال إلي من البدع وأهلها وأنت المسئول المرجو الاجابة أن تمتعنا بالإسلام والسنة والعافية بمنك وك هـ".
وختاما نستعصم اللهم رمك.
وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
لسان العرب.
[2]
اقتضاء الصراط المستقيم ص294.
[3]
الاعتصام للشاطبي.
[4]
الاعتصام للشاطبي.
[5]
الروضة لابن قدامة.
[6]
اقتضاء الصراط المستقيم.
[7]
جامع العلوم والحكم لابن رجب.
[8]
اقتضاء الصراط المستقيم ص 269.
القُرْآن الكَرِيْم مَصْدَرٌ لِلتَّاريخ
للدكتور بشير كوكو حميدة
أستاذ مساعد بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة
القرآن الكريم، كتاب الله المبين، والتنزيل الحكيم، لم ينزل ليكون سفرا في التاريخ أوفي العلوم أوفي الأدب أوفي غيرها من المعارف الإنسانية، وإنما جاء لهداية البشرية جمعاء. فهذه هي طبيعة القرآن التي ينبغي علينا أن نعيها. مصداقا لقوله تعالى في أول سورة البقرة المباركة:{آلم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} . فهو هداية الله وهديته إلى خلقه [1] قال تعالى: {
…
قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . المائدة 15-16. ومن هنا فإن القرآن الكريم كتاب دين وليس كتاب علم أرضي بمعنى أنه لا يشرح نظريات الهندسة أوقوانين الطب [2] ، ولنا أن نتساءل إذن عن مدار البحث الرئيسي في هذا الكتاب الحكيم، وعن موضوعه.
حقيقة الأمر أن موضوع القرآن هو:
أولاً: الإنسان وحياته التي تفضي به إما إلى عيشة راضية أو إلى نار حامية.
وثانيا: فإن بحثه هو إجلاء الحقيقة ودعوة البشر إليها.
وثالثا: فإن هدفه دعوة الإنسان إلى الحق المبين والنهج القويم [3] .
على أن القرآن يحوي بين دفتيه الكثير من العلوم والمعارف المختلفة. قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} . الأنعام:38 وقال جل شأنه: {َنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} . النحل:89 وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "من أراد العلم فعليه بالقرآن فإن فيه خبر الأولين والآخرين"[4] . وفي ما أخرج البيهقي عن الحسن أنه قال "أنزل الله مائة وأربعة كتب وأودع علومها أربعة منها التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، ثم أودع علوم الثلاثة الفرقان"[5] . إذن فالقرآن العظيم هو الجامع الشامل لكامل الدين. قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى
…
} الشورى: 13.
وفي تقديري
…
أنه ليس على المؤرخ حرج في أن يستنبط حقائق التاريخ من آيات الله البينات. فالقرآن مأدبة الله، وهو أدسم الموائد قاطبة. ويمكن لكل من أوتى حظا من العلم أن يتناول ما يناسبه من هذه المائدة الدسمة علما بأن فريقا من العلماء قد جوز استعمال بعض آيات القرآن في التصانيف والرسائل والخطب [6] . والتاريخ علم ويمكن أن نأخذه من القرآن. وعلى حد تعبير الزركشي:"وكل علم من العلوم منتزع من القرآن، وإلا فليس له برهان"[7] .
وفي المبتدأ ينبغي لي أن أثبت حقيقة ناصعة لا تقبل الشك ألا وهي أن ما ورد في القرآن الكريم من التاريخ حق لا ريب فيه. وآية ذلك أن القرآن كتاب عزيز: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} . فصلت:46. فلم يتصد للقرآن بالنقد والرفض في مطلع الدعوة الإسلامية إلا المشركون من أهل مكة الذين لم يؤمنوا بآيات الله سبحانه وتعالى وهي القرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم، فقالوا إن محمدًا كان يتلقى القرآن من قين (حداد) نصراني كان النبي عليه الصلاة والسلام يدخل عليه [8] . علماً بأن ذلك النصراني كان أعجميا لا يعرف العربية أو على الأقل لا يجيدها وفي هذا الصدد يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} .النحل:103.
ولا نزاع في أن زعماء المشركين بمكة كانوا يعلمون أن ما جاء به النبي الكريم صلى الله عليه وسلم حق قال تعالى: {
…
فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} .الأنعام: 33. فها هو أبو جهل- أحد صناديد قريش وسادتها- يقول قولته المشهورة حينما سئل عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فقال: "والله إن محمدًا لصادق، وما كذب محمد قط".
ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش!؟ " [9] . إذن فإن أبا جهل إنما كان ينطلق من منطلق النعرة الضيقة والتفاخر بين الأسر القرشية. فلم يعجب بعض القرشيين أن يكون من الهاشميين نبي يأتيه الوحي من السماء، وهم لا يدركون ذلك. فأقسموا بالله ألا يؤمنوا بالنبي – صلى الله عليه وسلم ولا يصدقوه [10] . هذا بالطبع أحد الأسباب الأخرى التي جعلت المشركين يقفون موقف العداء من الدعوة الإسلامية.
أما في العصر الحديث فقد تصدى للقرآن ونبي الإسلام بعض المستشرقين ومن ورائهم الكنيسة التي أشاعت بين الأوروبيين أن القرآن لم يأت بغير أساطير أستمد أصولها من المدراش والتلمود وبعض ما ذهب إليه الفكر المسيحي. بل إن التحريف قد أصاب القرآن في أكثر من موضع!! [11] . بيد أن الكنيسة التي أعماها التعصب ضد الإسلام والبغض له، لم تستطع أن تبين موقفا واحدا حدث فيه تحريف أو تغيير في القرآن، ولن تستطيع أن تفعل ذلك لأن القرآن محفوظ بعناية الله وما ينبغي لبشر أو شيطان أن يعبث فيه. وكان حريا بالكنيسة أن تتذكر أن التوراة والإنجيل هما اللذان أصابهما التحريف. وفي هذا الصدد يقول الطبيب الفرنسي والعالم المستشرق موريس بوكاي في كتابه التوراة والإنجيل والقرآن والعلم في ضوء المعارف الحديثة لما ما نصه:"لا يستطيع أحد أن يقول كيفَ كانت النصوص الأصلية، وما نصيب الخيال والهوى في عملية تحريرها أو ما نصيب التحريف المقصود من قبل كتبة هذه النصوص أو ما نصيب التعديلات غير الواعية التي أدخلت على الكتب المقدسة"[12] .
أما أعداء الله من المستشرقين الذين هاجموا القرآن فمنهم من البريطانيين: الفرد جيوم (A.Geom) وهـ. أ. ر. جِبْ (H.A.R.Gibb) ومن الفرنسيين: لوى ماسينيون، ومن المجريين: جولد تسيهر وهو يهودي أصلا، ومن الأمريكيين: كينيت كراج. ثم يأتي أعداء الإسلام من العرب المسيحيين أمثال: فيليب حتى المؤرخ اللبناني، وعزيز عطية سوريال المصري، ومجيد قدوري العراقي. وكل أولئك قد تميزوا بحقدهم على الإسلام والمسلمين.
ويتبع هذه القائمة تلاميذ المستشرقين من المسلمين الضالعين في ركابهم الآكلين من شتات موائدهم وعلى رأس هؤلاء الدكتور طه حسين في كتابه "الشعر الجاهلي""مسألة الانتحال والوضع في الشعر الجاهلي"تأكيدًا لنظرية الشك في كل ما جاء بالعربية من شعر ونثر ومن ذلك القرآن الكريم. فهو يرى أنه يتعين على الباحث أن يخضع كل ما ورد من أخبار الأمم السابقة وقصصهم في القرآن إلى هذا المنهج وهو الشك ويخلص من ذلك إلى أن القرآن ليس وحيا الهي وبذلك حقق هدفا من أهداف الاستشراق وهو أن القرآن موضوع وليس وحيا من الله، سبحانه وتعالى [13] . وفي هذه الضلالة التي تردى فيها طه حسين زعم أنه كان يحكم منهج ديكارت الفيلسوف الفرنسي. فضل الطريق وضلل تلاميذه [14] . وجدير بالذكر أن الإمام الغزالي قد سبق ديكارت لهذا المذهب. وما قرره ديكارت هو أنه يجب علينا ألا نقولَ عن شيء أنه حق إلا إذا قام البرهان على أنه كذلك. ومن الحقائق التي وصل إليها ديكارت في فلسفته:"أن ما وجد في الدين واضحا جليا فهو حق يجب أن يسلم به تسليما"[15] .
ومن هنا نستطيع القول بأن طه حسين لم يكن دقيقا فيما ذهب إليه عن مذهب ديكارت. وقد تبين لبعضهم أن الدكتور طه حسين كان واقعا تحت عبودية فكرية تمثلت في كتابه "الأدب الجاهلي"الذي كان ترديدا لآراء غلاة المستشرقين المتعصبين ضد العرب والإسلام أمثال: مرجيليوث الذي نقل طه حسين آراءه كلها في كتابه الأدب الجاهلي ونسبها إلى نفسه [16] ، وكتاب مرجليوث هذا هو "أصل الشعر العربي".
هذا، وقد رميت من هذا الاستطراد إلى أن القرآن حق لا يتطرق إليه الشك. وأن ما ذكره المستشرقون ومن سار في ركابهم لا يمس كتاب الله في قليل أو كثير على حد قول الشاعر:
كناطح صخرة يوما ليوهنها
فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
وعلى ذلك فما على المؤرخ إلا أن يعد عدته ويأخذ من القرآن ما يحتاج إليه في تدوين الأحداث التاريخية موقنا بأن هذا الكتاب أصدق وثيقة على وجه الأرض، وأنه قد سما بنظراته العلمية والتاريخية عن الارتباط بحوادث تاريخية أو قضايا علمية مشكوك في صحتها [17] .
على أن القرآن لم يفصل كثيرا من الحقائق عن المسائل الشرعية إذ ترك مسألة التفاصيل للرسول صلى الله عليه وسلم ليوضح ما غمض، وليفصل ما أجمل وليحلل ما أوجز. ومن هنا تأتى أهمية السنة المطهرة في التشريع الإسلامي. فإذا كانت هذه هي حال القرآن تجاه الأمور الشرعية، فمن الأولى أن يكون ذلك كذلك بالنسبة للتاريخ.
ولنا أن نتساءل لماذا لم يتناول القرآن الأحداث التاريخية بالأسلوب التاريخي المعهود؟ وفيما قدمت آنفا فإن من أهداف التنزيل دعوة البشرية إلى الحق وإلى سلوك النهج القويم. فالقرآن يتناول الأحداث بأسلوب إجمالي لأغراض الدعوة والإنذار والتبشير. ويتبع نفس الأسلوب وهو الإشارات الإجمالية في ذكر آيات الكون التي تشير إلى حكمة الله وراء خلق العالم [18] .
هذا ويمكن أن نقسم هذا الموضوع إلى فترتين متميزتين: الأولى عن القرآن وتاريخ الأمم السابقة، والثانية عن القرآن والحقبة الإسلامية. ولأن الحقبة الإسلامية قريبة منا نسبيا إذا ما قارناها بتاريخ الحضارات السابقة، وأن تاريخها قد سجل في كتب السيرة وكتب التاريخ الإسلامي عامة، فإني سأكتفي بالحديث في هذا المقام بما تيسر لي عن العهود القديمة السَابقة للإسلام.
أما عن الفترة الأولى فإن القرآن الكريم، فيما نعلم، قد تضمن قصص الأنبياء وأشار إلى أخبار الأمم السابقة. ويطلق بعضهم على هذا الجزء "أيَام الله"[19] . وتعني عند بعض المفسرين وقائع الله بأعدائه [20] .وعند آخرين معناها "نعم الله"[21] .ومهما يكن من شيء فإن تلك الأحداث والوقائع التاريخية عن الماضين من الأمم لتثبت أن للكون إلها واحدا أرسل رسله بالهدى ودين الحق. وهو الذي يحدد مصير الشعوب وأقدار الحضارات [22] .
ولهذه الأحداث التاريخية أهميتها إذ بين الله في القرآن أخبار الأمم الماضية وما فعله بها لكي يفهموا أمر الله وتوحيده [23] .
ولعله من المهم في عصرنا هذا تدوين علم الآثار القرآني بصورة أكبر لتصبح الرؤية بالنسبة للباحثين والدارسين واضحة. فالمؤرخون القدامى لم يستطيعوا تسجيل الأحداث بأسلوب التدوين التاريخي السليم. والآن، وبعد أن تم اكتشاف سجلات ووثائق كثيرة عن تلك الأحداث بدراسة الآثار ونتائج الحفريات، أضحى من اليسير شرح الإشارات القرآنية حول أيام الله وتوثيقها تاريخيا، وبالتالي تدوين الدعوة القرآنية بلغة التاريخ [24] .
إذا التفتنا بعد ذلك إلى تاريخ الأمم السابقة للإسلام في القرآن وبدأنا بالحضارة العربية في اليمن، ألفينا القرآن يشير إلى مملكة سبأ في سورة سبأ المباركة حيث يقول تعالى، وهو أصدق القائلين:{لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} سبأ: 15.
وبالرجوع إلى التفسير يتبين لنا أن سبأ أرض باليمن. ويقال إنها كانت قبيلة سميت باسم جدها من العرب [25] . ويقال إنها سميت بهذا الاسم لأنها كانت منازل ولد سبأ بن يشجب ابن يعرب بن قحطان [26] .
ومهما يكن من شيء فإن أقدم الحضارات بالجزيرة العربية قد وجدت- فيما يبدو- باليمن حيث قامت الدولة المعينية وحاضرتها معين (1300-.65 ق. م) ثم ورثتها الدولة السبئية (950-1115 ق. م) وعاصمتها مأرب. وكان للسبئيين أعمال عمرانية منها السدود كسد مأرب الذي بنى من الحجارة، وهو أعظم سد في الجزيرة العربية. وكان أشبه بخزان عظيم لمياه السيول التي تتكون من الأمطار الساقطة من الجبال. وثمة "قناطر وسدود وأحواض تدل على نبوغ أهل اليمن في فن العمارة وهندسة المباني ومعرفتهم بأنظمة الرى" [27] . فلا غرو فقد أشار القرآن الكريم إلى "الجنتين"ويعني بذلك البساتين التي كانت تحف جانبي الطريق أو عن يمين واديهم وشماله. وهما رمز الخصوبة والنماء. فقد وجدت في آثار سبأ لوحات وتماثيل من المرمر والرخام والبر ونز لسنابل القمح والبقر والخيل [28] . فضلا عن نقاء هواء سبأ الذي بينه القرآن في قوله تعالى:{وبلدة طيبة} .ووفق تفسير الجلالين فإن معنى طيبة "أنه ليس فيها سباخ ولا بعوضة ولا ذبابة ولا برغوث ولا عقرب ولا حية ويمر الغريب وفي ثيابه قمل فيموت القمل لطيب هوائها"[29] .
ولم يكن اقتصاد سبأ زراعيا فحسب، بل كانت منفتحة على العالم الخارجي ومزدهرة تجاريا إذ كان من أهم أعمال السبئيين الملاحة في المحيط الهندي والبحر العربي حيث كانوا يسيرون سفنهم فيها حسب الرياح الموسمية [30] .
وعلى الرغم من كل هذه النعم التي تمثلت في أوجه التطور المتعددة، والرخاء، وهناءة العيش إلا أن مدن سبأ وقراها كفرت بأنعم الله ولم تستجب لدعوة أنبيائه الذين بعث بهم إليها، والذين بلغت عدتهم ثلاثة عشر نبيا دعوا أهل سبأ لتوحيد الله الواحد الأحد الفرد الصمد. ولكنهم أعرضوا عن الإيمان وإجابة الرسل، ولم يشكروا لله أنعمه [31] . وآية ذلك أنهم كانوا يصرون على عبادة آلهتهم المتعددة ومنها عثتر (الزهرة) وذات حميم (الشمس) وذات بعدان (القمر) . قال تعالى على لسان هدهد سليمان عليه السلام عن بلقيس ملكة سبأ:{وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} . النمل24.
ومما يفسر إشارات الله تعالى هنا ما اكتشفه علماء الآثار عن هذه المعابد الكثيرة التي مازالت آثارها باقية تدل عليها بمأرب وغيرها [32] .
على أن بلقيس، ملكة سبأ، قد آمنت بالله وبرسوله سليمان عليه السلام. وحين آبت من أورشليم إلى بلادها شيدت هيكلا بمدينة مأرب لعبادة الله وحده. وقد أطلق عليه "هيكل سليمان"وترى منه الآن أعمدته الجرانيتية الضخمة وأسس من بقاياه مسجد يعرف الآن بمسجد سليمان عليه السلام بمدينة مأرب الحديثة التي تشغل الآن جانبا من المدينة الأثرية القديمة.
وأكبر الظن أن السبئيين لم يواصلوا عبادة الله على دين سليمان عليه السلام، بل ارتدوا إلى تقديس آلهتهم المتعددة القديمة وكان من الطبيعي أن يلقوا الجزاء وفاقا على كفرهم وصدهم عن سبيل الله إذ أرسل إليهم سيل العرم. فجرف ديارهم وجناتهم وبدلهم أشجارا ذوات ثمر مر لا يسمن ولا يغنى من جوع، ومن ذلك الخمط وهو الأراك، والأثل وهو نبات الطرفاء والسدر. قال تعالى:{فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ. ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَاّ الْكَفُورَ} . سبأ: 6 ا-17.
وبعد أن تصدع بناء سد مأرب في القرن الثاني من الميلاد، بعد أثنى عشر قرنا من الزمان، حلت الكوارث بالبلاد، وأصبح من العسير العيش فيها، فلم يملك الناس إلا أن يهاجروا إلى بلاد أخرى ويتفرقوا أيدي سبأ [33] . وقد نظمت أشعار في هذا الحدث التاريخي الكبير أذكر منها قول الأعشى:
وفي ذاك للمؤتسي أسوة
ومأرب عفا عليها العرم
رخام بنته لهم حمير
إذا جاء مواره لم يرم
فأروى الزرع وأعنابها
على سعته ماؤهم إذ قسم
فصاروا أيادي ما يقدرون
منه على شرب طفل فطم [34]
تلك إذن كانت حال الجنوب العربي فيما يتعلق بمعتقدات الناس.
أما في شمالي الجزيرة العربية فقد وجدنا ثمود- قوم صالح عليه السلام بوادي القرى الذي ذكر في الشعر حيث يقول الشاعر:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بوادي القرى إني إذن لسعيد
ويسمى ذلك الوادي وادي الحجر الذي ورد في القرآن الكريم قال تعالى: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} . الفجر: 9،0ويقع في شمال غرب المدينة المنورة بين خيبر وبحر القلزم. وفيه ديار ثمود [35] . وفي قرية الحجر بئر ثمود التي مر بها النبي- صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في طريقه إلى غزوة تبوك (رجب سنة 9 هجرية) فنهى أصحابه عن شرب مائها والوضوء منه للصلاة. وما كان من عجين عجنوه أمرهم أن يعلفوه الإبل ولا يأكلوا منه شيئا [36] ومن البين أن الرسول- صلى الله عليه وسلم خشي أن تحل لعنة ثمود على المجاهدين في سبيل الله فأمرهم بقوله:"لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم"[37] .
وفيما ورد من أخبار ثمود أنهم ورثوا أرض عاد التي أهلكها الله بذنوبها فعمروا الأرض، وفجروا العيون، وغرسوا الحدائق والبساتين، وشادوا القصور في السهول (للصيف) ، ونحتوا من الجبال بيوتا للشتاء، وتمتعوا بسعة العيش. بيد أنهم لم يحمدوا لله فضله عليهم، إذ أشركوا به، وعبدوا الأوثان [38] . ومن أصنامهم ود، وشمس، ومناف، واللات وغيرها [39] . وكما نعلم أن قريشا وغيرها كانت في الجاهلية تعبد بعض هذه الأصنام. وقد أرسل الله تعالى نبيه صالحا إلى ثمود ليوحدوا الله ولا يشركوا به شيئا. قال تعالى:{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . الأعراف: 73.
غير أن أصحاب الحجر قد كذبوا رسولهم صالحا، وأعرضوا عن آيات الله وهي الناقة وغيرها. بل عقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم. فما هي إلا أن أهلكهم الله بذنوبهم. قال تعالى:{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} . الأعراف: 78.
ويهمنا الآن أن آثار ثمود المتمثلة في بيوتهم المنحوتة في الجبال مازالت باقية إلى يومنا هذا ماثلة للعيان وهي تتفق مع ما ورد في كتاب الله الكريم حيث يقول تعالى: {وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ} . الحجر: 82. ويطلق على هذه الآثار اليوم "مدائن صالح ". بيد أن قصورهم التي شادوها في السهول ظلت مطمورة تحت أطباق الثرى بعد أن مرت عليها الدهور الطويلة.
والمأمول اليوم في الأوساط العلمية أن يوجه المسؤولون من العرب عنايتهم ويستثمروا جزءا من أموالهم في عمليات التنقيب عن آثار ثمود وغيرها سيما وأن صالحا عليه السلام وقومه كانوا عربا. فصالح أحد أنبياء العرب الأربعة وهم هود وصالح وشعيب ومحمد عليهم السلام [40] . وتحضرني بهذه المناسبة حقيقة وهي أن قصة هود عليه السلام وقومه، قبيلة عاد التي وردت في القرآن (الأعراف وهود والشعراء) قد صدقتها المكتشفات الأثرية الحديثة في منطقة الأحقاف [41] .التي تقع في شمال شرق حضرموت قرب البحر العربي.
ومن القصص القرآني قصة قوم لوط عليه السلام أهل سدوم- القرية التي كانت تعمل الخبائث وعلى رأسها ممارسة اللواط، ذلك الشذوذ الجنسي الذي لم يسبقهم أحد على مدار التاريخ الماضي إلى ممارسته. ولم تكن أفعالهم الخبيثة مقصورة على تلك الفاحشة فحسب، بل كانوا يفعلون المنكر علانية في ناديهم فلا يستترون. فلا غرو فقد تفشت فيهم الموبقات [42] . وما هي إلا أن أوحى الله إلى لوط عليه السلام أن يدعوهم إلى عبادة الله، وينهاهم عن ارتكاب الكبائر حتى صموا آذانهم، واستكبروا، وتحدوه أن يأتيهم بالعذاب من الله إن كان صادقا، بل توعدوه بالنفي من بلدهم [43] . فما كان من لوط إلا أن سأل ربه أن يوقع بهم العذاب الأليم على كفرهم وفجورهم. فسلط الله على مدنهم زلزالا جعل عاليها سافلها، وأتبع ذلك بوابل من الحجارة دمرتها تدميرا. قال تعالى:
ويعتقد بعضهم أن البحر الميت، المعروف الآن ببحر لوط وبحيرة لوط لم يكن موجودا قبل الزلزال الذي دمر سدوم وغيرها حتى صارت أخفض من سطح البحر بنحو أربعمائة متر! وقد جاءت الأخبار في السنين الماضية بأن المهتمين بالحفريات في الأردن قد اكتشفوا آثار مدن قوم لوط على حافة البحر الميت [44] . وليس ذلك بمستغرب فالله سبحانه وتعالى قد بين في كتابه العزيز أن تلك المدن تقع في طريق دائم يمر عليها الناس، حيث يقول:{وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} . الحجر: 76.
ولا نزاع في أن هذا الاكتشاف العظيم الذي قام به المهتمون بالآثار في الأردن حديثا يؤيد ما ورد في القرآن الكريم عن المؤتفكات أو المنخسفات وهي مدن قوم لوط. ولعل أعمال الحفر والتنقيب تسير قدما في هذا الحقل حتى تميط اللثام عن كثير من الحقائق التي أشار إليها الله تعالى في كتابه المبين، فتقنع المرتابين المتشككين في آيات الله البينات، وتزيد المؤمنين إيمانا على إيمانهم.
بعد هذه الإلمامة بشيء عما ورد في القرآن الكريم من إشارات عن تاريخ جزيرة العرب والشام، نتجه شطر العراق القديمة لنقف على بعض الإشارات القرآنية الخاصة بذلك البلد. والحديث عن العراق القديمة يجرنا بالضرورة إلى أن نتطرق إلى قصة إبراهيم عليه السلام.
فالخليل عليه السلام من أرض بابل. وبلدة أور الكلدانية التي تقع بين دجلة والفرات والتي تعرف اليوم باسم مغير هي مهده [45] . وكانت أور أعظم مدن السومريين وقد وجد علماء الآثار بها بقايا مملكة ازدهرت حول عام 2900 ق. م. وقد اكتشفوا من الكنوز والنفائس ما يرقى إلى مستوى المدنية المصرية القديمة. ومما يؤكد أن إبراهيم نشأ بأور أن المستر وولى المبعوث من قبل المتحف البريطاني في الأعوام 1922-1934 م قد وجد رقيما طينيا في حفرياته بإحدى دور السكن بأور مكتوبا عليه اسم إبراهيم، فسمى الشارع باسم إبراهيم الذي يقال إنه نشأ في ذلك الحي سنة 2000 ق. م [46] .
ولعل في هذا الاكتشاف، وهو برهان مادي، عن نشأة إبراهيم عليه السلام في مدينة أور ما يكفي للرد على تشكك الدكتور طه حسين وإلى ما ذهب إليه في كتابه الأدب الجاهلي حيث قرر أنه لم يقم دليل تاريخي وفق الطرق الحديثة بوجود إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وقصة هجرته إلى مكة وبناء الكعبة. حيث يقول:"للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما. ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلا عن إثبات هذه القصة"[47] . ويخلص الدكتور طه حسين إلى نتيجة عبر عنها في ما نصه: "أمر هذه القصة إذن واضح فهي حديثة العهد، ظهرت قبيل الإسلام واستغلها الإسلام لسبب ديني"[48] .
وكان قوم إبراهيم عليه السلام أهل أوثان وكان أبوه آزر نجارا ينحت الأصنام ويبيعها. أما إبراهيم فقد أنار الله بصيرته وهداه إلى صراط مستقيم [49] . قال تعالى:
هذا ولعله من الأوفق أن نرجع مرة أخرى للذين في قلوبهم مرض، والذين لا يؤمنون بما جاء في القرآن العظيم إلا بعد ثبوت الدليل التاريخي القاطع. فنقرر أن بلاد ما بين النهرين القديمة بابل، وأور، ونينوى، وآشور، ونمرود وغيرها لتزخر بالمعابد التي خصصت لعبادة آلهة متعددة كالإله شمش وهو الشمس، والقمر (نانار) ، والزهرة (عشتار)، والمريخ (مردوخ) ونابو (إله الكتابة) وغيرهم [50] . وكل هذه المعابد كانت تزخر بالأوثان وهي التماثيل التي كان الناس يعكفون لها ويقدسونها. الشيء الذي دفع إبراهيم عليه السلام ليحطم بعضها وفق ما ورد في القرآن الكريم. قال تعالى:{وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ. فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَاّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} .الأنبياء: 57ـ 58.
وفيما نعلم أن إبراهيم عليه السلام كان يغتنم الفرص ويحاور قومه ويجادلهم في معبوداتهم ليصل بهم إلى حقيقة أو نتيجة هي أن المعبود بحق هو الله وحده لا شريك له. فقد جاء في القرآن:
وهكذا تبرأ إبراهيم من شرك قومه بعد أن قال لهم إن الكوكب ثم القمر ثم الشمس ربى. قال ذلك على معنى الاستهزاء لهم لأنهم كانوا يعبدون الشمس والقمر والنجوم. فأنكر عليهم، فاستهزأ بهم، وقال لهم: أمثل هذا يكون الرب؟ [51] .
ومن آثار العراق القديمة التي وردت الإشارة إليها في كتاب الله الكريم تل النبي يونس بن متى، ذي النون، صاحب الحوت عليه السلام. وهذا التل الذي يطلق عليه الآن "تل التوبة"يقوم اليوم في داخل أسوار مدينة نينوى القديمة من أرض الموصل، وهي العاصمة الثانية بعد آشور [52] . ولعلنا نذكر ما ورد في سيرة النبي محمد- صلى الله عليه وسلم أنه سأل عداسا النصراني، غلام بنى ربيعة بالطائف الذي أحضر له قطفا من العنب حين جلس يستريح في ظل حائط مما عاناه من آلام الضرب بالحجارة من سفهاء الطائف وصبيانها وعبيدها. من أي البلاد هو؟ فقال عداس من نينوى. فقال عليه الصلاة والسلام:"أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ قال له: وما يدريك ما يونس؟ قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم: ذلك أخي يونس كان نبيا وأنا نبي"[53] .
ولعل آخر ما هدى إليه البحث الأثري في أيامنا هذه ما وافق القرآن الكريم في سورة الكهف. وقصة أهل الكهف معروفة. فأولئك الفتية الذين آمنوا بربهم ووحدوه، نأوا بأنفسهم عن قومهم المشركين الذين عبدوا آلهة متفرقة، وآووا إلى ذلك الكهف. قال تعالى: وهو أصدق القائلين:
{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً. إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} . الكهف: 9-.1) . وفي هذه السورة المباركة يقول تعالى:
وفي تفسير هذه الآية قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "أنا من القليل هم ثمانية سوى كلبهم"[54] .وقد ثبت بالدليل القاطع صحة هذا الرأي إذ كشف الدكتور معاوية إبراهيم، عميد كلية الآداب بجامعة اليرموك بالأردن، في حفريات جامعة الأردن، كشف أهل الكهف في مدينة أفسوس القديمة حيث عثر في كهف قديم على ثمانية هياكل بشرية ومعها هيكل كلب، وهو كلبهم قطمير وقد تم هذا الكشف العظيم منذ خمس أو ست سنين. ولعل الدكتور معاوية إبراهيم يستقصي كل ما يمكن استقصاؤه في هذا الشأن، ومن ثم ينشر نتيجة اكتشافه هذا في الأوساط العلمية العالمية، فيلقى بذلك ضوءاً ساطعا على هذا الموضوع.
هذا
…
ومن تحصيل الحاصل أن أقرر أن القرآن العظيم أدق وثيقة على وجه البسيطة. فلا يرقى التوراة والإنجيل إلى دقة القرآن وآية ذلك أن هذين الكتابين قد عهد الله بحفظهما للبشر. وهؤلاء إما نسوا حظا مما ذكروا به، وإما كتموا بعض ما لم ينسوا أو حرفوا فيه، وزعموا أنه من عند الله تعالى [55] . فالرسل السابقون كانوا يتلقون الكتب السماوية وهي التوراة والإنجيل والزبور في حالة الوحي معاني، ويعبرون عنها بعد رجوعهم إلى الحالة البشرية بكلامهم المعتاد لهم. ولذلك لم يكن فيها إعجاز [56] . أما القرآن فقد تكفل الله تعالى بحفظه حيث يقول:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . الحجر: 9. ولا نزاع في أن القرآن قد مزق حجاب الماضي وروى لنا تاريخ الرسل، وحوادث الأمم السابقة [57] .
.. بل أكد القرآن صدق القصص القرآني، وأنه رواية لأخبار حدثت في الواقع دون إضافة أي خبر لم يحدث بقوله تعالى:{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . يوسف: 111.
ومادام القرآن قد تفرد بهذه الصفات العظيمة فإن ما جاء فيه من قصص الأولين أمما وأفرادا، تاريخ لا يتطرق إليه الشك، وإن هدف من ذلك إلى الاعتبار والاتعاظ عسى أن يتطهر الناس من الأرجاس والفساد [58] . فضلا عن أن الله سبحانه وتعالى اتخذ من أنباء الغيب وأخبار الرسل والصالحين من عباده وأحاديث الأقوام الغابرين وسائل لشرح عقيدة التوحيد التي هي جوهر الدين، وما لقيه الأنبياء والمرسلون في سبيل بيان هذه العقيدة للناس من العنت والمتاعب والبلايا [59] ولا ننسى أن في قصص الأنبياء، وما لاقوه من إيذاء أقوامهم، وما تم لهم من نصر الله تعالى، تثبيتا للنبي محمد- صلى الله عليه وسلم، وتسرية عنه، وتأكيدا له أن نصر الله قريب [60] .
ولعله من الأوفق أن أشير هاهنا إلى الاختلاف بين القرآن والإنجيل فما يتعلق باحتواء الكتابين المقدسين على التاريخ. فالإنجيل يحوى بين دفتيه قسما يسمى "الأسفار التاريخية"، وهي خمسة أسفار تشتمل على قصص تاريخية منها قصة حياة المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، وتاريخه وعظاته ومعجزاته. وثمة سفر أطلق عليه "رسالة أعمال الرسل"وتشمل قصص معلمي المسيحية لاسيما بولس [61] . أما القرآن، وإن لم يكن كتاب تاريخ، إلا أن الأحداث التاريخية التي تضمنتها قصصه إن هي إلا وقائع تاريخية لا ريب فيها، ويستحيل ألا يتفق معها التاريخ الصادق الذي كتبه الثقات من المؤرخين. وآية ذلك أن علم القرآن "يقيني" في حين أن علم البشر لاسيما في مجال التاريخ علم "ظني"[62] .
إجمال القول إن القرآن الكريم أدق وثيقة سماوية بين يدي المجتمع البشرى. وبالتالي فهو أصدق مصدر للتاريخ ومن هنا ففي وسع المؤرخين على مر العصور أن ينهلوا من معينه الثر الذي لا ينضب. كيف لا وهذا الكتاب الحكيم الذي لا تحصى عجائبه قد حوى بين دفتيه عيون أخبار الأمم السالفة. وفي هذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: "ستكون فتن قيل وما المخرج منها؟ قال كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم "[63] .
وإذا كانت إشارات القرآن إلى الأمم السالفة بحاجة إلى مزيد من الشرح والتفصيل، فإن الكشوف الأثرية مازالت تتمخض من حين إلى آخر عن بعض الحقائق التي من شأنها أن تلقى أضواء ساطعة على ما ورد في القرآن الكريم. وغني عن البيان أن أعمال المنقبين عن آثار الماضي ذات أهمية كبرى ليس في كشف النقاب عن التاريخ القديم فحسب، بل لأنها تعيننا أيضا على فهم معاني القرآن. وحقيقة الأمر أن علم الآثار وأعمال الحفريات، وإن حققت بعض الإنجازات في هذا الحقل، إلا أنها لازالت تقصر عن عرض أخبار الماضين بصورة متكاملة. على أن الأمل كبير في أن يتقدم العلم وتتطور وسائل التكنولوجيا الحديثة فتكشف من الحقائق ما يوضح للباحثين معاني الآيات البينات وما تضمنت من إشارات وقصص، فتخرس ألسنة المرجفين والحاقدين على الإسلام والمسلمين والطاعنين في كتاب الله المبين. وتعين فوق ذلك على إجلاء صورة الماضي فنكون على بينة من تاريخ العالم القديم. وعلى الله قصد السبيل.
ثبت المراجع
(1)
أبو الأعلى المودودي: تفهيم القرآن، "الجزء الأول ". تعريب أحمد يونس (دار القلم. الكويت 1398 هـ 1978 م) .
(2)
ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، "الجزء الثالث ". (بيروت 1385 هـ-1966م) .
(3)
ابن هشام: سيرة ابن هشام، "الجزء الأول ". (القاهرة 383 1 هـ- 1963م) .
(4)
ابن عباس: تنوير المقباس من تفسير ابن عباس، (بيروت، غفل من التاريخ) .
(5)
ابن خلدون: العبر وديوان المبتدأ والخبر. (بيروت 1956 م) .
(6)
إبراهيم خليل أحمد: المستشرقون والمبشرون في العالم العربي والإسلامي، (القاهرة 1964 م) .
(7)
أحمد شلبي (الدكتور) : مقارنة الأديان: المسيحية (القاهرة 1978 م) .
(8)
الجلالين: جلال الدين محمد بن على، وجلال الدين عبد الرحمن بن أبى بكر السيوطي: تفسير الجلالين (المطبعة الهاشمية بدمشق 1385 هـ) .
(9)
المعالم الأثرية في البلاد العربية، "الجزء الأول ". أصدرته جامعة الدول العربية (القاهرة 1970 م) .
(10)
بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشى: البرهان في علوم القرآن، "الجزء الأول "(القاهرة 1376هـ- 1957 م) .
(11)
جامعة الدول العربية: المعالم الأثرية في البلاد العربية، "الجزء الأول ". (القاهرة 1970 م) .
(12)
جلال الدين السيوطى: الإتقان في علوم القرآن، "الجزء الثالث". (بيروت 1973 م) .
(13)
طه حسين: في الأدب الجاهلى. (القاهرة 1958) .
(14)
محمد الغزالي: فقه السيرة. (القاهرة 1976 م) .
(15)
محمد أحمد جاد المولى، محمد أبو الفضل إبراهيم، على محمد البخاري، وسيد شحاته: قصص القرآن (القاهرة 973 1 هـ- 1954م) .
(16)
محمد متولي الشعراوي: الله والكون (القاهرة 1400 هـ- 1980 م) .
(17)
محمد متولي الشعراوي: معجزة القرآن، "الجزء الأول "(القاهرة 1401 هـ- 1981 م) .
(18)
محمد فريد وجدي: المصحف المفسر (القاهرة 1377 هـ) .
(19)
موريس بوكاى: القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم في ضوء المعارف الحديثة، ترجمة دار المعارف، (دار المعارف. القاهرة 1979 م) . ص 13.
(20)
مصطفى السباعي (الدكتور) : الاستشراق والمستشرقون، (مكتبة دار البيان. الكويت 387 1 هـ 1968) . ص 10.
(1 2) أصالة الحضارة العربية، (بيروت 1395 هـ-1975م) .
(22)
عبد الوهاب النجار: قصص الأنبياء، (بيروت 1353 هـ-1934م) .
(23)
عبد الحميد كشك: مصارع الظالمين، (القاهرة. بلا تاريخ) .
(24)
عفيف عبد الفتاح طبارة: مع الأنبياء في القرآن الكريم (بيروت1980م) .
دوريات:
مجلة الاعتصام: العدد (9) ، شعبان 1398 هـ- يوليو 1978م، ص 17.
مجلة الوعي الإسلامي: السنة الثانية عشرة، العدد (137) ، غرة جماد الأول 1397 هـ أيار 1976، ص هـ 2.
مجلة الوعي الإسلامي: العدد (206) 1402هـ- ديسمبر 1981م ص 13 ا-114.
مجلة منار الإسلام: العدد الثامن، شعبان 03 4 1 هـ- مايو- يونيو1982 م، ص 85.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
الدكتور عبد المنعم النمر: علوم القرآن الكريم. (دار الكتاب المصري القاهرة 1399 هـ/ 1979 م) ص 3.
[2]
محمد متولي الشعراوي: معجزة القران. "الجزء الأول". (القاهرة 1401 هـ/ 1981 م) 197 ـ 8 0
[3]
أبو الأعلى المودودي: تفهيم القران "الجزء الأول"، تعريب أحمد يونس (دار القلم. الكويت 1398 هـ/1978) ص11-12
[4]
جلال الدين عبد الرحمن السيوطي: الإتقان في علوم القرآن ج2 (بيروت1973 م) . ص 26 1.
[5]
المصدر السابق.
[6]
لبدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي: البرهان في علوم القرآن. "الجزء الأول ". (القاهرة 376اهـ/1957م) ص 481.
[7]
الزركشي المصدر السابق. ج1 ص8.
[8]
تفسير الجلالين: ص 366
[9]
ابن كثير: تفسير القرآن الكريم العظيم. جـ 3 (بيروت 1385 هـ/196م) ص18.
[10]
المصدر السابق.
[11]
أحمد البشبيشي: "المستشرقون والإسلام على ضوء التراجم "مجلة الوعي الإسلامي، السنة الثانية عشرة. العدد"137". غرة جمادى الأولى 1397هـ أيار 1976م ص25.
[12]
موريس بوكاي: القرآن والتوراة والإنجيل والعلم في ضوء المعارف الحديثة.ترجمة دار المعارف. (دار المعارف القاهرة 1978م) ص13.
[13]
إبراهيم خليل أحمد: المستشرقون والمبشرون العالم العربي والإسلامي. (القاهرة 1964 م) . ص 83.
[14]
عبد الجواد محمد الخضري: (الرافعي: تارخ لن ينسى وذكرى لن تموت) . مجلة الوعي الإسلامي. العدد "206".
1402هـ ديسمبر 1981م ص 113 ـ114.
[15]
أنور الجندي: نظرية ديكارت ومنهج الشك الفلسفي في كتاب الأدب الجاهلي مجلة منار الإسلام. العدد الثامن السنة
الثامنة شعبان 1403هـ- مايو- يونيو 1982. ص 85-86.
[16]
الدكتور مصطفي السباعي. الاستشراق والمستشرقون. (مكتبة دار البيان. الكويت 1387 هـ 1968م) .
ص10.
[17]
الدكتور السيد الدرش: سبأ في القرآن "مجلة المسلمون "العدد 42، 24. شوال 1402 هـ-13 آب أغسطس 1982، ص 68.
[18]
وحيد الدين خان: "نحو علم كلام جديد". مجلة الاعتصام. العدد 9. شعبان 1398 هـ- يوليو 1978 م. ص 17.
[19]
وحيد الدين خان: "نحو علم كلام جديد"، المصدر السابق. ص 17 انظر سورة الجاثية. الآية 14.
[20]
محمد فريد وجدي: المصحف المفسر. (القاهرة 1377 هـ) ص 662.
[21]
ابن كثير تفسير القرآن العظيم. الجزء الربع. ص 109.
[22]
وحيد الدين خان: نحو علم كلام جديد المصدر السابق ص 17.
[23]
تنوير القياس من تفسير ابن عباس (بيروت. غفل من التاريخ) ص 111.
[24]
وحيد الدين خان: نحو علم كلام جديد. المصدر السابق. ص 17.
[25]
تفسير الجلالين. ص 576.
[26]
عفيف عبد الفتاح طبارة: مع الأنبياء في القرآن الكريم. (بيروت 1980 م) . ص 289.
[27]
الدكتور ناجي معروف: أصالة الحضارة العربية. (بيروت1395 - 1975 م) ص 86،87.
[28]
توجد هذه اللوحات والتماثيل في متحفي مأرب وصنعاء. وهى مصورة في كتاب المعالم الأثرية في البلاد العربية الذي أصدرته جامعة الدول العربية. جـ 1. (القاهرة 1970م) . ص ا 26-277- 279- هـ 30.
[29]
تفسير الجلالين: ص 567.
[30]
الدكتور ناجى معروف: أصالة الحضارة العربية. ص 88.
[31]
تنوير المقباس من تفسير ابن عباس. ص 360.
[32]
أنظر كتاب المعالم الأثرية في البلاد العربية: المصدر السابق ج ا. ص221، 223، 231، 233، 235، 247،249، 255.
[33]
المعالم الأثرية في البلاد العربية. جـ 1 ص 206 و212.
[34]
سيرة ابن هشام الجزء الأول. (القاهرة 383 1 هـ-1963م) . ص 7.
[35]
تفسير الجلالين: ص 349.
[36]
سيرة ابن هشام: جـ4. ص 948.
[37]
من حديث ابن عمر، وأخرجه البخاري ومسلم.
[38]
محمد أحمد جاد المولى، محمد أبو الفضل إبراهيم، على محمد البجاوي، وسيد شحاته: قصص القرآن. (القاهرة 1373هـ - 1954م) .ص25.
[39]
عفيف عبد الفتاح طبارة: مع الأنبياء في القرآن الكريم: المصدر السابق ص 92.
[40]
عبد الحميد كشك. مصارع الظالمين (القاهرة. بلا تاريخ) ص15.
[41]
الدكتور محمد رجب البيومى "رسول معجزته البيان "، مجلة الوعي الإسلامي السنة الثانية عشرة. العدد 137.غرة جماد الأولى 1396 هـ- أيار 1976 م. ص55.
[42]
أحمد جاد المولى. قصص القرآن. المصدر السابق. ص 64- 65.
[43]
أحمد جاد المولى. قصص القرآن. المصدر السابق. ص 64- 65.
[44]
عبد الوهاب النجار. قصص الأنبياء (بيروت 353 اهـ 1934) ص 113.
[45]
عفيف عبد الفتاح طبارة: مع الأنبياء في القرآن الكريم. المصدر السابق. ص 107.
[46]
المعالم الأثرية في البلاد العربية. ج ا. ص 47.
[47]
نظرية ديكارت ومنهج الشك الفلسفي في كتاب الأدب الجاهلي، مجلة منار الإسلام العدد الثامن. السنة الثامنة شعبان 1403 هـ- يونيو 1983م. ص 89.
[48]
المصدر السابق.
[49]
عبد الوهاب النجار: قصص الأنبياء، المصدر السابق ص 79.
[50]
المعالم الأثرية في البلاد العربية:جـ 1 ص 34،55،78،84.
[51]
تنوير المقباس من تفسير ابن عباس: المصدر السابق.ص 113.
[52]
المعالم الأثرية في البلاد العربية.جـ 1، ص54 ـ55.
[53]
محمد الغزالي:فقه السيرة. (القاهرة 1976م) .ص133.
[54]
تنوير المقباس من تفسير ابن عباس: ص245.
[55]
محمد متولي الشعراوي. الله والكون- (القاهرة1400 هـ - 1980 م) . ص 22.
[56]
ابن خلدون: مقدمة ابن خلدون. (القاهرة 1930 م) ص 367، إبراهيم خليل أحمد: المستشرقون والمبشرون في العالم العربي والإسلامي (القاهرة 1384 هـ- 1964 م) ص 87.
[57]
محمد متولي الشعراوي: معجزة القرآن (القاهرة 398 1 هـ- 1978 م) . ص 38.
د. رشدي عليان، د. قحطان عبد الرحمن الدوري علوم القرآن. (بغداد 1980م) ص147.
[58]
د. رشدي عليان، د. قحطان عبد الرحمن الدوري علوم القرآن. (بغداد 1980م) ص 147.
[59]
فتحى رضوان: خصائص القصة القرآنية، مجلة منبر الإسلام. العدد 110 السنة .... 34 ذو القعدة 1396 هـ نوفمبر 1976م.ص 14.
[60]
عودة الله منيع القيسي. صحة الحدث التاريخي والقصص القرآني. مجلة منار الإسلام. العدد الثامن شعبان 1403هـ مايو- يوليو 983 1 م. ص100.
[61]
الدكتور أحمد شلبي. مقارنة الأديان: المسيحية (القاهرة 1978 م) . ص202.
[62]
عودة الله منيع القيسى: صحة الحدث التاريخي في القصص القرآني. المصدر السابق. ص 106.
[63]
أخرجه الترمذي وغيره. انظر السيوطى: الإتقان في علوم القرآن. ص125 ـ126.
لا
…
لخصُوَمةِ المسْلِمِ مَعَ الدُّنيَا وَالنّاس
للدكتور جميل عبد الله محمد المصري
أستاذ مساعد بكلية الدعوة وأصول الدين.
الحمد لله الذي أراد للأمة الإسلامية أن تكون خير أمة أخرجت للناس، وأعز بتأييده وتوفيقه الصادقين الصابرين من عباده المخلصين وصلى الله عليه. سيدنا محمد رسوله الكريم المبعوث رحمة للعالمين وخاتم النبيين. وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فقد ظهرت في عالم المسلمين المعاصر نغمات منحرفة ناشزة تزعمها عدد من الكتاب المشهورين تتّهم المسلمين بالعصبية والفوقية وبأنهم ينظرون لغيرهم بالدونية، وهذه تعبيرات دخيلة على الإسلام وعلى الفكر الإسلامي وعلى الحضارة الإسلامية، قُصد منها التلاعب بالألفاظ والشعارات ممّن انبهر بالحضارة الغربية بشقيها الرأسمالية والاشتراكية، ومن هؤلاء من تطاول فاتهم المسلم أنّه في خصومة مع الدنيا كما هو في خصومة مع الناس. وكيف يتأتى لمسلم - صحيح الإسلام - أن يكون في خصومة مع الدنيا أوفي خصومة مع الناس وهو يحيا الحياة بكل ما فيها، اختصه الله بخلافة الأرض وأعمارها ونشر الخير فيها، فالإسلام لا يقر الرهبانية ولا الزهادة بمعنى اعتزال الحياة، وليست الزهادة بتحريم الحلال، ولكن الزهادة هي أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك، وما يسميه الناس من زهد المسلم وتعففه هو التزام بمنهج الإسلام وحسن خلافة في الأرض، فهو يعمل ويجهد نفسه ليقدم خيراً لأمته، طاعة لله إذ حثّ على العمل- قال تعالى:
{فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} . سورة الملك: 15.
وجعل كسب المال من عبادة الله أو التقرب إليه إذا قصد به المسلم الإنفاق على أهله أو على أرملة أو مسكين، أو قصد إخراج زكاة المال، أو غرس غرسه فأكل منها طير أو إنسان أو حيوان. قال صلى الله عليه وسلم:"إذا أنفق المسلم نفقة على أهله وهو يحتسبها كانت له صدقة"[1] .
وقال صلى الله عليه وسلم: "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار"[2] .
وقال صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يغرس غرساً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة"[3] .
وهكذا فرض الإسلام كفالة مشتركة بين أهله، وجعل العجزة والضعفاء والمحرومين موضع تقديركبير، فلم يطالب بإسقاطهم من المجتمع، بل أوجد لهم حمايات وضمانات كاملة، واعتبرهم موضع الرزق والنصر:"هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم"[4] .
هذا الحث على السعي والعمل يجعل خصومة المسلم مع الحياة بعيدة ولا وجود لها إلا في أوهام أعداء الإسلام والمسلمين فالدنيا مطية للآخرة، وأعمال المسلمين أيام عزّهم دليل على التزامهم بنصوص دينهم، فالثراء الذي حازه عبد الرحمن بن عوف [5] ، والزبير بن العوام [6] ، وطلحة ابن عبيد الله [7] ، وعثمان بن عفان [8] ، وهم من الصحابة- رضي الله عنهم جميعا- وغيرهم كثير. أمثلة على أن الدنيا ليست هدفاً للمسلم ذاتها بل هي مطية للآخرة.
فالمال عند المسلم وسيلة لا غاية، وطريق لا هدف، فالمال لله وحده والإنسان مستخلف فيه، استخلفه للانتفاع به وتوجيهه في سبيل الله ومصلحة الأمة، وكما كرّم الإسلام السعي والعمل قال صلى الله عليه وسلم:"ما أكل أحد طعاماً قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده وأن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده"[9] . كرّم الإنفاق، فالمال تطهره الصدقة. قال تعالى:
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} . سورة التوبة: 103.
وأمر بتداول المال بين الناس دون تداوله بين طائفة خاصة. قال تعالى: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} . سورة الحشر: 7.
وهذا من شأنه اتساع دائرة العمل والإنفاق، وقد قيد الشرع الإسلامي حق التصرف بالإنفاق فمنع السرف والتقتير. قال تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} . سورة الأنعام: 141.
وقال سبحانه: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} . الإسراء: 29.
وقال جلّ وعلا: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} .سورة الفرقان: 67.
وحث الشرع على تنمية الثروة وفق ضوابط معينة على قاعدة "لا ضرر ولا ضرار":
فمنع الغش- قال صلى الله عليه وسلم: "من غشّنا فليس منا"[10] .
والربا فقال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} . (سورة البقرة: 275) .
والاحتكار. قال صلى الله عليه وسلم: "لا يحتكر إلا خاطئ"[11] . وأنكر احتكار الثروة بيد طبقة واحدة، واحتكار التجارة في الأسواق العامة، ومنع كنز الأموال وتوعد الله سبحانه من يفعل ذلك بالعذاب الشديد. قال تعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} . سورة التوبة 34- هـ 3. وحرّم أكل أموال الناس بالباطل، ومنع الرشوة. قال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ} . سورة البقرة: 188.
وتكفلت الدولة في الإسلام من لا مال له ولا عمل عنده، وتتولى إيواء العجزة وذوي العاهات.
هذا هو التوازن للنفس والمجتمع والأمة، وليس صحيحاً أن تصرف فئة من المسلمين ينسحب على الإسلام نفسه، وعلى المسلمين عموماً، فالتعميم العشوائي والقياس الشمولي دون تمَحيص، أسلوب درج عليه أعداء الإسلام والمسلمين المبهورون بحضارة الغرب من أبناء هذه الأمة عن قصد ليحفروا هوّة بين المسلمين ودينهم، وأي ظلم أفدح وأعظم من قياس الإسلام على أوضاع المسلمين الراهنة؟ والأعجب من كل ذلك أن يُتهم المسلم وممن ينتسب إلى الإسلام بأنه في خصومة مع الناس- فمتى كان ذلك؟!.
لقد أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله وسراجاً منيراَ، وجاء يبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلَا كبيراً [12] .
والتحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى- فورثته الأمة- وعلى المسلم يقع عبء هداية الإنسانية، وتبصيرها بالطريق الصحيح، وعليه عبء الأخذ بيد العميان إلى الهدى والسبيل القويم، وقام المسلمون بهذا التكليف خير قيام فانتشر الإسلام بسرعة عجيبة في أقطار الأرض، سرعة عجز كثير من المؤرخين عن تفسيرها لعدم إدراكهم روح الإسلام وحركته.
لقد انتشر الإسلام بالقرآن الكريم وعمارة الصدور به، كان المسلم يحمله ويتمثله قولاً وعملاً وسلوكاً وقانوناً، فيتحرك بالقرآن، وفي أقل من قرن من الزمان امتدت دولة الإيمان والإسلام من حدود الصين شرقا [13] إلى المحيط الأطلسي غربا [14] ، ومن جبال البرانس شمالا [15] إلى الصحراء الكبرى والمحيط الهندي جنوباً، شاملة العالم القديم بأسره [16] . نقل خلالها المسلمون عقيدة الإسلام وروحه ومفاهيمه إلى الناس فارتفعوا به وتساموا
…
ولم تكن هذه الفتوحات للغلبة أو السيطرة أو الاستعمار بمفهومه الحديث، بل كانت حركة لنشر عقيدة الإسلام الخالصة، وإزالة الحواجز من طريق هذه الدعوة، فلم يكن الهدف إزالة ملك أو دولة، ولذا فإن من قبل الإسلام وطبقه من أهل هذه البلاد وخضع للإسلام ترك وشأنه وأقرّ على حكم بلاده، وكانت هذه الفتوحات طريقا لتحرر الفكر من القيود التي فرضتها أوضاع الجاهليات التي سادت والاضطهادات الدينية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية- فكان المسلمون كما قال ربعي بن عامر لرستم قائد الفرس في القادسية عام 14 هـ:"إن الله ابتعتنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام"[17] . وسرعان ما وجدنا من يشارك من تلك الأمم في حركة المد الإسلامي شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً- فضمت كتائب الإسلام العرب والبربر والعجم
…
فكيف نفسر تخلي أصحاب العقائد العريقة عن عقائدهم واندماجهم
في المجتمع الإسلامي، بل وتخليهم عن لغاتهم العريقة ثم حملهم للإسلام وقبولهم له عقيدة وشريعة ومنهج حياة وتكلمهم بلغته- لغة القرآن؟ وكيف يفسر انتشار الإسلام الهادي بعد ذلك في إندونيسيا والملايو والفلبين والصين وأواسط إفريقيا وشرقها وجنوبها- وركوب المسلمين البحر وابتكاراتهم واختراعاتهم وإنجازاتهم العلمية؟ كيف نفسر كل ذلك إذا كان المسلمون في خصومة مع الناس؟.
نعم أصاب المسلمين انحراف تدريجي عن منهج نشر الهدى في كل الأرض ولكنهم ظلوا قبساً منيراً يُعلمون الناس ويهدونهم إلى سواء السبيل إلى أن وصلوا درجة انحسروا في داخل أنفسهم وركنوا عن الحركة والانطلاق
…
وعندئذ انقضت عليهم الجاهلية تغمرهم بظلالها البالغ في الطغيان حتى خرج كثير منهم من دين الله واتبعوا خطوات الشيطان. مصداقاً لقوله سبحانه وتعالى:
{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} . سورة الرعد: 11.
لم تظهر خصومة المسلم مع الناس إلا عندما اهتزت عقيدته، وانحط فكره، وضعف تصوره للإسلام ورسالته، وهذا ليس لأنه مسلم بل هو انحراف عن نهج الإسلام، ومن الظلم أن نطلق ذلك على المسلم الحق أو على أحد الفقهاء الأجلاء الذين فهموا الإسلام من منابعه الأصلية ومن خلال تطبيقاته على أرض الواقع في بلاد الإسلام، وآراء الفقهاء الأجلاء وتمحيصاتهم هي أجل وأعظم ما أنجزته الحضارة الإسلَامية في ميادينها- وهى شاهدة على حيوية الأمة الإسلامية وعلى قدرتها على العطاء وعلى قيادة العالم إلى الخير، وشاهدة على ما في الإسلام نفسه من حركة وحيوية قادرة على أن تحرك هذه الأمة في كل وقت وحين، حركته حركة نابعة من القرآن والسنة الشريفة. قال صلى الله عليه وسلم:"تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا الحوض"[18] .
وقد أشار الإمام الشافعي للسنة "بالحكمة"[19] .في قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} . سورة الجمعة: 2. ولقد حفظ الله سبحانه وتعالى كتابه في ألفاظه وكلماته منقولا بالتواتر مدوناً على أسلم ما يكون النقل والتدوين. قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} . سورة الحجر: 9. وكذلك حفظ بيانه بما كان من عمل الفقهاء والمحدثين، حتى اختصت الأمة الإسلامية دون غيرها بالإسناد فكان اجتهاد الفقهاء من خلال النصوص، وإذا كان النص قطعي الثبت لا شبهة فيه فليس عندهم اجتهاد يصيب ويخطئ بل هو التسليم إذ: "لا اجتهاد في موضع النص". ولم يذكر أحد من الفقهاء أن المسلمين صنف متميز ومتفوق من البشر لمجرد كونهم مسلمين، ولكن الإسلام أعطى بحق أفضلية للملتزم به، والإسلام ليس لطبقة ولا لجنس فهو دين للناس كافة تتساوى فيه سائر الأجناس في الحقوق والواجبات، لا يعترف بطبقية ولا عنصرية ولا كهنوتية. قال تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} . سورة الحجرات: 13. "فلا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى". وهذه دعوة للمساواة بين بني البشر. طبق المسلمون ذلك طيلة فترة دولتهم التي استمرت عشرة قرون الدولة الأولى في العالم. فبلال العبد الحبشي يعتلى ظهر الكعبة ليؤذن للصلاة [20] ، وسليمان الفارسي يتولى المدائن [21] ، وطارق بن زياد البربري يقود جيش الإسلام فيفتح الأندلس [22] ، وكافور الأخشيدي يتولى مصر [23] ، والمماليك يحكمون في مصر والشام [24] . والهند [25] . وآل عثمان يتولون الخلافة الإسلامية [26] والموحدون [27] ، والغزنويون [28] وغيرهم، وغيرهم يقودون حركة الجهاد.
والناس شئنا أم أبينا مؤمن وكافر، والكفر نكران لنعمة الله وهديه، وأي شيء أفظع من إنكار رسالة الإسلام والدين عند الله الإسلام؟ والتنكر لرسول الإسلام- "محمد رسول الله"[29]، والإسلام أجلّ نعم الدنيا يتمناه الكافر يوم القيامة- قال تعالى:{رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} . سورة الحجر: 3. ويشترك المؤمن والكافر في الإنسانية وهي ليست ديناً وليست مبدأ ينبثق منها عقيدة أو نظام حياة، بل هي بحاجة إلى تهذيب وإلى مقياس عادل صحيح، وليس ما يهذبها كالإسلام!!. ولو نحينا الإسلام جانباً ونادينا بالإنسانية فقط كما يحلو لكثير من الناس فهل نصبح نحن وأصحاب العقائد الأخرى على قدم المساواة؟ إن من يفعل ذلك كمن يلقى سلاحه أمام عدوه الحاقد ليتحكم فيه بما يشاء.
فالقضية أساسا قضية عقيدة، وجهة نظر في الإنسان والكون والحياة وما قبل الحياة وما بعدها، ولا تؤخذ الحضارة إلا من منبعها وإلا انحرفت أو ذابت واضمحلت، ومنبع الحضارة الإسلامية: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مبنية على عقيدة التوحيد،- والحضارة غير المدنية التي كثيراً ما يخلطها الكتاب بالحضارة المدنية - هي المظهر المادي منها المكيفات الأمريكية ولمبات تونسجرام الهنجارية، ومكبرات الصوت الهولندية، والأقمشة الإنجليزية، والحرير الياباني، والساعات السويسرية، والأحذية الإيطالية- والطائرات والسيارات
…
وما إلى ذلك من مظاهر مدنية من مبتكرات العلم وهي ملك عام لجميع البشر بما ركب الله فيهم من قدرة على الابتكار والاختراع الصناعي، يستوي في الاستفادة منها المسلم وغير المسلم، ولا يجوز احتكارها، كما لا يجوز الانزواء عنها- ولا شأن للمخترعين واختراعاتهم بالجنة والنار، بالإسلام والكفر، فمن يكفر بالخالق الذي يستحق العبادة وحده لا يمكن أن يبتغى بعمله خدمة الإنسانية حقاً، ولن ينفع المشتغلين بالبحث العلمي يوم القيامة علمهم إذا كانوا كفاراً ولن يضر الجاهلين بالعلم يوم القيامة جهلهم إن كانوا مؤمنين.
ومن الغريب العجيب أن يدعي بعض الكتاب أن هناك خللاً في علاقة المسلمين بغيرهم، وأن يزعم أن المسلمين اتخذوا من الآية الكريمة:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} . سورة آل عمران من الآية 115. شهادة بالفوقية للمسلمين، في الوقت الذي لم يذكر أحد من المسلمين لا من المفسرين ولا من الفقهاء الإجلاء ولا من غيرهم من علماء هذه الأمة مثل ذلك، ولا يستشهد بالآية إلا مرتبطة بأسسها الثلاثة: الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، والإيمان بالله، وحينئذ تصبح الأمة الإسلامية فعلاً خير أمة أخرجت للناس لأنها تكون قائدة وهادية، فهي تكليف قبل أن تكونَ تشريفا. قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} . سورة فصلت: 33، فالمسلم داعية إلى الله يعمل صالحاً فينال التكريم.
ويعلق بعض الكتاب على الفقهاء الأجلاء من استنباطاتهم في الآية الكريمة: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} . سورة التوبة: 29، وهى آية واضحة المعنى بينة ليس فيها من المتشابه شيء، فقد قامت دعوة الإسلام على الجهاد بمعنى بذل الجهد مطلقا في حرب وغير حرب في التبشير بالرسالة الإسلامية وتأييدها ونشرها والدفاع عنها حرباً وسلماً، والجهاد كلمة إسلامية خاصة بالمسلمين ولا يصح إطلاقها إلا على ما كان في سبيل الله- وهو ذروة سنام الإسلام [30] وأفضل العبادات [31] و"من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" [32] . وقد قال أحد الفقهاء:"اعلم أن الجهاد إنما يتحقق إذا كان خالصاً لله تعالى ويكون لإعلاء كلمة الله عز وجل وإعزاز الدين ونصرة المسلمين، أما من جاهد وغزا لحيازة الغنيمَة واسترقاق العبيد واكتساب اسم الشجاعة وتحصيل الصيت، أو طلب دنيا أو امرأة، فإنه تاجر أو طالب وليس بمجاهد"[33] . فالقتال في الإسلام نوع من الجهاد في سبيل الله وليس من أجل الاستيطان أو إبادة الغير كالاستعمار الأوروبي الذي واكب حركة الكشوف الجغرافية [34] ، ولا هو من أجل السيطرة والاستعلاء واستعباد الغير وإذلالهم واستغلال خيراتهم ونهب ممتلكاتهم كما هو واقع الاستعمار الأوروبي الحديث الذي رافق حركة الثورة الصناعية [35] ولا لاحتكار الخيرات واستغلالها كالاستعمار المعاصر اليوم [36] ، الجهاد إنقاذ للبشرية من ضلالها، وتحريرها من طواغيتها المادية والمعنوية- حتى يصبح الناس أمام دعوة الإسلام وجها لوجه، ولا يستهدف أبدًا إكراههم على الدخول فيه واعتناقه، ولا يستهدف الغنائم والإسلاب،
بل يترك الخيار لكل إنسان. قال تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} . سوره الكهف: 29، فلا إكراه ولا عنت ولا مشقة ولا محاكم تفتيش [37] ، ولا خطف أطفال [38] ، ولا تضييق في المعاش، ولا فرض لغة أوتشريد وتهجير وتجويع [39] . قال تعالى:{أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} . سورة يونس: 99.
ومن مبادئ الحرب في الإسلام أن يعرض المسلمون على الأعداء أحد أمرين قبل القتال: الإسلام أو الجزية، فمن أجاب للجزية قبل الحرب فليس هناك ذل أو صغار، أما من حارب حتى رضخ للجزية فهو الصغار الذي هو الخضوع لحكم الإسلام. قال الإمام الشافعي:"وسمعت عدداً من أهل العلم يقولون: إن الصغار أن يجري عليهم حكم الإسلام"[40] .
وهذا هو محتوى الآية الكريمة. فالجزية في أبسط مفاهيمها في الإسلام ضريبة على الذمي من رعايا الدولة الإسلامية مقابل ضريبة الجهاد المفروضة على المسلم، وهى في مقابل حمايته، وإذا عجز المسلمون عن حمايته سقطت الجزية- فعندما صالح خالد بن الوليد أهل الحيرة قال:
"إني عاهدت على الجزية والمنعة
…
فإن منعناكم فلنا الجزية وإلا فلا" [41] . وتسقط هذه الجزية عن الذمي إذا قام بواجب الدفاع عن دار الإسلام [42] ، ودليل ذلك ما صنعه عتبة بن فرقد مع أهل أذربيجان: "عليهم أن يؤدوا الجزية قدر طاقتهم إلا من حشر منهم في سنة فيوضع عنه جزاء تلك السنة" [43] . كما يعفى منها من لا يستطيع القتال كالمرأة والصبي والشيخ الكبير ورجل الدين فمن من الفقهاء والحال هذه استدل أن هذا فوقية للمسلم على غيره؟ {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَاّ كَذِباً} ، الكهف:5.
لقد بلغ تسامح المسلمين مبلغاً لم يمر ولن يمر من غيرهم في تاريخ البشرية فلم يضيقوا على المخالفين [44] فيما يعتقدون حتى فيما اعتقده المسلمون حراما، فسمحوا للنصارى بالخمر والخنزير- قال الشافعي أحد الفقهاء:
"علينا أن نمنع أهل الذمة إذا كانوا معنا في الدار وأموالهم التي يحل لهم أن يتموّلوها مما نمنع منه أنفسنا وأموالنا من عدوهم إن أرادهم، أو ظلم ظالم لهم، وأن نستنقذهم من عدوهم لو أصابهم، وأموالهم التي يحل لهم، فإذا قدرنا استنقذناهم وما حل لهم ملكه ولم نأخذ لهم خمراً ولا خنزيرا"[45] .
وعلى من يريد التلاعب بالألفاظ أن يدرك أن الإسلام هو سنة الله في الكون، والفطرة التي فطر الناس عليها، أما أن الإسلام يتغير بتغير الزمان والمكان فإنه براء من ذلك- فالإسلام لا ينحني لا لزمان ولا لمكان، فالزمان والمكان يخضعان للإسلام ولا يخضع لهما- هو طراز خاص في الحياة متميز عن غيره من خالق الزمان والمكان يعالج ما يجدّ من أمور من خلال الخطوط العريضة التي جاء بها كتاب الله وجاءت بها سنة رسول الله، وهي معانٍ عامة تعالج جميع مشاكل الإنسان في الحياة في كل زمان ومكان، يستنبط منها كل مسألة إنسانية بحيث تجعل العلاج في مستنداً إلى قاعدة متينة تندرج تحتها جميع الأفكار عن الحياة، وتكون مقياسا تبُنى عليه جميع الأمور الفرعية، وكل المعالجات والمعاني منبثقة من عقيدة التوحيد، مستنبطة من خطوط الشريعة العريضة. وقد حدد الإسلام للإنسان القواعد الأساسية ولكنه لم يحدّ عقله بل أطلقه، وقيد سلوكه في الحياة بوجهات نظر معينة، فجاءت نظرة المسلم للحياة الدنيا نظرة أمل باسم وجدّية واقعية، كما جاءت نظرة تقدير لها مفصلة على قدرها من حيث أن يجب أن تنال ومن حيث أنها ليست غاية، يبتغى بها وجه الله والدار الآخرة التي هي دار البقاء والخلود.
وكما أن رسالة الإسلام شاملة لجوانب التنظيم التي تستند إليها المجتمعات الصحيحة وتقوم على أساسها الحياة الإنسانية الكاملة مما ينظم شئون الأفراد والمجتمع والأمة، فإنها عنيت بمطالب الروح والجسَد، ولبت رغبات البطن والعقل والفرج بالقسطاس والعدل على أساس من الحق والخير والتوازن مما يكفل سعادة الإنسان في السلم والحرب [46] ، ومن هنا تنزل القرآن الكريم منجماً، فلكل حادث حديث، فالآية الكريمة:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} . سورة الأنفال: 39. "وهي التي حاول بعض الكتاب أن يضع حول معانيها الشبهات". نزلت في شركي مكة والجزيرة العربية- ولكن ماذا نقول اليوم في عالمنا المعاصر عن مذابح المسلمين في فلسطين ولبنان وأفغانستان وإريتريا والفليبين وفطاني؟ وماذا نقول لما يصيب المسلمين في الهند ونيبال والصين وروسيا وجنوب إفريقية؟ بل ماذا نقول لما يصيب المسلمين من اضطهاد في أرض المسلمين نفسها؟ وهل زال الجرح العميق الذي أحدثه أعداء المسلمين في الذاكرة الإسلامية؟ الذي ابتدأ بتدبير المؤامرات لتقويض الدولة الإسلامية من داخلها تلك التي بدأها يهود المدينة ونصاراها بالاشتراك مع المجوس [47]- وبقيت تسير في مسلسلات دامية إلى أن قضى يهود الدونمة على الخلافة العثمانية [48]- والدول الأوروبية الصليبية التي قادت الهجمات الشرسة على المسلمين [49] وتكالبت عليهم وأبادتهم في الأندلس وصقلية وجنوب إيطاليا وسردينيا والبلقان والقرم وشاشان وشركسيا وفنزويلا وقبرص- وهل انتهت هذه الهجمات حتى يزول هذا الجرح الغائر؟! وبماذا نردّ على اللورد ويفل من كبار القواد الإنجليز وساستهم الذي نقل عن إحدى المجلات الإنجليزية صورة رمزية للقائد الإنجليزي للنبي في عودته من الحرب في فلسطين وقد كتب تحتها: "العودة من الحروب الصَليبية". ولأسقف نيويورك الذي أرسل إلى رئيس أساقفة كانتربري
برقية من مائة أسقف وشكره على المساعي التي يبذلها في الحروب الصليبية التي تبذل ضد بقاء الأتراك في الآستانة [50] . وللقائد الفرنسي بييركيلر الذي صرح بالدوافع الصليبية فقال في كتابه عن "القضية العربية في نظر الغرب"صفحة 119:
"إن مصالح فرنسا في الشرق الأوسط هي قبل كل شيء مصالح روحية، وتعود هذه العلاقات إلى عهد الصليبين حيث وقعت معاهدات لحفظ الأماكن المقدسة، وجددت هذه المعاهدات على مرّ القرون، وتحملت فرنسا مهمة حماية نصارى الشرق [51] ، وللجنرال غورو الذي قصد قبر صلاح الدين عند دخوله دمشق بعد ميسلون [52] عام 1920م فقال: "قم يا صلاح الدين- نحن أبناء غودفرى عدنا إليك منتصرين". وغودفرى كان أبرز القادة الصليبين الذين نكلوا بالمسلمين في الحملة الصليبية الأولى [53] .
لقد تخلىّ العربي بالإسلام عن عصبيته القبلية وآمن بقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} . سورة الحجرات: 13. فسالم مولى أبي حذيفة المجهول الأب يؤم المسلمين في هجرتهم إلى يثرب وفيهم الصحابة منهم- عمر بن الخطاب- لأنه كان أقرأهم [54] . وأما من بقي على عصبيته فقد عد جاهليا، إذ لما تقاول أوسي وخزرجى بفعل الدسائس اليهودية تنادى الأوس والخزرج: السلاح- السلاح فبلغ ذلك رسول الله – صلى الله عليه وسلم فقال غاضباً: "الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به
…
" [55] . فذاك الذي بقيت لديه عنجهية العصبية والتفاخر بالآباء لا يجوز قياس الإسلام عليه أو اعتباره حجة على الإسلام، بل الإسلام حجة عليه. فقد كان عمر بن الخطاب يقول: "أبو بكر سيدنا اعتق بلالا سيدنا" [56] .
وأما تعصب المسلم للإسلام فلأنه على حق وعلى قناعة جازمة، فلا يجوز أن يتهم في تعصبه بأنه ذو اعتقاد باطل ينحاز إلى موقف الجماعة دون اختيار ودون تفكير وأنه يستعلي على الآخرين كما وصفه أحد الكتاب ظلماً وعدواناً، إن التعصب للحق موقف الشرفاء من البشر أصحاب العقائد القوية- والتعصب للباطل موقف الجهلة أعداء الإنسان- التعصب الأول فضيلة وواجب، والتعصب الثاني رذيلة ومنكر، التعصب للإسلام {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [57] هو لسعادة البشر وهو واجب على كل إنسان مستنير عرف الحق، لأن الحق إن لم يجد من ينصره ويعززه فسيجد الباطل المدعم بالقوة الفرصة أمامه لكي يسيطر ويضرب بجرّانه في أعماق الأرض، والتعصب العنصري والقومي والوطني والقبلي يقف ضد إنسانية الإنسان.
إن الصراع بين الإسلام وغيره في حقيقته صراع عقائدي بدأه أعداؤه من أول ظهوره، والواقع الشرعي يؤكد أن عداء الكفر للإسلام مستمر. قال تعالى:{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [58] وهم صف واحد في مهاجمة الإسلام. قال تعالى: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [59] . والرسول –صلى الله عليه وسلم يؤكد أن الجهاد ماض في أمته إلى يوم القيامة [60] وليس من سبيل إلى عزة المسلمين إلا بالتفاقهم حول عقيدتهم وفهمهم أبعاد الصراع لا بالتنازلات التي تتلوها تنازلات.
وإن تحجب فعجب قول أحد الكتاب المسلمين ضمن حملته على الفقهاء الإجلاّء وعلى المسلمين:
"ولكن المقطوع إن أكثر الكتب الفقهية تعامل غير المسلمين عندما يتعلق الأمر بأحكام المعاملات- دعك عن العقائد والعبادات بقدر من الدونية لم يعد يليق بكرامة الإنسان". فهل أراد بقوله هذا أن يفتح المسلمون مساجدهم لغيرهم وأن توحّد المساجد والمعابد والكنائس والكنس؟ وهل أراد أن يجمع بين الوحدانية والثالوث، وبين المساواة بين بنى البشر وفكرة شعب الله المختار [61]، وبين من يعتقد توحيد الربوبية والألوهية لله وحده ومن يقول: "لا إله والحياة مادة [62] ؟! لقد حاول أحد المتحذلقين أن يوفق بين الإسلام والبوذية قبل خمسمائة عام في الهند فماذا كانت النتيجة؟ مخلوق مسخ عجيب وغريب لا ينتمي إلى هذا ولا إلى ذلك سمي دين السيخ [63] أندحر معزولاً في بعض جهات الهند ونيبال
…
والكل يعرف ما آلت إليه البهائية [64] .
لقد التزم الفقهاء الأجلاء بالنصوص في معاملة غير المسلمين- وآراؤهم في جملتها إسلامية عادلة- درسوا كل قضية على حدة في ظل أوضاع إسلامية تطبق فيها أحكام الشريعة. وفي تطبيق أحكام الشريعة ككل تبدو الهنات باهتة كليلة يرتضيها غير المسلم ويأنس بها ويسعد، وهمسة في أذن المتحاملين: كيف عاشت فئات غير إسلامية في المحيط الإسلامي الكبير طيلة عهد الدولة الإسلامية بين الغالبية المسلمة، في حين لم يستطع مسلم واحد العيش في ظل غير المسلمين في الأندلس وصقلية وجنوب إيطاليا وسردينيا وجنوب فرنسا وروسيا الأوربية وأمريكا الجنوبية؟ هل هناك من جواب؟
لقد حافظ الإسلام على كرامة الإنسان- أي إنسان - مهما يكن لونه وجنسه ودينه ولغته ووضعه الاجتماعي، ففي الوقت الذي كان الرسول الله صلى الله عليه وسلم يهاجم عقائد اليهود والنصارى بسبب اتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله يحلون ويحرمون [65] كان يوصي بهم خيراً، ويزورهم ويكرمهم ويحسن إليهم ويعود مرضاهم، ويأخذ منهم ويعطيهم، فقد استقبل وفد نجران في مسجده بحضرة المسلمين [66] وأجرى الصدقة على أهل بيت من اليهود [67] ومات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند أبى الشحم اليهودي [68] وكان في وسعه أن يقترض من أصحابه ولكنه أراد أن يعلم أمته، وقد وقف لجنازة يهودي مرتّ به [69] . وسار أصحابه رضوان الله عليهم والمسلمون من بعدهم على هديه، فعمر بن الخطاب يمّر على يهودي يتسوّل فيبكى ويقول:"أكلناه في شبيبته، وخذلناه عند هرمه، ويفرض له ولأمثاله من بيت مال المسلمين"[70]، وطعنه أحد أهل الذمة بالتآمر مع اليهود والنصارى [71] . وقال وهو في النزع الأخير:"أوصى الخليفة من بعدى بأهل الذمة خيرا، أن يوفي بعهدهم وأن يقاتل من ورائهم وألاّّ يكلفهم فوق طاقتهم"[72] . فهل هناك جسور فوق هذه الجسور يجب مدّها بين المسلمين وبين غير هم؟ إنها جسور قائمة ولا تنقطع- لأن انقطاعها يعني انقطاع دعوة الإسلام- التي حفظها الله من الانقطاع- نعم ما انقطعت هذه الجسور منذ أن ظهر الإسلام وظهرت دولته وطبقت أحكامه على أرض الواقع، وما وهنت إلا عندما انحسرت أحكامه على أرض الواقع، ولكنه بقى على النطاق الفردي يهذب الإنسان. أما في مجال العقيدة- فما هي الجسور التي يمكن مدها بين عقيدة "لا إله إلا الله"وعقيدة تقول: إن الله ثالث ثلاثة [73] . أو عقيدة تقول الله خاص بنا ونحن أحباؤه وأبناؤه وما خلق الله البشر (في زعمهم) إلا لخدمتهم كالحيوانات (الجوبيم)[74] أو عقيدة مادية ملحدة مبنية على صراع الطبقات تقول الحياة
مادة والدين أفيون مخدّر للشعوب [75] .
وعلينا في هذا المجال أن نتذكر أن هناك دينا وشريعة- وقد تشابهت دعوات الرسل جميعا: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} . سورة البقرة الآية: 285، وفي الحين الذي يعتقد المسلمون ذلك ولا يفرقون بين أحد من الرسل لا نجد عقيدة من العقائد الأخرى تعترف بالإسلام أو برسول الإسلام محمد صلوات الله وسلامه عليه
…
وقد اختلفت شرائع الرسل- قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} . سورة المائدة: 48، وكانت شريعة الإسلام بما انطوت عليه من أحكام ينحني لها الزمان والمكان نهاية المطاف وخاتمته في تدرج الشرائع نحو الكمال-. إذن فالأولى أن يركز الكتاب على وجوب تركيز العقيدة في نفوس المسلمين- وعلى وجوب تطبيق شريعة الله في الأرض ليستريح برّ ويُستراح من فاجر، الأولى أن يبرزوا التعصب اليهودي وشوفينيته [76] والصهيونية وأهدافها وأساليبها في محاسبة الإسلام والمسلمين، والغرب المستعمر وتمييزه العنصري واستغلاله واحتكاراته، الأولى أن يبرزوا خصومة المعسكر الليبرالى مع الإنسان في تمييزه بين البيض والسود في أمريكا وفي جنوب إفريقيا وغيرهما، ومع الحياة التي تبرز في القلق وكثرة حوادث الانتحار، وأن يبرزوا خصومة المعسكر الاشتراكي مع الإنسان في عمله على خلق التناقضات بين بني البشر وتقسيمهم إلى طبقات متصارعة متعادية متنافرة باسم التطور والديالكتيك، ومع الحياة حين خالفت هذا المعسكر الفطرة ففقدت الحياة معناها وخضعت للآلة- الأولى أن يبرزوا مذابح المسلمين في الهند والفليبين وإرتيريا وجنوب إفريقيا وتايلاند وأن يدعو المسلمين للالتفاف حول عقيدتهم ليقودوا العالم إلى الهدى فهذا دورهم بعد أن أعلنت الحضارة الغربية الشرقية والغربية عن خوائها الإنساني وفراغها بأن كبلتها المادية وأعمتها الشوفينية فآذنت شمسها بالغروب [77] . والأولى
أن ينادى الكتاب {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَاّ نَعْبُدَ إِلَاّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً..} . سورة آل عمران: 64.
وليس غير الإسلام الذي ارتضاه الله دينا - من عقيدة وتشريع ومبدأ يرتفع بإنسانية الإنسان - وهو وحده الذي يقضي على عناصر الخوف والقلق والتنافس على المصالح والتحاسد وحب السيطرة والاستعلاء التي كرستها الرأسمالية والاشتراكية المتحكمة في عالم اليوم- ويوم تعود قيادة الدنيا للإسلام، تسعد البشرية- ولكل ليل فجر باسم بإذن الله، {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّه} . سورة الروم: هـ. {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} .سورة البقرة من الآية: 214.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
صحيح البخاري: دار إحياء التراث العربي بيروت. ج7 ص 80
[2]
نفسه ج7 ص 81.
[3]
صحيح البخاري: تحقيق وتعليق محمود النوادي، محمد أبو الفصل إبراهيم، محمد خفاجىج3 ص 95 كتاب المزارعة صحيح مسلم. كتاب المساقاة- 7، 9، 2 1، أبو داود- البيوع رقم 67. سلسلة الأحاديث الصحيحة ناصر الدين الألباني، منشورات المكتب الإسلامي. الحديث رقم (8) .
[4]
صحيح البخاري جـ3 ص 1061 الطبعة الثالثة دار ابن كثير اليمامة – بيروت – سنة النشر 1407هـ-1987م تحقيق د:مصطفى أديب البغا.
[5]
هو عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري رضي الله عنه من أكابر الصحابة، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين جعل عمر الخلافة فيهم.
كان أحد أثرياء الصحابة ينفق ماله في سبيل الله وخدمة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعده. عن الزهري: كان أهل المدينة عيالا على عبد الرحمن بن عوف: ثلث يقرضهم ماله، وثلث يقضى دينهم، ويصل ثلثا. وكان لا يعرف من بين عبيده (سير إعلام النبلاء للذهبي ج 1ص88 ـ 89) طبقات ابن سعد ج 2 ص 124/ البداية والنهاية ج 7 ص 179) .
[6]
هو الزبير بن العوام بن خويلد القرشي الأسدي رضي الله عنه، حواري رسول الله مجحف وابن عمته صفية بنت عبد المطلب، الصحابي الجليل الشجاع المقدام أحد العشرة المترين بالجنة وأحد الستة أصحاب الشورى. كان مؤسراً كثير المتاجر وكان له ألف مملوك يؤدون إليه الخراج فلا يدخل بيته من خراجهم شيئا بل يتصدق بها. قتله ابن جرموز غدرا بعد الجمل بوادي السباع على 7 فراسخ من البصرة سنة 36 هـ. (سير أعلام النبلاء ج ص ا 4-65، البداية والنهاية ج 7 ص 249،) .
[7]
هو طلحة بن عبيد الله بن عثمان التيمى القرشي المدني رضي الله عنه من الأجواد وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى- كان يقال عنه: طلحة الجود وطلحة الخير وطلحة الفياض، لكثرة ثرواته وصدقاته وإنفاقه في سبيل الله. استشهد يوم الجمل سنة 36 هـ. بنبل غرب (طبقات ابن سعد ج 3 ص 4 21 0 الإصابة 2/ 1: 229/ تهذيب ابن عساكر ج 7 ص 71) .
[8]
هو عثمان بن عفان بن أبى العاص بن أمية بن عبد شمس القرشي الأموي رضي الله عنه - الخليفة الثالث من الخلفاء
الراشدين. ذو النورين صهر رسول صلى الله عليه وسلم على ابنتيه- وأحد العشرة المبشرين بالجنة. كان غنياً شريفاً في الجاهلية ومن أعظم أعماله تجهيز جيش العسرة بماله. تولى الخلافة وهو أكثر المسلمين مالاً- واستشهد وهو أقلهم مالا سنة 35 هـ. أنظر الطبري. تاريخه ج5 ص145 الإصابة ج 2 ص 462. أسد الغابة ج 3 ص 376.
[9]
صحيح البخاري ج 3 ص 50 كتاب البيوع..
[10]
صحيح مسلم بشرح النووي ج 2 ص 108 ،إيمان 164، أبو داود بيوع 50، الترمذي بيوع 72 ابن ماجة. بيوع 72. نيل الأوطار للشوكاني ص 325.
[11]
صحيح مسلم بشرح النووي ج 11 ص 43-44 0 المطبعة المصرية ومكتبتها، أبو داود بيوع 47 0 ابن ماجة. تجارات راجع 6 البخاري عن الاحتكار (بيوع) ج 3 ص 0 6 رقم 4 5، وأنظر نيل الأوطار للشوكانى ج هـ ص 336، والمنتقى في أخبار المصطفى ج2 ص 353 1 لأرقام: 2947- 2951.
[12]
قال تعالى: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعيا إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا، وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا} . (الأحزاب: 45-47) .
[13]
على يد القائد المسلم قتيبة به مسلم الباهلي الذي وصل في فتوحاته كاشغر وراسل ملك الصين وتهدده وتوعده فان تجاه لطلباته (البداية والنهاية ج 9 صر: 157-159) .
[14]
على يد القائد المسلم عقبة به نافع الفهري الذي وصل المحيط الأطلسي فاقتحمه بفرسه وقال: "والله يا رب لولا هذا البحر المحيط لمضيت مجاهدا في سبيلك ".
[15]
على يد طارق بن زياد وموسى به نصير (البداية والنهاية ج 9 ص 96) وقد اخترق المسلمون هذه الجبال ووصلت بقيادة عبد الرحمن الغافقي إلى أواسط فرنسا حيث ارتدوا إلى جنوب فرنسا بعد معركة بلاط الشهداء عام 132 هـ.
[16]
وهو المعروف آنذاك من القارات: آسيا وإفريقيا وأوربا.
[17]
البداية والنهاية ج 7 ص 44.
[18]
كنز العمال ج 1 ص 173.
[19]
الإمام الشافعي: الرسالة ص 32.
[20]
ابن سعد. الطبقات ج 3 ق اص 167/ ابن هشام. السيرة ج 2 ص 413.
[21]
والمدائن هي طيسفون وكانت عاصمة كسرى. انظر الطبقات ج 4 ص 221 / الإصابة ج 4 ص 223
[22]
ولا يزال المضيق الذي عبره إلى الأندلس يسمى مضيق جبل طارق إلى اليوم.
[23]
ان كافور مولى السلطان محمد بن طغج لأخشيد اشتراه من بعض أهل مصر بثمانية عشر دينارا. كان شهما شجاعا ذكيا جيد السيرة، توصل إلى حكم الديار المصرية والشامية والحجازية سنة 3 55 هـ. مدحه الشعراء ومنهم المتنبي الذي عاد فهجاه (البداية والنهايةج11/266) .
[24]
خلف المماليك الدولة الأيوبية في مصر والشام والحجاز ودامت دولتهم من 250 ا-1517 م ومن أعظم مآثرهم في بلاد الإسلام:
(أ) رأوا التتار المغول عن ديار الإسلام بعد أن كسروا حدة موجتهم في معركة عين جالوت عام 658 هـ/1260م.
(ب) طهروا بلاد الشام من بقايا الصليبيين على يد الأشرف بن قلاوون سنة1291 م.
[25]
حكم المماليك الهند الإسلامية 602ـ689 هـ/1290م ومن أشهرهم قطب الدين آيبك، والتمش 607-633 هـ الذي لقبه الخليفة العباسي المستنصر بالله ناصر أمير المؤمنين. وبلبن (الشيخ خان أي السيد الأعظم) الذي أشتهر بعدله وتمسكه الشديد بآداب الإسلام (ت سنة 686 هـ) .
[26]
تنتسب الدولة العثمانية إلى عثمان بن ارطغرل التركي الذي انتقلت إليه زعامة الأتراك عام 687 هـ/ 1288 م. وأعلن استقلاله بإمارته عام 699 هـ/ 1300 م وأصبحت المنفس الوحيد للجهاد في الإسلام اجتذبت كل راغب فيه، وتمكنت من الاتساع وفتح القسطنطينية سنة 857 هـ/1453م. واتخذتها عاصمة لها. تنازل الخليفة العباسي للسلطان سليم عن الخلافة بعد أن دخل مصر فاتحا سنة 923 هـ/1517م. فأعاد العثمانيون للخلافة هيببتها إلى أن أسقطها كمال أتاتورك من جود الدونمة سنة1924م.
[27]
الموحدون: دولة أسسها محمد بن عبد الله بن تومرت من البربر المغاربة سنة 515 هـ وقد خلفت دولة المرابطين في المغرب والأندلس. واستمرت هذه الدولة حتى سنة 668هـ (المغرب الكبير. (2) العصر الإسلامي. د. السيد عبد العزيز سالم ص 767-831) .
[28]
الدولة الغزنوية: مؤسسها سبكتكين التركي سنة 367 هـ في غزنة (بأفغانستان) ، وأشهر سلاطينها محمود الغزنوي. (387- ا 42) الذي لقبه الخليفة يمين الدولة وأمين الملة وقاد سبع عثرة غزوة إلى الهند فقضى فيها على الفرق الضالة من رافضة وقرامطة وغيرهم، ووطد حكم الإسلام في البنجاب ودهلي ولاهور وعمل على نشر الإسلام هناك. واستمرت هذه الدولة تحمل راية الإسلام في المشرق والهند إلى أن سقطت سنة 582 هـ على أيدي الغوربين الأتراك أيضا. انظر ابن كثير- البداية والنهاية ج 12، وابن الأثير ـ الكامل ج7.
[29]
سورة الفتح الآية: 29.
[30]
انظر زاد المعاد لابن القيم ج 2 ص 38.
[31]
انظر نيل الأوطار للشوكانى ج 8 ص 62.
[32]
انظر صحيح مسلم ج هـ ص 46 باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله.
[33]
الخوارزمى- مفيد العلوم- ص 589.
[34]
وهى الحركة التي قامت بها أوربا في القرن الخامس عشر والسادس عشر لتطويق العالم الإسلامي تمهيدا لضربه من الداخل
بعد أن عجزت عن ضربه في القلب في الحروب الصليبية التي استمرت قرنين. كما هدفت إلى كشف طريق تجارى لا يمر بديار المسلمين للعمل على إفقار العالم الإسلامي.
[35]
أو الانقلاب الصناعي الذي شهدته أوربا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر الميلادي لإحلال الآلة محل الأيدي العاملة البشرية فزاد الإنتاج وازداد الشره على المواد الخام، فاتجهت أوربا للاستعمار لإيجاد أسواق لتصريف بضاعتها وللحصول على المواد الخام اللازمة للصناعة.
[36]
الأمريكي والروسي الذي يقوم على السيطرة والابتزاز والاحتكار والألاعيب السياسية والمناورات.
[37]
وهي المحاكم التي اتبعتها أسبانيا لمطاردة المسلمين في الأندلس والعمل على إبادتهم.
[38]
وهي السياسة التي أتبعتها روسيا القيصرية في بلاد المسلمين في عمليات لإجبار المسلمين على التنصر على المذهب الارثوذكسى.
[39]
وهي السياسة التي اتبعها المستعمرون في مختلف بلاد الإسلام في الهند وأفريقيا وإندونيسيا والتركستان والقرم والقفقاس وغيرها.
[40]
الشافعي- الأم- ج 4 ص 186.
[41]
الطبري - تاريخ- ج 4 ص 16.
[42]
انظر الكاشانى ج 7 ص 111.
[43]
الطبري ج 5 ص 250.
[44]
أنظر عهد عمر بن الخطاب لأهل إيلياء النصارى/ الطبري ج 3 ص 69. مجير الدين- الإنس الجليل في تاريخ القدس والخليل ج 1 ص220.
[45]
الأم للشافعي ج 4 ص 220.
[46]
محمد الصادق عفيفي- المجتمع الإسلامي والعلاقات الدولية ص 29.
[47]
تفصيل المؤامرة في كتاب: أثر أهل الكتاب في الفتن والحروب الأهلية في القرن- الأول الهجري- تحت الطبع.
[48]
وهم الدين تظاهروا بالإسلام تقية في سالونيك بعد أن فتحت لهم الدولة العثمانية ذراعيها فعملت على الإطاحة بها وتمكنوا
من ذلك على يد كمال أتاتورك سنة 1924 م. (أنظر- أنور الجندي- العالم الإسلامي والاستعمار ص 38) .
[49]
وهى بريطانيا وفرنسا وروسيا وأسبانيا والبرتغال وهولندا وبلجيكا وإيطاليا.
[50]
د محمد محمد حسين- الاتجاهات الوطنية ص 24.
[51]
نفسه ص 24.
[52]
المعركة التي انتصر فيها الفرنسيون على القوات العربية التي كان يقودها فيصل. واستشهد فيها يوسف العظمة. ودخل الفرنسيون دمشق سنة 1920 م.
[53]
سنة 492 هـ/1099م، وقد قتلت في ساحة المسجد الأقصى سبعين ألفا من المسلمين ومنهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم وعبادهم وزهادهم ممن فارق الأوطان وجاور بذلك الموضع الشريف (ابن الأثير. الكامل ج 10 ص 282 ـ284، ابن الطبري- تاريخ مختصر الدول ص 197، غوستاف لوبون- حضارة العرب ص 324-327.
[54]
ابن سعد- الطبقات ج 3 ق 1 ص ا 6/ سير أعلام النبلاء ج 1ص 168.
[55]
ابن هشام- السيرة ج 2 ص 184.
[56]
أخرجه البخاري في المناقب 3754/ والطبراني رقم 1015.
[57]
سورة آل عمران: 19.
[58]
سورة البقرة: 120.
[59]
سورة المائدة51.
[60]
انظر البخاري في كتاب الجهاد والسير.
[61]
وهى الفكرة اليهودية التلمودية0
[62]
وهى الفكرة الشوعية الملحدة.
[63]
ومؤسس ديانة السيخ (السيك) هو بابانانك ولد سنة 1469م. وتوفي سنة 1538 وكان هذا الدين في بدايته أقرب إلى الإسلام منه إلى الهندوكية ثم إنه غدا بعد ضعف الدولة الإسلامية في الهند أقرب إلى الهندوكية وهو الآن دين قائم برأسه ويضمر أهله عداوة شديدة للإسلام والمسلمين.
[64]
ظهرت في إيران على يد ميرزا على محمد عام 1260 هـ/1844م. (انظر البهائية للإحسان إلهي ظهير. خفايا الطائفة البهائية للدكتور أحمد محمد عوف) .
[65]
قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} . سورة التوبة: 31.
[66]
ابن هشام: السيرة. ج 2 ص 206.
[67]
أبو عبيد: الأموال ص 613.
[68]
الشافعي: الأم. ج3 ص 153.
[69]
كشف الغمة ج 2 ص 215.
[70]
د. سليمان محمد الطماوي: عمر بن الخطاب وأصول السياسة والإدارة الحديثة صلى الله عليه وسلم ص 98.
[71]
في الدعوة الإسلامية: (د. جميل المصري- تحت الطبع) تفاصيل هذه المؤامرة.
[72]
يحي بن آدم: الخراج 74- سنن البيهقى ج 9 ص 206 باب الوصاة بأهل الكتاب.
[73]
العقيدة النصرانية التي أسسها بولس- شاود- والتي انحرفت عن المسيحية الموحْدة.
[74]
العقيدة اليهودية التلمودية التي انحرفت عن شريعة موسى عليه السلام والأنبياء من بعده.
[75]
العقيدة الشيوعية التي أسسها كرل ماركس اليهودي.
[76]
شدة التعصب والانحراف كالذي ظهر عند الصهيونية والنازية والفاشية.
[77]
انظر: انهيار الحضارة الغربية لاشينجلر. والإنسان ذلك المجهول لالكسيس كارليل.
عُقُودُ الزَّبَرجَد على مُسْنَدِ الإمَام أحمَد في إعْرَاب الحَدِيث
ـ2ـ
تأليف: جلال الدين السيوطي
تحقيق: الدكتور حسن موسى الشاعر
أستاذ مساعد بكلية اللغة العربية بالجامعة
مُسند أُبَّيْ بن كَعْب رضي الله عنه
1ـ حديث "ففضت عرقا وكأنما أنظر إلى الله فَرَقا"[1]
[في التمييز][2] .
[عَرَقًا وفَرَقا] هما منصوبان على التمييز. فالأوّل محّوِل عن الفاعل، والأصل: ففاض عرقي، فحّول الإسناد إلى ضمير المتكلم، وانتصب عرقاَ على التمييز.
قال ابن مالك في شرح التسهيل [3] : "ممّيز الجملة ما ذكر بعد جملة فعلية مبهمة النسبة. وإنما أطلق على هذا النوع بخصوصه مع أن كلّ تمييز فضلة يلي جملة، لأن لكلّ واحد من جزأي الجملة في هذا النوع قسطاً من الإبهام يرتفع بالتمييز، بخلاف غيره، فإن الإبهام في أحد جزأي جملته، فأطلق على مميزه مميّز مفرد، وعلى هذا النوع مميّز جملة. والأكثر أن يصلح لإسناد الفعل إليه مضافاً إلى المجهول فاعلا، كقولك في: طاب زيدٌ نفساً، و {َاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} [4] : طابت نفس زيد، واشتعل شيب الرأس".
وقال الزمخشري في المفصّل [5] : هذه التمييزات مزالة عن أصلها، إذ الأصل وصف النفس بالطّيب، والعرق بالتصبب، والشيب بالاشتعال، وأن يقال: طابت نفسُه، وتصبب عرقهُ، واشتعل شيبُ رأسي، لأن الفعل في الحقيقة وصف في الفاعل. والسبب في هذه الإزالة قصدهم إلى ضرب من المبالغة والتأكيد.
قال ابن يعيش في شرحه [6] : "ومعنى المبالغة أن الفعل كان مسنداً إلى جزء منه، فصار مسنداً إلى الجميع، وهو أبلغ في المعنى. والتأكيد أنه لما كان يفهم منه الإسناد إلى ما هو منتصب [به] ، ثم أسند في اللفظ إلى زيد تمكّن المعنى، ثم لما احتمل أشياء كثيرة، وهو أن تطيب نفسه بأن تنبسط ولا تنقبض، وأن يطيب لسانه بأن يعذب كلامه، وأن يطيب قلبه بأن يصفا انجلاؤه، بُيّن المراد من ذلك بالنكرة التي هي فاعل في المعنى، فقيل طاب زيدٌ نفساً، وكذا الباقي. فهذا معنى قوله: والسبب في هذه الإزالة قصدهم إلى ضرب من المبالغة والتأكيد".
انتهى
وأما الثاني فليس محّولاً عن شيء، وإنما هو مبيّن لجهة التشبيه، نحو: أنت الأسدُ شجاعةً، والبحرُ كرماً، والخليفةُ هيبةً.
وفي أوّل هذا الحديث عند مسلم [7]"فسُقِطَ في نفسي من التكذيب ولا إذْ كنتُ في الجاهلية":
[معنى سُقِط]
قال القاضي عياض [8] : "معنى سُقِطَ في نفسي لما أي أعزته حيرة ودهشة".
قال الهروي [9] في قوله تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} [10] : "أي تحيّروا وندموا، يقال للنادي المتحيرّ على فِعْلٍ فعله: سُقط في يده. وهو كقوله: قد حصل في يده من هذا مكروه".
انتهى.
وقال أبو حيان في البحر [11] : "ذكر بعض النحويين أن قول العرب "سُقِطَ في يده"فعل لا يتصرف، فلا يستعمل منه مضارع ولا اسم فاعل ولا مفعول. وكان أصله متصرفاَ. تقول!: سَقَط الشيء إذا وقع من علو، فهو في الأصل متصّرف لازم
…
وسُقط مبني للمفعول، والذي أوقع موقع الفاعل هو الجار والمجرور، كما تقول: جُلِسَ في الدار، وضحِكَ من زيد. وقيل: سُقِط يتضمن معقولاً وهو هاهنا المصدر الذي هو الإسقاط، كما يقال: ذُهِبَ بزيد".
قال أبو حيان: "وصوابه وهو هنا ضمير المصدر الذي هو السقوط، لأن سُقِطَ ليس مصدره الإسقاط، وليس نفس المصدر هو المفعول الذي لم يُسَّم فاعلُه، بل هو ضميره [12] . وقوله: "ولا إذْ كُنْتُ في الجاهلية".
قال أبو البقاء [13] : "تقديره ولا أشكل علىَّ حال القرآن إذْ أنا في الجاهلية كإشكال هذه القصّة علىَّ.
وقال التوُّرِبشْتي [14] في شرح المصابيح: قيل فاعل "سقط " محذوف، أي فوقع في نفسي من التكذيب ما لمَ أقدر على وصفه، ولم أعهد بمثله ولا إذْ كنتُ في الجاهلية.
وقال الطّيبىّ في شرح المشكاة [15] : "قد أحسن هذا القائل وأصاب في هذا التقدير، ويشهد له قوله: "فلما رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما غشيني"أي من التكذيب. فَ "مِنْ"على هذا بيانية. والواو في "ولا إذْ كنتُ"لما تستدعى معطوفاَ عليه، و"لا"المؤكدة توجب أن يكون المعطوف عليه منفياً، وهو هذا المحذوف. وهذا أسدّ في العربية من جعل "ولا إذْ كنتُ"صفة لمصدر محذوف، كما قدّره المظهري [16] ، حيث قال: "يعنى وقع في خاطري من تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في تحسينه لشأنهما تكذيب أكثر من تكذيبي إياه قبيل الإسلام، لأن واو العطف مانعة، ولو ذهب إلى الحال لجاز على التعسّف".
قال: "وذكر المظهري أن "عرقاً وفرقاً"منصوبان على التمييز، والظاهر أن يكون "فرقاً"مفعولاً له، أوحالا، لأنه لا يجوز أن يقال: انظر فرقي".
قال: "وقوله: "فَرَدَدْتُ إليه أنْ هَوِّن على أمتي".
يجوز أن تكون "أنْ "مفسّرة [17] ، لما في رددتُ من معنى القول، ويجوز أن تكون مصدرية، وإن كان مدخوله أمراً. وجوّز ذلك صاحب الكشاف نقلا عن سيبويه" [18] .
وقوله: "ولك بكُلِّ رَدَّةٍ مسألةٌ تسْألُنيها".
" تَسْألُنيها"صفة مؤكدة لمسألة، كقوله تعالى:{وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [19] أي مسألة
ينبغي لك أن تسألها، وأنك لا تخيب فيها. انتهى [20] .
2-
حديث اللُّقَطَة "فإنْ جاء صاحِبُها وإلاّ استَمْتِعْ بها"[21] .
قال ابن مالك في توضيحه [22] : "تضمَّن هذا الحديث حذف جواب "إنْ "الأولى وحذف شرط "إنْ " الثانية، وحذف الفاء من جوابها، فإن الأصل: فإنْ جاء، صاحبُها أخذها وإلا يجئ فاسْتمتعْ بها".
3-
حديث: "يغسلُ ما مَسَّ المرأةَ منه"[23] .
قال أبو البقاء: -وهو أول حديث ذكره في إعرابه-: ""ما"بمعنى الذي، وفاعل "مسَّ "مضمر فيه يعود على الذي، والذي وصلتها مفعول "يغسل"، و" المرأةَ"مفعول "مسَّ ". ولا يجوز أن ترفع "المرأة"بمسَّ على معنى ما مسَّت المرأةُ لوجهين: أحدهما: أن تأنيث المرأة حقيقي، ولم يفصل بينها وبن الفعل فلا وجه لحذف التاء. والثاني: أن إضافة المسّ إلى الرجل وإلى أبعاضه حقيقة، قال تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [24] وإضافة المسّ إليها في الجماع تجوّز". انتهى.
4-
حديث موسى والخضر: [25]
قال أبو البقاء [26] : "قوله: "أنَّى بأرضك السلام".
في "أنّى"ها هنا وجهان: أحدهما: من أين، كقوله تعالى:{أَنَّى لَكِ هَذَا} [27] فهي ظرف مكان. و"السلام"لما مبتدأ. والظرف خبر عنه. والثاني: هي بمعنى كيف، أي كيف بأرضك السلام؟ ووجه هذا الاستفهام أنه لما رأى ذلك الرجل في قفر من الأرض استبعد علمه بكيفية السلام. فأما قوله "بأرضك"فموضعه نصب على الحال من السلام، والتقدير: من أين استقرَّ السلام كائناً بأرضك؟ ".
وقوله: "موسى بني إسرائيل":
أي أنت موسى بني إسرائيل؟ فأنت مبتدأ، وموسى خبره.
وقوله: "فكلموهم أن يحملوهما فعُرف الخضر فحملوهما".
المعنى أن موسى والخضر ويوشع قالوا لأصحاب السفينة هل تحملوننا؟ فعرفوا الخضر فحملوهم. فجمع الضمير في "كلموهم "على الأصل، وثنّى "يحملوهما"لأنهما المتبوعان، ويوشع تبع لهما. ومثله قوله تعالى:{إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [28] فثنى ثم وحد لما ذكرنا.
وقوله: "قومٌ حملونا".
أي هؤلاء قوم، أوهم قوم. فالمبتدأ محذوف. وقوم خبره.
وقوله: "فأخذَ برأسه".
في الباء وجهان أحدهما: هي زائدة، أي أخذ رأسه. والثاني: ليست زائدة، لأنه ليس المعنى أنه تناولت رأسه ابتداء، وإنما المعنى أنه جرّه إليه برأسه ثم اقتلعه. ولو كانت زائدة لم يكن لقوله "اقتلعه"معنى زائد على أخذه.
وقوله: "لَوددْنا لو صبرَ".
"لو" هنا بمعنى "أنْ "الناصبة للفعل [29]، كقوله تعالى:{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ} [30]{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُون} [31] . وقد جاء بأنْ لا قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَه} [32] . و"صبر"بمعنى يصبر، أي وددنا أن يصبر". انتهى كلام أبى البقاء.
قلت: وبقى فيه أشياء منها قوله: "موسى بني إسرائيل":
فيه إضافة العلم وهو"موسى" إلى بني إسرائيل. والقاعدة النحوية أن العلم لا يضاف لاستغنائه بتعريف العلمية عن تعريف الإضافة، إلا أنه جاء إضافة العلم قليلاً في قول الشاعر:
علا زيْدُنا يومَ النَّقا رأسَ زَيْدِكُم [33]
فأوّل على أنه تُخُيّل فيه التنكير لوقوع الاشتراك في مسمَّى هذا اللفظ، وكذا يؤول في هذا الحديث.
قال ابن الحاجب [34] : "شرط الإضافة الحقيقية تجريد المضاف من التعريف".
قال الرضي [35] : "فإن كان ذا لام حذفه لامه، وإن كان علماً نكّر بأن يجعل واحداً من جملة من سمّي بذلك اللفظ
…
قال: وعندي أنه يجوز إضافة العلم مع بقاء تعريفه، إذ لا منع من اجتماع التعريفين كما في النداء، نحو: يا هذا، ويا عبد الله. وذلك إذا أضيف العلم إلى ما هو متصف به معنى، نحو: زيدُ الصدّق، ونحو ذلك. وإن لم يكن في الدنيا إلا زيد واحد. ومثله قولهم: مُضمرُ الحمراء [36] ، وأنمارُ الشّاء وزيدُ الخيل [37] . فإن الإضافة فيها ليست للاشتراك المتفق
…
انتهى.
وقوله: "ما نَقَصَ عِلْمي وعلمُك مِنْ عِلْمِ الله إلا كنقرةِ هذا العصُفورِ مِنْ هذا البحْر"
ليس هذا الاستثناء على ظاهره، لأن علم الله لا يدخله النقص، فقيل "نقص"بمعنى أخذ، وهو توجيه حسن، فيكون من باب التضمين [38] ، ويكون التشبيه واقعاً على الآخذ لا على المأخوذ منه. وقيل المراد بالعلم المعلوم بدليل دخول حرف التبعيض، لأن العلم القائم بذات الله تعالى صفة قديمه لا تتبعض، والمعلوم هو الذي يتبعض. وقيل هو من باب قول الشاعر:
بهنّ فُلولٌ مِنْ قِراع الكتائب [39]
ولا عَيْبَ فيهم غيرَ أنّ سيوفهُم
لأن نقر العصفور لا يُنقص البحر. وقيل "إلا"بمعنى "ولا"، أي ولا كنقرة هذا العصفور [40] . كما قيل بذلك في قوله تعالى:{لِئَلَاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَاّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [41]، أي ولا الذين ظلموا. لكن قال أبو حيان في البحر [42] :"إن إثبات "إلا"بمعنى "ولا"لا يقوم عليه دليل.
وقوله: "إني على عِلْم من عِلْم الله". "على"هنا للاستعلاء المجازى.
وقوله: "فبينما هُمْ في ظلِّ صَخْرة في مكانٍ ثَرْيان"[43] .
قال ابن مالك في توضيحه [44] : " [ثَرْيان] ، هو بلا صرف، وفيه شاهد على أن منع أصرف، فَعْلان ليس مشروطا بأن يكون له مؤنث على فَعْلى، بل شرطه ألا تلحقه تاء التأنيث، ويستوي في ذلك مالا مؤنث له من قبل المعنى "لَحْيان" [45] ومالا مؤنث له من قبل الوضع كـ"ثَرْيان"، وما له مؤنث على فَعْلى في اللغة المشهورةكـ"سَكْران"". انتهى.
وقال الكرمانى [46] : "اللام في قوله (لَوَدِدْنا) جواب قسم محذوف. و (لوصَبَر) في تقدير المصدر، أي والله لوددنا صبر موسى. وهذا حكم كلّ فعل وقع مصدّراً بلو بعد فعل المودّة. قال الزمخشرى في قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ} [47] ودّوا إدهانك [48] . و (يُقَصّ) بصيغة المجهول. و (مِنْ أمرهما) مفعول ما لم يسمّ فاعله". [انتهى كلام الكرمانى] .
5-
حديث: "فُرِجَ سَقْفُ بيتي"[49] الحديث.
وفيه "ثم جاء بطَسْتٍ مِنْ ذَهَب مملوءاً حِكْمةً وإيماناً فأفْرغَها في صدري".
قال أبو البقاء [50] : ""مملوءًا" بالًنصب على الحال. وصاحب الحال "طَسْت"لأنه وإن كان نكرة فقد وصف بقوله "مِنْ ذَهَب"فقرب من المعرفة ويجوز أن يكون حالا من الضمير في الجار، لأن تقديره بطَسْتٍ كائنِ من ذهب أو مصوغ من ذهب، فنقل الضمير من اسم الفاعل إلى الجار. ولو روي بالجَر جاز على الصفة. وأما "حكمة وإيمانا"فمنصوبان على التمييز".
قال: "والطَّسْت مؤنث ولكنه غير حقيقي، فيجوز تذكير صفته حملاً على معنى الإناء"انتهى.
6-
حديث: "أتَدري أي آيةٍ في كتابِ الله مَعكَ أعْظَمُ"[51] .
قال أبو البقاء [52] : "لا يجوز في "أيّ"هاهنا إلا الرفع على الابتداء و"أعظم"خبره. و"تدرى"معلّق عن العمل [53] ، لأن الاستفهام لا يعمل فيه الفعل الذي قبله، وهو كقوله تعالى: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى} [54] ".
وفي حديث عمران بن حصين "أتدرون أيُّ يوم ذاك"[55] : "أيّ "مبتدأ، و"ذاك "خبره. وقيل "ذاك " المبتدأ، و"أيّ "الخبر. ولا يجوز نصبه بتدرون البتة".انتهى.
7-
حديث: "أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سورة وعده أن يعلمه إياها، فقال أبيّ: "فقلت: السورةَ التي قلت لي" [56] .
قال أبو البقاء [57] : "الوجه النصب على تقدير اذكر لي السورة، أو علمني. والرفع غير جائز إذ لا معنى للابتداء هنا".
8-
حديث: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا إذا أصْبَحْنا أصْبَحْنا على فِطْرَةِ لإسلام، وكلمة الإخلاص، وسنّة نبيّنا صلى الله عليه وسلم، وملّة أبينا إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كان من المشرَكين"[58] .
قال أبو البقاء [59] : "تقديره: يعلّمنا إذا أصبحنا أن نقول أصبحنا على كذا، فحذف القول للعلم به، كما قال تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُم} [60] أي يقولون سلام عليكم".
قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام [61] في أماليه [62] : "على" إذا استعملت نحو قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [63] تدل على الاستقرار والتمكن من ذلك المعنى، لأن الجسم إذا علا شيئاً تمكن منه، واستقر عليه".
9-
حديث "كأيّنْ تقرأ سورةَ الأحزاب أو كأيِّن تعدُّها؟ قال: ثلاثا وسبعين آية. قال: قط"[64] .
[كأيّن وقط]
قال أبو البقاء [65] : "أمّا "كأيّنْ"فاسم بمعنى كم. وموضعها نصب بتقرأ أو تعد. وقوله "ثلاثاً وسبعين"منصوب بتقدير أعدّها ثلاثاً وسبعين، فهو مفعول ثانٍ. وأما "قطّ"فاسم مبنى على الضم، وهو للزمان الماضي خاصة. ومنهم من يضمّ القاف، ومنهم من يفتح القاف ويخفف الطاء ويضمّها. ولا وجه لتسكينها هنا. والتقدير: ما كانت كذا قط". انتهى.
قلت: في "كأيِّن"خمس لغات. قال ابن مالك في الكافية الشافية [66] :
وهكذا كَيَن وكأيِنْ فاسْتَبِنْ
وفي كأيِّنْ قيل كائِنْ وكَإنْ
وقال في شرحها: "أصلها "كأيِّنْ "وهي أشهرها، وبها قرأ السبعة إلا ابن كثير [67] . ويليها "كائِنْ"وبها قرأ ابن كثير، والبواقي لم يقرأ بشيء منها في السبع. وقرأ الأعمش [68] وابن مُحيصن [69] "وكأيِنْ"بهمزة ساكنة بعد الكاف وبعدها ياء مكسورة خفيفة، وبعدها نون ساكنة في وزن "كَعْيِنْ"ولا أعرف أحداً قرأ باللغتين الباقيتين".
وقال ابن الأثير [70] في النهاية [71] في هذا الحديث: "قوله "أقط "بألف الاستفهام. أي أحَسْب. قال: ومنه حديث حيْوة بن شُرَيح [72] : "لقيت عقبة بن مسلم [73] فقلت له: بلغني أنك حدّثت عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا دخل المسجد: "أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم"[74] قال: أقط؟ قلت: نعم".
وقال الأندلسي [75] في شرح المفصَّل: "قط"مخففة ومشدّدة. فالمخففة معناها. حَسْب، وهي مسكنّة مبنيّة لوقوعها موقع فعل الأمر. والمشدّدة معناها ما مضى من الزمان. وبُنيت لأنها أشبهت الفعل الماضي، إذ لا تكون إلا له، ولأنها تضمنت معنى "في"، لأن حكم الظرف أن يحسن فيه "في"، ولماّ لم يحسن ظهوره هنا مع أنه اسم زمان دل على أنها مضمنة لها، وحرِّكت لالتقاء الساكنين، وضمّت لأنها أشبهت "مُنْذُ"لأنها في معناها، فإذا قلت: ما رأيتُه قطُّ، فمعناه: ما رأيته منذُ كنت. انتهى.
10-
حديث: "أنهم جمعوا القرآن في مصاحف في خلافة أبي بكر، وكان رجال يكتبون، وُيمِلُّ عليهم.."[76] .
قال أبو البقاء [77] : "يُملُّ"لما بضمِ الياء لا غير، وماضيه أمَلَّ. وفي القرآن "أولا يَسْتطيع أنْ يُملَّ هو" [78] . وفيه لغة أخرى: أمْلى يُمْلي، ومنه قوله تعالى:{فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ} [79] .