المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 69-70 فهرس المحتويات 1- أطيب النشر في تفسير الوصايا العشر: الدكتور - مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - جـ ٣٢

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌ ‌العدد 69-70 فهرس المحتويات 1- أطيب النشر في تفسير الوصايا العشر: الدكتور

‌العدد 69-70

فهرس المحتويات

1-

أطيب النشر في تفسير الوصايا العشر: الدكتور مرزوق بن هياس آل مرزوق الزهراني

2-

المنهج في البحث

3-

أطيب النشر في تفسير الوصايا العشر (1) : الدكتور مرزوق بن هياس آل مرزوق الزهراني

4-

أطيب النشر في تفسير الوصايا العشر (2) : الدكتور مرزوق بن هياس آل مرزوق الزهراني

5-

أطيب النشر في تفسير الوصايا العشر (3) : الدكتور مرزوق بن هياس آل مرزوق الزهراني

6-

أطيب النشر في تفسير الوصايا العشر (4) : الدكتور مرزوق بن هياس آل مرزوق الزهراني

7-

أطيب النشر في تفسير الوصايا العشر (5) : الدكتور مرزوق بن هياس آل مرزوق الزهراني

8-

استِدْرَاكَاتٌ عَلَى كِتَاب تَارِيخِ التّرَاثِ العَرَبِيِّ فِي كُتُبِ التّفسِيرِ: للدكتور حكمت بشير ياسين

9-

مسائل في النحو أجاب عليها أبو البقاء يعيش بن علي ابن يعيش الحلبي

10-

عُقُودُ الزّبَرْجَدِ عَلَى مُسْنَدِ الإمَام أحمَدَ فِي إعرَاب الحَدِيثِ: تأليف: جلال الدين السيوطي تحقيق: الدكتور حسن موسى الشاعر

11-

رسائل لم يحملها البريد: للشيخ عبد الرءوف اللبدي

12-

الزَّلَاّقة مَعركَةٌ مِنْ مَعَارِكِ الإِسْلَامِ الحَاسِمَةِ فِي الأندَلُس: للدكتور جميل عبد الله محمد المصري

عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م

ص: 283

أطيب النشر في تفسير الوصايا العشر

الدكتور مرزوق بن هياس آل مرزوق الزهراني

أستاذ مساعد بكلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية

الجامعة الإسلامية - المدينة المنورة

المقدمة

الحمد لله أجل الحمد وأوفاه، والصلاة والسلام على أفضل رسل الله، سيدنا محمد ابن عبد الله، الذي بعثه ربه للعالمين رحمة، ولهداية البشر اصطفاه، وبه ختم الأنبياء، فلا نبوة بعده لأحد من خلق الله، وأنزل الله عليه الكتاب معجزة خالدة، وتبيانا لما فيه سعادة الإِنسان في أولاه وأخراه، وصلى الله على آله الأطهار، وأصحابه الأبرار، ومن اقتفى أثره وترسم خطاه.

أما بعد:

فهذه نظرات علمية، وتأملات فكرية في معاني آيات من كتاب الله عز وجل، ضمت الآيات أموراً هي قوام المجتمع الإسلامي وأسس مثالية الحياة لكل إنسان وفقه الله وبفضله ورحمته اجتباه، تلكم الأمور هيَ المسماة (الوصايا العشر) والآيات التي ضمت هذه الوصايا هي المبدوءة بقوله تعالى:{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إلى قوله تعالى: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [1] .

وقد يخطر في ذهن القارئ الكريم أن يسأل عن سبب عنايتي بهذا الموضوع دون سواه من موضوعات الشريعة التي تزخر بكثير من المسائل في العديد من الأبواب. وجوابي عن هذه الخاطرة أن الحافز إلى هذا العمل أمران:

1-

حب المعايشة لكتاب الله عز وجل. ولأن هذه الوصايا عليها مدار الإسلام، وهي أسس النجاة وقوارب الفوز لعبور أمواج بحار الحياة العاتية، فالمستمسك بها تَحصل له السلامة في الدنيا والنجاة في الآخرة.

ص: 284

2-

إن كتاب الله عز وجل هو المصدر الأول للشريعة الإسلامية، والسنة النبوية المصدر الثاني المبين والمفصل لما جاء في المصدر الأول فالعناية بهما أوجب الواجبات والتعرف على شيء من كنوزهما جهد المقل، وما عداهما من العلوم ففرع عنهما أو خادم لهما، وقد كنت عايشت سنة رسول الله صلى بعض الشيء، وتاقت نفسي إلى جلسات جمع كتاب الله عز وجل، فرأيت أن أبدأ بدراسة تلك الوصايا المباركة رجاء أن تكون وصيتي لنفسي كما هي وصية الله إلى عباده جميعا، ووصية نبي الله إلى أمته، ومما تجدر الإشارة إليه هنا إعطاء القارئ الكريم نبذة عن نظرتي إلى هذه الوصايا. فأقول سائلا الموَلى جل ثناؤه التوفيق لكل خير، والبعد عن المزالق والزلل: إن المتأمل لتلك الآيات التي وردت بعد الحديث عن تشريعات الأنعام والثمار يجد أن تلك الوصايا هي قواعد هذا الدين الذي جد في بناء المجتمع الإنساني بناء يليق بمقامه واصطفائه، ففيها سعادة بني الإنسان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فهي قوام حياته تذكي جذوة التوحيد في نفسه لتحرق تلك الجذوة أوهام الجاهلية، وتبيد تصوراتها، وتكشف زيف مزاعمها، فتملأ قلب الإنسان بنور الإيمان الذي يضيء له الطريق عبر مشواره الطويل إلى أن يلقى ربه عز وجل علىَ صراط مستقيم، ويجد المتأمل أيضا أن هذه الوصايا قوام حياة الأسرة الإنسانية التي يتكون منها المجتمع البشري عبر أجيالها المتلاحقة، فكل أسرة تستمد هدايتهَا من هذا المنهل العذب فإنها تؤتي ثمارها طيبة مباركة بإذن ربها محفوفة برعاية الله في كل ما يحوط الحقوق الإنسانية من ضمانات، وتسعد بكل ما يدفع إلى القيام بالواجبات، وتقدمت الإشارة إلى أن الدين الإسلامي عني ببناء المجتمع الإسلامي الذي بناؤه نابع من صلاح الأسَرة، ومن هذه الوصايَا ندرك القدر العظيم في بناء المجتمع الذي جعل الدين الإسلامي التكافل أحد لبناته، فالعفة والطهارة تحوط

ص: 285

كل ما يجري فيه من معاملات، كل ذلكَ مرتبط بعهد الله عز وجل ولتحقيق هذه الغاية يرى المتأمل أن الوصايا بدأت بأعظم أسس إصلاح المجتمع وهي أسس عظيمة لكن توحيد الله عز وجل في المقام الأول، فالمجتمع السليم يقوم على المبدأ السليم ولا حياة لمجتمع يفقد العقيدة النقية الموافقة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإذا صحت العقيدة صح بناء المجتمع وإذا فسدت العقيدة فسد المجتمع، وبصحة العقيدة تصح العبادات، وإذا صحت العبادات أثمرت الأعمال وقوي الرجاء في النجاة بين يدي الله عز وجل ما لم يتخلف القبول بسبب خارجي، ولهذا فإن اللازم قبل الدخول في الأوامر والنواهي، وقبل الشروع في التكاليف والواجبات أن تقوم في المجتمع قاعدة التوحيد قال تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [2] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا لا إله إلا الله

" [3] الحد يث. وقال لما بعث معاذاً إلى اليمن: "

فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله

" [4] وق ـد عني الكتاب والسنة بالتوحيد وجعله قاعدة أساسية لجميع الأعمال، منها تستمد الحقوق والواجبات، وقد رتب الِإسلام على العقيدة ما رتب من الولاء والبراء، وما وضع من الشرائع والأحكام فيجب أن يعترف الإنسان في هذا العصر المليء بالمتناقضات بربوبية الله له في كل شأن من شئون حياته، كما يجب أن يعترف بالله عز وجل إلهاً واحداً، لا شريك له في ألوهيته ولا في أسمائه وصفاته، ولا ريب أن المتأمل يجد في هذه الوصايا تحديدا للمنهج الذي يجب أن يسير عليه كل مسلم إنه المنهج الإسلامي الرفيع الذي يقدم الأسلوب الوقائي على الأسلوب العلاجي، ولا يعرض الناس لَلفتنة ثم يكلفهم مشقة في المقاومة تتلف أعصابهم وتهدر طاقاتهم، إن الإسلام دين وقاية قبل أن يرسم الحدود ويوقع

ص: 286

العقوبات فهو دين حماية للفرد والأسرة والمجَتمع، يرعى الإنسان في شئون دنياه ويرشده في أمور آخرته، يحمي الضمير الإنساني فلا يهجس فيه إلا خير ولا ينطوي إلا على صفاء الاعتقاد، ونداء الحق، وهاتف الخير، ومراقبة الله في السر والعلانية، إنه دين صيانة المشاعر، إذ يرشد إلى سمو الأخلاق، ويحذر من الإساءة أياً كان مصدرها والباعث عليها، واعتنى بالحواس فأرسى قواعد تهذيبها، ووطَد دعائم حماية الجوارح، والحماية منها أيضا جعل لكل ذلك قانونه وضوابطه في شتى مجالات الأعمال الدنيوية والأخروية. وربك أعلم بمن خلق وهو اللطيف الخبير.

الباحث

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

الآيات (151-153) من سورة الأنعام.

[2]

الآية (19) سورة محمد.

[3]

أخرجه الإمام البخاري (الصحيح مع الفتح1/75) .

[4]

أخرجه الإمام البخاري (المصدر السابق 3/ 261)

ص: 287

عُقُودُ الزّبَرْجَدِ عَلَى مُسْنَدِ الإمَام أحمَدَ

فِي إعرَاب الحَدِيثِ

تأليف: جلال الدين السيوطي

تحقيق: الدكتور حسن موسى الشاعر

أستاذ مشارك بكلية اللغة العربية بالجامعة

مسند أنس بن مالك (1) رضي الله عنه

49-

حديث الشفاعة، قوله:"يُجْمَعُ المُؤْمِنُونَ يَوْمَ القيامة فَيُلْهَمُونَ ذلك".

قال أبو البقاء: (ذلك) إشارة إلى المذكور بعده، وهو حديث الشفاعة. ويجوز أن يكون قد جرى ذكره قبل، فأشار بذلك إليه، ثم ذكر بعد منه طائفة.

وقوله: "فيقولون لو اسْتَشْفَعْنا على رَبِّنا".

عدّى (استشفعنا) بعلى، وهي في الأكثر تتعدّى بإلى، لأن معنى استشفعت توسلت، فتتعدى بإلى، ومعناها أيضاً استعنت، يقال: استشفعتُ إليه واستعنتُ عليه، وتحمّلت عليه بمعنى واحد. ومن هذا قول الشاعر:

إذا رَضيَتْ عَلىَّ بنو قُشَيرٍ

] لَعمرُ أبيكَ أعجبني رضاها [ (2)

(1) أنس بن مالك بن الخضر الأنصاري الخزرجى خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد المكثرين من الرواية عنه. خدمه عشرين سنين شهد الفتوح ثم قطن البصرة، وكان أخر الصحابة موتاً بالبصرة. أنظر: الِإصابة 1/ 084 الأعلام 2/ 24.

49-

حديث الشفاعة حديث طويل وفيه "يجمع المؤمنون يوم القيامة فيلهمون ذلك فيقولون لو استشفعنا على ربنا فأراحنا من مكاننا هذا فيأتون آدم

فيقول لهم: لست هناكم، ويذكر ذنبه الذي أصابه فيستحي ربّه عز وجل من ذلك

"أنظر: البخاري: كتاب التوحيد 13/477. مسلم 3/54 مسند أحمد 3/116 مشكاة المصابيح 3/69.

(2)

هذا البيت من قصيدة قالها القُحيف العقيلي، وهو شاعر إسلامي مقل، يمدح بها حكيم بن المسيب القشيري. انظر: المقتضب 2/ 320 مغني اللبيب 153. خزانة الأدب 10/132 وما بعدها.

قال ابن جني: "ذهب الكسائي إلى أنه عدّى رضيت بعلى لما كان ضد سخطت، وسخطت مما يعدّى بعلى. وكان أبو علي يستحسنه من الكسائي ". الخصائص 2/289.

ص: 288

فعدّاه بعلى. قال أبو عبيدة: "إنما ساغ ذلك لأن معناه أقبلت علىّ". انتهى.

قلت: في رواية للبخاري "لو استشفعنا إِلى ربّنا" بإلى على الأصل.

قال الكرماني: وجواب "لو" محذوف، أو هي للتمني.

وقال الطيبي: "لو" هي المتضمنة للتمني والطلب. وقوله (فَيُريحَنا) منصوب بأن المقدّرة بعد الفاء الواقعة جواباً للو. وقوله: (أأنت آدم) من باب:

أنا أبو النجم وشِعْري شِعْري

ثم قال أبو البقاء: وقوله: "لَسْتُ هُنَاكمُ": (هنا) في الأصل ظرف مكان وقد استعملت للزمان، ومعناها هاهنا عند، أي لست عند حاجتكم أنفعكم، والكاف والميم لخطاب الجماعة. وقوله:"فيستحي ربَّه من ذلك" الأصل فيستحي من ربّه فحذف (من) للعلم بها، كقوله تعالى:{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً} (1) أي من قومه. ويجوز أن لا يكون فيه حذف، ويكون المعنى يخشى ربَّه أو يخاف ربَّه، لأن الاستحياء والخشية بمعنى واحد. وقوله:"ولكن ائتوا موسى عَبْدٌ" تقديره: هو عبد. ولو نصب جاز على البدل أو على الحال، والرفع أفخم. وقوله:"ائتوا عيسى عَبْد الله" الرفعِ فيه أجود كما رفع ما قبله على التعظيم، ويجوز النصب على الصفة. وقوله:"ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم عَبْداً غفر الله له" فنصب هاهنا على البدل أو الحال أو على إضمار أعني، ولو رفع كما رفع (عَبْدٌ كلّمه الله) لجاز. وقوله:"أنتظر أُمتِي تَعْبُرُ الصِّراط" التقدير: أنتظر أمتي أن تعبر، فأن والفعل في تقدير مصدر موضعه نصب بدلاً من أمتي بدل اشتمال، ولما حذف (أن) رفع الفعل، ونصبه جائز.

وقوله: "فالخَلْقُ مُلْجَموُنَ في العَرَق" يجوز أن يكون المعنى أنهم في العرق ملجمون بغيره، فيكون (في العرق) خبراًَ عن الخلق، و (مُلْجَمون) خبراً آخر. ويجوز أن يكون (في) بمعنى الباء، ويكون العرق ألجمهم. هذا كلُّه كلام أبي البقاء

وقوله: "فَاحْمَدُهُ بِمَحامِدَ لا أقدر عليه الآن".

(1) الأعراف 155.

ص: 289

قال النووي: هكذا هو في الأصول "لا أقدر عليه" وهو صحيح، ويعود الضمير في (عليه) إلى الحمد.

وقوله في الرواية الأخرى: "لستُ لها".

قال الطيبي: اللام متعلقة بمحذوف. واللام هي التي في قولك: أنت لهذا الأمر، أي كائن له ونختص به. وعلى هذا قوله:"أنا لها" وقوله: "ليس ذلك لك".

50 -

حديث الغار، قوله:"إِنَّهُ كانَ لي والدان فكُنْتُ أَحْلِبُ لَهمُا في إنائِهما فآتيهما، فإذا وَجْدتُهما راقِدَيْن قُمْتُ عَلى رُؤُوسِهما كرَاهِيةَ أنّ أَرُدِّ سِنَتَهمُا في رُؤوسهما حتّى يستيقظان متى استيقظا".

قال أبو البقاء: هكذا وقع في هذه الرواية "حتى يستيقظان" بالنون، وفيه عدة أوجه: أحدها: أن يكون ذلك من سهو الرواة، وقد وقع ذلك منهم كثيراً، والوجه حذفها بحتى، لأن معناها إلى أن يستيقظا، وتتعلق بقمت.

والثاني: أن يكون ذلك على ما جاء في شذوذ الشعر، كقوله:

أَنْ تقرآنِ عَلى أسْماء وَيحكُما

مِنيّ السَّلامَ وأَنْ لا تُخْبِرا أَحَدا (1)

والثالث: أن يكون على حذف مبتدأ، أي حتى هما يستيقظان.

وقوله: "متى استيقظ" تقديره: سقيتهما. ويجوز أن يكون المعنى أؤخر أو أنتظر أي وقت استيقظا. انتهى.

51 -

حديث الأوعية، قوله:"فالرصاص والقارورة، قال: ما بأس بهما".

(1) هذا ثالث ثلاثة أبيات لا يعرف قائلها ،والشاهد فيها قوله (أن تقرآن) حيث أهمل (أن) ولم تنصب.قال ابن مالك:جاء على لغة من يرفع الفعل بعد (أن) حملاً على (ما) أختها. انظر:شواهد توضيح ص 180. شرح ابن يعيش 7/ 15.مغني اللبيب ص 28.شرح أبيات مغني اللبيب 1/ 135.حاشية الصبان 3/ 287.الإنصاف مسألة 77.

51 – سُئل أنس عن الشرب في الأوعية فقال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المزفتة ، وقال كل مسكر حرام. قال ، قلت:وما المزفتة؟ قال: المقيّرة. قال ، قلت: فالرصاص والقارورة؟ قال: ما بأس بهما

"مسند أحمد 3/ 112.

ص: 290

قال أبو البقاء: جعل اسم (ما) نكرة والخبر جار ومجرور، والأكثر في كلامهم أن يقدّم هاهنا الخبر، فيقال: ما بهما بأس. وتقديم المبتدأ جائز لأن البأس مصدر، وتعريف المصدر وتنكيره متقاربان. وقد قالوا:"لا رجلٌ في الدار". فرفعوا بلا النكرة. و (ما) قريب منها. ويجوز أن يحمل (ما) على (لا) .

52 -

حديث "لا تَزالُ جَهَنَّمُ تقول "هَلْ مِنْ مَزيد" حتى يَضَعَ فيها رَبُّ العِزَّةِ قَدَمه، فتقول: "قَطْ قَطْ وعِزَّتِك".

قال الأندلسي في شرح المفصّل: (قَطْ) المخففة معناها حَسْب، وهي مبنية على السكون لوقوعها موقع فعل الأمر، وتدخلها نون الوقاية حرصاً على إبقاء سكونها. قال:

امتلأ الحَوْضُ وقال قَطْني

وربما حذفت نون الوقاية منها، مثله في عني ومني (1) . وإنما لم تُبنَ حَسْب وإن كانت في معناها لأنها لم توضع في أول أحوالها وضع الفعل كما فُعل بقط، لأنك تصرفها فتقول أحسبني الشيء إحساباً، وهذا حَسْبُك أي كافيك، فلما تصرّف بهذه الوجوه دون قَط أُعرب ولم يُبْنَ، وتنون قَطْ هذه في التنكير لأنها بمنزلة صَهْ ومَهْ.

53-

حديث "قوموا فلأصلّي لكم".

قال أبو البقاء: لم يقل (بكم) لأنه أراد من أجلكم لتقتدوا بي. انتهى.

(1) ومن حذف نون الوقاية منهما قول الشاعر:

أيّها السائل عنهُم وعني لستُ من قيسٍ ولا قيسُ مِني

انظر: الأشموني والصبان 1/ 124.

ص: 291

وقال إن مالك في التوضيح: يروي قوله (فلأصلّي) بحذف الياء وبثبوتها مفتوحة وساكنة، واللام عند ثبوت الياء مفتوحة لام كي، والفعل بعدها منصوب بأن مضمرة، وأن الفعل في تأويل مصدر مجرور، واللام ومصحوبها خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: قوموا فقيامكم لأصلي لكم. ويجوز على مذهب الأخفش أن تكون الفاء زائدة، واللام متعلقة بقوموا، واللام عند حذف الياء لام الأمر، ويجوز فتحها على لغة سُليم، وتسكينها بعد الفاء والواو وثُمّ على لغة قريش، وحذف الياء علامة الجزم. وأمر المتكلم نفسه بفعل مقرون باللام فيصح قليل في الاستعمال، ومنه قوله تعالى:{وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} (1) . وأمّا في رواية من أثبت الياء ساكنة فيحتمل أن تكون اللام لام كي وسكنت الياء تخفيفاً، وهي لغة مشهورة، أعني تسكين الياء المفتوحة، ومنه قراءة الحسن {وذروا ما بَقِيْ من الرّبا} (2) وقرىء {فَنَسيْ} (3) و {ثانيْ اثنين} (4) بالسكون. ويحتمل أن تكون اللام لام الأمر وثبتت الياء في الجزم إجراء للمعتل مجرى الصحيح، كقراءة قُنْبُل. . {إنه من يتقيْ ويصبر} .

وقال الزركشي: قال ابن السّيد: يرويه كثير من الناس بالياء، ومنهم من يفتح اللام ويسكن الياء ويتوهمونه قَسَما، وذلك غلط، لأنه لا وجه للقسم، ولو كان لقال فلأصلينّ، بالنون. وإنما الرواية الصحيحة (فلأصلّ) على معنى الأمر. والأمر إن كان للمتكلم والغائب كان باللام أبدا، وإذا كان للمخاطب كان بلام وغير لام.

قوله: "وصَفَفْتُ أنا واليتيم وراءه".

(1) العنكبوت:12.

(2)

البقرة: 278. قال العكبري: الجمهور على فتح الياء، وقد قرىء شاذاً بسكونها، ووجهه أنه خفّف بحذف الحركة عن الياء بعد الكسرة. انظر: إملاء ما منّ به الرحمن 1/117، الدر المصون للسمين الحلبي 2/637.

(3)

طه: 115.

(4)

التوبة: 40. وانظر: إملاء ما منّ به الرحمن 1/15.

ص: 292

قال الزركشي: بنصب اليتيم ورفعه. ويروى "وصففت واليتيم"من غير توكيد. والأول أفصح، إذ لا يعطف غالباً على الضمير المرفوع إلاّ مع التأكيد، كقوله تعالى:{اسْ كُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} (1) .

54-

حديث "مرّ النبي بِتمْرَةٍ مسقوطة".

قال الكرماني: القياس أن يقال سَاقطة، لكنه قد يجعل اللازم كالمتعدّي بتأويل، كقراءة من قرأ {وعُموا وصُمّوا} (2) بلفظ المجهول.

التيمي: هي كلمة غريبة لأن المشهور أن (سقط) لازم، على أن العرب قد تذكرِ الفاعل بلفظ المفعول وبالعكس إذا كان المعنى مفهوماً. ويجوز أن يقال جاء (سُقِط) متعدياَ أيضاً بدليل قوله تعالى:{سُقِطَ فِي أَيْدِيهِم} . قال الخطابي: "يأتي المفعول بمعنى الفاعل كقوله تعالى: {كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً} (3) أي آتيا". [انتهى] .

وقال ابن مالك: (مسقوطة) بمعنى مُسقَطة، ونظيره مرقوق بمعنى مُرَقّ أي مسترق، عن ابن جني، ومثله أيضاً رجل مفؤود أي جبان، ولا فعل له، [إنما يقال فُئد بمعنى مرض فؤاده لا بمعنى جبن. وكما جاء مفعول ولا فعل له جاء فُعِلَ ولا مفعول له [ (4) كقراءة النخعي {ثم عُمُوا وصُمُّوا} ولم يجيء مَعْمِيّ ولا مَصمُوم استغناء بأعْمى وأَصَمّ.

55 -

: حديث "ما صَلَّيْتُ ورَاء إمامٍ قَطّ أَخَفَّ صَلاةً".

قال الكرماني: (أخفّ) صفة للإِمام. و (صلاة) تمييز له. وقوله: "وإنْ كانَ لَيَسْمَعُ بكاء الصبي"أصله: وإنّه كان، مخفف وفيه ضمير الشأن.

56-

حديث: "إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأَبا بكرٍ وعمرَ كانوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلاةَ بالحمدُ لله ربّ العالمين".

قال الزركشي والكرماني (5)

(1) البقرة:35.

(2)

المائدة: 71. وهي قراءة إبراهيم النخعي كما سيأتي.

(3)

مريم:61.

(4)

ما بين المعقوفين ساقط من النسخ، وهو مثبت في شواهد التوضيح لابن مالك ص 197.

(5)

صحيح البخاري بشرح الكرماني 5/ 111.

57-

عن أنس قال:"صلى لنا النبي صلى الله عليه وسلم ثم رقا المنبر فأشار بيديه قِبَل قبلة المسجد ثم قال: لقد رأيت الآن- منذ صليت لكم الصلاة- الجنة والنار ممثلتين في قبلة هذا الجدار، فلم أرَ كاليوم في الخير والشر- ثلاثاً". البخاري: كتاب الأذان. فتح الباري 2/232. مسند أحمد 3/162.

ص: 293

: (الحمدُ) بضم الدال على سبيل الحكاية.

57-

حديث: "لقد رأيتُ الآنَ مُنْذُ صَلَّيْتُ لَكمُ الَجنَّةَ والنّار".

قال الكرماني: فإن قلت (الآن) للحال، و (رأيتُ) للماضي، فكيف يجتمعان؟ قلت: دخول (قد) عليه قرّبه إلى الحال. فإن قلت: فما قولك في (صَلَّيتُ) فإنه للمضيّ البتة؟ قلت: قال ابن الحاجب: كل مخبر أو منشئ فقصده الحاضر، فمثل (صليت) يكون للماضي الملاصق للحاضر. أو أريد بالآن ما يقال عرفاً إنه الزمان الحاضر، لا اللحظة الحاضرة الغير المنقسمة المسماة بالحال. فإن قلت:(منذ) حرف أو اسم؟ قلت: جاز الأمران. فإن كان اسماً فهو مبتدأ وما بعده خبر، والزمان مقدّر قبل (صليت) . وقال الزجاج بعكس ذلك.

قوله: "فَلَمْ أَرَ كالْيَومِ في الخير والشرّ".

قال الطيبي: الكاف في موضع الحال. وذو الحال المفعول به، وهو الجنة والنار. والمعنى: لم أر الجنة والنار في الخير والشر يوماً من الأيام مثل ما رأيت اليوم. أي رأيتها رؤية جليّة ظاهرة مثبتاً في مثل هذا الجدار، ظاهراً خيرها وشرّها. ونحوه قولِ الشاعر:

حتى إذا الكلاّبُ قالَ لها

كاليومِ مَطْلوباً ولا طَلَبا

58-

حديث "يُؤْتَي بالرَّجلِ يَوْمَ القِيامةِ مِنْ أَهلِ الجنَّة، فيقولُ له: يا بْنَ آدم كيفَ وَجَدْتَ مَنْزِلَك؟ فيقول: أيْ رب خيْرَ مَنزِل".

قال أبو البقاء: النصب هو الوجه، أي وجدته خيرَ منزل.

59-

حديث "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صَعِدَ أُحُداً فَتَبِعَه أبو بكر وعمرُ وعثمانُ فرَجَفَ بهم، فقال: اسكُنْ نَبيٌّ وصدّيقٌ وشَهيدان".

قال أبو البقاء: تقديره عليك نبيٌّ. وقد جاء مفسّراً في حديث آخر.

60-

حديث "لا عَدْوَى ولا طِيْرة".

ص: 294

قال ابن مالك في شرح التسهيل: "أكثر ما يحذف الحجازيون خبر لا مع إلاّ نحو: لا إله إلاّ الله". ومن حذفه دون إلاّ قوله تعالى: {قَالُوا لا ضَيْر} وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضَرَرَ ولا ضِرار"(1) و"لا عدوى ولا طيرة"(2) .

61 -

حديث "إنّه الإيمان حُبّ الأنْصارِ وإنَّهُ النِّفاقُ بُغْضُهم".

قال أبو البقاء: " (إنَّ) المؤكدة، والهاء فيها ضمير الشأن مثل قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ} (3) وليست ضميراً عائداً على مذكور قبله، إذ ليس في الكلام ذلك. و"الإِيمان حبّ الأنصار" مبتدأ وخبر، وهو خبر إن كأنه قال: إنّ الأمر والشأن الإِيمان حبّ الأنصار. ويروى (آية الإيمان) وهو ظاهر". انتهى.

وقال الحافظ ابن حجر: " (آية) بهمزة ممدودة وياء تحتية مفتوحة وهاء تأنيث. و (الإِيمان) مجرورة بالإضافة. هذا هو المعتمد في ضبط هذه الكلمة في جميع الروايات في الصحيحين والسنن والمستخرجات والمسانيد. والآية العلامة".

قال: "وما ذكره أبو البقاء من أنه بهمزة مكسورة ونون مشدّدة وهاء، و (الإيمان) بالرفع، تصحيف منه".

قلت: ويؤيد ذلك أن في رواية النسائي "حبّ الأنصار آية الإيمان". و (الأنصار) أصله جمع ناصر كأصحاب وصاحب. أو جمع نصير كأشراف وشريف. صار علماً عليهم بتسمية النبي صلى الله عليه وسلم.

62-

حديث "إنّي لأوَّلُ الناسِ تَنْشَقُ الأرض عن جُمْجُمَتي يَوْمَ القِيامةِ ولا فَخْرٌ".

كان مقتضى اللفظ (عن جمجمته) لكنه جاء على نسق الضمير في (إني) على حدّ قول الشاعر:

(1) مسند أحمد 5/327.

(2)

مسند أحمد 1/174 ، 2/153 ، 3/130 ،173.

61 -

البخاريَ: الكتاب الإيمان 1/ 62. ومسلم 2/ 63 مسند أحمد 3/ 130، 134. وفي هذه المصادر جميعها (آية الإيمان.. وآية النفاق..) أما (إنه الِإيمان. وإنّه النفاق..) فهي رواية كتاب جامع المسانيد لابن الجوزي الذي اعتمد عليه العكبري في إعراب الحديث

(3)

سورة الحج. آية 46.

ص: 295

أنا الرَّجُلُ الضَّرْبًّ الذي تَعْرِفُونَني

وقوله: "ولا فخر".

قال الطيبي: حال مؤكدة، أي أقول هذا ولا فخر.

63 -

حديث "إنَّ الشَّيْطانَ يَجْري مِن ابْنِ آدمَ مَجْرَى الدَّم".

قال الطيبي: "عدّى (يجري) بمن على تضمنه معنى التمكن، أي يتمكن من الإنسان في جريانه مجرى الدم. وقوله (مجرى الدم) يجوز أن يكون مصدراًَ ميمياً، وأن يكون اسم مكان".

64 -

حديث "إِن اسْتَطَعْتَ أَنْ تُصْبحَ وتُمسِيَ لَيْسَ في قَلْبِكَ غِشٌّ لأَحَدٍ مِن المسُلمين فَافْعَل".

قال الطيبي: (تصبح) أي تدخل في وقت الصبح. و (ليس) حال تنازع فيه الفعلان. والمراد بهما الديمومة.

وقوله (فافعل) جزاء. كناية عما سبق في الشرط من المعنى. أي إن فعلت ما نصحتك به فقد أتيت بأمر عظيم.

65 -

حديث "قَدِمَ عَليٌّ على النبيِّ خيالها من اليمن، فقال: بِما أَهْلَلْتَ؟ ".

قال ابن مالك في توضيحه: شذ ثبوت الألف في (بما أهللت) لأن (ما) استفهامية مجرورة، فحقّها أن تحذف ألفها فرقاً بينها وبين الموصولة. هذا هو الكثير نحو {لِمَ تَلْبِسُون} و {بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} (1) و {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} (2) . ونظير هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم:"ليأتينّ علَى الناَس زمان لا يبالي المرء مما أخذ المال أمن حلال أم من حرام"(3) . وقول سهل بن سعد وقد امتروا في المنبر ممّ عوده "إني لأعرف مما عوده". ونظير ثبوت الألف في الأحاديث المذكورة ثبوتها في {عَمَّا يتساءلون} (4) في قراءة عكرمة وعيسى. ومن ثبوتها في الشعر قول حسان:

على ما قام يَشْتمُني لئيمِّ

كخِنْزيرٍ تَمرّغَ في رَمادِ

وقول عمر بن أبي ربيعة:

عَجَبا ما عَجبْتُ ممّا لو ابْصَر

ْتَ خَليلي ما دُونه لَعجِبْتا

لمقالِ الصًّفِيِّ فِيمَ التَجنّي

(1) النمل: آية 35.

(2)

النازعات: آية 43.

(3)

فتح الباري شرح البخاري 4/313.

(4)

النبأ: آية 1.

ص: 296

ولما قد دعوتَنا وهَجَرْتا (1)

وفي عدول حسّان عن (علام يقوم يشتمني) وعدول عمر عن (ولماذا) مع إمكانهما دليل على أنهما مختاران لا مضطران

66 -

حديث "ولا تَنْقُشُوا في خَواتيمكم عربي".

قالت أبو البقاء: "إنما رفع (عَربي) لأنه حكاية لقوله (محمد رسول الله) فهو على الحكاية. أي لا تنقشوا ما صورته عربي".

قلت: رواه النسائي بلفظ (عربياً) بالنصب. ويمكن أن يكون في رواية أحمد منصوباً، ولكنه كتب بغير ألف، كما قدرناه في موضع آخر من هذا الكتاب.

67 -

حديث "وايم الذي نَفْسي بيده لو رَأَيْتم ما رَأَيتُ لَضحِكْتُم قليلاً ولَبكيتم كثيراً".

قال ابن يعيشْ في شرح المفصل: " (اَيْمُن الله) اسم مفرد موضوع للقسم مأخوذ من اليمن والبركة، كأنهم أقسموا بيمن الله وبركته، وهو مرفوع بالابتداء وخبره محذوف للعلم به، كما كان كذلك في لَعَمْرُ الله. وتقديره: آيْمن الله قسمي أو يميني ونحوهما. وفتحت الهمزة منه لأنه غير متمكن، لا يستعمل إلا في القسم وحده، فضارع الحرف بقلة تمكنه، ففتح تشبيهاً بالهمزة اللاحقة لام التعريف، وذلك فيه دون بناء الاسم لشبه الحرف، ويؤكد حال هذا الاسم في مضارعته الحرف أنهم قد تلاعبوا به فقالوا مرة اَيْمُن الله، بالفتح، ومرة اِيمُن الله بكسر الهمزة، ومرة اَيْمُ الله بحذف النون، ومرّة اِيمُ الله بالكسر، ومرة مُ الله، ومرة مَ الله، ومرة مُنِ ربي، ومرة مُنُ ربي".

وقال في النهاية: " (ايمُ الله) من ألفاظ القسم، كقولك: لَعمُر الله وعَهْدُ الله. وفيها لغات كثيرة: وتفتح همزتها وتكسر، وهمزتها همزة وصل، وقد تقطع". انتهى.

68 -

حديث "إنه أنزلت عليَّ آنفا سورة" وفي حديث جرير "ذكرك آنفا".

(1) ديوان عمر بن أبىِ ربيعة ص 73 طبعة صادر.

ص: 297

قال أبو البقاء: " (آنفا) منصوب على الظرف، تقديره ذكرك زماناً آنفا، أي قريباً من وقتنا، حذف الموصوف وأقام الصفة مقامه. ويجوز أن يكون حالاً من ضمير الفاعل، أي ذكرك مستأنفاً لذكرك. ومنه قوله تعالى: {مَاذَا قَالَ آنِفاً} ". انتهى.

ومثله حديث "إلاّ الدَّيْن سارَّني به جبريلُ آنفا". وحديث "هل قرأَ أَحدٌ منكم معي آنفا" وحديث "عرضت علي الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط"(1) .

وقال أبو حيان: " (آنفا) منصوب على الحال، تقديره مؤتنفاً مبتدئاً. قالَ: وأعربه الزمخشري ظرفاً، أي الساعة، ولا أعلم أحداً من النحويين عدّه من الظروف". انتهى.

69 -

حديث "تلك صلاةُ المنافقِ، يَجْلسُ يرقُبُ الشَّمْسَ حتى إِذا اصْفَرَّتْ قام فنَقَر أَرْبَعاً لا يذكر الله فيها إلاّ قليلا".

قال الطيبي: (تلك) إشارة إلى ما في الذهن من الصلاة المخصوصة، والخبر بيان ما في الذهن. و (يجلس

) إلى آخره جملة مستأنفة بيان للجملة السابقة. ويجوز أن تكون حالاً. و (الشمس) مفعول (يرقب) ، و (إذا) ظرف معمول بدل اشتمال من الشمس، كقوله تعالى:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ} (2) . يعني يرقب وقت اصفرار الشمس. وعلى هذا (قام) استئناف. ويجوز أن يكون (إذا) للشرط، و (قام) جزاؤه. والشرطية استئنافية.

وقال الشيخ ولي الدين العراقي: "الإشارة بـ (تلك) إلى صلاة العصر التي تؤخر إلى اصفرار الشمس، وكأنه كان تقدم ذكرها من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم أو بحضرته، فأعاد الإشارة إليه".

70 -

حديث "يَتْبَعُ الميّتَ ثلاثٌ أَهْلُه ومالهُ وعَملُه، فيرجعُ اثنان ويبقى واحد".

(1) مسند أحمد 3/162.

(2)

9- مسلم بشرح النووي 5/123. مسند أحمد 3/ 185. وفي مشكاة المصابيح: كتاب الصلاة- باب تعجيل الصلوات.

مريم: آية 16.

ص: 298

قال أبو البقاء: الوجه أن يقال (ثلاثة) ، لأن الأشياء المذكورة مذكرات كلها، ولذلك قال:"فيرجع اثنان ويبقى واحدا"فذكرّ. والأشبه أنه من تغيير الرواة من هذا الطريق. ويحتمل أن يكون الوجه فيه ثلاث عُلَق، والواحدة عُلْقة، لأن كلاًّ من هذه المذكورات علقة، ثم إنّه ذكرّ بعد ذلك حملاً على اللفظ بعد أن حمل الأوّل على المعنى. ومنه قوله تعالى:{وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً} (1) بتأنيث الأول وتذكير الثاني.

قلت: رواه البُخاري ومسلم والترمذي والنسائي بلفظ (ثلاثة) ، وكذا هو في النسخة التي عندي من المسند.

71 -

حديث "لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُم حتّى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لِنَفْسِه".

قال الحافظ ابن حجر: " (يحبَّ) بالنصب، لأن (حتى) جارة، فأَنْ بعدها مضمرة، ولا يجوز الرفع على أن (حتى) عاطفة، لأن المعنى غير صحيح، إذ عدم الإيمان ليس سبباً للمحبّة".

72 -

حديث "سألتُ الله عز وجل أَيّما إنسانٍ مِنْ أُمّتي دَعَوْتُ عليه أن يَجْعلَها له مغفرة".

قال أبو البقاء: " (أيّما) يجوز النصب على معنى سببته، وما بعده تفسيرٌ له، والرفع على الابتداء وما بعده خبر".

73 -

حديث "كان يَدْخُلُ الخَلاء".

قال ابن الحاجب وغيره (2) هو منصوب على الظرفية، لأن (دخل) من الأفعال اللازمة، بدليل أن مصدره على فُعول، وما كان مصدره على فُعول فهو لازم. ولأنه نقيض خرج، وهو لازم فيكون هو أيضاً كذلك.

(1) سورة الأحزاب: آية 31- قال العكبري {ومن يقنت} يقرأ بالياء حملاً على لفظ مَنْ، وبالتاء على معناها ومثله {وتعمل صالحاً} . ومنهم من قرأ الأولى بالتاء والثانية بالياء. انظر: إملاء ما منّ به الرحمن 2/192.

(2)

قال الرضي: اعلم أن دخلت وسكنت ونزلت تنصب على الظرفية كل مكان دخلت عليه، مبهماً كان أولا، نحو: دخلت الدار

انظر شرح الكافية 1/186.

ص: 299

واختار قومٌ أنه مفعول به. وعن سيبويه (1) أنه منصوب بإسقاط الخافض. وجعله الجرمي من الأفعال المتعدية تارة بنفسها وتارة بحرف الجر.

وقال أبو حيان: " (دخل) يتعدّى عند سيبويه لظرف الزمان المختص الحقيقي بغير واسطة في، فإن كان مجازياً تعدّى إليه بواسطة في، نحو: دخلتُ في الأمر".

74 -

حديث "لَغَدْوةٌ في سَبيل الله أو رَوْحَةٌ خَير من الدنيا وما فيها".

قال الزركشي: (الغدوة) بالفتح المرة من غدا يغدو. و (روحة) بالفتح المرة من راح يروح. أي الخرجة الواحدة في هذا الوقت من أول النهار وآخره في الجهاد. أي ثواب ذلك في الجنة خير من الدنيا.

75 -

حديث "مَنْ نَسِىَ صَلاةً أَوْ نامَ عَنْها".

قال الطيبي: ضمت (نام) معنى غفل، أي غفل عنها يا حال نومه.

قوله: "فكفّارتها".

قال الطيبي: "الكفارة عبارة عن الفعلة أو الخصلة التي من شأنها أن تكفّر الخطيئة، وهي فعّالة للمبالغة كقتّالة وضرّابة، وهي من الصفات الغالبة في الاسمية".

76 -

حديث "العيادَةُ فُواقُ ناقَة".

قال الطيبي: (فُواق) خبر المبتدأ، أيَ زمان العيادة مقدار فواق (2) ناقة.

77 -

حديث "لَبَّيْكَ عُمْرةً وحَجًّا".

قال أبو البقاء: النصب بفعل محذوف تقديره أريد عمرةً وحجا، أو نويت عمرةً وحجا.

78 -

حديث "كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصَلّي في نَعْلَيه".

قال ابن مالك: (في) هنا بمعنى باء المصاحبة، كقوله تعالى:{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِه} (3) .

79 -

حديث الإِسراء، قوله:"قالوا مَرْحَباً بِه وأَهْلاً".

هما منصوبان بفعل مضمر وجوباً، أي صادفت رُحباً، بضم الراء، أي سعة، ووجدت أهلاً، فاستأنس.

(1) قال سيبويه: وأما دخلته دخولاً وولَجته ولوجاً فإنما هي ولَجْتُ فيه ودخلتُ فيه، ولكنه ألقى (في) استخفافاً.. أنظر: الكتاب 4/10.

(2)

الفواق ما بين الحلبتين من الوقت، أو ما بين فتح يدك وقبضها على الضرع (القاموس المحيط)

(3)

القصص: آية 79.

ص: 300

وقال القاضي عياض والنووي: " (مرحبا) نصب على المصدر، وهو لفظ استعملته العرب وأكثرت منه، تريد به البرّ وحسن اللقاء. ومعناه صادفت رُحباً وسعةًَ وبِرّاً".

وقال الزركشي: "هو منصوب بفعل لا يظهر. وقيل على المصدر. وقال الفراء: معناه رحب الله بك، كأنه وضع موضع الترحيب".

قوله: "فلمّا مرَّ جِبرْيلُ بالنبي صلى الله عليه وسلم بإِدريس".

قال الكرماني: "الباء الأولى للمصاحبة، والثانية للإِلصاق".

قوله: "ونعْمَ المجَيء، جاء".

قال المظهري: "المخصوص بالمدح محذوف، وفيه تقديم وتأخير، تقديره: جاء فنعم المجيء مجيئه".

وقال ابن مالك في توضيحه: فيه شاهد على الاستغناء بالصلة عن الموصول، أو بالصفة عن الموصوف، في باب نِعْمَ، لأنها تحتاج إلى فاعل هو المجيء، وإلى مخصوص معناها، وهو مبتدأ مخبر عنه بنِعْم وفاعلها، وهو في هذا الكلام وشبهه موصول أو موصوف بجاء، والتقدير: ونعْمَ المجيء الذي جاء، أو نعم مجيء جاء. وكونه موصولاً أجود لأنه مخبر عنه، وكون المخبر عنه معرفة أولى من كونه نكرة.

قوله: "أَصَبْتَ الفِطْرةَ أَنْتَ وأُمَّتُك"(1) .

قال الكرماني: "فإن قلت كيف تقدّر العامل هنا، إذ لا يصح أن يقال أصبت أمتُك؟ قلت: يقدر على وجه ينصبُّ إلى صحة المعنى، كما يقال في قوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ} "(2) إن تقديره: ولتسكن زوجُك.

قوله: "قَدْ والله راوَدْتُ بني إسرائيل".

قال الكرماني: فإن قلت (قد) حرف لازم دخوله على الفعل. قلت: هو داخل عليه، والقسم مقحم بينهما لتأكيده.

قوله: "بيت المقدس".

قال أبو علي الفارسي: لا يخلو إما أن يكون مصدراً أو مكاناً، فإن كان مصدراً كان كقوله تعالى:{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُم} (3) ونحوه من المصادر. وإن كان مكاناً فمعناه بيت المكان الذي جعل فيه الطهارة، أو بيت مكان الطهارة".

(1) البخاري: كتاب الأشربة- باب شرب اللبن.

(2)

البقرة: آية 35.

(3)

الأنعام: آية 60. يونس: آية 4

ص: 301

وقال الزجاج: "أي بيت المكان الذي يطهر فيه من الذنوب".

قوله: "فإذا أنا بابني الخالة".

قال الأزهري: "قال ابن السكيت (1) : يقال هما ابنا عمّ ولا يقال ابنا خال، ويقال هما ابنا خالة ولا يقال ابنا عمة"(2) .

قوله: "إذا هو قد أُعطي شَطر الحسن".

قال الطيبي: "بدل من الأول في معنى بدل الاشتمال".

قوله: "مسنداً ظهره".

قال الطيبي: "منصوب على الحال. وروي بالرفع على حذف المبتدأ".

قوله: "يدخلُه كلَّ يَوْمٍ سبعون ألفَ مَلَكٍ إذا خرجوا منه لم يعودوا فيه آخر ما عليهم".

قال النووي: "قال صاحب المطالع (3) : (آخر) برفع الراء ونصبها، فالنصب على الظرف، والرفع على تقدير ذلك آخر ما عليهم من دخوله. قال: والرفع أَوْجَه".

قوله: "كُتبت له حسنة".

قال الطيبي: " (كتبت) مبني للمفعول، والضمير فيه راجع إلى قوله (حسنة) . و (حسنةً) وضعت موضع المصدر، أي كتبت الحسنة كتابة واحدة، وكذا (عشرا) وكذا (شيئاً) منصوبان على المصدر".

قوله: "فشُقّ من النَّحرْ إلى مَراقِّ البطن".

قال الجوهري:" [مراق [، لا واحد لها".

وقال الواحدي: "واحدها مَرَق".

80-

حديث "رُصُّوا صُفُوفَكُم وقارِبوا بَيْنَها وحاذُوا بالأَعْناق، فوالذي نَفْسي بيده إني لأرى الشَّيطانَ يَدْخُلُ مِنْ خَلَلِ الصفّ كأَنَّها الحَذَف".

قال المظهري في شرح المصابيح: الضمير في (كأنها) راجع إلى مقدر، أي جعل نفسه شاة أو ما عزة كأنها الحذف.

(1) إصلاح المنطق ص 312.

(2)

من قوله (بيت المقدس) إلى هنا، الكلام كفُه في مسلم بشرح النووي 2/ 211 وما بعدها.

(3)

مطالع الأنوار على صحاح الآثار: في فتح ما استغلق من كتاب الموطأ ومسلم والبخاري، في غريب الحديث، لابن قرقول إبراهيم بن يوسف المتوفى سنة 569 هو وضعه على منوال مشارق الأنوار للقاضي عياض. انظر: كشف الظنون 2/ 1715.

ص: 302

وقال الطيبي في شرح المشكاة: الضمير إذا وقع بين شيئين أحدهما مذكر والآخر مؤنث يجوز تذكيره وتأنيثه، كما في قولهم: من كانت أمَّك، ومن كان أمَّك. وهنا الحَذَف مؤنث، والشيطان شُبّه بها، فيجوز تأنيث الضمير باعتبار الحَذَف وتذكيره باعتبار الشيطان.

81 -

حديث "ما مِنْ أَحدٍ يومَ القِيامة غَنِيّ ولا فَقير إلاّ وَدَّ أَنما كان أُوتي مِنَ الدّنيا قوتا".

قال أبو البقاء: (مِنْ) زائدة. و (غني) بالرفع صفة لأحد على الموضع، لأن الجار والمجرور في موضع رفع. ونظيره قوله تعالى:{مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} بالرفعٍ على الموضع وبالجر على اللفظ. ويجوز في الحديث (غنيٍ ولا فقيرٍ) بالجر على اللفظ أيضاً.

82 -

حديث "كان لا تشاء أَنْ تَراه مِنَ الليل مُصَلِّياً إلاّ رأَيْتَه".

قال المظهري: " (لا) بمعنى ليس، أو بمعنى لم، أي لست تشاء أولم تكن تشاء، أو تقديره لا زمان تشاء".

وقال الطيبي: "لعل هذا التركيب من باب الاستثناء على البدل، وتقديره على الإثبات أن يقال: إن تشأ رؤيته متهجداً رأيته متهجداً، وإن تشأ رؤيته نائماً رأيته نائماً، يعني كان أمره قصداً لا إسراف ولا تقصير".

83 -

حديث "الصَّلاةَ وما مَلكَتْ أَيْمانكُم".

هو منصوب على الإغراء.

قال ابن مالك في شرح الكافية: "معنى الإغراء إلزام المخاطب العكوف على ما يحمد العكوف عليه من مواصلة ذوي القربى والمحافظة على عهود المعاهدين، ونحو ذلك. كقولك لمن تغريه برعاية الخلة وهي المودّة: الخلّةَ الخلِّةَ. أي إلزام الخلة. والثاني من الاسمين بدل من اللفظ بالفعل. وكذا المعطوف كقولك لمن تغريه بالذبّ والحميّة: الأهلَ والولدَ. أي الزم الذبّ عنهم. وقد يجاء باسم المغرى به مع التكرار مرفوعاً، قال الشاعر:

إِن قَوْماً مِنْهمُ عُميرٌ وأشبا

هـ عُمَيْرٍِ ومنهُمُ السَّفّاحُ

لجَديرونَ بِالوفاء إذا قا

ل أَخُو النًجدةِ السِّلاحُ السِّلاحُ"

ص: 303

84 -

حديث "اللهمَّ إنّي أَشْهَدُ أَنَّك أَنْتَ الله لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ أَحَداً صَمَدا ".

قال الطيبي: " (أحداً صمداً) منصوبان على الاختصاص، كقوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ} إلى قوله: {قَائِماً بِالْقِسْطِ} (1) . وروي مرفوعان معرّفان صفتان لله".

85 -

حديث "إنَّ الحَمْدَ لله وسُبْحانَ الله ولا إِله إِلاّ الله والله أَكْبرُ تُساقِطُ ذُنَوبَ العَبْدِ كما يتساقطُ وَرَقُ الشجَّر".

قال الطيبي: (تُساقط) بضم التاء. وقوله: (كما يتساقط) إن جعل صفة مصدر محذوف لم تبق المطابقة بين المصدرين، وإن جعل حالاً من الذنوب استقام، ويكون تقديره: تساقط الذنوب، مشبهاً تساقطها بتساقط الورق.

86 -

حديث "قُلت: يا رسولَ الله وَلَدَتْ أُمُّ سُلَيم، قال: الله أكبر، ما وَلَدَت؟ قلت: غُلاماً. قال: الحَمْدُ لله، هاتِه".

سئل أبو محمد بن السِّيد البطليوسي عن قولهم: "ما ولد لفلان؟ ولم يقولوا: مَنْ ولد لفلان؟ فأجاب بأن هذا توهمّ من السائل، وأن (مَن) أكثر استعمالاً وأذهب في القياس". انتهى.

وقوله: (غلاماً) بالنصب لأنه جواب ما المنصوبة بولدت، على حدّ قوله تعالى:{مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: خَيْرا} (2) .

وقوله: (هاته) يحتمل أن تكون هاء السكت، وأن تكون هاء المفعول، فيستدل به على أن (هات) فعل.

وقوله في الطريق الآخر "لعلّ أم سُلَيم ولدت"(3) .

الظاهر أن (لعل) للاستفهام كقوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} (4) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الأنصار وقد خرج إليه مستعجلاً: "لعلَّنا أعجلناك".

(1) آل عمران: آية 18.

(2)

6- مسند أحمد 3/181.

سورة النحل. آية 30.

(3)

الطريق الآخر للحديث في مسند أحمد 3/196.

(4)

عبس: آية 3.

ص: 304

87 -

حديث "إنّ رَجُلَين مِنْ أَصْحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم خرَجا مِنْ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مُظلمة ومعهما مِثلُ المِصباحَينِ يُضيئانِ بًينَ أيديهما".

قال الكرماني: "قال الزمخشري: (أضاء) إما متعدّ بمعنى نوّر، وإما غير متعدّ بمعنى لَمعَ". قال: "فقوله: (بين أيديهما) مفعول فيه إن كان فعل الإضاعة لازماً، ومفعول به إن كان متعدياًَ".

88 -

حديث "أما تَرْضَى أَنْ تكونَ لهم الدُّنيا ولَنا الآخِرة".

ليست (أما) هذه الاستفتاحية، وإنما هي (ما) النافية دخلت عليها همزة الاستفهام. ولهذا قال عمر في الجواب:"بلى".

ومثله حديث "أما يخشى أحدُكم إذا رفع رأسه في الصلاة أن لا يرجع إليه بصره". وحديث "أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحوّل الله رأسه رأس حمار". وحديث "أنه رأى رجلاً شعثاً فقال: أما كان يجد هذا ما يسكِّن به رأسه".

قالت ابن هشام في المغني: زاد المالقي لِـ (أَمَا) معنى ثالثاً، وهو أن تكون حرف عرض بمنزلة لولا، فتختص بالفعل، نحو: أما تقوم، أما تقعد، وقد يُدّعى في ذلك أن الهمزة للاستفهام التقريري مثلها في: ألم، وألا، وأنّ (ما) نافية.

89 -

حديث "لما ثَقُلَ رسَولُ الله صلى الله عليه وسلم جَعلَ يتغشَّاه الكَرْب. فقالت فاطمة: واكَرْبَ أَبَتاه. فلما مات قالت: يا أَبتاه، أجاب ربّاً دَعاه، يا أبتاه مِنْ رّبه ما أدناه".

قال الزركشي: "رواه مبارك بن فضالة عن ثابت (واكرباه) ".

وقال الطيبي: " (يا أبتاه) أصله يا أبي، فالتاء بدل من الياء لأنهما من حروف الزوائد، والألف للندبة لمدّ الصوت، والهاء للسكت".

قال: وقوله: " (مَنْ جَنّةُ الفِرْدَوس) وقع مَنْ موصولة، وفي بعض النسخ وقعت جارة. والأول أنسب لأنه من وادي قولهم: وامَنْ حفر بئر زمزماه".

ص: 305

90 -

حديث "لمَّا قَدِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ أَتاه المهاجرون فقالوا: يا رسولَ الله ما رأينا قوماً أَبْذَلَ مِنْ كثيرٍ ولا أَحْسَنَ مواساةً من قليلٍ من قَوْمٍ نَزَلْنا بَيْنَ أَظْهُرِهم".

قال الطيبي: الجاران والمجروران- أعنى قوله: (من كثير ومن قليل) - متعلقان بالبذل والمواساة. وقوله (من قوم) صلة لأبذل وأحسنَ على سبيل التنازع، وقوم هو المفضّل.

91 -

حديث "إِذا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ فَقَد اسْتكْمَلَ نِصْفَ دينه فَلْيَتَّقِ الله في النِّصفِ الآخر".

قال الطيبي: قوله: (فقد استكمل) يحتمل أن يكون جواباً للشرط، و (فليتق الله) عطف عليه. ويجوز أن يكون الجواب الثاني والأول عطف على الشرط، فعلى هذا السبب مركب والمسبب مفرد. فالمعنى أنه معلوم أن التزوج نصف الدين، فمن حصّل هذا فعليه بالنصف الباقي. وهذا أبلغ لما يؤذن أنه مقرر ومعلوم أن التزوج يحصّن نصف الدين.

وعلى الوجه الآخر إعلام بذلك فلا يكون مقرراً. وعلى الأوّل السبب مفرد والمسبب مركب. وفيه إعلام أن التزوج سبب لاستكمال نصف الدين المترتب عليه تقوى الله تعالى.

92-

حديث "اللهُمَّ إِنَّكَ إنْ تَشأْ لا تُعْبَد بَعْدَ اليوم".

قلت: الفصيح في مثل هذا جزم (تعبدْ) جواباً للشرط، وجملة الشرط وجوابه خبر إنّ.

ومثله قوله تعالى: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا} . وقد يرفع كقول الشاعر:

يا أقرعُ بْنَ حابسٍ يا أقرعُ

إنّك إنّ يُصْرَعْ أخوك تُصْرَعُ

وقال الكرماني: "مفعول (إن تشأْ) محذوف، وهو نحو: إنّ تشأْ هلاكَ المؤمنين. إذ (لا تعُبدْ) في حكم المفعول، والجزاء محذوف".

93 -

حديث "مَنْ يَشْتري العبد؟ فقال: يا رسول الله، إذن والله تجِدَني كاسدا".

فيه الفصل بين إذن والفعل بالقسم وهو شائع مغتفر.

94 -

حديث "لَوْ خَرَجْتُم إِلى ذَوْدٍ لَنا فَشَرِبْتُم مِنْ أَلْبانِها".

قلت: فيه حذف جواب لو، أي لنفعكم أو لشفيتم.

ص: 306

قال ابن يعيش: "قد يحذف جواب (لو) كثيراً. قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} الجواب محذوف تقديره أي لرأيت سوء منقلبهم، {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَال} (1) أي لكان هذا القرآن. ومن ذلك (لَوْ ذاتُ سِوارٍ لَطَمْتني) لم يأت بجواب، والمراد لانتصفْتُ. وذلك كلّه للعلم بموضعه. وقال أصحابنا إن حذف الجواب في هذه الأشياء أبلغ في المعنى من إظهاره، لأن الإِبهام أوقع في النفس".

95 -

حديث "إنه صلى الله عليه وسلم أُتي بالبُراقِ فاسْتَصْعَبَ عليه، فقال له جبريل: أبمحمد تفعلُ هذا؟ فو الله مَا رِكِبَكَ أَحدٌ قطُّ أكرم على الله منه. قالت: فأرْفَض عَرَقا".

] عرقا [هو منصوب على التمييز المحوّل عن الفاعل.

96 -

حديث "آتي بابَ الجنَّةِ فأَسْتَفتحُ، فيقولُ الخازِنُ: مَنْ؟ فأقول: مُحَمّد. فيقول: بِكَ أُمِرْتُ أَنْ لا أفتح لأحدٍ قَبْلَك".

قال الطيبي: " (بك) متعلق بأمرت، والباء للسببيّة قدّمت للتخصيص.

المعنى: بسببك أمرت بأن لا أفتح لغيرك لا بشيء آخر. ويجوز أن يكون صلة للفعل، و (أن لا أفتح) بدلاً من الضمير المجرور، أي أمرت بأن لا أفتح لأحدٍ غيرك". اهـ.

97 -

حديث "وإذا صلَّى جالِساً فصلُّوا جُلوساً أجمعون".

قال الزركشي:] أجمعون [هو تأكيد لضمير الفاعل في قوِله (فصلوا) . ويروى (أجمعين) وفيه وجهان، أحدهما: أن يكون حالاً أي مجتمعين، أو تأكيداًَ لقوله (جلوساً) . ولا يجيء عند البصريين لأن ألفاظ التأكيد معارفْ.

98 -

حديث "مَنْ صَلَّى الضُّحى ثنْتي عَشْرةَ رَكْعَةً بَنَى الله له قَصْراً في الجنّة".

قال الحافظ زين الدين العراقي في شرح الترمذي: "يحتمل أن يكون (الضحى) مفعول صلَّى، أقي صلاة الضحى. و (ثنتي عشرة) تمييز. ويحتمل أن يكون مفعول صلّى قوله (ثنتي عشرة ركعة) وأن يكون (الضحى) ظرفاً، أي من صلِّى وقت الضّحى".

99 -

حديث "إنّي لأَخْشاكُم لله".

(1) الرعد: آية 31.

ص: 307

قال الطيبي: (لله) مفعوٍل لأخشاكم. وأفَعْلَ لا يعمل في الظاهر إلاّ في الظرف.

قال: "وقوله: "ولكنّي أصومُ وأفْطِر" المستدرك منه مقدّر، أي أخشاكم لله فينبغي أن أقوم في العبادة إلى أقصى غايتها، لكني أقصد فيها فأصوم وأفطر وأصلي وأنام. وقوله: "فَمَنْ رَغِبَ عن سُنّتي" الفاء متعلقة بمحذوف، أي لكني أفعل ذلك لأبين للناس الطريقة المثلى والسنة العظمى، فمن رغب عنها فليس مني. و (مِنْ) في (مِنّي) إيصالية كما في قوله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْض} (1) . وقوله: "مَنْ لم يوتر فليس منّا" (2) أي فليس بمتصل بنا وبهدينا وطريقتنا. وقول الشاعر:

فإني لستُ منك ولسمتَ منّي" انتهى.

100 -

حديث "أنه صلى الله عليه وسلم قال: يا معاذ بْنَ جَبَل".

هو بنصب (ابن) لا غير، ويجوز في (معاذ) الضمّ والفتح.

قال ابن مالك في شرح الكافية (3)

(1) التوبة. آية 67

(2)

مسند أحمد 2/443 ، 5/ 385.

(3)

نظر: ديوان النابغة الذبياني ص 123- طبعة دار صادر- بيروت شرح أبيات سيبويه لابن السيرافي- تحقيق د. محمد علي سلطاني 2/335. وقد أستشهد سيبويه بالبيت على حذف ياء المتكلم تشبيهاً بياء القاضي، قال سيبويه 4/186: (ودلك قولك هذا غلامْ وأنت تريد هذا غلامي،.. وقال النابغة:

إذا حاولت في أسدٍ فجوراً فإني لستُ منكَ ولست منْ

يريد منيّ. وقال النابغة.

وهم وردوا الجفار على تميمٍ وهم أصحابُ يوم عكاظ إنْ

يريد. إنّي سمعنا ذلك ممن يرويه عن العرب الموثوق بهم. وترك الحذف أقيس

)

100-

الحديث عن أنس: "أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان في بعض أسفاره، ورديفه معاذ بن جبل، ليس بينهما غير أخرة الرحل، إذا قال نبي الله صلى الله عليه وسلم يا معاذ بن جبل

". مسند أحمد 3/ 260 البخاري: كتاب العلم- باب من خصّ بالعلم قوماً 1/226. مسلم بشرح النووي 1/230.

شرح الكافية الشافية لابن مالك 3/1297.

ص: 308

: "يجوز في العلم المضموم في النداء أن يفتح إذا وصف بابن متصل مضافاً إلى علم نحو: يا زَيْدَ بْنَ عَمْرو. ولا يمتنع الضمّ، وهو عند المبردّ أولى من الفتحً".

وقال الأبَّدَي في شرح الجزولية: الضمّ على أصله يا النداء، ونصب الابن على النعت، لأنه لا يستعمل في الخبر إلاّ نعتاً فكذا يكون في النداء، والفتح على التركيب وجعلهما اسماً واحداً، وكأن حرف الإعراب على هذا في آخر النعت.

وقوله: "ما مِنْ أحدٍ يَشْهَدُ أًنْ لا إِله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله صِدْقا مِنْ قلبه إلاّ حرَّمَه الله على النار".

قال الكرماني: "هو استثناء من أعمّ الصفات، أي ما أحد يشهد كائناً بصفة إلاّ بصفة التحريم".

وقوله: "أَفَلا أً خبرُ بِه الناسَ فيَسْتبْشِروا".

هو منصوب في جواب العرض. وروي (فيستبشرون) بالرفع، أي فهم يستبشرون، كقوله تعالى:{وَلا يُؤْذَنُ ل َهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} (1) .

[مسند أنس بن مالك يتبع في العدد القادم....]

(1) المرسلات: آية 36.

ص: 309

رسائل لم يحملها البريد

للشيخ عبد الرءوف اللبدي

أستاذ مساعد بكلية الشريعة

أختي العزيزة: (هل) :

سوف أحدثك في هذه الرسالة السادسة عشرة عن همزة الاستفهام الداخلة على الفعل الماضي (رأى) :

لقد وردت في القرآن الكريم على أربعة أساليب: أسلوب {أَرَأَيْتَ} وأسلوب {أَرَأَيْتَكَ} ، وأسلوب {أَرَأَيْتُمْ} ، وأسلوب {أَرَأَيْتَكُمْ} .

وقد ذهب سيبويه وجماعة من النحاة إلى أن أرأيت في أساليبها المختلفة إذا جاءت بمعنى أخبرني كانت علمية تنصب مفعولين: المفعول الأول ملتزم فيه النصب، ولا يجوز فيه الرفع على اعتبار تعليق أرأيت، لأن أرأيت بمعنى أخبرني، وأخبرني لا تعلّق، فكذلك ما كان بمعناها، أما المفعول الثاني فجملة استفهامية.

وتفسير (أرأيت) بمعنى أخبرني تفسير معنى لا تفسير إعراب، لأن أخبرني تتعدى بعن فتقول أخبرني عن زيد، أما أرأيت فتتعدى بنفسها إلى مفعوله به صريح، وإلى جملة استفهامية هي في موضع المفعول الثاني.

وقد اعترض على سيبويه كثير من النحاة وخالفوه وقالوا كثيرا ما تعلق (أرأيت) ، وفي القرآن الكريم كثير منه، كقوله تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (الآية40) الأنعام.

وذهب أبو الحسن الأخفش (1) إلى أن {أَرَأَيْتَ} قد تخرج عن معنى أخبرني في بعض أساليبها، فتكون بمعنى أَمّا، أو تنبّه، ولا تنصب مفعولا به ولا مفعولين، ومن ذلك قوله تعالى:{قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوت} (الآية63) الكهف. فأرأيت هنا (على رأي أبي الحسن) بمعنى أمّا أو تنبِّه.

(1) البحر المحيط: جـ 6 ص146.

ص: 310

وسوف ألتزم في حديثي عن (أرأيت) في أساليبها المختلفة مذهب سيبويه، فأفسرها بمعنى أخبرني وأعربها على أنها علمية تنصب مفعولين: الأول منصوب، والثاني جملة استفهامية، وإذا لم يذكر أحدهما في الكلام أو لم يذكرا معا قدّرت ما لم يذكر.

والآن أبدأ، وأنا أسأل الله تعالى العون والتوفيق- بالحديث عن أسلوب (أرأيتم) لأنه أكثر ورودا، فقد ورد في إحدى وعشرين آية من آيات القرآن الكريم:

الآية الأولى: قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُون} (الآية 46) من سورة الأنعام.

في هذه الآية الكريمة يأمر الله سبحانه وتعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين ما يتضمن:

أخبروني أيها المشركون إن ذهب الله بسمعكم فأصمّكم، وذهب بأبصاركم فأعماكم، وختم على قلوبكم فأماتها، فصرتم لا تفقهون حجة، ولا تفهمون حديثا، أيّ إله غير الله يستطيع أن يردّ إليكم ما أخذه الله منكم.

ما أعجب أمرهم يا محمد!! نتابع عليهم الحجج الكثيرة، ونضرب لهم الأمثال والعبر المختلفة، ولكنهم مع هذا كله يعرضون عن الاعتبار والادّكار والإِنابة إلى الله.

هذا، و {أَرَأَيْتُمْ} هنا بمعنى أخبروني، والمستخبر عنه هو السمع والأبصار والقلوب، ومتعلق الاستخبار ومناطه الجملة الاستفهامية:{مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} .

وتقدير الكلام: أخبروني أيها المشركون عن سمعكم وأبصاركم وقلوبكم مَن إله غير الله يأتيكم بها إن أخذها الله منكم.

ص: 311

أما إعراب {أَرَأَيْتُمْ} شهي علمية تنصب مفعولين: الأولى محذوف، وتقديره: أرأيتم سمعكم وأبصاركم وقلوبكم، وقد تنازعه {أَرَأَيْتُمْ} و {أَخَذَ} تنازعا سمعكم وأبصاركم وقلوبكم، فأعمل الثاني وحذف في الأول. أما المفعول الثاني فالجملة الاستفهامية:{مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} ، وأما جواب الشرط (إن أخذ) فمحذوف لدلالة ما قبله عليه، والتقدير: إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وقلوبكم فأخبروني من يأتيكم بها. أما إعراب {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} فـ {مَنْ} اسم استفهام في محل رفع مبتدأ، و {إِلَهٌ} خبره، و {غَيْرُ اللَّهِ} صفة للخبر، وجملة {يَأْتِيكُمْ بِهِ} في محل رفع صفة ثانية للخبر، والضمير {بِهِ} يعود على ما ذكر سابقا، وقد أُفرد وذُكِّر لأنه أجرى مجرى اسم الإشارة المفرد:(ذاك) .

وقد جاء استفهام {أَرَأَيْتُمْ} هنا مفيدا التقريع والتوبيخ والتهديد، والتنبيه:

تقريع المشركين وتوبيخهم على عبادتهم الأصنام وعلى إعراضهم عن عبادة الله المنعم عليهم بالسمع والأبصار والأفئدة.

وتهديدهم بأن يأخذ الله منهم هذه النعم التي أنعم بها عليهم، أن يأخذها منهم جزاء كفرهم، ولن تستطيع أصنامهم أن تردّ عليهم هذه النعم، فالأخذ والعطاء بيد الله وحده.

وتنبيههم على أنه ليس هناك إله غير الله يقدر على أن ينعم عليهم بهذه النعم، وأن يأخذها منهم حين يشاء، فالتعلق بغيره لا ينفع ولا يشفع.

الآية الثانية: قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} (الآية 50) من سورة يونس.

في هذه الآية الكريمة يأمر الله سبحانه وتعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين ما يتضمن:

ص: 312

أخبروني أيها المشركون الذين تستعجلون العذاب، أخبروني عن عذاب الله إن آتاكم ليلا وأنتم نائمون غافلون، أو نهارا وأنتم في طلب المعاش مشغولون، أي شيء تستعجلون منه أيها المجرمون وليس شيء من العذاب يستعجله عاقل؟! فالعذاب كله مرّ المذاق مفزع تنفر منه الطباع، والمجرمون أحق بأن يخافوا التعذيب على إجرامهم، وأن يهلكوا فزعا من ذكره ومن مجيئه وإن أبطأ عليهم، فكيف يستعجلونه؟!

و {أَرَأَيْتُمْ} هنا بمعنى أخبروني، والمستخبر عنه عذاب الله، ومتعلق الاستخبار ومناطه الجملة الاستفهامية:{مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} .

أما الإِعراب فـ {أَرَأَيْتُمْ} علمية تنصب مفعولين: الأول محذوف تقديره عذاب الله وقد تنازعه {أَرَأَيْتُمْ} و (أتاكم) : أرأيتم يطلبه على أنه مفعول به، وأتاكم يطلبه على أنه فاعل، فأعمل الثاني وحذف في الأول، والمفعول الثاني لأرأيتم هو الجملة الاستفهامية:{مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} والرابط الذي ربطها بالمفعول الأول هو ضمير (منه) ، و (بياتا) و (نهارا) منصوبان على الظرفية الزمانية متعلقان بأتاكم، وإعراب {مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} :(ما) استفهامية في محل رفع مبتدأ، و (ذا) بمعنى الذي خبره، وجملة (يستعجل منه المجرمون) صلته، وقد حذف الضمير العائد على الموصول؟ والتقدير: ما الذي يستعجله من العذاب المجرمون. ويجوز أن تكون (ماذا) كلمة واحدة وتكون في محل نصب مفعولا مقدما، ويكون التقدير: أيّ شيء من العذاب يستعجل المجرمون. وجواب الشرط {إِنْ أَتَاكُمْ} محذوف دلّ عليه ما قبله وهو ْ {أَرَأَيْتُمْ} ومعمولها، والتقدير: إن أتاكم عذابه فأخبروني ماذا تستعجلون منه أيها المجرمون.

ص: 313

هذا، وقال الزمخشري في تفسيره الكشاف:"وجواب الشرط {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ} محذوف، وهو تندموا على الاستعجال أو تعرفوا الخطأ فيه "اهـ. وقد ردّ أبو حيان في تفسيره البحر المحيط قول الزمخشري هذا وقال:"وما قدّره الزمخشري غير سائغ، لأنه لا يُقدَّر الجواب إلا مما تقدمه لفظا أو تقديرا، تقول أنت ظالم إن فعلت، فالتقدير إن فعلت فأنت ظالم وكذلك (أيَ مما تقدمه تقديرا) {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} التقدير: إن شاء الله نهتد"اهـ. وقال الزمخشري أيضا عند تفسيره هذه الآية: "ويجوز أن يكون {مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} جوابا للشرط كقولك إن أتيتك ماذا تطعمني"اهـ. وقد ردّ أبو حيان هذا الراقي أيضا بقوله: "وأما تجويزه أن يكون ماذا جوابا للشرط فلا يصحّ، لأن جواب الشرط إذا كان استفهاما فلابد فيه من الفاء، والمثال الذي ذكره وهو إن أتيتك ماذا تطعمني، هو من تمثيله لا من والأم العرب"اهـ.

وقد أفاد استفهام {أَرَأَيْتُمْ} هنا تقريع المشركين وتوبيخهم على استعجالهم العذاب مع أنهم قوم مجرمون، فهم أحقاء أن يخشوه وأن يفزعوا من ذكره، فكيف يستعجلونه. وأفاد أيضا تهديد المشركين بأن الله تعالى قادر على أن ينزل بهم العذاب في أي وقت يشاء.

الآية الثالثة: قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُون} (الآية 59) من سورة يونس.

في هذه الآية الكريمة يأمر الله سبحانه وتعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين ما يتضمن:

أخبروني أيها المشركون عما خلق الله لكم من رزق فحرّمتم بعضه على أنفسكم وحللتم بعضه لها، آلله أذن لكم أن تحرّموا ما حرّمتم من هذا الرزق، وأن تحلّلوا ما حلّلتم منه، أم لم يأذن الله لكم فأنتم تكذبون على الله وتفترون.

ص: 314

و {أَرَأَيْتُمْ} هنا بمعنى أخبروني، والمستخبر عنه ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم بعضه حراما وبعضه حلالا، ومتعلق الاستخبار ومناطه الجملة الاستفهامية:{آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُون} .

أما إعراب {أَرَأَيْتُمْ} فهي علمية تنصب مفعولين: الأول اسم الموصول (ما) والجملة بعد (ما) صلتها، والعائد محذوف، والتقدير: ما أنزله، والمفعول الثاني الجملة الاستفهامية:{آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُون} ، والرابط الذي ربط جملة المفعول الثاني بالأول محذوف، والتقدير: آلله أذن لكم فيه.

وجوّز الزمخشري في تفسيره الكشاف، جوّز في (ما) الموصولة هذه وجها ثانيا وهو أن تكون استفهامية منصوبة المحل على أنها مفعول مقدم لأنزل، وهي حينئذ معلّقة لأرأيتم، والجملة في محل نصب سدّت مسدّ مفعولها.

وقال أبو حيان في تفسيره البحر المحيط "والوجه الأول وهو أن تكونا (ما) موصولة أولى، لأن فيه إبقاء {أَرَأَيْتَ} على بابها من كونها تتعدى إلى الأول فتؤثر فيه، بخلاف جعلها استفهامية، فإن أرأيت إذ ذاك تكون معلّقة، وتكون (ما) قد سدّت مسدّ المفعولين"اهـ.

و {قُلْ} الثانية توكيد لفظي للأولى، و (أم) الظاهر فيها أنها متصلة عطفت ما بعدها على ما قبلها، والتقدير: آلله أذن لكم فيه أم لم يأذن.

وجوّز الزمخشري أن تكون منقطعة بمعنى بل أتفترون على الله، أي أنتم تفترون على الله.

وجملة {فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً} معطوفة على جملة {أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْق} و {حَلالاً} مفعول ثان لجعلتم، والمفعول الأول هو {مِنْهُ} باعتبار معناه أي بعضه، والتقدير: فجعلتم بعضه حراما وجعلتم بعضه حلالا.

وقد جاء استفهام {أَرَأَيْتُمْ} هنا مفيدا تقريع المشركين وتوبيخهم على تحريمهم بعض ما رزقهم الله، وتحليلهم بعضا آخر، يفعلون ذلك من عند أنفسهم، ثم ينسبون إلى الله كذبا وافتراء.

ص: 315

وقد أفاد الإنكار أيضا بمعنى لا ينبغي لكم أن تحرموا ما تحرمون وأن تحلّلوا ما تحلّلون كذبا وافتراء على الله تعالى.

الآية الرابعة: في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَاّ اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَاّ بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَاّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} الآيات (25- 28) من سورة هود.

تتضمن هذه الآيات الكريمة أن الله سبحانه وتعالى قد أرسل نوحا إلى قومه فقال لهم إني رسول الله إليكم أخوفكم من عذاب الله وعقابه، وأبيّن لكم أن لا تعبدوا إلا الله، وأن لا تشركوا به شيئا، وإني لأخشى عليكم أن يعذبكم الله عذابا أليما يوم القيامة إن لم تؤمنوا به وحده وتخلصوا له العبادة.

فقال الكبراء والأشراف الذين كفروا بالله من قوم نوح وجحدوا أنه نبي مرسل: ما نراك يا نوح إلا بشرا آدميا مثلنا، فكيف أُوحي إليك من دوننا؟! وما نراك اتبعك إلا أراذلنا، وما كان اتباعهم لك عن تروٍّ وتدبر وإنعام نظر، وإنما كان رأيا عارضا ابتدرهم أولا ما دعوتهم، ثم ما نرى لكم بعد أن تركتم عبادة الأوثان وصرتم إلى عبادة الله، ما نرى لكم فضالا علينا يغرينا باتباعكم ويحبّب إلينا دينكم الجديد، وما نظنكم إلا كاذبين فيما تدّعونه لأنفسكم من البر والصلاح والعبادة والسعادة في الآخرة التي تتحدثون عنها وتصفون.

ص: 316

وقد ردّ نوح على قومه ردّاً رفيقا ليّنا بعيدا عن الفظاظة والغلظة، فذلك أبعث على تخفيف ما في قلوبهم من حقد وغلّ وعداوة، وأدعى إلى ترقيق قلوبهم وحسن إصغائهم وتخلّيهم عن التمادي في العناد والمكابرة، قال: يا قوم أرأيتم إن كنت على بيّنة من ربي وآتاني النبوة من عنده رحمة منه تعالى بي وبكم، أنلزمكم قبولها وأنتم لها كارهون؟! لا، لا نفعل ذلك، بل نكل أمركم إلى الله عز وجل يقضى فيكم بما يشاء، إنه الهادي إلى سواء السبيل.

هذا، و {أَرَأَيْتُمْ} هنا بمعنى أخبروني والمستخبر عنه هو البيّنة، ومتعلق الاستخبار ومناطه الجملة الاستفهامية، والتقدير: أخبروني عن البينة من ربي إن كنت عليها أنلزمكم قبولها وأنتم لها كارهون.

أما إعراب {أَرَأَيْتُمْ} فهي علمية تنصب مفعولين: وقد تنازع {أَرَأَيْتُمْ} وفعل الشرط {كُنْتُ} ، تنازعا {بَيِّنَةٍ} فأرأيتم يطلبها منصوبة على أنها مفعول به، وفعل الشرط يطلبها مجرورة بعلى، فأعمل الثاني وحذف في الأول، والجملة الاستفهامية:{أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} هي المفعول الثاني لأرأيتم، وجواب (إِنْ) الشرطية محذوف دلّ عليه وأغنى عنه أرأيتم ومفعولها، والتقدير: إن كنت على بيّنة من ربي وآتاني رحمة من عنده فأخبر وني عنها أنلزمكموها وأنتم لها كارهون.

وإعراب {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} : الهمزة حرف استفهام، ونُلزم مضارع ألزم وهو متعد إلى مفعولين: الأول ضمير المخاطبين (كمو) ، والثاني الضمير (ها) العائد على البيّنة، وجملة {وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} في محل نصب على الحال من ضمير المخاطبين (كمو) ، والجملة الاستفهامية كلها سبق القول إنها المفعول الثاني لأرأيتم.

ص: 317

وقد جاء استفهام {أَرَأَيْتُمْ} هنا مفيدا التنبيه: تنبيه نوح قومه على أن النبوة التي آتاه الله تعالى إياها رحمة به وبهم لا يُلزمهم قبولها ولا يُكرههم على الإيمان بها، وإنما عليه أن يبلغها إليهم، والله تعالى وحده هو الذي يتولى حسابهم وهو الهادي إلى سبيل الرشاد.

الآية لخامسة: في قوله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِير} الآيات: (61-63) من سورة هود.

تتضمن هذه الآيات الكريمة أن الله سبحانه وتعالى أرسل النبيّ صالحا إلى قومه ثمود فقال لهم: يا قوم اعبدوا الله وحده لا شريك له، وليس هناك من إله يستحق العبادة غيره، فهو الذي خلقكم من الأرض وجعلكم قادرين على عمارتها، فاطلبوا منه تعالى أن يغفر لكم ذنوبكم بالإِيمان به وإخلاص العبادة له، واتباع ما أرسلت به إليكم، ثم اطلبوا منه أن يتوب عليكم بترك ما يكرهه من الأعمال إلى ما يرضاه ويحبه، إن الله قريب ممن أخلص له العبادة ورغب إليه في التوبة، مجيب له إذا دعاه.

فقالت ثمود لصالح: يا صالح لقد كنا نرجو أن تكون فينا مقدَّماً مسوَّداً قبل أن تقول لنا: ما لكم من إله غيره، أما بعد هذا فلا، أتنهانا أن نعبد الآلهة التي كان آباؤنا يعبدونها من قبل؟!

ص: 318

ولكن صالحا ردَّ على قومه ردًّا ليّنا بعيدا عن الفظاظة والغلظة، دون أن يستفزّه ما في جوابهم من جفوة وتكذيب:

قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بيّنة من ربي وآتاني منه النبوة، فمن ذا الذي يدفع عنى عقابه إن أنا عصيته فلم أبلغكموها واتبعتكم فيما تدعونني إليه من الكفر، إنكم لا تزيدونني حين أتباعكم إلا خسرانا وضياعا لما أنعم الله عليّ من رحمته.

والتعبير بحرف الشك (إِنْ) في قول صالح لقومه: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} وفي قول نوح لقومه في الآية السابقة: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} وفي قول شعيب لقومه في الآية التالية: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} ، تعبير هؤلاء الأنبياء بهذا الحرف (إِنْ) الذي كثيرا ما يستعمل في شك المتكلم في الفعل الواقع بعده، تعبير هؤلاء الأنبياء بهذا الحرف في مخاطبتهم لأقوامهم مع أنهم كانوا على يقين من أنهم على بينة من ربهم، لأنهم كانوا يخاطبون قوما جاحدين، ففيه رعاية لحسن المحاورة، واستنزال عن العناد والمكابرة، واستدراج لطيف لهؤلاء المشركين لعلهم يذّكرون.

و {أَرَأَيْتُمْ} هنا بمعنى أخبروني، والمستخبر عنه هو البينة، ومتعلق الاستخبار ومناطه الجملة الاستفهامية:{فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ} ، والتقدير: أخبروني عن البينة من ربي إن كنت عليها فمن ينصرني من الله إن عصيته فلم أبلغكموها وكتمتها عنكم.

ص: 319

أما إعراب {أَرَأَيْتُمْ} فهي علمية تنصب مفعولين: الأول هو البينة، على نحو ما مرّ في قول نوح لقومه:{أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} في الآية الثامنة والعشرين من سورة هود. وأما المفعول الثاني فهو الجملة الاستفهامية: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} والرابط الذي ربط المفعول الثاني بالأول مقدر، والتقدير: فمن ينصرني من الله إن عصيته بكتمانها.

وكون الجملة الاستفهامية هذه هي المفعول الثاني لـ {أَرَأَيْتُمْ} رأي نقله صاحب الفتوحات الإلهية، وعلى هذا الرأي تكون الفاء الداخلة على الجملة الاستفهامية زائدة للتوكيد، وَعلى هذا الرأي أيضا يكون جواب الشرط {إِنْ كُنْتُ} محذوفاً دل عليه ما قبله، والتقدير: إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فأخبروني عنها من ينصرني من الله إن عصيته بكتمانها.

وقد ذهب أبو حيان في تفسيره البحر المحيط إلى أن الجملة الاستفهامية: {فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ} واقعة في جواب الشرط، وليست هي المفعول الثاني لأرأيتم، وفى رأيه أن المفعول الثاني محذوف دل عليه هذه الجملة الاستفهامية وقدّره: أأعصيه في ترك ما أنا عليه من البينة.

أما الرأي القائل: إن الشرط والجملة الاستفهامية الواقعة في جوابه، يسدّان مسدَّ مفعولي {أَرَأَيْتُمْ} .

فقد ردّه أبو حيان، وقال: إن الشرط وجوابه لا يقعان ولا يسدّان مسدّ مفعولي {أَرَأَيْتُمْ} .

وذهب أبو الحسن الأخفش إلى أن {أَرَأَيْتَ} إذا جاء بعدها الشرط، وجاء بعد الشرط جملة استفهامية مقترنة بالفاء كما في هذه الآية- تكون حينئذ بمعنى أمّا ولا يكون لها مفعولان ولا مفعول واحد.

وقد ردّ أبو حيان في تفسيره البحر المحيط هذا الرأي بأنه إخراج أرأيت عن مدلولها بالكلية.

ص: 320

الآية السادسة: في قوله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَاّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَاّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} الآيات: (84-88) من سورة هود.

تتضمن هذه الآيات الكريمة أن الله سبحانه وتعالى قد أرسل إلى قوم مدين أخاهم شعيبا فقال: يا قوم اعبدوا الله وحده لا شريك له وانبذوا عبادة الأصنام، فليس لكم من إله يستحق العبادة سوى الله. ولا تنقصوا الناس حقوقهم إذا كلتم لهم أو وزنتم، إني أراكم في سعة من العيش وكثرة من المالي تغنيكم عن هذا التطفيف في المكيال والميزان.

وإني أخاف عليكم من جراء عبادتكم الأصنام وهذا التطفيف أن ينزل الله بكم عذاب يوم يحيط بكم من كل جانب فلا ينجو منه أحد.

ص: 321

ويا قوم أوفوا الكيل والميزان حقهما بالعدل والقسط، سواء أكان الكيل والوزن لكم أم عليكم، ولا تبخسوا الناس أشياءهم سواء أكانت هذه الأشياء مما يكال أو يوزن أو يذرع أو يعدّ أم كانت غير ذلك. ويا قوم لا تسعوا في الأرض مفسدين مصالح الآخرين. هذه البقية التي تبقى لكم من الكسب الحلال- وإن قلّت- خير لكم من كثير تبقونه لأنفسكم بالتطفيف، خير لكم عند الله ثوابا، وأحسن عقبى إن كنتم مؤمنين. ويا قوم ما أنا عليكم بحفيظ أحفظ عليكم أعمالكم وأجازيكم عليها، وإنما عليّ أن أبلغكم رسالة ربي وأن أنصح لكم بما يرضى الله، وقد فعلت وأعذرت حين أنذرت.

فقال قوم شعيب: أصلاتك يا شعيب تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا من الأوثان والأصنام، وتأمرك أن لا نتصرف في أموالنا كما نشاء؟! إنك لأنت الحليم الذي لا يستفزه الغضب، وإنك لأنت الرشيد الذي لا يركبه الجهل والطيش!! وما كنّا لنتوقع أن تأمرنا بأن نخرج على دين آبائك وأجدادك، وتنهانا عما نهيت فلا نربح في تجاراتنا إلا القليل!!

فقال لهم شعيب: يا قوم أرأيتم إن كنت نبيًّا مرسلا من الله تعالى إليكم لأدعوكم إلى عبادته تعالى وحده وأنهاكم عن عبادة الأصنام، وأحذركم التطفيف وكسب أموال الناس بالباطل، ورزقني الله رزقا حلالا طيبا، أيحق لي بعد ذلك أن أكتم الرسالة وأن أترك تبليغ ما أمرني ربي عز وجل أن أبلغكموه، وأن أضل ضلالكم فأعبد ما تعبدون وأكسب الحرام كما تكسبون، لا، لا يحق لي ذلك، إني أخاف الله رب العالمين، فما كنت لأنهاكم عن أمر أركبه وآتيه، وما أريد فيما آمركم به وأنهاكم عنه إلا إصلاحكم وإصلاح أموركم ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وما توفيقي فيما أحاول من هذا الِإصلاح إلا بالله، فهو المعين على ذلك، وعلى الله أتوكل وإليه أنيب.

ص: 322

هذا، و {أَرَأَيْتُمْ} بمعنى أخبروني، والمستخبر عنه هو البينة، ومتعلق الاستخبار ومناطه جملة استفهامية مقدرة، والتقدير: أخبروني عن البينة الواضحة والنبوة الصادقة التي آتانيها الله أيحق لي أن لا أبلغكموها وأن لا أعمل بمقتضاها؟!

أما إعراب {أَرَأَيْتُمْ} فهي علمية تنصب مفعولين: المفعول الأول محذوف وهو البيّنة (وقد سبق بيان ذلك في الآية الثامنة والعشرين من سورة هود وهي الآية الرابعة من آيات هذه الرسالة) . والمفعول الثاني محذوف أيضا وهو جملة استفهامية يدل عليها المعنى والسياق وتقديرها: أيحق لي أن أكتمها وأن لا أبلغكموها.

أما جواب الشرط {إِنْ كُنْتُ} فمحذوف، وقد دلّ عليه وأغنى عن ذكره ما تقدم عليه وهو أرأيتم ومعمولها والتقدير: إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا فأخبروني أيحق لي أن أكتمها وأن لا أبلغكموها.

وقد جاء استفهام {أَرَأَيْتُمْ} هنا مفيدا التنبيه: تنبيه شعيب قومه على أن النبوة التي آتاه الله إياها وأن الرسالة التي أمره الله بتبليغها بأن يدعوهم إلى عبادة الله وحده، وإلى ترك عبادة الأصنام، وإلى الكف عن تطفيف الكيل والميزان، لا يحق له أن يكتمها وأن يترك تبليغها، وأن يضل ضلالهم الذي ليس وراءه ضلال.

ص: 323

الآية السابعة: في قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَاّ رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِين وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} الآيات: (69-82) من سورة الشعراء.

أمر الله سبحانه وتعالى نبيّه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقص على قومه المشركين نبأ إبراهيم الذي تضمنته هذه الآيات الكريمة، وقد تضمنت:

قال إبراهيم لأبيه وقومه: أي شيء تعبدون؟ فقالوا له: نعبد أصناما فنظل على عبادتها عاكفين، فقال لهم إبراهيم: أتسمع هذه الأصنام التي تعبدونها دعاءكم إذ تدعون؟ وهل تستطيع هذه الأصنام أن تنفعكم أو تضركم إن أرادت لكم النفع أو أرادت بكم الضر؟ فأجابوا: هم لا يسمعوننا إذا دعوناهم ولا ينفعوننا شيئا ولا يضرون، ولكننا عبدناهم لأننا وجدنا آباءنا من قبلنا يعبدون هذه الأصنام فاتبعناهم واقتدينا بهم وفعلنا مثل ما كانوا يفعلون.

ص: 324

فقال لهم إبراهيم: أفرأيتم هذه الأصنام التي تعبدونها أنتم وآباؤكم الأولون، إنها عدوّ لي وأنا بريء مما تعبدون، ولا أعبد إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهديني، وهو الذي يطعمني ويسقيني، وإذا مرضت فهو يشفيني، وهو الذي يميتني ثم يحييني، وهو الذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الحساب. إن الذي يفعل هذه الأفعال هو الذي يستحق أن يكون إلها يعبد، أما أصنامكم هذه التي اتخذتموها آلهة فلا تستحق العبادة، إنها لا تملك نفعا ولا ضرا، ولا تستطيع شيئا.

هذا، و {أَرَأَيْتُمْ} هنا بمعنى أخبروني، والمستخبر عنه هو اسم الموصول:{مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} ، ومتعلق الاستخبار ومناطه جملة استفهامية مقدرة يدل عليها المعنى والسياق، والتقدير: أخبروني عن الأصنام التي تعبدونها أنتم وآباؤكم الأقدمون أيستحقون أن تعبدوهم.

أما إعراب (أرأيتم) فهي علمية تأخذ مفعولين: الأول اسم الموصول {مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} والثاني جملة استفهامية مقدرة: (أيستحقون أن تعبدوهم) .

وقد أفاد استفهام {أَرَأَيْتُمْ} التنبيه: تنبيه إبراهيم أباه وقومه على أنهم يعبدون آلهة لا تضر ولا تنفع، ولا تعقل ولا تسمع، ولذلك فهولا يحبها وإنما يحب أن يعبد إلها قادرا على كل شيء هو رب العالمين. نبههم على ذلك لعلهم يتبيّنون أنهم على خطأ وأن آباءهم من قبلهم كانوا على خطأ.

ولا يخلو هذا الاستفهام من تودّد وملاطفة واستدراج للوصول إلى الغرض وهو الإيمان بالله والإِعراض عن عبادة الأصنام. وقد كان هذا سبيل الأنبياء نوح وهود وشعيب في الآَيات المتقدمة حين خاطبوا أقوامهم ب {أَرَأَيْتُمْ}

الآية الثامنة: قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ} الآية (71) من سورة القصص.

ص: 325

في هذه الآية الكريمة يأمر الله سبحانه وتعالى نبيّه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين ما يتضمن:

أخبروني أيها المشركون عن الليل إن جعله الله عليكم مستمرا متواصلا لا يعقبه نهار إلى يوم القيامة مَنْ إله غير الله يأتيكم بضياء بعده تبصرون فيه معايشكم ويصلح فيه نباتكم وثماركم.

أفلا تسمعون هذا الكلام سماع فهم وندبر فتدركوا أن لا إله يستحق العبادة إلا الله.

و {أَرَأَيْتُمْ} هنا بمعنى أخبروني، والمستخبر عنه هو الليل، ومتعلق الاستخبار ومناطه هو الجملة الاستفهامية:{مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاء} . وتقدير الكلام: أخبروني- أيها المشركون- عن الليل إن جعله الله عليكم مستمرا لا ينقطع إلى يوم القيامة مَنْ إله غير الله يأتيكم بضياء بعده تصلح به حياتكم.

أما إعراب {أَرَأَيْتُمْ} فهي علمية تأخذ مفعولين: الأول محذوف وهو الليل، وقد تنازعه {أَرَأَيْتُمْ} و {جَعَلَ} ، فكل منهما يطلبه على أنه مفعول به، فأُعمل الثاني وهو (جعل) وحذف في الأول، والمفعول الثاني لـ {أَرَأَيْتُمْ} هو الجملة الاستفهامية:{مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاء} والرابط الذي يربط هذه الجملة الاستفهامية بالمفعول الأول ضمير محذوف، والتقدير: من إله غير الله يأتيكم بضياء بعده.

ص: 326

و {جَعَلَ} إذا كانت بمعنى صيّر أخذت مفعولين، فيكون الليل هو المفعول الأول، و {سَرْمَدا} هو المفعول الثاني، وإذا كانت بمعنى خلق وأنشأ أخذت مفعولا به واحدا هو الليل، ويكون {سَرْمَدا} حالا منه. وجواب الشرط (إن جعل) محذوف دلّ عليه {أَرَأَيْتُمْ} ومعمولها، والتقدير: إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة فأخبروني عنه مَنْ إله غير الله يأتيكم بضياء بعده. وإعراب {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاء} : (مَنْ) اسم استفهام في محل رفع مبتدأ، و {إِلَهٌ} خبره، و {غَيْرُ اللَّهِ} صفة أولى لإِله، وجملة {يَأْتِيكُمْ بِضِيَاء} في محل رفع صفة ثانية لإِله. وقد سبق أن هذه الجملة الاستفهامية كلها في محل نصب مفعول ثان لـ {أَرَأَيْتُمْ} .

واستفهام {أَرَأَيْتُمْ} في هذه الآية الكريمة يفيد التوبيخ: توبيخ المشركين على عبادتهم غير الله وتركهم عبادة الله الذي يعلمون أنه هو الذي يأتيهم بالضياء بعد الليل ليبتغوا فيه من فضله.

ويفيد أيضا التنبيه: تنبيه المشركين على أن الله وحده هو الذي يقدر على أن يأتي بالنهار بعد الليل ليبتغوا فيه من فضله، وأن أصنامهم التي يعبدونها من دون الله لا تقدر على ذلك. فعليهم أن يسمعوا آية الله هذه وأن يتدبروها فينصرفوا عن عبادة الأصنام، ويجعلوا عبادتهم خالصة لله الذي أنعم عليهم بهذه النعمة العظمى.

الآية التاسعة: قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ} الآية (72) سورة القصص.

في هذه الآية الكريمة يأمر الله سبحانه وتعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين ما يتضمن:

ص: 327

أخبروني أيها المشركون عن النهار إن جعله الله عليكم مستمرًّا متواصلا لا يعقبه ليل إلى يوم القيامة مَنْ إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه وتستريحون من عناء طلب المعاش الذي كان في النهار، أفلا تبصرون في اختلاف الليل والنهار عليكم رحمة من الله لكم، وحجة منه عليكم، فتعلموا أن العبادة لا تجب إلا لمن أنعم عليكم بذلكم، ولمن هو القادر عليه.

و {أَرَأَيْتُمْ} بمعنى أخبروني، والمستخبر عنه هو النهار، ومتعلق الاستخبار ومناطه الجملة الاستفهامية، وتقدير الكلام: أخبروني- أيها المشركون عن النهار إن جعله الله عليكم سرمدا إلى يوم القيامة مَنْ إله غير الله يأتيكم بليل بعده تسكنون فيه.

أما إعراب {أَرَأَيْتُمْ} وما بعدها فقد سبق مثله في الآية التي قبل هذه.

وأما استفهام {أَرَأَيْتُمْ} هنا فيفيد التوبيخ: توبيخ المشركين على عبادتهم غير الله وتركهم عبادة الله الذي يعلمون أنه هو الذي يأتيهم بالليل من بعد النهار ليجدوا فيه السكينة والطمأنينة، فالله وحده هو الذي يستحق العبادة.

ويفيد أيضا التنبيه: تنبيه المشركين على أن الله وحده هو الذي يقدر على أن يأتيهم بالليل من بعد النهار ليسكنوا فيه ويذوقوا طعم الراحة، فعليهم أن يبصروا آية الله هذه وأن يتدبروها، فيعرضوا عن عبادة الأصنام، ويخلصوا العبادة لله الذي أنعم عليهم بهذه المنة الكبرى.

الآية العاشرة: قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَاّ غُرُوراً} الآية (40) من سورة فاطر.

في هذه الآية الكريمة يأمر الله سبحانه وتعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين ما يتضمن:

ص: 328

أخبروني- أيها المشركون- عن هؤلاء الذين تزعمونهم شركاء لله وتدعونهم من دونه، أخبروني أي شيء من الأرض استبدوا بخلقه، أم لهم شركة مع الله في خلق السموات، أم أن الله تعالى آتاهم كتابا من عنده فهم على حجة وبرهان منه بأنه تعالى قد اتخذهم شركاء له.

إن رؤساء الكفر والشرك حين يقولون لأتباعهم إن هذه الأصنام التي نعبدها شفعاء لنا عند الله، حين يقولون لهم ذلك إنما يقولون أباطيل تغرّ وتخدع.

و {أَرَأَيْتُمْ} بمعنى أخبروني، والمستخبر عنه شركاؤهم الذين يدعونهم من دون الله، ومتعلق الاستخبار ومناطه الجملة الاستفهامية:{مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ} ، وتقدير الكلام: أخبروني عن هؤلاء الشركاء الذين تدعونهم من دون الله ماذا خلقوا من الأرض.

أما إعراب {أَرَأَيْتُمْ} فهي علمية تتعدى إلى مفعولين: الأول شركاءكم، والثاني الجملة الاستفهامية {مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ} ، وعلى هذا الِإعراب تكون جملة {أَرُونِي} معترضة بين المفعولين لتأكيد الكلام وتقويته، ويحتمل أن يكون {أَرَأَيْتُمْ} و {أَرُونِي} قد تنازعا الجملة الاستفهامية فأعمل الثاني وحذف الأول.

وقد ذهب الزمخشري في تفسيره الكشاف إلى أن {أَرُونِي} بدل من {أَرَأَيْتُمْ} . ولم يرتض أبو حيان في تفسيره البحر المحيط هذا الرأي وردّه من وجوه عدة، وقد حاول الألوسي في تفسير روح المعاني الانتصار لرأي الزمخشري هذا، ولكن هذه الرسالة لا تتسع لذاك الردّ وهذا الانتصار.

واستفهام {أَرَأَيْتُمْ} في هذه الآية الكريمة يفيد التنبيه والتوبيخ: تنبيه المشركين على خطئهم في اتخاذهم الأصنام شركاء لله، فالاستفهام يلفت أنظارهم إلى أن هذه الأصنام لم تكن شريكا لله في خلق شيء من الأرض، ولا في خلق شيء في السموات، ولم ينزل كتاب من عند الله يثبت هذه الشركة، فأنى يكونون شركاء لله؟!!

ص: 329

ويفيد أيضا توبيخ هؤلاء المشركين وتقريعهم على اتخاذهم الأصنام شركاء لله تعالى وهم لا يقدرون على شيء، مع أن الله جل جلاله على كل شيء قدير.

الآية الحادية عشرة: قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} الآية (38) من سورة الزمر.

تتضمن هذه الآية الكريمة: ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين الذين يعبدون الأصنام: مَنْ خلق السموات والأرض، ليقولن خلقهن الله.

وفي هذه الآية الكريمة يأمر الله سبحانه وتعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين ما يتضمن: أخبروني- أيها المشركون- عن هذه الأصنام التي تدعونها من دون الله وتعبدونها هل هن قادرات- إن أرادني الله بضر- أن يكشفن ذلك الضر وهل هن قادرات - إن أرادني الله برحمة- أن يمسكن عني تلك الرحمة.

وإذا كانت هذه الأصنام لا تملك نفعا ولا ضرا، فالله الذي خلق السموات والأرض وهو القادر على كل شيء هو وحده الذي يستحق أن يفرد بالعبادة، وهو حسبي في إصابة الخير ودفع الضر، وعليه وحده يتوكل كل متوكل، لأن الأمر كله بيده جل وعلا.

و {أَرَأَيْتُمْ} هنا بمعنى أخبروني، والمستخبر عنه {مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ومتعلق الاستخبار ومناطه الجملة الاستفهامية:{هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّه} ، {هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِه} ، وتقدير الكلام: أخبروني- أيها المشركون- عن هذه الأصنام التي تدعونها من دون الله، هل هن كاشفات الضر عنى إن أرادني الله بضر، وهل هنّ ممسكات الرحمة عني إن أرادني الله برحمة.

ص: 330

أما إعراب {أَرَأَيْتُمْ} فهي علمية تتعدى إلى مفعولين: المفعول الأول اسم الموصول {مَا تَدْعُونَ} ، والمفعول الثاني الجملة الاستفهامية: هل هن كاشفات ضره، هل هن ممسكات رحمته. والرابط الذي يربط المفعول الثاني بالأول ضمير {هُنَّ} وقد أُنث بالنظر إلى المعنى المراد من {مَا تَدْعُونَ} وهو الأصنام، وكثيرا ما كانوا يسمونها بأسماء الإناث كاللات والعزى ومناة.

وجواب الشرط {إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرّ} ، {أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَة} محذوف يدل عليه {أَرَأَيْتُمْ} ومعمولها وتقديره: فأخبروني هل هن كاشفات ضره أو ممسكات رحمته.

واستفهام {أَفَرَأَيْتُمْ} هنا يفيد التنبيه والتوبيخ:

تنبيه المشركين على خطئهم في اتخاذهم الأصنام آلهة تعبد من دون الله، فالاستفهام يلفت أنظارهم إلى أن أصنامهم التي يعبدونها لا تدفع ضرا ولا تجلب نفعا، وإذن فهي لا تستحق العبادة ولا الألوهية، وأن الذي يستحق العبادة دون غيره هو الله وحده.

ويفيد تقريع المشركين وتوبيخهم على عبادتهم أصناما لا قدرة لها على الخير ولا على الشر، على حين يكفرون بوحدانية الله تعالى وإخلاص العبادة له وهو القادر على كل شيء القاهر فوق عباده.

الآية الثانية عشرة: قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} الآية (52) من سورة فصلت.

تتضمن هذه الآية الكريمة أن الله سبحانه وتعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين المكذبين بالقرآن الكريم ما يتضمن:

أرأيتم إن كان هذا القرآن الذي تكذبون به قد جئتكم به من عند الله ثم كفرتم به من غير نظر ولا اتباع دليل، أرأيتم أحدا أضل منكم، لا أحد أضل منكم أيها المكذبون الذين أبعدتم في الشقاق وأوغلتم في العداوة.

ص: 331

و {أَرَأَيْتُمْ} بمعنى أخبروني، والمستخبر عنه هم المخاطبون المكذبون بالقرآن، ومتعلق الاستخبار ومناطه هو الجملة الاستفهامية:{مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} . وتقدير الكلام: أخبروني- أيها المشركون- عن حالكم إن كان هذا القرآن من عند الله ثم كفرتم به- من أضل منكم.

أما إعراب {أَرَأَيْتُمْ} فهي علميه تأخذ مفعولين: المفعول الأول- في رأي أبي حيان- محذوف، وتقديره: أرأيتم أنفسكم، والمفعول الثاني الجملة الاستفهامية:{مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيد} ، والرابط الذي ربط المفعول الثاني بالمفعول الأول هو اسم الموصول {مَنْ} الذي خلف الضمير، إذ المعنى مَنْ أضل منكم.

أما جواب الشرط إِنْ {كَانَ} فمحذوف يدل عليه {أَرَأَيْتُمْ} ومعمولها، والتقدير: إن كان من عند الله ثم كفرتم به فأخبروني من أضل منكم.

ويفيد استفهام {أَرَأَيْتُمْ} هنا توبيخ المشركين وتقريعهم على كفرهم بالقرآن أن يكون من عند الله دونما تبصر وتدبر، دونما دليل عقلي أو نقلي.

ويفيد أيضا تنبيه المشركين على أن إنكارهم أن يكون القرآن من عند الله لم يكن مبنيا على دليل عقلي أو نقلي أو ناشئا عن بعد نظر وطول تدبر وإنما كان ضلالا وعنادا.

الآية الثالثة عشرة: قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} الآية (4) من سورة الأحقاف.

في هذه الآية الكريمة يأمر الله سبحانه وتعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين ما يتضمن:

ص: 332

أخبروني- أيها المشركون- عن هذه الأوثان التي تعبدونها من دون الله، أخبروني أيّ شيء خلقوا من الأرض فيكون لكم بذلك حجة في عبادتكم إياها، أم كان لهذه الأصنام مشاركة في خلق السموات فيكون لكم بذلك حجة في تلك العبادة؟!!

ائتوني أيها المشركون بكتاب من عند الله جاء قبل هذا القرآن يشهد بصحة ما أنتم عليه من عبادة غير الله، أو ائتوني ببقية من علم الأولين تثبت ذلك.

إن كنتم أيها المشركون صادقين فيما تدعون فهاتوا برهانكم فإن الدعوى بدون دليل لا تغني من الحق شيئا.

و {أَرَأَيْتُمْ} هنا بمعنى أخبروني، والمستخبر عنه {مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، ومتعلق الاستخبار ومناطه الجملة الاستفهامية:{مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْض} . والمعنى: أخبروني أيها المشركون محن هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله، أي شيء خلقت من الأرض فاستحقت به أن تعبد.

أما أعراب {أَرَأَيْتُمْ} فهي علمية تأخذ مفعولين: الأول اسم الموصول {مَا} في {مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، والثاني الجملة الاستفهامية:{مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْض} ، و {أَرُونِي} جملة معترضة بين المفعولين مؤكدة لأرأيتم، لأنهما على معنى واحد: فأرأيتم بمعنى أخبروني، وأروني بمعنى أخبروني.

ويجوز في {أَرُونِي} أن لا تكون معترضة، وحينئذ تكون المسألة من باب التنازع: فأرأيتم وأروني تنازعا الجملة الاستفهامية: {مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْض} فأرأيتم تطلبها على أنها مفعولها الثاني، أروني تطلبها كذلك على أنها المفعول الثاني لها، فأعمل الثاني، وحذف في الأول. وأما إعراب {مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْض} فقد مرّ في إعراب الآية العاشرة. وقد جاء استفهام {أَرَأَيْتُمْ} هنا مفيدا التقريع والتوبيخ ومفيدا التنبيه:

ص: 333

تقريع المشركين وتوبيخهم على عبادتهم غير الله مع علمهم أن الأصنام وغير الأصنام مما يعبد من دون الله ليست على شيء تستحق به أن تعبد، فهي لم تخلق شيئا في الأرض ولا شيئا في السماء، ولم يُنزَّل بصحة عبادتها كتاب من عند الله، ولم يؤثر عن الأولين ما يثبت صحة تلك العبادة.

وقد نبّه هذا الاستفهام المشركين ولفت أنظارهم إلى أن هذه الأصنام التي يعبدونها لم تخلق شيئا في الأرض ولا شيئا في السموات، ولم تثبت صحة عبادتها في كتاب منزل ولا في علم أُثِر عن الأولين، فكيف تصح عبادتها، وبأي شيء تستحق هذه العبادة؟!

الذي يستحق العبادة هو الذي خلق الأرض السموات وحده، والذي أُنزلت الكتب من لدنه تثبت وحدانيته جلّ وعلا.

الآية الرابعة عشرة: قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} الآية (10) من سورة الأحقاف.

في هذه الآية الكريمة يأمر الله سبحانه وتعالى نبيّه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين الكافرين بالقرآن ما يتضمن:

أخبروني أيها الكافرون- إن كان هذا القرآن س عند الله وكذبتم به وشهد شاهد عظيم الشأن من بنى إسرائيل على التوراة التي هي مثل القرآن في أنها من عند الله، فآمن هذا الشاهد بالقرآن أنه من عند الله، واستكبرتم أنتم عن الإيمان به، أخبروني من أظلم منكم؟! إن الله لا يهدى القوم الظالمين الذين يظلمون أنفسهم فيكذبون بالقرآن وبمن أنزل عليه هذا القرآن.

و {أَرَأَيْتُمْ} هنا بمعنى أخبروني، والمستخبر عنه محذوف، ومتعلق الاستخبار ومناطه جملة استفهامية محذوفة أيضا، والتقدير: أخبروني عن حالكم- إن كان هذا القرآن من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بنى إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم- ألستم ظالمين.

ص: 334

أما إعراب {أَرَأَيْتُمْ} فهي علمية تنصب مفعولين، وقد حذفا لدلالة المعنى عليهما، وتقديرهما: أرأيتم حالكم

ألستم ظالمين، فحالكم هو المفعول الأول، والجملة الاستفهامية:(ألستم ظالمين) هي المفعول الثاني. وجواب الشرط {إِنْ كَانَ} محذوف، يدلّ عليه قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} . وقدّره أبو حيان: فقد ظلمتم.

وفي جواب الشرط هذا آراء أخرى ذكرها أبو حيان في تفسيره البحر المحيط، وذكرها صاحب الفتوحات الإلهية في حاشيته على تفسير الجلالين (1) ، ولكن هذه الرسالة لا تتسع لذكرها، ولا طائل تحتَها.

وجيء في الشرط {إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} بحرف (إِنْ) الذي من شأنه أن يكون في الشرط غير المجزوم بوقوعه مراعاة لحال المخاطبين على نحو ما سبق بيانه (في الآية الخامسة من آيات هذه الرسالة) في قول الأنبياء: نوح وصالح وشعيب لأقوامهم: {إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} مع أنهم كانوا على يقين من تلك البينة.

واستفهام {أَرَأَيْتُمْ} هنا يفيد توبيخ المشركين على كفرهم بالقرآن أن يكون من عند الله مع أنه قد شهد شاهد عظيم الشأن من علماء بني إسرائيل على كتاب آخر مماثل للقرآن وهو التوراة بأنه من عند الله.

وكانت شهادة علماء بنى إسرائيل حجة لأن هؤلاء المشركين كانوا يثقون فيهم ويصدقونهم.

ويفيد أيضا التنبيه تنبيه المشركين على أن كفرهم بالقرآن لا يقوم على حجة، وفيه مخالفة لشهادة شاهد من بنى إسرائيل الذين كانوا يظنون فيهم الصدق.

(1) الفتوحات الإلهية: جـ4 ص57.

ص: 335

الآية الخامسة عشرة: في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَاّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِيَ إِلَاّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} الآيات: (19-23) من سورة النجم.

جاء في تفسير ابن كثير لهذه الآيات الكريمة ما ملخصه:

كان للمشركين العرب أصنام وطواغيت كثيرة يعظمونها ويتخذون لها البيوت والحجاب والسدنة، ويطوفون بها، ويجعلونها أندادا وشركاء لله تعالى، ويعبدونها من دونه عز وجل، وقد أفرد القرآن الكريم هذه الأصنام الثلاثة: اللات والعزى ومناة، أفردها بالذكر لأنها كانت أشهر من غيرها، وقد أنث المشركون هذه الأصنام وسموها بأسماء الإناث وجعلوها بنات الله سبحانه وتعالى، وقد قرّع الله تعالى هؤلاء المشركين ووبّخهم بما يتضمن: أتجعلون لله أولادا وتجعلون هؤلاء الأولاد إناثا، والإناث في زعمكم نوع مذموم، وتختارون لأنفسكم النوع الذي تستحسنونه وتفضلونه وهو الَذكور، فلو كانت هذه القسمة بينكم وبن مخلوق مثلكم لكانت قسمة جائرة فيها جهالة وسفاهة، فكيف وقد جعلتموها بينكم وبين ربكم!!

ثم قال تعالى منكرا عليهم ما ابتدعوه من الكذب والافتراء والكفر في عبادة الأصنام وتسميتها آلهة، وقد تضمن قوله تعالى: ما هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم من تلقاء أنفسكم، ما أنزل الله بها من حجة، وإنما تعتمدون في ذلك على حسن ظنكم بآبائكم الذين سلكوا هذا المسلك الباطل من قبلكم، وعلى حب أنفسكم للرئاسة وتعظيم آبائكم الأقدمين، ولقد أرسل الله إليكم الرسل بالحق المنير والحجة القاطعة، ولكنكم لم تتبعوها ولم تهتدوا بهديها. اهـ.

ص: 336

و {أَرَأَيْتُمْ} هنا بمعنى أخبروني، والمستخبر عنه واللات والعزى ومناة، ومتعلق الاستخبار، ومناطه هو الجملة الاستفهامية:{أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى} ، والمعنى:

أخبروني- أيها المشركون- عن هذه الأصنام الثلاثة، كيف جعلتموهن بنات الله، والبنات في زعمكم معرّة وذم، ثم خصصتم أنفسكم بالنوع الأفضل فيما تزعمون وهم الذكور، والله سبحانه وتعالى منزّه عن الولد ذكراً كان أم أنثى؟!!

إن هذه القسمة لو كانت بينكم وبين مخلوقين أمثالكم لكانت قسمة جائرة فيها ظلم وسفاهة، فكيف وقد جعلتموها بينكم وبن ربكم ذي الجلال والإِكرام؟!

أما إعراب {أَرَأَيْتُمْ} فهي علمية تأخذ مفعولين: الأول: اللات وما عطف عليها، الثاني: الجملة الاستفهامية: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى} - وهذا رأي أبي حيان في تفسيره البحر المحيط، والرابط الذي يربط المفعول الثاني بالأول قوله:{الأُنْثَى} لأن المعنى: ألكم الذكر وله هنَّ أي تلك الأصنام، فأغنى هذا الاسم الظاهر عن الضمير، وإنما أوثر هذا الاسم الظاهر لوقوعه رأس فاصلة روعي فيها الفواصل الأخرى.

وهناك آراء أخرى كثيرة في تقدير المفعول الثاني المحذوف ذكرها الألوسي في تفسير روح المعاني، ولكن هذه الرسالة لا تتسع لذكرها.

واستفهام {أَرَأَيْتُمْ} هنا جاء مفيدا الإنكار والتوبيخ:

فالله سبحانه وتعالى ينكر على المشركين ويوبخهم أن يجعلوا اللات والعزى ومناة بنات الله، مع أن البنات في زعمهم مذمومات يستنكفون منهن، فكيف يخصون الله خالقهم بهن، ويخصون أنفسهم بمن هم أفضل في زعمهم وهم الذكور، مع أن الله سبحانه وتعالى منزه عن الولد سواء أكان ذكرا أم أنثى.

ص: 337

الآية السادسة عشرة: في قوله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} الآيات: (57-62) من سورة الواقعة.

تتضمن هذه الآيات الكريمة الردّ على أهل الزيغ والإلحاد الذين كانوا يكذبون بالبعث، {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَا الأََوَّلُونَ} .

والردّ الذي تضمنته هذه الآيات: أن الله سبحانه وتعالى قد خلقكم أيها الكافرون ابتداء بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا، والذي يقدر على البدء يقدر على الإعادة، فهلا تصدقون بالإعادة وتقرون بها كما أقررتم بالنشأة الأولى.

أخبروني عن المنيّ الذي تريقونه في الأرحام أأنتم تخلقونه وتنشئون أم الله؟ ولا مفر من أن تقروا بأن الله هو خالق هذا المني، فكيف تنكرون قدرته على البعث؟!

والله هو الذي يصرّف الموت بينكم كيف يشاء، فيجعل لموت كل إنسان موعدا لا يتقدم عليه ولا يتأخر، ولا يستطيع أحد أن يغلب الله تعالى على هذا التصريف فيطيل عمر من يقصر الله عمره، أو يقصر عمر من يطيل الله عمره، أو يهرب من الموت فيكون من الخالدين.

والله تعالى قادر على أن يميتكم وينشئ بدلا منكم آخرين أمثالكم، وقادر على أن يغير كم خَلْقاً وخُلُقاً وينشئكم في صفات لا تعلمونها ولا تخطر لكم على بال.

ولقد علمتم النشأة الأولى وهى خلق آدم من طين، فهلا تتذكرون وتعتبرون فتعلموا أن الذي أنشأكم النشأة الأولى قادر على أن يعيدكم أحياء من بعد الممات والفناء.

ص: 338

هذا، و {أَرَأَيْتُمْ} هنا بمعنى أخبروني، والمستخبر عنه {مَا تُمْنُونَ} ، ومتعلق الاستخبار ومناطه الجملة الاستفهامية:{أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} ، والمعنى: أخبروني عن المنيّ الذي تمنونه في الأرحام، أأنتم تخلقونه أم الله.

أما إعراب {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} : فأرأيتم علمية تأخذ مفعولين: الأول اسم الموصول (ما) وجملة تمنون صلته، والعائد محذوف تقديره ما تمنونه، والمفعول الثاني الجملة الاستفهامية:{أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} ، و {َأَنْتُمْ} مبتدأ وجملة تخلقونه خبره، و (أم) عاطفة متصلة، وقد اعترض على كونها متصلة بأن المتصلة هي التي تعطف المفردات، وهنا جاء بعدها جملة من مبتدأ وخبر، وأجيب عن هذا بأن {الْخَالِقُونَ} جاء توكيدا للفعل السابق وهو (تخلقون) ، وجاء أيضا لمراعاة الفواصل، فلو قيل أأنتم تخلقونه أم نحن لا كتفي به وتمّ المعنى المراد، وعلى هذا فالجملة بعد أم في تأويل المفرد.

وجَوّز بعض العلماء أن تكون (أم) منقطعة بمعنى بل، والكلام معها يفيد التقرير، والمعنى: بل نحن الخالقون. وفي رأيي أن هذا لا يخلو من بعد وتكلف، وهو خلاف المعنى المتبادر.

واستفهام {أَرَأَيْتُمْ} هنا يفيد التقرير والتوبيخ: التقرير بمعنى طلب الاعتراف بالإجابة عن السؤال الذي تضمنته {أَرَأَيْتُمْ} مع معمولها وهو: أخبروني مَنْ خالق المني الذَي تمنونه في الأرحام: أأنتم أم الله؟

ولما كانت إجابتهم عن هذا السؤال معلومة لا يشك فيها، وهي أن الله هو الخالق- استغنى عن ذكرها.

ويفيد توبيخ هؤلاء المشركين على إنكارهم البعث، وتكذيبهم بقدرة الله تعالى عليه، مع أنهم يعترفون بأنه تعالى هو الذي خلقهم وأنشأهم أول مرة، وكان مقتضى اعترافهم هذا أن يؤمنوا بالبعث، لأن القادر على الخلق ابتداء قادر على الإعادة.

ص: 339

الآية السابعة عشرة: في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ َوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} الآيات: (63-67) من سورة الواقعة.

يردّ الله سبحانه وتعالى على المشركين الذين ينكرون البعث فيقول لهم ما يتضمن:

أخبروني عن البذر اليابس الميت الذي تبذرونه في الأرض التي تحرثون، أأنتم تنبتونه وتجعلونه زرعا حيًّا ناميا يزهو ويرفّ، أم نحن؟ فإذا أقررتم بأن الله هو الذي يفعل ذلك- ولا محيص لكم عن هذا الإقرار- فكيف تنكرون قدرته على إخراج الأموات من الأرض وإعادتهم أحياء؟!!

لو يشاء الله لجعل هذا الزرع الأخضر اليانع حطاما لا خطير فيه، فتصيبكم الحسرة والندم مما نزل به، وتظلون على ذلك تقولون إنّا لمهلكون، قد ذهب الذي بذرناه في الأرض سدي من غير عوض، وحُرمنا ما كنّا نرجوه من رزق وغلال وطعام.

و {أَرَأَيْتُمْ} هنا بمعنى أخبروني والمستخبر عنه البذر الذي يبذرونه في الأرض التي يحرثون، ومتعلق الاستخبار ومناطه الجملة الاستفهامية:{أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} .

والمعنى: أخبروني أيها المشركون عن البذر الذي تبذرونه في الأرض التي تحرثون، أأنتم تنبتونه وتجعلونه زرعا أخضر ينمو ويرفّ وُيعجب أم الله؟

وقد جاء استفهام {أَرَأَيْتُمْ} مفيدا التقرير والتوبيخ:

التقرير بمعنى طلب الاعتراف بالإجابة عن السؤال الذي تضمنته أرأيتم مع معمولها، وهو أخبروني عن البذر اليابس اَلميت الذي تلقونه في الأرض التي تحرثونها، من يُنبته لكم فيجعله زرعا حيًّا ناميا زاهيا؟ أأنتم أم الله؟

ولما كانت الإجابة عن هذا السؤال معلومة لا يشك فيها، وهي اعترافهم بأن الله جلّت قدرته هو الذي يفعل ذلك- استغنى عن ذكر هذه الإجابة.

ص: 340

ويفيد التوبيخ توبيخ هؤلاء المشوكين على إنكارهم البعث وتكذيبهم بقدرة الله عز وجل على إحيائهم بعد الموت، مع أنهم يشاهدون الدلائل والبراهين تملأ عليهم أبصارهم، ومنها هذا البذر الذي يلقونه في الأرض ميتا يابسا فيجعله الله تعالى زرعا حيًّا ناميا زاهيا.

وإعراب {أَرَأَيْتُمْ} ومعمولها هنا قد مضى مثله في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} من سورة الواقعة.

الآية الثامنة عشرة: في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} الآيات: (68- 75) من سورة الواقعة.

يخاطب لله جلّ وعلا في هذه الآيات الكريمة المشركين الذين كانوا ينكرون البعث، يخاطبهم بما يتضمن: أخبروني عن هذا الماء الذي تشربون، أأنتم خلقتموه عذبا صالحا للشرب وأنزلتموه من السحاب أم نحن الخالقون المنزلون؟

إنّا نحن الخالقون المنزلون، وهذا ما لا سبيل إلى إنكاره، ولو شئنا لأمسكناه عنكم، أو جعلناه مِلْحا زُعاقا لا تنتفعون منه في شرب ولا زرع ولا في شيء غير ذلك.

فهلاّ تشكرون الله الذي أنشأ لكم هذا الماء وأنزله عليكم عذبا فُراتا سائغا تشربون منه وتحيون ويحيا به كل شيء حي.

فهلاّ تشكرون الله وتنبذون هذا الكفر الذي أنتم فيه وهذا الشرك الذي أنتم عليه، وهلا تعترفون بقدرة الله تعالى على أن يخلقكم مرة ثانية كما تعترفون بأنه الذي يخلق الماء في السحاب وينزله عليكم فيكون سببا في حياتكم وحياة ما حولكم من زرع وحيوان ونبات!!

ص: 341

و {أَرَأَيْتُمْ} هنا بمعنى أخبروني، والمستخبر عنه الماء الذي يشربونه، ومتعلق الاستخبار ومناطه الجملة الاستفهامية:{أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} ، والمعنى: أخبروني أيها المشركون الذين تنكرون البعث وقدرة الله على هذا البعث، أخبروني عن هذا الماء الذي تشربونه عذبا فُراتا فيكون به حياتكم، أأنتم أنشأتموه في السحاب وأنزلتموه منه أم نحن المنشئون المنزلون؟!!

وقد جاء استفهام {أَرَأَيْتُمْ} هنا مفيدا التقرير والتوبيخ:

التقرير على معنى طلب الاعتراف بالإجابة عن السؤال الذي تضمنته {أَرَأَيْتُمْ} ومعمولها وهو: أخبروني عن الماء الذي تشربونه، أأنتم خلقتموه عذبا صالحا للشرب وأنزلتموه من السحاب أم نحن المنزلون؟

ولما كانت الإجابة عن هذا السؤال معروفة لا يشك فيها وهي اعترافهم بأن الله تعالى هو الذي يفعل ذلكَ- استغنى عن ذكر هذه الإجابة.

ويفيد توبيخ هؤلاء المشركين على إنكارهم قدرة الله تعالى على بعثهم بعد الممات، على حين يعترفون بقدرته تعالى على خلق الماء في السحاب وإنزاله عليهم فيكون سببا في حياتهم.

وقد سبق إعراب مثل هذا الاستفهام في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} .

الآية التاسعة عشرة: في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} الآيات: (71-74) من سورة الواقعة.

في هذه الآيات الكريمة يردّ الله سبحانه وتعالى على المشركين الذين ينكرون البعث ويكذبون بقدرة الله تعالى عليه، يردّ عليهم بما يتضمن:

أخبروني أيها المشركون عن هذه النار التي تخرج من الشجر الأخضر بحكّ بعضه ببعض، أأنتم أنشأتم شجرتها وخلقتم النار التي فيها أم نحن المنشئون الخالقون؟

ص: 342

نحن جعلنا تلك النار تذكرة وتبصرة لمن يذّكّر ويعتبر ويفكر فيدرك أن القادر على أن يجعل النار تخرج من الشجر الأخضر المضادّ لها قادر على أن يجعل الأموات أحياء يوم القيامة.

ونحن جعلناها أيضا نافعة ومتاعا لأولئك الذين هم في أشد الحاجة إليها، أولئك الذين يعيشون في القفار بعيدين عن حياة الحضر والاستقرار.

وبعد أن ذكر الله جل جلاله الأمور الأربعة السابقة وهي: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} ، {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} ، {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} ، {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} . هذه الأمور المتضمنة أمر خلقهم والنعم التي بها قوام حياتهم، هذه الأمور الدالة على قدرته تعالى على الإبداع والإنشاء والخلق، وعلى قدرته تعالى على بعث الأموات أحياء يوم القيامة، بعد ذلكَ أمر رسوله صلى الله عليه وسلم (وكل من كان له أسوة حسنة برسوله مأمور كذلك) أمره بالاستمرار والمداومة على تنزيه الله تعالى عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله، وعما يزعمه الكافرون من الأنداد والشركاء والعجز عن البعث، فقال تعالى:{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} .

و {أَرَأَيْتُمْ} هنا بمعنى أخبروني، والمستخبر عنه النار التي يورونها، ومتعلق الاستخبار ومناطه الجملة الاستفهامية:{أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} .

وقد أفاد استفهام {أَرَأَيْتُمْ} التقرير والتوبيخ:

التقرير بمعنى طلب الاعتراف بالإجابة عن السؤال الذي تضمنته {أَرَأَيْتُمْ} مع معمولها وهو: أخبروني عن النار التي تَخرج من الشجر الأخضر، أأنتم أنشأتم شجرتها وخلقتم النار فيها أم نحن الخالقون المنشئون؟

ولما كانت إجابتهم عن هذا السؤال معلومة لا يشك فيها، وهي الاعتراف بأن الخالق المنشئ هو الله- استغنى عن ذكرها.

ص: 343

ويفيد التوبيخ أيضا: توبيخ المشركين على إنكارهم البعث وتكذيبهم بقدرة الله تعالى على إحيائهم بعد مماتهم مع اعترافهم بقدرة الله تعالى على إخراج النار من الشجر الأخضر الرطب المضادّ لها، وهو من الدلائل العظيمة على انفراده تعالى بالخلق والإنشاء.

أما إعراب {أَرَأَيْتُمْ} هنا فقد مضى إعراب مثله في قوله تعالى المتقدم: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} .

الآية العشرون: قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} الآية: (28) من سورة الملك.

يُروى أن كفار مكة كانوا يدعون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى من آمن به، يدعون عليهم بالهلاك، فأمر الله سبحانه وتعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم ما يتضمن:

أخبروني- أيها الكافرون- إن أهلكني الله تعالى ومن آمن بي فأماتنا أو رحمنا فأخّر آجالنا فمن ذا الذي يستطيع أن يجيركم من عذاب الله الأليم، ومن ذا الذي يستطيع أن يمنعكم من عقابه جزاء كفركم.

و {أَرَأَيْتُمْ} هنا بمعنى أخبروني، والمستخبر عنه محذوف، ومتعلق الاستخبار ومناطه الجملة الاستفهامية:{فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} والتقدير: أخبروني أيها الكافرون عن أنفسكم من يحميكم من عذاب الله الأليم إن أماتني الله ومن معي أو رحمنا فأخر آجالنا.

أما إعراب {أَرَأَيْتُمْ} فهي علمية تأخذ مفعولين، وهما هنا محذوفان دلّ عليهما الشرط وجوابه، وتقديرها: أرأيتم أنفسكم أينجيكم أحد من العذاب إن أهلكنا الله أو أبقانا. أما الجملة الاستفهامية: {فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} فقد أعربها أبو حيان في تفسيره البحر المحيط واقعة في جواب الشرط: {إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ} ، وقد اعترض في حاشية الفتوحات- على هذا الرأي بأن تسبب الجواب على الشرط فيه بُعد.

ص: 344

والذي يبدو لي- والله أعلم- أن جملة {فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} هي المفعول الثاني لأرأيتم، وأن الرابط الذي يربطها بالمفعول الأول هو الضمير الذي أقيم الاسم الظاهر وهو {الْكَافِرِينَ} مقامه، والتقدير: أرأيتم أنفسكم من يجيركم من عذاب الله الأليم، وتكون الفاء على هذا زائدة للتوكيد، ويكون جواب الشرط محذوفا، دلّ عليه وأغنى عن ذكره أرأيتم ومعمولها، والتقدير: إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فأخبروني أي فائدة لكم في ذلك وهل ينجيكم هذا من العذاب.

وقد أفاد استفهام {أَرَأَيْتُمْ} هنا التنبيه، والإنكار والتوبيخ:

تنبيه المشركين على أن إماتة الرسول صلى الله عليه وسلم قيم ومن آمن به لا تفيدهم شيئا ولا تحميهم من عذاب كفرهم، وأن عليهم بدل هذا الدعاء أن يوحدوا الله وأن يؤمنوا برسوله.

ويفيد الإنكار على المشركين وتوبيخهم أن يدعوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن آمن به- بالهلاك، وأن يتربصوا به ريب المنون، مع أن هذا الهلاك لا ينفعهم شيئا، ولا يحميهم من عذاب الله تعالى جزاء كفرهم، ولا يضرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم.

الآية الحادية والعشرون: قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} الآية: (30) من سورة الملك.

في هذه الآية الكريمة يأمر الله سبحانه وتعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين ما يتضمن:

أخبروني أيها المشركون عن مائكم إن أصبح متواريا في جوف الأرض، لا تستطيعون أن تنالوا منه شيئا، أخبروني من يأتيكم بماء ظاهر تراه العيون، تشربون منه وتحيون.

ص: 345

و {أَرَأَيْتُمْ} هنا بمعنى أخبروني، والمستخبر عنه محذوف، ومتعلق الاستخبار ومناطه الجملة الاستفهامية:{فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} . والتقدير: أخبروني عن مائكم- إن أصبح غائرا في جوف الأرض- من غير الله يستطيع أن يأتيكم بماء ظاهر تراه العيون ومنه تشربون.

أما إعراب {أَرَأَيْتُمْ} فهي علمية تنصب مفعولين: الأول ضمير محذوف يعود على َ {مَاؤُكُمْ} وتكون المسألة من باب التنازع: تنازع {أَرَأَيْتُمْ} و {أَصْبَحَ} في َ {مَاؤُكُمْ} فأرأيتم تطلبه على أنه مفعول به، وأصبح تطلبه على أنه اسم لها، فأعمل الثاني وأضمر في الأول وحذف. وأما المفعول الثاني لـ {أرأيتم} فجملة استفهامية محذوفة دلّ عليها جملة جواب الشرط:{فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} . وتقدير المفعولين: أرأيتم ماءكم (إن أصبح غائرا) أيستطيع أحد غير الله أن يأتيكم ببدل منه.

وقد جاء استفهام {أَرَأَيْتُمْ} هنا مفيدا التنبيه والتوبيخ:

تنبيه المشركين على أن الله تعالى هو وحده الذي يأتيهم بالماء الذي منه يشربون ويحيون، وأن الأصنام لا تستطيع ذلك، فكان عليهم أن يؤمنوا بالله تعالى وأن يفردوه بالعبادة.

وتوبيخ هؤلاء المشركين على تركهم عبادة الله الذي يأتيهم بالماء الذي منه يشربون ويحيون، وتوبيخهم على عبادتهم أصناما لا تستطيع أن تأتيهم بالماء إن أصبح ماؤهم غورا.

أختي العزيزة:

أرى رسالتي إليك قد طالت، وما كان لي يد في أن تطول، لقد آن لها أن تنتهي، وسوف أحدثك- إن شاء الله تعالى- عن بقية أساليب (أرأيت) في الرسالة التالية، وعن خصائص ومزايا جاءت في هذه الأساليب.

اللهم سدّد خطاي، ووفقني إلى الصواب، فعليك أتوكل، وبك أستعين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أختك

همزة الاستفهام

ص: 346

الزَّلَاّقَة

مَعركَةٌ مِنْ مَعَارِكِ الإِسْلَامِ الحَاسِمَةِ فِي الأندَلُس

للدكتور جميل عبد الله محمد المصري

أستاذ مشارك بالجامعة الإسلامية

الحمد لله الذي جعل أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس، أمة جهاد في سبيله، وأمة رحمة وهداية للعالمين، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي، النموذج العملي لرسالة الإسلام وعقيدته، جعله الله سبحانه وتعالى شهيدًا على أمته، وجعل أمته شهداء على النَّاس، ورضي الله عن صحابته الطاهرين، ومن قام بهديه إلى يوم الدين وبعد:

فإن المعارك العالمية التي سجلها التاريخ كثيرة، تلك التي تمخضت عنها تغييرات شاملة، ذات نتائج خطيرة، وتبقى معارك الإسلام من أشهرها وأهمها، ذلك لأن المعركة في الإسلام ليست غاية في ذاتها، فهي محصلة لأمور كثيرة، إذا وصلت إلى حدّ معينّ لابد من معركة حربية، ومفهوم الجهاد واضح المعنى وواضح الهدف، هو قتال في سبيل الله، يهدف إلى تبليغ الدعوة، ومدّها، أو تثبيتها والدفاع عنها، فإذا وصلت الأمور حاجزاً لا مجال لاختراقه بوسيلة أخرى كانت المعركة، ولابد مِن الصبرِ عليها، ومن هنا فإن معارك الإسلام تخدم الدعوة في الدرجة الأولى امتدادا أو دفاعًا أو تثبيتًا.

ومنذ معركة بدر الفاصلة –الفرقان- التي قادها سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، والمسلمون يحاولون الوصول في معاركهم إلى مستواها في أهدافهِا ومعانيها، وتنظيمها، ونتائجها. فكانت معركة خيبر في عهده صلى الله عليه وسلم، التي وضعت حداً نهائياَ لتسلط اليهود في بلاد العرب، ثم كانت اليرموك التي قررت مصير بلاد الشام ومصير الإمبراطورية الرومانية كله، والقادسية التي قررت مصير العراق وبلاد فارس وإمبراطورية الفرس.

ص: 347

وهكذا تتابعت معارك الإسلام وتتالت، إلى أن كانت في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري معركتان: ملاذكرد (منزكرت) في آسيا الصغرى التي قررت مصير آسيا الصغرى عام 463 هـ، والزلاقة على أرض الأندلس الشهيدة التي أوقفت الزحف الصليبي النامي إلى حين، عام 479 هـ.

فقد ساءت حالة العالم الإسلامي في بداية القرن الخامس الهجري شرقاً وغرْباً، فعم الرفض، وفشا التفرق في المغرَب بسقوط الخلافة الأموية وتمزق الدولة العامرية، ولكن الله سبحانه وتعالى هيأ للمسلمين: السلاجقة في المشرق، حيث بلغت دولتهم ذروة القوة في منتصف القرن الخامس الهجري. والمرابطين في المغرب، وبلغت ذروتها في الوقت ذاته. وكلتا القوتين اتخذ الجهاد سبيلاً لإعزاز الإسلام والمسلمين ونصرة الدين. وكلتاهما مدّ الإسلام إلى آفاق واسعة. فقد مدّ السلاجقة الإسلام في آسيا الصغرى وأصبحت من ديار الإسلام، ومدّ المرابطون الإسلام إلى أفريقية الغربية وعبر الصحراء إلى السودان، وقاموا بواجبهم في نصرة إخوانهم في الأندلس، وحماية الإسلام.

حالة المغرب والأندلس في النصف الأول من القرن الخامس الهجري التي هيأت لمعركة الزلاقة:

أولاً: شمال أفريقيا ودولة المرابطين في المغرب:

ص: 348

انتثر ملك الخلافة بالمغرب (1) ، وانقسم إلى إمارات صغيرة متفرقة، فقد أقام المعزّ بن باديس سنة 440 هـ الدعوة للقائم بالله الخليفة العباسي وخلع طاعة المستنصر العبيدي، (وكان قبل ذلك يسب بني عبيد سرّاً) ، فبعث المستنصر القبائل العربية من بني هلال ورياح وزغبة لمحاربته، فكانت الحروب الهائلة بين ابن باديس والعرب الذين دخلوا القيروان (2) . وكثر المتغلّبون على الشمال الأفريقي بأجمعه، فاستولى بنو هلال على المناطق الممتدة في الداخل من قابس إلى المغرب، وظل بنو زيري يحتفظون بالمهدية وما يليها، واستقر أمر بني حماد في بجاية، واستقل حمو بن ومليل البرغواطي في صفاقس بعد أن حالف العرب، واستقل ابن خراسان بتونس سنة 458 هـ، واستقل موسى بن يحيى بفاس، وحاكم قفصة الزيري بعد أن استعان بالعرب مقابل جزية سنوية (3) .

كما تعرض الشمال الأفريقي لغارات النورمان يدفعهم الحقد الصليبي، فقد تملكوا صقلية من المسلمين بقيادة رجار سنة 464 هـ (4) ، ماعدا مدينتي قصريانه وجرجنت، اللتين حاصروها حصاراً شديداً، واستسلمت جرجنت سنة 481 هـ، وتبعتها قصريانه سنة 484 هـ (5) . وشجع البابا فكتور الثالث على تكوين طائفة من رجال البحر من بيزه وجنوة للإغارة على السواحل الإسلامية الأفريقية، فهاجموا مدينة المهدية وزويلة، وعادوا بعدد عظَيم من أسارى المسلمين رَجالاً ونساء (6) وبمبلغ عظيم من الذهب والفضة مقابل رحيلهم وذلك سنة 480 هـ

(1) نفح الطيب جـ 1 ص 413.

(2)

المؤنس في أخبار إفريقية وتونس ص84- 85/ ابن خلدون جـ6 ص 288.

(3)

المغرب الكبير- السيد عبد العزيز- ص 673.

(4)

ابن خلدون جـ4 ص450/ المؤنس ص 89.

(5)

الكامل في التاريخ جـ 8 ص 157.

(6)

ابن خلدون جـ 6 ص 328.

ص: 349

وفي هذه الظروف الحالكة انبعثت من قلب الصحراء الكبرى الأفريقية، قوة إسلامية، تدعو إلى التمسك بالِإسلام، مصدر قوة المسلمين، وتجدد جريان الحياة في تياره، باتخاذه دستوراَ يحكم حياة الإنسان في جميع نواحي الحياة.

فقد توجه يحي بن إبراهيم الجدالي- أمير جدالة- في جماعة إلى الحج (1) عام 440 هـ، وعرجوا في عودتهم على القيروان، واستمعوا إلى علمائها، وكانت في هذه الفترة قد نبذت المذهب الشيعي، وعادت إلى أهل السنة والجماعة، فاسترجعت مكانتها كقاعدة للمذهب المالكي في المغرب، فاتصلوا بأبي عمران موسى الفاسي شيخ المذهب المالكي (2) ، وطلبوا منه أن يرسل معهم عالماً يعلمهم الدين، فأرسل معهم الشيخ عبد الله بن يِاسين الجزولي (3) وكان من حذاق الطلبة ومن أهل العلم والصلاح، واعتبر عمل هذا جهاداً لنشر تعاليم الإسلام الصحيحة بين الذين حرموا من نعمة المعرفة والعلم. فقام بدوره، فأخذ يفقه الناس ويعلمهم الشريعة، وأقام رباطاًَ يرجح إن مكانه في السنغال أو النيجر، والتف حوله جماعة من لمتونة إحدى بطون صنهاجه كجدالة من البرانس البربر؛ بلغ عددهم حوالي الألف رجل، أطلق عليهم اسم (المرابطون) نسبة إلى رباط عبد الله بن ياسين، حيث تلقوا فيه تكوينهم الديني والجهادي، وحوّلهم من رعاة إبل إلى جماعة من المجاهدين، يحملون عبء تبليغ الدعوة الإسلامية، وتصحيح مفاهيم العقيدة. وسمّوا بالملثمين أو الملثمة لاتخاذهم لثاماً داكن اللون يغطي الجزء الأدنى من وجّهوهم (4)

(1) المؤنس جـ104، الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى جـ 2 ص 6.

(2)

ابن خلدون جـ6 ص373/ البيان المغرب جـ3 ص242 وأبو عمران أصله فاسي استوطن القيروان وحصلت له بها رئاسة العلم، أخذ عن كثير من علماء المشرق والمغرب، رحل إلى قرطبة والمشرق وحج ودخل العراق، أخذ عنه الكثير من أهل العلم. وتوفي عام 430 هـ (المؤنس- حاشية ص104) .

(3)

المؤنس ص 104- 105.

(4)

وقيل إن سبب اتخاذ لمتونة للثام: اتخاذهم في أعراسهم نوعاً خاصاً من الحجاب، أو لأنه حدث ذات مرة في بعض حروبهم إن نساءهم كن يقاتلن معهم محجبات حتى يحسبن بذلك في عداد الرجال (انظر السلاوي-الاستقصا جـ 1ص 98-99، عنان-دول الطوائف ص299) .

ص: 350

وكان على رأسهم المجاهد يحي بن عمر بن إبراهيم اللمتوني الذي توفي سنة 446 هـ أو447 هـ (1)، فخلفه أخوه: أبو بكر بن عمر اللمتوني، وكان كأخيه مثال الإخلاص والتضحية والقيادة الناجحة، فمدّ الإسلام في إفريقية وبلاد السودان، وأمضى حَياته في الجهاد، وتنازل لابن عمه يوسف بن تاشفين الذي أثبت مقدرة ومهارة أكسبته مكانة عالية بجانب شهرته العسكرية (2) ، واستمر أبو بكر في جهاده إلى أن استشهد في الصحراء عام 480 هـ (3) .

اتخذت الدولة المرابطية أغمات عاصمة وهي على بعد 35 كم جنوب شرقي مدينة مراكش، ثم اختط يوسف مدينة مراكش عام 454 هـ/1062 م أو بعدها بقليل، وأسس قصبة ومسجداً، وكان يشارك العمال بنفسه في بناء المسجد تواضعاً لله وتورعاً (4) .

تمكن المرابطون بقيادة يوسف من توحيد المغرب وإنقاذه من الفرقة وأزالوا المنكرات، ورفعوا المكوس الجائرة، وفرقوا الأخماس على المرابطين والفقهاء، وطبقوا أحكام الدين، وقضوا على الروافض، ورجع من بقي منهم إلى أهل السنة والجماعة، كما قضوا على مذهب صالح ابن طريف الإباحي، وكان يهودي الأصل نشر مذهبه بين قبيلة برغواطه (5) وأصبحت دولتهم تستعد للامتداد إلى الأندلس، وهمّ يوسف بذلك وأخذ في إنشاء المراكب والسفن ليعبر فيها (6)

ثانيًا: الأندلس بعد سقوط الدولة العامرية:

نعمت الأندلس الإسلامية بالأمن والرفاهية في ظلّ الدولة الأموية وفي عهد الدولة العامرية، ومدّت نفوذَها على جميع شبه الجزيرة الأندلسية والمغرب، وركدت حركات النصارى، وامتلأت قلوبهم رعباً، فقلّ عبثهم، وخطب ملوكهم ودّ الدولة الإسلامية في أكثر عهودها.

(1) الاستقصا جـ2 ص13.

(2)

انظر البيان المغرب جـ4 ص24.

(3)

المؤنس ص107.

(4)

البيان المغرب جـ4 ص123/ الاستقصا جـ2 ص24.

(5)

ابن خلدون جـ6 ص183-209/ انظر: عنان- دول الطوائف ص305-306.

(6)

نفح الطيب جـ4 ص354.

ص: 351

ولما انقطعت تلك الدولة قام الطوائف بعد الخلائف، وانتزى الأمراء والرؤساء من البربر والعرب والموالي بالجهات، واقتسموا خططها، وتغلّب بعض على بعض (1) ، وكثرت الفتن وانبسط عدو الدين في الجزيرة وبلغ منهم كلّ مبلغ ما بين قتل وأسر، وهم (أي ملوك الطوائف) في تحاسد واختلاف الكلمة وانتحال الأوصاف، واقتسام ألقاب الخلافة، فتلقّبوا بالناصر، والمنصور، والمعتمد، والمظفر، والمتوكل، والقادر، والمؤتمن، وغير ذلك، فمال شاعر الأندلس أبو بكر محمد بن عمار أو غيره (2) :

مما يزهدني في أرض أندلس

أسماء معتمد فيها ومعتضد

ألقاب مملكة في غير موضعها

كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد

(1) نفسه جـ1 ص413.

(2)

انظر سير أعلام النبلاءجـ18 ص582-583/ نفح الطيب جـ1 ص214، جـ4 ص255/ ابن خلكان- وفيات الأعيان جـ4 ص428/ المؤنس ص101.

ص: 352

واستعان بعضهم على بعض بأعدائهم من نصارى الشمال، فوجد النصارى الفرصة للقضاء علىِ المسلمين جميعاً في شبه الجزيرة، فأخذوا يضربونهم، بعضهم ببعض، ويدفعون كلا منهم للصراع، ويغرونهم بشتّى الإعانات، والخداع، والمكر، والكيد، حتى يتمكّنوا من أخذ البلاد والاستيلاء على الطّارف والتّلاد (1) كما نشروا الجواسيس لإيجاد الصدع في صفوف المسلمين (2) ، وتنازع الإخوة من ملوك الطوائف على الملك (3) ، واستعان كلّ منهم بالعدوّ الصّليبي على أخيه، ولبَّى النّصارى الاستغاثات لأنهم وجدوها فرصة لتصفية الحساب مع المسلمين، فكانوا يقدمون الضّمانات الزّائفة، والوعود الكاذبة للجانب الذي ظهر رجحان كفته، حتى إذا أوشك على النّصر قلبوا له ظهر المجنّ وعملوا على ترجيح كفّة منافسه (4) كما أخذت الكنيسة في روما تتحرّك بقوّة بما لاحظته من ضعف المسلمين، فعملت على تكتّل نصارى أسبانيا، وعلى تكتّل النّصارى في أوربا لتوحيد العمل ضد الإسلام والمسلمين. والحقّ أن الأفرنج ما طمعت في الأندلس إلاّ عندما تفرقت البلاد، وصار كلّ بلد بيد ملك، فحينئذ طمع الفرنج فيهم، وأخذوا كثيراً من ثغورهم (5) ، وأنهكوا قوى المسلمين واستنزفوها. فاتخذت الحرب في الأندلس وجهة الحرب الصليبية قبل أن تعلن بصفة رسمية في الشرق. إذ قرّر البابا الأسكندر الثاني عام 456هـ/1063م منح مغفرة خاصة لكل من يشدّ الرّحال لقتال المسلمين في أسبانيا، فهب عدد كبير من فرسان فرنسا

(1) نفح الطيب جـ507 ص507 عن جنة الرضى لابن عاصم.

(2)

وقصة المنصور مع الشيخ الهرم، واكتشاف جاسوسيته مثال على هؤلاء الجواسيس/ نفح الطيب جـ1 ص378.

(3)

كما حصل في أمراء بنى هود بين الأخوين المقتدر بن هود والمظفر بن هود. وكما حصل لأبناء المقتدر: المؤتمن، والمنذر (الحجي- التاريخ الأندلسي ص356) .

(4)

كما حدث مع أبي بكر بن عبد العزيز الذي ثار على القادر واحتمى بالفونسو السادس.

(5)

الكامل في التاريخ جـ8 ص138

ص: 353

وأوربا لمساعدة إخوانهم في ما وراء الجبال (1) فقويت الممالك النصرانية في شمال الأندلس، وتوالت غاراتها على المسلمين، وطمع فردلند (فرناندو الأول) ملك قشتالة وليون فاستولى على بعض المناطق القاصية من الشمّال الغربي سنة 449هـ/1057م وحاصر مدينة باز وجنوب دويرة، واقتحمها بعد دفاع مجيد من المسلمين وعاث فيها قتلاً وأسراً، كما هاجم واحتل مناطق من مملكة بطليوس الخاضعة لبني الأفطس، وعاث عام 454 هـ في الأنحاء الشمالية لمنطقة طليطلة وحكامها بنو ذي النّون، وفي بعض مناطق اشبيلية حيث بنو عباد، وسقطت بيده مدينة قلمرية (قلنبيره) عام 456/1064م (2) . وهاجم النورمان مدينة بربشتر وتقع على بعد 60 كم شمال شرق سرقسطة وإحدى القواعد الأندلسية المنيعة، وتغلّبوا عليها بعد حصار أربعين يوماً سنة 456 هـ وارتكب النصارى فيها جرائم مذهلة مثيرة بقيادة جيوم دي مونري من أكابر فرسان عصره. وكان في خدمة الجيوش الرومانية والبابوية (3) ، فقد استباحوا المدينة بعد أن أمّنوا سكانها بكلّ ما فيها ومن فيها، وقدّر عدد القتلى والأسرى بين أربعين ألف ومائة ألف، ثم أعطى قائد الحملة الأمان لكنه- حين رأى كثرة أهل المدينة- أمر جنده أن تقلّل أعدادهم حصاداً بالسّيف، فأطيح أرضاً بستة آلاف من الرؤوس، ثم انتهبوا المدينة، واحتلّوا دورها لأنفسهم وارتكبوا أبشع الجرائم قتلاً وهتكاً للأعراض. وكان (الخطب أعظم من أن يوصف أو يُستقصى) كما يقول ابن حيّان (4) فأثر الخطب في المسلمين وتداعوا إلى الجهاد، فتمكّنوا من استرجاعها عام 457 هـ ومُزّق المعتدون بعد أن دام احتلالها تسعة شهور (5) .

(1) اندري جوليان- تاريخ إفريقيا الشمالية- تعريب محمد مزالي، والبشير بن سلامة جـ2 ص111.

(2)

الحجي - التاريخ الأندلسي ص328.

(3)

عنان- دول الطوائف ص274.

(4)

الحجي - التاريخ الأندلسي ص361

(5)

الروض المعطار ص41.

ص: 354

وتوفي فردلند (فرناندو الأول) ملك قشتالة وليونِ عام 458هـ/1065م بعد أن قسّم دولته بين أولاده الثلاثة، حيث تحارب الأخوة حربا لم يستغلها المسلمون لتفرقهم ولتمكنّ الروح الانهزامية في نفوسهم، وانتصر في هذه الحروب شانجه وهرب أخوه الفونسو (الاذفونش) ولجأ إلى طليطلة عند ملكها يحي بن إسماعيل بن ذي النون الملقب بالمأمون، فقابله بالترّحاب وبالغ في إكرامه، وأنزله داراً مجاورة لقصره، وجعل له داراً أخرى خارت المدينة ذات حدائق تكون متنزّهاً له ولمرافقيه، حيث قضى تسعة شهور درس فيها أحوال المدينة تمهيداً للاستيلاء عليها. وكان الأخ الثالث غرسيه قد لجأ إلى اشبيلية عند بني عباد. واغتيل شانجه عام 465هـ/1072م فاستدعي الفونسو لتولّي الحكم، بعد أن قطع الوعود للمأمون، وأصبح ملكاً لقشتالة وليون وجيليقية باسم الفونسو السادس (الاذفونش عند المسلمين) فتوحدّت أسبانيا النصرانية حيث قضى غرسيه الأخ الثالث بقيّة عمره في السجن لمدة سبعة عشر عاماً (1)

من هذا العرض لأوضاع المغرب والأندلس نرى أن المغرب الإسلامي كان يمر في حركة تغيير شاملة على أسس إسلامية، وعلى يد المرابطين، وتنبعث فيه حياة جديدة، وقوة وثّابة، كالحركة التي شهدها المشرق الإسلامي على يد السلاجقة. في حين كانت الأندلس الِإسلامية تشهد حركة عكسية، حركَة يتوالى فيها تمزّق المسلمين، وتتوالى الانتكاسات، وتسرّبت إلى زعمائهم الروح الانهزامية أمام القوى النّصرانية الصّاعدة الحاقدة على الإسلام وأهله، والتي تجنّدها البابويّة من نصارى أسبانيا وأوربا.

وأمام فقدان المسلمين في الأندلس قوتهم الذاتية تلمّسوا حولهم، فوجدوا القوى الإسلامية في العدوة الأخرى، فاندفعوا للعمل للاتصال بالأخوة، وخاصة بعد قمة الفاجعة الأندلسية- سقوط طليطلة بيد النصارى.

ثالثاًَ: سقوط طليطلة- زلزلة الأندلس الإِسلامية-:

(1) الحجى- التاريخ الأندلسي ص 330.

ص: 355

كانت طليطلة من أجلّ المدن الإسلامية وأعظمها خطراً (1) ، ومن- أكبر بلاد الأندلس وأحصنها، حكمها من الطوائف بنو ذي النون الهواري، وأوّلهم الأمير إسماعيل عام 420هـ، ثم تملّك المأمون بعد أبيه عام 435هـ (2) ، فعكف على اللذات والخلاعة، وصادر الرعيّة، وهادن العدوّ، فطمعت فيه الفرنجة بل في الأندلس، وأخذت عدّة حصون، وكان قد استعان بهم على تملّك مدائن الأندلس، وغدر به ملكهم، وأخذه رهينة حتّى أعطاه ما طلب من الحصون، وقرّر عليه مالاً كلّ سنة، وعاد ذليلاً مخذولاً وذلك بما قدّمت يداه، إلى أن توفي عام 460هـ (3) مقتولاً بيد القاضي ابن جحّاف، فخلفه القادر بن يحي في الحكم (4) الذي لجأ إلى بلاطه الفونسو السادس، وأقام فيه تسعة شهور، ولاقي الإكرام الزائد، والمجاملات الكثيرة إلى أن غادرها حاكماً للنّصارى، بعد أن ارتبط ببني ذي النون بروابط الصداقة وأعطى العهود والمواثيق.

(1) ياقوت- معجم البلدان جـ4 ص40.

(2)

سير أعلام النبلاء جـ18 ص221/ الكامل في التاريخ جـ9 ص288.

(3)

نفح الطيب جـ4 ص352.

(4)

نفح الطيب جـ4 ص352.

ص: 356

أصبح شغل الفونسو الشاّغل الاستيلاء على هذا البلد الذي آواه وأكرمه، وكان قد درس وسائل احتلالها أثناء لجوئه، بل وتذكر بعض الروايات أنه استمع ذات يوم وهو متظاهر بالنوم إلى حديث المأمون مع وزرائه في كيفية الدفاع عن طليطلة إذا هاجمها النصارى، وقد أجاب بعضهم: أن النّصارى لا يستطيعون الاستيلاء عليها وهي المدينة الحصينة إلا إذا أنفقوا سبعة أعوام على الأقلّ في تخريب أحوازها وإنتساف قوتها (1) ، وتمكن الفونسو من الإطلاع على عوراتها (2) . فأخذ بالإغارة على أراضيها وعاث فيها سفكاً وتخريباً، وانتسف مزارعها، بالاتفاق (ياللأسف) مع ابن عباد أمير اشبيلية، وأعظم ملوك الطوائف، الذي تحالف معه وتعهّد بمعاونته بالجند والمرتزقة ضد جميع المسلمين مقابل ألاّ يتعرض لمشروعه في مهاجمة طليطلة، فضحّى المعتمد بمعقل الأندلس المسلمة مقابل وعود خدّاعة، ودفع للادفونش الجزية (3)

(1) دول الطوائف ص391، وهي قصة لا تخلو من الخيال، ولكنها ذات مغزى يرمي إلى تصوير مدى غفلة الأمير، وثقته بأعدائه، وركونه إليهم.

(2)

ابن الخطيب- أعمال الأعلام جـ2 ص330.

(3)

الذهبي-العبرجـ2 ص338.

ص: 357

استمرّ الفونسو في غاراته على أراضي طليطلة دون أن يجد من يردعه، وبعد أن أنهكها تقدّم لحصارها، واستمرّ في حصارها سبع سنوات (1) وارتكب بها وبأهلها الأفاعيل وأُنزلت الآثامٍ، وتمثّلت النزّعة الصّليبيّة واضحة في هذا الحصار، فقد ضمّت القوات النّصرانيّة جنوداً من جميع أسبانيا النّصرانية من قشتاله وليون وارغون، ومتطوعين نصارى من المغامرين من فرنسا وألمانيا وإنكلترا وغيرها من أوربا النصرانية (2) ، تباركهم الكنيسة. في حين بقيت طليطلة المسلمة وحيدة تصارع هذه القوى، وأمراء الطوائف جامدون لا يتحرّكون، وكأن الأمر لا يخصهم، بل ارتمى بعضهم كزعيمهم ابن عباد على اعتاب الفونسو، وتغافلوا عن الحقيقة:(إن النصارى لا يفرّقون بين طليطلة وغيرها من القواعد الإسلامية) ولم يقم بواجب نجدتها إلا المتوكّل على الله عمر بن محمد بن الافطس أمير بطليوس الذي وقف مجاهداً عن الإسلام وأهله كوالده الذي كان قد دعا إلى وحدة الأندلس للوقوف في وجه النصارى، وأنحى باللائمة على ابن عباد الذي مالأ الاذفونش، وبينّ أن سبب تكالب الأفرنج على بلاد المسلمين يكمن في ذنوبهم وتفرّقهمِ (3) ، واستمرّ في جهاده إلى وفاته سنة 470هـ. فكان ابنه المتوكل هذا لا يقلّ عنه جهاداً، وقد ثار أهل طليطلة عام 472 هـ ضد القادر وخلعوه لتعاونه معِ الاذفونش وخياناته، واستدعوا المتوكّل ليتولىّ أمرها، فقبل مكرهاً، وأقام عندهم نحواً من عشرة أشهر ليعود إلى بطليوس حين علم باستعانة القادر بالاذفونش وتقدّمهما نحو طليطلة (4) .

(1) نفح الطيب جـ4 ص353/ العبر جـ2 ص339/ الكامل في التاريخ جـ8 ص138.

(2)

عنان- دول الطوائف ص396

(3)

انظر رسالته للأذفونش بهذه المعاني/ سير أعلام، النبلاء، ج18 ص595-596 وفيها تظهر عزة المسلم حينما يلجأ إلى الله سبحانه ويستمد منه قوته.

(4)

انظر: الحجي- التاريخ الأندلسي ص 337.

ص: 358

يئس أهل طليطلة من نجدات المسلمين، ففاوضوا الاذفونش من أجل التّسليم، وكالعادة أعطى لأهلها الأمان لضمان حرّيّاتهم، واحترام شعائر دينهم، وحقوقهم، وحرمة مساجدهم، وكعادته أيضاً نقض هذه العهود بعد شهرين فقط، وحوّل مسجدها الجامع إلى كنيسة، وحطّم المحراب ليقام الهيكل مكانه (1) ،وارتكب بأهلها الأفاعيل وأنزل بها الآثام (2) ،تباركه الكنيسة في ذلك، واتّخذها عاصمة لأسبانيا النّصرانيّة. وكان سقوطها في منتصف المحرم سنة 478هـ.

وأسفر سقوط طليطلة عن نتائج هامة:

فقد اشتدّ طمع النّصارى في بلاد الأندلس الإسلامية، فشنّ الأذفونش الغارات على جميع الأندلس المسلمة، وفاز باستخلاص جميع أقطار ابن ذي النون واستئصالها، وذلك ثمانون منبراً، سوى البُنيّات والقرى المعمورات، وحاز من وادي الحجارة إلى طلبيرة، وفحص اللجّ، وأعمال شنزية كلّها، وتسمّى (بالإمبراطور) أو (الإمبراطور ذي الملتين الإسلامية والنّصرانية) . وطمع في ملوك الطوائف، وعاملهم معاملة الأتباع الأذلاّء (3) ، وتصوّر أنهم غدوا كافّة رهن إشارته، وطوع بنانه، وانّه سيقضي عليهم الواحد بعد الآخر، ورفض جزيتهم وردّها كما فعل مع ابن عباد، ووصفهم بالحمقى الذين تلقبوا بأسماء الخليفة وهم لا يملكون لأنفسهم ضرّاَ ولا نفعاً (4)

وتسلل اليأس إلى نفوس المسلمين من ملوك الطوائف، وغدت الأصوات اليائسة ترتفع، وفي ذلك يقول عبد الله بن فرج اليحصبي المشهور بابن العسّال أو غيره (5) :

يا أهل أندلس حثّوا مطيّكم

فما المقام بها إلا من الغلط

الثّوب ينسل من أطرافه وأرى

ثوب الجزيرة منسولاً من الوسط

ونحن بين عدوّ لا يفارقنا

كيف الحياة مع الحيّات في سفط

(1) نفح الطيب جـ4 ص447/ عنان- دول الطوائف ص113.

(2)

نفح الطيب جـ4 ص354.

(3)

أنظر الحجي- التاريخ الأندلسي ص334-315.

(4)

المؤنس ص101.

(5)

وتروى الأبيات بأشكال مختلفة بالمعنى نفسه. انظر: نفح الطيب جـ4 ص352.

ص: 359

هذا وقد نُظّمت قصائد كثيرة في سقوط طليطلة وغيرها من المدن والحصون يظهر فيها الأسى والحزن.

وأدرك ملوك الطوائف عزلتهم عن أمّتهم، وأنّ النّصارى لا يفرّقون بينهم في المعاملة، وينظرون إليهم نظرتهم الحاقدة إلى المسلمين تحثّهم على ذلك الكنيسة بروحها الصّليبية، فتنادوا للّقاء، وتداعوا للوحدة استجابة أو مسايرة للرأي العام المسلم.

رابعاً: دور العلماء في الدّعوة إلى الوحدة في الأندلس:

للعلماء المسلمين دور كبير في جميع عهود التاريخ الإسلامي، في الدّعوة إلى لمّ الشمل والوحدة، وإلى الجهاد. فمنذ سقوط الدولة العامرية في الأندلس وتفرّقها إلى طوائف، ارتفعت أصوات العلماء بالدّعوة إلى الوحدة، إدراكاً منهم للخطر الذي يتهدّد المسلمين من النّصارى، ومن العلماء الذين قاموا بجهود في هذا المجال:

ابن عبد البر: (أبو عمر يوسف بن عبد الله النّمري) علامة الأندلس والمغرب الكبير (ت عام 463 هـ) عن عمر ناهز الخامسة والتسعين، فقد جلا عن وطنه قرطبة وتجوّل في أنحاء الأندلس فسكن دانية، وبلنسية، وشاطبة وبها توفي. وولي قضاء الأشبونة، وشنترين في مدّة المظفّر بن الأفطس، وكان خلال تنقّله وتدريسه يدعو إلى نبذ التفرّق ولمّ الشّمل (1) .

(1) انظر: وفيات الأعيان جـ7 ص 67/ سير أعلام النبلاء جـ 18 ص 153-163.

ص: 360

وابن حيان: (أبو مروان حيان بن خلف الأموي مولاهم)(1) ، الذي علّق على أحداث الأندلس، وبشكل خاص نكبة بربشتر عام 456هـ، وعلّل أسبابها، وأنحى باللائمة على النّاس والحكّام بما ارتكبوا في جنب الله من ذنوب إهمالهم، بتقصيرهم في الأخذ بالشريعة، وتهاونهم في تنفيذ أوامرها، مما جرّهم إلى حالة الفرقة وأذهبت قوّتهم فقد "أركستهم الذنوب، ووصمتهم العيوب، فليسوا في سبيل الرشد بأتقياء، ولا على معاني الغيّ بأقوياء، نشء من النّاس هامل، يعلّلون نفوسهم، من أوّل الدّلائل على فرط جهلهم بشأنهم وإغزارهم بزمانهم، وبعادهم عن طاعة خالقهم، ورفضهم وصيّة رسوله نبيّهم عليه الصلاة والسلام، وهووهم عن النّظر في عاقبة أمرهم، وغفلتهم عن سدّ ثغرهم، حتى لظلّ عدوّهم السّاعي لإطفاء نورهم، يتبجّح عراض ديارهم، ويستقري بسائط بقاعهم، يقطع كل يوم طرفاً منهم وسرامة، ومن لدينا وحوالينا من أهل كلمتنا صموت عن ذكرهم، لهات عن لبهمّ، ما أن يسمع عندنا في مسجد من مساجدنا، ومحفل من محافلنا، مذكّر بهم أو داع لهم، فضلاً عن نافر إليهم أو مواس لهم، حتى كأن ليسوا منّا، وكأن فتقهم ليس بمفض إلينا، قد بخلنا عليهم بالدّعاء بخلنا بالفناء، عجائب مغربة فاتت التّقدير، وعرضت للتّغيير، ولله عاقبة الأمور واليه المصير".

وقد أوقع ابن حيّان نصيباً كبيراً لهذه الأحوال على أمراء السوء في دول الطّوائف، الذين انحرفوا عن نهج الإسلام، ملوّماً الناس لركونهم إلى أمثال هؤلاء الأمراء.

(1) البيان المغرب جـ3 ص255 نفح الطيب جـ4 ص 452- 453/ الحجي ص 365.

ص: 361

وأبو الوليد الباجي: (سليمان بن خلف التجيبي القرطبي (403-474 هـ) الذي جاب أقطار المشرق الإسلامي، فجاور بمكة ثلاثة أعوام، ورحل إلى بغداد ودمشق والموصل، واستغرقت رحلته ثلاثة عشر عاماً، عاد بعدها إلى وطنه فولي المضاء لأماكن متعدّدة، وصنّف التّصانيف الكثيرة (1) ، ودعا إلى الوحدة من تلقاء نفسه أوّلاً، ثم نشط أكثر بعد حادثة بربشتر عام 456 هـ تلك التي نبهت غيارى المسلمين إلى الخطر الكامن وراء هذه الأحداث المؤلمة، ثم عمه المتوكّل بن الأفطس، وشدّ من عضده، بل كلّفه أو وجّهه إلى الجهاد، فأخذت دعوته طريقها الرسمي بذلك.

وابن حزم: (أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد) الوزير الظاهري، الذي تجوّل في الأندلس، داعياً إلى الوحدة، ووجّه النّقد اللاّذع لملوك الطوائف وبين استهتارهم، وما أورثوا الأمة من الوهن والانحدار، ودعا إلى الجهاد، ومن جيد شعره في ذلك:

مناي من الدنيا علوم أبثّها

وأنشرها في كلّ بادٍ وحاضر

دعاء إلى القرآن والسّنن التيِ

تناسى رجال ذكرها في المحاضر

والزم أطراف الثّغور مجاهداًَ

إذا هَيْعة ثارت فأوّل نافر

لألقى حمامي مقبلاً غير مدبر

بسمر العوالي والرّقاق البواتر

كفاحا ًَ مع الكفّار في حومة الوغى

وأكرم موت للفتى قتل كافر

فيا ربّ لا تجعل حمامي بغيرها

ولا تجعلنيّ من قطين المقابر

(1) سير أعلام النبلاء جـ18 ص535- 545/ العبرة جـ2 ص 332/ البداية والنهاية جـ12 ص122.

ص: 362

وهناك كثير من العلماء قاموا بدورهم في هذا المجال مثل: حاتم بن محمد الطرابلسي القرطبي المحدّث (ت عام 469 هـ) . وأبو العباس المعذري أحمد بن عمر بن أنس بن دلهات الأندلسي المدلائي (1) . وأبو عبد الله الحميدي محمد بن أبي نصر الميورقي (2) . وأبو المعالي إدريس بن يحي الأشبيلي (3) . والفقيه أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد قاضى الجماعة بقرطبة (4) ، وعبد الله بن غالب المالكي مفتى أهل سبتة (5) . وأبو القاسم المهلب بن أحمد الأسدي الأندلسي قاضي المرية (6) . ومكي بن أبي طالب القيسي (7) . ومحمد بن عبد الله المعافري محدّث قرطبة (8) . وعثمان بن سعيد القرطبي الصيرفي (9) . وعبد الله بن الوليد الأنصاري الأندلسي (10) . وابن العربي أبو محمد عبد الله الأشبيلي والد القاضي أبي بكر (11) .

(1) العبر جـ 2 ص338/ سير18 ص 7-8.

(2)

العبر2 ص 359/ شذرات جـ3 ص 392/ سير جـ 19 ص 12- 127/ الكامل في التاريخ جـ8 ص 178/ البداية جـ12 ص 152.

(3)

الحجي ص348

(4)

الحجي ص 350.

(5)

العبر جـ2 ص 269/ شذرات جـ 3 ص 254.

(6)

العبر جـ2 ص 272/ شذرات جـ3 ص 255.

(7)

العبر جـ2 ص 273/ النجوم الزاهرة جـ5 ص41.

(8)

العبر جـ2 ص 275/ شذرات جـ3 ص 263.

(9)

العبر جـ2 ص 286/ شذرات جـ2 ص 272/ النجوم الزاهرة جـ5 ص54.

(10)

العبر جـ2 ص 292.

(11)

سير أعلام النبلاء جـ19 ص130- 131.

ص: 363

والطلاعي أبو عبد الأحد بن الفرج القرطبي المالكي مفتي الأندلسي ومحدّثها (1) . وحكم بن محمد أبو العاص الجذامي القرطبي مسند الأندلس (2) . والقاسم بن محمد بن هشام الرعيني السبتي المالكي (3) . وأحمد بن سليمان الباجي (4) . وأبو بكر محمد بن أحمد من أهلَ قرطبة الذي تطوّع محاولاً إزالة الخلافات بين ملوك الطّوائف، وسعى بجمع كلمتهم، وكان من بيت وزارة وجلالة (5) . كما اشترك في ذلك أبو الفتح نصر بن الحسنِ الترني الشاشي التنكتي من علماء المشرق (وتنكت من أعمال الشاش) وقد جاب البلاد محدّثاًَ وتاجراً، وسمع في مصر والشام والأندلس وتوفي سنة 486 هـ (6) .

(1) سير أعلام النبلاء جـ19 ص199- 201

(2)

نفسه جـ 17 ص 659.

(3)

نفسه جـ18 ص6-7.

(4)

نفسه جـ18 ص545-546.

(5)

الحجي - تاريخ الأندلس ص349.

(6)

سير أعلام النبلاء جـ19 ص90-91.

ص: 364

وقد أسفرت جهود العلماء عن تكوين رأي عام لدى المسلمين في الأندلس، يطلب الوحدة، ويلحّ عليها، فاستجاب ملوك وأمراء الطوائف لهذا الِإلحاح وعلى رأسهم المعتمد ابن عباد الذي كان يملك أكثر البلاد الإسلامية الأندلسية، والذي كان يؤدي الضريبة لألفونسو السادس، وكان قد أرسلها كعادته، فردّها عليه الفونسو وأرسل إليه يتهدده ويتوعّده السير إلى مدينة قرطبة وامتلاكها إلا أن يسلّم إليه جميع الحصون التي في الجبل ويبقى السهل للمسلمين (1) . فأسقط في يد المعتمد كما أسقط بيد أمراء الطوائف، فاجتمعوا وتشاوروا، ولكنّهم أدركوا أن الأندلس الإسلامية بأوضاعها المنحلّة، وإغراق أهلها في النّعيم، ليست لديها القدرة على التصدّي للهجَمة الصّليبية القويّة، فبرزت فكرة الاستغاثة بالمرابطين لدى المعتمد الذي قال لابنه:"إن إخواننا وجيراننا ملوك الأندلس، ليس فيهم نفع، ولا يرجى منهم نصرة، ولا حيلة، إن نزل بنا مصاب أو نالنا عدوّ ثقيل، وهو اللّعين الأذفونش، وها هو قد رفع رأسه إلينا، وان نزل علينا بطليطلة ما يرفع عنّا حتى يأخذ اشبيلية".

استنجاد الأندلس الإسلامية بالمرابطين:

(1) الكَامل في التاريخ جـ8 ص138 /سير الأعلام جـ19 ص 58.

ص: 365

كانت الظّروف الأندلسية التي بيّناها الحافز لطلب النجدة من مسلمي المغرب. فالفكرة كانت عامة على النّطاق الشّعبي، قبل أن يتبنّاها أمراء الطوائف رسميّا، فقد كان يوسف ابن تاشفن قد أتمّ وحدة المغرب عام 474 هـ تقريباً، ووفد صريخ أهل الأندلس على بلاط مراكش في العام نفسه، ووفد إليه جماعة، وشكوا إليه ما حلّ بهم من عدوان النصارى، وطلبوا إليه النّجدة، والعون، فوعدهم بتحقيق أمنيتهم (1) ، كما كانت سفارة أبي الوليد الباجي إليه قبل هذا التاريخ لأن الباجي توفي عام 474 هـ كما ذكرنا. وكاتبه المتوكل على الله بن الأفطس حاكم بطليوس (2) وأمام استمرار الصريح استعدّ بقواته ليجوز الأندلس، فافتتح سبتة عام 477 هـ، وأخذ يعدّ العدّة وينشيء المراكب والسفن ليعبر فيها (3) . وينتظر الفرصة السّانحة.

وفي سبتة توالت الرسل إليه أكثر من ذي قبل، وازدادت أكثر بعد سقوط طليطلة، فكثرت رسل الأندلس، مجهشين بالبكاء، ناشدين الله والإسلام، مستنجدين بفقهاء حضرته ووزراء دولته، للحثّ على إنقاذهم مما هم فيه، وما يقتضيه واجبه الإسلامي نحو إخوانه. فكان يصغي لقولهم ويستمع إليهم، وترقّ نفسه لهم (4) .

(1) انظر: عنان- دول الطوائف ص 312- 315.

(2)

الحجي ص 397/ عنان ص 92.

(3)

نفح الطيب جـ4 ص354 عن الروض المعطار.

(4)

نفسه جـ4 ص 359- 0 36.

ص: 366

ثم تحوّل الأمر بعد استئساد النّصارى على المسلمين وزلزلة طليطلة، فأصبحت الدّعوة للعبور رسميّة، فاتّفقت الأندلس كلّها على ذلك أمراؤها وفقهاؤها وعامّتها (1) . وكان ملوك الطوائف يكرهون إلمام يوسف بجزيرتهم (2) ولكنّهم أمام ضغط النّصارى وتنكّر الفونسو لهم، وخضوعاً للرّأي العامّ الإسلاميّ، استغاثوا بأمير المسلمين، فَعُقِد اجتماع في قرطبة حضره الزعماء والفقهاء وكثير من اَلنّاس، وعلى رأسهم المعتمد بن عباد، اتّخذ فيه قرار الموافقة على استدعاء المرابطين للنّصرة، ثم دعا المعتمد غيره من ملوك الطوائف إلى هذا الأمر، واجتمعوا بالفعل لاتّخاذ ترتيبات عبور وفد إلى العدوة ودعوة الأمير يوسف، وكتبت رسالة بهذا الشأن وقّعها أمراء الأندلس، وأُرسلت من الأندلس مع سفارة خاصّة وتحت إشراف ابن عبّاد، وحملت السفارة التّحف الثّمينة والوعود المغرية للاستغاثة (3) مع الرّسالة. وقد ضمّ الوفد: عبيد الله بن أدهم قاضي قرطبة، وكان أعقل أهل زمانه، ووزير المعتمد أبا بكر بن زيدون، وقاضي المتوكل على الله عمر بن الأفطس أمير بطليوس، وقاضي عبد الله ابن حبوس بن ماكسن الصنهاجي صاحب غرناطة (4) . والتقى الوفد بأمير المسلمين في سبتة، فلبىّ النّداء وقال:"أنا أوّل منتدب لنصرة هذا الدين، ولا يتولى هذا الأمر أحد إلا بنفسي".

(1) دول الطوائف ص 317.

(2)

نفح الطيب جـ4 ص 354.

(3)

التواتي - مأساة انهيار الوجود العربي بالأندلس ص 287.

(4)

الروض المعطار ص 86/ انظر: الحجي- تاريخ الأندلس ص 321.

ص: 367

وكانت هناك دعوة للاستنجاد بعرب إفريقيا (بني هلال)(1) ، واستُبْعِد هذا الرّأي، كما ارتفعت بعض الأصوات تعارض الرّأي العامّ في الاستنجاد بالمرابطين تزعّمها عبد الله ابن سكوت والي مالقة، الذي حذّر أمراء الأندلس من المغاربة خوفاً من استئثارهم بالأندلس أرض الخيرات، وقد اشتهر ابن سكوت بمواقفه المشبوهة، ولعلّه هو المدبّر للحركة المضادّة لدخول المرابطين، التّي اتخذت اتِّجاهاًَ خطيراً فيما بعد، وجعلت أمير المسلمين يتشكّك في نوايا أمراء الأندلس. وحذّر أبو الحسن عبيد الله (ولي عهد المعتمد) والده مغبّة الاستنجاد بالمرابطين، وقال له:"يا أبت تُدخِل علينا في أندلسنا من يسلبنا ملكنا، ويبدّد شملنا". ولكن المعتمد المدرك أبعاد القضية أجابه: "أي بني والله لا يسمع عني أبداً أني أعدت الأندلس دار كفر، ولا تركتها للنّصارى، فتقوم عليّ اللعنة في منابر الإسلام مثل ما قامت على غيري". وقال قولته التي سارت مثلاً: "رعي الجمال خير من رعَي الخنازير"أي أن كونه مأكولاً لابن تاشفين أسيراً يرعى جماله في الصّحراء، خير من كونه ممزّقاً لابن فردلند أسيراً يرعى خنازيره في قشتاله (2) .

ولما فشا في الأندلس عزيمة الاستنجاد بيوسف والاستظهار به، استبشر النّاس وفرحوا بذلك وفتحت لهم أبواب الأمل (3) ، وعمّ المسلمين الفرح.

الشورى:

(1) الكامل في التاريخ جـ 8 ص 141- 142.

(2)

نفح الطيب جـ4 ص359/ البيان المغرب جـ4 ص 11/ وفيات الأعيان جـ7 ص 115.

(3)

نفح الطيب جـ4 ص 359.

ص: 368

جمع يوسف بن تاشفن مجلس شوراه من الفقهاء والأعيان والقادة، واستشارهم في نجدة الأندلس، فأشار عليه كاتبه عبد الرحمن بن أسبط من أهل المريّة، وأوضح له أن معظم أراضي الجزيرة في يد النّصارى، والجزيرة ذاتها وعرة البسائط، تعترضها جبال صعبة المسالك، وهي شبيهة بسجن، يندر على الداخلين إليه الخروج منه.. وقال:"فإذا انتصر عليك الأعداء، فقد يقطع عليك طريق العودة بأيسر أمر". وأضاف: "فنصيحتي أن تُخْطِرَ أمير اشبيلية بأنك لا تستطيع العبور قبل إخلاء حصن الجزيرة، وبذلك تملك موقعاً أمينْاً، تشغله حامية مخلصة، وتبقى في كلِّ وقت على اتّصال دائم بإفريقية". وهذا دليل على الشكّ في نيّة أمراء الطّوائف، فقد عرف عنهم الغدر وعدم التقيّد بالعهود، فاشترط الأمير يوسف تسليم ثغر الجزيرة لضمان سلامة طريقه في الذّهاب وحماية ظهره في الإياب، فوافق المعتمد على ذلك.

الإِعداد للجهاد:

كان ابن تاشفين على استعداد للعبور إلى الأندلس قبل استنجاد ملوك الطّوائف، فجاء الفرصة السّانحة، فاستنفر قواته للجهاد، فاجتمع له نحو من سبعة آلاف فارس، في عدد كثير من الرّجل، وأقبل من بقي من جنده في مدينة مراكش حتى تكامل العدد، وكان قد أعدّ أسطولاً يتألف من مائة سفينة وعدداً من المراكب ليعبر فيها (1) .

(1) نفح الطيب4 ص354

ص: 369

وبلغ الأذفونش (الفونسو السادس) استعدادات ابن تاشفن واعتزامه المجاز للأندلس، فأراد أن يجسّ النّبض، فكتب إليه يستحثّه على سرعة القدوم، وأغار علىِ البلاد في تظاهرة عسكرية جرّارة حتى وصل ساحل البحر عند الجزيرة، وكتب من هناك كتاباًَ، كتبه له بعض غواة أدباء المسلمين يغلظ له في القول، ويصف ما معه من القوة والعَدَد والعُدَد وبالغِ في ذلك. فلما وصل الكتاب وقرأه يوسف أمر كاتبه أبا بكر بن القصيرة أن يجيبه، وكان كاتبا مفلقاً، فكتب وأجاد، فلما قرأه على أمير المسلمين. قال:"هذا كتاب طويل، احضر كتاب الأذفونش واكتب في ظهره: "الذي سيكون ستراه"، والسلام على من اتبع هدى، وأردف الكاتب بيت أبي الطيب (المتنبي) :

ولا كتب إلا المشرفية والقنا

ولا رسل إلا الخميس العرمرم

فلما وقف الأذفونش على الكتاب، ارتاع له وأنه بلي برجل لا طاقة له به (1) .

عبور المجاهدين:

عبرت الجيوش الإسلامية المجاز (مضيق جبل طارق) بقصد الجهاد سنة 479 هـ، من سبتة إلى الجزيرة الخضراء تباعاًَ: فكان أوّلها قوةّ من الفرسان بقيادة داود بن عائشة، وآخرها موكب أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، يوم الخميس منتصف ربيع الأول عام 479 هـ/30 حزيران 1086 م (2) .

وُيذكر أنّه خلال العبور هبّت ريح عاصف أثارت أمواجاً عالية، فرفع الأمير يوسف يديه إلى السّماء يدعو الله عز ّوجل:

(1) نفح الطيب جـ4 ص 361/ أعمال الأعلام ق 3 ص240.

(2)

عنان- دول الطوائف ص219.

ص: 370

"اللهم إن كنت تعلم أنّ في جوازنا هذا خيراً وصلاحاً للمسلمين فسهّل علينا جواز هذا البحر، وإن كان غير ذلك فصعّبه حتى لا أجوزه". واستجاب الله دعاءه، "فسهّل له المركب، وقرّب المطلب"(1) . وما كاد يطأ بقدميه أرض الأندلس حتى سجد لله شكراً. وتلقّاه المعتمد بن عبّاد في وجوه من دولته، وقدّم إليه الهدايا والتّحف، وتسلّم الأمير قلعة الجزيرة الخضراء باحتفال حضره القضاة والفرسان والمعتمد، كما تسلّم عدّة قلاع وحصون أخرى، قام بإصلاحها، وأعاد تحصينها، أتمّ تحصين، ونظمها حسب رأيه وإستراتيجيته الخاصة، ورتب لها حامية مختارة من جنده لتسهر ِعليها، وشحنها بمقادير عظيمة من الأقوات، والذخائر، والمؤن، لكي تغدو ملاذاً أميناَ، يلتجيء إليه، إذا منيت الحملة بالفشل (2) .

وفشا خبر عبور الأندلس فقوبل بالترحيب وانتعاش الآمال من قِبَل جميع المسلمين في الأندلس، وتحرّكت في نفوسهم روح الجهاد فتوافد إليه المتطوّعة من كلّ مكان، كما جاءته الوفود مرحّبة.

خط سير القوات الإِسلامية إلى الزلاقة:

تحرّك يوسف بالجيش الِإسلامي من الجزيرة الخضراء باتّجاه الشّمال الشّرقي إلى اشبيلية، ولما وصلها نزل بظاهرها، وطلب إليه المعتمد أن يدخل حاضرة ملكه ليستريح فيها أياماً من وعثاء السفر، ومشقّة الطريق، قبل أن يلتقي بعدوه. فأبى يوسف الدّخول وقال:

"إنّما جئت ناوياً جهاد العدو، فحيثما كان العدوّ توجّهت، هلّم (إلى ما جئنا له من الجهاد) ".

(1) دول الطوائف ص 447،319 /الحجي ص403 / التواتي ص291.

(2)

دول الطوائف ص320 /التواتي ص291.

ص: 371

وأقام بظاهر أشبيلية ثمانية أيام، نظم فيها أموره، فتمّ التخلّص من كلّ ما لا حاجة إليه في ساحة المعركة، وتمّت دراسة الجوّ، والأوضاع والنفوس، وتمّ التئام جيوش المسلمين وأمراء الأندلس التي تقرّر أن تشارك في المعركة المنتَظَرة، وكانت قد سَرَت في مسلمي الأندلس قبل ذلك وخلاله روح جديدة، ذكرّتهم بأيام النّصر التّي سمعوا عنها الكثير، فشارك أمراء الطّوائف بقواتهم، وأعدّوا ما يمكن للمشاركة في البذل والتّضحية. (ولم يبقَ من ملوك الطوائف إلا من بادر أو أعان أو خرج، أو أخرج)(1) . فانضمّ المعتمد بقواته، وبعض قوات بعثها ابن صمادح صاحب المريّة الذي اعتذر عن عدم استطاعته الشّخوص بنفسه بسبب العدوّ الملاصق له بحصن لييط، من عمل لورقه، واعتذر بكبر السن مع الضعف. وساهم عبد الله بن بلكين صاحب غرناطة وأخوه تميم صاحب مالقة، وابن ذي النون، وانضمّ المتوكل بن الأفطس وكان أشدّهم حماساً، وقصدته المتطوّعة من سائر بلاد الأندلس (2) . وكان يوسف خلال هذه الأيام صائم النّهار، وقائم اللّيل، في تهجّد، وتلاوة لآيات كتاب الله الكريم، وقد أكثر من الصّدقات، وأعمال البر، فتملّك نفوس أهل الأندلس، وكسب قلوب جنده بالنّصفة، وإيثار الحقّ، وإنشاء العدل. ووصله أثناء ذلك خبر موت ابنه أبي بكر، (فحيرّه حتى لهمّ بالانصراف عن وجهه. ثم آثر الجهاد، وانفذ مزدَلي (أحد قادته المشاهير) إلى مرّاكش) (3) للقيام بتنظيم الأمور هناك.

(1) نفح الطيب جـ4 ص 362.

(2)

الكامل في التاريخ جـ8 ص 142/ أشباخ- تاريخ الأندلس ص 80/ وانظر ما كتبه عبد الله بن بلقين في كتابه التبيان- الحجي ص 404.

(3)

انظر: الحجي ص 404، عن الحلة السيراء جـ2 ص 100/ راجع دول الطوائف ص 319 و447.

ص: 372

وقام يوسف بتنظيم الجيش للتّحرّك من ظاهر أشبيلية، فجعل القوات الأندلسية لوحدها في المقدمة بقيادة المعتمد بن عباد، لمعرفتها التّامّة بأرض الأندلس، في حين جعل الجيوش المرابطيّة في المؤخرّة، ثمّ أمر بالتّحرّك إلى بطليوس، فتلقّاهم المتوكلّ عمر بن محمد الأفطس بما يجب من الضّيافات والأقوات وبذل المجهود (1) . فأقام الجيش هناك ثلاثة أيام للرِاحة في طرطوشة بالقرب من بطليوس (2) .

Image p (187)

علم أمير المسلمين بتقدّم الجيوش الصّليبية، فأمر الجيش الإسلامي بالتّحرّك، إلى مكان مناسب، اختاره مع القادة ليكون موقع المعركة الفاصلة، وهذا المكان موضع سهليّ من عمل بطليوس وأحوازها على مسافة 12 كم شمالها الشرقي، في العدوة الشمالية للوادي اليانع، وبينه وبين نهر تاجه، تتخلله الأحراش، ويقع على حدود البرتغال الحاليّة (3) ، ويسميه المسلمون (الزلاقة) ، ويسميه الأوروبيون (ساكر الياس)(4) .

وفي هذا المكان وضع أمير المسلمين ترتيباً جديداً للجيش الإسلامي استعداداً للمعركة الفاصلة، فجعل الفرسان المرابطين وعددهم عشرة آلاف في طَليعة الجيش، بقيادة أبي سليمان داود بن عائشة أشهر قادته الكبار، وذلك ليتلقّوا الصدمة الصليبية الأولى.

وجعل قوات الأندلس تليهم، وكانت تؤلف وحدها جيشاً خاصّاً، منفصلاً عن جيوش المرابطين، يقودها المعتمد بن عباد أمير أشبيلية أشهر ملوك الطّوائف.

كما جعل جيشه في المؤخرة، وعلى مسافة كبيرة من جيش الأندلس، وراء أكمة ليوهم العدو أنّ الجيش الذي يواجهه هو الأوّل والثّاني فقط.

(1) نفح الطيب جـ4 ص364.

(2)

انظر عن طرطوشة ياقوت جـ4 ص 30 وعن بطليوس: ياقوت جـ4 ص 447/ التواتي ص 294.

(3)

عنان- دول الطوائف ص 321.

(4)

التواتي ص 295 وانظر الحجي- التاريخ الأندلسي ص 405.

ص: 373

وهكذا تحكّم المسلمون في اختيار موقع المعركة، ووضعوا خططهم على أساس ذلك، ونظمّ يوسف الاتّصالات السّريعة بينه كقائد أعلى للجيش وقواد الجيشين بحيث تأتي الأخبار سريعة. وجعل ابن تاشفين المعتمد بن عباد في قلب مقدّمة جيش الأندلس، والمتوكل بن الأفطس في الميمنة، وأهل مشرق الأندلس في الميسرة، وباقي الأندلسيين في السّاقة.

وجعل من جيشه المرابطي كمائن لتفاجيء العدو بعد اصطدامه بفرسان المرابطين وبجيش الأندلس، ولمنع الأندلسيين من الترّاجع أو الفرار، وضرب معسكره وراء ربوته العالية منفصلاً عن مكان القوات الأندلسيّة.

استعداد النّصارى وتحرسهم باتجاه المسلمين:

ص: 374

كان الفونسو السادس قد طمع في الأندلس الإسلاميّة، وعتا وتجبرّ، وقطع عهوده مع أمرائها وملوكها، وجاءته بركات البابا، وتدفقت عليه جموع النّصارى الفرسان من مختلف أجزاء أوربا، فعاث في الأندلس الإسلامية فساداً حتى وصل الجزيرة كما ذكرنا، وأعلن تحديه لأمير المسلمين يوسف بن تاشفين، ثم توجّه بقواته لمحاربة أمير سرقسطة ابن هود، وحاصرها، وألحّ عليها، وقاومت ببسالة. وعندما تأكّدت لديه أنباء عبور المجاهدين، رفع الحصار تاركاً أمر تصفية حسابه مع سرقسطة إلى ما بعد إيقاف هذا الزّحف، وحشد القوات النّصرانيّة من جيليقية، وليون، وبسكونية، واشتوِريش، وقشتالة (1) ، وكاتب ملك اراغون شانجه بن ردمير صاحب بنبلونة وكان مشغولاًَ بمحاصرة طرطوشة، فانضمّ إليه بقواته، وكاتب الكونت برنجار ريموند الذي كان يتأهب لغزو بلنسية فانضم إليه بقواته. وطلب النجدات من أمراء ما وراء البرت فلحق به سيل من الفرسان والمتطوّعين الفرنجة والألمان والإنكليز والإيطاليين، فأصبح جيشه كبيراً متفوّقاًَ في العُدَة والعَدَد والإمكانيات، واتّخذت المعركة شكل الحروب الصّليبيّة، فقد رفع القسّيسون والرّهبان والأساقفة صلبانهم، ونشروا أناجيلهم أمام القوات النّصرانيّة، وباركها البابوات وحثّوا عليها، ووجّهوها، بل تبايع رهبانهم على الموت.

وسار الفونسو بجيشه اللّجب مزهوّاً بتفوّقه في العَدَد والعُدَة، وبلغ به الزّهو وبجيشه أن قال:"بهؤلاء أقاتل الجنّ والإنس، وملائكة السماء". وبلغ به الأمر أن قال: "بهذا الجيش ألقى إله محمد"(2) صلى الله عليه وسلم .

(1) تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين ص 80/ انظر الحجي ص 405.

(2)

الكامل في التاريخ جـ8 ص 142.

ص: 375

تحرك الفونسو باتّجاه المسلمين ليفرض المعركة عليهم في أرضهم بدلا منِ انتظارهم، وكان الجيش الإسلامي قد اختار مكان اللّقاء، ولما أصبح على مسافة 18 ميلا من القوات الإسلامية نزل هَناك. عندئذ أمر أمير المسلمين المعتمد بن عباد التّقدّم إلى سفح جبل أمام الأَذفونش بحيث يتراؤون، فظن الأذفونش أنّ عساكر المسلمين ليس إلا الذي يراه (1) ، فنجحت خطة أمير المسلمين الأوّليّة.

وقام الفونسو بترتيب جيشه، فقسمه إلى قسمين: الأوّل بقيادة الكونت جارسيان والكونت رودريك، وخُصّص لمهاجمة المعتمد بن عباد. والثاني: جناحا الفونسو بقيادة سانشو (شانجة) رامير يز ملك أراغون والكونت ريموند، وقاد الفونسو القلب. وهكذا كانت احتياطات وخطط الفونسو لا تقلّ في أهمّيتها عن خطط أمير المسلمين، وانتظم الجيشان وتصافّا لا يفصل أحدهما عن الآخر إلا فرع صغير من الوادي اليانع هو وادي يبرا (إبرة)(2) .

القوى الإِسلامية والنصرانية المتواجهة:

بلغ عدد الجيش الإسلامي أكثر من عشرين ألفاً، عدا المتطوّعة الذين جاءوا من سائر بلاد الأندلس (3) . وعددهم كبير.

وأما الجيش النصراني فالمقلل يقول: "المختارون أربعون ألف دارع، ولكل واحد أتباع، والنصارى يعجبون ممّن يزعم ذلك ويرون أنهم أكثر من ذلك كله". والمكثر يقول: "إنه كان في ثمانين ألف فارس ومائتي ألف راجل"(4) .

والواقع أن عدد الجيشين الإسلامي والنصراني كبير. وتتفق جميع المصادر أن عدد جيش المسلمين كان أقل من جيش النصارى بكثير، وقد يصل إلى النصف (5) .

المراسلات:

(1) نفسه.

(2)

التواتي ص 296

(3)

حسن إبراهيم- تاريخ الإسلام جـ4 ص 121.

(4)

المؤنس ص 108.

(5)

الحجي ص 405.

ص: 376

كانت المراسلات وتبادل الكتب بين أمير المسلمين وملك النّصارى قد بدأت قبل دخوله الأندلس، وجميع المراسلات تحمل صيغة التّحدّي، وقبل بدء المعركة أرسل أمير المسلمين كتاباً لألفونسو امتثالا لأحكام السنة المطهرة، يعرض عليه فيه الدّخول في الإسلام أو الجزية، أو المناجزة، ومما جاء فيه (1) :"بلغنا يا اذفونش أنك دعوت إلى الاجتماع بنا، وتمنيّت أن تكون لك سفن تعبر بها البحر إلينا، فقد عبرنا إليك، وقد جمع الله تعالى في هذه السّاحة بيننا وبينك، وسترى عاقبة دعائك": {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَاّ فِي ضَلالٍ} سورة غافر الآية 50.

واختلفت الرّسل بين الفريقين في تحديد يوم القتال، ووعظ الأمير يوسف وابن عبّاد أصحابهما، وقام الفقهاء والعبّاد يعظون الناس، ويحضّونهم على الصّبر، ويحذّرونهم الفرار.

وجاءهم الطلائع بخبر أن العدّو مشرف عليهم صبيحة يومهم (الأربعاء10 رجب عام 479 هـ) ولكن عاد الفونسو إلى أعمال الخديعة، وعاد النّاس إلى محلاتهم وباتوا ليلتهم (2) . وهذه مناورة من الفونسو لمعرفة الجيش الإسلامي.

يقظة قادة الجيش الإِسلامي:

(1) نفح الطيب جـ4 ص 362/ ابن خلدون جـ6 ص115/ وانظر الحجي ص 406.

(2)

انظر: نفح الطيب جـ4 ص364- 365/ الروض المعطار ص90/ الحجي ص406.

ص: 377

أذكى المعتمد بن عبّاد عيونه في محلات المرابطين خوفاً عليهم من مكائد الفونسو وكان قد خبره، وهم غرباء لا علم لهم بالبلاد، وجعل المعتمد يتولّى ذلك بنفسه حتى قيل:"أنّ الرّجل من الصّحراويينّ لا يخرج على طرف المحلّة لقضاء أمر أو حاجة، إلا ويجد ابن عباد بنفسه مطيفاً بالمحلّة". واندسّت عيون المسلمين بين جيوش الفونسو، تتعرّف على مخطّطات النّصارى، فتعرّفوا على مخطّطات الفونسو في نيّة الغدر بالمسلمين ومباغتتهم، فقد كتب للمسلمين (يوم الخميس 11 رجب) يقول:"الجمعة لكم، والسبت لليهود، وهم وزراؤنا، وكتابنا، وأكثر خدم العسكر منهم، فلا غنى بنا عنهم، والأحد لنا، فإذا كان ما نريده من الزحف"، أي حدّد أن تكون المعركة يوم الاثنين ينوي بذلك الغدر (1)، فجاءت العيون إلى يوسف وابن عبّاد وأكّدوا استعداد معسكر النّصارى. وقالوا:"استرقنا السمع فسمعنا الأذفونش يقول لأصحابه: ابن عبّاد مسعر هذه الحروب، وهؤلاء الصّحراوّيون وإن كانوا أهل حفاظ، وذوي بصائر في الحروب، فهم غير عارفين بهذه البلاد، وإنّما قادهم ابن عبّاد، فاقصدوه، واهجموا عليه، واصبروا، فإن انكشف لكم هان عليكم غيره"، فاستحثّ ابن عبّاد يوسف لنصرته، وبات المسلمون ليلتهم على أهبة احتراس وبقوا شاكي السلاح بجميع محلاتهم، خائفين من كيد العدو (2) .

البشرى:

(1) الكامل في التاريخ جـ8 ص142.

(2)

نفح الطيب جـ4 ص365/ الروض ص 92.

ص: 378

وبعد مضيّ جزء من اللّيل انتبه الفقيه أبو العباس أحمد بن رميلة القرطبي (وكان في محلّة ابن عباد) فرحاً مسروراً يقول: "أنّه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يبّشره بالفتح والشّهادة له في صبيحة غد، وتأهبّ ودعا، ودهن رأسه، وتطّيب، وانتهى ذلك إلى ابن عباد، فبعث إلى يوسف فخبرّه تحقيقاً لما توقّعا من غدر ابن فردلند (1) . وشاع ذلك في عسكر المسلمين كلّه، فشّع في قلوبهم الأمل الكبير بالنّصر، وأعطتهم البشرى معنويات عالية، وتأكّدوا أن المعركة ستكون يوم الجمعة، فاستعدّوا لذلك، فكانت تعبئة نفسية جيّدة.

المعركة الفاصلة:

وصحّ ما توقعه المسلمون ففي السحر من يوم الجمعة 2 1 رجب عام 479 هـ، هاجم الفونسو القوات الإسلامية بجميع قوّته الرّهيبة، هجوماً عامّاً، ظناً منه أن الّذي أمامه هي جميع القوات الإسَلاميّة، فتصدّى له الفرسان العشرة آلاف من المرابطين بقيادة أبي سليمان داود ابن عائشة، وعلى الرغم من عدم قدرتهم على الصمود أمام سيل الفرسان النّصارى، فقد استطاعوا تحطيم حدة وعنف هجمة النصارى، وتكسير موجتهم، بعد أن خسروا كثيراً من الشهداء، وتمّ الترّاجع إلى معسكر قوات الأندلس. واستمرّت صدمة النصارى رغم تكسّر حدّتها شديدة، فتراجعت القوات الأندلسية، ودارت عليهم الدائرة، وثبت ابن عبّاد وأبلى برغم ذلك بلاء حسناً، ثم أرسل كاتبه ابن القصيرة إلى يوسف يستحثه.

ولم يكن يوسف غافلاً، فقد كان يرقب المعركة، من على ربوته، ولمّا تأكّد أن الفونسو اقتحم معسكر الأندلسيين بجميع قواته، أخذ يدفع بعض قواته إلى قلب المعركة أرْسالاً لمساعدة ابن عبّاد، ليساعده على الثّبات، ثم حمل بنفسه بقوّته الاحتياطية إلى محلة الأذفونش من خلف جيش النّصارى، فاقتحمها المسلمون، ودخلوها، وفتكوا فيها، وقتلوا.

(1) نفح الطيب جـ4 ص 365/ الروض المعطار ص 91.

ص: 379

ثم أمر أمير المسلمين بضرب الطّبول، وزعقت البوقات، فاهتزّت الأرض، وتجاوبت الجبال والآفاق (1) . ودوّت:"الله أكبر"وأشعل النار في المعسكر القشتالي، فطار لبّ الفونسو، واضطّربت قلوب النّصارى، وعادوا إلى محلّتهم بغضب، فصدموا جيش أمير المسلمين، فأفرج لهم عن محلتهم، ثم كر ّعليهم، فأخرجهم منها، ثم كرّوا عليه فخرج لهم عنها، ولم تزل الكرّات تتوالى في خطة محكمة لأمير المسلمين لإضعاف فرسان النّصارى، وإنهاك رجّالتهم، تمهيداً للقضاء عليهم جميعاً، وفي أثناء ذلك جمع جيش الأندلس شتاته وعادت إليه معنوياته فتحوّل مع الأرْسال المرابطيّة وفرسانهم إلى الهجوم المضادّ، فوقع الجيش الصّليبي بين مطرقة المرابطين وسندان ابن عباد.

وقدّم ابن تاشفين الجمال حيث كان لها نفع عظيم، إذ كانت خيول فرسان النصارى تجفل منها، وتلوي أعناقها عندما تسمع رغاءها، لعدم تعوّدها على رؤيتها. كما كان لقرع الطّبول أثر في تخلخل أفئدة النّصارى. فتوالى استنزاف قوّة النّصارى. ويوسف يحمل بنفسه وهو على فرسه يرغب في الصبر والاستشهاد ويقول بأعلى صوته:

"يا معشر المسلمين، اصبروا لجهاد أعداء الله الكافرين، ومن رزق منكم الشّهادة فله الجنّة، ومن سلم فقد فاز بالأجر العظيم والغنيمة". وتمتّع المسلمون بمعنويّات عالية فقاتلوا قتال من يطلب الشهادة ويتمنّى الموت (2) ، وكانت كلمات يوسف مع بسالته تعمل عملها في إذكاء حماس المسلمين، وقيل إن لصموده وقوته وسرعة حركته، قتلت تحته في هذه المعركة ثلاث أفراس (3) .

(1) انظر: نفح الطيب جـ4 ص 366- 368 عن ابن خلكان جـ6 ص 116 وهو ينتقل بدوره عن كتاب تذكير العاقل وتنبيه الغافل للبياسي.

(2)

روض القرطاس ص95.

(3)

التواتي ص 297.

ص: 380

وأما ابن عباد فقد بذل جهداً مشكوراً، وأثبت كفاءة عالية في هذا اليوم، وصبر فعندما اشتدت صدمة النّصارى وانكشف بعض أصحابه وفيهم ابنه عبد الله، ضُرب على رأسه ضربة فلقت هامته حتى وصلت إلى صدغه، وجُرحت يُمنى يديه، وطُعنَ في أحد جانبيه، وعُقرت تحته ثلاثة أفراس، كلما هلك واحد قُدّم له آخر، وهو يقاسي حياض الموت ويضرب يميناً وشمالاً، وتذكّر في تلك الحالة ابناً له صغيراًَ كان مُغرماً به تركه في أشبيلية عليلاً، وكنيته أبو هاشم فقال (1) :

أبا هاشم هشمتني الشّفار

فلله صبري لذاك الأوار

ذكرت شُخَيْصَك تحت العجاج

فلم يثنني ذكره للفرار

وهكذا اتّبع يوسف في قتاله للنّصارى أسلوب الكرّ والفر ّبالصّفوف المتراصة المتماسكة وهو نظام أربك النّصارى لأنهمّ لم يعهدوه من قبل. وبعد عديد من الكرّات أدرك الأمير تضعضع النّصارى، فعندئذ ضرب ضربته الأخيرة، إذ أمر حشمه السّودان، فترجّل منهم زهاء أربعة آلاف، ودخلوا المعترك بدرق اللمّط، وسيوف الهند، ومزاريق الران، فطعنوا الخيل، فرحت بفرسانها (2)، وترجّل معهم عدد آخر من الأجناد: فآمّن الله المسلمين وقذف الرّعب في قلوب المشركينِ (3) . وطُحِنوا بين العسكرَيْن المُسْلِمَينْ. ودارت الدّائرة على قوات الفونسو، وجرح جرحاًَ بالغاً، إذِ لصق به عبد أسود طعنهُ في فخذه بخنجر، فتسلّل ومعه حوالي خمسمائة فارس مثخنين جراحاًَ وانسحب من المعركة، وفر ّجيشه، وطورد الفارّون في كلّ مكان، حتى دخل الظّلام فأمر ابن تاشفين بالكفّ عن المطاردة، وتسلّل الفونسو مع جماعته في جنح الظلام فارّاً إلى طليطلة، حيث توفّي أكثرهم في الطّريق، ولم يدخل معه طليطلة إلا حوالي مائة فارس (4) .

(1) نفح الطيب جـ4 ص366.

(2)

نفح الطيب جـ4 ص 368/ ابن خلكان جـ6 ص 116.

(3)

الحلل الموشية ص 43/ تاريخ المغرب الكبير ص 725.

(4)

نفح الطيب جـ4 ص 369/ الروض المعطار ص 93.

ص: 381

لقد استمرّت المعركة يوماً واحداً لا غير، حطّم الله شوكة العدو ّالكافر، ونصر المسلمين، وأجزل لديهم نعمه، وأظهر بهم عنايته، وأجمل لديهم صنعه (1) . وكلّ الدلائل (التي بيّناها) تشير أن خطّة أمير المسلمين كانت حسم المعركة بسرعة حتّى وإن كَثُرَت الخسائر، وذلك لاستغلال حماس المسلمين وقبل أن تفتر همة أمراء الطّوائف. وتحقّقت خطّته بأمر الله.

واستشهد عدد كبير من المسلمين بينهم عدد من العلماء الفضلاء وأعيان النّاس. ومن العلماء: ابن رميلة صاحب البشرى، وقد ترجم له ابن بشكوال في الصّلة (2) فوصفه بأنه:"كان كثير الصّدقة وفعل المعروف، واستشهد بالزلاّقة مُقبلاً غير مدبر عام 479 هـ". واستشهد العالم أبو مروان عبد الملك المصمودي قاضي مرّاكش (3) . والفقيه أبو رافع الفضل ولد الِحافظ العالم الأندلسي الفقيه الأديب أبي محمد بن حزم، قضى في معركة الزلاقة شهيداَ (4) .

وهكذا كان العلماء على المقدّمة في كافّة الميادين، حصون الأمة وقادتها، ومثالها، قدوة للمسلمين، مثالاً صافياً نقيّاً دائماً، لا ينزوون عن الأحداث، ويبرزون في صفاء الجود والنّعمة، لا سيّما علماء القرآن الكريم والسنّة المطهرّة، وعلماء الشّريعة، والتّاريخ، والقضاء، لأن العلم إيمان وعمل، وصدارة العلم لها مسئوليتها وتكاليفها، فرحمهم الله وأجزل لهم المثوبة.

(1) نفح الطيب جـ4 ص 367/ أعمال الأعلام جـ3 ص 244.

(2)

68 رقم 144/ وانظر نفح الطيب جـ4 ص 369/ الروض المعطار ص 93.

(3)

الروض المعطار ص 94- 95.

(4)

وفيات الأعيان جـ3 ص 329/ وقد حدّث عن والده: سير أعلام النبلاء جـ18 ص 186.

ص: 382

استولى المسلمون على ما كان مع الجيش النصراني الكبير من مال وسلاح، ودواب، وغيرها. وقد عفّ عنها يوسف بن تاشفين وآثر بها ملوك الأندلس، وعرّفهم أنّ مقصده الجهاد، والأجر العظيم، وما عند الله في ذلك من الثّواب المقيم (1) .] وهذا درس عملي ألقاه عليهم، ولكنهم لم ينظروا إلى أبعاده ومراميه [،. فأحبّوه، واجتمعوا، وكانوا ثلاثةْ عشر ملكاً، فسلّموا عليه (بأمير المسلمين) ، وكان يدعى (الأمير) . وأرسل إلى الخليفة العباسي المقتدي بأمر الله ببغداد، فأتته الخلع، والأعلام، ولقّبه بأمير المسلمين، وناصر الدين (2) .

وضرب السّكّة من يومئذ وجدّدها، ونقش ديناره:(لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، وتحت ذلك:(أمير المسلمين يوسف بن تاشفين) . وعلى الوجه الآخر: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} الآية 85 من سورة آل عمران، وتحت ذلك:(الأمير عبد الله أمير المؤمنين العبِّاسي) . وفي الدائرة: تاريخ ضرب الدينار وموضع سكّه (3) .

نتائج الزلاّقة:

طُيّرت أنباء النّصر الحاسم إلى سائر القواعد الأندلسية، وشاعت أنباؤه في سائر الجنبات، فاستبشر المسلمون بما آتاهم الله من عزيز نصره، وكتب أمير المسلمين رسالة عن الموقعة وتفاصيلها وأوصافها إلى المعز بن باديس صاحب إفريقية، وتجاوبت أصداء النّصر في سائر مدن المغرب وإفريقية، وعمّ الفرح والبشر سائر الناس، فأخرجوا الصدقات، وأعتقوا الرّقاب (4) . فكانت الزّلاّقة يوماً مشهوداً من أيّام الإسلام، محت العار الذي لحق ملوك الأندلس من مذلّة الفونسو السادس لهم. وفيه يقول بعضهم من قصيدة (5) :

لم تعلم الروم إذ جاءت مصممة

(1) نفح الطيب جـ4 ص 369/ الروض المعطار ص 93.

(2)

الكامل في التاريخ جـ8 ص 143.

(3)

المؤنس ص 109/ وفيات الأعيان جـ7 ص 115/ أعمال الأعلام جـ3 ص251.

(4)

انظر عنان- دول الطوائف ص 328.

(5)

المؤنس ص 108.

ص: 383

يوم العَروُبة أنّ اليوم للعرب

والعرب تسمي الجمعة (العَروُبة) . ويعبّر صاحب الحلل الموشية عن ذلك بقوله (1) :"وكان يوماً لم يُسمع بمثله من اليرموك والقادسية، فياله من فتح، ما كان أعظمه، ويوم كبير ما كان أكرمه، فيوم الزلاقة ثبتت قدم الدين بعد زلاقتها، وعادت ظلمة الحق إلى إشراقها، نفست مخنق الجزيرة بعض التنفس، واعتز ّبها رؤوس الأندلس.."فانتعشت النفوس وقوّت الآمال، فأعادت للوجود الإسلامي اعتباراته، وكان يوشك على الأفول، وأظهرته من جديد في ثوب قشيب رائع، ليواصَل حياته الجهادية مدى قرون أخرى.

وحرّرت الزّلاّقة سرقسطة وحمتها من الوقوع بأيدي القوى الصّليبيّن التي كانت تحاصرها عند نزول قوات المرابطين بالأندلس.

ورفعت من شأن المرابطين وأميرهم يوسف بن تاشفين أمام الرّأي العام الإسلامي، بجهادهم وذبّهم عن ثغور الإسلام، واتجهت أنظار المسلمين إليهم للتخلّص من أمراء الطّوائف، فاتخذ يوسف صورة المنقذ للمسلمين في الأندلس، فمهّد ذلك لإسقاط ملوك الطوائف، وضمّ الأندلس إلى دولة المرابطين في المغرب لحمايتها من هجمات النّصارى.

(1) ص 47، عبد العزيز سالم- المغرب الكبير ص 728.

ص: 384

والغريب أن أمير المسلمين لم يستغلّ انتصار المسلمين الحاسم في الزلاقة، فلم يطاردوا عدوّهم، بل لم يحاولوا السّير إلى طليطلة (إلا بعد مدة طويلة) لاستردادها وهي كانت معقد المحنة التي دفعت أمراء الطّوائف للخضوع إلى طلب النّصرة، وقد تفرّق الجيش الإسلامي، فارتدّ أمراء الأندلس كلٌّ إلى بلاده، في حين رحل المعتمد بن عباد إلى أشبيلية ومعه أمير المسلمين، الذي أقام بظاهر أشبيلية ثلاثة أيام، ووردت عليه من المغرب أخبار تقتضي العزم، فسافر وذهب معه ابن عباد يوماً وليلة، فحلف ابن تاشفين وعزم عليه في الرجوع.. فسيّر معه ولده عبد الله إلى أن وصل البحر وعبر إلى المغرب (1) . وقد علّق اشباخ على موقعة الزلاقة فقال (2) :"إن يوسف بن تاشفين لو استطاع أن يستغل نتائج انتصاره في معركة الزلاقة، لكانت أوربا الآن تدين بالإسلام، ولرأينا القرآن يدرس في جامعات موسكو وبرلين ولندن وباريس". ولسنا نحن بصدد لو فإن لو تفتح عمل الشيطان. ولكننا نتساءل: لماذا لم يستغل المسلمون انتصارهم؟!. ولنحاول أن نتلمّس الجواب من بين الأحداث السابقة واللاحقة.

(1) نفح الطيب جـ4 ص370/ الروض المعطار ص 93.

(2)

تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين ص 117.

ص: 385

إنّ الّذي يتعمّق في تاريخ الأندلس يجد أنّ بذور التّفكّك والانحلال قد أصابت البنية الإسلامية هناك، ولم يعد المسلمون قادرين على الاندفاع في وثبات هادفة مركِّزة، فقد أصبح همَّهم الدّفاع، وفقدوا روح الهجوم والمبادرة والمفاجأة، كما اتّخذ الجهاد صورة غير الصّورة التي كان عليها أيام الفتح الإسلامي الأوّل، فقد اتّصف بكثير من صور اليأس والانتحار، وهكذا فقد الجهاد معنَاه من إزالة الحواجز في طريق الدعوة، وتبليغها ونشرها. وأصبح همّهم الحفاظ على ما هم عليه من رفاهية العيش ومن الانغماس في الملذّات، فإذا اشتدّ الخطر نهضوا بحماس آنيّ ثم يعودون للفتور السّريع مستسلمين مستخذين، وقد أدرك أمير المسلمين ذلك تماماًَ، ولذا خطّط لإنهاء المعركة وحسمها في يوم واحد قبل أن تفز همّة أهل الأندلس، وقبل أن تظهر بين ملوكهم عواطف الأثرة والحسد، لتتغلّب على عوامل الاتّحاد والقوّة، فتكون كارثة على المسلمين. وقد رأينا موقف ابن سكوت وابن المعتمد قبل عبور المجاهدين!. وظهر بعد الزّلاّقة إذ تحالف بعضهم سّراً مع الفونسو السادس أملاً في طرد المرابطين، كما فعل عبد الله بن بلكين بن باديس أمير غرناطة (1) . فوجود ملوك الطوائف كان العامل الأول الذي حال دون استغلال المعركة لصالح الإسلام في أوربا.

ثم إن يوسف أدرك أنّ القوّة التي يقابلها في الأندلس ليست قوى أسبانيا النّصرانية بل قوى أوربا بأكملها تحركهم كنيسة روما فِي حملات صليبِّية لا تهدأ، فوضع استراتيجيته في عدم التّقّدم إلاّ بعد تأمين خط الرّجعة تماماًَ. وهذا ما طبقّه منذ دخوله الأندلس.

(1) التبيان لعبد الله الزيري ص 108.

ص: 386

ثم كان ورود خبر وفاة ولده أبي بكر بن عمر وكان قد استخلفه في مراكش وتركه مريضاً بسبتة، فخشي الفوضى في المغرب فقرّر العودة فوراً إلى المغرب ويؤكّد لنا صاحب القرطاس أنّه لولا ذلك المصاب ما عاد يوسف بمثل هذه السّرعة (1)

عاد يوسف إلى المغرب ليبدأ خططاً جديدة، وترك قوات مرابطية للجهاد تقدّر بثلاثة آلاف، رهن تصرف المعتمد بن عباد بقيادة قائده الشجاع سير بن بكر. بعد أن قدم النصح بحرارة لملوك الطوائف بنبذ الفرقة والعمل للوحدة (2) .

(1) عنان- الطوائف ص 329، عن روض القرطاس ص 98.

(2)

التبيان- لعبد الله الزيري ص 106، اتهم المستشرقون يوسف بن تاشفين بسوء النية، والطمع في خيرات الأندلس، والقضاء على ملوك الطوائف، من عبارات التقطوها من عبد الواحد المراكشي في المعجب في الصفحات 132، 135، 136، 137 وما بعدها. ومن المعروف أن عبد الواحد أملى كتابه من ذاكرته. وفيما بيّناه خلال هذا البحث ما يدل على هدف يوسف: الجهاد وحماية الإسلام. انظر: مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية جـ2 ص 292 وما بعد.

ص: 387

أمّا النّصارى فقد بدأوا بتغيير مخطّطاتهم التي رسمها لهم الفونسو السّادس لقتال المسلمين في الحرب التي دعوها حرب الاسترداد (1) . وأخذت الكنيسة هي التي تضع الخطط وتتابع تنفيذها، واستسلمت أسبانيا النصرانية لأحضان الكنيسة الروّمانيّة المتعصبّة، وخضعت لسياستها الحربيّة، بإقصائها جميع الرهبان الذين قد يزددون في السّير مع ما تحدّده الكنيسة دون قيد أو شرط. ودفعت الآَباء البندكتيين بزعامة الراهب الفرنسي برنار لمحاربة المسلمين، واعتبرت حرب المسلمين مقدّسة يعادل أجر المشارك فيها أجر الّذين دفعتهمٍ إلى قلب العالم الإسلامي في المشرق بعد ذلك. بل إن البابا اسكندر الثاني أصدر مرسوما حرّم فيه على رجالَ الدّين الأسبان المشاركة في الحروب الصليبية في الشّرق، وأكّد أن محاربة المسلمين في أسبانيا تفوق أهمية وقدراً محاربتهم في الشّرق.

(1) درج كثير من المؤرخين المسلمين على تسمية الحرب الصليبية ضد المسلمين في الأندلس: (حرب الاسترداد) كما فعل مؤرخو النصارى، وهذا تعبير خاطيء لأن السلمين عندما فتحوا الأندلس لم يسلبها السكان النصارى أراضيهم ولم يخرجوهم من ديارهم، بل نشروا عقيدة الإسلام فأسلم الناس طوعاً وتسلموا راية الإسلام مع العرب والبربر المسلمين. والنصارى الذين قاموا بالهجوم على مسلمي الأندلس في أكثريتهم من نصارى أوربا، فهم في الحقيقة الذين أخرجوا المسلمين من ديارهم أو أجبروهم على التنصر أو أبادوهم!!.

ص: 388

وهكذا تمكّنت الكنيسة من الزّجّ بكثير من نصارى أوربا في صفوف مقاتلة ملوك أسبانيا، بحيث أصبح معينُهم لا ينضب من الرّجال والمال والسّلاح. فاستطاع الفونسو بسرعة مدهشة أن يحشد جيشاً جديداً جاءت إمداداته من فرنسا ونورمندية وألمانية، والفلاندر بروح صليبيّة، ولم يمضِ عام واحد على هزيمته حتى تمكّن من استعادة قواه، وأخذ المبادرة وبدأ بعمليّات الهجوم، ونقل ميدان نشاطه إلى شرق الأندلس، وتحالف مع الكامبيدو، وأنشأ حصن اليدو (الييط) بين مرسية ولورقة، وافر المناعة ضخماً، شحنه بالسلاح والمال والرّجال، وبلغت حاميته ثلاثة عشر ألفاً منهم ألف فارس، بالإضافة إلى أنه ضم جماعات نصرانية التجأوا إليه، واتّخذه النّصارى قاعدة للإغارة على أراضي مرسية والمرية، وبثّوا الرعب والفزع في قلوب المسلمين في تلك الأنحاء، وعجزت القوات الأندلسية عن ردّ عدوانهم، فضجّ أهل تلك الأنحاء وعادت الوفود من أهل الأندلس تترى على أمير المسلمين وخاصة من بلنسية ولورقة ومرسية، فكثر الصريخ، وكثرت رسل الإنجاد والغوث (1) . وتلقىّ الكتب من فقهاء الأندلس وأعيانها، يلحفون في رجاء الإنجاد والغوث لقمع بغي النّصارى والاستيلاء على اليدو مركز بغيهم، وعبر ابن عبّاد بنفسه مع بعض خاصّته والتمس منه العون (2) .

(1) عنان- الطوائف ص 332/ الحلل الموشية ص47 و48.

(2)

المغرب الكبير ص 730.

ص: 389

جاز أمير المسلمين البحر للمرة الثّانية بقواته في ربيع الأول عام 481 هـ/1088 م وتلقّاه ابن عباد في الجزيرة الخضراء، وبعث بكتبه إلى ملوك الطّوائف ورؤسائهم يستدعيهم جميعاً للجهاد، فوافوه عند حصن لييط، حيث ألقى عليه الحصار، وسلّط عليه المسلمون آلات الحصار الضّخمة، لمدة أربعة أشهر، إلى أن استولى عليه الأمير وخرّبه (1) .

وفي مدّة الحصار الطّويل هذا أحسّ أمير المسلمين بالاستياء لما شهده من أحوال أمراء الطّوائف المشاركين في الحصار، فقد كان الخلاف والتنافر والوقيعة بين أولئك الأمراء الطّامعين، كما وصله خبر تفاهم ابن رشيق أمير مرسية مع ملك قشتالة سراً، وأنه قد دفع إليه جباية مرسية، وأنه يعاون حامية الحصن في الخفاء. وأخذ أمراء الطوائف يتراشقون التّهم أمام يوسف ويحكّمونه في منازعاتهم، حتى ضاق ذرعاً بذلك (2) .

عاد أمير المسلمين إلى المغرب وهو علىٍ يقين أنّ وجود ملوك الطوائف معناه ضياع الإسلام في هذه البلاد، وكان قد ترك جيشاً مجاهداً من المرابطين من أربعة آلاف فارس تحت إمرة داود ابن عائشة ليعمل في منطقة مرسية وبلنسية، وأخذ يعدّ خططه لاستئصال شأفة ملوك الطوائف. وأثناء ذلك بلغه توافقهم لقطع المؤن والمدد عن عساكره ومحلاته التي تركها بالأندلس، فساءه ذلك كثيراً، وبلغه أن بعضهم عاد إلى مصادقة الفونسو ومالأه كعبد الله ابن بلكين، والمعتمد بن عباد نفسه، فشاور الزعماء والفقهاء وأعيان النّاس، وتلقّى فتاوى من فقهاء المغرب والأندلس ومن أكابر فقهاء المشرق بوجوب خلع ملوك الطوائف.

(1) تاريخ إفريقيا الشمالية جـ2 ص 114 في حين تذكر المصادر الأخرى أن أمله خاب في الاستيلاء عليه فآثر الانسحاب، وإن الفونسو خربه بعد ذلك حين قرر إخلاءه بعد فقد أن حاميته حيث لم يجد فيه سوى مائة فارس وألفي راجل عام 482 هـ/ 1089 م/ انظر: عنان- الطوائف ص 338.

(2)

انظر: المغرب الكبير جـ2 ص 730.

ص: 390

جاز أمير المسلمين إلى الأندلس للمرة الثالثة في أوائلِ عام 483 هـ، واتّسمت حملته بطابع الجهاد، ليتأكد من مواقف ملوك الطوائف، فسار توّاَ إلى طليطلة واجتاح في طريقه أراضي قشتالة، ولم يتقدم أحد من أمراء الطوائف، لمعاونته أو السير معه، وعاث المرابطون في أحواز طليطلة، وخربوا ضياعها، وانتسفوا زروعها، ثم ضربوا حولها الحصار، وبداخلها الفونس وحليفه سانشو، ثم تراجع أمير المسلمين عنها لصعوبة فتحها، وليصفي حسابه مع ملوك الطّوائف، لتوحيد كلمة الأندلس، وتكوين جبهة أندلسية مغربية لمواجهة الأخطار الصليبية.

عاد يوسف إلى المغرب في شهر رمضان عام 483 هـ، وفوّض إلى قائده الكبير سير اللمتوني شئون الأندلس، وتصفية الحساب مع ملوك الطّوائف، حيث أمده عام 484 هـ بأربعة جيوش مرابطيّة لمنازلة الطّوائف. وقام بالمهمة ولم يستثن منهم سوى المستعين بالله أحمد ابن هود صاحب سرقسطة لقيامه بحقّ الجهاد (1) . وكان آخر من استسلم: أشبيلية يوم 21 رجب عام 484 هـ، وسيق ابن عبّاد أسيراًَ ليقضي بقيّة حياته في اغمات (2) . واستراحت الأندلس الإسلامية من ملوكها الضّعاف، وعاشت في ظلّ المرابطين سعيدة في رفاهية، وعلى أحسن حال ودخلت مرحلة جديدة من القوة، وكُتب على المرابطين أن يحملوا راية الجهاد أمام هجمات الصليبية الحاقدة، دون كلل أو ملل في الوقت الذي اشتدّ فيه ساعد النّصارى بما تدفّق عليهم من فرسان الصليبية، واتسع نطاق الحروب الصليبية، فاستولى النورمان على صقلية نهائيا عام 484 هـ (3) .

(1) الحلل الموشية ص 73.

(2)

نفح الطيب جـ2 ص 453/ الإحاطة في أخبار غرناطة جـ2 ص 82/ العبرجـ2 ص 358- 359/ الكامل جـ8

ص 177/ المؤنث ص 109/ عنان- الطوائف ص 354.

(3)

العبر جـ2 ص 347/ الكامل في التاريخ جـ8 ص 157.

ص: 391

وهاجم الفونسو جيّان في الأندلس في جموع صليبية عظيمة عام 485هـ فالتقاه المسلمون فانهزموا، ثم تراجع الناس وثبتوا، ونزل النّصر وكان ملحمة كبيرة قتل فيها خلق كثير من النّصارى (1) .

وهاجم النّصارى بلنسية عام 488 هـ، واستسلمت بعد حصار دام 20 شهراً (2) وأحلّ النصارى بأهلها أنه المحن وامتحُنوا بأفانين البلاء، وقام الكامبيدو بعمليات الحرق والتهجير، فحركت مشاعر المسلمين كما حدث يوم سقوط طليطلة، وقد صور الشعر الأندلسي هذه المأساة، يقول الشاعر البلنسي المعاصر أبو اسحق بن خفاجة (450- 533هـ) (3) :

عاثت بساحتك الظّبا يا دار

ومحا محاسنك البلا والنار

فإذا تردّد في جنابك ناظر

طال اعتبار منك واستعبار

أرض تقاذفت الخطوب بأهلها

وتمخضّت بخرابها الأقدار

كتبت يد الحدثان في عرصاتها

لا أنت أنت ولا الدّيار ديار

وقد سيرّ يوسف جيشاً بقيادة أخيه محمد بن تاشفين لاستعادتها، فانهزم المسلمون أولاً، ثم تمكّنوا من استعادتها عام 495 هـ/1102م بقيادة الأمير المرابطي أبي محمد مزدلي (استشهد بالأندلس عام 508 هـ)(4) .

وفي هذه الفترة تبلغ الحرب الصّليبيّة ذروتها شرقاً وغرباً، فسقطت بيت المقدس (مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولى القبلتين) عام 492 هـ في أيدي الصليبين، ودقّت الأجراس في كلّ أنحاء أوربا فرحاً بذلك (5) ، واستخفّ الطرّب بالبابا باسكال الثاني فكان مرسومه بإعلان الحروب الصليبية في أسبانيا ضد المسلمين (6) .

(1) العبر جـ2 ص349/ الكامل جـ8 ص160.

(2)

البيان المغرب جـ7 ص 356/ نفح الطيب جـ4 ص 455/ أعمال الأعلام جـ2 ص 204.

(3)

نفح الطيب جـ4 ص 455.

(4)

البيان المغرب جـ4 ص 41، 42، 60.

(5)

اشباخ - تاريخ الأندلس ص 111.

(6)

انظر التواتي ص 422- 424.

ص: 392

وعلى ذلك فإن أثر الزّلاّقة في إثارة الحروب الصليبية لا يقلّ عن أثر ملاذكرد. وإثارة الحروب الصليبية هذه دعا النّصارى المعاهدين والذين كانوا يعيشون في ظلّ الحكم الإسلامي بأمن ورفاهية، يقومون بالأعمال التخريبية داخل المجتمعات الإسلامية، فاتصلوا بطرقهم الخاصة بالفونسو يعلنون استعدادهم ليكونوا أدلاء على عورات المسلمين، وأن يقدموا له حوالي 12 ألفا من المقاتلين، وشجّعوه على غزو المسلمين (1) وكانوا عوناً له.

. وتوفي أمير المسلمين عام 500 هـ عن عمر ناهز المائة (2) ، ولم يمنعه السن الكبير من الجهاد والعناية بشئون دولته، والسهر على رعيته، فكان رحمه الله من أهل الخير والاقتداء، وورثه ابنه علي بن يوسف الذي استمر في سيرة أبيه من القيام بالعدل وتولي الجهاد (3) . في الأندلس.

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبي الهدى والرحمة.

(1) اشباخ ص147/ التواتي ص 604.

(2)

العبر جـ2 ص 381/ ابن خلكان جـ7 ص 115 وقيل ابن بضع وثمانون سنة/ سير الأعلام جـ19 ص 254.

(3)

المؤنس ص 109.

ص: 393

المنهج في البحث

لما كانت الآيات الكريمات تشمل عشر وصايا توضح جانباً عظيما أقامته الشريعة الإسلامية في مبادئها النظرية والتطبيقية، وفيه تحديد الأسس- التي يقوم عليها إصلاح البشرية رأَيت أن لا أخالف المنهج القرآني. في سرد الِوصايا مرقمة حسب تسلسلها في كتاب الله عز وجل وقد جعلت كل وصية عنواناً مستقلاً وتابعت بحث ما تضمنه الوصية من مبادئ وأحكام تحت عناوين جانبية ورأيت أن من تمام البحث التعرض لكل ما يخدم البحث من حيث بيان الغريب. والنظر في الجانب اللغوي مما له علاقة في توضيح المعنى مع الإفادة التامة من أقوال أئمة التفسير واستخدام المصادر وتوثيق المعلومات. والله تعالى أسأل حسن القصد والتمام والبعد عن اللغو والآثام. وأن يوفقنا لحفظ شريعته وخدمة دينه.

بعض ما جاء في فضل هذه الآيات

ما من شك أن كل آية في كتاب الله عز وجل تزخر بالفضيلة، وهي معين يفيض بالخير، ويتدفق بالهداية، ومن ذلك الخير ما حوت هذه الآيات، ومن ذلك النور ما أضاءت به طريق الحائرين حتى تركت لهم جادة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وما في هذه الآيات من نور يشع بالخير والهداية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها هو وصية الله إلى عباده، ووصية محمد صلى الله عليه وسلم إلى أمته.

قال الترمذي رحمه الله:

حدثنا الفضل بن الصباح البغدادي [1] ، حدثنا محمد بن فضيل [2]، وعن داود الأودي [3] عن الشعبي [4] عن علقمة [5] : عن عبد الله [6] قال: "من سره أن ينظر إلى الصحيفة [7] التي عليها خاتم محمد صلى الله عليه وسلم فليقرأ هذه الآيات":

{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُم} الآية إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [8] . وقال عقبه: هذا حديث حسن غريب [9] .

ص: 394

وقال الطبري رحمه الله: حدثنا ابن وكيع [10] قال: ثنا إسحاق الرازي [11] ، عن أبي سفيان [12]، عن عمرو بن مرة [13] قال: قال الربيع [14] : "ألا أقرأ عليكم صحيفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفل [15] خاتمها؟ فقرأ هذه الآيات {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُم} "[16] .

وقال رحمه الله: حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا جرير [17] ، عن الأعمش [18] ، عن إبراهيم [19]، عن علقمة [20] قال:"جاء إليه نفر فقالوا: قد جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فحدثنا عن الوحي"، فقرأ عليهم هذه الآيات من الأنعام {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا} قالوا:"ليس عن هذا نسألك"[21] قال: "فما عندنا وهي غيره"[22] .

سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه المبايعة عليها:

قال أبو عبد الله الحاكم رحمه الله:

حدثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار [23] ، حدثنا محمد بن مسلمة الواسطي [24] ، حدثنا يزيد بن هارون [25] ، أنبأنا سفيان بن حسين [26] ، عن الزهري [27] ، عن أبي إدريس [28]، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يبايعني على هؤلاء الآيات، ثم قرأ {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} حتى ختم الآيات الثلاث، فمن وفى فأجره على الله، ومن انتقص أدركه الله بها في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخر إلى الآخرة، كان أمره إلى الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له"[29] . قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإِسناد ولم يخرجاه"[30] . وقد وافقه على هذا الحافظ الذهبي رحمه الله [31] .

صلة الآيات بالكتب السماوية:

قال الطبري رحمه الله:

ص: 395

حدثنا محمد بن المثنى [32]، ومحمد بن بشار [33] قالا: ثنا وهب بن جرير [34] قال: ثنا أبي [35] قال: سمعت يحي بن أيوب [36] يحدث عن يزيد بن أبي حبيب [37] ، عن مرِثد بن عبد الله [38]، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار [39] قال:"سمع كعب الأحبار [40] رجلاً يقرأ {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} فقال: والذي نفس كعب بيده، إن هذا لأول شيء في التوراة،- بسم الله الرحمن الرحيم، قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم"[41] .

الآيات من محكم القرآن:

قال الطبري رحمه الله:

حدثنا محمد بن الحسين [42] قال: ثنا أحمد بن المفضل [43] قال: ثنا أسباط [44]، عن السدي [45] قال:"هؤلاء الآيات التي أوصى بها من محكم [46] القرآن"[47] .

وقال أبو عبد الله الحاكم رحمه الله:

حدثنا بكر بن محمد الصيرفي [48] بمرو، ثنا عبد الصمد بن الفضل [49] ، ثنا مالك بن إسماعيل النهدي [50] ، ثنا إسرائيل [51] عن أبي إسحاق [52]، عن عبد الله بن خليفة [53] قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: "إن في الأنعام آيات محكمات، هن أم الكتاب، ثم قرأ {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} الآية"قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"[54] ، ووافقه على هذا الحافظ الذهبي [55] رحمه الله.

مناسبة الآيات لما قبلها:

ص: 396

إلتمس علماء التفسير مناسبة للربط بين هذه الآيات وما سبقها، فتحصل من السياق أن الله عز وجل لما بين فساد رأي الكفار وضلالهم فيما حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام والثمار وأوضح سفههم في ذلك، وأبطل دعواهم بمطالبتهم بالبرهان ولا قدرة ألم عليه. فلله الحجة البالغة. ناسب بعد ذلك أن يوجههم بالأسلوب الحكيم إلى ما يجب عليهم إتباعه من شرع الله عز وجل لا مما تمليه عليهم أهواؤهم، وتسوقهم إليه رغباتهم فيضعوا لأنفسهم قانوناً فيما يحل وما يحرم. بل مرد ذلك إلى العليم الخبير الذي أوضح لهم بِأقوى بيان كمال قدرته عز وجل وشدة عجزهم عن تدبير شئونهم [56] . فقال تعالى موجهاً الأمر إلى عبده ورسوله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم:

{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَاّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} .

سؤال وجوابه

ص: 397

قال العلماء قد يسأل سائل فيقول: قال الله تعالىِ: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ

} الآيات. وعندما نتأمل الآيات نجد عدداً من الأوامر اندرج تحت قوله: (ما حرم) كالإحسان إلى الوالدين، والوفاء في الكيل والميزان، والعدل في القول، والوفاء بالعهد، وإتباع شرع الله وهذه الأشياء مأمور بها وليس منهياً عنها فبم يوجه هذا؟.

والقول في جواب هذا أن أهل العلم لم يغفلوا عن هذا الإشكال من حيث الظاهر وأجابوا بأجوبة عديدة منها:

1-

قوله تعالى: {حَرَّمَ رَبُّكُمْ} معناه وصاكم به ربكم فضمن حرَّم معنى وصّى، ويؤيد هذا الفهم ما جاء في آخر الآية قال تعالى:{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِه} فالتحريم هنا مضمن معنى الوصية، وإذا نظرت في المعنى تجد أن الوصية فيه أعم من التحِريم. فكل تحريم وصية من الله عز وجل إلى عباده، وليس كل وصية تحريما، لأنها تكون بتحريم وبتحليل، وبوجوب وندب، وليس أمراً غريباً أن يراد بالتحريم الوصية، ومن الأساليب عند العرب ذكر اللفظ الخاص وإدارة العموم، أو العكس فتذكر اللفظ العام وتريد به الخاص وبناء على ما تقرر فإن تقدير الكلام: قل تعالوا أتل ما وصاكم به ربكم، ثم حصل إبدال قوله تعالى:{أَلَاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} منه. وذلك على وجه البيان والتفسير. أي وصاكم أن لا تشركوا به شيئاً ووصاكم بالإحسان إلى الوالدين

الخ. فجمعت الوصية ترك المحرمات وفعل المأمورات. وهذا التوجيه في نظري حسن جداً [57] .

ص: 398

2-

أن تكون (أن) في قوله تعالى: {أَلَاّ تُشْرِكُوا} تفسيرية لفعل النهي الدال عليه التحريم وفعل الأمر المحذوف، والتقدير: أتل ما حرم عليكم وما أمركم به، فحذف وما أمركم به لدلالة (ما حرم) عليه لأن معنى ما حرم ربكم، ما ينهاكم ربكم عنه، فالمعنى قل تعالوا أتل ما نهاكم ربكم عنه وما أمركم به، ولا مانع من عطف الأمر على النهي والعكس ومن شواهده قول إمرئ القيس: يقولون لا تهلك أساً وتجمل [58]

3-

جاز ذلك لجواز عطف الأوامر على النواهي لكونها تفسيراً لها باعتبار لوازمها التي هي النواهي المتعلقة بأضداد ما تعلقت به، فإن الأمر بالشيء مستلزم للنهي عن ضده، بل هو عينه عند البعض، كأن الأوامر ذكرت وقصد لوازمها، فإن عطف الأوامر على النواهي الواقعة بعد (إن) المفسرة لتلاوة المحرمات، مع القطع بأن المأمور به لا يكون محرما دليل وأضح على أن التحريم راجع إلى الأضداد، على الوجه المذكور [59]

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

أصله من نهاوند، ثقة مات سنة خمس وأربعين ومائة.

[2]

ابن غزوان، صدوق، رمي بالتشبع.

[3]

ابن يزيد، الأودي، الزعافري، ضعيف، مات سنة إحدى وخمسين ومائة.

[4]

عامر بن شراحيل، ثقة مشهور.

[5]

ابن قيس، النخعي، ثقة ثبت.

[6]

ابن مسعود رضي الله عنه.

[7]

لعل في هذه التسمية ما يشير إلى أنها من الصحف المنزلة قبل الإسلام ويأتي البيان إن شاء الله

[8]

الآيات من (151-153) من سورة الأنعام.

ص: 399

[9]

الجامع 5/ 264. قد أشكل هذا المسلك للِإمام الترمذي رحمه الله على العلماء، ويذكر الدكتور نور الدين عنتر وهو صاحب بحث في جامع الترمذي أنه إذا قال: حسن غريب فهو يريد ما كان دون الصحة لكنه ليس بضعيف وهو الحسن لذاته، وقد يريد غرابة السند لا المتن (أنظر تعليقه على مقدمة ابن الصلاح ص 36) . ويؤيد أنه أراد غرابة السند أن الرواية أخرجها البيهقي في شعب للإيمان والطبراني وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردوية كلهم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه (الدر المنثور 3/ 54) وهو شبيه بحديث عمر إنما الأعمال بالنيات. فلينظر.

وعلى هذا الفهم فالحديث حسن لذاته عند الترمذي رحمه الله. وإن كان في سنده داود بن يزيد الأودي مجمع على ضعفه (انظر التهذيب 3/ 205) لكنه ضعف محتمل، ولذلك قال ابن عدي رحمه الله: ولم أر في حديثه منكراً يجاوز الحد، وداود وإن كان ليس بالقوي في الحديث، فإنه يكتب حديثه ويقبل إذا روى عنه ثقة. (الكامل 3/948) وتلميذه محمد بن فضيل صدوق، وبقية رجال السند ثقات وتقدم البيان. ويقويه ما يأتي من إيضاح.

[10]

سفيان بن وكيع، صدوق، بلي بوراقة، ولم يقبل النصح، فسقط حديثه.

[11]

هو ابن سليمان، أبو يحي، ثقة فاضل، مات سنة مائتين.

[12]

سعيد بن سنان الشيباني، صدوق له أوهام أخرج له مسلم والأربعة.

[13]

الجملي، الأعمى، كان لا يدلس، ثقة، عابد، رمي بإرجاء أثنى عليه الأئمة، وله صفات جميلة (انظر التهذيب 8/102)

ص: 400

[14]

ابن خثيم بن عائذ الثوري، ثقة عابد، قال له ابن مسعود رضي الله عنه: لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبك. لكن عمر وبن مرة في غالب ظني أنه لم يسمع منه فإني لم أجده في تلاميذ الربيع، ولا الربيع في شيوخه، ثم إن بين وفاتيهما خمساً وأربعين سنة، والربيع من الثانية، وعمرو من الخامسة وأخرجه الطبري من طريق أخرى عن الربيع غير أنه قال: عن رجل عن الربيع (الطبري 8/ 64) .

[15]

أي لم يكسر خاتمها، ومعنى الفل: الكسر. (انظر اللسان 11/ 530 والصحاح 2/ 260) .

[16]

الطبري 8/ 64.

[17]

ابن عبد الحميد بن قرط، ثقة، صحيح الكتاب.

[18]

سليمان بن مهران، ثقة، حافظ، لكنه يدلس.

[19]

ابن يزيد النخعي، ثقة، يرسل كثيراً.

[20]

ابن قيس ثقة ثبت تقدم. وهو يروى عن ابن مسعود فضل هذه الآيات، فيكون إبراهيم متابعاً لداود الأودي في أصل هذه الرواية.

[21]

الذي يظهر لي أنهم أرادوا أن يقص عليهم خبر الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على نحو ماروت عائشة رضي الله عنها لكنهم صرفهم إلى هذا ليرشدهم إلى فضلها وأهميتها وقوله: (ليس عندنا وحي غيره) الضمير يعود على القرآن فلا يفهم أنه نفى ماعدا هذه الآيات.

[22]

الطبري 8/64.

[23]

نقل السبكي عن الحاكم أنه قال: هو محدث عصره وكان مجاب الدعوة (طبقات الشافعية 2/178) وهذه التزكية من أبي عبد الله الحاكم لشيخه ولها قيمتها لقوة الصلة ومزيد الخبرة رحم الله الجميع.

ص: 401

[24]

أبو جعفر، قال الخطيب رحمه الله: في حديثه مناكير بأسانيد واضحة، ونقَل عن الحاكم أنه سمع الدار القطني يقول: لا بأس به، ونقل الخطيب تضعيفه عن آخرين. (تاريخ بغداد 3/305) . وأمر الحاكم واضح في هذا فقد أخذ بقول الدارقطني رحمه الله وإن كنت لم أجد هذا في سؤالاته للدار قطني ولا الضعفاء المتروكون له ولعله في كتاب آخر بل الذي في سؤالات البرقاني للدار قطني (متروك) أنظر ص 28 لكن العجيب أن الحافظ الذهبي يوافق الحاكم على صحة الحديث مع أنه لا يرضى عن محمد بن مسلمة حسبما نفهم من ترجمته له (في الميزان 4/41) فهل تبع الحاكم في أخذ يقول الدارقطني أو أنها كبوة ولكل جواد كبوة.

[25]

أبو خالد، الواسطي، ثقة متقن.

[26]

أبو محمد، الواسطي ثقة في غير الزهري باتفاقهم.

[27]

محمد بن مسلم، الفقيه الحافظ، المتفق على جلالته وإتقانه.

[28]

الخولاني عائذ بن عبد الله، سمع من كبار الصحابة ،وكان عالم الشام بعد أبي الدرداء.

[29]

لاشك أن من المعلوم للمسلم أن الشرك لا يدخل تحت هذا القول فهو مخصوص بقوله تعالى {إن الله لا يغفر أن يشرك} الآية 48 من النساء وإذا علم فإن قوله هذا أصل مذهب السنة والجماعة لأنه فيما عاد الشرك وقتل النفس على خلاف في الأخير من الكبائر التي يدخل أصحابها تحت مشيئة خلافاً للخوارج القائلين بأن مرتكب الكبيرة مخلد في النار وهو مذهب واضح البطلان.

ص: 402

[30]

(المستدرك 2/318) وتقدم الكلام عن هذا التعليق (4) والحديث في سنده محمد بن مسلمة الواسطي أقل أحواله الضعف وسفيان ضعيف في الزهري. لكن الحديث أصله في الصحيحين من رواية الزهري، عن أبي إدريس، عن عبادة رضي الله عنه، دون قوله:"من يبايعني على هؤلاء الآيات ثم قرأ- قل تعالوا أتل ما حرم الله عليكم -حتى ختم الآيات الثلاث-". ولينظر (الصحيح مع الفتح 1/64 وصحيح المسلم 3/1333) ولفظ الحاكم أخرجه عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ ابن مردوية عن عبادة بن الصامت (الدر المنثور 3/381) .

[31]

انظر (التلخيص المستدرك 2/318) .

[32]

الزّمن، ثقة، ثبت، وهو قرين محمد بن بشار بندار، وماتا سنة واحدة.

[33]

بندار قرين سابقة، ثقة

[34]

ابن حازم، ثقة.

[35]

جرير بن حازم أبو النضر وهو والد وهب، ثقة، يضعف إدا حدث عن قتادة، وله أوهام إذا حدث من حفظه ولم يحدث في حال اختلاطه.

[36]

أبو العباس، الغافقي، صدوق ربما أخطأ روى له الجماعة.

[37]

أبو رجاء، المصري، ثقة، فقيه، وكان يرسل.

[38]

أبو الخير، المصري: ثقة، فقيه.

[39]

كان مميزا يوم الفتح فعد في الصحابة.وعده آخرون في ثقات التابعين. أنظر (أسد الغابة 5/341 والثقات للعجلي ص 318) .

[40]

كعب بن ماتع الحميري، من أهل اليمن وسكَن الشام، ثقة مخضرم.

ص: 403

[41]

الطبري 8/ 64 والإسناد لا يقل عن درجة الحسن فرجاله أئمة كبار وكون يحي بن أيوب في مرتبة صدوق ربما أخطأ لا ينزل بدرجته عن الحسن فإن الجماعة أخرجوا حديثه ومنهم الإمامان البخاري ومسلم ومن كان حوله فقد جاز القنطرة إن شاء الله وثبتت عدالته. ثم إن ابن أبي شيبة وابن الضريس وابن المنذر أخرجوا عن كعب أنه قال: "أول ما نزل من التوراة عشر آيات هي العشر التي أنزلت في سورة الأنعام"{قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم- إلى آخرها} أنظر (الدر المنثور 3/381) قال الشوكاني رحمه الله: هي وصايا العشر التي في التوراة.

أولها أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر، من بيت العبودية، لا يكن لك إله غيري.

ومنها: أكرم أباك وأمك ليطول عمرك في الأرض، التي يعطيك الرب إلهك.

لا تقتل- لا تزن. لا تسرق.

لا تشهد على قريبك شهادة الزور.

ولا تشته بنت قريبك.

ولا تشته إمرأة قريبك.

ولا عبده.ولا أمته.ولا حماره، ولا شيئا لقريبك.

قال رحمه الله: فلعل مراد كعب الأحبار هذا لليهود بهذه الوصايا عناية عظيمة ،وقد كتبها أهل الزبور في آخر زبورهم، وأهل الإنجيل في أول إنجيلهم ، وهي مكتوبة في لوحين ، وقد تركنا منها ما يتعلق بالسبت (فتح القدير 2/179) قلت معلوم تحريف اليهود للتوراة ، ولا يبعد أن يكون اللفظ محرفاً في البعض وعلامته بادية سيما قوله: لا تشهد على قريبك

الخ، فإن مفهومه جواز ذلك فيما عدا القريب وهذه عقيدتهم المحرفة إستحلال دماء وأموال وأعراض الآخرين وحاشا شرع الله أن يسمح بذلك بل إن كعبا تلا الآيات والله أعلم.

[42]

ابن موسى ابن أبي حنين، الكوفي صدوق. انظر (الجرح والتعديل 7/230) .

[43]

أبو علي، الحضرِي، شيعي، صدوق، في حفظه شيء روى له مسلم.

[44]

ابن نصر الهمداني صدوق، كثير الخطأ.

[45]

إسماعيل بن عبد الرحمن، صدوق يهم، رمي بالتشيع ،روى له مسلم.

ص: 404

[46]

تقول: أحكمت شيء فاستحكم، فصار محكماً، واحتكم الأمر، واستحكم وثق، وإحكام القول إتقانه، بتميز الصدق من الكذب، والحق من الباطل، والهدى من الضلال ،ولذلك وصف الله كتابه العزيز فقال:{كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} الآية (1) من سورة هود أي أحكمت وفصلت بجميع ما يحتاج إليه من الدلائل على توحيده عز وجل ، وإثبات نبوة الأنبياء وختمهم بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وبيان شرائع الإسلام. فالقرآن الكريم كله محكم متقن ، فمعانيه متفقة وإن اختلفت ألفاظه وهو متشابه في الأحكام والإتقان ، متماثلة في الأوامر والنواهي يصدق بعضه على بعضا ويفسر بعضه بعضا، وفيه إحكام خاص وتشابه خاص قال تعالى:{وهو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات وأخر متشابهات} الآية (7) من سورة آل عمران. فالحكم الناسخ ،والحلال ، والحرام ، والحدود ، والفرائض ، والوعد ، والوعيد ، والمتشابه المنسوخ ، والكيفية في الأسماء والصفات ، وفواتح السور ، وهذه الآيات محكمات لما تضمنت من الأوامر والنواهي. (انظر اللسان 12/143)

[47]

الطبري 8/64.

[48]

لم أقف على ترجمته.

[49]

لم أقف على ترجمته.

[50]

أبو غسان، ثقة، متقن، صحيح الكتاب.

[51]

ابن يونس، بن أبي إسحاق السبيعي، ثقة التكلم فيه ، بلا حجة.

[52]

عمرو بن عبد الله، السبيعيِ، مكثر، ثقة، اختلط بأخرة وقد وصفه النسائي وغيره بالتدليس (انظر إتحاف ذوي الرسوخ ص40) لكنه من الطبقة التي توقف فيها جماعة ولم يحتجوا إلا بما صرح فيه بالسماع ، وقبلهم آخرون مطلقاً. (المصدر السابق ص 11)

[53]

الهمداني ، مقبول.

[54]

المستدرك 2/317.

[55]

التلخيص مع المستدرك 2/317. والغرِيب أن الحافظ الذهبي يقول عن عبد الله بن خليفة: لا يكاد يعرف. (الميزان- 2/414) وتقدمت الإشارة لمثل هذه الملاحظة ص 6.

ص: 405

[56]

التسهيل2/ 25، الإرشاد 3/ 197، الفتوحات 2/106، القاسمي 6/ 780 الظلال 3/ 420، المجدد 2/ 185.

[57]

التسهيل 2/25.

[58]

البحر 4/249

[59]

الإرشاد 3/198

ص: 406

أطيب النشر في تفسير الوصايا العشر

الدكتور مرزوق بن هياس آل مرزوق الزهراني

أستاذ مساعد بكلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية

الجامعة الإسلامية – المدينة المنورة

الوصية الأولى

قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [1] .

البحث اللغوي:

أ- المفردات:

قل: فعل أمر موجه إلى عبد الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

تعالوا: أي أقبلوا وهلموا. وهذا من الخاص الذي صار عاماً. فالأصل فيه أن يقوله من هو في مكان عالٍ لمن هو أسفل منه، ثم كثر واتسع فيه حتى عمَّ [2] .

أتل: من التلاوة والمراد بها القراءة.

حرم: من التحريم وهو المنع، والحرام الشيء الممنوع منه، ويكون المنع بأمور. إما بتسخير إلهي، وإما بمنع قهري، وإما بمنع من جهة العقل، أومن جهة الشرع، أومن جهة من يرتسم أمره، وهو في هذه الآية من جهة القهر بالمنع [3]، كقوله تعالى:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} [4] .

ب- النحو:

أتل: جواب الأمر، أي إن تأتوني أتل.

ما: في قوله تعالى: {مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} : فيها ثلاثة أقوال.

1-

أنها موصولة بمعنى الذي، والعائد محذوف، والتقدير: الذي حرمه، والموصول في محل نصب مفعول به. وهذا هو الأظهر.

2-

أنها مصدرية، والتقدير: أتل تحريم ربكم، والتحريم نفسه لا يتلى، وإنما هو مصدر واقع موقع المفعول به، والتقدير: أتل محرم ربكم الذي حرمه هو عز وجل.

3-

أنها استفهامية في محل نصب بحرم بعدها، وهي معلقة لأتل، والتقدير: أتل أي شيء حرم ربكم؟ وهذا ضعيف لأنه لا يعلق إلا أفعال القلوب وما حمل عليها [5] .

عليكم: فيها وجهان:

ص: 407

1-

أن الجار والمجرور متعلق بحرم، وهو اختيار البصريين.

2-

أنه متعلق بأتل، وهو اختيار الكوفيين. فالمسألة من باب الإعمال، وقد عرف أن اختيار البصريين إعمال الثاني، واختيار الكوفيين إعمال الأول [6] . ورجح بعض العلماء الأول قالوا: لأنه أنسب بمقام الاعتناء بإيجاب الانتهاء عن المحرمات المذكورة، وهو السر في التعرضِ لعنوان الربوبية معَ الإضافة إلى ضميرهم، فإن تذكيرهم بكونه تعالى رباً لهم، ومالكاً لأمرهم على الإطلاق من أقوى الدواعي إلى انتهائهم عما نهاهم عنه أشد انتهاء، و (أن) في قوله تعالى:{أَلَاّ تُشْرِكُوا بِهِ} مفسرة لفعل التلاوة المعلق بما حرم و (لا) ناهية كما ينبئ عنه عطف ما بعده من الأوامر والنواهي عليه [7] .وقد أطال العلماء نفسر البحث في قوله تعالى {أَلَاّ تُشْرِكُوا بِهِ} من الناحية النحوية وحرر كل ما ورد في ذلك سليمان بن عمر العجلي الشهير بالجمل رحمه الله [8]

الإيضاح

قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} أمر الله عز وجل نبيه ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يبينِ للناس من المحرمات ما يقتضي الحال بيانه، مستخدما لأسلوب الحكيم في ذلك إيذاناً بأن حق العباد اجتناب ما حرم الله ورسوله واتباع شرع الإسلام الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الأسود والأبيض فيقول لهم صلى الله عليه وسلم: يا من حرموا ما أحلَ الله (تعالوا) وهو أمر من التعالي. ولا يمنع أن يحمل على الأصل تعريضاً لأولئك الذين شرعوا مالم يأذن به الله، بأنهم يا حضيض الجهل والبعد عن المنهج السديد، ولو استجابوا لنداء الله ورسوله لتعالوا وترفعوا إلى ذروة العلم وقنة العزة.

قوله تعالى: {أَلَاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} . هذه أولى الوصايا العشر، وبدأ سبحانه وتعالى هذه الوصايا بتحريم الشرك لأمور ثلاثة كما ظهر لي.

ص: 408

1-

إن الشرك أكبر الكبائر وأعظم الذنوب قال تعالِى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [9] وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} [10] وقال تعالى: {

إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [11] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر- ثلاثاً-؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال الإشراك بالله، وعقوق الوالدين- وجلس وكان متكئا- فقال: ألا وقول الزور

" [12] الحد يث. ويلاحظ هنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم الإشراك على غيره من الكبائر مما يشير إلى أنه أعظم الذنوب وأفدحها.

2-

أن من حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ولذلك خلقهم قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاِّ لِيَعْبُدُونِ} الآية وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [13] الآية. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معاذ أتدري ماحق الله على العباد؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، أتدري ما حقهم عليه؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: أن لا يعذبهم"[14] .

ص: 409

إن الإنسان تتحقق إنسانيته بقلبه وروحه، ولا صلاح له إلا بصلاحهما، ولا صلاح لهما إلا بوحدانية الله عز وجل، إله هذا المخلوق الذي أوجده من العلم، وركب أجزاءه ورباه بنعمه، لا إله إلا هو ولا رب سواه، قال تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [15] وقال النبي الكريم: "

ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" [16] . ولا ريب في ارتباط الروح بالقلب، كما أن بين القلب واللسان ارتباطاً إذ هو المعبر عما في القلب. يقول الشاعر:

لسان الفتى نصف ونصف فؤاد

فلم يبق إلا صورة اللحم والدم [17]

والبراءة من الشرك تتحقق بالعلم والعمل بمقتضى العلم، فيعلم العبد أن هذه المخلوقات بجميع أنواعها بقوتها وضعفها ليس فيئها ما تسكن النفس إليه، وتنعم بالتوجه.

ص: 410

والاعتماد عليه، إلا الله عز وجل قال تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [18] الآية. ويتبع العلم العمل بما شرع الله عز وجل قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [19] الآية. فأعلم تعالى عباده على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أنه حرم عليهم أن يشركوا به شيئاً، فشمل ذلك كل مُشرَك به، ومُشرَك فيه، من أنواع العبادة، فإن قوله:(شيئاَ) من النكرات فيعم جميع الأشياء، ولم يبح عز وجل لعباده أن يشركوا به شيئاً، فإن الشرك أظلم الظلم وأقبح القبائح، قال تعالى حكاية عن لقمان عليه السلام:{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [20] . ولفظ الشرك يدل على أن المشركين كانوا يعبدون الله عز وجل ولكن يشركون به غيره من الأوثان والصالحين والأصنام، فكانت الدعوة واقعة على ترك عبادة ما سوى الله عز وجل، وإفراد الله بالعبادة وحده لا شريك له، وكانت (لا إله إلا الله) متضمنة لهذا المعنى فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الأمة إلى الإقرار بها اعتماد ونطقاً وعما، قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن: "إنكَ تأتي قوماً من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فاعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة

" [21] الحد يث. وقال صلى الله عليه وسلم: "أمرت أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه

" [22] الحديث. وكان المشركون إذا سئلوا عما يقول لهم محمد صلى الله عليه وسلم، قالوا: يقول "اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً واتركوا ما يقول آباؤكم" [23] . وكانوا يعلمون دلالة لا إله إلا الله، ولذلك أنكروا

ص: 411

التوحيد قال تعالى حكاية عنهم: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [24] وحقيقة الشرك أن يعتقد الإنسان في بعض المخلوقات إنها تجلس نفعاً أو تدفع ضررا بتأثير منها. وهذا البلاء عم البشرَية جمعا ولم ينج منه إلا من رحم الله، ومنِ أن الشرك ما يقع فيه الكثير ون اليوم من الاعتقاد فيمن يعظمون من الأولياء، أن آثاراَ عجيبة تصدر عنهم، يزعمون أن ذلك لم يصدر عن أحد منهم إلا لكونه متصفاً بصفة من صفات الكمال، وفاتهم أن الكمال أمر لم يعهد في جنس الإِنسان، بل محله النقص فهو من لوازم العبودية ولاشك، أما الكمال فهو حق لله مختص به دون سواه وأعني بذلك الكمال المطلق، وهم يعنون ذلك فيمن يعظمون حين تصدر منهم أعمال غير

ص: 412

عادية. بل زعم غلاتهم أن ذلك لا يحدث إلا لمن خلع الله عليه صفة الألوهية، أومن يفنيه في ذاته، تعالى عما يقولون علواً كبيراً، وهذه عقيدة أهل وحدة الوجود خسئ أصحابها. والأمثلة على شطحات أهل هذا الاعتقاد يطول بيانها، فأنواع خرافاتهم لا تكاد تحصر ولها مظانها، ومن ذلك ما كان يعبر عنه المشركون بقولهم في حجهم:"لبيك اللهم لبيك لا شريك لك- إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك"[25] ويعنون شركاءهم الذين يعاملونهم معاملة العباد مع الله، ومن أصابهم هذا الداء العضال اليوم وإن لم يكن اللفظ الوارد عن مشركي العرب في تلبيتهم ظاهراً في تلبية هؤلاء غير أنه معنى يتجلى في أعمالهم وتصرفاتهم، والشرع لا يبحث إلا عن الأعمال والتصرفات، التي باشرها الناس بنية تعظيم مخلوق من المخلوقات، حتى صار ذلك العمل مظنة للشرك ولازما له في العادة، فالأعمال ترجمة عما في القلوب، ولازم الشيء يعطى حكمه، وقد أقام الشرع العلل الملازمة للمصالح والمفاسد مقامها ونظراً لخطورة هذا الأمر فلا بد من التنبيه على أمور جعلها الله عز وجل في الشريعة المحمدية- على صاحبها أكمل الصلاة وأتم التسليم- مظنات للشرك فنهى عنها، منها:

ص: 413

أ- منها أن المشركين كانوا يسجدون للأصنام والنجوم وغيرها من الأوثان فجاء النهي عن السجود لغير الله عز وجل قال تعالى: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [26] ولم يكن الإشراك قاصراً على السجود بل يتعده إلى التدبير لأن السجود ناشئ عن التعظيم والتعَظيم ناشئ عن اعتقاد في المعظَّم أنه متصرف في الكون، ولديه القدرة على التدبير، وهذه الخطورة قد يكون منشؤها زعم بعض المتكلمين أن توحيد العبادة حكم من أحكام الله، وهو مما يقع الخلاف فيه باختلاف الأديان لا يطالب بدليل برهاني، وهذا ظاهر الفساد، فلو كان الأمر كذلك، لم يقع الإلزام من الله عز وجل بتفرده بالخلق والتدبير، قال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُون أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ. أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ. أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ. أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ. أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ

ص: 414

مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [27] وإن من يمعن النظر في هذه الآيات يجد صواعق محرقة لأوهام الجاهلية في كل زمان ومكان، وحجة دامغة تدك تلك الأفكار الواهية والحق أنهم اعترفوا بتوحيد الخلق والتدبير ولكن في الأمور العظام قال تعالى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [28] فالتوحيدان متلازمان ولا يجوز الفصل بينهما، ولكنهم لا يعقلون.

2-

أنهم كانوا يستعينون بغير الله عز وجل في حوائجهم، من شفاء المريض، وإغناء الفقير، ويقدمون القرابين ويفعلون النذور، لأنهم يتوقعون إنجاح مقاصدهم بذلك، ويتلون أسماءهم رجاء بركتهم، فأوجب الله عليهم أن يقولوا (إياك نعبد وإياك نستعين) في كل يوم وليلة سبع عشره مرة، ونهاهم عن دعوة غيره فقال:{فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [29] والمراد هنا عموم العبادة، ومنها الدعاء، ومرت الدعاء الاستعانة لقوله تعالى:{بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [30] .

ص: 415

ومنها أنهم كانوا يتخذون أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله عز وجل، وذلك بأنهم كان يعتقدون أن الحلال ما أحله الرهبان، وأن الحرام ما حرموا، فما أباحوا لهم أخذوه، وما حرموه عليهم امتنعوا عنه ويتجلى هذا حين نزل قوله تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [31] فسأل عدي بن حاتم رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "كانوا يحلون أشياء فيستحلونها، ويحرمون عليهم أشياء فيحرمونها"[32] والحكم بحلية الشيء أو بتحريمه لا يؤخذ إلا عن الله عز وجل قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [33] فتحديد الأشياء التي يؤاخذ عليها العباد والتي لا يؤاخذون عليها أمر خاص برب العباد، فتكوين أسباب المؤاخذة من عدمها له وحده، ورسم الحدود وتشريع الأوامر والنواهي في كل شأن من صفاته تعالى، قال عز وجل:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [34] أما نسبة التحليل والتحريم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبمعنى أن قوله صلى الله عليه وسلم أمارة قطيعة تدل على تحليل الله وتحريمه، إذ هو المبلغ عن الله عز وجل قال تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [35] وهو الصادق الأمين خياله قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} [36] ونسبة التحليل والتحريم إلى العلماء المجتهدين من أمته صلى الله عليه وسلم تكون بمعنى روايتهم ذلك عن الشرع، وأخذ الحكم من نص الشارع الحكيم، أو استنباطه من كلامه صلى الله

ص: 416

عليه وسلم. ومما يجب التنبيه إليه أن الله عز وجل إذا بعث رسولاً، وأيد صدقه بالمعجزات والآيات البينات، وأحل على لسانه بعض ما كان محرماً عند قوم. وحصل من بعض الناس تردد وإحجام عن قبول ما أحلّ، وأصبحت نفسه تميل إلى التحريم، لما كان عليه من الحرمة فلا يخلو هذا المتردد من أحد أمرين:

الأول: أن يكون ما حصل منه تردداً في ثبوت هذه الشريعة فهو كافر بالنبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [37] .

الثاني: أن يكون صدور ذلك منه لاعتقاد وقوع التحريم الأول تحريماً لا يحتمل النسخ، لأنه يعتقد أن الذي حرم ذلك، قد خلع الله عليه خلعة الألوهية، أو صار فانيا في الله عز وجل، أو غير ذلك من الاعتقادات الباطلة، فذلك مشرك بالله عز وجل. إذ أشرك مع الله غيره في هذا الأمر، وأثبت للغير غضباً ورضاً مقدسين، وتحليلاً وتحريماَ مقدسين. وتعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

4-

أنهم كانوا يتقربون إلى الأصنام والنجوم، إما بإهلال بأسمائهم عند الذبح، وإما بالذبح على الأنصاب المخصوصة لهم، فحرم الله عز وجل ذلك قال تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا َّمَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُب} [38] الآية وقال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله من ذبح لغير الله"[39] .

5-

إنهم كانوا يسمُون السوائب [40] والبحائر [41] تقرباً إلى شركائهم فحرم الله عز وجل ذلك فقال: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ} [42] الآية.

ص: 417

6-

وكانوا يعتقدون في أناس أن أسماءهم مباركة ومعظمة، ويعتقدون أن الحلف بأسمائهم على الكذب يستوجب نقصاً في المالي والأهل، فلا يقدمون على ذلك، ولذلك كانوا يستحلفون الخصوم بأسماء الشركاء بزعمهم، فحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، أخرج الإمام النسائي رحمه الله بسنده من طريق مصعب بن سعد قال:"كنا نذكر بعض الأمر وأنا حديث عهد بالجاهلية فحلفت باللاتي والعزى، فقال لي أصحاب رسول الله جمع: بئس ما قلت، ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فإنا لا نراك إلا قد كفرت، فأتيته فأخبرته فقال لي: "قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له ثلاث مرات، وتعوذ بالله من الشيطان ثلاث مرات، واتفل عن يسارك ثلاث مرات، ولا تعد له" [43] لما تعاطى الصحابي في قسمه صورة تعظيم الصنم حيث حلف به، أنكر عليه الأصحاب رضي الله عنهم ولما كان ذلك القول يتعلق بالإيمان ظنوه كفراً، ولا ريب أنه رضي الله عنه لم يقصد التعظيم للصنِم غير أن قوله ذلك يتعلقَ بالاعتقاد فكان الإصلاح من النوع الذي يتعلق بالاعتقاد أيضا، فوجهه المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى قول لا إله إلا اللَّه، فإنها إصلاح لما قد يخدش الإيمان، مما يجري على اللسان من غير قصد، كقول هذا، الصحابي رضي الله عنه، وينقل الحافظ عن العلماء أنهم قالوا: "يستحب أن يقول لا إله إلا الله" [44] . وفي نظري أن ما وجه إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من باب الوجوب لا الاستحباب إذ لا صارف يصرفه عن ذلك، فقول لا إله إلا الله هنا يقوم مقام الكفارة إلا أنها تجدد الوحدانية وتصلح سبق اللسان الذي قد يخدش الاعتقاد، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" [45] وقلنا إن الصحابي رضي الله عنه ما قصد ذلك لكونه حديث عهد بجاهلية، لكن شرك في اللفظ دون الاعتقاد، أما من تعمد ذلك فانه يُشك في كفره.

ص: 418

7-

ومن ذلك قصد مواضع مختصة بشركائهم للتبرك بها، ويكون الحلول بها تقرباً منهم فحرم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. قال صلى الله عليه وسلم:"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد" فشد الرحال بقصد العبادة إلى غير هذه المساجد الثلاثة خروج عن الشرع، وإحياء لأمور الجاهلية التي حرمها الإسلام، وما يفعله كثير من المسلمين اليوم عند قبور الأولياء أمر منكر، ومصادم لما شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

8-

كانوا يسمون أبناءهم عبد العزى وعبد شمس وغير ذلك من الأسماء المشعرة بالعبودية لغير الله عز وجل فأنكر الله عز وجل ذلك وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [46] . ولا يظن بآدم وحواء أنهما أشركا بالله عز وجل، لعصمة آدم عليه السلام ولاسيما بعد قصته مع إبليس لعنه الله، والأثر الوارد من طريق الحسن، عن سمرة بن جندب في ذلك، رده الحافظ ابن كثير رحمه من وجوه:

الأول: أنه من رواية عمر بن إبراهيم البصري [47] وثقة ابن معين [48] وقال فيه أبو حاتم الرازي: "لا يحتج به"[49] .

الثاني: أنه ورد من قول سمرة نفسه ليس مرفوعاً. أخرجه ابن جرير في تفسيره [50] .

الثالث: أن الحسن نفسه فسر الآية بغير هذا، فلو كان هذا عنده عن سمرة مرفوعاً لما عدل عنه [51]

قال ابن جرير رحمه الله: حدثنا ابن وكيع [52] قال: حدثنا سهل بن يوسف [53] ، عن عمرو [54]، عن الحسن [55] {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} [56] قال:"كان هذا في بعض أهل الملل، ولم يكن بآدم".

ص: 419

حدثنا محمد بن عبد الأعلى [57] قال: حدثنا محمد بن ثور [58]، عن معمر [59] قال:"قال الحسن: عنى بها ذرية آدم من أشرك منهم بعده".

حدثنا بشر بن معاذ [60] قال: حدثنا يزيد [61] قال: حدثنا سعيد [62]، عن قتادة [63] قال:"كان الحسن يقول: هم اليهود والنصارى، رزقهم الله أولاداً فهودوا ونصروا"[64] .

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وهذه أسانيد صحيحة عن الحسن رضي الله عنه، أنه فسر الآية بذلك، وهو منِ أحسن التفاسير، وأولى ما حملت عليه الآية، ولو كان هذا الحديث [65] عنده محفوظا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عدل عنه هو ولا غيره، ولاسيما مع تقواه لله وورعه، فهذا يدل على أنه موقوف على الصحابي [66] ، ويحتمل أنه تلقاه من بعض أهل الكتاب، من آمن منهم، مثل كعب [67] أو وهب بن منبه وغيرهما [68] .

وقد علم مما سبق أن الأثر المروي فيِ تفسير الآية لا يصح الاحتجاج به [69] وقد ذكره صاحب تيسير العزيز الحميد [70] تفسيرا للآية فلا يصار إليه والحق في ذلك ما ثبت عن الحسن نفسه كما تقدم بيانه. والآية تدل على تحريم اتخاذ الشركاء. ولم يسلم من هذا بعض المسلمين اليوم. فما أكثر من سمى عبد الولي وعبد الرسول وغير ذلك. وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث أنه غير بعض أسماء أصحابه التي تشعر بالعبودية لغير الله عز وجل أوفيها قبح، وفيما تقدم ذكر صور وأشكال للشرك حرمها الشرع فيجب على المسلم أن يحذرها وأن يحذر منها وعند تدقيق النظر فيما سلف يتبين أن المشركين طوائف كثيرة وكثيرة جداً، تعددت بتعدد الأسباب والوسائل المؤدية إلى ذلك وقد ذكر الفخر الرازي رحمه الله أربع طوائف منهم:

ص: 420

ا- طائفة يجعلون الأصنام شركاء لله عز وجل، وإليهم الإشارة بقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [71] .

2-

طائفة يعبدون الكواكب وهم الذين حكى الله عنهم أن إبراهيم عليه السلام أبطل قولهم بقوله: {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [72] .

3 – طائفة حكى الله عنهم أنهم جعلوا لله شركاء الجن قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ} [73] .

4-

طائفة جعلوا لله عز وجل بنين وبنات. وأقام عز وجل الدليل على فساد أقوال هؤلاء [74] . وإذا نظرنا إلى الشرك بالنسبة إلى أقسام التوحيد نجد أن الشرك ينقسم إلى ثلاثة أقسام، وكل منها قد يكون أكبر وأصغر مطلقا، وقد يكون أكبر بالنسبة إلى ما هو أصغر منه، وقد يكون أصغر بالنسبة إلى ما هو أكبر منه. وبيان ذلك فيما يلي:

القسم الأول الشرك في الربوبية وهو نوعان:

ا- شرك التعطيل، وهو أقبح أنواع الشرك. وهو إنكار لوجود الله عز وجل، وممن يمارس هذا الذنب العظيم الدهريون، والطبائعيون، وإمامهم فيه فرعون هو سابقهم إلى هذا الإلحاد إذ قال:{وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [75] . ومن هذا النوع شرك الفلاسفة، القائلين بقدم العالم وأبديته، وأنه لم يكن معدوماَ أصلاً، بل لم يزل ولا يزال، والمخلوقات عندهم جميعا ترجع إلى أسباب ووسائط، اقتضت إيجادها، يسمونها العقول والنفوس [76] ، ومنه أيضاً شرك طائفة وحدة الوجود، مثل ابن عربي [77] ،ابن سبعين [78] والعفيف

ص: 421

النعمان [79] ، وابن الفارض [80] ، وغيرهم من أهل الزيغ والإلحاد، الذين ألبسوه حلية الإسلام، ومزجوه بشيء من الحقِ، حتى راج سوقهم ونفقت بضاعتهم، واغتر بها جَهلاؤهم وعوامهم، ومن ذلك أيضاَ شرك من عطل أسماء الرب عز وجل، وهم غلاة الجهمية [81] والقراطمة [82] .

2-

شرك من جعل مع الله إلهاً آخر ولم يعطل أسماءه وصفاته وربوبيته، ومنه شرك النصارى الذين جعلوه ثالث ثلاثة قال الله تعالى:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَاّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [83] ومنه شرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور، وحوادث الشر إلى الظلمة، ومنه أيضاً شرك الذين يرون أن للكواكب والنجوم تدبيرا لأمر الكون أو زيادة الرزق أو نقصانه، والنجوم خلق من خلق الله لا يجوز أن يعتقد أحد أنها تنفع وتضرمن دون الله، ولذلك أقسم الله بها لصرف الأنظار إلى تدبر عظمة خالقها عز وجل وتدبيره أمرها. قال تعالى:{فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [84] وقال تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [85] فأخبر عز وجل بسجود جنس النجم له عز وجل، ولم تخلق النجوم لتُعبد وإنما خلقت لأمور ثلاثة:

الأول: زينة للسماء قال تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [86] وقال عز وجل: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [87] وقال عز وجل: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [88] وقال تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} [89] .

ص: 422

الثاني: رجوماً للشياطين. قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُو ماً لِلشَّيَاطِينِ} [90] وقال تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ} [91] وقال تعالى: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} [92]

الثالث: علامات يُهتدي بها. قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْر} [93] الآية وقال تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [94] وقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه تعليقاً قال: وقال قتادة:"

خلق هذه النجوم لثلاث، جعلها زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يِهتدي بها، فمن تأول فيها بغير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف مالا علم له به" [95] . فعجبا لمن يعتقد في النجوم أو ينسب إليها شيئا من أسباب الخير، أو دوافع الشر، بعد هذا البيان المنزل في أشرف الكتب على أصدق الخلق وأكرم الرسل صلى الله عليه وسلم، ومن هذا القسم أيضاً شرك غلاة عباد القبور الذين يزعمون أن أرواح الأولياء تتصرف في قضاء الحاجات بعد الموت، فيفرجون الكربات، ويجلبون الخير ويدفعون الشر، وينصرون من دعاهم ويحفظون من اعتصم بهم ولجأ إليهم وهؤلاء أشركوا في الفعل مع الله غيره، ولا ريب أن هذه من خصائص الربوبية، وكم من هالك في هذا الباب من المسلمين اليوم إذا لم تدركهم هداية الله، ويتحصنوا بالتوبة الصادقة ويلجأوا إلى كتاب الله وسنة رسوله لاستقاء عقيدتهم وتنقية ما علق بصدورهم.

القسم الثاني: الشرك في توحيد الأسماء والصفات وهو نوعان:

ص: 423

1-

تشبيه صفات الخالق بالمخلوق، كأن يقول: يد كيدي، وسمع كسمعي، وبصر كبصري، واستواء كاستوائي، وهذا يسمى شرك الشبه، وهذا النوع ينافي قول الله عز وجل {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [96] وقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [97] .

2-

اشتقاق أسماء الآلهة الباطلة من أسماء الإله الحق، كاشتقاق اللات من الإله، والعزى من العزيز، وهذا ما نهى الله عنه في قوله عز وجل:{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [98] . وممن فسر الإلحاد في أسماء الله بالاشتقاق ابن عباس رضي الله عنه. وقال به قتادة رحمه الله [99] .

القسم الثالث: الشرك في توحيد الألوهية والعبادة:

هذا القسم هو الشرك الأعظم وهو شرك الجاهلية وهو نوعان:

ص: 424

ا- أن يجعل العبد لله نداً يدعوه كما يدعو الله عز وجل، ويسأله الشفاعة كما يسأل الله تعالى، ويرجوه كما يرجو الله تعالى، ويحبه كما يحب الله تعالى، ويخشاه كما يخشى الله عز وجل، وجملة القول أنه جعل له إلها آخر يعبده كما يعبد الله، فهذا شرك أكبر وهو الذي قال الله عز وجل فيه:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [100] . وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [101] وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [102] الآية وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [103] الآيات في هذا المقام كثيرة ولا ريب أن الحجة قائمة على العباد ولو لم يحرم الله ذلك إلا بآية واحدة، فكيف وقد تعددت فيه أدلة التحريم كتاباً وسنة.

2-

الشرك الأصغر، كيسير الرياء، والتصنع للمخلوق، وعدم الإخلاص لله عز وجل في العبادة، بل يعمل العبد لحظ نفسه تارة، ولطلب الدنيا تارة، فله من عمله نصيب ولغيره منه نصيب، والله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً، وذكر الإخلاص في كتابه أكثر من عشرين مرة ومن ذلك قوله تعالى:{وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [104] الآية وقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [105] الآية.

ص: 425

ويتبع هذا النوع الشرك بالله عز وجل في الألفاظ كالحلف بغير الله عز وجل، وقول ما شاء الله وشئت، ومالي إلا الله وأنت، وأنا في حسب الله وحسبك، وقد يفضي ذلك إلى الشرك الأكبر بحسب حال قائله ومقصده، والأحاديث الواردة في النهي عن الشرك وبيان أنه أعظم الذنوب كثيرة منها حديث الصحيحين عن أبي ذرٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل فبشرني أنه من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق. قلت: وإن زنى وإن سرق، قال: وإن زنى وإن سرق قلت: وإن زنى وإن سرق وإن شرب الخمر؟ قال: وإن زنى وإن سرق وإن شرب الخمر"[106] وفي بعض الروايات أن الذي قال ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أبو ذر، وأنه عليه الصلاة والسلام قال في الثالثة:"وإن رغم أنف أبي ذر" فكان أبو ذر يقول بعد تمام الحديث: "وإن رغم أنف أبي ذر"[107] وأخرج الإمام البخاري بسنده من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من مات وهو يدعو لله نداً دخل النار"[108] وأخرج الإمام مسلم رحمه الله من حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار"[109] . قال عبد الله بن الإمام أحمد [110] حدثني أبي [111] ، ثنا عفان [112] ، ثنا همام [113] ، ثنا عامر الأحول [114] ، عن شهر بن حوشب [115] عن عمرو بن معد يكرب [116] عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال:"يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني، فإني سأغفر لك ما كان فيك، ولو لقيتني بقراب [117] الأرض خطايا للقيتك بقرابها مغفرة مغفرومغفرة ولو عملت من الخطايا حتى تبلغ عنان [118] السماء ما لم تشرك بي شيئا، ثم استغفرتني غفرت لك وولا أبالي "[119] .

ص: 426

ويؤيد هذا من كتاب الله عز وجل قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [120] . وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَاّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [121] . وقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [122] الآية. وفيما تقدم بيانه حول هذه الوصية كفاية وغنية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

الأحكام

1-

إن المتأمل للأمر الموجه من المولى عز وجل إلى عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم يتضح له أن الله عز وجل كلف رسوله صلى الله عليه وسلم بدعوة العباد إلى ما فيه صلاحهم وفلاحهم ومن ذلك سماعهم لأحكام الله عز وجل وتنفيذها في عباداتهم ومعاملاتهم وفق ما شرع الله. وهذا الذي كلف به رسوله صلى الله عليه وسلم يكلف به المصلحون من أمته ومن سار على نهجه فيجب على من بعده من العلماء أن يبلغوا الناس شريعة الله عز وجل، وأن يبينوا لهم ما حرم الله عليهم وما أحل لهم. قال تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [123] وقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [124] .

2-

أن الشرك حرام وأنه أعظم الذنوب عند الله عز وجل وقد تقدم البيان.

3-

أن التوحيد لا يتحقق إلا بنفي ضده وهو الشرك.

ص: 427

ومما تجب الإشارة إليه هنا أنني استفدت التقسيمات التي مرت من كتاب تيسير العزيز الحميد [125] وحرصت على تدوينها منه لما فيها من فائدة عظيمة وبيان في غاية الوضوح فجزى الله مؤلفه العفو والمغفرة والرحمة الواسعة.

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

انظر الآية (151) من سورة الأنعام.

[2]

الكشاف 2 / 78، الإرشاد 3/197.

[3]

المفردات 114.

[4]

انظر االآية (72) من سورة المائدة.

[5]

الفتوحات 2 / 106، 107.

[6]

الفتوحات 2/ 106، 107.

[7]

الإرشاد 3/198، الروح8/54.

[8]

انظر كتابه الفتوحات 2/107،108.

[9]

الآية (48) من سورة النساء.

[10]

الآية (116) سن سورة النساء.

[11]

جزء من الآية (72) من سورة المائدة.

[12]

صحيح البخاري مع الفتح 5/261.

[13]

الآية (36) من سورة النحل.

[14]

صحيح البخاري مع الفتح 13/347.

[15]

الآية (16) من سورة ق.

[16]

صحيح البخاري مع الفتح 1/126.

[17]

البيت لزهير بن أبي سلمي انظر ديوانه ص89.

[18]

الآية (22) من سورة الأنبياء.

[19]

الآية (19) من سورة محمد.

[20]

الآية (13) من سورة لقمان.

[21]

صحيح مسلم 1/50.

[22]

المصدر السابق 1/51.

[23]

انظر جواب أبي سفيان لهرقل (الصحيح مع الفتح 1/32) .

[24]

الآية (5) من سورة ص.

[25]

صحيح مسلم 2/843.

[26]

الآية (37) من سورة فصلت.

[27]

الآيات من سورة النمل.

[28]

الآية (65) من سورة العنكبوت.

[29]

جزء من الآية (18) من سورة الجن.

[30]

الآية (41) من سورة الأنعام.

[31]

الآية (31) من توبة.

[32]

انظر كلام ابن كثير ومادمن عن هذا 2/348.

[33]

الآية (116) من النحل.

[34]

الآية (59) من يونس.

ص: 428

[35]

الآية (7) من سورة الحشر.

[36]

الآيتان (3، 4) من سورة النجم.

[37]

الآية (65) النساء.

[38]

الآية (3) من المائة.

[39]

صحيح مسلم 1567/3.

[40]

جمع سائبة وهي الناقة كانت تسيب إذا ولدت عشر إناث تركت انظر (الصحاح 1/ 634) .

[41]

جمع بحيرة وهي بنت السائبة تشق أذنها وتترك (الصحاح 1/72) .

[42]

الآية (31) من التوبة.

[43]

سنن النسائي 7/7، 8.

[44]

فتح الباري 11/536.

[45]

سنن الترمذي 4/ 110.

[46]

الآيتان (189، 190) من الأعراف.

[47]

أنظر ترجمته (الجرح 6/ 98) .

[48]

انظر (رواية الدرامي ص 50 رقم 41) .

[49]

أنظر (الجرح 6/98) .

[50]

الطبري 99/9.

[51]

ابن كثير2/274.

[52]

سفيان، أسقط حديثه، وتقادم الكلام فيه.

[53]

الأنماطي، ثقة، رمي بالقدر، مات سنة تسعين ومائة.

[54]

ابن عبيد بن باب، التميمي، معتزلي، كان داعية، مات سنة ثلاث وأربعين ومائة.

[55]

ابن أبي الحسن، البصريَ، ثقة، معروف، مات سنة عشر ومائة.

[56]

انظر الآية (190) من الأعراف.

[57]

الصنعاني ثقة، مات سنة خمس وأربعين ومائتين.

[58]

الصنعاني، ثقة مات ستة تسعين ومائة تقريبا.

[59]

ابن رشد، ثقة ثبت، مات سنة أربع وخمسين ومائة.

[60]

أبو سهل العقدي، صدوق مات سنة بضع وأربعين ومائتين.

[61]

ابن زريع البصري ثقة ثبت مات سنة اثنتين وثمانين ومائة.

[62]

بن أبي عروبة ثقة حافظ له تصانيف من أثبت الناس قي قتادة.

[63]

ابن دعامة رأس الطبقة الرابعة ثقة ثبت مات سنة بضع عشرة ومائة.

[64]

الطبري 9/100 – 101.

[65]

ما ذكر في التفسير الآية أنه كان لا يعيش لآدم وامرأته ولد

الخ.

[66]

سمرة بن جندب رضي الله عنه.

[67]

كعب الأحبار تقدم وهو والذي بعده كانوا من العلماء اليهود فأسلموا.

[68]

ابن كثيبر 2/275.

ص: 429

[69]

للراغب في زيادة الاطلاع ينظر تحفة الأحوذي 8/460- 466، ابن كثير 2/274، 275.

[70]

انظر ص628 وما بعدها. وقد أخرج الأثر الترمذي وقال: حسن غريب. الجامع 5/267.

[71]

الآية (74) من الأنعام.

[72]

الآية (76) من الأنغام.

[73]

الآية (100) من الأنغام.

[74]

الرازي 13/ 222.

[75]

انظر الآية (23) من الشعراء.

[76]

هذا مبني على مذهب الفلاسفة إن العقول والنفوس العلكية عالمة بجميع الأشياء (الذخيرة صح207)

[77]

محمد بن على بن محمد بن أحمد به عبد الله، الطائي، الحاتمي، لقبه محي الدين، وكنيته أبو بكر، وشهرته ابن عربي، ويقال له الشيخ الأكبر، ولد في السابع عشر من رمضان سنة ستين وخمسمائة، (560هـ) من غلاة الصوفية،وأحد القائلين بوحدة الوجود.أنظر (النفاق والزندقة ص111) .

[78]

عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن سبعين، ولد في سنة أربع عشرة وستمائة (614 هـ) عرف السيمياء - ولبس بها على الأغبياء، صنف في الِإلحاد، وله فيه وفي الزندقة كلام كثير، ومن سيئ قوله، لقد كذب ابن أبي كبشة على نفسه حيث قال. لا نبي بعدي- يعنى رسول الله صلى- وقوله: لقد تحجر ابن آمنة واسعاً بقول. لا نبي بعدي. انظر (النفاق والزنادقة ص (120) .

[79]

أبو الربيع، سليمان بن على بن عبد الله بن على العابدي، الكوفي ثم التلمساني، أحد زنادقة الصوفية، ومن عظماء القائلين بالوحدة المطلقة، ومن سيئ قوله: القرآن ليس فيه توحيد، بل كله شرك، ومن اتبع القرآن يصل إلى التوحيد، وكان يقول: نكاح الأم والبنت، والأجنبية واحد- بمعنى أنه لا فرق بين ذات المحرم وغيرها- وإنما هؤلاء المحجوبون قالوا. حرام علينا فقلنا. حرام عليكم. انظر (النفاق والزندقة ص 132) .

ص: 430

[80]

عمر بن علي، ولد سنة ست وسبعين وخمسمائة (576 هـ) أحد القائلين بوحدة الوجود. قال عنه الذهبي رحمه الله: ينعق بالِإلحاد الصريح. له افتراءات وضلال ينوء بحملها، ويبوء بإثمها. انظر (النفاق والزندقة ص 123) .

[81]

أتباع الضال المبتدع أبي محرزجهم بن صفوان الراسبي، زرع شراً عظيماً، وهو من الجبرية الخالصة ظهرت بدعته بترمذ، وقتله سالم بر أحوز المارني بمرو، في آخر ملك في أمية، وافق المعتزلة في نفي الصفات الأزلية، وراد عليهم بأشياء انظر (الفرق بين الفرق ص211، والملل والنحل 1/109)

[82]

فرقة من غلاة الشيعة يستحلون أموال المسلمين ودماءهم وهم أتباع أبي سعيد الحسر بن حهرام الجنابي، وظهرت هذه الفرقة في جمادى الآخرة من سنة ست وثمانين ومائتين وتوالى شرها على المسلمين. انظر (البداية والنهاية 11/ 81) وما بعدها.

[83]

الآية (73) من المائدة.

[84]

الآية (75) من الواقعة.

[85]

الآية (6) من الرحمن.

[86]

الآية (6) من الصافات.

[87]

الآية (12) من فصلت.

[88]

الآية (5) من الملك.

[89]

الآية (16) من الحجر.

[90]

الآية (5) من الملك.

[91]

الآية (35) من الرحمن

[92]

جزء من الآية (9) من الجن.

[93]

الآية (97) مر الأنعام.

[94]

الآية (16) ص الحل.

[95]

الصحيح مع الفتح (6 / هـ 29) .

[96]

الآية (74) من النحل.

[97]

الآية (11) من الشورى.

[98]

الآية (180) من الأعراف.

[99]

1بن كثير 2/269.

[100]

الآية (36) من النساء.

[101]

الآية (37) من النحل.

[102]

الآية (18) من يونس.

[103]

الآية (48) من النساء.

[104]

الآية (29) من الأعراف.

[105]

الآية (5) مر البينة.

[106]

انظر (صحيح مسلم 1/94)

[107]

انظر (صحيح البخاري مع الفتح 11/ 0 36- ا 36) وقد اختصره في أكثر من موضع

ص: 431

[108]

انظر (المصدر السابق 8/ 176) .

[109]

صحيح مسلم 94/1.

[110]

أبو عبد الرحمن، ثقة، مات سنة تسعين ومائتين.

[111]

رابع الأئمة، أحمد بن حنبل، ثقة، فقيه حجة، مات سنة إحدى وأربعين ومائتين.

[112]

ابن مسلم، الباهلي، ثقة، كان إذا شك في حرف من الحديث تركه.

[113]

ابن يحي، العوذي، ثقة ربما وهم، مات سنة خمس وستين ومائة، أو ما قبلها.

[114]

صدوق يخطئ، روى عن الصحابي عائذ بن عمرو مزني، ولم ي دركه.

[115]

صدوق كثير الِإرسال والأوهام- لم يدرك عمرو بن معدي كرب- مات سنة اثنتي عشرة ومائة، وعمرو في عهد عثمان.

[116]

سقط اسم عمرو من المسند وتصحيحه من الدارميِ 2/ 322، وهو الزبيدي، الفارس المشهور، قدم على رسول الله صلى في وفد زبيد، فأسلم. انظر ترجمته (في الِإصابة مع الاستيعاب (7/ 144) .

[117]

مصدر قارب، أي بما يقارب ملأها. (النهاية 4/34)

[118]

بالفتح: هو السحاب، الواحدة عنانة (النهاية 3/313) .

[119]

المسند 172/5 وأخرجه الدارمي بسنده من طريق شهر ني (الدارمي 2/ 322) وهو منقطع بين شهر وعمر ولكنه يتأيد بما أسلفنا الآيات من كتاب الله العزيز ولا مطلب للصحة بعده.

[120]

الآية (53) من الزمر

[121]

الآية (135) من آل عمران.

[122]

الآية (48) من النساء.

[123]

الآية (21) من الأحزاب.

[124]

الآية (108) من يوسف.

[125]

انظر تيسير العزيز الحميد 43- هـ 4.

ص: 432

أطيب النشر في تفسير الوصايا العشر

الدكتور مرزوق بن هياس آل مرزوق الزهراني

أستاذ مساعد بكلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية

الجامعة الإسلامية المدينة المنورة

الوصية الثانية

قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [1] .

المناسبة:

لعل المتأمل في الآيات الكريمة يظهر له أن أعظم الحقوق على الإنسان حق الله عز وجل، ويتمثل في عبادته وحده لا شريك له، وتنفيذ شرعه المبلغ على لسَان عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وهذا لاشك أنه أمر جلي وواضح، فأعظم النعم نعمة العبودية لله وحده لا شريك له، والله عز وجل هو المؤثر الحقيقي في وجود هذا الإنسان واصطفائه وتكريمه على سائر المخلوقات. ويتلو حق الله ونعمته في العظمة حق الوالَدين فقد جعلها الله سبباً لوجود الولد، وإذا كان الله عز وجل أنعم على العبد ورباه بجميع نعمه فقد سخر الوالدين لخدمته وتربيته ورعايته، ولهما من فضل الشفقة والحفظ من الضياع والهلاك فِي وقت الصغر مالا يقدر قدره إلا الله عز وجل لذلك ثنى الله عز وجل بهذا التكليف تكريماً للوالدين، وتنويهاً بأن حقهما أعظم الحقوق بعد حق الله عز وجل [2]، ولذلك قرن شكره تعالى بشكرهما قال تعالى:{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [3]

البحث اللغوي:

أ- في النحو: قوله: (إحسانا) نصب على المصدرية، وناصبه فعل مضمر من لفظه تقديره: وأحسنوا إحسانا.

ب- في المفردات: إحساناً: من أحسن وهو أعم أعمال الخير، قال الراغب رحمه الله: الإحسان فوق العدل، وذلك أن العدل هو أن يعطي ما عليه ويأخذ ماله، والإحسان أن يعطَي أكثر مما عليه ويأخذ أقل مما له.

الإيضاح

ص: 433

قال تعالِى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} المعنى أن مما وصىّ الله به عباده الإحسان إلى الوالدين إحساناً تاماً، لا يدخرون فيه وسعاً، والأمر بالإحسان إلى الوالدين جاء في أكثر من آية منها قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [4] الآية وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [5] الآية وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [6] الآية وقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً} [7] الآية. ولا ريب أن هذا التوكيد المستمر يدل على أن الإحسان إلَى الوالدين من أوجب الواجبات في الشريعة الإسلامية وهل جزاء الإحسان الإحسان، وهو يستلزم ترك الإساءة وإن قلت وتضاءلت، فيكون النهي عن العقوق لازمَاً بالأولى، فإنه من المحرم ومن أكبر الكبائر عند الله عز وجل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ألا أخبر بأكبر الكبائر؟ "قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين"[8] لذا أكد الكتاب والسنة على الإِحسان إلى الوالدين. قال العلماء: إن (أحسن) يتعدى (بالباء، وبإلي) فيقال: أحسن به، وأحسن إليه، والأول أبلغ ولذلك قال تعالى:{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} ولم يقل وأحسن إلى الوالدين، فالإحسان بالوالدين وذي القربى أليق، لأن من أحسنت به هو من يتصل به برك وحسن معاملتَك ويلتصق به مباشرة على مقربة منك وعدم انفصال عنك.

أما من أحسنت إليه، فهو الذي تسدي إليه برك، ولو على بعد أو بالواسطة، إذ هو شيء يساق إليه سوقاً، وقالوا: إن هذه التعدية لم ترد إلا في تعبيرين في مقامين:

ص: 434

1 -

التعبير بالفعل حكاية عن يوسف عليه السلام وهو قوله لأبيه وإخوته: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [9] .

2-

التعبير بالمصدر المفيد للتوكيد والمبالغة في مقام الإِحسان بالوالدين جاء ذلك في أربع سور البقرة والنساء وقد عطف فيهما ذوى القربى على الوالدين بالتبع قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَاّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى} [10] الآية وفي النساء قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى} [11] الآية. وفي الأنعام التي نحن بصدد الكلام عنها، وفي الأحقاف [12] هذا لبيان اهتمام الكتاب العزيز بشأن الوالدين وإلا لولم يرد فيه إلا قوله تعالى:{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} دون توكيد لكفى في الدلالة على عظم عناية الشرع بأمر الوالدين بما تدلى عليه الصيغة والتعدية، فكيف وقد قرنه بعبادته، وجعله ثانيهما في الوصايا، وأكده في سورة الإسراء [13] ، كما قرن شكرهما بشكره في سورة لقمان [14] والأمر بالإحسان إلى الوالدين عام يشمل الأبوين المسلمين، والكافرين إلا إن أمرا بمعصية فلا طاعة لهما قال تعالى:{وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [15] الآية. وقال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [16] الآية. فالآيتان ظاهرتان في عدم طاعة الوالدين في معصية الله وهما آمرتان ببر الوالدين ولو كانا كافرين، يوضح هذا سبب نزول الآيات قال الواحدي [17]

ص: 435

رحمه الله تعالى: قال المفسرون: نزلت في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وذاك أنه لما أسلم قالت له أمه حمنة:"يا سعد بلغن أنك صبوت، فوالله لا يظلني سقف بيت من الضح [18] والريح، ولا آكل ولا أشرب، حتى تكفر بمحمد، وترجع إلى ما كنت عليه". وكان أحب ولدها إليها، فأبى سعد رضي الله عنه، وصبرت هي ثلاثة أيام لم تأكل ولم تشرب، ولم تستظل بظل، حتى خشي عليها، فأتى سعد النبي صلى الله عليه وسلم وشكا ذلك إليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية والتي في لقمان والأحقاف [19]، وساق الواحدي رحمه الله القصة بسنده [20] من طريق أبي يعلى [21] قال حدثنا أبو خيثمة. وهو زهير بن حرب شيخ الإمام مسلم الذي أخرج القصة أيضا عنه بسنده عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية في

القصة [22] . وجاء في رواية أن سعدا رضي الله عنه قال لأمه: "لا تفعلي يا أمه، فإني لا أدع ديني هذا لشيء، قال فمكثت يوماً وليلة لا تأكل، فأصبحت وقد اشتد جهدها، قال فلما رأيت ذلك قلت: تعلمي والله يا أمه، لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً، ما تركت ديني هذا لشيء، إن شئت فكلي، وإن شئت فلا تأكلي، فلما رأت ذلك أكلت"[23] .

ص: 436

هذه القصة الثابتة في سبب نزول الآية تؤكد أن طاعة الوالدين الكافرين واجبة في المعروف قال الحافظ ابن حجر رحمه الله بعد أن ذكر سبب النزول: "اقتضت الآية الوصية بالوالدين، والأمر بطاعتهما، ولو كانا كافرين، إلا إذا أمرا بالشرك- أو بمعصية- فتجب معصيتهما في ذلك، ففي الآية بيان ما أجمل في غيرها"[24]، وقد جاء في كتاب الله عز وجل ما قد يفهم منه معارضة لقوله تعالى:{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} لاسيما إذا كان الوالدان كافرين، وذلك قوله تعالى:{لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ} [25] الآية فالنص على الآباء في الآية مشعر بوجوب عدم الموادة للأبوين الكافرين، قال الشيخ محمد الأمين رحمه الله جواباً عن هذا الأمر:"الذي يظهر لي والله تعالى أعلم: أنه لا معارضة بين الآيتين، ووجه الجمع بينهما أن المصاحبة بالمعروف أعم من الموادة، لأن الإنسان يمكنه إسداء المعروف لمن يوده ومن لا يوده، والنهي عن الأخص لا يستلزم النهي عن الأعم، فكأن الله حذر من الوادة المشعرة بالمحبة والموالاة بالباطن لجميع الكفار، يدخل في ذلك الآباء وغيرهم، وأمر الإنسان بأن لا يفعل لوالديه إلا المعروف، وفعل المعروف لا يستلزم المودة، لأن المودة من أَفعال القلوب، لا من أفعال أن الجوارح، ومما يدل لذلك إذنه صلى الله عليه وسلم لأسماء أن تصل أمها وهي كافرة [26] ، وقال بعض العلماء: إن قصتها سبب لنزول قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} "[27] الآية.

ص: 437

انتهى كلامه رحمه الله [28] . وهو كلام جيد يزول به ما قد يعكر فهم البعض.. وأقول: من العلماء الذين أشار إليهم رحمه الله، الواحدي فإنه أخرج بسنده [29] من طريق أبي يعلى- أنه قال- حدثنا إبراهيم بن الحجاج [30] ، حدثنا عبد الله بن المبارك [31] ، عن مصعب بن ثابت [32] ، عن عامر بن عبد الله بن الزبير [33]، عن أبيه [34] قال: قدمت قتيلة بنت عبد العزى على ابنتها أسماء بنت أبي بكر [35] بهدايا، ضباب، وسمن، وأقط، فلم تقبل هداياها، ولم تدخلها منزلها، فسألت لها عائشة النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال:{لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} الآية. فأدخلتها منزلها، وقبلت هداياها [36] . وإذا كانت لكتاب الله عز وجل عناية بالوالدين فإن السنة المحمدية لم تغفل أمرهما، فقد كان نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم يؤكد على طاعة الوالدين وبرهما، تارة بالترغيب وأخرى بالترهيب، فمن الأول ما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:"سألت النبي صلى الله عليه وسلم، أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل؟ قال: الصلاة على وقتها، قال: ثم أي؟ قال: بر الوالدين قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله. قال: حدثني بهن ولو استزدته لزادني "[37] . ويلاحظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدّم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله الذي هو من أكبر الحقوق العامة على الإنسان لأن حق الوالدين حق خاص ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لرجل قال له: "أجاهد؟ قال: لك أبَوان؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد"[38] .

ص: 438

ومن الثاني قوله صلى الله عليه وسلم: "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه ويسب أمه"[39] . وما ذكر في الحديث فرد من أفراد العقوق، وإن كان التسبب في لعن الوالدين من الكبائر فالتصريح بلعنهما أشد. وقد فرقت السنة بين حق الأب والأم قال أبو هريرة رضي الله عنه:"جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، من أحق بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من: قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك"[40] . نقل الحافظ ابن حجر عن ابن بطال قوله: مقتضاه أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر. قال: "وكأن ذلك لصعوبة الحمل، ثم الوضع، ثم الرضاع، فهذه تنفرد بها الأم وتشقى بها، ثم تشارك الأب في التربية، وقد وقعت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [41] فسوى بينهما في الوصاية وخصَ الأم بالأمور الثلاثة".

قال القرطبي: "المراد أن الأم تستحق على الولد الحظ الأوفر من البر، وتقدم في ذلك على حق الحب عند المزاحمة"[42] .

وقال عياض: "وذهب الجمهور إلى أن الأم تفضل في البر على الأب، وقيل: يكون برهما سواء. ونقله بعضهم عن مالك. والصواب الأول"[43]

ص: 439

قال الحافظ ابن حجر: إلى الثاني ذهب بعض الشافعية- أي أنهما في البر سواء- لكن نقل الحارث المحاسبي الإجماع على تفضيل الأم في البر [44] ، وفيه نظر والمنقول عن مالك ليس صريحاً في ذلك، فقد ذكره ابن بطال قال:"سئل مالك، طلبني أبي فمنعتني أمي؟ قال: أطع أباك ولا تعص أمك". قال ابن بطال: هذا يدل على أنه يرى برهما سواء كذا قال، وليست الدلالة على ذلك بواضحة [45] . هذا جزء مما ذكره الحافظ في هذا الموضوع ومن يرغب في الاستيعاب فعليه بمراجعة المصدر وليعلم أن السنة تزخر بالحث على بر الوالدين، ليس في حياتهما فحسب بل بعد موتهما، قال أبو أسيد الساعدي رضي الله عنه:"بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاء رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله، هل بقى من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ فقال: نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما"[46] . وكما أن الكتاب العزيز ربط شكر الوالدين بشكر الله عز وجل، كما تقدم بيانه، كذلك السنة النبوية ربطت رضى الوالدين برضى الله عز وجل، وسخطهما بسخطه عز وجل قال الترمذي رحمه الله: حدثنا أبو حفص عمر بن عل [47] ، حدثنا خالد بن الحارث [48] ، حدثنا شعبة [49] ، عن يعلي بن عطاء [50] ، عن أبيه [51] ، عن عبد الله بن عمرو [52]، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"رضى الرب من رضى الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد"[53] . وقد أكثرت السنة من التنويه بشأن الوالدين وعظم حقهما، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكد ذلك في كل مناسبة. ولاشك أن من قصر في حق والديه لا يرجى منه خير للإسلام، ولا للمجتمع، ولا للأمة، جعلنا الله هداة مهتدين، ورزقنا بر الوالدين، والسير على نهج خير المرسلين.

الأحكام

يؤخذ مما تقدم:

1-

وجوب طاعة الوالدين، وبرهما، وصيانتهما.

ص: 440

2-

تحريم عقوق الوالدين، والإساء إليهما.

3-

أن حقهما أعظم الحقوق بعد حق الله عز وجل.

4-

تحريم طاعتهما فيما حرم الله عز وجل.

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

الآية (83) من البقرة.

[2]

أستفيد هذا التوجيه من الفخر الرازي رحمه الله 13/232.

[3]

الآية (14) من لقمان.

[4]

الآية (83) من البقرة.

[5]

الآية (36) من النساء.

[6]

الآية (23) من الإسراء.

[7]

الآية (15) من الأحقاف.

[8]

صحيح البخاري مع الفتح 11/66.

[9]

الآية (100) من يوسف.

[10]

الآية (83) من البقرة.

[11]

الآية (36) من النساء.

[12]

الآية (15) .

[13]

الآية (23) .

[14]

الآية (14) .

[15]

الآية (8) من العنكبوت.

[16]

الآية (15) من لقمان.

[17]

أبو الحسن على بن أحمد الواحدي.

[18]

الشمس.

[19]

الآية (15) .

[20]

أسباب النزول صر 356.

[21]

مسند أبي يعلى 2/116

[22]

صحيح مسلم 3/1367 ، 4/1877

[23]

أسباب النزول ص 356 ،357 وانظر ابن كثير 3/445 والفتح 10/400

24]] الفتح 10/401

[25]

الآية (22) من المجادلة.

[26]

أخرجه الإمام البخاري بسنده عن أسماء رضي الله عنها قالت:"قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: إن أمي قدمت وهي راغبة ، أفأصل أمي؟ قال: نعم ، صلى أمك"(صحيح مع الفتح 5/233)

[27]

ألآية (8) من الممتحنة.

[28]

مجلة الجامعة الإسلامية العدد الثاني السنة الرابعة شوال 1391 هـ ص 11-12 وله توجيه في كتابه دفع إيهام الاضطراب ص 292. وانظر كلام الحافظ (الفتح 5/233) .

[29]

أسباب النزول ص 450

ص: 441

[30]

أبو إسحاق البصري ثقة، يهم قليلاً، مات سنة إحدى وثلاثين ومائتين أو بعدها.

[31]

المروزي، ثقة ثبت فقيه، جمعت فيه خصال الخير، مات سنة إحدى وثمانين ومائة.

[32]

ابن أخي عامر شيخه، لين الحديث، وكان عابدا، مات سنة سبع وخمسين ومائة.

[33]

أبو الحارث المدني، ثقة عابد، مات سنة إحدى وعشرين ومائة.

[34]

عبد الله بن الزبير بن العوام، أول مولود في الإسلام بالمدينة، ولي الخلافة تسع سنين وقتل في ذي الحجة رضي الله عنه.

[35]

زوج الزبير بن العوام، وهي ذات النطاقين، من كبار الصحابة، عاشت مائة سنة.

[36]

مسند أبي يعلي. أخرجه الواحدي بسنده من طريق أبي يعلى (الواحدي ص 488) ولم أجده في مسند أبي يعلي. وذكره صاحب مجمع الزوائد 7/126 ولم يعزه. وعزاه السيوطي في الدار المنثور الأبي يعلى.

[37]

صحيح البخاريَ مع الفتح 10/ 400.

[38]

أخرجه االإمام البخاري بسنده من حديث عبد الله بن عمرو (الصحيح مع الفتح10/403) .

[39]

أخرجه الِإَمام البخاري بسنده من حديث عبد الله بن عمرو أيضا (المصدر نفسه) .

[40]

أخرجه الِإمام البخاري بسنده من حديث أبي هريرة (الصحيح مع الفتح 10/ 401) .

[41]

الآية (14) من لقمان.

[42]

نقل هذا عنه الحافظ في الفتح 10/ 401.

[43]

المصدر السابق.

[44]

أرى والله أعلم أنه يدل على عظم حق الأم في البر لا على التفضل فالأصل برهما جميعا، ولما كانت الأم أحوج لضعف المرأة أكد برها.

[45]

الفتح 2/402.

[46]

أخرجه أبو داود (5/352) وفي سنده علي بن عبيد مولى أبا أسيد مقبول.وأخرجه ابن ماجة عن شيخه علي بن محمد بسند أبي داود (ابن ماجه 2/1208)

[47]

ابن مقدم ،وصف بالتدليس الشديد ، انظر إتحاف ذوي الرسوخ ص 41 ، مات سنة تسعين ومائة.

[48]

أبو عثمان ، الهجيمي ، ثقة ثبت ، مات سنة ست وثمانين ومائة.

ص: 442

[49]

ابن الحجاج ، أمير المؤمنين في الحديث ، مات في حدود أربعين ومائة.

[50]

العامري ، ثقة ، مات في سنة عشرين ومائة أو بعدها.

[51]

عطاء ، العامري ،الطائفي مقبول.

[52]

ابن العاص رضي الله عنهما ، أحد المكثرين ،وأحد الفقهاء ، مات بالطائف.

[53]

الجامع 4/310 وقد وقع خطاء (شعبة بن يعلى) والصواب ما أثبته انظر (التحفة 6/25) وأخرجه الحاكم من طريق أخرى عن شعبة 4 / 151.

ص: 443

أطيب النشر في تفسير الوصايا العشر

الدكتور مرزوق بن هياس آل مرزوق الزهراني

أستاذ مساعد بكلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية

الجامعة الإسلامية المدينة المنورة

الوصية الثالثة

قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} .

المناسبة:

لعل المناسبة واضحة من السياق وأن الله عز وجل لما قرر في كتابه العزيز واجب الابن تجاه الوالدين أردف عز وجل بالوصية بالأبناء وبيان ما لهم من الحقوق كما أوضح ما عليهم من الواجبات، وهذا تحقيق للموازنة بين الحقوق والواجبات.

البحث اللغوي:

المفردات: الإملاق. فسرت هذه الكلمة بمعان عدة.

1 -

أن المراد بالإملاق الفقر. قاله ابن عباس [1] .

2-

الإنفاق. وقد سألت امرأة ابن عباس، "أأنفق من مالي ما شئت؟ "قال:"نعم أملقي من مالك ما شئت"[2] . وذكر ابن عطية أن هذا ذكر عن علي رضي الله عنه [3] .

3-

الإفساد [4] .

4-

وقيل الجوع بلغة لخم. وقيل الإسراف. وفعل أملق يكون قاصراً ومتعدياً،

يقال: أملق الرجل فهو مملق، إذا افتقر. فهذا اللازم، وأملق الدهر ما عنده. وهذا المتعدي [5] .

للإيضاح

قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ} الآية. أوصى الرب عز وجل عباده بعدم الإقدام على قتل الأولاد، ذكوراً كانوا أم إناثاً، لأن لفظ الولد يشمل الذكر والأنثى على حد سَواء، وقد كان قتل الأولاد من أعمال الجاهلية ولاسيما البنات فحرم الله ذلك لأي سبب كان قال تعالى:{وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [6] فالجاهليون كانوا يفعلون ذلك لأسباب عدة منها:

ص: 444

أ- الفقر الواقع والحالّ بالوالدين. فقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} يفيد هذا المعنى أي من أجل فقر حالّ بكم، ولذلك قدم رزق الوالدين على الأولاد، لأنهم تابعون لآبائهم في الرزق الحالّ [7] .

2-

الفقر المتوقع مستقبلاً يؤيد هذا الفهم قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [8] وهنا قدم رزق الأولاد على الآباء لتعلق رزقهم بالمستقبل وكثيراًَ ما يكون الآباء عاجزين عن الكسب، يحتاجون إلى أن ينفق عليهم فقدم رزق الأولاد في مقام الخوف والخشية من عدم الكسب وقلة الرزق [9] .

3-

الخوف من العار، وهذا خاص بالبنات. فقد كانوا يئدون البنات حماية للشرف، وبعداً عن السُّبة، لكنها وسيلة قاسية وظالمة، والغاية في الإسلام لا تبرز الوسيلة.

4-

التدين، فقد ينحر الجاهلي ولده تقرباً إلى الآلهة. وقد يستدل له بأن عبد المطلب نذر حين لقي من قريش ما لقي لئن ولد له عشرة أولاد لينحرن أحدهم، لكن ذكر ابن هشام أمرين يدفعان نهوض الاستدلال:

1-

أن ابن هشام رحمه الله قال: فيما زعموا والله أعلم. هذه إشارة إلى عدم ثبوت القصة من وجه يعتمد عليه.

ص: 445

2-

إن النذر كان لله ولم يكن للآلهة كما ورد في القصة [10] . وسواء ثبتت هذه الأسباب أولم تثبت فقد حرم الله عز وجل قتل الأولاد، في كتابه العزيز، وأكدت السنة النبوية المطهرة ذلك التحريم، وحذرت من ذلك العمل الجاهلي أشد التحذير، وقد شرط الله عز وجل في بيعة النساء عدم قتل الأولاد قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ} [11] الآية ومما جاء في السنة الحديث المتفق عليه واللفظ للبخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سألت أو سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي الذنب عند الله أكبر؟ قال أن تجعل لله نداً وهو خلقك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك" الحديث [12] وفي آخره، قال: ونزلت هذه الآية {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَاّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [13] تصديقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن فيما ذكرنا غنية لطالب الحق المستفيد، وفيه عون بإذن الله للباحث المستزيد.

من الأحكام

ا - الوصية تدل على تحريم قتل الأولاد.

2-

يفهم منها وجوب الاعتماد على الله عز وجل في طلب الرزق.

3-

قال القرطبي رحمه الله: وقد يستدل بهذا من يمنع العزل، لأن الوأد يرفع الموجود، والنسل، والعزل: منع أصل النسل، فتشابها، إلا أن قتل النفوس أعظم وزرا، وأقبح فعلاً، ولذلك قال بعض علمائنا: إنه يفهم من قوله صلى الله عليه وسلم: "ذلك الوأد الخفي"[14] الكراهية لا التحريم [15] والعزل: هو أن يفرغ الرجل ماءه خارج الرحم [16] . وقد اختلف العلماء في حكم العزل [17] .

ص: 446

1-

الأئمة الثلاثة، أبو حنيفة ومالك وأحمد رحمهم الله يقولون بجواز العزل عن الحرة بإذنها، ويعزل عن الأمة بغير إذنها. واستدلوا على ذلك بحديث أبي سعيد الخدريَ وحديث جابر رضي الله عنهما وما في معناهما [18] .

2-

الإمام الشافعي رحمه الله ذهب إلى جواز العزل مطلقا، وبدون إذن.

3-

ذهب ابن حزم إلى تحريم العزل مطلقاً مستدلاً بحديث جذامة بنت وهب عند مسلم [19] .

والراجح الجمع بين هذه الأقوال. يحمل المنع على كراهة التنزيه، والجواز على عدم التحريم ولا يعني الجواز عدم وجود الكراهة [20] .

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

انظر الفتوحات 2/108، وفي الصحاح. الِإملَاق: الافتقار (2/ 512) وانظر اللسان 10/348.

[2]

اللسان 10/348.

[3]

ابن عطية 6/ 179.

[4]

اللسان 10/348.

[5]

انظر اللسان 10/348، والفتوحات 2/108.

[6]

الآيتان (8، 9) من التكوير.

[7]

المعلومات مستفادة من (الروح 8/ 47، والمنار 8/ 124) .

[8]

الآية (31) من الِإسراء.

[9]

المنار 8/ 124.

[10]

ابن هشام 1/98.

[11]

الآية (12) من الممتحنة.

[12]

الصحيح مع الفتح 8/492.

[13]

الآية (68) من الفرقان.

[14]

صحيح مسلم 2/1067

[15]

القرطبي 7/132

[16]

انظر تعريفه عند النووي (في الشرح 3/612) وانظر (الفتح 9/305)

[17]

انظر التفصيل (الفتح 9/305-310)

[18]

انظر (الصحيح مع الفتح 9/305)

[19]

صحيح مسلم 2/1067

ص: 447

[20]

انظر (الفتح 9/305-310 وشرح النووي 3/612) وقد كان عثمان رضي الله عنه يكره لما فيه من إقلال النسل. (المحلى 10/7) وقد اختلف النقل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (المصدر السابق) وانظر (مصنف عبد الرزاق 7/144 ، وسنن سعيد بن منصور 3/2/105 ، البيهقي 7/231 ،والمغني 7/23، ومصنف ابن أبي شيبة 2/220-223 ، ونيل الأوطار 6/210-222) .

ص: 448

أطيب النشر في تفسير الوصايا العشر

الدكتور مرزوق بن هياس آل مرزوق الزهراني

أستاذ مساعد بكلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية

الجامعة الإسلامية المدينة المنورة

الوصية الرابعة

قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن} َ.

المناسبة:

إن المتأمل للوصايا الثلاث الأول يجد فيها عناية وتأكيداً على الطهارة المعنوية، ففي الوصية الأولى أوصى الله عز وجل بطهارة القلب من عبادة غيره، ومن كل شائبة تعكر صفو العقيدة مهما قل شأنها، وفي الوصية الثانية أوصى بطهارة الجوارح من الإساءة إلى الوالدين، وأمر بكبح كل جارحة بالإحسان الزائد على العدل، وفي الوصية الثالثَة أمر بطهارة الجوارح أيضا من صفة ذميمة، مارسها الجاهليون، فأكد الشرع على تحريمها، وأعلن قبحها، فالطهارة الأولى فيها حماية للفرد، والثانية والثالثة فيهما حماية للأسرة، وجاءت الوصية الرابعة شاملة لحماية الفرد والأسرة والمجتمع، فالطهارة المعنوية قاعدة يقوم عليها صلاح الفرد والأسرة والمجتمع ومرتكزها إفراد الله عز وجل بالعبادة.

البحث اللغوي:

أ- النحو: (ما ظهر) منصوب على البدل من الفواحش.

(ما بطن) عطف عليه.

ب- المفردات: الفواحش: جمع فاحشة. وكل شيء جاوز حده فهو فاحش [1] . والفحشاء والفاحشة، ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال [2] . والفاحشة، الزنا. وكل ما يشتد قبحه من الذنوب وكل ما نهى الله عز وجل عنه [3] .

وقد جاء في معنى الفواحش في هذه الآية خمسة أقوال:

1-

أن ما ظهر: هو نكاح المحرمات والخمر، وما بطن الزنا. قاله سعيد بن جبير ومجاهد.

2-

وقال الضحاك: ما ظهر الخمر، وما بطن الزنا.

3-

وقال ابن عباس والحسن والسدي: إن الفواحش الزنا، وما ظهر منه الإعلان به، وما بطن الإستسرار به.

ص: 449

4-

قال قتادة إنه عام في الفواحش، وظاهرها علانيتها، وباطنها سرها [4] .

5-

ذكر الماوردي في تفسير هذه الآية أن ما ظهر، أفعال الجوارح، وما بطن اعتقاد القلوب [5] . والأولى حمل الآية على العموم في هذا، وأنها كقوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [6] ولا فرق بين الآثام الظاهرة والباطنة لذلك قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} [7] . أي سواء كان ظاهراً أو باطناًَ، فالجزاء واقع لا محالة، مَا لم تقع التوبة، أو يحظ العبد بعفو ربه وكرمه [8] اللهم ارحمنا ووفقنا لصالح الأعمال، وقنا سيئها، ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته.

الإيضاح

قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ} .

إن المتأمل لهذا النهي يجد أنه وقع بين نهين:

النهي الأول: قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ} .

والنهي الثاني: قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} وهو نهي عن القتل مطلقاً. وقد حاول بعض المفسرين أن يجد علة لذلك، لأننا إذا اعتبرنا المراد بالفواحش الزنا، فإنها بهذا المعنى جناية عظيمة وهي جناية على النسل، وقتل جميع الحقوق المرتبة عليه، فكأن ذلك في حكم قتل الأولاد، وأولاد الزنا في حكم الأموات لاسيما في الحقوق المتعلقة بالنسل، وإذا كان قول النبي صلى الله عليه وسلم في العزل:"ذلك الوأد الخفي" منفراً عن هذه الصفة فلا ريب أن عقوبة الزاني ربما تكون مضاعفة بهذا الاعتبار والله أعلم. وهذا المعنى تلمسه بعض المفسرين [9] .

ص: 450

أما إذا اعتبرنا العموم وهو ما نراه في هذا الموضوع فلا تظهر علة للتوسط المذكور وإنما هي محرمات أوصى الله عباده باجتنابها، وإذا كانت الفواحش ما عظم قبحه من الأقوال والأعمال. ولاشك أن تجاوز ما حرم الله من الفواحش وأعظمها الشرك بالله. والخطر كامن في تجاوز الحدود وانتهاك الحرمات أعاذنا الله من ذلك. ولعل التحذير من الاقتراب من الفواحش مبالغة في الزجر عنها لقوة الدواعي إليها، ومعلوم أن الاقتراب من الشهوة المحرمة يدعوا إلى اقترافها ومباشرة ما نهى الله عنه، وكم من إنسان ضعفت نفسه أمام شهوته، وحام حول الحمى فوقع فيه.

ص: 451

ومعنى الآية الكريمة: أن ما وصى الله به عباده عدم الاقتراب من الأعمال المؤدية إلى ما حرم الله والابتعاد عن الخصال السيئة التي منها الزنا، واللواط، وقذف المحصنات، ونكاح أزواج الآباء، وكل ما سماه الله عز وجل فاحشة، وجب الابتعاد عنه، فهو مما ثبتت شدة قبحه شرعاً وعقلاً، وقد كان الجاهليون يستقبحون الزنا، ويعدونه أكبر العار، ولاسيما إذا وقع من الحراير [10] ، وكان وقوعه منهن نادرا، وإذا كان الأمر كذلك، فمن شرفهم الله عز وجل بالشرع المحمدي أولى بالعفة والنزاهة، بيد أن ذلك لم يحدث في الجاهلية علناً إلا في الإماء والجواري، فقد كانت المجاهرة منهن، في حوانيت ومواخير تمتاز بأعلام حمر، فيختلف إليَها الأرذلون منهم، أما الأشراف فلا يعلنون ذلك وقد يتخذون الأخدان سراً، قال الإمام الطبري رحمه الله: حدثني المثنى [11] قال: ثنا عبد الله بن صالح [12] ، ثنى معاوية [13] ، عن على بن أبي طلحة [14]، عن ابن عباسِ قوله:{وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} قال: "كانوا في الجاهلية لا يرون بالزنا بأساًَ في السر، ويستقبحونه في العلانية، فحرم الله الزنا في السر والعلانية"[15] . قوله تعالى: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} يفهم من هذا القول الكريم أن العبد لابد أن يراقب الله عز وجل ويحذر المحرمات في جميع أحواله وهذا معنى التقوى في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس: "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك" الحديث [16] وأصرح من هذا ما أخرجه الدارمي حيث قال: حدثنا أبو نعيم [17] ، ثنا سفيان [18] ، عن حبيب بن أبي ثابت [19] ، عن ميمون بن أبي شبيب [20]، عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتق الله حيث ما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن"[21] . وهذه الأحاديث وما في معناها مع الآية الكريمة تؤكد ارتباط النفس بمراقبة

ص: 452

الله عز وجل واستصحاب التقوى في السر والعلانية وهي الصفة المنجية كما أخبر بذلك أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث منجيات خشية الله في السر والعلانية" الحديث [22] . ويكمن الخطر في حالة انفصال المراقبة عن النفس في وقت ما، فمثلاً إذا احترز الإنسان عن المعصية في الظاهر، ولم يحترز عنها في الباطن، علم أن الاحتراز في الظاهر ليس لأجل الله عز وجل، فليست فيه طاعة ولا عبودية لله، وإنما كان الاحتراز خوفاً من مذمّة الناس وذلك باطل، لأن من كانت مذمة الناس عنده أعظم وقعاً على نفسه من عقاب الله عز وجل فإنه يخشى عليه من الكفر، وأي حظر أعظم من أن يعرض الإنسان نفسه لهذا الذنب العظيم، وأي نقمة أشد من سخط الله، نعوذ بالله من التهلكة ونعوذ بالله من سخطه ونقمته.

أما من ترك المعصية ظاهراً وباطناً، فذلك دليل على أنه إنما تركها تعظيماً لحدود الله أن ينتهكها، وتنفيذاً لأمر الله عز وجل بالاجتناب في كل حال، وتحقيقًا لعبوديته لله عز وجل. وخوفًا من عقابه [23] . ولئن كان كتاب الله عز وجل حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن فكذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أخرج الإمام البخاري بسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما من أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش" الحديث [24] . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ويكفي ورود هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أصحِ الكتب بعد كتاب الله. فحق على كل مسلم بالغ عاقل رشيد أن يجتنب ما حرم الله ظاهراً وباطناً، ويعلم أنه سيقف بين يدي الله عز وجل ويسأل عن هذه الوصية.

الأحكام

من الأحكام المستفادة من هذه الوصية:

1-

وجوب الابتعاد عما حرم الله ظاهرا وباطنا.

2-

مراقبة الله عز وجل في كل حال خير معين على اجتناب المحرمات.

ص: 453

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

الصحاح 2/ 225، وانظر اللسان 6/ 325.

[2]

الراغب ص 374.

[3]

ترتيب القاموس 3/ 425.

[4]

الزاد 3/ 148.

[5]

الماوردي 1/576.

[6]

الآية (23) من الأعراف.

[7]

الآية (120) من الأنعام.

[8]

وممن ذهب إلى القول بالعموم الطبري 8/ 61 والرازي 13/233.

[9]

انظر (الإرشاد 3/ 199) .

[10]

ولذلك أنكرت هند بنت عتبة أن تزني في الحرة حين طلب منها المبايعة على غرار ما جاء في آية الأحزاب (ابن كثير4/354) .

[11]

المثنى بن إبراهيم الآملي. صرح باسمه كاملاً في الأثر رقم 594 (1/437 النسخة المحققة) ولم أقف عليه مترجما.

[12]

كاتب الليث، صدوق كثير الغلط، ثبت في كتابه، مات سنة اثنتين وعشرين ومائتين.

[13]

الحضرمي، قاضي الأندلس، صدوق له أوهام، مات سنة ثمان وخمسين ومائة.

[14]

مولى بن العباس. أرسل عن ابن عباس ولم يره، صدوق يخطئ، وهو من رجال مسلم. مات في سنة ثلاث وأربعين ومائة وانظر (ابن معين ص هـ 8) والمصادر التي أحيل عليها.

[15]

الطبري 8/ 61 وأخرجه بسنده موقوفاً على الضحاك، ومن طريق أخرى موقوفاً على قتادة.

[16]

أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح 4/667، وفي السند ابن لهيعة وليس بقادح لأنه مقرون بالليث بن سعد، وروى عنهما عبد الله بن المبارك. وأخرجه أحمد من طريق ليث وحده (المسند 1/293) .

[17]

الفضل بن دكين، من كبار شيوخ البخاري، ثقة ثبت.

[18]

الثوري، الحجة، الفقيه، قال البخاري: ما أقل تدليسه. انظر (التبيين ص 27) .

[19]

ثقة، فقيه جليل، وصف بكثرة التدليل والإرسال. (المصدر السابق) .

[20]

الربعي، صدوق، كثير الإرسال، مات سنة ثلاث وثمانين.

[21]

الدارمي 2/231 وانظر المصادر التي أحيل عليها في التعليق.

ص: 454

[22]

ذكره الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير 3/64.

[23]

انظر الرازي 13/233

[24]

الصحيح مع الفتح 13/383، وانظر (صحيح مسلم 4/2113) .

ص: 455

أطيب النشر في تفسير الوصايا العشر

الدكتور مرزوق بن هياس آل مرزوق الزهراني

أستاذ مساعد بكلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية

الجامعة الإسلامية المدينة المنورة

الوصية الخامسة

قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} .

المناسبة:

قد يتلمس الباحث ما يربط به بين المعاني أو الأوامر أو النواهي، وقد يكون ما يصل إليه أمراً واضحاً يتأيد بالأسلوب والمقام، وقد يكون فيه تكلف وبعد. ولعل الناظر في هذه الوصايا الكريمة يجد أن الله عز وجل حرم قتل القلوب بعبادة غير الله عز وجل، أيَّ نوع كان من أنواع العبادة، وصان بعد ذلك الوالدين وحماهما من جهل الجهلاء، وحماقة السفهاء، فالإساءة إليهما أو إلى أحدهما قتل للراوبط الأسرية، وقضاء على الإحسان الذي أمر الله به، ثم أحكم علاقة الأباء بالأبناء، ورسم حدوداً لا يجوز لأي من الأبوين تجاوزها، وصرح عز وجل بتحريم قتل الأولاد، لأن قتلهم قتل للمجتمعات، وقضاء على تتابع الأجيال، ويدخل في هذا الفساد ارتكاب الزنا فهو يقتل المجتمعات حساً ومعنى. وتلا ذلك النهي عن قتل النفس عامة، وهذا العموم يوحي بتضمن ما سبق، فإن كل قتلٍ فردي إنما يقع على جنس النفس في عمومه، يؤيد هذا الفهم قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً

} [1] الآي ة. فالاعتداء إنما يقع على حق الحياة ذاتها، وعلى النفوس البشرية في عمومها، والآية الكريمة دليل على أن الله عز وجل كفل حرمة النفس ابتداء [2] .

البحث اللغوي:

ص: 456

أ- في النحو: قوله: (إلا بالحق) استثناء مفرع ولعله من أحد ثلاثة أمور:

1-

من أعم الأحوال، أي لا تقتلوها في حال من الأحوال، إلا حال ملابستكم الحق، الذي هو أمر الشرع بقتلها.

2-

أومن أعم الأسباب، أي لا تقتلوها بسبب منِ الأسباب إلا بسبب الحق.

3-

أومن أعم المصادر، أي لا تقتلوها قتلاً إلا قتلاًَ كائناً بالحق.

وقد رجح في الفتوحات أن قوله: {إِلا بِالْحَقِّ} مفعول مطلق، أي إلا القتل المتلبس بالحق [3] .

قوله: {ذَلِكُمْ} إشارة إلى الوصايا المتقدمة. والكاف والميم: للخطاب، ولا حظّ لهما من الإعراب.

قوله: {النَّفْسَ} أي جنس نفس الإنسان، فالألف واللام لتعريف الجنس، كقولهم:

أهلك الناس حب الدرهم والدنيا. والله عز وجل يقول: {إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً} [4] فالمراد الجنس.

الضمير في قوله: {وَصَّاكُمْ} محله النصب، لأنه ضمير موضوع لمخاطبة الجمع.

وفى وصى ضمير تقديره: هو، فاعل يعود على لفظ الجلالة أي: وصىّ الله تعالى عباده بذلك.

ب- المفردات:

الحق: واحد الحقوق، هو ضد الباطل [5] .

تعقلون: من العقل، والمراد في الآية العلم [6] الذي يستفيده الإنسان من التأمل في هذه الوصايا.

الإيضاح

إن المتأمل للآية الكريمة يجد أن قتل النفس المحرمة من جملة الفواحش، وقد أفرده رب العزة فهو من باب ذكر الخاص بعد العام، وقد أجاب العلماء رحمهم الله عن هذا منهم الإمام الرازي رحمه الله قال: اعلم أن هذا داخل في جملة الفواحش، إلا أنه أفرده تعالى بالذكر، لفائدتين:

1-

أن الإفراد بالذكر يدل على التعظيم، والتفخيم كقوله تعالى:{وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [7] .

ص: 457

2-

أن الفواحش لا يستثنى منها فلا يقال: لا تقربوا الفواحش إلا بالحق. وهو وارد في القتل فجاء إفراده لفرض الاستثناء أيضا [8] وإذا تدبر الإنسان كتاب الله عز وجل يجد بكثرة ورود النهي عن هذه المنكرات الثلاث متتابعاً، النهي عن الشرك، والنهي عن الزنا، والنهي عن قتل النفس ولعل في هذا توجيهاً للأنظار إلى أن هذه الأمور الثلاثة تشترك في صفة القتل، فإذا نظرنا إلى جريمة الشرك نجد أنها قتل للقلوب وإماتة للفطرة التي فطر الله الناس عليها. فالقلوب التي لا تعيش على التوحيد قلوب ميتة، قد قضي على ما فيها من فطرة يؤيد هذا الفهم قوله تعالى:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [9] الآية. فليس المراد موت الأجساد بخروج الأرواح منها، بل المراد موت القلوب بخلوها من نور الحق، وبرهان الشرع، والشرع لا يقوم إلا على اعتقاد سليم وبرهان قويم. وجريمة الزنا قتل للجماعة حساً ومعنىً، فالجماعة التي تشيع فيها الفاحش جماعة ميتة معنوياً من حيث عدم وجود الغيرة التي من أعظم الأسباب في حماية المجتمع من هذا الوباء القاتل ولذلك وصف بها النبي ربه عز وجل فقال:"ما من أحد أغير من الله عز وجل"[10] فإذا قتلت الغيرة في الجماعة استشرى الخطر، وعم البلاء، أما قتلها حساً فإن مصيرها إلى الفناء والدمار لا محالة لاندفاعها خلف هذه الشهوة المحرمة حتى بلغت مستوى الدواب بل هم أضل سبيلا. وقد جاء في بلاغات الإمام مالك عن ابن عباس أنه قال: "

ولا فشا الزنا في قوم قط إلا كثر فيهم المَوت

" [11] قال ابن عبد البر: "قد رويناه متصلاً عنه، ومثله لا يقال بالرأي" [12] . ويؤيد قوله هذا أن ابن ماجة قال: حدثنا محمود بن خالد الدمشقي [13] ، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن أبو أيوب [14] ، عن ابن أبي مالك [15] عن أبيه [16]

ص: 458

عن عطاء بن أبي رباح [17]، عن عبد الله بن عمر قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن، لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع، التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا

" [18] الحد يث. وله شاهد من حديث ميمونة أخرجه الإمام أحمد رحمه الله [19] . وفي نظري أن هذا الخبر لا يقل عن درجة الحسن لغيره وأنه كما قال ابن عبد البر رحمه الله: "مثله لا يقال بالرأي"، والواقع يؤيده بعد مضي أكثر من ألف وأربعمائة سنة، يظهر الوباء الذي لم يعهد من قبل، ويهدد العالم الذي فشا فيه الزنا ولا ريب أنه الموت الذي ذكره ابن عباس وهوا لطاعون الذي ذكره ابن عمر من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو العقاب الذي ذكره الإمام أحمد من حديث ميمونة رضي الله عنها، وهو (الإيدز)[20] كما يسميه عالم الحضارة اليوم، فهل آن الأوان لأبناء الإسلام أن يرجعوا إلى حمى الإسلام فيحتموا به من قتل القلوب والمجتمعات. وجاء النهي الثالث يحرم الاعتداء على جنس النفس البشرية يجعل قتلها بغير حق فاحشة عظيمة وكبيرة، يعاقب الله عليها بأشد العقاب، ولذلك أجمع المسلمون على تحريم القتل بغير حق اعتمادا على كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالله عز وجل يخاطب عباده في هذه الوصية بأن لا تقتلوا النفس التي حرم قتلها بالإسلام، أو عقد الذمة، أو العهد، أو الاستئمان، فيدخل في عموم النفس كل أحد إلا الحربي، ففي هذه الوصية حرم قتل النفس عامة. وكذلك في قوله تعالى:{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} [21] . وأكد على النفس المؤمنة تكريماً لها وتنويها بشأنها

ص: 459

وإلا فهي داخلة في العموم قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلا خَطَأً} [22] الآية وقال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [23] . كما نصت السنة المطهرة على تحريم قتل المعاهد، تنويهاً بمبادئ الإسلام، وتربية لأمة الإسلام على حفظ العهود والمواثيق والعهد يشمل الأمرين السابقين، عقد الذمة، والاستَئمان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من قتل نفساً معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما"[24] . وأخرج الترمذي بسنده من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ألا من قتل نفسا معاهداً له ذمة الله وذمة رسوله، فقد أخفر بذمة الله، فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفا". قال: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح"[25] . وهذا غيض من فيض.

قوله: {إِلا بِالْحَقِّ} .

المراد به ما يبيح قتل النفس التي حرم الله قتلها شرعاً. ومنه المذكور في الأسباب الآتية:

1-

النفس بالنفس قال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [26] الآية وقال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [27] .

2-

الوقوع في الزنا بعد الإحصان. وقد جاء في كتاب الله عز وجل مما بقي حكمه ونسخت تلاوته "الشيخ والشيخة فَأرجموهما البتة"[28] يعني إذا زنيا فذاك عقابهما وجاء في الحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل دم إمرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث، الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة"[29] .

ص: 460

3-

المرتد عن الدين، التارك لجماعة المسلمين. كما ورد في الحديث آنفا.

4-

المحاربون لشرع الله الذين يسعون بالفساد في الأرض. ومنهم قطاع الطرق، وما يسمون بالإرهابيين اليوم، والساطون على أعراض الناس، ودمائهم، وأموالهم. قال تعالى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [30] الآية.

ثم إنه تعالى لما بين أحوال هذه الوصايا الخمس أتبع ذلك اللفظ الذي يقرب إلى القلوب القبول فقال: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} لما فيه من الشمول للأمر والنهي، ولما فيه من اللطف والرأفة، كل ذلك ليكون القلب أقرب إلى القبول، ثم أتبعه عز وجل بقوله:{لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ولعل هنا ليست على بابها، أي لكي تعقلوا فوائد هذه الوصايا في الدين والدنيا. ومن تأمل قوله:{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} يجد أن استخدام اسم الإشارة للبعيد له دلالة تنبئ عن عظمة هذه الوصايا وبعد ما ترمي إليه من إصلاح الدين والدنيا، وما فيها من الحكم والأحكام الإلهية التي تضمنت الكمال المطلق في الهداية والتوجيه، وإصلاح الإنسانية في كل زمان ومكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ولما كانت الوصية الخامسة تنهى عن القتل بغير حق فإنه يحسن الكلام عن القتل وأقسامه.

إن الدارس لهذه القضية يجد أن الأكثرين من العلماء يرون القتل أقساماً ثلاثة:

1-

العمد 2- شبه العمد 3- الخطأ.

ص: 461

وممن يرى هذا التقسيم عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما ولهما فيه قضاء [31] وبه قال الشعبي، والنخعي، وقتادة، والثوري، والإمام الشافعي، ِ والإمام أحمد، وأهل العراق، وأصحاب الرأي رحم الله الجميع، ونقل عن الإمام مالك رحمه الله أنه أنكر شبه العمد وقال:"ليس في كتاب الله عز وجل إلا العمد، والخَطأ"، فهو لا يعمل بشبه العمد، وجعله من قسم العمد. وحكى عنه مثل قول الجماعة [32] .

ويؤيد ما ذهب إليه الجمهور ما أخرجه أبو داود وقال: حدثنا سليمان بن حرب [33] ومسدد [34] قالا: حدثنا حماد [35] ، عن خالد [36] ، عن القاسم بن ربيعة [37] ، عن عقبة بن أوس [38]، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "

ألا إن دية الخطأ شبه العمد، ما كان بالسوط والعصا، مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها" [39] . وهذا الحديث الذي لا يقل عن درجة الحسن نص يصد ما نقل عن الإمام مالك رحمه الله من إنكاره شبه العمد، وقد زاد أبو الخطاب قسماًَ رابعاًَ، وسماه (ما أجري مجرى الخطأ) نحو أن ينقلب نائم على شخص فيقتله، أو يقع عليه من علو، ومنه القتل بالسبب، كحفر البئر، ونصل السكين، ومنه قتل غير المكلف، فقد أجري مجرى الخطأ، وإن كان عمداً، لكن هذه الصورة التي ذكرها أبو الخطاب رحمه الله هي عن الأكثرين من قسم الخطأ، لأن صاحبها ليس من أهل القصد الصحيح، ولذلك أعطوه حكم الخطأ لأنه خطأ في الواقع. ويحسن في هذه العجالة إعطاء فكرة مبسطة عن كل قسم.

1-

العمد: هو أن يقصد شخص قتل آخر بما يراه قاتلا في العادة كالسيف، والخنجر، والطلقات النارية وغيرها من الأمور القاتلة. وهذا القسم ثبت بكتاب الله عز وجل قال الله تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [40] الآية.

ص: 462

2-

شبه العمد: هو أن يقصد شخص ضرب آخر بما لا يقتل غالباً، إما لقصد العدوان عليه، أو لقصد التأديب له فيسرف فيه، ويتجاوز الحد المعقول في ذلك، كالضرب بالسوط، والعصا، والحجر الصغير ونحو ذلك.

وهذا القسم ثبت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد ذكرنا آنفاً حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إن دية الخطأ شبه العمد، ما كان بالسوط، والعصا، مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها"[41] . وقد قضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أخرج الإمام البَخاري بسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية جنينها غرة، عبد أو وليدة، وقضى أن دية المرأة على العاقلة"[42] . فاعتبره صلى الله عليه وسلم شبه عمد إذ أوجب الدية على العاقلة، ولو اعتبره عمداً لما حملت العاقلة الدية، لأنها لا تحمل العمد. وقال أبو داود: حدثنا محمد بن يحي بن فارس [43] ، حدثنا محمد بن بكار بن بلال العاملي [44] ، أخبرنا محمد- يعنى ابن راشد [45]- عن سليمان- يعني ابن موسى [46]- عن عمر وبن شعيب [47] ، عن أبيه [48] ، عن جده [49]، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"عقل شبه العمد مغلظ، مثل عقل العمد، ولا يقتل صاحبه"[50] . فهذه نصوص من السنة صحيحة تثبت شبه العمد، خلافاًَ لما نقل عن الإمام مالك رحمه الله.

3-

الخطأ: هو أنٍ يفعل الشخص فعلاً لا يريد به الاعتداء علىِ أحد من البشرِ فيخطئ هدفه ويصيب إنساناً فيقتله، مثاله. أن يرمي صيداً فيصيب إنساناًَ، أو يلقي شيئاًَ فيقع على مارٍ، أو يقود سيارة فيعترضه شخص فيدهسه ونحو ذلك.

والخطأ على قسمين أيضاً:

ص: 463

1-

أن يفعل الشخص ما يجوز له فعله مما سبقت الإشارة إليه ونحو، فيؤل ذلك إلى إتلاف إنسان حر، مسلماً كان أو كافراً.

2-

أن يكون في أرض العدو فيقتل من يظنه كافرا. فيصبح المقتول مسلماً. فهذا قسم من الخطأ وإن كانت الصورة صورة عمد لعدم قصد قتل المسلم. وقد ثبت القتل الخطأ بكتاب الله عز وجل قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [51] الآية. وهذه التقسيمات مستفادة من المغني والشرح الكبير [52] .

ص: 464

5-

الامتناع عن أداء حق واجب الأداء من حقوق الله عز وجل ومنه الزكاة مثلاً فإن أبا بكر رضي الله عنه لم يتردد في قتال مانعي الزكاة، بل أخذ ذلك بحزم وشدة، أخرج الإمام البخاري بسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:"لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكَان أبو بكر رضي الله عنه [53] ، وكفر من كفر من العرب، فقال عمر رضي الله عنه [54] : كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله". فقال [55] :"والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلهم على منعها، قال عمر رضي الله عنه: فو الله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر رضي الله عنه، فعرفت أنه الحق"[56] . وهذا مما سنه أبو بكر رضي الله عنه ووافقه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسرعان ما شرح الله صدر عمر رضي الله عنه وعرف أنه الحق، ونحن مأمورون بإتباع الخلفاء الراشدين قال أبو داود رحمه الله: حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا ثور بن يزيد [57] قال: حدثني خالد بن معدان [58] قال: حدثني عبد الرحمن بن عمرو السلمي [59]، وحجر بن حجر [60] قالا: أتينا العرباض بن سارية [61]، وهو ممن نزل فيه {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [62] فسلمنا وقلنا:"أتيناك زائرين، وعائدين، ومقتبسين"، فقال العرباض:"صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون.."فذكر الحديث وفيه "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ.."[63] .

ص: 465

6-

قد يجب قتال غير من سلف ذكرهم. وذلك في أحوال كمن قصد قتل رجل، أو أخذ ماله، أو الاعتداء على عرضه، فيجوز قتله على سبيل الدفاع عن النفس والمال والعرض يؤيد هذا ما أخرجه الإمام البخاري بسنده من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من قتل دون ماله فهو شهيد"[64] وأخرجه الإمام الترمذي وزاد في رواية: "ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد" قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"[65] . قال النووي رحمه الله: "فيه جواز قتل من قصد أخذ المال بغير حق، سواء كان المال قليلاً أو كثيراً، وهو قول الجمهور، وشذ من أوجبه"، قال ابن المنذر: والذي عليه أهل العلم أن للرجل أن يدفع إذا أريد ظلماً، بغير تفصيل، إلا أن كل من يحفظ عنه من علماء الحديث كالمجمعين على استثناء السلطان للآثار الواردة بالأمر بالصبر على جوره، وترك القيام عليه. قال ابن بطال:"إنما أدخل البخاري هذه الترجمة في هذه الأبواب ليبين أن للإنسان أن يدفع عن نفسه، وماله ولاشيء عليه، فإنه إذا كان شهيداً إذا قتل في ذلك فلا قود عليه، ولا دية إذا كان هو القاتل"[66] . ويؤيد هذه الأقوال ما أخرجه الإمام مسلم بسنده من حديث أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: "أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: "فلا تعطه مالك"قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: "قاتله"قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: "فأنت شهيد"قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: "هو في النار" [67] قال الترمذي رحمه الله: "وقد رخص بعض أهل العلم للرجل أن يقاتل عن نفسه وماله"، وقال ابن المبارك: "يقاتل عن ماله ولو درهمين" [68] . وإذا كان هذا مقابل المال الذي يمكن تعويضه، فلا ريب أنه آكد مقابل النفس والعرض والدين، فإن النفس إذا تلفت لا يمكن تعويضها، والعرض إذا خدش لا يمكن جبره، والدين فوقهما،

ص: 466

ولا يليق بالمسلم أن يستسلم ويكون جباناًَ وفي مقابل أعز ما يملك نفسه ودينه وعرضه. فيكون الصائل المعتدي إذا بلغت مقاومته حد قتله فإنه مباح الدم لا قود فيه ولا دية، وهذا هو الحق إن شاء الله. والحاصل أن الأصل في قتل النفس الحرمة، وحله لا يثبت إلا بدليل منفصل كما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

الأحكام

قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} .

قال الرازي رحمه الله معللاً سبب ختم الآية بهذا: "لأن التكاليف الخمسة المذكورة في الآية (هذه) أمور ظاهرة جلية فوجب تعقلها وتفهمها"[69] .

دلت الوصية الكريمة على تخريم قتل النفس المعصومة بالإسلام أو بعقد الذمة إلا بحق يوجب ذلك. وهذا أمر مجمع عليه بين أمة الإسلام، فإن فعله إنسان متعمداً فسق، وأمره إلى الله عز وجل إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه، وتوبته مقبولة في قول أكثر أهل العلم.

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

الآية (32) من المائدة.

[2]

هذا المعنى مستفاد من (الظلال 424/3)

[3]

انظر (الإرشاد 3/ 199، والفتوحات 2/ 09 1) .

[4]

الآية (19) من المعارج.

[5]

انظر (الصحاح 1/ 281 واللسان 0 1/ 49. والمفردات ص 341)

[6]

انظر (الآية 98 من البقرة) .

[7]

انظر (ترتيب القاموس 3/ 277. والمفردات ص 341)

[8]

الرازي 13/233.

[9]

الآية (122) من الأنعام.

[10]

الصحيح مع الفتح 13/383، وصحيح مسلم 4/2113.

[11]

الموطأ 2/460.

[12]

قاله محمد فؤاد تعليقاً على المصدر السابق. ولا أراه إلا في التمهيد. ولم أقف عليه.

[13]

ثقة، مات سنة سبع وأربعين ومائتين.

[14]

صدوق يخطئ من رجال البخاري مات سنة ثلاث وثلاثين ومائتين.

ص: 467

[15]

خالد بن يزيد بن عبد الرحمن ضعيف، مع كونه فقيهاً، قد اتهمه ابن معين، مات سنة خمس وثمانين.

[16]

يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك، صدوق ربما وهم، مات سنة ثلاثين ومائة أو بعدها.

[17]

ثقة، كثير الإرسال، مات سنة أربع عشرة ومائة.

[18]

ابن ماجه 2/ 1332.

[19]

المسند 6/ 333.

[20]

وباء هذا العصر نتيجة الخروج عن الآداب الإسلامية. والإنسانية والانحطاط إلى مستوى الحيوان بل أدنى من ذلك وقد نشرت جريدة الشرق الأوسط في عددها 3413 الصادر في يوم السبَت 08/8/1408 هـ أن عدد الإصابات بهذا الوباء والذي تم إبلاغ منظمة الصحة العالمية بها وصل إلى 85273 إصابة في العالم. وما خفي أعظم.

[21]

الآية 33 من الإسراء.

[22]

الآية (92، 93) من النساء.

[23]

الآية (92، 93) من النساء.

[24]

الصحيح مع الفتح 12/259.

[25]

الجامع 4/ 20.

[26]

الآية (45) من المائدة.

[27]

الآية (179) من البقرة.

[28]

انظر (الموطأ 2/ 824) .

[29]

انظر (الصحيح مع الفتح 12/ 201 وصحيح مسلم 3 / 1302) .

[30]

الآية (33) من المائدة. ولتمام الفائدة انظر (الرازي 13/233) .

[31]

انظر سنن أبي داود 4 /685.

[32]

المغني مع الشرح الكبير 9 / 322.

[33]

البصري، إمام حافظ ثقة، مات سنة أربع وعشرين ومائتين.

[34]

ابن مسرهد، البصري، ثقة، حافظ، أول من صنف المسند مات سنة ثمان وعشرين ومائتين.

[35]

ابن زيد، البصري، ثقة، ثبت فقيه، مات سنة تسع وسبعين ومائة.

[36]

ابن مهران، الحذاء، ثقة، يرسل، من كبار الخامسة.

[37]

ابن جوشن، البصري، ثقة، من الثالثة.

[38]

البصري، صدوق من الرابعة.

[39]

أبو داود 4/ 711-712.

[40]

الآية (93) من النساء.

[41]

أخرجه أبو داود 4/ 711-712.

[42]

الحديث متفق عليه وهذا لفظ البخاري (الصحيح مع الفتح 12/ 252) .

ص: 468

[43]

الذهلي، ثقة، حافظ، جليل، مات سنة ثمان وخمسين ومائتين.

[44]

صدوق، مات سنة ست عشرة ومائتين.

[45]

المكحولى، صدوق يهم، مات بعد ستين ومائة.

[46]

الأموي، الأسدق، صدوق فقيه، في حديثه بعض لين، من الخامسة.

[47]

ابن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، صدوق، مات سنة ثمان عشرة ومائة.

[48]

شعيب بن محمد، صدوق، من الثامنة.

[49]

عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه.

[50]

سنن أبي داود 4/ 694.

[51]

الآية (92) من النساء.

[52]

9/ 338.

[53]

يعني خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

[54]

مخاطباً أبا بكر رضي الله عنه لما أمر بقتال المرتدين والمانعين للزكاة.

[55]

أبو بكر رضي الله عنه،

[56]

انظر (الصحيح مع الفتح 3/ 262، 322، 2 1/ 275، 13/ 250،) غير أنه قال (عقالا) ولمزيد الفائدة انظر (البداية والنهاية 6/ 311) .

[57]

أبو خالد، الحمصي، ثقة.

[58]

أبو عبد الله، الحمصي، ثقة، يرسل كثيرا.

[59]

كلاهما مقبول، وتابعهما يحي بن أبي المطاع وهو صدوق، أخرج حديثه ابن ماجة 1 /15 وهو عند الترمذي من طريق السلمي وحده (الجامع 5/ 44) .

[60]

كلاهما مقبول، وتابعهما يحي بن أبي المطاع وهو صدوق، أخرج حديثه ابن ماجة 1 /15 وهو عند الترمذي من طريق السلمي وحده (الجامع 5/ 44) .

[61]

صحابي من أهل الصفة.

[62]

الآية (92) من التوبة.

[63]

أبو داود 5 /13-15.

[64]

الصحيح مع الفتح 5 /123 وأخرجه الإمام مسلم 1 /125.

[65]

الجامع 4 /29-30 وأخرجه أبو داود 5 /128وهو عند النسائي وأبن ماجة.

[66]

ذكر هذه النقول الحافظ في الفتح5 /124.

[67]

صحيح مسلم 1/124.

[68]

الجامع 4/ 29.

[69]

الرازي 13/ 235.

ص: 469

استِدْرَاكَاتٌ عَلَى كِتَاب تَارِيخِ التّرَاثِ العَرَبِيِّ

فِي كُتُبِ التّفسِيرِ

للدكتور حكمت بشير ياسين

أستاذ مساعد بكلية القرآن الكريم

(القسم الثاني)

كتب القرن الثاني الهجري

13 [1]- تعليقة على تفسير (فسبحان الله) : لأبي حنيفة النعمان بن ثابت التميمي ت 105هـ

منه نسخة في عموجة حسين باشا في إسطنبول في مجموع برقم 454 [2] .

14-

التفسير: لأربدة أو أربد التميمي البصري من تلاميذ ابن عباس.

ذكره المزي وقال: صاحب التفسير، "كان يجالس ابن عباس"[3] .

وقال ابن حجر: "راوي التفسير عن ابن عباس"[4] .

15-

التفسير: لزائدة بن قدامة أبي الصلت الثقفي الكوفي ت 161 هـ.

ذكره الداوودي وذكر جماعة من شيوخه وتلاميذه المفسرين [5] .

16-

تفسير: شيبان بن عبد الرحمن النحوي التميمي ت 164هـ.

ذكره ابن النديم [6] .

وأفاد منه الإمام أحمد في مسنده حيث صرح بذلك [7] .

17-

تفسير: هشيم بن بشير بن القاسم السلمي الواسطي ت 183هـ.

قال الداوودي: "صاحب التفسير الذي يرويه عنه أبو هشام زياد بن أيوب بن زياد البغدادي"[8] .

وهو كما قال فقد ذكر السمعاني أن شيخه أبا الفضل محمد بن علي البخاري المطهري قد سمع هذا التفسير من طريق أيوب بن زياد عن هشيم [9] .

وقد حصل الروداني رواية إجازة هذا التفسير من طريق أيوب بن زياد أيضا [10] .

وذكره ابن النديم [11] وأفاد الحاكم [12] والواحدي [13] بعض الروايات التفسيرية عن هشيم.

18-

تفسير ابن سلام: يحي بن سلام التميمي ت 200 هـ.

ذكر سزكين نسخة واحدة [14] وهي النسخة التي ذكرها بروكلمان [15] .

وتوجد خمس نسخ أخرى الأولى في مكتبة حسن حسني عبد الوهاب برقم 18653 تقع في 104 ورقة والباقي في جامع القرويين في فاس [16] .

ص: 470

كتب القرن الثالث الهجري

19-

تفسير عبد الرزاق بن همام الصنعاني ت 211 هـ.

لم يذكر سزكين نسخة معالي الشيخ حسن آل الشيخ التي أهداها لجامعة الملك سعود ومن هذه النسخة صورة في مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى تقع في (242) ورقة [17] .

20-

التفسير: سنيد بن داود المصيص ت 220 هـ (أو حسين بن داود) .

قال الداوودي: "وله تفسير رواه عنه محمد بن إسماعيل الصائغ".

روى له ابن ماجة [18] .

وذكره ابن النديم في الفهرست [19] .

وأفاد من تفسيره جمع من الأئمة كالطبري في "تفسيره"[20] وابن عبد البر في "التمهيد"[21] وابن كثير في "تفسيره"[22] والذهبي في "العلو"[23] وابن قيم الجوزية في "إعلام الموقعين"[24] وابن حجر في "الإصابة "[25] والسيوطي في "الإتقان"[26] و"الدر المنثور"[27] .

21-

تفسير: عبد الغني بن سعيد الثقفي ت 229 هـ.

قال الداوودي: "صاحب التفسير حدث عنه بكر بن سهل الدمياطي"[28] .

أفاد من تفسيره الحافظ ابن حجر في الإصابة في ثمانية مواضع.

وصرح بأن الطبراني روى عنه في "تفسيره"وأن ابن منده أفاد من "تفسير عبد الغني"[29] .

وأفاد أبو نعيم [30] والواحدي [31] وابن قيم الجوزية [32] والسيوطي [33] عدة روايات تفسيرية له.

22-

التفسير: لأبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة ت 235 هـ.

ذكره ابن النديم [34] ، والداوودي [35] ، وحاجي خليفة [36] ، والخطيب البغدادي [37] .

وأفاد منه الحاكم [38] والبيهقي [39] والسيوطي [40] بعض الروايات في التفسير.

23-

التفسير: لعثمان بن أبي شيبة بن محمد بن إبراهيم الكوفي ت 239 هـ.

ذكره الخطيب البغدادي [41] وابن النديم [42] والداوودي [43] .

وأفاد الحاكم بعض الروايات التفسيرية في المستدرك كتاب التفسير [44] .

ص: 471

24-

التفسير: لأبي حفص عمرو بن علي بن بحر بن كثير الصيرفي الفلاّس ت 249 هـ.

قال الداوودي: "صاحب التفسير الذي رواه عنه علي بن إسماعيل بن حماد البزار "[45] . وهو كما قال فقد حصل الحافظ ابن حجر [46] والروداني [47] رواية إجازة هذا التفسير من طريق علي ابن إسماعيل عن المؤلف.

وأفاد البخاري في صحيحه بعض الروايات التفسيرية عن شيخه عمرو بن علي [48] .

25-

تفسير: عبد بن حميد الكشي ت 249 هـ.

ذكر سزكين أن ابن حجر اقتبس من هذا التفسير في "الإصابة"[49] ، ولم يذكر القطعة من هذا التفسير في حاشية تفسير ابن أبي حاتم الذي فيه سورتا آل عمران والنساء وهو المجلد الثاني.

وقد أفاد من هذا التفسير الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"[50] و"تغليق التعليق"[51] و"موافقة الخبر الخبر"[52] والسيوطي في "الإتقان"[53] و"الدر المنثور"[54] .

وأفاد منه ابن كثير في تفسيره كثيرا [55] .

وأفاد منه أيضا ابن قيم في "شفاء العليل"[56] .

وذكر هذا التفسير حاجي خليفة والداوودي. [57]

26-

تفسير البكري: لأبي الحسن أحمد بن عبد الله بن محمد البكري ت نحو 250 هـ.

منه نسخة في رشيد أفندي بالسليمانية اسطنبول برقم 35 [58] .

27-

التفسير: لعبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل الدارمي ت 255 هـ.

ذكره الداوودي وذكر أنه روى عنه أبو داود الترمذي وبقي بن مخلد ومطين [59] .

وكلهم من المفسرين.

وذكره أيضا الخطيب البغدادي [60] .

ويوجد في سننه أكثر من (150) رواية تفسيرية [61] .

28-

تفسير: أبي سعيد عبد الله بن سعيد الأشج ت 257 هـ.

حصل على إجازة روايته السمعاني من طريق ابن أبي حاتم الرازي ت 328 هـ فقد ذكره السمعاني في ترجمة شيخه أبي الفضل محمد بن علي البخاري المطهري [62] .

وذكره ابن النديم [63] والداوودي [64] وحاجي خليفة [65] .

ص: 472

وأفاد ابن أبي حاتم الرازي من هذا التفسير 224 رواية في المجلد الثاني من تفسير ابن أبي حاتم [66] .

وأفاد أيضا الواحدي في كتابيه "التفسير الوسيط"[67] و"أسباب النزول"[68] .

وهدا التفسير كان عند أحمد بن علي بن يحي بن العباس الأسد اباذي [69] .

29-

تفسير العسكري: لأبي محمد الحسن بن علي الهادي العسكري ت 260 هـ.

ذكر سزكين ست نسخ بينما توجد ثمان نسخ أخرى الأولى في المعهد الإسماعيلي بلندن برقم 489 تقع في 702 ورقة، والثانية والثالثة في الوزيري/ يزد برقم 5980 تقع في 264 ورقة وبرقم 10616 في 96 ورقة والرابعة في ملك الوطنية طهران برقم 186 تقع في 171 ورقة والخامسة في مدرسة سبهسالار/ طهران برقم 997 في 293 ورقة، والسادسة في مكتبة الإمام الحكيم العامة/ النجف برقم 837 في 216 ورقة، والسابعة في مكتبة الإمام الحكيم أيضا برقم 1190م في 142 ورقة، والثامنة في دار المخطوطات/ البحرين برقم 407 [70]

30-

تفسير: أبي يحي عبد الرحمن بن محمد بن سلم الرازي ت 219 هـ.

ذكره الداوودي وقال: "حدث عنه أبو أحمد العسال وأبو الشيخ والطبراني"[71] . وكذا ذكره الذهبي [72] .

وقد أفاد من تفسيره الإمام الواحدي في أسباب النزول [73] وفي "التفسير الوسيط"[74] وأفاد أيضا أبو الشيخ في تفسيره [75] وأبو نعيم في "صفة الجنة"[76] .

كتب القرن الرابع الهجري

31-

التفسير الكبير: لإبراهيم بن إسحاق بن يوسف النيسابوري الأنماطي ت 303 هـ.

ذكره الذهبي [77] والداوودي وذكر أنه سمع إسحاق بن راهويه وعمرو ابن علي [78] ...... وهما من المفسرين.

32-

تفسير القرآن:

33-

معاني القرآن:

للحافظ محمد بن إسحاق بن خزيمة ت 311 هـ.

ذكرهما ابن خزيمة في "صحيحه"و"كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل"[79] وكلاهما له.

ص: 473

34-

تفسير القرآن: للحكيم أبي عبد الله محمد بن علي الترمذي ت 320 هـ.

منه نسخة في المكتبة الوطنية بوردور برقم 143 تقع في 134 ورقة كتبت سنة 549 هـ[80] .

35-

معرفة اشتقاق أسماء نطق بها القرآن وجاءت بها السنن والأخبار: لأبي بكر بن عزيز السجستاني ت 330 هـ.

منه نسخة مصورة ميكروفيلم عن نسخة مكتبة الأسكوريال في مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى برقم 52 تقع في 167 ورقة [81] .

36-

تفسير الكتاب العزيز: لأبي بكر محمد بن أحمد بن محمد الكناني اليمني المعروف بابن الحداد ت 344 هـ.

منه نسخة في الجامعة الأمريكية في بيروت برقم 235 وهي الجزء الثاني من التفسير تقع في 97 ورقة [82] .

37-

أحكام القرآن: لأبي الحكم منذر بن سعيد البلوطي الأندلسي ت 355 هـ.

ذكره ياقوت وذكر له أيضا "الناسخ والمنسوخ"[83] .

وذكرها الداوودي وزاد: "تفسير القرآن "[84] .

وحصل على إجازة روايته ابن خير [85] .

وأفاد من تفسيره ابن قيم في كتابيه "مفتاح دار السعادة"ص 12 و1 2 و"طريق الهجرتين وباب السعادتين "ص 344 [86] .

38-

أوضح البرهان في مشكلات القرآن: لمحمد بن أبي الحسن النيسابوري ت 355 هـ.

منه نسخة مصورة في مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى عن نسخة المكتبة الوطنية بتونس تقع في 37 ورقة برقم 912.

ونسخة أخرى مصورة عن مكتبة دار الكتب المصرية وتقع في 415 ورقة برقم 706 [87] .

39-

نكت القرآن الدالة على البيان: لمحمد بن علي بن محمد أبو أحمد الفقيه الكرجي المعروف بالقصاب ت 360 هـ.

منه نسخة في مكتبة مرادملاّ برقم 317 وتقع هذه النسخة في 218 ورقة.

ومنها نسخة مصورة ميكروفيلم في مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى [88] .

وقد ذكر الذهبي هذا الكتاب [89] .

45-

تفسير القرآن: ينسب إلى محمد بن أحمد بن محمد بن يحي بن مفرج ت 380 هـ.

ص: 474

منه نسخة في الوطنية/ باريس برقم 637 تقع في 138 ورقة كتبت في القرن السابع الهجري [90] .

41-

تفسير جزء عم: لأبي الحسن علي بن عيسى بن علي النحوي الرماني ت 384 هـ.

منه نسخة في التيمورية/ القاهرة برقم 201 في جزء كتبت سنة 1096هـ[91] .

42-

الفرائد المشتملة على فوائد البسملة والحمدلة: لمحمد بن ناصر الدين المعروف بابن الطحان ت 384 هـ.

منه نسخة مصورة ميكروفيلم في مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى عن نسخة مكتبة المدرسة الصديقية بحلب برقم 791 [92] .

43-

تفسير القرآن: لأبي طالب محمد بن علي بن عطية الحارثي المكي ت 386 هـ.

منه نسخة في خزانة القرويين/ فاس برقم 937 [93] .

44-

الاستغناء في علوم الدين: وهو تفسير الأدفوي أبو بكر محمد بن علي بن أحمد النحوي ت 388 هـ.

ذكر سزكين المجلد الأول فقط في سليم آغا [94] ولكن يوجد في سليم آغا/ اسطنبول ثلاث مجلدات أخرى: المجلد الرابع برقم 564 ويقع في 456 ورقة.

المجلد الخامس برقم 65 ويقع في 456 ورقة.

المجلد السابع برقم 66 ويقع في 456 ورقة [95] .

وتوجد قطعة في تونس ذكرها عبد الله بن عبد الغني كحيلان في رسالته الماجستير:

الأدفوي مفسرا وتحقيق سورة الفاتحة من تفسيره [96] .

45-

جامع التأويل في تفسير القرآن: لأبي الحسن أحمد بن فارس بن زكريا اللغوي ت 395 هـ.

ذكره الداوودي [97] .

وأفاد من تفسيره القرطبي في تفسيره وذكر إسناد المؤلف إلى ابن عباس [98] .

46-

تفسير السور الست الأولى من القران الكريم: لابن أبي زمنين محمد بن عبد الله ابن عيسى المري ت 399 هـ.

منه نسختان أو جزءان في خونتا/ مدريد برقم 51 تقع في 144 ورقة والأخرى برقم 52/ 1 تقع في 243 ورقة وكلتاهما كتبتا في القرن العاشر الهجري [99] .

47-

تفسير القرآن: لابن حارث أحمد بن محمد من علماء القرن 4 هـ.

ص: 475

منه نسخة في الجمعية الآسيوية/ كلكته برقم 49/ AV 600 تقع في 262 ورقة كتبت سنة 1127 هـ[100] .

كتب العقد الأول من القرن الخامس الهجري

48-

تفسير القرآن: لابن اللبان محمد بن عبد الله بن أحمد البصري ت 402 هـ.

منه نسخة في السليمانية/ اسطنبول برقم 188 [101] .

49-

حقائق التأويل في متشابه التنزيل: للشريف الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين ابن موسى العلوي الحسيني الموسوي ت 406 هـ.

منه نسخة في رضا/ مشهد برقم 3/118 المجلد الخامس ويقع في 201 ورقة كتبت سنة 533 هـ.

وأخرى في التيموريّة/ القاهرة برقم 535 المجلد الأول كتبت سنة 1337 هـ[102] .

وكتب إلي الأستاذ الفاضل سعدي الهاشمي أن الكتاب مطبوع في النجف عام 1355 هـ.

50-

تفسير النيسابوري: لأبي القاسم حسن بن محمد بن حبيب بن أيوب ت 406 هـ.

منه نسخة في مدرسة قره مصطفى باشا/ اسطنبول برقم 68 وأخرى في مدرسة مصلى/ اسطنبول برقم 18 وهي المجلد الثاني وأخرى في مهر شاه سلطان/ اسطنبول برقم 31 وهي المجلد الأول تقع في 1824 ورقة [103] .

51-

تفسير أبى سعيد الحنفي النيسابوري: لأبي سعيد عبد الله بن محمد بن إبراهيم النيسابوري ت 407 هـ.

منه نسخة في الوطنية/ طهران برقم 20 كتبت سنة 981 هـ[104] .

52-

مسائل منثورة من تفسير القران: لابن سلامة أبي القاسم هبة الله بن سلامة ت 410 هـ.

منه نسخة في المسجد الأحمدي بطنطا برقم 8اخ/365ع [105] .

وإلى اللقاء مع كتب القراءات

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

هذه الأرقام تتمة لما سبق.

[2]

الفهرس الشامل للتراث/ مخطوطات التفسير 1/28.

ص: 476

[3]

تهذيب الكمال 2/310.

[4]

تهذيب التهذيب 1/197 وتغليق التعليق 2/25

[5]

طبقات المفسرين 1/ 181

[6]

الفهرست ص 36.

[7]

انظر على سبيل المثل المسند 2/437 و3/13 و261 و4/29.

[8]

طبقات المفسرين 2/353..

[9]

التحبير الكبير 2/ 179.

[10]

صلة الخلف 1/40.

[11]

الفهرست ص 37 و 284.

[12]

انظر على سبيل المثال المستدرك 2/ 221.

[13]

انظر على سبيل المثال أسباب النزول ص 385.

[14]

تأريخ التراث العربي 1/ 91.

[15]

تأريخ الأدب العربي 4/10.

[16]

الفهرس الشامل للتراث/ مخطوطات التفسير 1/36،35

[17]

فهرس علوم القرآن 2/ 89 وقارن مع تأريخ التراث العربي 1/ 184.

[18]

طبقات المفسرين 1/215،214.

[19]

ص 36.

[20]

انظر على سبيل المثال رقم 144 و854 و1688.

[21]

انظر على سبيل المثال 10/30 و16/232.

[22]

انظر على سبيل المثال 1/126،124 وقد أفاد منه تسع مرات.

[23]

انظر ص126.

[24]

انظر على سبيل المثال 4/100و 116.

[25]

انظر 4/318و 7/336.

[26]

1/100.

[27]

2/653 و675.

[28]

طبقات المفسرين 1/ 330.

[29]

انظر موارد ابن حجر في الإصابة 2/ 481 والإِصابة 3/ 41 و 1/353.

[30]

انظر على سبيل المثال صفة الجنة ص 8 و3 1 و88 و95.

[31]

انظر على سبيل المثال أسباب النزول ص 59.

[32]

انظر على سبيل المثال الروح ص 153.

[33]

انظر على سبيل المثال الدر المنثور 4/ 264.

[34]

الفهرست ص 37.

[35]

طبقات المفسرين 1/225.

[36]

كشف الظنون 1/437.

[37]

تاريخ بغداد 10/ 66.

[38]

انظر على سبيل المثال المستدرك 2/222، 261، 270.

[39]

انظر على سبل المثال إثبات عذاب القبر 228/229.

ص: 477

[40]

انظر على سبيل المثال الدر المنثور 4/28، 30، 38. والمهذب فيما وقع في القرآن من المعرب ص 97.

[41]

تاريخ بغداد 11/ 284

[42]

الفهرست ص 285.

[43]

طبقات المفسرين 1/384.

[44]

انظر على سبيل المثال 2/222، 297.

[45]

طبقات المفسرين 2/ 20.

[46]

المعجم المفهرس ل 88.

[47]

صلة الخلف 1/40.

[48]

انظر على سبيل المثال 2/23.

[49]

تأريخ التراث العربي 1/217.

[50]

انظر على سبيل المثال 3/ 440.

[51]

انظر على سبيل المثال 4/169.

[52]

انظر على سبيل المثال ص 305 و 344

[53]

انظر على سبيل المثال 3/5 و 4/219.

[54]

انظر على سبيل المثال 1/ 10 و 11.

[55]

انظر على سبيل المثال 1/122،115،7/482،336،113،112.

[56]

انظر موارد ابن قيم الجوزية في كتبه ص 32.

[57]

طبقات المسفرين 1/374 وكشف الظنون 1/453.

[58]

الفهرس الشامل للتراث/ مخطوطات التفسير 1/42.

[59]

طبقات المفسرين 1/242- 244.

[60]

تأريخ بغداد 10/ 29.

[61]

انظر على سبيل المثال 1/3،4،5،6،9،37،39،49،54،55،65،75.

[62]

التحبير في المعجم الكبير 2/177،178.

[63]

الفهرست ص 37.

[64]

طبقات المفسرين 1/235.

[65]

كشف الظنون 1/442.

[66]

4/1745 وهو تحت الطبع بتحقيقي.

[67]

انظر على سبيل المثال ص 553.

[68]

انظر على سبيل المثال ص 85، 86، 103.

[69]

انظر تأريخ بغداد 4/326.

[70]

الفهرس الشامان للتراث/ مخطوطات التفسير 1/43-46.

[71]

طبقات المفسرين ا/ 288.

[72]

سير أعلام البلاء 13/ 530.

[73]

أنظر على سبيل المثال ص 213.

[74]

انظر على سبيل المثال 17 و13 6 و656 و778 و816 و.82 و943.

[75]

الإصابة 5/ 444.

[76]

أنظر ص 15 و 89.

[77]

سير أعلام النبلاء 14/193.

[78]

طبقات المفسرين 1/7.

ص: 478

[79]

انظر مقدمة صحيح ابن خزيمة ص12 ص 14.

[80]

الفهرس الشامل للتراث/ مخطوطات التفسير 1/78.

[81]

فهرس علوم القرآن 2/302.

[82]

الفهرس الشامل للتراث/ مخطوطات التفسير 1/87.

[83]

معجم الأدباء 19/ 174- 176.

[84]

طبقات المفسرين 2/ 336.

[85]

فهرست ما رواه عن شيوخه ص 54.

[86]

انظر موارد ابن قيم الجوزية في كتبه ص 32.

[87]

فهرس علوم القرآن 2/ 34.

[88]

فهرس علوم القرآن 2/332.

[89]

سير أعلام النبلاء 16/213.

[90]

الفهرس الشامل للتراث/ التفسير 1/116.

[91]

الفهرس الشامل للتراث/ التفسير 1/ 120.

[92]

فهرس علوم القرآن 2/209.

[93]

الفهرس الشامل للتراث/ التفسير 1/ 120.

[94]

تاريخ التراث العربي 1/107.

[95]

الفهرس الشامل للتراث/ 1/ 121.

[96]

ص 3.

[97]

طبقات المفسرين 1/ 61.

[98]

أحكام القرآن 20/ 204.

[99]

الفهرس الشامل للتراث / التفسير 1/ 120- 121.

[100]

الفهرس الشامل للتراث/ التفسير 1/ 122.

[101]

الفهرس الشامل للتراث/ التفسير 1/127.

[102]

الفهرس الشامل للتراث/ التفسير 1/127.

[103]

الفهرس الشامل التراث/ التفسير 1/128- 29 1.

[104]

الفهرس الشامل للتراث/ التفسير 1/ 129.

[105]

الفهرس الشامل للتراث/التفسير 1/129

ص: 479

مسائل في النحو أجاب عليها أبو البقاء يعيش بن علي ابن

يعيش الحلبي

قال الشيخ الإِمام الحافظ أبو البقاء يعيش بن علي بن يعيش الحلبي- رحمه الله:

هذه مسائل وردت علينا من دمشق على يد الشيخ الفقيه العالم الحافظ أبي نصر الدمشقي [1]رحمه الله فأمليت ما حضر من الكلام عليها وبالله التوفيق.

المسألة الأولى: كونهُ قائماً.

بماذا يَنتصبُ قائماً، لأنّ المفتقِرةَ لا مَصدَر لها، والتَّامةَ لا عملَ لها في خبرٍ، بل يُرفَع ما بعدها بحقّ الفاعل، فهي بمعنى الحدُوثِ والوقوع.

والجواب: اعلم أنّ كان الناقصةَ مخالفَةٌ لغيرها مِن الأفعال الحقيقية/34/ب إذ كل فعلٍ دالٍ على الحدث الذي أخذ منه، وعلى زمن وجود ذلك الحدث، ولذلك يؤكد بالمصدر، فتقول: ضرب زيَدٌ عمراً ضرباً وقعد خالدٌ قعوداً، وهذا الفعل- أعني- كان إذا كان دالاً على الزمان مجرداً من الحدث وصار الخبر بعده مُغْنياً عما اختُزل من الحدث، ولذلك كانت ناقصةً، ولزم خبرها ولم يسمعْ حذفُهُ مع أن فيه أمرين كل واحد منهما يسوغ الحذف: كونه مفعولاً [2] والمفعول يجوز حذفه وسقوطه من اللفظ، والآخر كونه خبراًَ للمبتدأ في الأصل، وخبر المبتدأ يجوز سقوطه أيضاً إذا كان في اللفظ ما يدل عليه، ومع ذلك لا يجوز سقوطه مع كان لأنه قد صار عوضاًَ من الحدث، ولأجل أن كان يفيد الحدث لا يجوز أن يؤكد بالمصدر، فلا يقال: كان زيدٌ قائماً كوناً كما يقال: قام زيدٌ قياماً، لأن التأكيد تمكين بما أفاده اللفظ الأول، فإذا لم يفد اللفظ حدثاً لا يصح تأكيده بحدثٍ؛ فأما قولهم: كونه قائماً ونحو ذلك فإنما هو كلام محمول على معناه دون لفظه، وذلك أن المصدر يقدر بأن والفعل فكأن التقدير: وإن كان قائماً فانتصاب المصدر ههنا باعتبار الفعل المقدر لا باعتبار المصدر الملفوظ به، فأعربه [3] .

ص: 480

المسألة الثانية: قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً} [4] .

(أصحاب الجنة) رفع بالابتداء والخبر (خير) وفيه ضمير يعود على المبتدأ ولم يجمع الخبر مجمع المخبر عنه لأن من مرادة هنا، والتقدير: أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً من غيرهم [5] وساغ حذفها لمكان العلم بها، ومن يسوغ حذفها إذا وقعت في الخبر نحو: قوله تعالى: {اللَّهِ أَكْبَرُ} [6] ولا يحسن الحذف/ أ/35 معها إذا كانت صفةً، لأن الصفة تذكر للبيان والإِيضاح فهو بالإسهاب والإكثار أجدر منه بالحذف، وأفعل إذا كانت مشفوعةً بمن كانت في معنى الفعل ويبعد من شبه اسم الفاعل فلا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث بل يكون بلفظ واحدٍ في الأحوال كلها نحو قولك: زيد أفضل من عمروٍ والزيدان أفضل من خالدٍ، والزيدون أفضل من جعفرٍ، فالمراد أنه يفضلهم ويزيد فضله عليهم فلذلك لم يجمع وإن كان هو الأول في المعنى فأما قول السائلِ: إن الخبر هنا ليس هو الأول غير صحيح بل هو الأول إلا أنه لم يجمع لما ذكرناه، و (مستقراً) هنا نصب على التمييز والفعل له في الحقيقة: وإنما نقل إلى الأول حتى صار الفعل له في اللفظ كما يقال: طبت نفساً والمراد به طابت به نفسي، ولو أضفت وقلت: خير مستقر لم يصح أن يكون خبراً لأنه غير الأول حينئذ فلا يكون خبراً إلا على حذف مضافٍ تقديره: مستقر أصحاب الجنة يومئذ خيرٌ مستقرا، وأصحاب الجنة يومئذ ذوو خير مستقر لابد من ذلك، لأن أفعل لا تضاف إلا إلى شيء هو بعضه وأصحاب الجنة ليسوا من المكان الذي هو مستقر في شيء، ونظير ذلك لو قلت: يوسف أفضل عبد كان من العبيد، ولو نصبت فقلت: أفضل عبد لكان عبيده يفضلون عبيد غيره ولا يكون من العبيد.

فأما الظرف الذي هو (يومئذ) فإنه يتعلق بالخبر الذي هو خير وإن قُدِّمَ عليه.

مسألة الثالثة: عند، وسوى، وغير، وكل، هل يجوز تصغيرهن أو لا؟

ص: 481

الجواب: هذه الأسماء لم يسمع تصغيرها والقياس يأباه، أما عند فلا تصغر لعدم تمكنها، ولأن الغرض من تصغير الظروف التقريب كَتُحَيّت وفويق إذا أريد القرب، وعند في غاية القرب فلما دل لفظ مُكَبَّره على مُصَغّرِهِ لم يحتج إلى تصغيرها [7] مع أن التصغير وصف من جهة المعنى ألا ترى أنك إذا قلت: رجيل فمعناه رجل صغير، وإذا كان كذلك فلا يسوغ تصغير عند كما لا يسوغ وصفها.

أما غير فلا تصغر بخلاف مثل فإنها تصغر فيقول: مثيل هذا [8] ولا تقول: عنيدة، وذلك من قبيل أن المماثلة- قد تختلف بأن تقل وتكثر ألا ترى أنك تقول: هذا أكثر مماثلة من هذا، وهذا أقل مماثلةً من هذا، وليست غير كذلك لأن غير اسم لكل ما لم يكن المضاف إليه، فإذا قلت: غيرك فكل من عداك فهو غيرك، وليس في كون غيره معنى يكون أنقص من معنى فتصغر الناقص.

وأما سوى فكغير مع ما في سوى من عدم التمكين وامتناع وصفها.

وأما كل فلا أرى في تصغيرها فائدة وذلك أن كلا اسم لجميع أجزاء الشيء- فهو للعموم، والكثرة والتصغير ينافى هذا المعنى مع أن الشيء إنما يكون صغيراً حقيراً بالإضافة إلى ما له ذلك الاسم وهو أكثر منه، وهذا المعنى مفقود في كل فاعرفه [9] .

المسألة الرابعة: الميم في أنتما.

وذلك أن الميم في أنتما لأي شيء جيء بها وقد حصل بها مجاوزة الواحد بالألف؟

ص: 482

الجواب: أن الميم في أنتما وأنتم جيء بها لمجاوزة الواحد وجيء بالألف في التثنية والواو في الجمع، نحو: أنتما، وأنتمو للدلالة على العدد، ولم يكتفوا بدلالة الألف وحدها والواو وحدها، فيقال: أنت وأنتو لئلا تصير الأسماء كأواخر الأفعال، نحو: ضربا وضربوا فزادوا الميم لتكون زيادة الأسماء مخالةً لزيادة الأفعال، وخصوا الأفعال بالزيادة الواحدة والأسماء بالزيادتين لخفة الأسماء وثقل الأفعال وقد يحذفون الواو في صيغة الجمع تخفيفاً، فيقولون: أنتم وغلامكم [10] لثقل الواو مع الأمن من اللبس بالتثنية إذ لو زيدت التثنية لجيء بالألف البتة [11] وذلك لخفة الألف لم يجز حذفها بخلاف الواو فإنه بثقلها تحذف ألا ترى أن من يقول في عضد عضد بالإسكان لا يقول في قَلَمٍ: قَلْمُ بالإسكان لخفة الفتحة وهي من الألف والضمة من الواو.

المسألة الخامسة: المصدر العامل عمل فعله يجوز حذف الفاعل معه في كثيرٍِ من الكلام ولا يجوز حذفه مع الفعل في موضعٍ من المواضع فما الفرق بينهما؟

ص: 483

الجواب: إن الفعل لابد له من الفاعل إذا كان خبراً أو مسنداً إليه وبه ينعقد الكلام فحذف الفاعل يخل بفائدة الإسناد وإذا أريد حذف الفاعل أضمر في الفعل. وأما المصدر فإن فاعله من تتمة الاسم وتوضيحاته ولا ينعقد منه مع المصدر كلام، ألا ترى أنك إذا قلت: أعجبني ضرب زيدٍ عمراًَ كان المصدر مع ما بعده من تتمة الاسم بمنزلة ضرب زيدٌ عمراً، وانعقاد الكلام إنما كان بإسناد الإعجاب إليه لا بمجرد المصدر مع معموله، لأن المصدر مع ما أضيف إليه وتعلق به بمنزلة اسمٍ واحدٍ. ولما كان المصدر اسماً غير فعلٍ ولا مشتق من الفعل [12] على سبيلِ الصفة لم يجز إضمار الفاعل فيه كما لم يجز الإضمار في سائر أسماء الأجناس فحينئذٍ تحذف جزماًَ وتنوى ثبوته، نحو قوله تعالى:{أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً} [13] . والمراد أنتم [14] فحذف الفاعل مع المصدر/ كما نبهوا بذلك على استغنائه عن الفاعل لكونه اسماً صريحاً والأسماء في الأصل مكتفية بأنفسها مستغنيةٌ عن غيرها والأفعال ليست كذلك.

المسألة السادسة: إذا قيل كان زيدٌ قائماً؟ كيف الإخبار عن زيدٍ بالذي وبالألف واللام وعن قائم؟

فالجواب: إذا أخبرت عن زيدٍ بقولك: كان زيدٌ قائماً، قلت: الذي كان قائماً زيدٌ، أتيت بضميرِ مرفوعٍ موضع زيد الذي هو اسم كان فاستهتر في كان وأخرت زيداً إلى آخر الكلام وجعلتهَ الخبر عن الموصول، إذ لو قدمته على قائم كنت فاصلاً بين ما هو الصلة والموصول وهو أجنبي من الصلة إذ لا عمل له فيه.

وتقول في الإخبار بالألف واللام أو إلى مدلولها على الخلاف [15] وزيد المخبر.

ص: 484

ولو أخبرت عن قائم لقلت: الذي كان زيدٌ إياه قائمٌ وضعت موضع الخبر ضميراً منفصلاً، وإن شئت أتيت به متصلاً، فتقول: الذي كان زيدٌ قائم، وإن شئت الكائنة زيد قائم فتكون الهاء في الكائنة في محل نصب كما تقول: الضاربة زيدٌ فإن/ الهاء في محل نصب وقد منع قوم من الإخبار عن المفعول في هذا الباب، قال ابن السراج هو قبيح [16] لأنه ليس مفعولاً على الحقيقةَ وإضماره متصلاً إنما هو مجاز لأن حقيقة المفعول أن يكون غير الفاعل، نحو: ضرب زيدٌ عمراً، وفي هذا الباب ليست شيئاً غير الفاعل فاعرفه.

المسألة السابعة: إذا قيل يا زيدون، هل هو معرب أو مبني؟ فإن كان معرباً فما وجه رفعه وليس لنا مرفوع في هذا الباب أصلاً ولا جائز أن يكون مبنياًَ مع وجود الواو والنون.

الجواب: إذا ناديت جماعةً هذه أسماؤهم وقصدتهم دون غيرهم صار الاسم معرفةًِ بالقصد لأن تعريف العلمية زال بالجمع وبنى على الضم كما يبني يا رجل إذا قصدت واحداً بهيئته بعينه، نحو قوله [17] :

ويلي عليك وويلي منك يا رجل [18]

.... .... .... ....

وتكون الواو بمنزلة الضمة في المفرد، ونظير ذلك قولك في النفي: لا رجلين في الدار فيكون مبنياً بمنزلة لا رجل فالياء في رجلين كالفتحة في رجل لأن هذه الحروف وسيلة الحركات في الدلالة.

هذا هو مذهب سيبويه في رجلين [19] .

وأبو العباس كان يذهب إلى امتناعه [20] فإنما ذلك لاستبعاد تركيب شيئين، أحدهما مبني لا لأن الياء لا تقوم مقام الفتحة.

ص: 485

المسألة الثامنة: قولهم: قيل إن زيداً قائم، الذي يقوم مقام الفاعل لهذا الفعل، لا جائز أن تقام إن وما عملت فيه، لأنه جملةٌ، والجملة لا تكون فاعلةً ولا قائمةً مقامه لإيغالها في التنكير، كيف والفاعل يضمر ولا جائزٌ أن يروح إلى مصدر مبهم [21] ، لأن الفعل دالٌ عليه بلفظه ولا فائدة في الإتيان به وإسناد الفعل إليه لا فائدة فيه إذا كان مستفاداً من لفظ الفعل.

الجواب: اعلم أن قال فعل متعد ولهذا يتصل به الضمير المنصوب فتقول: قيلِ وتصوغِ منه اسم مفعولٍ فتقول مقولٌ، وذلك كله من خصائص التعدي ومفعوله يكون جملةًَ محكيةً، نحو، قولك: زيدٌ عمروٌ منطلقٌ، إذا حكي قول من قالت ذلك، وكذلك سيبويه رحمه الله: وإنما تحكي بعد القول ما كان كلاماً لا قولاً [22] .

ومعنى قولنا إنه محكي أن القول غير عاملٍ في لفظه بل في محله وموضعه وإذا كان كذلك فالقول بعد القول في تقدير مصدرٍ منصوبٍ انتصاب المفعول به من حيث كان كلاماً/ فإذا بنيته لما لم يسم فاعله أقمت تلك الجملة المحكية مقام الفاعل لأنها مفعولة ولذلك قيل إنها في مسألتنا محكيةٌ، فهي في تأويل المفرد فقام مقام الفاعل إذا بني لما لم يسم فاعله، ولذلك يجوز تقديم الجملة إذا كانت مفعولة، فتقول: زيد قائمٌ قال زيد، ويمتنع زيدٌ قائمٌ قيل لأن الجملة في موضع الفاعل والفاعل لا يتقدم.

المسألة التاسعة: إنْ وأنْ المخففتان من الثقيلة إذا لم يعملا لم يلزم الإضمار في المفتوحة دون المكسورة وحكمهما واحد في العمل، والمفتوحة إذا وليها لا جاز أن تجعلها المخففة من الثقيلة وتضمر فيها وجاز أن تجعلها ناصبةً للأفعال المستقبلة وتنوى زيادة لا وذلك لا يجوز مع السين وسوف والجميع للتعويض.

ص: 486

الجواب: هذا السؤال فيه اضطراب ومقارنات فاسدة إن وأن إذا لم يعملا لم يلزم الإضمار في المفتوحة دون المكسورة وحكمهما واحدٌ ليس بصحيح بل حكمهما يختلف على ما سنبينه.

وقوله: إنَّ المفتوحة إذا وليها لا جاز أن يجعلها المخففة من الثقيلة وجاز أن يجعلها الناصبة للفعل فليس ذلك على الإطلاق ولا لأمرٍ راجعٍ إلى لا؛ بل لما سنذكره إن شاء الله.

اعلم أنَّ إنْ المكسورة إذا خففت بطل عملها ظاهراً وباطناً وذلك أنّ إنْ إنما عملت لشبهها بالفعل من جهة لفظها على أكثر من حرفين، إنّ زيداً لقائم، قال تعالى:{إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [23] هذا هو مذهب أكثر النحويين [24] وبعضُهم يُعمِلهُا مخففةً كما يُعمِلهُا مثقلة [25] ، ويحتج بأنّ حذفَ إحدى النُّونين إنما كان لضربٍ من التّخفِيفِ وما حذف للتخفيف يكون في حكم الثابت الملفوظ به، ألا ترى أنهم يقولونً يقضو الرجل بالسكون، ورضي بالسكون، ولا يردون الياء والواو إلى أصلهما وذلك أن أصل قضو قضى بالياء لأنه من لفظ قضيت ورضي من الواو من الرضوان لم يردوا ذلك الأصل حيث كان حذف هذه الحركات للتخفيف فهو في حكمه الملفوظ به فلذلك أعملها، فَمَنْ يُهمِلها أدخل اللام في خبرها للفصل بينهما وبين إن النافية لأن لفظها قد صار شيئاً واحداً وخُصّت اللام بذلك لأنها كانت تدخلها للتأكيد قبل التخفيف فجاءوا بها بعد التخفيف للإيذان بأنها مخففة من تلك التي كانت هذه اللام تدخل عليها للتأكيد، ومن يعملها لم يحتج إلى الفرق لأن العمل فارقٌ، وأما المفتوحة فإذا خففت فإنه لا يبطل عملها نحو: علمت أن زيداً قائمٌ، وإذا رفع لاسم بعدها كان على إضمار الشأن، نحو قوله [26] :

ُانْ هالكٌ كلُّ مَنْ يْخفى وَينتعلُ

في فتية ٍ كسيوفِ الهندِ قد عَلِمو

ص: 487

فالمراد: أنه هالك لأن ضميرَ الشأنِ والحديثِ يفسر بجملة بعده وإنما لم يبطل عملُ المفتوحة كما بطل عمل المكسورة مع أن لفظهما قد نقص أيضاً لأن المفتوحةَ أشدّ طلباً لما بعدها من المكسورة وذلك أنها تقتضي ما بعدها من جهتين: اقتضاء العامل للمعمول والصلة للموصول، والموصولة تقتضي ما بعدها من جهة واحدةٍ فافترق حالهما فلذلك كان القول بأن حكمهما/ واحدٌ تسمّحٌ.

ويقع بعدها الفعل فإذا كان ذلك لزمها العوض، وذلك السن وسوف في الواجب ولا في النفي، نحو: قولك: علمت أن سيقوم زيدٌ وأن سوف يقوم زيدٌ، وأن لا يقوم، كأنهم عوضوها مما لحقها من التخفيف [27] ولإيلائها ما لم يكن يليها فإذا كان قبل أن فعل غير يقيني نحو أن يكون فعل طمعٍ وإشفاق فإنها تكون الناصبة للفعل المستقبل، لأن تلك الأفعال معلقٌ معناها بالمستقبل، والناصبة للفعل تقتضي الاستقبال، فإن كان فعل علم يقين: علمت وتحققت وشببههما فإنها تكون المخففة من الثقيلة وتلزمها العوض نحو: علم أن سيقوم، وتحقق أن لا تذهب، قال تعالى:{عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} [28] لأن المخففة من الثقيلة في التأكيد كالمثقلة فناسب أن يكون قبلها فعلٌ يدل على اللزوم والثبات، فإن كان قبلها فعلٌ من أفعال الظن والحسبان نحو: ظننت وحسبت جاز فيها الأمران نحو: حسبت أن لا يخرج بالرفع والنصب وذلك لأن الأفعال فيها طرفٌ من اليقين وطرفٌ من الشك، فالرفع باعتبار اليقين والنصب باعتبار الشك، قال تعالى:{وَحَسِبُوا أَلَاّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} [29] بالرفع [30] والنصب [31] على ما قلنا.

ولا يكون مع السين وسوف إلا المخففة من الثقيلة وذلك من قبيل أن الناصبة للفعل تصرف الفعل للمستقبل.

ص: 488

والسين وسوف تفعلان ذلك فلم يُجمعْ بينهما كما لا يُجمَعُ بين تعريفين في اسمٍ واحدٍ، فامتِناعُ النصب مع السين وسوف وجوازه مع لا لم يكن لأمرٍ يَرجعُ إلى لا كما ظنّ هذا السائل بل كان لما ذكرنَاه فاعرِفْهُ.

المسألة العاشرة: قال: إذا كانت إنْ بمعنى ما النافية- هل- يجوز إعمالهُا عملَ ما على اللغة الحجازية أم لا؟

الجواب: إنْ النافية لا عمل لها وقد جاءت معملة، وسيبويه لا يرى ذلك، لأنها مشبهة بما [32] وإعمال ما يا القياس ضعيفٌ لعدم اختصاصها بالأسماء وان كذلك غير مختصة، قال تعالى:{إِنْ كَانَتْ إِلَاّ صَيْحَةً وَاحِدَة} [33]{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ} [34] وقال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلَّه} [35] وإذا كان إعمال ما ضعيف مع أنها أظهر في النفي ويدخل في خبرها الباء التالية النفي كان أن لا يعمل في إن أجدر، وهذا مذهب سيبويه وذهب المبرد [36] إلى جواز إعمالها قياساً على ما.

المسألة الحادية عشرة [37] : إذا قلت: مررت برجل زيد، كيف يخبر عن التاء في مررت وعن زيد وعن الرجل بالذي وبالألف واللام.

ص: 489

الجواب: إذا أخبرتَ عن التاء من قولك: مررت برجلٍ زيد، قلت: الذي مر برجل زيد أنا، وبالألف واللام: المار برجل زيد أنا، أزلت ضمير المتكلم وجعلت مكانه ضمير الغيبة يعود إلى الموصول واستتر الضمير في الفعل لكونه مرفوعاً وأخرت تاء المتكلم إلى آخر الكلام ووضعت مكانه ضميراً منفصلا لتعذر المتصل وجعلته الخبر عن الموصول فإن أخبرت عن الرجل فقد اختلف النحويون في الإخبار عن مثله فمنهم من لا يجيز الإخبار عن المبدل منه إلا والبدل معه [38] كما يفعل في النعت فتقول: الذي مررت به رجل زيدٌ، وبالألف واللام: المار به أنا رجل زيد، تجعل الرجل خبراً ثم تبدل زيد منه كما كان في أصل المسألة، وأبرزت الضمير لأنه جرى على غير من هو له، إذ الفعل للمتكلم وقد جرى على اللام. ومنهم من يجيز الإخبار عن المبدل منه دون البدل، فتقول على هذا: الذي مررت به زيد رجل، فتبدل زيد من الاسم المضمر كما كان بدلاً من/ مظهره، والألف واللام: المار به زيد أنا رجل، وأراه جائزاًَ على قبح.

وخالف النعت لأن المضمر لا ينعت ولا ينعت به، فإن أخبرت عن زيد في المسألة بالذي، قلت: الذي مررت برجل به زيد، وبالألف واللام: المار أنا برجل به زيد، قال المازني: وهو قبيحٌ [39] ، ومن أجاز ذلك أجاز زيد ضربت أخاك إياه، ويريد أن البدل فضله، وكما ليس في الكلام [40]- ومتى أسقط استغنى الكلام عنه، وإذا كان كذلك، فلو قلت: الذي مررت برجل، أو المار أنا برجل لكان فاسداً [41] لخلو الصلة عن العائد وهو جائز مع قبحه، لأن البدل ملتبس بالمبدل منه كالمسألة.

المسألة الثانية عشر ة: إذا قيل أحوج ما أنت إليه النحو، هل يكون كلاماً صحيحاً أولا؟

الجواب: هذا كلام فيه اضطرابٌ لا يكاد يصح به النظر فيه، وإن كان ظاهره متصلاً وذلك لأمرين:

ص: 490

أحدهما: أن النحو مفعول من حيث أنه محتاج إليه، وأفعل لا يبنى من المفعول [42]، لا يقال: زيداً أضرب من عمرو، وهو منصوب بمعنى أنه أكثر احتمالاً للضرب، وإنما جاء منه ألفاظٌ يسيرةٌ متأولة، نحو قولهم في المثل: أشغل من ذات النَّحيين [43] ، وأزهى من ديك [44] .

الأمر الثاني: أن ما هاهنا لا تخلو من أن تكون موصولة أو موصوفة وكيف ما كانت فلابد من جملة، تكون صلة أوصفه وليس بعدها هاهنا جملة [45] فإن زدت في المسألة وقلت: أحوج ما أنت محتاج إليه أو مُطّرٌ إليه صح من هذه الجهة الأولى.

المسألة الثالثة عشر ة: ليس ما وزنها، ولم اختصت بلفظ الماضي؟

الجواب: ليس فعل على الصحيح من المذاهب [46]، ووزنه في الأصل: فعِل بكسر العين وذلك لا يخلو من أن يكون فعَل بفتح العين أو فعِل بكسر العين أو فعُل بضم العين، فأما قوله [47] :

فإن أهجه يَضجَركما ضَجْرَ بازلٌ [48]

فإنما أصله: ضَجرَ وإنما خفف على حد قولهم: كَتِف وكَتْفٌ.

وأما قوله [49] :

وما كل ساعٍ ولو سَلْفَ صَفْقَةٌ [50]

ص: 491

فأصله: سلَف بفتح اللام لكنه أسكن ضرورةٌ، فالإسكان في المكسورة لغةٌ وفي المفتوحة ضرورةٌ - وإذا كان كذلك فلا يجوز أن يكون ليس فعَل بالفتح إذا لو كان كذلك لبقى على حاله أو انقلب ألفاً لأن المفتوح لا يجوز تسكينه لخفته ألا ترى أنهم لا يقولون في نحو: قَلَم قَلْمٌ كما قالوا في كَتِف كَتْف، ولا يكون فَعُل أيضاً لأن ذلك لم يأت مما عينه أو لامه ياء لما يلزم من انقلاب الياء في المضارع واواً. إذا كان كذلك تعين أن يكون على وزن فَعِل بكسر العين على حد: صيد البعير [51] . والقياس أن يقلب ياؤه ألفاً لتحرك الياء وانفتاح ما قبلها على حد هاب، فيقال: ليس لكنهم قدموا فيه عدم التصرف لشبهه بالحرف النافي، وهو ما، وقيل لتضمنه ما ليس له في الأصل وهو النفي فجمد لذلك، ولم يأت منه مضارع ومعناه نفي ما في الحال كما أن ما كذلك، وإنما خصوا هذا المعنى بلفظ الماضي دون المضارع لأنهم لما أرادوا منه تصرفه للعلة المذكورة قصروه على لفظ الماضي ولم يأتوا بلفظ المضارع، لأن ذلك من دلائل التصرف فنكبوا عنه [52] ونظيره فعل التعجب وعسى ونعم، لما لم يُرَدْ فيه التصرف قصروه على لفظ الماضي فاعرفه- والله تعالى أعلم.

تمت ولله الحمد ظاهراً وباطناً

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

لم أقف على ترجمة له فيما اطلعت عليه من المراجع وكتب التراجم والطبقات.

ص: 492

[2]

القول بأن خبر كان مفعول به هو المفهوم من كلام سيبويه، قال في ترجمة الباب:"هذا باب الفعل الذي يتعدى به اسم الفاعل إلى اسم المفعول واسم الفاعل والمفعول فيه لاسم واحد" ونزل خبر كان منزلة المفعول الثاني في باب ظن وعدم الاقتصار على الفاعل دون المفعول. وقد تابعه المبرد وابن السراج، انظر الكتاب 1/ 21، والمقتضب 3/ 97-98، والأصول 2/ 288-291، والِإنصاف 1/ 441-443، والتبيين 30، والمغني لابن فلاح 1 ق 69.

[3]

يشير بهذا إلى شرط إعمال المصدر عمل فعله، وهو أن يحل محله فعل إما مع أن، نحو: سرني إكرام الضيف أي أن أكرم أو مع ما نحو يعجبني بذل المال غداً، أي ما يبذل.. انظر التبصرة 1/ 239، وشرح ابن يعيش 6/ 60، والِإيضاح لابن الحاجب 1/638، وشرح الكافية الشافية 2/012ا.

[4]

سورهَ الفرقان آية 24.

[5]

هذا البناء على حمل (خيرٍِ) على بابها فيكون التفضيل ليس المستقرين والمقيلين، باعتبار الزمان، والمعنى: أهل الجنة خير مستقراً في الآخرة من المترفين في الدنيا وأحسن فضلاً في الآخرة من أولئك في الدنيا

أنظر البحر المحيط 6/493.

[6]

من آية 72 {ورضوان من الله أكبر} سورة التوبة.

[7]

انظر شرح المفصل لابن يعيش 5/138.

[8]

من أمثلة سيبويه في الكتاب 2/ 135: وما أقول العرب: هو مثيل هذا وأميثل هذا فإنما أرادوا أن يخبروا أن المشبه حقيرٌ كما أن المشبه به حقيرٌ، وانظر المقتضب 2/ 273 ،والأصول 2/ 61

[9]

النص في شرح المفصل 5/138 باختلاف في بعض الجمل والتراكيب.

[10]

أشار المصنف إلى هذا التوجيه في شرح المفصل 3/95.

ص: 493

[11]

البتّة: مصدر مؤكد لا يستعمل إلا بالألف واللام يقال لا أفعله البتة للأمر الذي لا رجعة فيه، ونصبه على المصدر، ولا يكون إلا معرفة عند سيبويه، وسائر البصريين، وذهب الفراء من الكوفيين إلى تنكيره

انظر: سيبويه 1/ 190 والتنبيه الإيضاح (بتت) واللسان (بتت) .

[12]

هذا هو مذهب البصريين، أما الكوفيون فيرون أن الفعل أصل والمصدر مشتق منه، انظر تفاصيل الخلاف في الأصول

لابن السراج 1/137 والِإيضاح للزجاجي 56 والخصائص 1/121،113والإنصاف المسألة (28) والتبيين 143 ،149.

[13]

سورة البلد: آية 14.

[14]

قدره في شرح المفصل 6/11 بهو.

[15]

يريد- والله أعلم- إن الإخبار عن الألف واللام بزيدٍ مثل الذي مع اختلاف في مدلول اللام، نحو: الكائن قائماً زيدٌ، فيؤتى باسم الفاعل من كان الناقصة صلة لأل على القول باسمية أل، وقائما خبر ولاسم مستتر يعود على أل، وزيد خبر أل، والباء بمعنى عن كما هو معروف في هذه المسألة.

[16]

في الأصول لابن السراج 2/ 271: فإن أخبرت عن المفعول بالألف واللام قلت: الضاربة أنا زيدٌ وكان حذفها قبيحاً

وانظر: شرح المفصل للمصنف 3/ 158.

[17]

هو الأعشى ميمون بن قيس كما في ديوانه 57، والجمل 153، وشرح عيون الِإعراب 259، والحلل 194، وشرح ابن يعيش على المفصل 1/129.

[18]

صدره: قالت هريرة لما جئت زائرها.

والبيت في شرح جمل الزجاجي لابن هشام 333 غير منسوب وويلي في الموضعين مصدر منصوب بفعل من غير لفظ الفعل، ومثله، ويح وويه وويت وويس، وإنما لم يكن له المصادر فعل من لفظها لأن الفاء والعين فيها من حروف العلة. ويصح أن يكون مبتدأ خبره متعلق الجار والمجرور بعده

انظر: البيان 1/ 95 المصادر السابقة والشاهد قوله (يا رجل) حيث جاء المنادى مبني على الضمة لأنه نكرة مقصرة بعينها.

[19]

انظر سيبويه 1/348-347.

ص: 494

[20]

انظر المقتضب 357 والأصول لابن السراج 1/ 380-381شرح المفصل 1/106.

[21]

يريد أنه لا يسند إلى المصدر، لأن حذاق الصنعة من أهل العربية منعوا إسناد الفعل إلى المصدر.

[22]

سيبويه 2/62.

[23]

سورة الطارق آية 4.

[24]

ما ذكره المصنف هو ما عناه سيبويه بقوله: وأما أكثرهم فأدخلوا في حروف الابتداء حين حذفوا كما أدخلوها في حروف الابتداء حين ضموا إليها ما

انظر: الكتاب 1/283 وشرح ابن يعيش 8/72.

[25]

إعمال إن المخففة المكسورة الهمزة ورد في استعمال العرب وأساليبها قال سيبويه: حدثنا من نثق به أنه سمع من العرب من يقول: إن عمرًا المنطلق، ثم أورد قراءتي نافع وابن كثير لآية هي (111){وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم} بتخفيف إن المكسورة ونصب كلا اسماً لها، وبهذه الآية أحتج البصريون على إعمال (إن) المكسورة الهمزة وبالقياس على (لم يك، ولم أبل ولا أدر) ومنع الكوفيون إعمالها لعدم مثبتها الفعل الماضي المبني على الفتحة، وأنكر الكسائي قراءة التخفيف في الآية السابقة بقوله: ما أدرى على أي شيء قرأ (وإن كلا) ووجه الفراء النصب في (كلا) على أنه بالفعل بعد (ليوفينهم) لكنه قال: وهو وجه لا أشتهيه

انظر الكتاب 283، ومعاني القرآن 2/ 29-30 وإعراب القرآن 2/114 115، وحجة القراءات 350 والكشف 1/ 536-537، والأزهية 35، والإنصاف 1/ 111-115، والتبيين 347-352.

[26]

هو الأعشى كما في ديوانه 59 وراية الشطر الثاني فيه (أن ليس يدفع عن ذي الحيلة الحيل) .

وهو برواية المصنف في الكتاب 1/ 282، 440/123 ومعاني القرآن للأخفش 2/ 299، والمقتضب 3/ 9، والأصول

ص: 495

2/ 239، وشرح أبيات سيبويه لابن النحاس 124، وابن السيرافي 2/ 76، والخصائص 2/ 441، والمحتسب 1/2318/103، والمصنف 3/ 129، والأزهية 57، والنكت في تفسير كتاب سيبويه 1/515-516، وأمالي ابن الشجري 2/ 2، والإِنصاف 199، وشرح المفصل لابن يعيش 8/ 74. والفتية جمع فتى وهو الشاب (في فتية) في هنا بمعنى مع، أي مع ، أي مع فتية كالسيوف. وجملة (قد علموا) في محل جر صفة لفتية، وفي البيت تشبيه الفتية بالسيوف في مضائهم وعزمهم، أوفي صباحة وجوههم التي تلمع كالسيوف. (أن هالك) سدت مسد مفعولي علم. والشاهد إضمار اسم أن في قوله (أن هالك) لأن أن إذا خففت ووليها ما يقوم بنفسه من مبتدأ أو خبر أو فعل وفاعل حذف اسمها على تقدير ضمير الشأن أو القصة.

[27]

أنظر الأزهية 61، مشكل إعراب القرآن 2/ 422، والتبيان 2/ 472.

[28]

سورة المزمل آية 20

[29]

سورة المائدة آية 71.

[30]

الرفع على قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي وعلى هذا الوجه تكون حسب لليقين وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن، ولا عوض عما حذف منها، والتقدير: وحسبوا أنه.

[31]

وبه قرأ باقي السبعة، وعلى هذا الوجه أن حرف مصدري ينصب الفعل المضارع، وحسب يفيد الشك. انظر الكتاب 1/ 481، وحجة القراءات 233، والكشف 1/416.

[32]

انظر الكتاب 1/ 475، والمقتضب 2/ 359، والأزهية 32.

[33]

سورة الأنعام آية 148.

[34]

سورة يس آية 29.

[35]

سورة يوسف آية 40

[36]

في المقتضب 2/ 359 إشارة إلى أن غير سيبويه يجيز نصب الخبر بها تشبيها بليس كما فعل في (ما) ورجع هذا القول لأنه لا فصل بينها وبين ما في المعنى، والى هذا القول ذهب جماعة من النحاة منهم ابن السراج في الأصول 1/ 236. ونسب الهروي في الأزهية 33هذا القول للكسائي

انظر: المحتسب 1/ 270، والمغني لابن فلاح 1/ق87 والبحر المحيط 4/ 444، والجني الداني 229

ص: 496

[37]

حذفت التاء في الأصل وليس لذلك وجه فوضعنا بين الحاصرتين.

[38]

عزا ابن السراج في الأصول 2/ 304 هذا الوجه إلى المازني، ثم قال: وإلى هذا أذهب، وانظر المقتضب 3/ 111، وشرح الكافية 2/42 وشرح جمل الزجاجي 2/505،507.

[39]

انظر الأصول 2/ 305.

[40]

هذا النص مقلق لا يفهم منه المراد.

[41]

أنظر الأصول 2/ 305.

[42]

يريد أن اسم التفضيل لا يصاغ من الفعل المبني للمجهول والمسألة خلافية، والجواز مشروط بأمن اللبس. انظر شرح عمدة الحافظ 758.

[43]

المثل في امرأة من بني تيم الله بن ثعلبة كانت تبيع السمن في الجاهلية ولها حديث مع خوات الأنصاري قبل إسلامه يستقبح ذكره وبسببه قيل فيها المثل المذكور

انظر: الفاخر في الأمثال 86، وكتاب الأمثال لأبى عبيد 374، وجمهرة الأمثال 1/ 564، ومجمع الأمثال 1/376، والمستقصى 1/196، وفصل المقال 503.

[44]

المثل في كتاب الأمثال 360 يردان (من غراب) وجمهرة الأمثال 1/257، ومجمع الأمثال 1/327، والمستقصى 1/151، وفصل المقال 491. وقد تعرض المصنف لهذه المسألة في شرح المفصل 7/94-95.

[45]

الذي قدره المصنف هو متعلق الجار والمجرور (إليه) الملحوظ من سياق الكلام ولكن لما غلب أن يكون متعلق الجار والمجرور كائن أو مستقرٌ قدر المصنف (مُحتاج أو مُطّر) لافتقار المعنى إليه.

[46]

يشير المصنف إلى الخلاف في فعلية ليس، فقد ذهب أبو علي في المسائل الحلبيات إلى أنها حرف. ونسب هذا القول إلى أبى بكر بن شقير فيكون القول في المسألة قوله ووافقه أبو علي الفارسي، والراجح عند جمهور النحويين أنها فعل بتحملها الضمائر واتصال تاء التأنيث الساكن بها

انظر: سيبويه 1/21 والمقتضب 4/87،190 والأصول لابن السراج 1/82، والمسائل الحلبيات ق 55-61، والتبيين 308، والمغني لابن فلاح 1ق 68 -69، والجني الداني 459، ومغني اللبيب 325.

ص: 497

[47]

هو الأخطل التغلبي كما في معجم مقاييس اللغة 3/ 390، والصحاح والتنبيه والإيضاح واللسان (ضجر) .

[48]

تمام البيت: من الأدم ديرت صفحتاه وغاربه.

والبيت في المنصف 1/ 21 غير منسوب. الشاهد (ضُجْر) بتسكين الجيم استثقالاً للكسرة

[49]

هو الأخطل كما في ديوانه 84 برواية: وما كل مغبون، كما ورد في أدب الكاتب 538، والمنصف 1/21، وشرح أدب الكاتب للجواليقي 386، واللسان (سلف)

[50]

تمام البيت: براجع ما قد فاته برداد.

وقد ورد الشاهد غير منسوب في الخصائص 2/338، والمحتسب.1/53، 62، والاقتضاب 405، وشرح ابن يعيش 7/152، وشرح جمل الزجاجي 2/582

والشاهد قوله (سلْف) بسكون اللام المفتوحة ضرورة، وعدّهُ ابن جني في المنصف شاذاً لأنه احتمل أن يكون من فعل بكسر العين لكنه فعل غير مستعمل إلا أنه في تقدير المستعمل وإن لم ينطق به.

[51]

الصيد: داء يأخذ بأنف البعير فيميل منه رأسه، وهو من أمثلة المصنف في شرح المفصل 7/112، وانظر: التهذيب 12/ 121، والصحاح (صيد) والمخصص 7/ 170، والتبيين 313-314.

[52]

في المقتضب 4/87: إذا قلت أليس زيد قائماً غداً أو الآن- أردت ذلك المعنى في يكون قَلَمّا كانت تدل على ما يدل عليه المضارع استغني عن المضارع فيها، ولذلك لم يبن بناء الأفعال من بنات الياء مثل باع، وانظر شرح المفصل لابن يعيش 7/112.

ص: 498