المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 112 فهرس المحتويات 1- الأثر المشهور عن الإمام مالك رحمه الله - مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - جـ ٤٢

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌ ‌العدد 112 فهرس المحتويات 1- الأثر المشهور عن الإمام مالك رحمه الله

‌العدد 112

فهرس المحتويات

1-

الأثر المشهور عن الإمام مالك رحمه الله في صفة الاستواء

د. عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر

2-

الصفات الإلهية تعريفها وأقسامها: د. محمد بن خليفة بن علي التميمي

3-

تفسير أسماء الله الحسنى للشيخ عبد الرحمن السعدي

تابع (1)

تابع (2)

تابع (3)

تابع (4)

د. عبيد بن علي العبيد

4-

الحدود في علم النحو

تابع (1)

تابع (2)

تابع (3)

للعلامة أحمد الأبذي المتوفى سنة 860هـ د. نجاة حسن عبد الله نولي

عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م

ص: 374

الأثر المشهور عن الإمام مالك رحمه الله في صفة الاستواء

دراسة تحليلية

إعداد

د. عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر

الأستاذ المشارك في كلية الدعوة وأصول الدين

المقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على إمام المرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد: فهذا القسم الثاني من دراستي لأثر الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة رحمه الله المتعلق بصفة الاستواء، وقد سبق في القسم الأول من هذه الدراسة الحديث عن مكانة هذا الأثر وأهميته لدى أهل العلم، وبيان ثبوته عن الإمام مالك رحمه الله بالأسانيد الصحيحة وذكر الشواهد على هذا الأثر من الكتاب والسنة، وذكر نظائر هذا الأثر من خلال ما ورد عن السلف الصالح رحمهم الله، كل ذلك سبق في الفصل الأول من هذه الدراسة، وفي هذا القسم نستكمل ما بقي من فصول هذه الدراسة، حيث بقي ثلاثة فصول وهي:

- ذكر معنى هذا الأثر مدلوله، وما يستفاد منه من ضوابط في توحيد الأسماء والصفات.

- إبطال تحريفات أهل البدع لهذا الأثر.

- ذكر فوائد عامة مأخوذة من هذا الأثر. والله الكريم نرجو التوفيق والسداد.

الفصل الثاني:

في ذكر معنى هذا الأثر وبيان مدلوله وما يستفاد منه

من ضوابط في توحيد الأسماء والصفات

لا شك أنَّ هذا الأثر يتضمّن معاني عميقة ودلالات دقيقة ويشتمل على فوائد عظيمة ودروس قوية متعلّقة بتوحيد الأسماء والصفات، بل بالمنهج الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم في أمور الغيب عموماً، ومن هنا حاز هذا الأثر على استحسان أهل العلم وثنائهم، وكثر استشهادهم به في مؤلّفاتهم، ولهذا رأيتُ إفراد هذا الفصل لبيان معاني هذا الأثر ودلالاته وما يستفاد منه من دروس وضوابط.

ولما كان هذا الأثر ينتظم جُملاً أربعاً رأيت أن أفرد لكل جملة منها مبحثاً مستقلاًّ لبيان ما فيها من دروس وفوائد.

المبحث الأوّل: في معنى قوله: "الاستواء غير مجهول"والضوابط المستفادة منه.

ص: 375

المبحث الثاني: في معنى قوله:"الكيف غير معقول"والضوابط المستفادة منه.

المبحث الثالث: في معنى قوله: "الإيمان به واجب"والضوابط المستفادة منه.

المبحث الرابع: في معنى قوله: "والسؤال عنه بدعة"والضوابط المستفادة منه

المبحث الأوّل:

في معنى قوله: "الاستواء غير مجهول"والضوابط المستفادة منه

مراد الإمام مالك رحمه الله بقوله: "الاستواء غير مجهول"ظاهرٌ بيِّنٌ، حيث قصد رحمه الله أنَّ الاستواء معلوم في لغة العرب، وقد سبق أن نقلت في مبحث سابق جملةً من النقولات عن أئمّة السلف رحمهم الله في معنى الاستواء وأنَّ المراد به في اللغة: العلوّ والارتفاع، وهو من الصفات السمعية المعلومة بالخبر، وهو علوٌّ وارتفاعٌ مخصوصٌ وقع بمشيئة الربّ تبارك وتعالى وإرادته، فعلَا سبحانه وتعالى فوق عرشه كيف شاء سبحانه "فالأصل أنَّ علوَّه على المخلوقات وصفٌ لازمٌ له كما أنَّ عظمته وكبرياءه وقدرته كذلك، وأما الاستواء فهو فعلٌ يفعله سبحانه وتعالى بمشيئته وقدرته، ولهذا قال فيه: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ، ولهذا كان الاستواء من الصفات السمعية المعلومة بالخبر، وأما علوُّه على المخلوقات فهو عند أئمّة أهل الإثبات من الصفات العقلية المعلومة بالعقل مع السمع".

والاستواء كما تقدّم له معنى معلوم من لغة العرب وهو العلوّ والارتفاع، لكن ما يضاف إلى الله منه فهو أمرٌ يليق بجلاله وكماله سبحانه لا يشبه ما يكون من المخلوقين، ولا يجوز أن يثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوقين وملزوماتها كقولهم: لو كان على العرش لكان محتاجاً إليه، ولو سقط العرش لخرّ مَن عليه، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون الجاحدون علواًّ كبيراً، لأنَّ الله تبارك وتعالى أضاف الاستواء إلى نفسه الكريمة كما أضاف إليه سائر أفعاله وصفاته، فلم يذكر استواء مطلقاً يصلح للمخلوقين ولا عاماًّ يتناول المخلوق، وإنما ذكر استواءً أضافه إلى نفسه الكريمة.

ص: 376

فكيف يُتوهَّم أو يُظنّ فيما أضاف الرب سبحانه إلى نفسه أنَّه يشبه ما هو من خصائص المخلوقين، ومن المعلوم أنَّ الإضافة تقتضي التخصيص، فما يُضاف إلى الربّ يخصُّه ويليق بجلاله وكماله، وما يُضاف إلى المخلوق يخصُّه ويليق به وبكونه مخلوقاً ضعيفاً عاجزاً.

فالاستواء المضاف إلى الربّ سبحانه معلومٌ معناه، وهو خاصٌّ بالربّ سبحانه لا يشبه وصف المخلوقين، فكما أنَّه سبحانه له ذاتٌ لا تشبه الذوات فله صفاتٌ لا تشبه الصفات، فمن كان يقرُّ بأنَّ له ذاتاً حقيقة ثابتة في نفس الأمر مستوجبة لصفات الكمال لا يماثلها شيءٌ فله كذلك سمعٌ وبصرٌ وكلامٌ واستواء ونزول ثابتٌ في نفس الأمر، فهو سبحانه متّصفٌ بصفات الكمال التي لا يشابهه فيها سمعُ المخلوقين وبصرهم وكلامهم ونزولهم واستواؤهم. وكما أنَّه لا علم للخلق بكيفية ذات الربّ سبحانه فلا علم لهم بكيفية صفاته سبحانه، إذ العلم بكيفية الصفات يستلزم العلم بكيفية الموصوف، وهو فرعٌ عنه وتابع له.

ولهذا فإنَّ الصفات معلومة من حيث المعاني ومجهولة ومتشابهة من حيث الكيفية، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"والآيات التي ذكر الله فيها أنَّها متشابهات لا يعلم تأويلها إلاّ الله، إنَّما نفى عن غيره علم تأويلها، لا علم تفسيرها ومعناها، كما أنَّه لما سئل مالك رضي الله عنه عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ قال: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"وكذلك ربيعة قبله فبيّن مالك أنَّ معنى الاستواء معلوم، وأنَّ كيفيته مجهولة، فالكيف المجهول هو من التأويل الذي لا يعلمه إلاّ الله، وأما ما يُعلم من الاستواء وغيره فهو من التفسير الذي بيَّنه الله ورسوله.

ص: 377

والله تعالى قد أمرنا أن نتدبّر القرآن، وأخبر أنَّه أنزله لنعقله، ولا يكون التدبُّر والعقل إلاّ لكلام بيَّن المتكلِّم مراده به، فأما من تكلّم بلفظ يحتمل معاني كثيرة ولم يبيِّن مراده منها فهذا لا يمكن أن يُتدبّر كلامه ولا يعقل، ولهذا تجد عامة الذين يزعمون أنَّ كلام الله يحتمل وجوهاً كثيرةً، وأنَّه لم يبيِّن مراده من ذلك قد اشتمل كلامهم من الباطل على ما لا يعلمه إلاّ الله، بل في كلامهم من الكذب في السمعيات نظير ما فيه من الكذب في العقليات، وإن كانوا لم يتعمّدوا الكذب، كالمحدِّث الذي يغلط في حديثه خطأ، بل منتهى أمرهم: القرمطة في السمعيات، والسفسطة في العقليات، وهذان النوعان مجمع الكذب والبهتان".

ص: 378

ولهذا فقد مضى أهل السنة والجماعة قاطبة على إثبات الصفات للباري سبحانه، وفهم معناها ومدلولها فـ"التفاسير الثابتة المتواترة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان تبيَّن أنَّهم إنَّما كانوا يفهمون منها الإثبات، بل والنقول المتواترة المستفيضة عن الصحابة والتابعين في غير التفسير موافقة للإثبات، ولم يُنقل عن أحد من الصحابة والتابعين حرفٌ واحدٌ يوافق قول النفاة، ومن تدبّر الكتب المصنَّفة في آثار الصحابة والتابعين، بل المصنَّفة في السنة، من (كتاب السنة والرد على الجهمية) للأثرم، ولعبد الله بن أحمد، وعثمان بن سعيد الدارمي، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وأبي داود السجستاني، وعبد الله بن محمد الجعفي، والحكم بن معبد الخزاعي، وحشيش بن أصرم النسائي، وحرب بن إسماعيل الكرماني، وأبي بكر الخلاّل، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، وأبي القاسم الطبراني، وأبي الشيخ الأصبهاني، وأبي أحمد العسّال، وأبي نعيم الأصبهاني، وأبي الحسن الدارقطني، وأبي حفص بن شاهين، ومحمد بن إسحاق بن منده، وأبي عبد الله بن بطة، وأبي عمر الطلمنكي، وأبي ذر الهروي، وأبي محمد الخلاّل، والبيهقي، وأبي عثمان الصابوني، وأبي نصر السجزي، وأبي عمر بن عبد البر، وأبي القاسم اللالكائي، وأبي إسماعيل الأنصاري، وأبي القاسم التيمي، وأضعاف هؤلاء رأى في ذلك من الآثار الثابتة المتواترة عن الصحابة والتابعين، ما يُعلم معه بالاضطرار أنَّ الصحابة والتابعين كانوا يقولون بما يوافق مقتضى هذه النصوص ومدلولها، وأنَّهم كانوا على قول أهل الإثبات المثبتين لعلوِّ الله نفسه على خلقه، المثبتين لرؤيته، القائلين بأنَّ القرآن كلامه ليس بمخلوق بائن عنه.

وهذا يصير دليلا من وجهين:

أحدهما: من جهة إجماع السلف، فإنَّهم يمتنع أن يجمعوا في الفروع على خطأ، فكيف في الأصول؟

الثاني: من جهة أنَّهم كانوا يقولون بما يوافق مدلول النصوص ومفهومها، لا يفهمون منها ما يناقض ذلك.

ص: 379

ولهذا كان الذين أدركوا التابعين من أعظم الناس قولاً بالإثبات وإنكاراً لقول النفاة، كما قال يزيد بن هارون الواسطي:"من قال: إنَّ الله على العرش استوى خلاف ما يقرّ في نفوس العامة فهو جهمي".

وقال الأوزاعي: "كنا والتابعون متوافرون نقرُّ بأنَّ الله فوق عرشه ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته".

قال الإمام الصابوني رحمه الله: "وعلماء الأمة وأعيان الأئمة من السلف رحمهم الله لم يختلفوا في أنَّ الله تعالى على عرشه وعرشه فوق سماواته، يُثبتون له من ذلك ما أثبته الله تعالى ويؤمنون به ويُصدِّقون الرب جل جلاله في خبره، ويُطلقون ما أطلقه سبحانه وتعالى من استوائه على العرش ويُمرُّونه على ظاهره ويَكِلون علمه إلى الله، ويقولون: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَاّ أُولُو الأَلْبَابِ} ، كما أخبر الله تعالى عن الراسخين في العلم أنَّهم يقولون ذلك ورَضِيَه منهم فأثنى عليهم به".

وبما تقدّم يتّضح أنَّ مراد الإمام مالك رحمه الله بقوله: "الاستواء غير مجهول"أي غير مجهول المعنى، وأنَّه ثابت لله حقيقة على وجه يليق بجلاله سبحانه.

قال ابن قدامة رحمه الله في كتابه ذم التأويل: "وقولهم: "الاستواء غير مجهول"أي غير مجهول الوجود، لأنَّ الله تعالى أخبر به، وخبرُه صدقٌ يقيناً لا يجوز الشك فيه، ولا الارتياب فيه، فكان غير مجهول لحصول العلم به، وقد روي في بعض الألفاظ "الاستواء معلوم" ".

ولم يكن أحد من السلف رحمهم الله يتعرض لنصوص الاستواء أو غيره من الصفات بتأويل يصرف فيه هذه الألفاظ عن معانيها ودلالاتها المعلومة من لغة العرب.

ص: 380

روى اللالكائي في شرح الاعتقاد عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة أنَّه قال: "اتفق الفقهاء كلُّهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الربّ عز وجل، من غير تفسير ولا وصف ولا تشبيه، فمن فسّر اليوم شيئاً من ذلك فقد خرج عما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وفارق الجماعة، فإنَّهم لم يصفوا ولم يفسِّروا، ولكن أفتَوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا، فمن قال بقول جَهمٍ فقد فارق الجماعة، لأنَّه قد وصفه بصفة لا شيء".

وروى البيهقي وغيره عن أبي عبيد القاسم بن سلاّم قال: "هذه الأحاديث التي يقول فيها ضحِك ربُّنا مِن قنوط عباده وقُرْب خيره، وأنَّ جهنّم لا تمتلئ حتى يضع ربُّك فيها قدمَه، والكرسي موضع القدمين، وهذه الأحاديث في الرؤية، هي عندنا حقٌّ حَمَلَها الثقات بعضهم عن بعض، غير أنّا إذا سُئلنا عن تفسيرها لا نفسِّرها، وما أدركنا أحداً يُفسِّرها".

فلم يكن مِن هؤلاء الأئمة مَن يخوض في صفات الله بشيء من التفسيرات الباطلة والتحريفات للنصوص، بل كانوا يمرُّونها كما جاءت بلا تحريف، فالمراد بقول محمد بن الحسن:"لم يُفسِّروا"وقول أبي عبيد "لا نفسِّرها، وما أدركنا أحداً يفسِّرها"نفي تحريف الصفات وصرفها عن ظاهرها الذي دلّت عليه لغة العرب كما هو الحال عند الجهمية، ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعد أن أورد كلام أبي عبيد المتقدِّم "فقد أخبر أنَّه ما أدرك أحداً من العلماء يفسِّرها تفسير الجهمية".

وتفسيرات الجهمية لهذه الصفة كثيرة جداًّ وهي تقارب العشرين، كما قال مرعي بن يوسف الكرمي: "وأما أهل التأويل من الخلَف فقد اختلفوا في الاستواء على نحو العشرين قولاً

" وذكرها.

ص: 381

وهي تأويلات متكلّفة وتحريفات بغيضة تأباها النصوص ويردّها سياق الأدلّة المشتملة على ذكر استواء الربّ تبارك وتعالى على عرشه، وكما يقول العلاّمة ابن القيِّم رحمه الله:"إنَّ استواء الرب المعدى بأداة على المعلق بعرشه المعرّف باللاّم المعطوف بـ"ثمّ"على خلق السموات والأرض المطَّرَد في موارده على أسلوب واحد ونمط واحد، لا يحتمل إلاّ معنىً واحداً لا يحتمل معنيين ألبتة، فضلاً عن ثلاثة أو خمسة عشر كما قال صاحب (القواصم والعواصم) : إذا قال لك المجسِّم {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فقل استوى على العرش يستعمل على خمسة عشر وجهاً فأيُّها تريد؟ فيقال له: كَلَاّ والذي استوى على العرش لا يحتمل هذا اللفظ معنيين ألبتة، والمُدَّعي للاحتمال عليه بيان الدليل، إذ الأصل عدم الاشتراك والمجاز، ولم يذكر على دعواه دليلاً ولا بيّن الوجوه المحتملة حتى يصلح قوله (فأيُّها تريدون وأيُّها تعنون) وكان ينبغي له أن يبيِّن كلّ احتمال ويذكر الدليل على ثبوته، ثم يطالب حزب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بتعيين أحد الاحتمالات، وإلاّ فهم يقولون لا نسلِّم احتماله لغير معنىً واحد، فإنَّ الأصل في الكلام الإفراد والحقيقة، دون الاشتراك والمجاز فهم في منعهم أولى بالصواب منك في تعدد الاحتمال، فدعواك أنَّ هذا اللفظ يحتمل خمسة عشر معنى دعوى مجرّة ليست معلومة بضرورةٍ ولا نصٍ ولا إجماعٍ".

إلَاّ أنَّ أشهر تأويلات هؤلاء وأكثرها ذيوعاً بينهم هو قولهم: إنَّ الاستواء المراد به الاستيلاء، وهو تأويل باطل وتحريف فاسد، أبطله أهل العلم من وجوه كثيرة، وفيما يلي تلخيص لبعض الوجوه التي ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في إبطال هذا التأويل:

ص: 382

"أولاً: إنَّ هذا التفسير لم يفسّره أحد من السلف من سائر المسلمين من الصحابة والتابعين، فإنَّه لم يفسِّره أحد في الكتب الصحيحة عنهم، بل أول من قال ذلك بعض الجهمية والمعتزلة، كما ذكره أبو الحسن الأشعري في كتاب المقالات وكتاب الإبانة.

ثانياً: إنَّ معنى هذه الكلمة مشهور، ولهذا لما سُئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن ومالك بن أنس عن قوله:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ؟ قالا: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.

ثالثاً: إنَّه إذا كان معلوماً في اللغة التي نزل بها القرآن كان معلوماً في القرآن.

رابعاً: إنَّه لو لم يكن معنى الاستواء في الآية معلوماً لم يحتج أن يقول: الكيف مجهول، لأنَّ نفيَ العلم بالكيف لا ينفي إلَاّ ما قد عُلم أصله، كما نقول: إنَّا نقرُّ بالله ونؤمن به، ولا نعلم كيف هو.

خامساً: الاستيلاء سواء كان بمعنى القدرة أو القهر أو نحو ذلك هو عام في المخلوقات كالربوبية، فلو كان استوى بمعنى استولى، كما هو عام في الموجودات كلّها لجاز مع إضافته إلى العرش أن يُقال: استوى على السماء، وعلى الهوى، والبحار والأرض، وعليها ودونها ونحوها، إذ هو مستوٍ على العرش، فقد اتفق المسلمون على أنَّه يُقال: استوى على العرش، ولا يُقال استوى على هذه الأشياء، مع أنَّه يُقال استولى على العرش والأشياء، علم أنَّ معنى استوى خاص بالعرش ليس عاماً كعموم الأشياء.

ص: 383

سادساً: أنّه أخبر بخلق السموات والأرض في ستة أيّام ثم استوى على العرش، وأخبر أنَّ عرشَه كان على الماء قبل خلقها، وثبت ذلك في صحيح البخاري عن عمران بن حُصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كان الله ولا شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذِّكر كلَّ شيء ثم خلق السموات والأرض"، مع أنَّ العرش كان مخلوقاً قبل ذلك، فمعلوم أنَّه ما زال مستولياً عليه قبل وبعد، فامتنع أن يكون الاستيلاء العام هذا الاستيلاء الخاص بزمان كما كان مختصاًّ بالعرش.

سابعاً: أنَّه لم يثبت أنَّ لفظ استوى في اللغة بمعنى استولى، إذ الذين قالوا ذلك عمدتهم البيت المشهور:

ثم استوى بِشر على العراق

من غير سيفٍ ولا دم مهراق

ولم يثبت نقل صحيح أنَّه شعر عربي، وكان غير واحد من أئمة اللغة أنكروه، وقالوا: إنَّه بيت مصنوع لا يُعرف في اللغة، وقد علم أنَّه لو احتجّ بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لاحتاج إلى صحّته، فكيف بيت من الشعر لا يُعرف إسناده؟! وقد طعن فيه أئمة اللغة، وذُكر عن الخليل كما ذكره أبو المظفر في كتابه الإفصاح قال:"سُئل الخليل هل وجدتَ في اللغة استوى بمعنى استولى؟ فقال: هذا ما لا تعرفه العرب، ولا هو جائز في لغتها". وهو إمام في اللغة على ما عرف من حاله، فحينئذ حمله على ما لا يُعرف حمل باطل.

ثامناً: أنَّه روي عن جماعة من أهل اللغة أنّهم قالوا: لا يجوز استوى بمعنى استولى إلَاّ في حقِّ من كان عاجزاً ثم ظهر، والله سبحانه لا يعجزه شيء، والعرش لا يغالبه في حال، فامتنع أن يكون بمعنى استولى، فإذا تبيّن هذا فقول الشاعر:

ثم استوى بِشر على العراق

لفظ مجازي لا يجوز حمل الكلام عليه إلَاّ مع قرينة تدل على إرادته، واللفظ المشترك بطريق الأولى، ومعلوم أنَّه ليس في الخطاب قرينة أنَّه أراد بالآية الاستلاء.

ص: 384

وأيضاً فأهل اللغة قالوا: لا يكون استوى بمعنى استولى إلَاّ فيما كان منازعاً مغالباً، فإذا غلب أحدهما صاحبه قيل: استولى، والله لم ينازعه أحد في العرش، فلو ثبت استعماله في هذا المعنى الأخص مع النزاع في إرادة المعنى الأعم لم يجب حمله عليه بمجرّد قول بعض أهل اللغة مع تنازعهم فيه، وهؤلاء ادّعوا أنّه بمعنى استولى في اللغة مطلقاً.

تاسعاً: أنَّ معنى الاستواء معلوم علماً ظاهراً بين الصحابة والتابعين وتابعيهم، فيكون التفسير المحدث بعده باطلاً قطعاً، وهذا قول يزيد بن هارون الواسطي، فإنَّه قال:"إنَّ من قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} خلاف ما تقرّر في نفوس العامة فهو جهمي"، ومنه قول مالك:"الاستواء معلوم"، وليس المراد أنَّ هذا اللفظ في القرآن معلوم كما قال بعض الناس: استوى أم لا؟ أو أنَّه سُئل عن الكيفية ومالك جعلها معلومة، والسؤال عن النزول ولفظ الاستواء ليس بدعة ولا الكلام فيه، فقد تكلّم فيه الصحابة والتابعون، وإنَّما البدعة السؤال عن الكيفية".

وقد أبطل العلاّمة ابن القيم هذا التأويل الفاسد في كتابه الصواعق المرسلة من اثنين وأربعين وجهاً، فلم يدَعْ رحمه الله لمبطل متعلّقاً.

فإذا تبيّن فساد هذا التأويل الذي هو أشهر تأويلات هؤلاء، فإنَّ ما سواه من التأويلات أشدّ فساداً وأكثر بعداً عن الحق والصواب.

وقبل أن أختم هذا المبحث أودّ التنبيه على أمرين:

الأول: كلام القاضي أبي يعلى في كتابه إبطال التأويلات بعد أن ذكر أثر أم سلمة في آية الاستواء حيث قال: "فقد صرّحت بالقول بالاستواء غير معقول، وهذا يمنع تأويله على العلوّ والاستيلاء".

قال هذا رحمه الله، مع أنَّ لفظ الأثر عنده "الاستواء غير مجهول"أي غير مجهول المعنى وهو العلو والارتفاع كما تقدّم فكيف يُقال: إنَّه يمتنع تأويله بالعلوّ، مع أنَّ هذا هو معنى اللفظ في لغة العرب.

ص: 385

الثاني: قول القرطبي بعد أن نقل ما قيل في معنى الاستواء حيث قال: "أظهر الأقوال وإن كنتُ لا أقول به ولا أختاره ما تظاهرت عليه الآي والأخبار والفضلاء الأخيار أنَّ الله سبحانه على عرشه كما أخبر في كتابه بلا كيف بائنٌ من جميع خلقه، هذا جملة مذهب السلف الصالح".

فهو كلام غريب من مثله رحمه الله، إذ كيف يكون على علم بتظاهر الآيات عليه وقول الفضلاء الأخيار به وأنَّه مذهب السلف الصالح ثم يصرّح بأنَّه لا يقول به ولا يختاره، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَاّ الضَّلال} ، ولذا قال السفاريني رحمه الله بعد أن نقل كلامه هذا:"وفي قوله رحمه الله: "وإن كنتُ لا أقول به" غاية العجب، لأنَّه اعترف بتظافر الآيات القرآنية عليه ودلالة الأخبار النبوية إليه، وتعويل السلف الصالح الأخيار عليه، فكيف يليق من مثله أن يقول: "وإن كنتُ لا أقول به ولا أختاره"مع الدلالات القرآنية والأحاديث النبوية، وكونه معتقد الرعيل الأول والحزب الذي عليه المعوَّل

". وبالله وحده التوفيق.

المبحث الثاني:

في معنى قوله: "والكيف غير معقول"والضوابط المستفادة منه

قول الإمام مالك رحمه الله في الاستواء: "والكيف غير معقول"هو نظير قول غير واحد من أئمة السلف في إثبات الصفات عموماً: "بلا كيف"، وقد سبق نقل بعض ألفاظهم في ذلك ومنها غير ما تقدّم:

قول سفيان بن عيينة: "كلُّ شيء وصف الله به نفسه في القرآن فقراءته تفسيره ولا كيف ولا مثل".

وقول وكيع: "نسلم هذه الأحاديث كما جاءت ولا نقول كيف هذا، ولِمَ جاء هذا".

وسبق أن مرَّ معنا قول مالك نفسه رحمه الله، وغيره من أئمة السلف في الصفات:"أَمِرُّوها كما جاءت بلا كيف".

ص: 386

قال شيخ الإسلام: "فقول ربيعة ومالك: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب" موافق لقول الباقين:"أمرُّوها كما جاءت بلا كيف"فإنَّما نفوا علم الكيفية ولم ينفوا حقيقة الصفة، ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرّد من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله لما قالوا:"الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول"، ولما قالوا:"أمرُّوها كما جاءت بلا كيف"، فإنَّ الاستواء حينئذ لا يكون معلوماً بل مجهول بمنزلة حروف المعجم وأيضاً فإنَّه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم عن اللفظ معنى، إنّما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات، وأيضاً فإنَّ من ينفي الصفات الجزئية أو الصفات مطلقاً لا يحتاج إلى أن يقول:"بلا كيف"فمن قال: إنَّ الله ليس على العرش، لا يحتاج أن يقول: بلا كيف، فلو كان مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر لما قالوا: بلا كيف. وأيضاً فقولهم: "أمرُّوها كما جاءت"يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه، فإنّها جاءت ألفاظاً دالّة على معاني، فلو كانت دلالتُها منتفية لكان الواجب أن يُقال: أمرّوا لفظها مع اعتقاد أنَّ المفهوم منها غير مراد، أو أمرّوا لفظها مع اعتقاد أنَّ الله لا يوصف بما دلّت عليه حقيقة، وحينئذ تكون قد أُمِرَّت كما جاءت، ولا يُقال حينئذ:"بلا كيف"، إذ نفي الكيف عما ليس بثابت لغوٌ من القول".

وقول السلف رحمهم الله: "الكيف مجهول"أو "بلا كيف"يتضمّن عدّة فوائد أُجملها فيما يلي:

1-

قطع طمع العقل في إدراك كيفية صفات الله، وأنَّ ذلك غير ممكن "مهما تصوّر في وهمك فالله بخلاف ذلك".

2-

أنّهم نفوا علمنا بالكيفية، ولم ينفوا أن يكون في نفس الأمر كيفية لا يعلمها إلَاّ هو سبحانه "نفي الشيء غير نفي العلم به""لم يقل مالك: الكيف معدوم، وإنما قال الكيف مجهول".

3-

عدم العلم بالكيفية لا يقدح في الإيمان بالصفات.

ص: 387

4-

إثبات الصفة لله حقيقة، لأنَّ من ينفي الصفات ولا يثبتها لا يحتاج أن يقول:"لا كيف".

5-

إنَّ العلم بكيفية الشيء تكون برؤيته أو رؤية نظيره أو الخبر الصادق عنه، والمؤمنون لن يرى أحدٌ منهم ربَّه في الدنيا، والله تبارك وتعالى لا نظير له، ولم يأت في الخبر الصادق ذكر لكيفية صفات الباري سبحانه.

6-

إمكانية العلم بكيفية الصفة عند رؤية الله في الآخرة.

7-

بطلان قول المعتزلة وغيرهم الذين ينفون أن يكون له ماهية وحقيقة وراء ما علموه.

8-

التوقّف عند النصوص وما دلّت عليه وعدم تجاوزها فالكيف مجهول، "لأنَّه لم يرد به توقيف ولا سبيل إلى معرفته بغير توقيف".

9-

الردّ على الممثِّلة، لأنَّ كلَّ ممثِّل مكيِّف.

10-

أنَّ إثبات أهل السنة والجماعة للصفات هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف، فالمؤمن مُبصِرٌ بها من وجه، أعمى من وجه آخر.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "المشهور بين أهل السنة والجماعة أنَّه لا يُقال في صفات الله عز وجل (كيف) ولا في أفعاله (لِمَ) وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أنَّ السلف والأئمة نفوا علمنا الآن بكيفيته، كقول مالك: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول". لم ينفوا أن يكون في نفس الأمر له حقيقة يعلمها هو، وتكلّمنا على إمكان العلم بها عند رؤيته في الآخرة أو غير ذلك، لكن كثيراً من الجهمية من المعتزلة وغيرهم ينفون أن يكون له ماهية وحقيقة وراء ما علموه".

ص: 388

وقال ابن القيم رحمه الله: "ومراد السلف بقولهم: "بلا كيف"هو نفي للتأويل، فإنَّه التكييف الذي يزعمه أهل التأويل، فإنَّهم هم الذين يثبتون كيفيةً تخالف الحقيقة فيقعون في ثلاثة محاذير: نفي الحقيقة، وإثبات التكييف بالتأويل، وتعطيل الرب تعالى عن صفته التي أثبتها لنفسه، وأما أهل الإثبات فليس أحد منهم يكيِّف ما أثبته الله تعالى لنفسه، ويقول: كيفية كذا وكذا، حتى يكون قول السلف "بلا كيف"ردًّا عليه، وإنّما ردّوا على أهل التأويل الذي يتضمّن التحريف والتعطيل، تحريف اللفظ وتعطيل معناه".

وقال أيضاً: "إنَّ العقل قد يئس من تعرّف كُنه الصفة وكيفيتها، فإنَّه لا يعلم كيف الله إلَاّ الله، وهذا معنى قول السلف "بلا كيف"أي: بلا كيف يعقله البشر، فإنَّ من لا تعلم حقيقة ذاته وماهيته، كيف تعرف كيفية نعوته وصفاته؟ ولا يقدح ذلك في الإيمان بها، ومعرفة معانيها، فالكيفية وراء ذلك، كما أنا نعرف معاني ما أخبر الله به من حقائق ما في اليوم الآخر، ولا نعرف حقيقة كيفيته، مع قرب ما بين المخلوق والمخلوق، فعَجْزُنا عن معرفة كيفية الخالق وصفاته أعظم وأعظم.

ص: 389

فكيف يطمع العقل المخلوق المحصور المحدود في معرفة كيفية من له الكمال كلّه، والجمال كلّه، والعلم كلُّه، والقدرة كلّها، والعظمة كلّها، والكبرياء كلّها؟ من لو كُشف الحجاب عن وجهه لأحرقت سبحاته السموات والأرض وما فيهما وما بينهما، وما وراء ذلك، الذي يقبض سمواته بيده فتغيب كما تغيب الخردلة في كفِّ أحدنا، الذي نسبة علوم الخلائق كلّها إلى علمه أقلَّ من نسبة نقْرة عصفور من بحار العلم الذي لو أنَّ البحر يمدُّه من بعده سبعة أبحر مداد وأشجار الأرض من حين خلقت إلى قيام الساعة أقلام، لفَنِيَ المداد وفنيت الأقلام، ولم تنفد كلماته، الذي لو أنَّ الخلق من أول الدنيا إلى آخرها، إنسهم وجِنَّهم، وناطقهم وأعجمهم، جُعلوا صفًّا واحداً ما أحاطوا به سبحانه، الذي يضع السموات على إصبع من أصابعه، والأرض على إصبع، والجبال على إصبع، والأشجار على إصبع، ثمّ يهزّهنَّ، ثم يقول: أنا الملك.

فقاتل الله الجهمية والمعطّلة! أين التشبيه ها هنا؟ وأين التمثيل؟ لقد اضمحلَّ ها هنا كلُّ موجود سواه، فضلاً عن أن يكون له ما يماثله في ذلك الكمال، ويشابهه فيه، فسبحان من حجب عقول هؤلاء عن معرفته، وولاّها ما تولّت من وقوفها مع الألفاظ التي لا حرمة لها، والمعاني التي لا حقائق لها.

ولما فهمت هذه الطائفة من الصفات الإلهية ما تفهمه من صفات المخلوقين، فرَّت إلى إنكار حقائقها، وابتغاء تحريفها، وسمَّته تأويلاً، فشبّهت أوَّلاً، وعطّلت ثانياً، وأساءت الظنَّ بربِّها وبكتابه وبنبيِّه، وبأتباعه".

ثم بيّن رحمه الله وجه إساءة هؤلاء الظنّ بربِّهم وكتابه ونبيّهم وأتباعه.

ص: 390

وقال الجويني في رسالته (النصيحة في صفات الرب جلَّ وعلا) : "وصفاته معلومة من حيث الجملة والثبوت، غير معقولة له من حيث التكييف والتحديد، فيكون المؤمن بها مبصراً من وجه، أعمى من وجه، مبصراً من حيث الإثبات والوجود، أعمى من حيث التكييف والتحديد، وبهذا يحصل الجمع بين الإثبات لما وصف الله به نفسه، وبين نفي التحريف والتشبيه والوقوف، وذلك هو مراد الله تعالى مِنَّا في إبراز صفاته لنا لنعرفه بها، ونؤمن بحقائقها وننفي عنها التشبيه، ولا نعطلها بالتحريف والتأويل، لا فرق بين الاستواء والسمع، ولا بين النزول والبصر، لأنَّ الكلَّ ورد في النص".

فهذا هو مراد السلف رحمهم الله بقولهم: "بلا كيف".

ومع ذلك فقد قال الزمخشري المعتزلي في كشافه: "ثم تعجب من المتسمّين بالإسلام، المتسمّين بأهل السنة والجماعة كيف اتخذوا هذه العظيمة مذهباً، ولا يغرّنك تستّرهم بالبَلْكَفَة، فإنَّه من منصوبات أشياخهم، والقول ما قال بعض العدلية فيهم:

لجماعة سمّوا هواهم سنّة وجماعة حمر لعمري موكفه

قد شبّهوه بخلقه وتخوّفوا شنع الورى فتستّروا بالبلكفه".

وقد أجاب بعض أهل العلم عن هذين البيتين بمثلهما فقال:

عجباً لقوم ظالمين تلقّبوا ب العدل ما فيهم لعمري معرفة

قد جاءهم من حيث لا يدرونه تعطيل ذات الله مع نفي الصفة

ص: 391

ثم هم مع تعطيل الذات ونفي الصفة قد شبّهوا الله تبارك وتعالى بخلقه، لأنّهم إنما قالوا بالتعطيل لتوهمهم التشبيه، ففرّوا منه إلى التعطيل، فوقعوا في تشبيه آخر، وهو تشبيه الله بالممتنعات والمعدومات أو الجمادات، وذلك بحسب نوع تعطيلهم، وقد "برّأ الله أتباع رسوله وورثته القائمين بسنّته عن ذلك كلّه فلم يصفوه إلَاّ بما وصف به نفسه ووصفه به نبيُّه صلى الله عليه وسلم، ولم يجحدوا صفاته، ولم يشبّهوها بصفات خلقه، ولم يعدلوا بها عمّا أنزلت عليه لفظاً ولا معنى، بل أثبتوا له الأسماء والصفات ونفوا عنه مشابهة المخلوقات، فكان إثباتهم بريًّا من التشبيه، وتنزيههم خليًّا من التعطيل لا كمن شبّه حتى كأنَّه يعبد صنماً، أو عطّل حتى كأنَّه لا يعبد إلَاّ عدَماً"، والحمد لله رب العالمين.

المبحث الثالث:

في معنى قوله "والإيمان به واجب"والضوابط المستفادة منه

ص: 392

لا ريب أنَّ الإيمان بالاستواء وغيره من صفات الباري سبحانه واجبٌ، وكذلك "الجحود به كفرٌ، لأنَّه ردٌ لخبر الله، وكفرٌ بكلام الله، ومن كفر بحرف متفق عليه فهو كافر، فكيف بمن كفر بسبع آيات وردَّ خبَرَ الله تعالى في سبعة مواضع من كتابه"، وقد سبق أنْ مرّ معنا نصوصٌ كثيرةٌ في مبحث سابق فيها أوضح دلالة على وجوب الإيمان بأسماء الله وصفاته الواردة في الكتاب والسنة. و"كتاب الله من أوّله إلى آخره، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أوّلها إلى آخرها، ثم عامة كلام الصحابة والتابعين، ثم كلام سائر الأئمة مملوءٌ بما هو إمّا نصٌ وإمّا ظاهرٌ في أنَّ الله سبحانه وتعالى هو العليُّ الأعلى، وهو فوق كلِّ شيء، وهو على كل شيء، وإنَّه فوق العرش، وإنَّه فوق السماء، مثل قوله تعالى:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} ، {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (1){أَأَمِنْتُمْ مَن فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} (2){أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} (3){بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ} (4){تَعْرُجُ المَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} (5){يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} (6){يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} (7){ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ} ، في ستّة مواضع، {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} ، {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَوَاِت فَأَطِّلِعَ إِلَى إِلَهِ ُموَسى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} ، {تَنْزِيلٌ مِنْ

(1) سورة: فاطر، الآية:(10) .

(2)

سورة: آل عمران، الآية:(55) .

(3)

سورة: الملك، الآية:(16) .

(4)

سورة: الملك، الآية:(17) .

(5)

سورة: النساء، الآية:(158) .

(6)

سورة: المعارج، الآية:(4) .

(7)

سورة: السجدة، الآية:(5) .

ص: 393

حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (1){مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} (2) أمثال ذلك مما لا يحصى إلا بكلفة.

وفي الأحاديث الصحاح والحسان ما لا يحصى إلا بالكلفة، مثل قصة معراج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربّه، ونزول الملائكة من عند الله وصعودها إليه، وقوله في الملائكة الذين يتعاقبون فيكم بالليل والنهار:"فيعرج الذين باتوا فيكم إلى ربهم فيسألهم وهو أعلم بهم".

وفي الصحيح في حديث الخوارج: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحاً ومساءً"، وفي حديث الرقية الذي رواه أبو داود وغيره "ربّنا الله الذي في السماء، تقدّس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتُك في السماء اجعل رحمتَك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفاءك على هذا الوجع" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اشتكى أحد منكم أو اشتكى أخ له فليقل: ربنا الله الذي في السماء

"، وذكره، إلى أمثال ذلك مما لا يحصيه إلاّ الله، مما هو من أبلغ المتواترات اللفظية والمعنوية".

فليس لمسلمٍ يؤمن بوحي الله وتنزيله ويؤمن بما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجحد شيئاً من ذلك أو يتعرَّض له بردٍّ أو تحريفٍ أو نحو ذلك، بل الواجب هو القبول والتسليم والإيمان والتعظيم، و"القول الشامل في جميع هذا الباب: أن يوصف الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، وبما وصفه به السابقون الأولون لا يُتجاوز القرآن والحديث.

(1) سورة: غافر، الآيات:(36،37)

(2)

رة: فصلت، الآية:(42) .

ص: 394

قال الإمام أحمد رضي الله عنه: "لا يوصف إلَاّ بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا يُتجاوز القرآن والحديث"، ومذهب السلف أنّهم يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، ونعلم أنَّ ما وصف الله به من ذلك فهو حقٌّ ليس فيه لُغْزٌ ولا أحَاجي، بل معناه يعرف من حيث يعرف مقصود المتكلّم بكلامه، لا سيما إذا كان المتكلّم أعلم الخلق بما يقول، وأفصح الخلق في بيان العلم، وأفصح الخلق في البيان والتعريف والدلالة والإرشاد، وهو سبحانه مع ذلك ليس كمثله شيء، لا في نفسه المقدّسة المذكورة بأسمائه وصفاته، ولا في أفعاله، فكما نتيقّن أنَّ الله سبحانه له ذات حقيقة، وله أفعال حقيقة، فكذلك له صفات حقيقة وهو ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وكل ما أوجب نقصاً أو حدوثاً فإنَّ الله منزَّهٌ عنه حقيقة، فإنَّه سبحانه مستحقٌ للكمال الذي لا غاية فوقه، ويمتنع عليه الحدوث لامتناع العدم عليه، واستلزام الحدوث سابقة العدم، ولافتقار المحدَث إلى محدِث، ولوجوب وجوده بنفسه سبحانه وتعالى.

ومذهب السلف بين التعطيل والتمثيل، فلا يمثِّلون صفات الله بصفات خلقه كما لا يمثِّلون ذاته بذات خلقه، ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله فيعطِّلوا أسماءه الحسنى وصفاته العليا ويحرِّفوا الكلم عن مواضعه ويلحدوا في أسماء الله وآياته، وكل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل فهو جامع بين التعطيل والتمثيل، أما المعطِّلون فإنَّهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلاّ ما هو اللاّئق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات، فقد جمعوا بين التعطيل والتمثيل، مثّلوا أوّلاً وعطّلوا آخراً، وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم، وتعطيل لما يستحقُّه هو سبحانه من الأسماء والصفات اللاّئقة بالله سبحانه وتعالى".

ص: 395

ويمكن تلخيص الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها في ستة أقسام ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وكل قسم منها عليه طائفة من أهل القبلة وهي:

قسمان يقولان: تجرى نصوص الصفات على ظواهرها.

وقسمان يقولان: إنَّ نصوص الصفات على خلاف ظاهرها، أي ظاهرها غير مراد.

وقسمان: يسكتون.

أما الأولون فقسمان:

أحدهما: من يجريها على ظاهرها ويجعل ظاهرها من جنس صفات المخلوقين، فهؤلاء المشبِّهة، ومذهبهم باطل أنكره السلف، وإليهم يتوجّه الردّ بالحق.

الثاني: من يجريها على ظاهرها اللاّئق بجلال الله، كما يجري ظاهر اسم العليم والقدير والرب والإله والموجود والذات ونحو ذلك على ظاهرها اللاّئق بجلال الله، فإنَّ ظواهر هذه الصفات في حق المخلوق إمَّا جوهر محدَث، وإمَّا عرَض قائم به.

فالعلم والقدرة والكلام والمشيئة والرحمة والرضا والغضب ونحو ذلك في حق العبد أعراضٌ، والوجه واليد والعين في حقه أجسام، فإذا كان الله موصوفاً عند عامة أهل الإثبات بأنَّ له علماً وقدرةً وكلاما ومشيئة وإن لم يكن ذلك عرَضاً يجوز عليه ما يجوز على صفات المخلوقين جاز أن يكون وجه الله ويداه صفات ليست أجساماً يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين.

وهذا هو المذهب الذي حكاه الخطابي وغيره عن السلف، وعليه يدل كلام جمهورهم، وكلام الباقين لا يخالفه، وهو أمر واضحٌ، فإنَّ الصفات كالذات، فكما أنَّ ذات الله ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس المخلوقات، فصفاته ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقات

ص: 396

وأما القسمان اللذان ينفيان ظاهرها، أعني الذين يقولون ليس لها في الباطن مدلول هو صفة الله تعالى قط، وأنَّ الله لا صفة له ثبوتية، بل صفاته إما سلبية وإما إضافية وإما مركبة منهما، أو يثبتون بعض الصفات وهي الصفات السبعة أو الثمانية أوالخمسة عشر أو يثبتون الأحوال دون الصفات، ويقرّون من الصفات الخبرية بما في القرآن دون الحديث، على ما قد عرف من مذاهب المتكلّمين، فهؤلاء قسمان:

قسم: يتأوّلونها ويُعيِّنون المراد مثل قولهم: استوى بمعنى استولى، أو بمعنى علوّ المكانة والقدر، أو بمعنى ظهور نوره للعرش، أو بمعنى انتهاء الخلق إليه، إلى غير ذلك من معاني المتكلِّمين.

وقسم: يقولون: الله أعلم بما أراد بها، لكنا نعلم أنَّه لم يرد إثبات صفة خارجية عما علمناه.

وأما القسمان الواقفان:

فقوم: يقولون: يجوز أن يكون ظاهرها المراد اللاّئق بجلال الله، ويجوز أن لا يكون المراد صفة الله ونحو ذلك، وهذه طريقة كثير من الفقهاء وغيرهم.

وقوم: يمسكون عن هذا كله ولا يزيدون على تلاوة القرآن وقراءة الحديث معرضين بقلوبهم وألسنتهم عن هذه التقديرات.

فهذه الأقسام الستة لا يمكن أن يخرج الرجل عن قسم منها".

والصواب في ذلك هو طريق السلف الصالح رحمهم الله، إثباتُ ما أثبته الله لنفسه وما أثبته له رسولُه صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال ونعوت الجلال من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومن غير تكييفٍ ولا تمثيلٍ، ونفيُ ما نفاه الله عن نفسه وما نفاه عنه رسولُه صلى الله عليه وسلم من النقائص والعيوب، إثباتٌ بلا تمثيلٍ وتنزيهٌ بلا تعطيلٍ على حدِّ قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .

المبحث الرابع:

في معنى قوله: "والسؤال عنه بدعة"والضوابط المستفادة منه

ص: 397

قوله رحمه الله: "والسؤال عنه بدعة"أي: الكيف، فالسؤال عن كيفية صفات الباري بدعة محدثةٌ، "لأنَّه سؤال عما لا سبيل إلى علمه، ولا يجوز الكلام فيه، ولم يسبق ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من بعده من أصحابه".

قال الإمام البربهاري رحمه الله: "احذر صغار المحدثات مِن الأمور، فإنَّ صغارَ البدع تعود كباراً، فالكلام في الربِّ عز وجل مُحدثٌ وبدعة وضلالة، فلا نتكلّم فيه إلَاّ بما وصف به نفسه، ولا نقول في صفاته: (لِمَ؟) ، ولا (كيف؟) ، والقرآن كلام الله وتنزيلُه ونوره ليس مخلوقاً، والمِراء فيه كفر".

وهذا من السنة اللازمة المتأكّدة في حق كلِّ مسلم، ومَن فارق ذلك كان معدوداً في جملة أهل البدع والأهواء، كما قال الإمام علي بن المديني رحمه الله:"السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة لم يقلها أو يؤمن بها لم يكن من أهلها: الإيمان بالقدر خيره وشرّه، ثم تصديق بالأحاديث والإيمان بها لا يُقال: لِمَ؟، ولا كيف؟ إنَّما هو التصديق بها والإيمان بها وإن لم يعلم تفسير الحديث ويبلغه عقلُه فقد كفى ذلك وأحكم عليه الإيمان به والتسليم".

ثم إنَّه خوض في أمرٍ محالٍ على العقول أن تدركه، فكما أنَّ بصر الإنسان له غاية لا يمكن أن يتجاوزها، وكما أنَّ سمعه له غاية لا يمكن أن يتجاوزها، فكذلك عقله له نطاق محدّد، ومجال لا يمكن أن يتجاوزه.

ص: 398

يروى أنَّ رجلاً أتى بابن له إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فقال: "لقد حيّرت الخصومة عقله، وأذهبت المنازعة قلبه، وذهبت به الكلفة عن ربه، فقال عبد الله: امدد بصرك يا ابن أخي ما السواد الذي ترى؟ قال: فلان، قال: صدقت، قال: فما الخيال المسرف من خلفه؟ قال: لا أدري، قال عبد الله: يا ابن أخي فكما جعل الله لأبصار العيون حداًّ محدوداً من دونها حجاباً مستوراً فكذلك جعل لأبصار القلوب غاية لا يجاوزها، وحدوداً لا يتعدّاها، قال: فردّ الله عليه غارب عقله، وانتهى عن المسألة عما لا يعنيه، والنظر فيما لا ينفعه، والتفكر فيما يحيِّره".

وهو كلام حسن وتنظير سديد وإن كان لم يثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما والأمر كما ذكر، فكما أنَّ الله جعل لأبصار العيون حدوداً معلومة فكذلك الشأن في أبصار القلوب، لها مجال محدود لا يمكنها أن تتجاوزه أو تتعدّاه.

أورد هذا الأثر ابن بطة في كتابه الإبانة وقال معلِّقاً عليه: "فاتقوا الله يا معشر المسلمين وانتهوا عن معرفة خلقه، أما تعلمون أنَّ الله عز وجل قد أخذ عليكم ميثاق الكتاب أن لا تقولوا على الله إلاّ الحق، فسبحان الله أنى تؤفكون".

وقد عقد الإمام ابن بطة رحمه الله في هذا الموضوع باباً نافعاً في كتابه الإبانة وهو (باب ترك السؤال عما لا يعني البحث والتنقير عما لا يضر جهله والتحذير من قوم يتعمّقون في المسائل ويتعمّدون إدخال الشكوك على المسلمين) .

أورد تحته جملة من النصوص والآثار منها:

1-

حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اتركوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم فما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فاعملوا منه ما استطعتم".

2-

حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي قال: "هلك المتنطِّعون" ثلاث مرات.

ص: 399

3-

عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما سألوه إلاّ عن ثلاث عشرة مسألة حتى قُبض كلُّهن في القرآن {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ} ، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ} (1) {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليَتَامَى} (2) {وَيَسَأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ} (3) كانوا يسألون إلاّ عمّا ينفعهم".

4-

حديث المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله عز وجل كره لكم ثلاثاً: قيل وقال وكثرة السؤال".

5-

وعن ابن شبرمة رحمه الله قال: "من المسائل مسائل لا يجوز للسائل أن يسأل عنها، ولا للمسؤول أن يجيب فيها".

6-

وعن عمران بن عبد الله الخزاعي قال: مرّ القاسم بن محمد بقوم يتكلّمون في القدر فقال: "انظروا ما ذكر الله في القرآن فتكلموا فيه وما كفّ الله عنه فكفُّوا".

7-

وعن إبراهيم النخعي قال: "كانوا لا يسألون إلاّ عن الحاجة".

8-

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "إذا أراد الله بعبد خيراً سدده وجعل سؤاله عما يعنيه وعلمه فيما ينفعه".

(1) سورة: البقرة، الآية:(217) .

(2)

سورة: البقرة، الآية:(219) .

(3)

ورة: البقرة، الآية:(220) .

ص: 400

وذكر آثاراً أُخر ثم قال: "فالعجب يا إخواني رحمكم الله لقوم حيارى تاهت عقولهم عن طرقات الهدى، فذهبت تند محاضره في أودية الردى، تركوا ما قدّمه الله عز وجل في وحيه وافترضه على خلقه، وتعبَّدَهم بطلبه وأمرهم بالنظر والعمل به، وأقبلوا على ما لم يجدوه في كتاب ناطق ولا تقدمهم فيه سلَف سابق، فشغلوا به وفرّغوا له آراءهم وجعلوه ديناً يدعون إليه ويعادون من خالفهم عليه، أما علم الزائغون مفاتيح أبواب الكفر ومعالم أسباب الشرك، التكلف لما لم تحط الخلائق به علماً به، ولم يأت القرآن بتأويله ولا أباحت السنة النظر فيه، فتزيد الناقص الحقير والأحمق الصغير بقوته الضعيفة، وعقله القصير، أن يهجم على سر الله المحجوب، ويتناول علمه بالغيوب يريدها لنفسه، وطوى عليها علمها دون خلقه، فلم يحيطوا من علمها إلاّ بما شاء، ولا يعلمون منها إلاّ ما يريد، فكلما لم ينزل الوحي بذكره ولم تأت السنة بشرحه من مكنون علم الله ومخزون غيبه وخفي أقداره فليس للعباد أن يتكلّفوا من علمه ما لا يعلمون، ولا يتحمّلوا من نقله ما لا يطيقون، فإنه لن يعدو رجل كلف ذلك نظره وقلّب فيه فكره أن يكون كالناظرين في عين الشمس ليعرف قدرها، أو كالمرتمي في ظلمات البحور ليدرك قعرها، فليس يزداد على المضي في ذلك إلاّ بعداً، ولا على دوام النظر في ذلك إلاّ تحيُّراً، فليقبل المؤمن العاقل ما يعود عليه نفعه، ويترك إشغال نظره وإعمال فكره في محاولة الإحاطة بما لم يكلفه، ومرام الظفر بما لم يطوقه، فيسلك سبيل العافية، ويأخذ بالمندوحة الواسعة ويلزم الحجة الواضحة والجادة السابلة والطريق الآنسة، فمن خالف ذلك وتجاوزه إلى الغمط بما أمر به والمخالفة إلى ما ينهى عنه، يقع والله في بحور المنازعة وأمواج المجادلة ويفتح على نفسه أبواب الكفر بربه والمخالفة لأمره والتعدي لحدوده، والعجب لمن خلق من نطفة من ماء مهين فإذا هو خصيم مبين، كيف لا يفكر في عجزه عن معرفة خلقه، أما

ص: 401

يعلمون أنَّ الله عز وجل قد أخذ عليكم ميثاق الكتاب أن لا تقولوا على الله إلاّ الحق فسبحان الله أنى تؤفكون.

حدّثني ابن الصواف، قال: سمعت أبي يقول: سمعت بعض العلماء يقول: "لو كلَّف الله هؤلاء ما كلَّفوه أنفسهم من البحث والتنقير لكان من أعظم ما افترضه عليهم".

فالزموا رحمكم الله الطريق الأقصد والسبيل الأرشد والمنهاج الأعظم من معالم دينكم وشرائع توحيدكم التي اجتمع عليها المختلفون واعتدل عليها المعترفون {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، وترك الدخول في الضيق الذي لم نخلق له".

الفصل الثالث: في إبطال تحريفات أهل البدع لهذا الأثر

رغم أنَّ كلام الإمام مالك رحمه الله واضح غايةَ الوضوح، ظاهر مراده به تمام الظهور، من خلال سياق الأثر نفسه، ومن خلال القصة التي ورد فيها، ومن خلال منهج الإمام مالك في الصفات عموماً، ومن خلال أيضاً مقارنته بأقوال غيره من أئمة السلف، إلاّ أنَّ أهل الأهواء قد فهم بعضهم من كلامه رحمه الله خلاف ما أراد، وبنوا عليه خلاف ما قصد.

والإمام مالك رحمه الله وغيره من أئمة السلف كالشافعي وأحمد وابن المبارك وحماد بن زيد والأوزاعي وغيرهم يُنقل عنهم نقول كثيرة في تقرير العقيدة وإثبات الصفات والرد على المعطِّلة وذمّ المبتدعة وهجرانهم وعقوبتهم "وهذه الأقوال سمعها طوائف مِمَّن اتبعهم وقلّدهم ثم إنَّهم يخلطون في مواضع كثيرة السنة والبدعة، حتّى قد يبدّلون الأمر، فيجعلون البدعة التي ذمّها أولئك هي السنة، والسنة التي حمدها أولئك هي البدعة، ويحكمون بموجب ذلك، حتى يقعوا في البدع والمعاداة لطريق أئمتهم السنيّة، وفي الحب والموالاة لطريق المبتدعة التي أمر أئمتهم بعقوبتهم، ويلزمهم تكفير أئمتهم ولعنهم والبراءة منهم.....

ص: 402

ومن أمثلة ذلك: أنَّ كلام مالك في ذم المبتدعة وهجرهم وعقوبتهم كثير، ومن أعظمهم عنده الجهمية الذين يقولون: إنَّ الله ليس فوق العرش، وإنَّ الله لم يتكلّم بالقرآن كله، وإنَّه لا يُرى كما وردت به السنة، وينفون نحو ذلك من الصفات.

ثم إنَّه كثير من المتأخّرين من أصحابه من ينكر هذه الأمور، كما ينكرها فروع الجهمية، ويجعل ذلك هو السنة، ويجعل القول الذي يخالفها، وهو قول مالك وسائر الأمة السنة هو البدعة، ثم إنه مع ذلك يعتقد في أهل البدعة ما قاله مالك، فبدّل هؤلاء الدين فصاروا يطعنون في أهل السنة".

وقول الإمام مالك رحمه الله الذي هو موضوع هذه الدراسة ناله شيء من هذا الذي سبق الإشارة إليه، حيث فُهم منه أمورٌ لم يُرِدْها رحمه الله، وذلك من قِبل من تأثّر بالمناهج الكلامية والطرق الفلسفية، فإنَّ مثل هؤلاء يأتون إلى أقوال الأئمة بل إلى نصوص القرآن والسنة وهم يحملون تصوُّرات مسبقة وعقائد راسخة لا تمتُّ إلى الحق بصلة، ثم يحاولون جاهدين صرف النصوص إلى عقائدهم وحملها على أهوائهم بطرُقٍ متكلَّفة، ورحم الله الإمام ابن القيم إذ يقول:"وما أكثر ما ينقل الناس المذاهب الباطلة عن العلماء بالأفهام القاصرة، ولو ذهبنا نذكر ذلك لطال جداً، وإن ساعد الله أفردنا لها كتاباً".

وقد ظنَّ هؤلاء أنَّ طريقة الإمام مالك رحمه الله وغيره من أئمة السلف هي مجرّد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لمعانيها بمنزلة الذين قال الله فيهم {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الكِتَابَ إِلَاّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَاّ يَظُنُّونَ} وسبب ذلك هو اعتقاد هؤلاء أنَّ النصوص لم تدل على صفة حقيقية لله عز وجل، لأنَّ ثبوتها يلزم منه بزعمهم التشبيه، فحملتهم هذه الظنون الفاسدة والاعتقادات المنحرفة إلى تحريف أقوال الأئمة رحمهم الله.

ص: 403

وسأقتصر في التمثيل على ذلك بنقلين عن اثنين من المعاصرين حول ما فهماه من كلامه رحمه الله، ثم أوضِّح ما في ذلك من انحراف وفساد وشطط في فهم كلام الإمام مالك رحمه الله.

1-

قال الكوثري معلِّقاً على أثر الإمام مالك: "الاستواء معلوم يعني مورده في اللغة والكيفية التي أرادها الله مما يجوز عليه من معاني الاستواء مجهولة، فمن يقدر أن يعيِّنها؟ فتحصّل لك من كلام إمام المسلمين مالك أنَّ الاستواء معلوم وأنَّ ما يجوز على الله غير متعيّن وما يستحيل عليه هو منزّه عنه".

ففهم من كلام الإمام مالك رحمه الله أنَّه أراد تفويض المعنى، لأنَّ الاستواء بزعمه مورده في اللغة جاء على معان عديدة ولا يُدرى ما المقصود بالاستواء المضاف إلى الله منها، ولهذا قال:"والكيفية التي أرادها الله مما يجوز عليه من معاني الاستواء مجهولة فمن يقدر أن يعيِّنها؟ ".

ولهذا قال في تعليقه على الأسماء والصفات للبيهقي: "الاستواء الثابت له جل جلاله استواء يليق بجلاله على مراد الله ومراد رسوله من غير خوض في المعنى كما هو مسلك السلف".

2-

وقال البوطي بعد ما قرّر أنَّ مذهب الخلَف هو تأويل النصوص: "وهكذا فقد كان بوسع الإمام مالك رحمه الله أن يقول في عصره لذلك الذي سأله عن معنى الاستواء في الآية: "الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"، إذ كان العصر عصر إيمان ويقين راسخين، بسبب قرب العهد بعصر النبوة، وامتداد الإشراق إليه، ولكن لم يكن بوسع الأئمة الذين قاموا في عصر التدوين وازدهار العلوم، واتّساع حلقات البحث وفنون البلاغة أن يسلِّموا ذلك التسليم دون أن يحلِّلوا هذه النصوص على ضوء ما انتهوا إليه من فنون البلاغة والمجاز، خصوصاً أنَّ فيهم الزنادقة الذين لا يقنعهم منهج التسليم ويتظاهرون بالحاجة إلى الفهم التفصيلي وإن كانوا في حقيقة الأمر معاندين.

ص: 404

والمهم أن تعلم بأنَّ كلا المذهبين متّجهان إلى غاية واحدة، لأنَّ المآل فيهما إلى أنَّ الله عز وجل لا يشبهه شيء من مخلوقاته، وأنَّه منزَّه عن جميع صفات النقص، فالخلاف الذي تراه بينهما خلاف لفظي وشكلي فقط".

فظنَّ أنَّ مذهب السلف ومنهم الإمام مالك رحمه الله هو تفويض المعاني وإمرار الألفاظ بدون فهمٍ لما تدل عليه، وقرّر أنَّ السلف كانوا يقطعون بأنَّ ظاهر نصوص الصفات غير مراد وأوَّلها تأويلاً إجمالياً، حيث قال قبل كلامه هذا: "فمذهب السلف هو عدم الخوض في أيِّ تأويل أوتفسير تفصيلي لهذه النصوص والاكتفاء بإثبات ما أثبته الله تعالى لذاته مع تنزيهه عز وجل عن كلِّ نقص ومشابهة للحوادث، وسبيل ذلك التأويل الإجمالي لهذه النصوص وتحويل العلم التفصيلي بالمقصود منها إلى علم الله عز وجل، أما ترك هذه النصوص على ظاهرها دون أيِّ تأويل سواء كان إجمالياً أو تفصيلياً فهو غير جائز وهو شيء لم يجنح إليه سلف ولا خلَف

".

ولا ريب أنَّ هذا الذي قرّره البوطي هنا ومن قبله الكوثري ومن قبلهما عامة المتكلِّمين يعدُّ افتراء على السلف الصالح رحمهم الله وتقويلاً لهم لشيء لم يقولوه، وقد جمع هؤلاء فيما نسبوه إلى السلف بين أخطاء عديدة أهمّها:

1-

تجهيل السلف الصالح رحمهم الله حيث وصفوهم بأنهم لا يفهمون معاني نصوص الصفات، بل يقرأونها قراءة مجرّدة بمنزلة الأميين الذين لا يعلمون

الكتاب إلاّ أمانيّ، وأيُّ تجهيل لهم أعظم من هذا.

2-

الجهل بمذهب السلف الصالح، وأيُّ جهل بمذهب السلف الصالح رحمهم الله أعظم من هذا.

3-

الكذب على السلف عندما نسبوا إليه عدم فقه المعاني.

4-

تكذيب القرآن الكريم، فقد قال الله تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} وأيُّ تبيان في كلمات لا يدرى ما معناها.

ص: 405

5-

فتح باب الشر للفلاسفة والقرامطة وغيرهم لنشر ضلالهم وباطلهم فقالوا لهؤلاء المفوِّضة أنتم لا تعرفون شيئاً، ونحن نعرف كيف ننزِّه الله فعطّلوا صفاته بأنواع من التحريفات.

6-

تفضيل طريقة الخلف على طريقة السلف، ولهذا قال أرباب هذه المقالة إنَّ مذهب السلف أسلم ومذهب الخلَف أحكم وأعلم.

إلى غير ذلك من الأخطاء والمفاسد التي ترتبت على اعتقاد هؤلاء في مذهب السلف أنَّه التفويض، وعدم إثبات الصفات التي دلّت عليها النصوص ومن يتأمل الأمر حقيقة يجد أنَّ "السلف كلهم أنكروا على الجهمية النفاة، وقالوا بالإثبات وأفصحوا به، وكلامهم في الإثبات والإنكار على النفاة أكثر من أن يمكن إثباته في هذا المكان، وكلام الأئمة المشاهير: مثل مالك، والثوري، والأوزاعي، وأبي حنيفة، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وعبد الرحمن بن مهدي، ووكيع بن الجراح، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيد، وأئمة أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد، موجود كثير لا يحصيه أحد.

وجواب مالك في ذلك صريح في الإثبات، فإنَّ السائل قال له: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ فقال مالك: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول"وفي لفظ: "استواؤه معلوم، أو معقول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة". فقد أخبر رضي الله عنه بأنَّ نفس الاستواء معلوم، وأنَّ كيفية الاستواء مجهولة، وهذا بعينه قول أهل الإثبات.

وأما النفاة فما يثبتون استواء حتى تجهل كيفيته، بل عند هذا القائل الشاك وأمثاله أنَّ الاستواء مجهول غير معلوم، وإذا كان الاستواء مجهولاً لم يحتج أن يُقال: الكيف مجهول، لا سيما إذا كان الاستواء منتفياً، فالمنتفي المعدوم لا كيفية له حتى يُقال: هي مجهولة أو معلومة، وكلام مالك صريح في إثبات الاستواء، وأنَّه معلوم، وأنَّ له كيفية، لكن تلك الكيفية مجهولة لنا لا نعلمها نحن.

ص: 406

ولهذا بَدَّع السائل الذي سأله عن هذه الكيفية، فإنَّ السؤال إنّما يكون عن أمر معلوم لنا، ونحن لا نعلم كيفية استوائه، وليس كلُّ ما كان معلوماً وله كيفية تكون تلك الكيفية معلومة لنا، يبيّن ذلك أنَّ المالكية وغير المالكية نقلوا عن مالك أنَّه قال:"الله في السماء وعلمه في كلِّ مكان"، حتى ذكر ذلك مكيّ - خطيب قرطبة - في كتاب التفسير الذي جمعه من كلام مالك، ونقله أبو عمرو الطلمنكي، وأبو عمر بن عبد البر، وابن أبي زيد في المختصر، وغير واحد، ونقله أيضاً عن مالك غير هؤلاء ممّن لا يُحصى عددُهم، مثل أحمد بن حنبل، وابنه عبد الله، والأثرم، والخلال، والآجري، وابن بطة، وطوائف غير هؤلاء من المصنّفين في السنة، ولو كان مالك من الواقفة أو النفاة لم ينقل هذا الإثبات".

وقد ألزم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هؤلاء القائلين بأنَّ مذهب السلف التفويض بسبعة لوازم، لا فكاك لهم منها ولا مناص لهم عنها، وهي تنادي على مذهبهم بالإبطال:

أحدها: أن يكون الله سبحانه قد أنزل في كتابه وسنة نبيّه من هذه الألفاظ ما يضلّهم ظاهره ويوقعهم في التشبيه والتمثيل.

الثاني: أن يكون قد ترك بيان الحق والصواب لهم ولم يُفصح به، بل رمز إليه رمزاً، وألغزه ألغازاً لا يفهم من ذلك إلَاّ بعد الجهد الجهيد.

الثالث: أن يكون قد كلَّف عباده أن لا يفهموا من تلك الألفاظ حقائقها وظواهرها، وكلّفهم أن يفهموا منها ما لا تدل عليه، ولم يجعل معها قرينة تفهم ذلك.

ص: 407

الرابع: أنَّه يكون دائماً متكلّماً في هذا الباب بما ظاهره خلاف الحق بأنواع متنوّعة من الخطاب تارة بأنَّه استوى على عرشه، وتارة بأنَّه فوق عباده، وتارة بأنَّه العليّ الأعلى، وتارة بأنَّ الملائكة تعرج إليه، وتارة بأنَّ الأعمال الصالحة تُرفع إليه، وتارة بأنَّ الملائكة في نزولها من العلوِّ إلى أسفل تنزل من عنده، وتارة بأنَّه رفيع الدرجات، وتارة بأنَّه في السماء، وتارة بأنَّه الظاهر الذي ليس فوقه شيء، وتارة بأنَّه فوق سماواته على عرشه، وتارة بأنَّ الكتاب نزل من عنده، وتارة بأنَّه ينزل كلَّ ليلة إلى سماء الدنيا، وتارة بأنَّه يُرى بالأبصار عياناً، يراه المؤمنون فوق رؤوسهم، إلى غير ذلك من الدلالات على ذلك، ولا يتكلّم فيه بكلمة واحدة توافق ما يقوله النفاة ولا يقول في مقام واحد قط ما هو الصواب فيه لا نصًّا ولا ظاهراً، ولا يبيّنه.

الخامس: أن يكون أفضل الأمة وخير القرون قد أمسكوا من أولهم إلى آخرهم عن قول الحق في هذا النبأ العظيم الذي هو من أهمّ أصول الإيمان، وذلك إمّا جهل ينافي العلم، وإمّا كتمان ينافي البيان، ولقد أساء الظنّ بخيار الأمة من نسبهم إلى ذلك، ومعلوم أنَّه إذا ازدوج التكلّم بالباطل والسكوت عن بيان الحق، تولّد من بينهما جهل الحق وإضلال الخلق، ولهذا لما اعتقد النفاة التعطيل صاروا يأتون من العبارات بما يدلّ على التعطيل والنفي نصًّا وظاهراً، ولا يتكلّمون بما يدل على حقيقة الإثبات لا نصًّا ولا ظاهراً، وإذا ورد عليهم من النصوص ما هو صريح أو ظاهر في الإثبات حرّفوه أنواع التحريفات، وطلبوا له مستكره التأويلات.

السادس: أنهم التزموا لذلك تجهيل السلف وأنّهم كانوا أميّين مقبلين على الزهد والعبادة والورع والتسبيح وقيام الليل، ولم تكن الحقائق من شأنهم.

ص: 408

السابع: أن ترك الناس من إنزال هذه النصوص كان أنفع لهم وأقرب إلى الصواب، فإنَّهم ما استفادوا بنزولها غير التعرض للضلال ولم يستفيدوا منها يقيناً ولا علماً بما يجب لله ويمتنع عليه، إذ ذاك إنَّما يُستفاد من عقول الرجال وآرائها.

وعلى كلِّ حالٍ فإنَّ كلام الإمام مالك رحمه الله واضح في الإثبات على طريقة أئمة السلف، ومع ذلك فـ"قد حرّف بعضهم كلام هؤلاء الأئمة على عادته فقال: معناه الاستواء معلوم لله، فنسبوا السائل إلى أنَّه كان يشكّ هل يعلم الله استواء نفسه أو لا يعلمه، ولما رأى بعضهم فساد هذا التأويل قال: إنّما أراد به أنَّ ورود لفظه في القرآن معلوم، فنسبوا السائل والمجيب إلى الغفلة، فكأنَّ السائل لم يكن يعلم أنّ هذا اللفظ في القرآن وقد قال يا أبا عبد الله:{الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ فلم يقل: هل هذا اللفظ في القرآن أم لا، ونسبوا المجيب إلى أنَّه أجابه بما يعلمه الصبيان في المكاتب ولا يجهله أحد، ولا هو مما يحتاج إلى السؤال عنه، ولا استشكله السائل، ولا خطر بقلب المجيب أنَّه يسأل عنه".

وقد أجاب عن هذا التحريف شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بقوله: "فإن قيل: معنى قوله "الاستواء معلوم"أنَّ ورود هذا اللفظ في القرآن معلوم، كما قاله بعض أصحابنا الذين يجعلون معرفة معانيها من التأويل الذي استأثر الله بعلمه.

قيل: هذا ضعيف، فإنَّ هذا من باب تحصيل الحاصل، فإنَّ السائل قد علم أنَّ هذا موجود في القرآن وقد تلا الآية، وأيضاً فلم يقل: ذكر الاستواء في القرآن، ولا إخبار الله بالاستواء، وإنَّما قال: الاستواء معلوم، فأخبر عن الاسم المفرد أنَّه معلوم، لم يخبر عن الجملة.

ص: 409

وأيضاً فإنَّه قال: "والكيف مجهول"، ولو أراد ذلك لقال: معنى الاستواء مجهول، أو تفسير الاستواء مجهول، أو بيان الاستواء غير معلوم، فلم ينف إلَاّ العلم بكيفية الاستواء، لا العلم بنفس الاستواء، وهذا شأن جميع ما وصف الله به نفسه، ولو قال في قوله:{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأرَى} كيف يسمع ويرى؟ لقلنا: السمع والرؤيا معلوم، والكيف مجهول، ولو قال: كيف كلّم موسى تكليماً؟ لقلنا: التكليم معلوم، والكيف غير معلوم.

وأيضاً فإنَّ من قال هذا من أصحابنا وغيرهم من أهل السنة يقرُّون بأنَّ الله فوق العرش حقيقة وأنَّ ذاته فوق ذات العرش، لا ينكرون معنى الاستواء، ولا يرون هذا من المتشابه الذي لا يُعلم معناه بالكلية.

ثم السلف متفقون على تفسيره بما هو مذهب أهل السنة، قال بعضهم: ارتفع على العرش، علا على العرش، وقال بعضهم عبارات أخرى، وهذه ثابتة عن السلف، قد ذكر البخاري في صحيحه بعضها في آخر كتاب الرد على الجهمية، وأما التأويلات المحرّفة مثل استولى وغير ذلك، فهي من التأويلات المبتدَعة لما ظهرت الجهمية"إلى آخر كلامه رحمه الله.

ومنهج هؤلاء مع النصوص المخالفة لعقائدهم كما قال شيخ الإسلام: "تارة يحرّفون الكلم عن مواضعه، ويتأوّلونه على غير تأويله، وهذا فعل أئمتهم، وتارة يعرضون عنه ويقولون: نفوّض معناه إلى الله، وهذا فعل عامّتهم".

فكلام السلف رحمهم الله مؤتلف غير مختلف، ومقبول غير مردود، بخلاف كلام أهل الأهواء والبدع، فهم في قول مختلف يُؤفك عنه من أُفك، قُتل الخرّاصون.

الفصل الرابع: في ذِكر فوائد عامة مأخوذة من هذا الأثر

لقد اشتمل هذا الأثر العظيم عن الإمام مالك رحمه الله على فوائد عظيمة ومهمّة يحتاج طالب العلم إلى الوقوف عندها وتأمّلها وأخذ العبرة منها، وسأجمل هذه الفوائد في ثلاث مباحث:

المبحث الأول: ذكر ما في قولهم: "حتى علاه الرّحضاء"من فائدة.

ص: 410

المبحث الثاني: ذكر ما في قوله: "ما أُراك إلاّ مبتدعاً"من فائدة.

المبحث الثالث: ذكر ما في قوله: "أخرجوه عني"من فائدة.

المبحث الأول:

ذكر ما في قولهم: "حتى علاه الرّحضاء"من فائدة

لَمَّا سمع الإمام مالك رحمه الله هذا السؤال الخطير وهذا الخوض الباطل من هذا السائل في البحث عن كيفية صفات الباري سبحانه شقَّ عليه الأمر، وعَظُم عنده الخَطب، وتأثّر تأثّراً شديداً، ووجد منه ورُحِضَ رحمه الله من ذلك، حتى قال من حضر:"فما وجد مالك من شيء ما وجد من مسألته، فنظر إلى الأرض وجعل ينكت بعود في يده حتى علاه الرحضاء".

والرحضاء هو "العرق إثر الحمى، أو عرق يغسل الجلد كثرة".

وهذا بلا شك يدلّ على شدّة تأثُّر الإمام مالك رحمه الله من هذه المقالة، وشدّة غضبه على انتهاك حرمات الله عز وجل، "وهذه كانت حال النبي صلى الله عليه وسلم، فإنَّه كان لا ينتقم لنفسه، ولكن إذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء".

عقد البخاري رحمه الله في صحيحه باباً بعنوان: "ما يجوز من الغضب والشدّة لأمر الله".

وروى فيه عن عائشة رضي الله قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت قِرامٌ فيه صُوَرٌ فتلوّن وجهُه، ثم تناول السِّتر فهتكه، وقالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مِن أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة الذين يُصوّرون هذه الصُوَر".

وعن أبي مسعود رضي الله عنه قال: أتى رجل النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: إني لأتأخّر عن صلاة الغداة من أجل فلان ممّا يطيل بنا، قال: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قطُّ أشدَّ غضباً منه يومئذٍ، قال: فقال: "يا أيّها الناس إنَّ منكم منفّرين، فأيُّكم ما صلى بالناس فلْيتَجَوَّز فإنَّ فيهم المريض والكبير وذا الحاجة".

ص: 411

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يصلِّي رأى في قبلة المسجد نُخامة فحكَّها بيده فتغيَّظ ثم قال: "إنَّ أحدكم إذا كان في الصلاة فإنَّ الله حِيال وجهه، فلا يتنخّمنَّ حِيال وجهه في الصلاة".

وعن زيد بن خالد الجهني أنَّ رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللُّقطة؟ فقال: "عرِّفها سنة، ثم اعرف وِكاءها وعِفاصها، ثم استنفق بها، فإن جاء ربُّها فأدِّها إليه"، قال: يا رسول الله فضالّة الغنم؟ قال: "خذها فإنّما هي لك أو لأخيك أو للذئب"، قال: يا رسول الله فضالّة الإبل؟ قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرّت وجنتاه، أو احمرَّ وجهه، ثم قال:"ما لك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها حتى يلقاها ربُّها".

وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: احتجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حُجيرة مخصَّفة أو حصيراً فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي إليها فتتبّع إليه رجالٌ وجاؤوا يصلّون بصلاته ثم جاؤوا ليلةً، فحضروا وأبطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فلم يخرج إليهم فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب، فخرج إليهم مغضباً فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت أنه سيكتب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم، فإنَّ خير صلاة المرء في بيته إلَاّ الصلاة المكتوبة".

فهذا هدي رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، يغضب إذا انتهكت حرمات الله، ولا ينتقم لنفسه، كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت:"ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادماً ولا امرأةً ولا دابّةً ولا شيئاً قط، إلَاّ أن يجاهد في سبيل الله، ولا نيل منه شيء فانتقم لنفسه قط، إلَاّ أن تنتهك حرمات الله، فإذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله".

والناس في هذا الباب على ثلاثة أقسام:

1-

قسم يغضبون لنفوسهم ولربِّهم.

2-

وقسم يغضبون لنفوسهم ولا يغضبون لربِّهم.

ص: 412

3-

وقسم يغضبون لربهم ولا يغضبون لنفوسهم وهم الوسط الخيار.

المبحث الثاني:

ذِكر ما في قوله: "ما أراك إلَاّ مبتدعاً"من فائدة

لا ريب أنَّ هذا الرجل الذي قال في شأنه الإمام مالك ما قال قد ارتكب بدعة من البدع التي يُبدَّع قائلها، فعن أشهب بن عبد العزيز قال: سمعتُ مالك بن أنس يقول: "إيّاكم والبدع، قيل: يا أبا عبد الله: وما البدع؟ قال: أهل البدع الذين يتكلّمون في أسمائه وصفاته، وكلامِه وعلمه وقدرته، لا يسكتون عمّا سكت الله عنه والصحابة والتابعون".

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والبدعة التي يُعدّ بها الرجل من أهل الأهواء ما اشتهر عند أهل العلم بالسنة مخالفتها للكتاب والسنة، كبدعة الخوارج والروافض والقدرية والمرجئة

".

ثمَّ إنَّ هذه البدع قد تصدر من شخص على وجه قد يكون يُعذر فيه، وقد تصدر على وجه لا يكون معذوراً فيه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وإنَّما المقصود هنا أنَّ ما ثبت قُبحُه من البدع وغير البدع من المنهي عنه في الكتاب والسنة، أو المخالف للكتاب والسنة إذا صدر عن شخص من الأشخاص فقد يكون على وجه يُعذر فيه، إمَّا لاجتهاد أو تقليد يُعذر فيه، وإمَّا لعدم قدرته كما قد قرّرته في غير هذا الموضع، وقرّرته أيضاً في أصل التكفير والتفسيق المبنيِّ على أصل الوعيد.

فإنَّ نصوص الوعيد التي في الكتاب والسنة، ونصوص الأئمة بالتكفير والتفسيق ونحو ذلك لا يستلزم ثبوت موجبها في حقِّ المعيّن، إلَاّ إذا وُجدت الشروط وانتفت الموانع، لا فرق في ذلك بين الأصول والفروع، هذا في عذاب الآخرة فإنَّ المستحق للوعيد من عذاب الله ولعنته وغضبه في الدار الآخرة خالد في النار، أو غير خالد، وأسماء هذا الضرب من الكفر والفسق يدخل في هذه القاعدة، سواء كان بسبب بدعة اعتقادية أو عبادية، أو بسبب فجور في الدنيا، وهو الفسق بالأعمال.

ص: 413

فأمَّا أحكام الدنيا فكذلك أيضاً، فإنَّ جهاد الكفار يجب أن يكون مسبوقاً بدعوتهم، إذ لا عذاب إلَاّ على من بلغته الرسالة، وكذلك عقوبة الفساق لا تثبت إلَاّ بعد قيام الحجّة".

ولهذا إذا علم العالم المحقق من حال الرجل أنَّه غير معذور بدَّعه بعينِه، ووصفه بأنَّه مبتدع، وإذا كان بخلاف ذلك لم يبدِّعه، ولعلّه لأجل هذا قال الإمام مالك رحمه الله:"وما أُراك إلَاّ مبتدعاً"، وفي لفظ:"وما أُراك إلَاّ ضالاًّ"، وفي لفظ:"وإني لأظنّك ضالاًّ"، وفي لفظ:"وما أظنّك إلَاّ ضالاًّ"، وأُرى بمعنى: أظنّ، فلم يجزم رحمه الله بتبديعه، وفي لفظ قال:"أنت رجل سوء، صاحب بدعة"، وفرقٌ بين إطلاق الوصف على الشخص بأنَّه مبتدعٌ، وبين القول بأنَّه صاحب بدعة، ولو فُرض أنَّ الإمام مالكاً رحمه الله قد بدَّعه بعينه فإنَّه يُحمل على أنَّه عَلِم من حاله أنَّه وقع في الأمر المبتدَع على وجه لا يُعذر فيه، وممّا يقوِّي هذا أنَّ في بعض طرق القصة ما يشير إلى أنَّ هذا الرجل عنده شيء من التعنّت في هذه المسألة، وحبِّ الإثارة، والتمادي في الأمر، مما لا يكون إلَاّ في أهل الأهواء والبدع، ففي رواية سفيان للقصة: قال الرجل: "والله الذي لا إله إلا هو لقد سألت عن هذه المسألة أهلَ البصرة والكوفة والعراق فلم أجد أحداً وُفِّق لما وُفِّقَ إليه".

وعموماً فأهل العلم يفرّقون بين التعميم والتعيين في التكفير والتبديع والتفسيق، ولا يلحق شيء من هذه الأوصاف بإنسان معيّن إلَاّ وَفْق شروط وضوابط معلومة عند أهل العلم، والله أعلم.

المبحث الثالث:

ذكر ما في قوله: "أخرجوه عني"من فائدة

لقد أمر الإمام مالك رحمه الله بإخراج هذا السائل تأديباً له، وصيانةً لمجلسه من أن يكون لأحد من أهل الأهواء مجال أن يخوض فيه برأي أو هوى أو تقرير باطل أو إثارة شبهات أو نحو ذلك.

ص: 414

قال أبو قلابة: "لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم، فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يُلبِّسوا عليكم ما تعرفون".

وقال عمرو بن قيس الملائي: "كان يُقال: لا تجالس صاحب زيغ فيزيغ قلبك".

وقال مصعب بن سعد: "لا تجالس مفتوناً، فإنَّه لن يخطئك منه إحدى اثنتين: إمَّا أن يفتنك، وإمّا أن يؤذيك قبل أن تفارقه".

وقال الأوزاعي: "لا تمكّنوا صاحب بدعة من جدل فيورث قلوبكم من فتنة ارتياباً".

وقال أيوب السختياني: "دخل على محمد بن سيرين رجلٌ فقال: يا أبا بكر أقرأ عليك آية من كتاب الله لا أزيد على أن أقرأها ثم أخرج، فوضع أصبعيه في أذنيه، ثم قال: أحرج عليك إن كنت مسلماً لما خرجت من بيتي، قال: فقال: يا أبا بكر إني لا أزيد على أن أقرأ ثم أخرج، قال: فقال بإزاره يشدّه عليه وتهيّأ للقيام فأقبلنا على الرجل فقلنا: قد حرج عليك إلَاّ خرجت، أفيحلّ لك أن تخرج رجلاً من بيته، قال: فخرج، فقلنا: يا أبا بكر ما عليك لو قرأ آية ثم خرج، قال: إني والله لو ظننت أنَّ قلبي يثبت على ما هو عليه ما باليت أن يقرأ، ولكني خِفتُ أن يُلقيَ في قلبي شيئاً أجهد أن أخرجه من قلبي فلا أستطيع".

لأجل هذا كان أئمة السلف يوصون بعدم مجالسة أهل الأهواء ويأمرون بإخراجهم من مجالسهم.

وهذا الرجل الذي أمر مالك رحمه الله بإخراجه من مجالسه قد خاض في متشابه القرآن الكريم، إذ الصفات من حيث الكنه والكيفية أمرها من المتشابه الذي لا يعلمه إلَاّ الله، وقد قال الله تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} .

ص: 415

روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} إلى قوله: {أُولُو الأَلْبَابِ} قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيت الذين يتّبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّى الله فاحذروهم"(1)

فأرشد صلوات الله وسلامه عليه إلى الحذر منهم واجتنابهم، وقصة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع صَبيغ بن عسل الذي كان يسأل عن متشابه القرآن مشهورة، رواها غير واحد من أهل العلم، وفيها تأديب عمر له، ونفيه إلى البصرة، وهو نوع من التعزير له ليتأدَّب "والتعزير منه ما يكون بالتوبيخ، وبالزجر بالكلام، ومنه ما يكون بالحبس، ومنه ما يكون بالنفي عن الوطن، ومنه ما يكون بالضرب".

قال الإمام الآجري رحمه الله بعد أن روى قصة عمر: "فإن قال قائل: فمن يسأل عن تفسير {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً فَالحَامِلَاتِ وِقْراً} استحق الضرب والتنكيل به والهجرة؟ قيل له: لم يكن ضرب عمر رضي الله عنه له بسبب هذه المسألة، ولكن لما تأدّى إلى عمر ما كان يسأل عنه من متشابه القرآن من قبل أن يراه، علم أنَّه مفتون، قد شغل نفسه بما لا يعود عليه نفعه، وعلم أنَّ اشتغاله بطلب علم الواجبات من علم الحلال والحرام أولى به، وتطلّب علم سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى به، فلما علم أنَّه مقبل على ما لا ينفعه، سأل عمرُ اللهَ تعالى أن يمكِّنه منه حتى يُنكِّل به، وحتى يحذر غيره، لأنَّه راعٍ يجب عليه تفقّد رعيّته في هذا وفي غيره، فأمكنه الله تعالى منه".

(1) سورة: آل عمران، الآية:(7) .

ص: 416

ولهذا فإنَّ من يخوض في المتشابه يستحق الزجر والتأديب ما يردعه ويجعله يكفُّ عن خوضه، روى يزيد بن هارون في مجلسه حديثَ إسماعيل بن خالد، عن قيس بن حازم، عن جرير بن عبد الله في الرؤية وقولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنَّكم تنظرون إلى ربِّكم كما تنظرون إلى القمر ليلة البدر"فقال له رجلٌ في مجلسه: يا أبا خالد ما معنى هذا الحديث؟ فغضب وحرد وقال: "ما أشبهك بصبيغ، وأحوجَك إلى مثل ما فُعل به، ويلك! ومن يدري كيف هذا؟ ومن يجوز له أن يجاوز هذا القول الذي جاء به الحديث أو يتكلّم فيه بشيء من تلقاء نفسه إلَاّ من سفه نفسه واستخفَّ بدينه؟ إذا سمعتم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتَّبعوه، ولا تبتدعوا فيه، فإنَّكم إن اتّبعتموه ولم تُماروا فيه سلِمتم، وإن لم تفعلوا هلكتم". ثم إنَّ مالكاً إضافة إلى ما تقدّم قد يكون قد راعى حُرمة المكان الذي هو فيه، إذا كان السائل قد أتاه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، روي عنه أنَّه قال في قصة أخرى:"لا يُجتمع عند رجل مبتدع في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم"، هذا وبالله وحده التوفيق.

الخاتمة

الحمد لله أوَّلاً وآخِراً، والشكر له ظاهراً وباطناً على توالي نِعمه وترادف مِننه، ونسأله سبحانه أن يوزعنا شكرها {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} ، وبعد:

ص: 417

فقد تمَّ في هذا البحث الحديث مفصّلاً عن الأثر المشهور عن الإمام مالك رحمه الله في جواب من سأله عن كيفية استواء الله على عرشه، وتبيّن فيه ثبوت هذا الأثر عنه رحمه الله، وأنَّ المسلمين تلقّوه بالقبول، وليس في أهل السنة من ينكره، بل إنَّ أهل العلم استحسنوه واستجودوه وائتموه به، وعدّوه أنبل جواب قيل في هذه المسألة، وجعلوه قاعدةً مطردة تطبق في جميع الصفات، فمن سأل عن كيفية أيِّ صفة لله قيل له ما قاله الإمام مالك رحمه الله في جواب من سأله عن كيفية الاستواء، ولهذا يمكن أن نقول عموماً:"الصفات معلومة، وكيفياتها مجهولة، والإيمان بها واجب، والسؤال عن كيفياتها بدعة"، كما انتظم هذا البحث ذكر الشواهد على هذه الكلمة من الكتاب والسنة، وإيراد نظائر لها عن أئمة السلف رحمهم الله، واشتمل أيضاً على بيان مدلولات هذه الكلمة والأمور المستفادة منها، والرد على المخالفين والمحرِّفين، وإبطال ما قام به بعضهم من محاولةٍ لتحريف معنى هذا الكلام وصرفها عن معناها الصحيح، ثم ذِكر بعض الفوائد العامة المستفادة من القصة والسياق الذي وردت فيه هذه الكلمة، وإني لأرجو أن تكون هذه الدراسة أنموذجاً للعناية بالآثار المرويّة عن السلف رحمهم الله، وإعطائها حقَّها من الدراسة والتحقيق واستخراج الفوائد، ولا سيما منها ما حظي بالشهرة الواسعة وتلقي الأمة له بالاستحسان والقبول.

ونسأل الله تعالى أن يجزي سلفنا الصالح عنَّا خير الجزاء على نصحهم للأمة وجهودهم المباركة وأعمالهم الوفيرة في نصرة السنة وقمع البدعة، إنَّه سبحانه سميع الدعاء وأهل الرجاء، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلّم على نبيّنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين.

فهرس المصادر والمراجع

1-

الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة: لابن بطة العكبري، دار الراية، ط الأولى.

ص: 418

2-

إبطال التأويلات لأخبار الصفات: للقاضي أبي يعلى، تحقيق: محمد أحمد الحمود، مكتبة دار الإمام الذهبي، ط الأولى.

3-

إثبات صفة العلو: لابن قدامة، تحقيق: د. أحمد بن عطية الغامدي، مكتبة العلوم والحكم، ط الأولى.

4-

اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية: المكتبة السلفية.

5-

أخبار إصبهان: لأبي نعيم الأصبهاني، مطبعة ليدن.

6-

الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة: لابن قتيبة، تحقيق: عمر بن محمود أبو عمر، دار الراية، ط الأولى.

7-

الأربعين: للذهبي ضمن مجموع فيه ست رسائل للذهبي تحقيق: جاسم سليمان الدوسري، الدار السلفية، 1408هـ.

8-

الاستقامة: لابن تيمية، تحقيق: د. محمد رشاد سالم، نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط الأولى.

9-

الأسماء والصفات: للبيهقي، تحقيق: عبد الله بن محمد الحاشدي، مكتبة الوادي، ط الأولى.

10-

الأسماء والصفات: للبيهقي، دار الكتب العلمية، ط الأولى.

11-

الاعتقاد على مذهب السلف أهل السنة والجماعة: للبيهقي، دار الكتب العلمية، ط الأولى.

12-

إعلام الموقعين: لابن القيم، تحقيق: طه عبد الرؤوف، مكتبة الكليات الأزهرية.

13-

أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات والآيات المحكمات والمشتبهات: لمرعي الكرمي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، ط الأولى.

14-

البدع: لابن وضاح، تحقيق: محمد أحمد دهمان، دار البصائر.

15-

بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس: للضبي أحمد بن عميرة، دار الكتاب العربي.

16-

بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخبار في شرح جوامع الأخبار: المؤسسة العيدية.

17-

البيان والتحصيل: لابن رشد، طبعة دار الغرب الإسلامي.

18-

تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير الأعلام: للذهبي، تحقيق: د. عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي، ط الأولى.

19-

تاريخ بغداد: للخطيب البغدادي، دار الكتب العلمية.

ص: 419

20-

تاريخ العلماء والرواة للعلم بالأندلس: لابن الفرض عبد الله بن محمد، تصحيح: السيد عزت العطار الحسيني، مكتبة الخانجي.

21-

التدمرية: لابن تيمية، تحقيق: محمد بن عودة السعودي، ط الأولى.

22-

ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب.

23-

تفسير أبي المظفر السمعاني: تحقيق: باسم بن إبراهيم وغنيم بن عباس، طبع دار الوطن.

24-

تفسير البغوي المسمى معالم التنزيل: تحقيق: خالد العك ومروان سوار، دار المعرفة، ط الأولى.

25-

تفسير القرآن العظيم: لابن كثير، تحقيق: عبد العزيز غنيم ومحمد أحمد عاشور ومحمد إبراهيم البنا، الشعب.

26-

تقريب التهذيب: لابن حجر، تحقيق: أبي الأشبال صغير أحمد شاغف، دار العاصمة.

27-

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد: مطبعة فضالة المحمدية.

28-

تهذيب التهذيب: لابن حجر، دار الفكر، ط الأولى.

29-

تهذيب الكمال في أسماء الرجال: للمزي، تحقيق: د. بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، ط الخامسة.

30-

تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: للشيخ عبد الرحمن بن سعدي، الجامعة الإسلامية.

31-

الجامع الصحيح: للبخاري، المطبعة السلفية، ط الأولى.

32-

جامع العلوم والحكم: لابن رجب، دار المعرفة.

33-

جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس: لأبي عبد الله محمد بن فتوح الحميدي، تصحيح وتحقيق: محمد بن تاويت الطنجي، مكتبة الخانجي.

34-

الجرح والتعديل: لابن أبي حاتم، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية.

35-

الحجة في بيان المحجة في شرح عقيدة أهل السنة: لأبي القاسم التيمي، تحقيق: د. محمد ربيع المدخلي، ومحمد بن محمود أبو رحيم، دار الراية، ط الأولى.

36-

حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: لأبي نعيم، دار الفكر.

37-

خلق أفعال العباد: للبخاري، تحقيق: بدر البدر، الدار السلفية، ط الأولى.

ص: 420

38-

درء تعارض العقل والنقل: لابن تيمية، تحقيق: محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط الأولى.

39-

ذم التأويل: لابن قدامة، تحقيق: بدر البدر، الدار السلفية، ط الأولى.

40-

ذيل ديوان الضعفاء والمتروكين: للذهبي، تحقيق: الشيخ حماد بن محمد الأنصاري رحمه الله، مكتبة النهضة، ط الأولى.

41-

الرد على الجهمية: للدارمي، تحقيق: بدر البدر، الدار السلفية، ط الأولى.

42-

الرد على الزنادقة والجهمية: للإمام أحمد بن حنبل، المطبعة السلفية، ط الأولى.

43-

الرسالة الحموية: لابن تيمية، المطبعة السلفية، ط الرابعة.

44-

الرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة في العقائد والفنون المتنوعة الفاخرة: لعبد الرحمن بن ناصر السعدي، المؤسسة العيدية.

45-

سلسلة الأحاديث الصحيحة: للألباني، المكتب الإسلامي، ط الثالثة.

46-

سير أعلام النبلاء: للذهبي، مؤسسة الرسالة، ط الثانية.

47-

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: لأبي القاسم اللالكائي، تحقيق: د. أحمد سعد حمدان، دار طيبة، ط الأولى.

48-

شرح ابن عقيل للألفية: تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد.

49-

شرح حديث النزول: لابن تيمية، تحقيق: د. محمد بن عبد الرحمن الخميس، دار العاصمة، ط الأولى.

50-

شرح السنة: للبربهاري، تحقيق: د. محمد بن سعيد القحطاني، دار ابن القيم، ط الأولى.

51-

شرح العقيدة الطحاوية: لابن أبي العز، تحقيق: د. عبد الله التركي وشعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، ط الثانية.

52-

شرح الفقه الأكبر: لملا علي القاري، نشر قديمي كتب خانة.

53-

شرح الكوكب المنير المسمى بمختصر التحرير: تحقيق: محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية، ط الأولى.

54-

الشريعة: للآجري، تحقيق: د. عبد الله الدميجي، دار الوطن، ط الأولى.

55-

صحيح مسلم: تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي.

56-

الصفات: للدارقطني، تحقيق: الدكتور علي بن ناصر فقيهي.

ص: 421

57-

الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة: لابن القيم، تحقيق: د. علي ابن محمد الدخيل الله، دار العاصمة، ط الأولى.

58-

الضعفاء والمتروكين: لابن الجوزي، تحقيق: أبي الفداء عبد الله القاضي، دار الكتب العلمية، ط الأولى.

59-

ضوء الساري إلى معرفة رؤية الباري: لأبي شامة الشافعي، تحقيق: د. أحمد بن عبد الرحمن الشريف، دار الصحوة، ط الأولى.

60-

الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: لابن القيم، تحقيق: محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية.

61-

طريق الوصول إلى العلم المأمول بمعرفة القواعد والضوابط والأصول: لعبد الرحمن بن ناصر السعدي، المؤسسة العيدية.

62-

عقيدة السلف أصحاب الحديث: للصابوني، تحقيق: بدر بن عبد الله البدر، مكتبة الغرباء، ط الثانية.

63-

العقيدة النظامية: للجويني، تحقيق: أحمد حجازي، دار الشباب، ط الأولى.

64-

العلو للعليِّ الغفار في صحيح الأخبار وسقيمها: للذهبي، تصحيح: عبد الرحمن محمد عثمان، المكتبة السلفية، ط الثانية.

65-

فائدة جليلة في قواعد الأسماء الحسنى مستل من كتاب بدائع الفوائد: لابن القيم، تحقيق: عبد الرزاق البدر، دار الإمام مالك، ط الأولى.

66-

فتح الباري شرح صحيح البخاري: لابن حجر، دار المعرفة.

67-

فهرست ابن خير: لابن خير الإشبيلي، دار الآفاق الجديدة بيروت.

68-

القاموس المحيط: للفيروزابادي، مؤسسة الرسالة، ط الثانية.

69-

القول السديد في الرد على من أنكر تقسيم التوحيد: لعبد الرزاق البدر، دار ابن عفان

70-

الكشاف: للزمخشري، دار المعرفة.

71-

الكواكب الدرية لشرح الدرة المضية في عقد أهل الفرقة المرضية: للشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع، مطبعة المدني، ط الثانية.

72-

لسان الميزان: لابن حجر، دار الكتاب الإسلامي، ط الثانية.

73-

لوائح الأنوار السنية ولواقح الأفكار السُّنية شرح قصيدة ابن أبي داود الحائية: للسفاريني، تحقيق: د. عبد الله بن محمد بن سليمان البصيري، مكتبة الرشد، ط الأولى.

ص: 422

74-

لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية: للسفاريني، مطبعة المدني.

75-

مجموع الفتاوى: لابن تيمية، جمع وترتيب: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، المكتب التعليمي السعودي بالمغرب.

76-

مختصر الصواعق المرسلة: لابن القيم، اختصار: محمد بن الموصلي، دار الندوة الجديدة، 1405هـ.

77-

مختصر العلو للعلي الغفار: للذهبي، للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، ط الأولى.

78-

مدارج السالكين: لابن القيم، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي بيروت.

79-

المسند للإمام أحمد: المكتب الإسلامي، ط الخامسة.

80-

مسند الإمام الشافعي: دار الكتب العلمية، ط الأولى.

81-

المصنف: لأبي بكر بن أبي شيبة، تحقيق: عبد الخالق الأفغاني، الدار السلفية، الهند 1399هـ.

83-

المصنف: للإمام أبي بكر عبد الرزاق بن همام، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي بيروت، ط الثانية

84-

معالم السنن: لأبي سليمان الخطابي، تحقيق: محمد حامد الفقي، مكتبة السنة المحمدية.

85-

المغني في الضعفاء: للذهبي، إدارة إحياء التراث الإسلامي بقطر.

86-

مفتاح دار السعادة: لابن القيم، دار الكتب العلمية، بيروت.

77-

منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات: للشيخ محمد الأمين الشنقيطي، الجامعة الإسلامية، 1401هـ.

78-

النصيحة: للجويني.

79-

نقض تأسيس الجهمية: لابن تيمية، تصحيح: محمد بن عبد الرحمن بن قاسم، مطبعة الحكومة، ط الأولى.

ص: 423

تابع لحدود في علم النحو

والمبنيُّ من الأفعالِ: الفعلُ الماضي وفعلُ الأمر، فالماضي مبنيّ على الفتحِ أبداً ما لم يَعْرِضْ له عَارِض.

والأمرُ مبنيٌّ على ما يُجزمُ به مضارعُه.

والأصلُ في البناءِ: السكونُ، وما بُني منها على حركةٍ فهو على خلافِ الأصلِ.

وأسباب البناءِ على حركةٍ خمسةٌ:

الأولُ: الفرارُ من التقاءِ الساكنين، كأَيْنَ.

الثاني: كونُ الكلمةِ عرضة لأن يبتدأُ بها، كلامِ الابتداءِ.

الثالث: كونُ الكلمةِ لها أصلٌ في التمكينِ، كأوّل.

الرابع: كونُ الكلمةِ على حرفٍ واحدٍ، كبعضِ المضمرات.

الخامس: كونُ ما هي فيه شبيهاً بالمعرب، كالفعلِ الماضي، لأنَّه شبيهٌ بالمضارعِ في وقوعِه صفةً أو صلةً أو حالاً أو خبراً.

وأسبابُ البناءِ أربعةٌ:

الأولُ: الشبهُ الاستعماليّ، كأسماءِ الأفعال.

"الثاني: الوضعيّ، بأنْ يكونَ الاسمُ موضوعاً على حرفٍ أو حرفين.

الثالث: المعنويّ، بأن يتضَّمنَ الاسمُ معنى من المعاني التي حقُّها أن تكونَ للحرف) .

الرابع: الشبهُ الافتقاريّ. كالموصولات.

وزادَ ابنُ مالكٍ خامساً، وهو الشبهُ الإهماليّ.

ـ حدُّ جمعِ التكسير: ما تغيَّر فيه بناءُ واحدِه لفظاً أو تقديراً، ودلَّ على أكثرَ من اثنين.

- حدُّ جمعِ المؤنّثِ السالم: ما جُمعَ بألفِ وتاءِ مزيدتين.

- حدُّ جمعِ المذكَّرِ السَّالمِ: ما دلَّ على أكثرَ من اثنين، وسلِم فيه بناءُ واحدِه، وجمعُ المذكرِ السالم إنْ كانَ اسماً فيشترطُ فيه أنْ يكونَ عَلَماً لمذكّرٍ عاقلٍ خَالٍ من تاءِ التأنيثِ ومن التركيب. وإن كانَ صفةً فيشترطُ فيها أنْ تكونَ صفةً لمذكرٍ عاقلٍ خالٍ من تاءِ التأنيثِ ومن التركيبِ، وليسَ من بابِ أفعل فعلاء ولا فَعْلَان فَعْلَى، ولا ممّا يستوي فيه المذكرُ والمؤنث.

وشرطُ إعرابِ الأسماءِ الخمسةِ بالحروف:

1- (1) أنْ تكونَ مفردةً، لا مثنَّاة ولا مجموعة.

(1) في ب "الأول".

ص: 424

.. 2- (1) وأن تكونَ مكبّرةً، احترازاً من أنْ تكونَ مصغّرة.

3- (2) وأن تكونَ مضافةً لغيرِ ياءِ المتكلّمِ، احترازاً من أن تكونَ مضافةً إلى ياءِ المتكلِّم.

- حدُّ التثنية: ضمُّ اسمٍ إلى مثلهِ، بشرط اتفاقِ اللفظ والمعنى الموجب للتسمية.

- حدُّ المثنَّى: هو الاسمُ الدالُّ على اثنين، بزيادةٍ في آخرِه

صالحاً للتجريد وعطفِ مثلِه عليه.

وللتثنيةِ شروطٌ:

الأول: الإفرادُ، فلا يُثنَّى المثنَّى ولا المجموعُ على حدِّه.

الثاني: الإعرابُ، فلا يُثنَّى المبني، وأما نحو هذان واللذان فصيغٌ موضوعةٌ على المُثَنَّى لا أنَّها مثنَّاةٌ حقيقة.

الثالث: عدمُ التركيبِ، فلا يُثَنَّى المركَّبُ تركيباً إسنادياً. وأما المركَّبُ تركيباً إضافياً فيُسْتَغنى بتثنيةِ المضافِ عن تثنيةِ المضافِ إليه.

الرابعُ: التنكيرُ، فلا يُثَنَّى العَلَمُ باقياً على عَلَمِيَّتِه، ولهذا لا يُثَنَّى الكنايات عن الأعلامِ نحو: فلان، وفلانة، لأنها لا تقبلُ التنكير.

الخامس: اتفاقُ اللفظ.

السادس: اتفاقُ المعنى. فلا يُثَنَّى المشتركُ، خلافاً للحريريّ. وأما نحوُ العُمَرَان، فمن باب التغليب.

السابع: أن لا يُستغنى عن تثنيتهِ بتثنيةِ غيرهِ. نحو سواء، فإنهم استغنوا عن تثنيتهِ بتثنيةِ "سي"، فقالوا:"سيّان".

الثامن: أن يكونَ له ثانٍ في الوجودِ، وأما نحو "القمران" فمن بابِ المجاز.

- حدُّ الاسمِ الذي لا ينصرفُ:

هو ما فيه علّتان فرعيّتان من عللٍ تسع، أو واحدة منها تقومُ مقامَها.

- موانعُ الصرفِ يجمعُها قولُك:-

عَدْلٌ وَوَصْفٌ وتَأْنِيْثٌ وَمَعْرِفَةٌ (3)

(1) في ب "الثاني".

(2)

في ب "الثالث".

(3)

المعتبر من المعارفِ إنما هو العلميةُ دونَ غيرِها، لأنها لازمةٌ للاسم بسببِ الوضعِ بغيرِ

آلةٍ، بخلاف التعريف باللامِ والإضافةِ، فإنها لا تلزمُ إلا في استعمالِ المتكلمِ لا بالوضع. وأما المضمرُ المبهمُ فلا مدخلَ لهما في منع الصرف.

وأجازَ الكوفيونَ والأخفشُ وأبو عليّ منعَ الصرفِ بالعلميّةِ وحدَها في ضرورةِ الشعرِ. ومنعه سيبويه وأكثرُ البصريين. انظر: (شرح ألفية ابن معطٍ 1: 438، 441، 442) .

ص: 425

وَعُجْمَةٌ ثُمَّ جَمْعٌ ثُمَّ تَرْكِيْبُ

وَالنُّونُ زَائِدَةٌ مِنْ قَبْلِهَا أَلِفٌ

وَوَزْنُ فَعْلَى وهَذَا الْقَوْلُ تَقْرِيْبُ.

النواصبُ قسمانِ:-

منها ما ينصبُ بنفسِه، ومنها ما ينصبُ بتقديرِ "أَنْ"بعدَه.

فالذي ينصبُ بنفسهِ: أنْ، ولنْ، و "إذن"، وكي.

والباقي ما ينصبُ بتقديرِ أنْ بعده.

ويُشترطُ في إذا شروطٌ يجمعُها قولُ الشاعر:

أَعْمِلْ إذا إذاً أتَتْكَ أَوَّلا

وسُقْتَ فِعلاً بَعْدَهَا مُسْتَقْبلا

واحذرُ إن أَعْمَلْتَهَا أنْ تَفْصِلا

إلَاّ بِخُلْفٍ أَوْ نِدَاءٍ أوْ بِلَا

وَإِنْ أَتَتْ بِحَرْفِ عَطْفٍ أَوَّلا

فَأَحْسَنُ الوَجْهَيْنِ أَلَاّ تَعْمَلا

والجوازمُ على قسمين:

منها ما يجزمُ فعلاً واحداً، وهي: لَمْ، ولَمَّا، أَلَمْ، ألمَّا، لام الأمر، والدعاء، ولا في النهي والدعاء.

ومنها ما يجزمُ فعلين (وهي) :

إن إلى آخرها.

وَلمْ لنفي الماضي المنقطعِ عن الحال. وما لنفي الماضي المتصلِ بالحال.

- حدُّ الفاعل: ما أُسندَ إليه فعلٌ تامٌ فارغٌ غيرُ مصوغٍ للمفعول.

- حدُّ المبتدأ:

اسمٌ أو بمنزلتِه مجرّدٌ عن العواملِ اللّفظيةِ غيرِ الزائدةِ، مخبرٌ عنه، أو وصفٌ لرافعِ المكتفي به.

- حدُّ الخبرِ:

هو الجزءُ المنتظمُ منه المبتدأ جملة.

الرجاءُ يكونُ في الممكنِ، والتمنِّي يكونُ في الممكنِ والمستحيل.

- حدُّ النعت:

التابعُ لِمَا قبلَه، المشعرُ بعلامةٍ فيه أو ما هو في سببه.

والنعتُ إما أنُ يكونَ حقيقياً فيتبع منعوته في أربعةٍ من عشرةٍ، في واحدٍ من الرفعِ والنصبِ والجرِ، وواحدٍ من الإفرادِ والتثنيةِ والجمعِ، وواحدٍ من التذكيرِ والتأنيثِ، وواحدِ من التعريفِ والتنكيرِ.

- حدُّ عطف النَّسَق:

التابعُ لِمَا قبلَه المشاركُ له في إعرابِه بواسطِة أحدِ الحروفِ العشرة.

- حدُّ التوكيدِ المعنويّ:

التابعُ المقرّرُ معنى متبوعهِ في نفسِ السامعِ.

- وحدُّه لفظاً:

تكرارُ اللفظِ بعينهِ.

ص: 426

- حدُّ البدل:

التابعُ المقصودُ بالحكمِ بلا واسطةِ أحد.

- حدُّ المصدر:

هو الاسمُ الدالُّ على الحَدَث.

- حدُّ المستثنى:

هو الإخراجُ بإلاّ أو إحدى أخواتِها تحقيقاً، أو تقديراً.

- حدُّ الجملة:

ما تركَّب من كلمتينِ فصاعداً، بشرطِ الإسنادِ، أفاد أم لم يفد (1) .

- حدُّ الجملةِ الكبرى:

ما وقع الخبرُ فيها جملة.

- حدُّ الجملةِ الصغرى:

ما وقعتْ خبراً لمبتدأ.

أقسام الجملة ثلاث:

اسمية وفعلية وظرفية، وهي ترجعُ إلى:

الاسمية: ما صُدَّرتْ باسمٍ.

- حدُّ الجملةِ الفعلية: ما صُدِّرتْ بفعلٍ.

- حدُّ الإضافة: نسبةٌ تقنينيةٌ بينَ اسمين، تثبتُ لثانيهما الخفضَ أبداً.

- حدُّ التمييز:

هو الاسمُ المنصوب المفسّرُ لِمَا آنبهمَ من الذوات.

أعرف المعارفِ المضمراتُ، ثم الأعلامُ، ثم أسماءُ الإشارة، ثم الموصولات، ثم المحلى بالألف واللام.

-

حدُّ الموصولِ الاسمّي:

ما افتقرَ أبداً إلى عائدٍ أو خلفه، وجملة تصريحية أو مؤولة.

- حدُّ الموصول الحرفيّ:

ما أُوِّل مع ما يليه بمصدرٍ. ولم يحتجْ إلى عائد.

- حدُّ الحال:

هو الاسمُ المنصوبُ المفسّرُ لما آنبهمَ من الهيئات.

يجبُ استتارُ الضميرِ في أربعةِ مواضع:

في الفعلِ المضارعِ المبدوءِ بالهمزةِ، أو بالتاءِ، أو بالنونِ، وفي فعلِ الأمر.

الجملُ الواقعةُ بعدَ النكراتِ صفاتٌ، وبعدَ المعارفِ أحوالٌ. وبعد المحتمل لهما.

والجارُ والظرفُ إذا وقعا صفةً أو جملةً أو حالاً أو خبراً، تعلَّق بمحذوفٍ تقديرُه كائنٌ أو مستقرّ إلا في الموصولِ فيتعيَّن "استقر".

- حدُّ الصفةِ:

ما دل على معنى وزمان.

(1) بعدها في ب: "أقسام الجملة ثلاثة: اسمية وفعلية وظرفية. حدُّ الاسميةِ: ما صُدِّرت باسم، حدُّ الفعليةِ: ما صُدِّرت بفعل، حَدُّ الظرفيةِ: ما صُدِّرت بظرفٍ. والجملُ جملتانِ: صغرى وكبرى. وانظر: شرح الحدود في النحو: للفاكهي ص 64.

ص: 427

والحمد لله تم الكتابُ بحمدِ اللهِ وعونِه وحسنِ توفيقهِ على يدِ أفقرِ عبادِ ربِه إبراهيم يوسف.. وصلى اللهُ على سيدِنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه وسلم

ص: 428

تابع لحدود في علم النحو

فهرس المصادر والمراجع

1-

الإشارة إلى تحسين العبارة: تأليف علي بن فضال بن علي المجاشعي المتوفَّى سنة 479هـ، تحقيق: د. حسن شاذلي فرهود، دار العلوم، الرياض، 1402هـ (د. ط) .

2-

إشارة التعيين في تراجم النحاة واللغويين: تأليف عبد الباقي بن عبد المجيد اليماني المتوفَّى سنة 743هـ. تحقيق: د. عبد المجيد دياب، مركز الملك فيصل للدراسات الإسلامية، الطبعة الأولى، 1406هـ.

3-

الأشباه والنظائر في النحو: لأبي الفضل عبد الرحمن بن الكمال أبو بكر جلال الدين السيوطي.

حققه: طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة 1395هـ (طبعة جديدة مراجعة محققة) .

4-

إصلاح المنطق: لابن السكّيت المتوفَّى سنة 244هـ، شرح وتحقيق: أحمد محمد شاكر وعبد السلام محمد هارون، ط 3، دار المعارف بمصر.

5-

الأعلام: لخير الدين الزركلي، الطبعة الثالثة، 1389هـ.

6-

إنباه الرواة على أنباه النحاة: للوزير جمال الدين أبي الحسن علي بن يوسف القفطي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة دار الكتب المصرية، ط 1، القاهرة، 1374هـ.

7-

الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين: تأليف كمال الدين أبي البركات عبد الرحمن بن محمد بن أبي سعيد الأنباري النحوي، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، دار الفكر، بيروت (د. ط)(د. ت) .

8-

إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون: لإسماعيل باشا بن محمد أمين بن مير سليم الباباني البغدادي، دار العلوم الحديثة، بيروت.

9-

البداية والنهاية: لأبي الفداء الحافظ ابن كثير الدمشقي المتوفَّى سنة 774هـ. الناشر مكتبة المعارف، الطبعة الأولى، بيروت، 1966م.

10-

بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة: لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ط القاهرة، عيسى البابي الحلبي وشركاه.

11-

تاج العروس، عن جواهر القاموس: للزبيدي، منشورات: دار مكتبة الحياة، بيروت.

ص: 429

12-

تاج اللغة وصحاح العربية: تأليف إسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين، بيروت. ط 3، 1404هـ.

13-

التبصرة والتذكرة: لأبي محمد عبد الله بن علي بن إسحاق الصيمري من نحاة القرن الرابع، تحقيق: د. فتحي أحمد مصطفى علي الدين، ط 1، 1402هـ، جامعة أم القرى، مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي.

14-

تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد: لابن مالك، تحقيق محمد كامل بركات، دار الكاتب العربي، 1387هـ، مصر.

15-

كتاب التعريفات: للشريف علي بن محمد الجرجاني، ضبطه وصححه جماعة من العلماء بإشراف الناشر، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1403هـ، دار الكتاب العربي، بيروت، 1405هـ.

16-

تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد: محمد بدر الدين بن أبي بكر بن عمر الدماميني المتوفَّى سنة 827هـ، تحقيق: د. محمد بن عبد الرحمن بن محمد المفدي. الطبعة الأولى، بيروت، 1403هـ.

17-

تلقيح الألباب في عوامل الإعراب: تأليف أبي بكر محمد بن عبد الملك الشنتريني المتوفَّى سنة 549هـ، تحقيق: د. معيض بن مساعد العوفي، دار المدني، جدة، الطبعة الأولى 1410هـ.

18-

الجامع الصغير في النحو: لابن هشام الأنصاري، تحقيق: د. أحمد الهرمبل، مكتبة الخانجي بالقاهرة، 1400هـ.

19-

جني الجنتين في تمييز نوعي المثنيين، تأليف محمد أمين بن فضل الله المحبي المتوفَّى سنة 1111هـ، دار الكتب العلمية، بيروت.

20-

حياة الحيوان الكبرى، للشيخ كمال الدين الدميري، ج1، دار الفكر، بيروت.

21-

دائرة المعارف وهو قاموس عام لكل فن ومطلب، تأليف المعلّم بطرس البستاني، دار المعرفة، بيروت، لبنان.

22-

الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة: لشهاب الدين أحمد بن حجرالعسقلاني، المتوفَّى سنة 852هـ، حقّقه وقدّم له: محمد سيّد جاد الحق، دار الكتب الحديثة، مصر.

ص: 430

23-

شذا العرف في فن الصّرف: تأليف الأستاذ أحمد الحملاوي. أستاذ العلوم العربية بدار العلوم وأحد علماء الأزهر الشريف، منشورات المكتبة العلمية الجديدة، بيروت.

24-

شذرات الذهب في أخبار من ذهب: لأبي الفلاح عبد الحي بن العماد الحنبلي المتوفَّى سنة 1089هـ، المكتب التجاري، بيروت، الطبعة الأولى.

25-

شرح الأشموني على ألفية ابن مالك. ومعه حاشية الصبان وشرح الشواهد للعيني، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه، مصر.

26-

شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، دار الاتحاد العربي، ط 15، 1368هـ.

27-

شرح ألفية ابن مالك: لابن الناظم المتوفَّى سنة 686هأبي عبد الله بدر الدين محمد بن الإمام جمال الدين محمد بن مالك صاحب الألفية، تحقيق: د. عبد الحميد السيد محمد عبد الحميد، دار الجيل، بيروت.

29-

شرح ألفية ابن معطٍ لعز الدين أبي الفضل عبد العزيز بن جمعه بن زيد القوَّاس الموصلي المتوفَّى سنة 696هـ، تحقيق: د. علي موسى الشوملي، الناشر: مكتبة الخريجي، الرياض، الطبعة الأولى، 1405هـ.

30-

شرح التحفة الوردية: لزين الدين أبي حفص عمر بن مظفر بن عمر ابن الوردي المتوفَّى سنة 749هـ، تحقيق: د. عبد الله علي الشلال، مكتبة الرشد، الرياض، ط 1، 1049هـ.

31-

شرح التسهيل: لابن عقيل: المساعد على تسهيل الفوائد: للإمام بهاء الدين ابن عقيل على كتاب التسهيل لابن مالك، تحقيق: د. محمد كامل بركات، الناشر: مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي بمكة، 1405هـ.

32-

شرح التصريح على التوضيح: لخالد الأزهري، دار الفكر، بيروت.

33-

شرح كتاب الحدود للأبدي تأليف: الشيخ الإمام العالم العلامة: عبد الرحمن ابن محمد بن قاسم المالكي النحوي المتوفَّى سنة 920هـ. تحقيق: د. المتولي الدميري 1413هـ. وكالة الشروق للطباعة والنشر.

ص: 431

34-

شرح كتاب الحدود في النحو: للإمام عبد الله بن أحمد الفاكهي النحوي المكي المتوفَّى سنة 972هـ، تحقيق: د. المتولي الدميري، 1408هـ.

35-

شرح الفصيح: لابن هشام اللخمي المتوفَّى سنة 577هـ. دراسة وتحقيق: د. مهدي عبيد جاسم ط 1، 1409هـ. وزارة الثقافة والإعلام، دائرة الآثار والتراث، دار صدام للمخطوطات، العراق.

36-

شرح اللمحة البدرية في علم العربية: لأبي حيان الأندلسي. تأليف: أبي محمد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري. تحقيق: د. صلاح رواي، الطبعة الثانية، القاهرة.

37-

شرح عيون الإعراب: تأليف الإمام أبي الحسن علي بن فضال المجاشعي المتوفَّى سنة 479هـ. تحقيق: د. حنا جميل حداد، مكتبة المنار، الأردن، الزرقاء، الطبعة الأولى، 1406هـ.

38-

شرح المفصل: موفق الدين يعيش بن علي بن يعيش النحوي المتوفَّى سنة 643هـ، عالم الكتب، بيروت، مكتبة المتنبي، القاهرة.

39-

شرح ملحة الإعراب: لأبي محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري المتوفَّى سنة 516هـ. تحقيق: د. أحمد قاسم، مكتبة دار التراث، ط 2، 1412هـ.

40 -

شفاء العليل في إيضاح التسهيل: لأبي عبد الله محمد بن عيسى السلسيلي المتوفَّى سنة 770هـ، تحقيق: د. الشريف عبد الله علي الحسيني البركاتي، ط 1، 1406هـ.

41-

الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها: لأبي الحسين أحمد بن فارس، تحقيق: مصطفى الشويمي، مؤسسة أ. بدران، بيروت، 1382هـ.

42-

صفة جزيرة الأندلس، منتخبة من كتاب الروض المعطار في خبر الأقطار: لأبي عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد المنعم الحميري، جمعه سنة 866هـ، عني بنشرها وتصحيحها وتعليق حواشيها: أ. لافي بروفنصال، القاهرة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة سنة 1937م.

43-

الضوء اللامع لأهل القرن التاسع: شمس الدين محمد عبد الرحمن السخاوي، المجلد الأولى، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت.

ص: 432

44-

غاية النهاية في طبقات القراء: شمس الدين أبو الخير محمد بن محمد بن الجزري المتوفَّى سنة 833هـ. عني بنشره: ج برحستراسر، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 1400هـ.

45-

الغرة المخفية لابن الخبّاز المتوفَّى سنة 639هفي شرح الدرّة الألفية: لابن معطٍ المتوفَّى سنة 628هـ، تحقيق: حامد محمد العبدلي، دار الأنباء، بغداد، الرمادي.

46-

فوات الوفيات والذيل عليها. تأليف: محمد بن شاكر الكتبي المتوفَّى سنة 764هـ. تحقيق د. إحسان عباس، دار صادر، بيروت.

47-

القاموس المحيط: تأليف مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز ابادي المتوفَّى سنة 816هـ، دار الجيل، المؤسسة العربية للطباعة والنشر، بيروت.

48-

الكافية في النحو: لجمال الدين أبي عمرو عثمان بن عمر المعروف بابن الحاجب النحوي المالكي المتوفَّى سنة 646هـ، شرحه: رضي الدين محمد ابن الحسن الاستراباذي النحوي المتوفَّى سنة 686هـ، دار الكتب العلمية، بيروت.

49-

كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون: مصطفى بن عبد الله الشهير بحاجي خليفة وبكاتب جلبى. أعادت طبعة بالأوفست منشورات مكتبة المثنى، بغداد.

50-

لسان العرب: لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري، دار صادر، بيروت.

51-

اللمع في العربية: صنعة أبي الفتح عثمان بن جنَّي، تحقيق: د. حسين محمد محمد شرف، عالم الكتب، القاهرة، ط 1، 1399هـ.

52-

المحلّى "وجوه النصب"صنّفه أبو بكر أحمد بن الحسن بن شقير النحوي البغداديّ المتوفَّى سنة 317هـ. تحقيق: د. فائز فارس، مؤسسة الرسالة، بيروت، دار الأمل، الأردن، الطبعة الأولى، 1408هـ.

53-

المرتجل: لأبي محمد عبد الله بن أحمد بن أحمد بن أحمد بن الخشاب المتوفَّى سنة 567هـ. تحقيق: علي حيدر، دمشق، 1392هـ.

54-

المزهر في علوم اللغة وأنواعها: لعبد الرحمن جلال الدين السيوطي، دار الفكر، تحقيق: محمد أحمد جاد المولى، وعلي البجاوي، ومحمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة.

ص: 433

55-

المصباح في علم النحو: للمطرزيّ، تحقيق: عبد الحميد السيد طلب، مكتبة الشباب، الطبعة الأولى، مصر.

56-

المصطلح النحوي "نشأته وتطوره حتى أواخر القرن الثالث الهجري": عوض حمد القوزي، الناشر: عمادة شؤون المكتبات، جامعة الرياض، الرياض، الطبعة الأولى، 1401هـ.

57-

معجم البلدان لشهاب الدين أبي عبد الله ياقوت الحمويّ الروميّ البغداديّ، م1، بيروت، دار صادر، د. ت.

58-

معاني القرآن: لأبي زكريا يحيى بن زياد الفراء المتوفَّى سنة 207هتحقيق: محمد علي النجار، الدار المصرية للتأليف والترجمة، مصر.

59-

معاني القرآن: صنعه الأخفش الأوسط أبو الحسن سعيد بن مسعدة المجاشعيّ البّلْخي البصري المتوفَّى سنة 215هـ، ج1، تحقيق: د. فائز فارس، ط2، 1401هـ. يطلب هذا الكتاب من محققه ص. ب 2002 الصفاة الكويت.

60-

معجم المؤلفين: عمر رضا كحالة، المجلد الأولى، الناشر: مكتبة المثنى، بيروت، ودار إحياء التراث العربيّ، بيروت.

61-

مغني اللبيب عن كتب الأعاريب: لجمال الدين بن هشام الأنصاري المتوفَّى سنة 761هـ، تحقيق: د. مازن المبارك، ومحمد علي حمد الله، راجعه: سعيد الأفغاني، دار الفكر، الطبعة الثانية، 1969م.

62-

مفتاح الإعراب: للشيخ محمد بن علي بن موسى الأنصاري المحلي المتوفَّى سنة 673هـ. تحقيق: د. محمد عامر أحمد حسن، مكتبة الإيمان، القاهرة.

63-

مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم: أحمد بن مصطفى، الشهير بطاش كبرى زاده، تحقيق: كامل بكري، عبد الوهاب أبو النور، دار الكتب الحديثة.

64-

المقتضب: للمبّرد، تحقيق: محمد عبد الخالق عضيمة، لجنة إحياء التراث الإسلاميّ، القاهرة، 1399هـ.

65-

المقدمة الجزولية في النحو: تصنيف: أبي موسى عيسى بن عبد العزيز الجزولي المتوفَّى بأزمور سنة 607هـ، تحقيق وشرح: د. شعبان عبد الوهاب محمد، الأستاذ المشارك بجامعة الإمام بأبها، راجعه: د. حامد أحمد نيل، ود. فتحي جمعه.

ص: 434

66-

الموسوعة الثقافية بإشراف د. حسين سعيد، دار المعرفة، مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر.

67-

الموسوعة العربية الميسرة، مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، القاهرة، 1959م.

68-

موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب: للشيخ خالد الأزهري، شرح قواعد الإعراب لابن هشام الأنصاري، تحقيق: محمد إبراهيم سليم، مكتبة الساعي، الرياض.

69-

النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: جمال الدين أبو المحاسن يوسف

ابن تغري بردي الأتابكي المتوفَّى سنة 874هـ، نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب مع استدراكات وفهارس جامعة، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، القاهرة، د. ت.

70-

نزهة الألباء في طبقات الأدباء: لأبي البركات الأنباري، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار نهضة مصر، القاهرة.

71-

نفح الطيب من غصن الأندلس ال رطيب، وذكر وزيرها لسان الدين ابن الخطيب، تأليف أحمد بن محمد المقري التلمساني المتوفَّى في عام 1401هـ، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، دار الكتاب العربيّ، بيروت.

72-

النكت الحسان في شرح غاية الإحسان: لأبي حيّان النحويّ الأندلسي الغرناطي المتوفَّى سنة 745هـ، تحقيق: د. عبد الحسين الفتلي، كلية الآداب جامعة بغداد، الطبعة الأولى 1405هـ. مؤسسة الرسالة، بيروت.

73-

همع الهوامع شرح جمع الجوامع في علم العربية: لجلال الدين عبد الرحمن ابن أبي بكر السيوطيّ، عُني بتصحيحه: السيد محمد بدر الدين النعسانيّ، دار المعرفة، بيروت.

74-

الوافي بالوفيات: تأليف صلاح الدين خليل بن أيبك الصفديَ، باعتناء: س. ديد رينغ، دار النشر: فرانز شتايز بفيسبادن، الطبعة الثانية، 1394هـ.

ص: 435

الصفات الإلهية

تعريفها وأقسامها

إعداد

د. محمد بن خليفة بن علي التميمي

الأستاذ المشارك في كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية

المقدمة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران 102] .

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء 1] .

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب 71 - 72] .

أما بعد

فإن شرف العلم تابع لشرف المعلوم، ولا ريب أن أجل معلوم وأعظمه وأكبره هو الله الذي لا إله إلا هو رب العالمين، وقيوم السماوات والأرضين، الملك الحق المبين، الموصوف بالكمال كله، المنزه عن كل عيب ونقص، وعن كل تشبيه وتمثيل في كماله.

ولا ريب أن العلم بأسمائه وصفاته وأفعاله أجل العلوم وأفضلها، ونسبته إلى سائر العلوم كنسبة معلومه إلى سائر المعلومات.

ص: 436

وكما أنه أجل العلوم وأشرفها وأعظمها، فهو أصلها كلها، فكل علم هو تابع للعلم به، مفتقر في تحقيق ذاته إليه، فالعلم به أصلُ كل علم ومنشؤه، فمن عرف الله عرف ما سواه، ومن جهل ربه فهو لما سواه أجهل، فعلى أساس العلم الصحيح بالله وأسمائه وصفاته يقوم الإيمان الصحيح والتوحيد الخالص، وتنبني مطالب الرسالة جميعها، فلا حياة للقلوب ولا نعيم، ولا سرور، ولا أمان، ولا طمأنينة إلا بأن تعرف ربها ومعبودها وفاطرها ويكون أحب إليها مما سواه، والإنسان بدون الإيمان بالله لا يمكنه أن ينال معرفة ولا هداية، وبدون اهتدائه إلى ربه لا يكون إلا شقياً معذباً، كما هو حال الكافرين. لذلك فإن من في قلبه أدنى حياة أو محبة لربه، وإرادة لوجهه وشوق إلى لقائه، فطلبه لهذا الباب وحرصه على معرفته وازدياده من التبصر فيه، وسؤاله واستكشافه عنه هو أكبر مقاصده، وأعظم مطالبه، وأجل غاياته، فهذا هو الكمال الذي لا كمال للعبد بدونه؛ وله خُلِقَ الخلق؛ ولأجله نزل الوحي؛ وأرسلت الرسل؛ وقامت السماوات والأرض؛ ووجدت الجنة والنار، ولأجله شرعت الشرائع، وأسست الملة، ونصبت القبلة، وهو قطب رحى الخلق، والأمر الذي مداره عليه.

وهو بحق أفضل ما اكتسبته القلوب، وحصلته النفوس، وأدركته العقول، وليست القلوب الصحيحة والنفوس المطمئنة إلى شييء من الأشياء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر ولا فرحها بشييء أعظم من فرحها بالظفر بمعرفة الحق فيه.

وبابٌ هذه أهميته حريّ بأن تُوْلَى مسائلهُ ومباحثهُ حقها من العناية والاهتمام والدراسة، وإن من بين مباحث هذا الباب مسألة:"تعريف الصفات الإلهية وبيان أقسامها".

فأحببت تناول هذه الجزئية بالبحث آخذاً في الاعتبار إعطاء الأهمية لتحرير قول أهل السنة والجماعة في المسألة مع الإشارة إلى أقوال المخالفين بحسب ما تدعو إليه الحاجة وذلك في فصلين تسبقهما مقدمة وتعقبهما خاتمة وفهارس فنيّة:

المقدمة.

ص: 437

الفصل الأول: تعريف الصفات والعلاقة بينها وبين باب الأسماء وباب الإخبار، وتحته ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: تعريف الصفات، وضَمَّ مطلبين:

المطلب الأول: تعريف الصفات.

المطلب الثاني: الفرق بين الوصف والصفة.

المبحث الثاني: أنواع المضافات إلى الله، وانتظم ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: التعريف بالنوعين.

المطلب الثاني: أقوال العلماء في تقرير المسألة.

المطلب الثالث: موقف المخالفين من المسألة.

المبحث الثالث: العلاقة بين باب الصفات وباب الأسماء وباب الإخبار، وفيه مطلبان:

المطلب الأول: العلاقة بين الأبواب الثلاثة.

المطلب الثاني: الألفاظ المجملة وحكم دخولها في باب الصفات وموقف أهل السنة من استعمالها.

الفصل الثاني: أقسام الصفات، وهو في مبحثين:

المبحث الأول: أقسام الصفات عند أهل السنة والجماعة، واحتوى مطلبين:

المطلب الأول: أقسام الصفات عموماً.

المطلب الثاني: أقسام الصفات الثبوتية.

المبحث الثاني: أقسام الصفات عند المخالفين، واشتمل مطلبين:

المطلب الأول: أقسام الصفات عند من ينكر جميع الصفات الثبوتية.

المطلب الثاني: أقسام الصفات عند من يثبت بعض الصفات وينكر بعضها.

وختمت ذلك بخاتمة وثبت للمراجع وآخر للموضوعات، وإني لا أدعي أني وصلت بهذا البحث إلى درجة الكمال، ولكن حسبي أني اجتهدت، فإن وفقت فذلك فضل من الله وحده، وإن كان غير ذلك، فهذا من طبيعة البشر، فأرجو ممن وقف على شييء من ذلك أن يبادرني بالنصيحة، وأسأل الله عز وجل أن يتقبل مني هذا الجهد وأن يجعله عملاً صالحاً ولوجهه خالصاً، وأن لا يجعل لأحد فيه شيئا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الفصل الأول:

تعريف الصفات والعلاقة بينها وبين باب الأسماء وباب الإخبار

وفيه ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: تعريف الصفات.

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: تعريف الصفات.

ص: 438

حدود الأشياء وتفسيرها الذي يوضحها، تتقدم أحكامها، فإن الحكم على الأشياء فرع عن تصورها. فمن حكم على أمر من الأمور - قبل أن يحيط علمه بتفسيره، ويتصوره تصوراً يميزه عن غيره - أخطأ خطأً فاحشاً.

فلابد عند الحكم على الشييء من أن يكون مسبوقاً بتصور ماهية المحكوم عليه والمحكوم به، فإن كل تصديق بشييء لابد أن يكون مسبوقاً بتصور.

والغرض من وضع الحدود والتعريفات هو التمييز بين المحدود وبين غيره من جهة.

وكذلك فإن من وظيفته تفصيل ما دل عليه الاسم بالإجمال، فالحدود والتعريفات تساعد على تصور حقيقة المحدود، ولذلك كان من شرطها أن تكون جامعة مانعة.

فلابد أن يكون الحد جامعاً حتى يتصور السامع حقيقة المحدود، ولابد كذلك أن يكون مانعاً ليتميز المحدود عن غيره.

ومن هذا المنطلق لابد من تعريف للصفات يساعد على تصور مضمون هذا اللفظ من جهة ويحدد الفروق بين الصفة والاسم من جهة، وبين الصفة والخبر من جهة أخرى؛ كما يحدد الفرق بين ما يضاف إلى الله إضافة صفة وما يضاف إلى الله إضافة تشريف وتكريم

والتعريف الذي سأذكره هاهنا هو تعريف الصفات الثبوتية، وأما تعريف الصفات السلبية (أي المنفية) فسيأتي عند ذكر أقسام الصفات.

ضابط الصفات: هي ما قام بالذات الإلهية مما يميزها عن غيرها، ووردت به نصوص الكتاب والسنة.

شرح مفردات التعريف:

أ- "ما قام بالذات"يخرج من هذا التقييد ما كان من إضافة المُلْك والتشريف، إذ الإضافة إلى الله نوعان:

النوع الأول: إضافة مُلْك وتشريف وضابطها: كل ما يضاف إلى الله ويكون عيناً قائمة بنفسها، أو حالاً في ذلك القائم بنفسه.

ومثال ما يضاف ويكون عيناً قائمة بنفسها قوله تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} .

ومثال ما يكون حالاً في ذلك القائم بنفسه قوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} فهذا لا يكون صفة لأن الصفة قائمة بالموصوف.

ص: 439

النوع الثاني: إضافة الصفة إلى الله وضابطها: ما كان صفة قائمة بغيرها ليس لها محل تقوم به وهي المقصودة هنا.

فالله لا يتصف إلا بما قام به لا بما يخلقه في غيره، وهذا حقيقة الصفة، فإن كل موصوف لا يوصف إلا بما قام به لا بما هو مباين له، صفة لغيره.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما إضافة الوصف إلى الله فتعريفها: ما كان صفة قائمة بغيرها ليس لها محل تقوم به" أي قبل الإضافة والتخصيص.

ومن فوائد هذا التقييد الرد على زعم الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم الذين زعموا أن الصفة هي مجرد قول الواصف، فزعموا أن إضافة الصفات هي إضافة وصف من غير قيام معنى به وهذا باطل، فإن حقيقة الصفة هي ما قام بالموصوف، فإن كل موصوف لا يوصف إلا بما قام به لا بما هو مباين له.

أـ "بالذات الإلهية"

لفظ "الذات"في أصل اللغة تأنيث ذو، وهذا اللفظ لا يستعمل إلا فيما كان مضافاً إلى غيره كأسماء الأجناس، ويتوصلون به إلى الوصف بذلك فيقال: فلان ذو علم وذو مال وشرف.

وحيث جاء لفظ ذو في القرآن أو لغة العرب وكذا لفظ "ذات"لم يجىء مقرونا إلا بالإضافة كقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} وقوله: {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ، وقول خُبيب رضي الله عنه الذي في صحيح البخاري

وذلك في ذات الإله وإن يشأ

يبارك على أوصال شلو ممزع

فاسم الذات في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة، والعربية المحضة بهذا المعنى.

ثم أطلقه المتكلمون وغيرهم على النَّفْس، فإنهم لما وجدوا الله في القرآن قال:{تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} ، {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَه} وصفوها فقالوا: نفس ذات علم، وقدرة، ورحمة، ومشيئة، ونحو ذلك. ثم حذفوا الموصوف وعرفوا الصفة فقالوا: الذات. وهي كلمة مولدة ليست من العربية العرباء.

فهذا لفظ يقتضي وجود صفات تضاف الذات إليها، فأطلق بإزاء النفس.

ب ـ "مما يميزها عن غيرها"

ص: 440

في هذا إشارة إلى وظيفة الصفة، فالله عز وجل وصف نفسه بصفات كثيرة، تَعَرَّفَ بها إلى عباده، وهذه الصفات هي التي تميز الخالق عز وجل عما سواه وتُظْهِرُ للعباد كمال الرب عز وجل وعظمة شأنه، وجلال قدرته، وتزيد العبد معرفة بالله عز وجل، ولا شك أن حاجة الناس إلى معرفة ربهم هي أعظم الحاجات، ولذلك تَعَرَّفَ الله لعباده بصفاته، ليكون ذكرهم له أعظم وأكثر، "وكلما كانت حاجة الناس إلى معرفة الشييء وذكره أشد وأكثر، كانت معرفتهم به وذكرهم له أعظم وأكثر، وكانت طرق معرفته أكثر وأظهر، وكانت الأسماء المعرِّفة له أكثر، وكانت على معانيه أدل".

وهذا الشأن حاصل في باب أسماء الله وصفاته، فالله هو أجل معلوم وأعظمه وأكبره. ولذلك كان العلم بأسماء الله وصفاته وأفعاله أجل العلوم وأشرفها وأعظمها، فمن عرف الله عرف ما سواه ومن جهل ربه فهو لما سواه أجهل، فالعلم بالله أصل كل علم وهو أصل علم العبد بسعادته وكماله ومصالح دنياه وآخرته، والجهل به مستلزم للجهل بنفسه ومصالحها وكمالها وما تزكو به وتفلح به، فالعلم به سعادة العبد والجهل به أصل شقاوته.

وعلى أساس العلم الصحيح بالله وأسمائه وصفاته يقوم الإيمان الصحيح والتوحيد الخالص، وتنبني مطالب الرسالة جميعها.

فالمعرفة لله تَلْزَمُ العبد المؤمن لينعقد بها أصل الإيمان ولتجعله في سلامة من الكفر والشرك المخرجين من الإيمان.

جـ ـ "ووردت به نصوص الكتاب والسنة"

أي يجب الوقوف في هذا الباب على ما جاءت به نصوص الكتاب والسنة الصحيحة، فلا نثبت لله تعالى من الصفات إلا ما دل الكتاب والسنة على ثبوته.

قال الإمام أحمد: "لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا يُتَجاوز القرآن والحديث".

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "القول الشامل في جميع هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، وبما وصفه به السابقون الأولون لا يُتَجاوز القرآن والحديث".

ص: 441

ولدلالة الكتاب والسنة على ثبوت الصفات ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: التصريح بالصفة.

كالعزة في قوله تعالى: {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} .

وقوله صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بعزتك الذي لا إله إلا أنت".

والقوة في قوله تعالى: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} .

والرحمة في قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ} .

واليدين في قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} .

والبطش في قوله تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إضافة الصفة إلى الموصوف كقوله تعالى: {ولا يحيطون بشيء من علمه} ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ} ، وفي حديث الاستخارة "اللهم إني أستخيرك بعلمك، واستقدرك بقدرتك"، وفي الحديث الآخر "اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق"، فهذا في الإضافة الاسمية.

وأما بصيغة الفعل فكقوله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} ، وقوله

{عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} .

أما الخبر الذي هو جملة اسمية فمثل قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، وقوله تعالى:{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .

وذلك لأن الكلام الذي توصف به الذوات:

1-

إما جملة 2- أو مفرد

فالجملة إما اسمية: كقوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .

أو فعلية: كقوله: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوه} .

أما المفرد فلا بد فيه من:

1ـ إضافة الصفة لفظاً أو معنى كقوله: {بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} وقوله: {هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّة} .

2ـ أو إضافة الموصوف كقوله: {ذُو الْقُوَّة} ".

الوجه الثاني: تضمن الاسم للصفة.

فمن الأمور المتقررة في عقيدة أهل السنة والجماعة أن أسماء الله الحسنى متضمنة للصفات، فكل اسم يدل على معنى من صفاته ليس هو المعنى الذي دل عليه الاسم الآخر.

·1 فالعزيز متضمن لصفة العزة وهو مشتق منها.

ص: 442

·2 والخالق متضمن لصفة الخلق وهو مشتق منها.

·3 والرحيم متضمن لصفة الرحمة وهو مشتق منها.

فأسماء الله مشتقة من صفاته.

وترجع أسماء الله الحسنى من حيث معانيها إلى أحد الأمور التالية:

1-

إلى صفات معنوية: كالعليم، والقدير، والسميع، والبصير.

2-

ما يرجع إلى أفعاله: كالخالق، والرازق، والبارئ، والمصور.

3-

ما يرجع إلى التنزيه المحض ولا بد من تضمنه ثبوتاً إذ لا كمال في العدم المحض: كالقدوس، والسلام، والأحد.

4-

ما دل على جملة أوصاف عديدة ولم يختص بصفة معينة بل هو دال على معنى مفرد نحو: المجيد، العظيم، الصمد.

الوجه الثالث: التصريح بفعل أو وصف دال عليها أي ما فيها معنى الصفة والفعل مثل قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} .

وقوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .

وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} .

وقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} .

وقوله تعالى: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} .

وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَه} .

وقوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} .

وقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ} .

وقوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} .

وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش} .

وقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} .

وبما تقدم من شرح لمفردات التعريف أرى أنه هذا التعريف هو المناسب لتعريف الصفات والله أعلم.

المطلب الثاني: الفرق بين الوصف والصفة.

كل واحد من لفظ "الوصف" و"الصفة"مصدر في الأصل كـ "الوعد –والعِدَة"و"الوزن- والزِنة".

فالصفة: مصدر وصفتُ الشييء أصفه صفة.

والوصف والصفة:

ص: 443

1-

تارة يراد به: الكلام الذي يوصف به الموصوف، مثاله: قول الصحابي في {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} : أحبها لأنها صفة الرحمن.

2-

وتارة يراد به: المعاني التي دل عليها الكلام كالعلم والقدرة، والجهمية والمعتزلة وغيرهم تنكر هذا ويقولون: إنما الصفات مجرد العبارة التي يعبر بها عن الموصوف، فقالوا: إن إضافة الصفات إلى الله من إضافة وصف من غير قيام معنى به.

والكلابية ومن اتبعهم من الصفاتية قد يفرقون بين الوصف والصفة، فيجعلون الوصف: هو القول، والصفة: المعنى القائم بالموصوف.

فأدخلوا في الوصف (الذي هو القول عندهم) صفات الأفعال حتى ينفوا قيامها بالذات.

وأدخلوا في الصفة (التي هي المعنى القائم بالذات) ما أثبتوه من الصفات كصفات المعاني السبعة (العلم، الحياة، القدرة، الإرادة، السمع، البصر، الكلام) ليتأتى لهم على هذا التقسيم اعتبار بعض الصفات قائماً بالذات، وبعضها غير قائم بها، فأرادوا بذلك نفي صفات الأفعال واعتبروها نسباً وإضافات لا تقوم بالذات.

قال ابن القيم في الرد على زعمهم هذا:

فالحق أن الوصف ليس بمورد التق سيم هذا مقتضى البرهان

بل مورد التقسيم ما قد قام بالذات التي للواحد الرحمن

فهما إذا نوعان أوصاف وأفعال فهذي قسمة التبيان

فالوصف بالأفعال يستدعي قيا م الفعل بالموصوف بالبرهان

كالوصف بالمعنى سوى الأفعال ما أن بين دينك قط من فرقان

فالحق أن مورد القسمة هو نفس ما يقوم بالذات، فيقال إن ما يقوم بالذات ويكون وصفاً لها، إما أن يكون:

1-

صفة معنى لازماً للذات.

2ـ وإما أن يكون صفة فعل.

والوصف بالفعل يستدعي قيام الفعل بالموصوف، كالوصف بالمعنى سواء بسواء.

فإذا كان وصفه سبحانه بأنه عليم، قدير، حي،

الخ، يقتضي قيام العلم والقدرة والحياة به.

فكذلك وصفه بأنه خالق أو رازق أو مقدم أو مؤخر يقتضي قيام هذه الأفعال من الخلق والرزق والتقديم والتأخير ونحوها به.

ص: 444

"ومن قال الصفات تنقسم إلى صفات ذاتية وفعلية، ولم يجعل الأفعال تقوم به، فكلامه فيه تلبيس، فإنه سبحانه لا يوصف بشييء لا يقوم به.

وإن سلم أنه يتصف بما لا يقوم به فهذا هو أصل الجهمية الذين يصفونه بمخلوقاته ويقولون: إنه متكلم مريد وراض وغضبان ومحب ومبغض وراحم للمخلوقات يخلقها منفصلة عنه لا بأمور تقوم بذاته".

المبحث الثاني: أنواع المضافات إلى الله

وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: التعريف بالنوعين

يجب التفريق بين نوعين من الإضافة وردا في النصوص هما:

الأول: إضافة ملك.

الثاني: إضافة وصف.

1-

أما إضافة الملك فتعريفها: هي كل ما يضاف إلى الله ويكون عيناً قائمة بنفسها، أو حالاً في ذلك القائم بنفسه ومن أمثلتها:

1-

قوله تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} ، فإضافة الناقة إلى الله هنا من إضافة الملك والتشريف فالناقة عين قائمة بنفسها.

2-

قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً} ، فالروح هنا هو جبريل عليه السلام.

3-

قوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} .

4-

وقوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} .

5-

وقوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} .

6-

وقوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُول} .

ص: 445

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن المضاف إن كان شيئا قائماً بنفسه أو حالاًّ في ذلك القائم بنفسه، فهذا لا يكون صفة لله، لأن الصفة قائمة بالموصوف.

فالأعيان التي خلقها الله قائمة بأنفسها، وصفاتها القائمة بها تمتنع أن تكون صفات لله، فإضافتها إليه تتضمن كونها مخلوقة مملوكة، لكن أضيفت لنوع من الاختصاص المقتضي للإضافة لا لكونها صفة، والروح الذي هو جبريل من هذا الباب، كما أن الكعبة والناقة من هذا الباب، ومال الله من هذا الباب، وروح بني آدم من هذا".

وأما إضافة الوصف إلى الله فتعريفها: ما كان صفة قائمة بغيرها ليس لها محل تقوم به.

فإذا كان المضاف إليه لا يقوم بنفسه، بل لا يكون إلا صفة كالعلم، والقدرة، والكلام، والرضا، والغضب، فهذا لا يكون إلا إضافة صفة إليه فتكون قائمة به سبحانه.

ومن أمثلة هذا القسم:

قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} ، فالكلام لا يقوم بنفسه إلا بالمتكلم فإضافته إلى المتكلم إضافة صفة إلى موصوفها.

وقوله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِه} ، فإضافة العلم إلى الله إضافة صفة إلى موصوفها.

وفي الحديث: "اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك"، فعلمه صفة قائمة به وقدرته صفة قائمة به.

وفي الحديث: "أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك"، فرضاه وسخطه قائم به، وكذلك عفوه وعقوبته.

وأما أثر ذلك وهو ما يحصل للعبد من النعمة واندفاع النقمة فذلك مخلوق منفصل عنه ليس صفة له.

تنبيه:

وقد يعبر بلفظ المصدر عن المفعول به فيسمى المعلوم علماً والمقدور قدرة والمأمور أمراً والمخلوق بالكلمة كلمة فيكون ذلك مخلوقاً ومن أمثلة ذلك:

قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} والمراد بالأمر هنا المخلوق المكوَّن بالأمر.

ص: 446

وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} .

وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} فإذا قيل المسيح "كلمة الله"فمعناه المخلوق بالكلمة، إذ المسيح نفسه ليس كلاماً.

وكقوله في الحديث الصحيح للجنة: "أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي" كما قال للنار: "أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها".

فالرحمة هنا عين قائمة بنفسها لا يمكن أن تكون صفة لغيرها.

المطلب الثاني: أقوال العلماء في تقرير المسألة

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ما ذكر في القرآن أنه منه أو أضيف إليه، فإن كان عينا قائمة بنفسها، أوأمراً قائماً بتلك العين كان مخلوقا. كقوله في عيسى:{وَرُوحٌ مِنْهُ} وقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} وقوله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} .

وأما ما كان صفة لا تقوم بنفسها، ولم يذكر لها محل غير الله كان صفة له، فكالقول، والعلم، والأمر إذا أريد به المصدر كان المصدر من هذا الباب كقوله تعالى:{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} وإذا أريد به المخلوق المكون بالأمر كان من الأول كقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} .

وبهذا يفرق بين كلام الله سبحانه، وعلم الله، وبين عبد الله وبيت الله وناقة الله وقوله:{فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} .

وهذا أمر معقول في الخطاب، فإذا قلت علم فلان وكلامه ومشيئته لم يكن شيئا بائناً عنه، والسبب في ذلك أن هذه الأمور صفات لما تقوم به، فإذا أضيفت إليه كان ذلك إضافة صفة لموصوف، إذ لو قامت بغيره لكانت صفة لذلك الغير لا لغيره".

ص: 447

وقال رحمه الله: "إضافة الروح إلى الله إضافة ملك لا إضافة وصف، إذ كل ما يضاف إلى الله: إن كان عيناً قائمة بنفسها فهو ملك له، وإن كان صفة قائمة بغيرها ليس لها محل تقوم به فهو صفة لله.

ومن أمثلة القسم الأول:

قوله تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} .

وقوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} وهو جبريل {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً} .

وكقوله تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} .

وقال تعالى عن آدم: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} .

ومن أمثلة القسم الثاني:

كقولنا علم الله، وكلام الله، وقدرة الله، وحياة الله، وأمر الله.

ولكن قد يعبر بلفظ المصدر عن المفعول به فيسمى المعلوم علما، والمقدور قدرة، والمأمور أمراً، والمخلوق بالكلمة كلمة، فيكون ذلك مخلوقا.

كقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} .

وكقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة} .

وكقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} .

وكقوله في الحديث الصحيح للجنة "أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي" كما قال للنار: "أنت عذابي أعذب بك من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها"".

وقال السفاريني: "ومما ينبغي أن يعلم أن المضاف إلى الله سبحانه نوعان:

ص: 448

الأول: صفات لا تقوم بأنفسها كالعلم، والقدرة، والكلام، والسمع، والبصر فهذه إضافة صفة إلى موصوف بها فالعلم والقدرة

الخ صفات له تعالى غير مخلوقة، وكذا وجهه ويده ونحو ذلك من الصفات الخبرية والذاتية وكذا الفعلية من التكوين والمحبة والرضا ونحوها، في مذهب السلف.

الثاني: إضافة أعيان منفصلة كبيت الله، وناقة الله، وعبد الله، ورسول الله، وكذلك روح الله، فهذه إضافة مخلوق إلى خالقه، ومصنوع إلى صانعه لكنها تقتضي تخصيصاً أو تشريفاً يتميز به المضاف إليه عن غيره "كبيت الله"وإن كانت كل البيوت لله ملكاً له، وكذلك "ناقة الله"والنوق كلها ملكه وخلقه، ولكن هذه إضافة إلى إلهيته تقتضي محبته لها وتكريمه وتشريفه، بخلاف الإضافة العامة إلى ربوبيته، حيث تقتضي خلقه وإيجاده.

فالإضافة العامة تقتضي الخلق والإيجاد، والخاصة تقتضي الاختيار {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} ، فإضافة الروح إليه تعالى من هذه الإضافة الخاصة لا من العامة، ولا من باب إضافة الصفات، فتأمل هذا الموضع فإنه نفيس.

وقال ابن القيم رحمه الله:

والله أخبر في الكتاب بأنه منه ومجرور بمن نوعان

عينٌ ووصفٌ قائم بالعين فالأعيـ ان خَلْقُ الخالق الرحمان

والوصف بالمجرور قام لأنه أولى به في عرفِ كل لسان

ونظير ذا أيضاً سواء ما يضاف إليه من صفة ومن أعيان

فإضافة الأوصاف ثابتة لمن قامت به كإرادة الرحمان

وإضافة الأعيان ثابتة له ً مُلْكا وخَلْقاً ما هما سِيَّان

فانظر إلى بيت الإله وعلمه لَمَّا أضيفا كيف يفترقان

وكلامه كحياته وكعلمه في ذي الإضافة إذ هما وصفان

لَكِنَّ ناقته وبيت إلهنا فكعبده أيضاً هما ذاتان

فانظر إلى الجهمي لما فاته الحـ ـق المبين الواضح التبيان

كان الجميع لديه باباً واحداً والصبح لاح لمن له عينان

ص: 449

قال الشيخ الدكتور محمد خليل هراس في شرح هذه الأبيات: "يريد المؤلف في هذا الفصل أن يفرق بين ما كان من الأعيان مخبراً عنه أنه من الله؛ وبين ما كان من الأوصاف كذلك. وأن يفرق أيضاً بين ما كان من الأعيان مضافاً إلى الله، وبين ما كان من الأوصاف كذلك.

فالمخبر عنه بأنه من الله على نوعين لأنه:

إما أن يكون عيناً من الأعيان.

أو وصفاً قائماً بالعين.

فإن كان عيناً فمعنى كونه من الله أنه هو خالقه سبحانه كما في قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} ، وقوله:{قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ، وقوله:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} ، وقوله تعالى عن عيسى عليه السلام:{إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} والآيات كثيرة في هذا الباب.

وإن كان وصفاً فمعنى كونه من الله أنه صفة له كما في قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَق} ، وقوله تعالى:{تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، وقوله تعالى:{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} .

ومعنى قول المؤلف: "والوصف بالمجرور قام"يعني أن ما أخبر عنه بمن إن كان وصفاً فهو قائم بالمجرور بها لأنه أحق به في عرف أهل اللغات جميعاً.

ومثل ذلك تماماً يقال فيما يضاف إلى الله عز وجل.

·4 فإن كان عيناً مثل بيت الله، وناقة الله، وعباد الرحمن، فنسبته إليه ثابتة خلقاً وملكاً، وتكون إضافته للاختصاص والتشريف.

·5 وأما إن كان وصفاً كعلم الله، وقدرته، وإرادته، وكلامه، وحياته، فهذه الإضافة تقتضي قيامها بالله وأنه موصوف بها.

وتدبر هذا الفرق بين قولك بيت الله، وعلم الله، فإن كُلاًّ منهما يضاف إلى الله، ولكن لما كانت إضافة الأول إضافة ذات دلت على أنه مخلوق.

ص: 450

ولما كانت إضافة الثاني إضافة معنى دلت على أنه صفة للمضاف إليه.

ولهذا لما اهتدى السلف لهذا الفرق هُدُوا إلى الصراط المستقيم، ولما ضل عنه الجهمي الزائغ جعل الجميع باباً واحداً، ولم يفرق بين الأوصاف والأعيان، فوقع في الضلال والبهتان".

المطلب الثالث: موقف المخالفين من المسألة

موقف الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم:

ينكر الجهمية والمعتزلة صفات الله عز وجل ولذلك فهم لا يعترفون بالقسم الثاني من أقسام الإضافة إلى الله الذي هو إضافة الصفة إلى الموصوف.

فالمعتزلة يرون امتناع قيام الصفات به، لاعتقادهم أن الصفات أعراض، وأن قيام العرض به يقتضي حدوثه، فردوا جميع ما يضاف إلى الله إلى إضافة خلق، أو إضافة وصف من غير قيام معنى به لأنهم يقولون إنما الصفات مجرد العبارة التي يعبر بها عن الموصوف، وينفون أن يكون لله وصف قائم به علم أو قدرة أو إرادة أو كلام.

موقف الكلابية ومن اتبعهم من الصفاتية:

يفرقون بين الوصف والصفة.

·1 فيجعلون الوصف: هو القول.

·2 ويجعلون الصفة: المعنى القائم بالموصوف.

فقالوا: إن الوصف الذي هو القول يراد به الأفعال، وزعموا أنها لا تقوم به، والصفة: هي الصفات اللازمة القائمة بالذات.

فظنوا أن هناك نوعين مختلفين من الصفات:

أحدهما: قائم بالذات لازم لها، كصفات المعاني السبعة التي هي العلم، والقدرة، والإرادة، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام.

والثاني: صفات أفعال لا تقوم عندهم بالذات، بل هي نسب إضافية عدمية تنشأ من إضافة المفعول لفاعله، ولا يعقل لها وجود إلا بتلك الإضافة، فوجودها أمر سلبي، وليس لها وجود في نفسها، فليس ثمت عندهم موجود إلا المفعولات، وأما الأفعال فنسب وإضافات.

المبحث الثالث: العلاقة بين باب الصفات وباب الأسماء وباب الإخبار.

المطلب الأول: العلاقة بين الأبواب الثلاثة.

أولاً: يجب أن يُعْلَم أن توحيد الأسماء والصفات يشتمل على ثلاثة أبواب:

الباب الأول: باب الأسماء.

ص: 451

الباب الثاني: باب الصفات.

الباب الثالث: باب الإخبار.

فنحن إذا وقفنا وقفةَ تأمل عند نصوص الكتاب والسنة الواردة في هذا الشأن نجد الحقائق التالية:

أن الله أطلق على نفسه أسماء كـ (السَّميع) و (البصير) ، وأوصافاً كـ (السمع) و (البصر)، وهكذا أخبر عن نفسه بأفعالها فقال:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة 1]، وقال تعالى:{وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران 15] . فاستعملها في تصاريفها المتنوعة، مما يدل على أن مثل ذلك يجوز إطلاقه عليه في أي صورة ورد.

وأطلق على نفسه أفعالاً كـ (الصُّنع) و (الصِّبغة) و (الفعل) ونحوها. قال تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء} [النمل 88]، وقال تعالى:{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة 138] وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود 107] ، لكنه لم يَتَسَمَّ ولم يصف نفسه بها ولكن أخبر بها عن نفسه، ممَّا يدل على أنَّها تخالف الأوَّل في الحكم فوجب الوقوف فيها على ما ورد.

ووصف نفسه بأفعال في سياق المدح كـ (يريد) و (يشاء) فقال جلَّ شأنه: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام 125] وقال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير 29] إلا أنه لم يشتق له منها أسماء فدل على أن هذا النوع مخالف للقسمين الأولين، فوجب رده إلى الكتاب والسنة وذلك بالوقوف حيث أوقفنا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

ووصف نفسه بأفعال أخرى على سبيل المقابلة بالعقاب والجزاء فقال تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُم} [النساء 142] وقال تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّه} [الأنفال 30] . ولم يشتق منها أسماء له تعالى فدل ذلك على أن مثل هذه الأفعال لها حكمٌ خاصٌ فوجب الوقوف على ما ورد.

ص: 452

فهذه الحقائق السابقة قررت عند العلماء النتائج التالية:

1ـ أن النصوص جاءت بثلاثة أبواب هي (باب الأسماء) و (باب الصفات) و (باب الإخبار) .

2ـ أن باب الأسماء هو أخص تلك الأبواب، فما صح اسماً صحَّ صفة وصحَّ خبراً وليس العكس.

3ـ باب الصفات أوسع من باب الأسماء، فما صحَّ صفة فليس شرطاً أن يصحَّ اسماً، فقد يصحُّ وقد لا يصح، مع أن الأسماء جميعها مشتقة من صفاته.

4ـ أن ما يدخل في باب الإخبار عنه تعالى أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته، فالله يُخْبَرُ عنه بالاسم وبالصفة وبما ليس باسم ولا صفة كألفاظ (الشييء) و (الموجود) و (القائم بنفسه) و (المعلوم) ، فإنه يخبر بهذه الألفاظ عنه ولا تدخل في أسمائه الحسنى وصفاته العليا.

إن باب الأسماء والصفات توقيفيان.

فالأصل في إثبات الأسماء والصفات أو نفيهما عن الله تعالى هو كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فما ورد إثباته من الأسماء والصفات في القرآن والسنة الصحيحة فيجب إثباته، وما ورد نفيه فيهما فيجب نفيه.

وأما ما لم يرد إثباته ونفيه فلا يصح استعماله في باب الأسماء والصفات إطلاقاً.

قال الإمام أحمد رحمه الله: "لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا نتجاوز القرآن والسنة".

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وطريقة سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم".

أما باب الإخبار فالسلف لهم فيه قولان:

القول الأول: أن باب الإخبار توقيفي، فإن الله لا يُخْبَرُ عنه إلا بما ورد به النص، وهذا يشمل الأسماء والصفات، وما ليس باسم ولا صفة مما ورد به النص كـ (الشييء) و (الصنع) ونحوها.

وأما مالم يرد به النص فإنهم يمنعون استعماله.

ص: 453

القول الثاني: إن باب الإخبار لا يشترط فيه التوقيف، فما يدخل في الإخبار عنه تعالى أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته، كـ (الشيء) و (الموجود) و (القائم بنفسه) ، فإنه يخبر به عنه ولا يدخل في أسمائه الحسنى وصفاته العليا، فالإخبار عنه قد يكون باسم حسن، أو باسم ليس بسيِّئ، أي باسم لا ينافي الحسن، ولا يجب أن يكون حسناً، ولا يجوز أن يخبر عن الله باسم سيِّئ فيخبر عن الله بما لم يرد إثباته ونفيه بشرط أن يستفصل عن مراد المتكلم فيه، فإن أراد به حَقًّا يليق بالله تعالى فهو مقبول، وإن أراد به معنى لا يليق بالله عز وجل وجب رده.

المطلب الثاني: الألفاظ المجملة وحكم دخولها في باب الصفات وموقف أهل السنة من استعمالها.

يمكن تقسيم الألفاظ المجملة -أي التي لم يرد استعمالها في النصوص- على النحو التالي:

أولاً: ألفاظ ورد استعمالها ابتداءً في بعض كلام السلف.

ومن أمثلة ذلك لفظ (الذات) و (بائن) .

وهذه الألفاظ تحمل معاني صحيحة دلت عليها النصوص.

وهذا النوع من الألفاظ يجيز جمهور أهل السنة استعمالها.

وهناك من يمنع ذلك بحجة أن باب الإخبار توقيفي كسائر الأبواب.

والصواب أنه ما دام المعنى المقصود من ذلك اللفظ يوافق ما دلت عليه النصوص، واستعمل اللفظ لتأكيد ذلك فلا مانع.

كقول أهل السنة: "إن الله استوى على العرش بذاته".

فلفظة (بذاته) مراد بها أن الله مستو على العرش حقيقة وأن الاستواء صفة له.

وكقولهم: "إن الله عالٍ على خلقه بائن منهم".

فلفظة (بائن) يراد بها إثبات العلو حقيقة، والرد على زعم من قال إن الله في كل مكان بذاته.

ص: 454

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والمقصود هنا أن الأئمة الكبار كانوا يمنعون من إطلاق الألفاظ المبتدعة المجملة، لما فيها من لبس الحق بالباطل، مع ما تُوقعه من الاشتباه والاختلاف والفتنة، بخلاف الألفاظ المأثورة، والألفاظ التي بينت معانيها، فإن ما كان مأثوراً حصلت به الألفة، وما كان معروفاً حصلت به المعرفة".

وقال أيضاً: "فطريقة السلف والأئمة أنهم يراعون المعاني الصحيحة المعلومة بالشرع والعقل.

ويراعون أيضاً الألفاظ الشرعية، فيعبرون بها ما وجدوا إلى ذلك سبيلا.

ومن تكلم بما فيه معنى باطل يخالف الكتاب والسنة ردوا عليه.

ومن تكلم بلفظ مبتدع يحتمل حقاً وباطلاً نسبوه إلى البدعة، وقالوا إنما قابل البدعة ببدعة ورد باطلاً بباطل".

فيستفاد من كلام شيخ الإسلام المتقدم أن الألفاظ على أربعة أقسام:

القسم الأول: الألفاظ المأثورة وهي التي وردت بها النصوص.

القسم الثاني: الألفاظ المعروفة وهي التي بُيِّنَت معانيها.

القسم الثالث: الألفاظ المبتدعة التي تدل على معنى باطل.

القسم الرابع: الألفاظ المبتدعة التي تحتمل الحق والباطل.

فلفظ (الذات) و (بائن) هي من القسم الثاني.

وهذه الألفاظ كما أسلفنا إنما تستعمل في باب الإخبار ولا تستعمل في باب الأسماء والصفات، ولذلك لما اعترض الخطابي على استعمالها بقوله:"وزعم بعضهم أنه جائز أن يقال له تعالى حد لا كالحدود كما نقول يد لا كالأيدي فيقال له: إنما أُحْوِجْنَا إلى أن نقول يد لا كالأيدي لأن اليد قد جاء ذكرها في القرآن وفي السنة فلزم قبولها ولم يجز رَدُّها. فأين ذكر الحد في الكتاب والسنة حتى نقول حد لا كالحدود، كما نقول يد لا كالأيدي؟! ".

فرد شيخ الإسلام ابن تيمية على قول الخطابي من وجوه منها:

ص: 455

"أن هذا الكلام الذي ذكره إنما يتوجه لو قالوا: إن له صفة هي الحد، كما توهمه هذا الراد عليهم. وهذا لم يقله أحد، ولا يقوله عاقل؛ فإن هذا الكلام لا حقيقة له إذ ليس في الصفات التي يوصف بها شييء من الموصوفات -كما وصف باليد والعلم- صفة معينة يقال لها الحد، وإنما الحد ما يتميز به الشييء عن غيره من صفته وقدره".

فأهل السنة لم يثبتوا بهذه الألفاظ صفة زائدة على ما في الكتاب والسنة، بل بينوا بها ما عطله المبطلون من وجود الرب تعالى ومباينته من خلقه وثبوت حقيقته".

ثانياً: ألفاظ ورد استعمالها في كلام بعض السلف تارة لإثباتها وتارة لنفيها.

ومن أمثلة ذلك: لفظ (الحد) ولفظ (المماسة) ، فإطلاق السلف لها ليس من باب الصفات وإنما هو من باب الإخبار، ولهم في حال الإثبات والنفي توجيه ليس هذا محل بسطه.

ثالثاً: ألفاظ ورد استعمالها في كلام بعض السلف وفي كلام خصومهم.

ومن أمثلة ذلك: لفظة (الجهة) .

رابعاً: ألفاظ ورد استعمالها في كلام الخصوم ولم يرد استعمالها في كلام السلف.

ومن أمثلة ذلك: لفظ (الجسم) و (الحيز) و (واجب الوجود) و (الجوهر) و (العرض) .

وأما النوعان الثالث والرابع فالجواب عن ذلك أن نقول الأصل في هذا الباب أن الألفاظ نوعان:

النوع الأول: نوع مذكور في كتاب الله وسنة رسوله وكلام أهل الإجماع، فهذا يجب اعتبار معناه، وتعليق الحكم به، فإن كان المذكور به مدحاً استحق صاحبه المدح، وإن كان ذماً استحق الذم، وإن أثبت شيئا وجب إثباته، وإن نفى شيئا وجب نفيه، لأن كلام الله حق، وكلام رسوله حق، وكلام أهل الإجماع حق.

وهذا كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص 1-4]، وقوله تعالى:{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِن} [الحشر 22-23] ، ونحو ذلك من أسماء الله وصفاته.

ص: 456

وكذلك قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى 11]، وقوله تعالى:{لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَار} [الأنعام 103]، وقوله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة 22-23] ، وأمثال ذلك مما ذكره الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا كله حق.

النوع الثاني: الألفاظ التي ليس لها أصل في الشرع.

فتلك لا يجوز تعليق المدح والذم والإثبات والنفي على معناها، إلا أن يبين أنه يوافق الشرع، والألفاظ التي تعارض بها النصوص هي من هذا الضرب، كلفظ (الجسم) و (الحيز) و (الجهة) و (الجوهر) و (العرض) . فإن هذه الألفاظ يدخلون في مسماها الذي ينفونه أموراً مما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله، فيدخلون فيها نفي علمه وقدرته وكلامه، ويقولون إن القرآن مخلوق، ولم يتكلم الله به، وينفون رؤيته لأن رؤيته على اصطلاحهم لا تكون إلا لمتحيز في جهة وهو جسم، ثم يقولون: والله منزه عن ذلك فلا تجوز رؤيته. وكذلك يقولون إن المتكلم لا يكون إلا جسماً متحيزاً، والله ليس بجسم متحيز فلا يكون متكلماً، ويقولون: لو كان فوق العرش لكان جسماً متحيزاً، والله ليس بجسم متحيز، فلا يكون متكلماً فوق العرش وأمثال ذلك.

الموقف من هذا النوع:

"إذا كانت هذه الألفاظ مجملة -كما ذُكر- فالمخاطب لهم إما:

1-

أن يفصل لهم ويقول: ما تريدون بهذه الألفاظ؟

فإن فسروها بالمعنى الذي يوافق القرآن قُبلت. وإن فسروها بخلاف ذلك رُدَّت.

2-

وأما أن يمتنع عن موافقتهم في التكلم بهذه الألفاظ نفياً وإثباتاً. ولكن يلاحظ.

أن الإنسان إذا امتنع عن التكلم بها معهم فقد ينسبونه إلى الجهل والانقطاع.

وأن الإنسان إذا تكلم بها معهم نسبوه إلى أنه أطلق تلك الألفاظ التي تحتمل حقاً وباطلاً، وأوهموا الجهال باصطلاحهم أن إطلاق تلك الألفاظ يتناول المعاني الباطلة التي ينزه الله عنها".

ص: 457

ولعل الراجح في المسألة أن الأمر يختلف باختلاف المَصْلَحَةِ.

1-

فإن كان الخصم في مقام دعوة الناس إلى قوله وإلزام الناس بها أمكن أن يقال له: لا يجب على أحد أن يجيب داعياً إلا إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما لم يثبت أن الرسول دعا الخلق إليه لم يكن على الناس إجابة من دعا إليه، ولا له دعوة الناس إلى ذلك، ولو قدر أن ذلك المعنى حق.

وهذه الطريق تكون أصلح إذا لَبَّسَ مُلَبِّسٌ منهم على ولاة الأمور، وأدخلوه في بدعتهم، كما فعلت الجهمية بمن لبسوا عليه من الخلفاء حتى أدخلوه في بدعتهم من القول بخلق القرآن وغير ذلك، فكان من أحسن مناظرتهم أن يقال: إئتونا بكتاب أو سنة حتى نجيبكم إلى ذلك وإلا فلسنا نجيبكم إلى ما لم يدل عليه الكتاب والسنة.

وهذا لأن الناس لا يفصل بينهم النزاع إلا كتاب منزل من السماء، وإذا ردوا إلى عقولهم فلكل واحد منهم عقل، وهؤلاء المختلفون يدعي أحدهم أن العقل أدَّاه إلى علم ضروري ينازعه فيه الآخر، فلهذا لا يجوز أن يجعل الحاكم بين الأمة في موارد النزاع إلا الكتاب والسنة.

وبهذا ناظر الإمام أحمد الجهمية لما دعوه إلى المحنة، وصار يطالبهم بدلالة الكتاب والسنة على قولهم.

فلما ذكروا حججهم كقوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام 102]، وقوله:{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء 2]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:"تجيء البقرة وآل عمران"، وأمثال ذلك من الأحاديث.

أجابهم عن هذه الحجج بما بين به أنها لا تدل على مطلوبهم.

ولما قالوا: ما تقول في القرآن أهو الله أو غير الله؟

عارضهم بالعلم فقال: ما تقولون في العلم أهو الله أو غير الله؟

ولما ناظره أبو عيسى محمد بن عيسى برغوث -وكان من أحذقهم بالكلام- ألزمه التجسيم، وأنه إذا أثبت لله كلاماً غير مخلوق لزم أن يكون جسماً.

ص: 458

فأجابه الإمام أحمد: بأن هذا اللفظ لا يُدرى مقصود المتكلم به، وليس له أصل في الكتاب والسنة والإجماع، فليس لأحد أن يلزم الناس أن ينطقوا به ولا بمدلوله.

وأخبره أني أقول: هو أحد، صمد، لم يلد ولم يلد، ولم يكن له كفواً أحد، فبين أني لا أقول هو جسم ولا ليس بجسم، لأن كلا الأمرين بدعة محدثة في الإسلام، فليست هذه من الحجج الشرعية التي يجب على الناس إجابة من دعا إلى موجبها، فإن الناس إنما عليهم إجابة الرسول فيما دعاهم إليه وإجابة من دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا إجابة من دعاهم إلى قول مبتدع، ومقصود المتكلم بها مجمل لا يُعرف إلا بعد الاستفصال والاستفسار، فلا هي معروفة في الشرع، ولا معروفة بالعقل إن لم يستفسر المتكلم بها.

فهذه المناظرة ونحوها هي التي تصلح إذا كان المناظر داعياً.

2-

وأما إذا كان المناظر معارضاً للشرع بما يذكره، أو ممن لايمكن أن يرد إلى الشريعة.

مثل من لا يلتزم الإسلام ويدعو الناس إلى ما يزعمه من العقليات أو ممن يدَّعي أن الشرع خاطب الجمهور، وأن المعقول الصريح يدل على باطن يخالف الشرع، ونحو ذلك.

أو كان الرجل ممن عرضت له شبهة من كلام هؤلاء.

فهؤلاء لابد في مخاطبتهم من الكلام على المعاني التي يدعونها إما:

1-

بألفاظهم.

2-

وإما بألفاظ يوافقون على أنها تقوم مقام ألفاظهم، وحينئذ يقال لهم الكلام إما:

أ- أن يكون في الألفاظ.

ب- وإما أن يكون في المعاني.

جـ- وإما أن يكون فيهما.

فإن كان الكلام في المعاني المجردة من غير تقييد بلفظ كما تسلكه المتفلسفة ونحوهم ممن لا يتقيد في أسماء الله وصفاته بالشرائع بل يسميه علة وعاشقاً ومعشوقاً ونحو ذلك.

فهؤلاء إن أمكن نقل معانيهم إلى العبارة الشرعية كان حسناً.

ص: 459

وإن لم يمكن مخاطبتهم إلا بلغتهم، فبيان ضلالهم ودفع صيالهم عن الإسلام بلغتهم أولى من الإمساك عن ذلك لأجل مجرد اللفظ. كما لو جاء جيش كفار ولا يمكن دفع شرهم عن المسلمين إلا بلبس ثيابهم، فدفعهم بلبس ثيابهم خير من ترك الكفار يجولون في خلال الديار خوفاً من التشبه بهم في الثياب.

وأما إذا كان الكلام مع من قد يتقيد بالشريعة.

فإنه يقال له: إطلاق هذه الألفاظ نفياً وإثباتاً بدعة، وفي كل منها تلبيس وإيهام، فلابد من الاستفسار والاستفصال؛ أو الامتناع عن إطلاق كلا الأمرين في النفي والإثبات.

وقد ظن طائفة من الناس أن ذم السلف والأئمة للكلام إنما لمجرد ما فيه من الاصطلاحات المحدثة كلفظ (الجوهر) و (الجسم) و (العرض)، وقالوا: إن مثل هذا لا يقتضي الذم، كما لو أحدث الناس آنية يحتاجون إليها، أو سلاحاً يحتاجون إليه لمقاتلة العدو، وقد ذكر هذا صاحب الإحياء وغيره.

وليس الأمر كذلك: بل ذمهم للكلام لفساد معناه أعظم من ذمهم لحدوث الألفاظ، فذموه لاشتماله على معان باطلة مخالفة للكتاب والسنة، ومخالفته للعقل الصريح، ولكن علامة بطلانها مخالفتها للكتاب والسنة، وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل قطعاً. ثم من الناس من يعلم بطلانه بعقله، ومنهم من لا يعلم ذلك.

وأيضاً: فإن المناظرة بالألفاظ المحدثة المجملة المبتدعة المحتملة للحق والباطل إذا أثبتها أحد المتناظرين ونفاها الآخر كان كلاهما مخطئاً، وأكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء، وفي ذلك من فساد العقل والدين ما لا يعلمه إلا الله.

فإذا رد الناس ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة فالمعاني الصحيحة ثابتة فيهما، والمحق يمكنه بيان ما يقوله من الحق بالكتاب والسنة.

الفصل الثاني: أقسام الصفات

وفيه مبحثان:

المبحث الأول: أقسام الصفات عند أهل السنة والجماعة.

تنوعت تقسيمات أهل السنة للصفات وذلك بحسب الاعتبارات التي يرجع لها كل تقسيم، ومن تلك التقسيمات مايلي:

ص: 460

المطلب الأول: أقسام الصفات عموماً.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الصفات نوعان:

أحدهما: صفات نقص؛ فهذه يجب تنزيه الله عنها مطلقاً؛ كالموت، والعجز، والجهل.

والثاني: صفات كمال؛ فهذه يمتنع أن يماثله فيها شييء".

وتنقسم الصفات باعتبار ورودها في النصوص إلى قسمين:

1-

صفات ثبوتية 2- صفات سلبية (أي منفية)

القسم الأول: الصفات الثبوتية

وتعريفها: هي ما أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.

والصفات الثبوتية كثيرة جداً منها: العلم - والحياة - والعزة - والقدرة - والحكمة - والكبرياء - والقوة - والاستواء - والنزول - والمجيء، وغيرها.

والصفات الثبوتية صفات مدح وكمال، فكلما كثرت وتنوعت دلالتها ظهر من كمال الموصوف بها ما هو أكثر ولهذا كانت الصفات الثبوتية التي أخبر الله بها عن نفسه أكثر بكثير من الصفات السلبية.

إضافة إلى أن معرفة الله الأصل فيها صفات الإثبات والسلب تابع ومقصوده تكميل الإثبات، بل كل تنزيه مدح به الرب ففيه إثبات.

القسم الثاني: الصفات السلبية

وتعريفها: هي ما نفاه الله سبحانه عن نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.

والصفات المنفية كلها صفات نقص في حقه.

ومن أمثلتها: النوم - الموت - الجهل - النسيان - العجز - التعب - الظلم.

فيجب نفيها عن الله عز وجل مع إثبات أن الله موصوف بكمال ضدها.

وتجدر الإشارة هنا إلى الأمور التالية:

الأمر الأول: أن معرفة الله ليست بمعرفة صفات السلب، بل الأصل فيها صفات الإثبات، والسلب تابع ومقصوده تكميل الإثبات.

"فإن السلب لا يراد لذاته، وإنما يقصد لما يتضمنه من إثبات الكمال، فكل ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات النقص فإنه متضمن للمدح والثناء على الله بضد ذلك النقص من الأوصاف الحميدة والأفعال الرشيدة".

الأمر الثاني: أن صفات التنزيه يجمعها معنيان:

ص: 461

الأول: نفي النقائص عنه، وذلك من لوازم إثبات صفات الكمال.

الثاني: إثبات أنه ليس كمثله شييء في صفات الكمال الثابتة له.

الأمر الثالث: الصفات السلبية تذكر غالباً في الأحوال التالية:

الأولى: بيان عموم كماله:

كما في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .

وقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} .

والثانية: نفي ما ادعاه في حقه الكاذبون

كما في قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} .

والثالثة: دفع توهم نقص من كماله فيما يتعلق بهذا الأمر المعين

كما في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} ".

الأمر الرابع: أن الصفات السلبية إنما تكون كمالاً إذا تضمنت أموراً وجودية.

فلا يوصف الرب من الأمور السلبية إلا بما يتضمن أموراً وجودية، وإلا فالعدم المحض لا كمال فيه.

فينبغي أن يعلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال إلا إذا تضمن إثباتاً، وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال.

والعدم المحض ليس بشييء، وما ليس بشييء فهو كما قيل ليس بشييء فضلا عن أن يكون مدحاً وكمالاً.

لأن النفي المحض يوصف به المعدوم والممتنع؛ والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال.

ولهذا كان عامة ما يصف الله به نفسه من النفي متضمناً لإثبات مدح.

كقوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} فنفي السنة والنوم يتضمن كمال الحياة والقيام.

ص: 462

وكذلك قوله: {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} أي لا يكرثه ولا يثقله، وذلك مستلزم لكمال قدرته وتمامها؛ بخلاف المخلوق القادر إذا كان يقدر على الشييء بنوع كلفة ومشقة، فإن هذا نقص في قدرته وعيب في قوته.

وكذلك قوله: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْض} فإن نفي العزوب مستلزم لعلمه بكل ذرة في السموات والأرض.

وكذلك قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} فإن نفي مس اللغوب -الذي هو التعب والإعياء- دل على كمال قدرته ونهاية القوة بخلاف المخلوق الذي يلحقه من التعب والكلال ما يلحقه.

وكذلك قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} إنما نفى الإدراك الذي هو الإحاطة كما قاله أكثر العلماء، ولم ينف مجرد الرؤية، لأن المعدوم لا يرى، وليس في كونه لا يرى مدح، إذ لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحاً، وإنما المدح في كونه لا يحاط به وإن رؤي، كما أنه لا يحاط به وإن علم، فكما أنه إذا علم لا يحاط به علماً، فكذلك إذا رؤي لا يحاط به رؤية، فكان في نفي الإدراك من إثبات عظمته ما يكون مدحاً وصفة كمال، وكان ذلك دليلاً على إثبات الرؤية مع عدم الإحاطة وهذا هو الحق الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها.

وإذا تأملت ذلك وجدت كل نفي لا يستلزم ثبوتاً هو مما لم يصف به نفسه".

ثم إن النفي المجرد مع كونه لا مدح فيه، فيه إساءة أدب مع الله سبحانه، فإنك لو قلت لسلطان: أنت لست بزبال ولا كسَّاح ولا حجام ولا حائك لأدبك على هذا الوصف وإن كنت صادقاً.

وإنما تكون مادحاً إذا أجملت النفي فقلت: أنت لست مثل أحد من رعيتك، أنت أعلى منهم وأشرف وأجل، فإن أجملت في النفي أجملت في الأدب.

ص: 463

فأهل الكلام المذموم يأتون بالنفي المفصل والإثبات المجمل فيقولون: ليس بجسم ولا شبح ولا جثة ولا صورة ولا لحم ولا دم ولا شخص ولا جوهر ولا عرض إلى آخر تلك السلوب الكثيرة التي تمجها الأسماع وتأنف من ذكرها النفوس والتي تتنافى مع تقدير الله تعالى حق قدره.

الأمر الخامس: أن الرسل عليهم صلوات الله جاءوا بإثبات مفصل ونفي مجمل.

والمعطلة ناقضوهم فجاءوا بنفي مفصل وإثبات مجمل.

فإن الرسل أخبرت كما أخبر الله في كتابه الذي بعث به رسوله أنه بكل شييء عليم، وعلى كل شييء قدير، وأنه حكيم عزيز، غفور ودود، وأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش، وأنه كلم موسى تكليماً، وتجلى للجبل فجعله دكاً، وأنه أنزل على عبده الكتاب، إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته.

وقال في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} ، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} .

وهؤلاء الملاحدة جاءوا بنفي مفصل وإثبات مجمل، فقالوا في النفي: ليس بكذا ولا كذا، فلا يقرب من شييء ولا يقرب منه شييء، ولا يُرى في الدنيا ولا في الآخرة، ولا له كلام يقوم به، ولا له حياة، ولا علم، ولا قدرة، ولا غير ذلك، ولا يشار إليه ولا يتعين، ولا هو مباين للعالم ولا حال فيه، ولا داخله، ولا خارجه، إلى أمثال العبارات السلبية التي لا تنطبق إلا على المعدوم.

ثم قالوا في الإثبات هو وجود مطلق، أو وجود مقيد بالأمور السلبية.

وبذلك عكسوا منهج القرآن والسنة، فأكثروا من وصف الله تعالى بالأمور السلبية التي لم يرد بها النص، وأفرطوا في ذلك إفراطاً عجيباً، بينما أنكر بعضهم جميع الصفات الثبوتية، والبعض الآخر لم يثبت سوى القليل منها.

الأمر السادس: للتفريق بين الصفات السلبية التي ورد بها النص والصفات السلبية التي أحدثها المعطلة النفاة نقول: إن الصفات السلبية التي ورد بها النص متضمنة لثبوت كمال الضد كما تقدم شرح ذلك.

ص: 464

وأما الصفات السلبية التي هي من نسج المعطلة واختراعهم فلا تتضمن ثبوت كمال الضد.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "كل تنزيه مدح فيه الرب ففيه إثبات، فلهذا كان قول ((سبحان الله)) متضمناً تنزيه الرب وتعظيمه، ففيها تنزيهه من العيوب والنقائص، وفيها تعظيمه سبحانه وتعالى".

فالذين لا يصفونه إلا بالسلوب لم يثبتوا في الحقيقة إلهاً محموداً، بل ولا موجوداً.

وكذلك من شاركهم في بعض ذلك، كالذين قالوا لا يتكلم، ولا يُرى، أو ليس فوق العالم، أو لم يستو على العرش، ويقولون: ليس بداخل العالم ولا خارجه ولا مباين للعالم ولا مجانب له.

إذ هذه الصفات يمكن أن يوصف بها المعدوم، وليس هي صفة مستلزمة صفة ثبوت.

فقولهم إنه لا يتكلم، أو لا ينزل، ليس في ذلك صفة مدح، بل هذه الصفات فيها تشبيه له بالمنقوصات أو المعدومات.

الأمر السابع: إن سلب النقائص والعيوب عن الله نوعان:

النوع الأول: سلب لمتصل

"وضابطه: نفي كل ما يناقض صفة من صفات الكمال التي وصف الله بها نفسه أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، كنفي الموت المنافي للحياة، والعجز المنافي للقدرة، والسنة والنوم المنافي لكمال القيومية، والظلم المنافي للعدل، والإكراه المنافي للاختيار، والذل المنافي للعزة

"الخ.

النوع الثاني: سلب لمنفصل

وضابطه: تنزيه الله سبحانه عن أن يشاركه أحد من خلقه في شييء من خصائصه التي لا تنبغي إلا له.

وذلك كنفي الشريك له في ربوبيته، فإنه منفرد بتمام الملك والقوة والتدبير.

وكنفي الشريك له في أُلوهيته، فهو وحده الذي يجب أن يؤلهه الخلق ويفردوه بكل أنواع العبادة والتعظيم.

وكنفي الشريك له في أسمائه الحسنى وصفاته العليا فليس لغيره من المخلوقين شركة معه سبحانه في شييء منها.

ص: 465

وكذلك نفي الظهير الذي يظاهره أو يعاونه في خلق شييء أو تدبيره، لكمال قدرته وسعة علمه ونفوذ مشيئته، وغيره من المخلوقين عاجز فقير لا حول له ولا قوة إلا بالله، فالشريك والظهير منفيان عنه بإطلاق.

وكذلك ينفى عنه سبحانه اتخاذ الصاحبة والولد الذي نسبه إليه النصارى عابدو الصلبان، والصابئة الذين يقولون إن الملائكة بنات الله.

قال تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلّ} ،.

المطلب الثاني: أقسام الصفات الثبوتية

أـ تنقسم الصفات الثبوتية من جهة تعلقها بالله إلى قسمين:

القسم الأول: الصفات الذاتية.

القسم الثاني: الصفات الفعلية.

وكلا النوعين يجتمعان في أنهما صفات له تعالى أزلاً وأبداً، لم يزل متصفاً بهما ماضياً ومستقبلاً لائقان بجلال رب العالمين.

أما القسم الأول: الصفات الذاتية

فضابطها: هي التي لا تنفك عن الذات.

أو: التي لم يزل ولا يزال الله متصفاً بها.

أو: الملازمة لذات الله تعالى. .

ومنها: الوجه - اليدين - العينين - الأصابع - القَدَم - العلم - الحياة - القدرة - العزة - الحكمة.

القسم الثاني: الصفات الفعلية.

وضابطها: هي التي تنفك عن الذات.

أو: التي تتعلق بالمشيئة والقدرة.

ومنها: الاستواء - المجيء - الإتيان - النزول - الخلق - الرزق - الإحسان - العدل.

فالفرق بين القسمين:

أن الصفات الذاتية لا تنفك عن الذات، أما الصفات الفعلية يمكن أن تنفك عن الذات على معنى أن الله إذا شاء لم يفعلها.

ولكن مع ذلك فإن كلا النوعين يجتمعان في أنهما صفات لله تعالى أزلاً وأبداً لم يزل ولا يزال متصفاً بهما ماضياً ومستقبلاً لائقان بجلال الله عز وجل.

وتنقسم الصفات الفعلية من جهة تعلقها بمتعلقها إلى قسمين:

- متعدية: وهي ما تعدت لمفعولها بلا حرف جرّ مثل: خلق، ورزق، وهدى، وأضل، ونحوها.

ص: 466

- لازمة: وهي ما تتعدى لمفعولها بحرف جر كالإستواء والمجيء والإتيان والنزول ونحوها.

وإنما قسمت كذلك نظراً للإستعمال القرآني من جهة ولكونها في اللغة كذلك، قال ابن القيم:"فأفعاله نوعان: لازمة، ومتعدية كما دلت النصوص التي هي أكثر من أن تحصر على النوعين"، وقال رحمه الله:"المجيء والإتيان والذهاب والهبوط هذه من أنواع الفعل اللازم القائم به، كما أن الخلق، والرزق، والإماتة، والإحياء، والقبض، والبسط أنواع الفعل المتعدي وهو سبحانه موصوف بالنوعين وقد يجمعهما كقوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش} "،.

مواقف الطوائف من الصفات الذاتية والفعلية:

1-

موقف أهل السنة والجماعة

أثبت أهل السنة جميع الصفات الذاتية منها والفعلية، وأثبتوا أن الله متصف بذلك أزلاً، وأن الصفات الناشئة عن الأفعال موصوف بها في القدم، وإن كانت المفعولات محدثة.

2-

موقف المعتزلة ومن وافقهم

أثبتوا الذات مجردة عن الصفات، وزعموا أن الله لا يقوم به صفة ولا أمر يتعلق بمشيئته واختياره وهو قولهم: لا تحله الأعراض ولا الحوادث.

وبذلك نفوا قيام الصفات الذاتية والفعلية بالله تعالى، وجعلوا إضافة الصفات إلى الله تعالى إما من باب إضافة الملك والتشريف أو من إضافة وصف (أي القول) من غير قيام معنى به.

3.

موقف المتأخرين من الأشاعرة ومعهم الماتريدية:

نفوا جميع الصفات ما عدا الصفات السبع وهي: (العلم ـ الحياة ـ القدرة ـ الإرادة ـ السمع ـ البصر ـ الكلام) . وزاد الباقلاني وإمام الحرمين من الأشاعرة صفة ثامنة هي: (الإدراك) . وزاد الماتريدية صفة (التكوين) .

4.

موقف الكلابية ومن وافقهم من قدماء الأشاعرة وغيرهم:

يثبتون الصفات الذاتية وينفون الأفعال الاختيارية، ولم يثبتوا لله أفعالاً تقوم به تتعلق بمشيئته وقدرته، بل ولا غير الأفعال مما يتعلق بمشيئته وقدرته كالمحبة.

5.

موقف الكرامية ومن وافقهم:

ص: 467

يثبتون الصفات بما فيها أن الله تقوم به الأمور التي تتعلق بمشيئته وقدرته، ولكن ذلك عندهم حادث بعد أن لم يكن، وأنه يصير موصوفاً بما يحدث بقدرته ومشيئته بعد أن لم يكن كذلك، وقالوا: لا يجوز أن تتعاقب عليه الحوادث. ففرقوا في الحوادث بين تجددها ولزومها، فقالوا بنفي لزومها دون حدوثها.

ب - ويمكن تقسيم الصفات الثبوتية كذلك إلى قسمين:

·1 القسم الأول: الصفات اللازمة

وتعريفها: هي الصفات اللازمة للموصوف لا تفارقه إلا بعدم ذاته. أو بعبارة أخرى: هي الصفات التي لا تنفك عن الذات وتنقسم إلى قسمين:

الصفات الذاتية: وهي التي لا يمكن تصور الذات مع تصور عدمها.

ومنها: الوجه - اليد - الأصبع - العين - القدم.

الصفات المعنوية: وهي ما يمكن تصور الذات مع تصور عدمها.

ومنها: الحياة - العلم - القدرة - العزة - العظمة - الكبرياء - الملك - الحكمة - السمع - البصر.

·1 القسم الثاني: الصفات العارضة أو الصفات الاختيارية

وتعريفها: هي الصفات التي يمكن مفارقتها له مع بقاء الذات.

أو: الصفات التي تنفك عن الذات.

أو: الصفات التي تتعلق بالمشيئة والقدرة.

وهي إما من باب الأفعال: كالاستواء، والاتيان، والمجيء، والنزول.

وإما من باب الأقوال والكلمات: التكليم والنداء، والمناجاة، والقول.

وإما من باب الأحوال: كالفرح، والغضب، والرضا، والضحك.

فكل ما كان بعد عدمه فإنما يكون بمشيئة الله وقدرته، وهذا ضابط ما يدخل في الصفات الاختيارية.

الصفات الاختيارية:

وضابطها: هي الأمور التي يتصف بها الرب عز وجل، فتقوم بذاته بمشيئته وقدرته.

والصفات الاختيارية أعم من الصفات الفعلية، لأنها تشمل بعض الصفات الذاتية التي لها تعلق بالمشيئة، مثل: الكلام، السمع، البصر، الإرادة، المحبة، الرضا، الرحمة، الغضب، السخط.

كما أنها -أي الصفات الاختيارية- تشمل الصفات الفعلية غير الذاتية.

مثل: الخلق، الإحسان، العدل، وهذه فعلية متعدية.

ص: 468

ومثل: الاستواء، المجيء، الإتيان، النزول، وهذه فعلية لازمة.

فالكلام (صفةُ ذاتٍ وفعلٍ) فهو سبحانه يتكلم بمشيئته وقدرته كلاماً قائماً بذاته.

وكل ما كان بعد عدمه، فإنما يكون بمشيئة الله وقدرته، وما تعلق بالمشيئة مما يتصف به الرب فهو من الصفات الاختيارية، والصفات الصادرة عن الأفعال موصوف بها في القدم، ولم تتغير ذاته من أفعاله، ولم يكتسب عن أفعاله صفات كمال، فهو سبحانه لم يزل كريماً خالقاً.

ومن معتقد أهل السنة والجماعة إثبات قيام جميع هذه الصفات بالذات، خلافاً لقول الكلابية والأشاعرة والماتريدية.

فهذا نوع من تقسيمات الصفات يفصل بين عقيدة أهل السنة من جهة وعقيدة الصفاتية من أهل الكلام وهم (الكلابية، والأشاعرة، والماتريدية) من جهة أخرى.

فالكلابية وقدماء الأشاعرة يثبتون الصفات ما عدا صفات الأفعال الاختيارية فإنهم ينفون كونها صفات قائمة بالله.

والمتأخرون من الأشاعرة والماتريدية ينفون الصفات الذاتية والاختيارية ويثبتون سبعاً من الصفات المعنوية هي (العلم - الحياة - القدرة - الإرادة - السمع - البصر - الكلام) .

ثالثاً: تنقسم الصفات من حيث أدلة ثبوتها إلى قسمين:

القسم الأول: الصفات الشرعية العقلية

وضابطها: هي التي يشترك في إثباتها الدليل الشرعي السمعي والدليل العقلي، والفطرة السليمة.

وهي أكثر صفات الرب تعالى، بل أغلب الصفات الثبوتية يشترك فيها الدليلان السمعي والعقلي وإن كان الأصل في ثبوتها الدليل الشرعي.

ومنها: العلم، السمع، البصر، العلو، القدرة، الإرادة، الخلق، الحياة.

وسميت "شرعية عقلية"

شرعية: لأن الشرع دل عليها أو أرشد إليها.

وعقلية: لأنها تعلم صحتها بالعقل ولا يقال إنها لم تعلم إلا بمجرد الخبر.

ص: 469

فإذا أخبر الله بالشييء، ودل عليه بالدلالات العقلية صار مدلولا عليه بخبره، ومدلولا عليه بدليل العقل الذي يعلم به، فيصير ثابتاً بالسمع والعقل، وكلاهما داخل في دلالة القرآن التي تسمى الدلالة الشرعية.

القسم الثاني: الصفات الخبرية وتسمى النقلية والسمعية

وضابطها: هي التي لا سبيل إلى إثباتها إلا بطريق السمع والخبر عن الله أو عن رسوله الأمين عليه الصلاة والتسليم.

ومنها: الوجه - اليد - العين - الرضا - الفرح - الغضب - القَدَم - الاستواء - النزول - المجيء - الضحك.

وهي تنقسم إلى قسمين:

1-

صفات ذاتية مثل: الوجه - اليد - العين - القَدَم.

2-

صفات فعلية مثل: النزول - الاستواء - الغضب - الفرح - الضحك.

المبحث الثاني: أقسام الصفات عند المخالفين

المطلب الأول: أقسام الصفات عند من ينكر جميع الصفات الثبوتية:

وهم الفلاسفة بشتى أصنافهم، والجهمية، والمعتزلة ومن وافقهم كالزيدية، والرافضة الإمامية، والنجارية، والضرارية، والإباضية، وابن حزم، وهؤلاء ليس عندهم تقسيم للصفات الثبوتية، لأنهم لا يثبتونها أصلاً فضلاً عن كونهم يقسمونها.

أما في جانب النفي ـ عند من يقول به منهم فإن ابن سينا وهو من الفلاسفة الإسماعيلية الباطنية يجعل الصفات إما سلبية محضة وإما إضافية محضة وإما مؤلفة من سلب وإضافة والسلوب والإضافات لا توجب كثرة في الذات.

1-

صفات سلبية محضة:

وهذا النوع إذا وصف به واجب الوجود ـ على حد تعبيرهم ـ، أفاد أن المقصود به نفس وجوده مع سلب ما يؤدي إليه عنه، وهو ما يستلزمه مفهوم واجب الوجود.

فإذا قيل جوهر: لم يعن به إلا هذا الوجود الواجب مع سلب الكون في موضع عنه.

وإذا قيل واحد: لم يعن به إلا الوجود الواجب وسلب الشريك عنه أو سلب الكثرة من كل وجه.

وإذا قيل قديم: لم يعن به إلا هذا الوجود الواجب مع سلب العدم عنه أولاً.

وإذا قيل باق: لم يعن به إلا هذا الوجود الواجب مع سلب العدم عنه آخراً.

2-

صفات إضافية محضة:

ص: 470

وضابطها: هي الأمور المتضايفة التي لا يعقل الواحد منها إلا بتعقل مقابله.

ومن أمثلتها: كونه أولاً مبدأ، خالقاً، قديراً، مريداً، صانعاً، مبدعاً، حكيماً، جواداً، كريماً.

"مثلاً صفة كونه (أولاً) : هي نفس وجود واجب الوجود لكن مع الوجود إضافة إذا نسب الله تعالى إلى الموجودات غيره، أي لم يعن إلا إضافة هذا الوجود الواجب إلى الكل.

وكونه تعالى (مبدأ) : إضافة له إلى معلوماته بمعنى إشارة إلى وجوده وإلى أن وجود غيره إنما هو منه.

وصفة كونه (خالقاً) : هي نفس وجود الله تعالى مع إضافة لأن علة الإيجاد هي علم واجب الوجود أو تعقله للنظام الفائض منه على مقتضى علمه".

3-

صفات مركبة من سلب وإضافة:

وهذا النوع من الصفات إذا وصف به واجب الوجود أفاد أن ذلك له على وجه السلب وعلى وجه النسبة والإضافة أيضا، وهو ما يستتبعه الاعتقاد بأنه خالق ومدبر للكون.

فإذا قيل واجب الوجود: أي موجود لا علة له وهذا سلب، وهو علة لغيره وهذه إضافة فالسلب والإضافة مجتمعان معاً.

وإذا قيل خالق: فهم منه أن وجوده شريف يفيض عنه وجود الكل فيضاً لازماً، وأن وجود غيره حاصل منه بالتبع.

وإذا قيل عالم: فهم أنه لا يعلم ذاته ما لم يعلم أنه مبدأ للكل.

وإذا قيل جواد: فهم أنه لا ينحو غرضا لذاته وهذا سلب، وأنه يفيض الجود على غيره لأنه مبدأ لكل جود.

ص: 471

قال الشهرستاني: "قالت الفلاسفة: واجب الوجود بذاته لن يتصور إلا واحداً من كل وجه فلا صفة ولا حال ولا اعتبار ولا حيث ولا وجه لذات واجب الوجود بحيث يكون أحد الوجهين والاعتبارين غير الآخر بذاته، أو يدل لفظ على شييء هو غير الآخر بذاته ولا يجوز أن يكون نوع واجب الوجود لغير ذاته لأن وجود نوعه له لعينه ولا يشاركه شييء ما صفة أو موصوفاً في واجب الوجود والأزلية ولا ينقسم هو ولا يتكثر لا بالكم ولا بالمباديء المقومة ولا بأجزاء الحقيقة والحد. ثم له صفات سلبية: مثل تقدسه عن الكثرة من كل وجه، فيسمى لذلك واحداً حقاً أحداً صمداً.

ومثل تنزهه عن المادة وتجرده عن طبيعة الإمكان والعدم، ويسمى ذلك عقلاً وواجباً.

وله صفات إضافية: مثل كونه صانعاً مبدعاً حكيماً قديراً جواداً كريماً

وصفات مركبة من سلب وإضافة: مثل (كونه مريداً) : أي هو مع عقليته ووجوبه بذاته مبدأ لنظام الخير كله من غير كراهية لما يصدر عنه؛ (وجواداً) أي هو بهذه الصفة وزيادة سلب أي لا ينحو غرضاً لذاته وأولاً: أي هو مسلوب عنه الحدوث مع إضافة وجود الكل إليه.

وصفاته عندهم إما سلبية محضة، وإما إضافية محضة، وإما مؤلفة من سلب وإضافة، والسلوب والإضافات لاتوجب كثرة في الذات".

المطلب الثاني: أقسام الصفات عند من يثبت بعض الصفات وينكر بعضها.

وهم الكلابية والأشاعرة والماتريدية، ويسمون الصفاتية

وهم في تقسيم الصفات على قسمين:

1 ـ الكلابية وقدماء الأشاعرة

وهؤلاء يتفقون مع أهل السنة في تقسيم الصفات عموماً إلى قسمين:

القسم الأول: الصفات الذاتية.

القسم الثاني: الصفات الفعلية.

وكذا في تقسيمها من حيث أدلة إثباتها حيث يقسمونها إلى قسمين:

القسم الأول: الصفات العقلية.

القسم الثاني: الصفات السمعية.

لكنهم يختلفون مع أهل السنة فيما يثبتونه وطريقة إثباتهم.

2 ـ الأشاعرة المتأخرون والماتريدية

ص: 472

المعروف عن متأخري الأشاعرة والماتريدية من أهل الكلام تقسيمهم الصفات إلى أربعة أقسام:

1-

صفات المعاني. 2- الصفات المعنوية.

3-

الصفات السلبية. 4- الصفة النفسية.

القسم الأول: صفات المعاني.

وضابطها في اصطلاحهم هي: ما دل على معنى وجودي قائم بالذات ولم يقر هؤلاء إلا بسبع منها هي، الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام. ونفوا ما عداها من صفات المعاني كالرأفة والرحمة والحلم.

وهي القدر الذي عند هؤلاء من الإثبات، أما الأقسام الثلاثة الباقية ليس فيها إثبات على الحقيقة.

القسم الثاني: الصفات المعنوية

وضابطها: هي الأحكام الثابتة للموصوف بها معللة بعلل قائمة بالموصوف وهي كونه (حياً، عليماً، قديراً، مريداً، سميعاً، بصيراً، متكلماً) وهذا العد لا وجه له لأنه في الحقيقة تكرار لصفات المعاني المتقدم ذكرها.

ثم إن من عدها من هؤلاء عدوها بناءً على ما يسمونه الحالة المعنوية التي يزعمون أنها واسطة ثبوتية لا معدومة ولا موجودة.

والتحقيق أن هذا خرافة وخيال. وأن العقل الصحيح لا يجعل بين الشييء ونقيضه واسطة البتة فكل ما ليس بموجود فهو معدوم قطعاً، وكل ما ليس بمعدوم فهو موجود قطعاً ولا واسطة البتة كما هو معروف عند العقلاء.

القسم الثالث: الصفات السلبية:

وضابطها عندهم: ما دل على سلب ما لا يليق بالله عن الله من غير أن يدل على معنى وجودي قائم بالذات.

والذين قالوا هذا جعلوا الصفات السلبية خمساً لا سادس لها وهي عندهم: القِدَمُ، البقاء، والمخالفة للحوادث، والوحدانية، والغنى المطلق الذي يسمونه القيام بالنفس الذي يعنون به الاستغناء عن المخصص والمحل.

وعلى ضابطهم الذي ذكروه فإن هذه الخمس لا تتضمن معنى وجودياً. وإنما تتضمن أمراً سلبياً فعلى سبيل المثال:

القدم: المقصود بها نفي الحدوث.

والبقاء: المقصود بها نفي الفناء.

والوحدانية: المقصود بها نفي النظير المساوي له.

ص: 473

والقيام بالنفس: عدم افتقاره للمحل وعدم افتقاره للمخصص: أي الموجد.

القسم الرابع: الصفة النفسية

وضابطها هي: كل صفة إثبات لنفس لازمة ما بقيت النفس غير معللة بعلل قائمة بالموصوف.

وهي عندهم صفة واحدة هي: الوجود. وهي عندهم لا تدل على شيء زائد على الذات.

يقول شارح جوهرة التوحيد: "واعلم أن الوجود صفة نفسية وإنما نسبت للنفس أي الذات، لأنها لا تتعقل إلا بها فلا تتعقل نفس إلا بوجودها، والمراد بالصفة النفسية: صفة ثبوتية يدل الوصف بها على نفس الذات دون معنى زائد عليها.

فقولنا: "صفة"كالجنس.

وقولنا: "ثبوتية"يخرج السلبية كالقدم والبقاء.

وقولنا: "يدل الوصف بها على نفس الذات"معناه أنها لا تدل على شييء زائد على الذات.

وقولنا: "دون معنى زائد عليها"تفسير مراد لقولنا (على نفس الذات) ويخرج بذلك المعاني لأنها لا تدل على معنى زائد على الذات، وكذلك (المعنوية) فإنها تستلزم المعاني فهي تدل على معنى زائد على الذات لاستلزامها المعاني".

وبهذا يعلم أنه ليس عند هؤلاء من الإثبات إلا الصفات السبع التي يسمونها صفات المعاني وهي، الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام وما عداها من الصفات الثبوتية لا يثبتونها ولهم في نصوصها أحد طريقين إما التأويل أو التفويض وفي هذا يقول قائلهم:

وكل نص أوهم التشبيها أَوِّلْهُ أو فَوِّضْ ورم تنزيها

فنصوص الصفات التي وردت في إثبات ما عدا الصفات السبع التي يثبتونها، يسمونها نصوصاً موهمة للتشبيه، فهم يصرفونها عن ظاهرها، ولكنهم تارة يعينون المراد كقولهم استوى: استولى، واليد: بمعنى النعمة والقدرة؛ وتارة يفوضون فلا يحددون المعنى المراد ويكلون علم ذلك إلى الله عز وجل. ولكنهم يتفقون على نفي الصفة لأن ناظمهم يقول: "ورم تنزيهاً"وشارح الجوهرة يقول: "أو فوض"أي بعد التأويل الإجمالي الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره، فبعد هذا التأويل فوض المراد من النص الموهم إليه تعالى.

ص: 474

فهم بذلك متفقون على نفي تلك الصفات، ويخيرون في تحديد المعنى المراد أو السكوت عن ذلك.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأبو المعالي وأتباعه نفوا هذه الصفات -أي الصفات الخبرية- موافقة للمعتزلة والجهمية. ثم لهم قولان:

أحدهما: تأويل نصوصها، وهو أول قولي أبي المعالي، كما ذكره في الإرشاد.

والثاني: تفويض معانيها إلى الرب، وهو آخر قولي أبي المعالي كما ذكره في "الرسالة النظامية"وذكر ما يدل على أن السلف كانوا مجمعين على أن التأويل ليس بسائغ ولا واجب.

ثم هؤلاء منهم من ينفيها ويقول: إن العقل الصريح نفى هذه الصفات. ومنهم من يقف ويقول: ليس لنا دليل سمعي ولا عقلي، لا على إثباتها ولا على نفيها، وهي طريقة الرازي والآمدي".

وقال العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في كتابه أضواء البيان: "اعلم أن المتكلمين قسموا صفاته جلا وعلا إلى ستة أقسام:

1ـ صفة نفسية.

2ـ صفة سلبية.

3ـ صفة معنى.

4ـ صفة معنوية.

5ـ صفة فعلية.

6ـ صفة جامعة مثل العلو والعظمة مثلاً.

والصفة الإضافية هي تتداخل مع الفعلية.

لأن كل صفة فعلية من مادة متعدية إلى المفعول كالخلق والإحياء والإماتة فهي صفة إضافية، وليست كل صفة إضافية فعلية، فبينهما عموم وخصوص من وجه، يجتمعان في نحو الخلق والإحياء والإماتة.

وتتفرد الفعلية في نحو الإستواء وتتفرد الإضافية في نحو كونه تعالى موجود قبل كل شييء، وأنه فوق كل شييء، لأن القَبْلِيَّةَ والفوقيَّةَ من الصفات الإضافية وليستا من صفات الأفعال".

الخاتمة

بعد هذا العرض لتعريف الصفات وبيان أقسامها والمسائل المتعلقة بذلك، أعرض أهم النتائج التي توصلت إليها من خلال هذا البحث، فأقول:

أولاً: إن ضابط الصفات الإلهية عند أهل السنة هو: ما قام بالذات الإلهية ووردت به نصوص القرآن والسنة.

فأهل السنة يثبتون قيام الصفات بالذات سواء الذاتية منها أو الفعلية.

ص: 475

ثانياً: يشترط لثبوت الصفات ورود النص من القرآن أو السنة بذلك، فباب الصفات توقيفي.

ولدلالة الكتاب والسنة على ثبوت الصفات ثلاثة أوجه:

1ـ التصريح بالصفة.

2ـ تضمن الاسم للصفة.

3ـ التصريح بفعل أو وصف دال عليها.

ثالثاً: أن كل واحد من لفظ (الوصف) أو (الصفة) لا فرق بينهما عند أهل السنة، وأنهما قد يراد بهما الكلام الذي يوصف به الموصوف أو المعاني التي يدل عليها الكلام.

بخلاف قول الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم الذين جعلوا الصفات مجرد القول الذي يعبر به عن الموصوف من غير قيام معنى.

وبخلاف الصفاتية الذين يجعلون الوصف: هو القول، والصفة: هو المعنى القائم بالموصوف، فيفرقون بين الوصف والصفة.

رابعاً: المضافات إلى الله على نوعين هما:

1ـ إضافة الملك.

2ـ إضافة صفة.

وصفات الله عز وجل من إضافة الصفة إلى الموصوف، فتكون قائمة به سبحانه. بخلاف قول الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم الذين لا يعترفون بالقسم الثاني من أقسام الإضافة إلى الله، فردوا جميع ما يضاف إلى الله من الصفات إلى إضافة الخلق أو إضافة وصف من غير قيام معنى به.

وبخلاف قول الصفاتية من الكلابية ومن وافقهم الذين ينكرون قيام صفات الأفعال بالذات ويجعلون إضافتها إلى الله على أنها نسب إضافية عدمية.

خامساً: يشتمل توحيد الأسماء والصفات على ثلاثة أبواب:

1ـ باب الأسماء.

2ـ باب الصفات.

3ـ باب الأخبار.

وباب الأسماء هو أخص تلك الأبواب، وباب الصفات أوسع من باب الأسماء، وباب الإخبار أوسع منهما.

سادساً: أن الألفاظ التي لم ترد بها النصوص لا تدخل في باب الصفات وإنما هي داخلة في باب الإخبار، ولأهل السنة ضوابط في ذلك تقدم تفصيلها.

سابعاً: تنقسم الصفات عموماً إلى قسمين:

1ـ صفات نقص.

2ـ صفات كمال.

والله عز وجل موصوف بالكمال ومنزه عن صفات النقص.

ثامناً: تنقسم الصفات باعتبار ورودها في النصوص إلى قسمين:

1ـ الصفات الثبوتية.

2ـ الصفات السلبية.

ص: 476

والأصل في هذا الباب صفات الإثبات وأما الصفات المنفية فهي تابعة للصفات الثبوتية ومكملة لها.

تاسعاً: تنقسم الصفات السلبية إلى قسمين:

القسم الأول: سلب متصل.

القسم الثاني: سلب منفصل.

عاشراً: تنقسم الصفات الثبوتية من جهة تعلقها بالله إلى قسمين:

القسم الأول: الصفات الذاتية.

القسم الثاني: الصفات الفعلية.

وكل من النوعين يجتمعان في أنهما صفات الله تعالى أزلاً وأبداً، لم يزل ولا يزال متصفاً بها ماضياً ومستقبلاً.

الحادي عشر: تنقسم الصفات الثبوتية كذلك إلى قسمين:

القسم الأول: الصفات اللازمة وهي على نوعين:

1ـ ذاتية.

2ـ معنوية.

القسم الثاني: الصفات العارضة.

الثاني عشر: الصفات الاختيارية أعم من الفعلية، فكل صفة فعلية فهي اختيارية وليس العكس.

الثالث عشر: تنقسم الصفات الثبوتية باعتبار أدلتها إلى قسمين:

القسم الأول: صفات شرعية عقلية، وهي ما اشترك في إثباتها الدليل العقلي مع الدليل الشرعي.

القسم الثاني: الصفات الخبرية

وهي ما اقتصر في إثباتها على الدليل الشرعي فقط.

الرابع عشر: ينكر الغلاة من المعطلة الصفات الثبوتية ومن أقر منهم بالصفات السلبية قسمها إلى ثلاثة أقسام:

1ـ صفات سلبية محضة.

2ـ صفات إضافية محضة.

3ـ صفات مركبة من سلب وإضافة.

الخامس عشر: يتفق الكلابية وقدماء الأشاعرة مع أهل السنة في طريقة تقسيمهم للصفات، ولكن يخالفونهم في القدر المثبت.

السادس عشر: يقسم الأشاعرة المتأخرون والماتريدية الصفات إلى أربعة أقسام هي:

1ـ صفات المعاني.

2ـ الصفات المعنوية.

3ـ الصفات السلبية.

4ـ الصفات النفسية.

وليس عندهم من الإثبات إلا صفات المعاني السبع وهي العلم والحياة والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام.

وفي الختام، فهذا جهدي أقدمه للقراء فما كان فيه من صواب فمن فضل الله عز وجل، وما كان فيه من خطأ فمني واستغفر الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ص: 477

فهرس المصادر والمراجع

1.

أضواء البيان -محمد الأمين الشنقيطي- الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية، الرياض، 1403هـ

2.

بدائع الفوائد -محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية- دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.

3.

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (نقض تأسيس الجهمية) -شيخ الإسلام ابن تيمية أحمد بن عبد الحليم- مطبعة الحكومة، مكة المكرمة، المملكة العربية السعودية، ط1، 1391هـ.

4.

تحفة المريد بشرح جوهرة التوحيد -إبراهيم اللقاني- دار الكتب العلمية، بيروت لبنان.

5.

التحفة المهدية شرح الرسالة التدمرية -فالح بن مهدي آل مهدي- ط: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.

6.

التعريفات -علي بن محمد الجرجاني- دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، ط 1، 1403هـ.

7.

التنبيهات السنية على العقيدة الواسطية -زيد بن عبد العزيز ابن فياض.

8.

تهذيب التهذيب -أحمد بن علي بن حجر العسقلاني- مجلس دائرة المعارف النظامية، الهند، ط1، 1325هـ

9.

التوضيح والبيان لشجرة الإيمان -عبد الرحمن بن سعدي- ط المشهد الحسيني، القاهرة مصر.

10.

الجامع الصحيح -محمد بن إسماعيل البخاري- طبعة دار السلام، الرياض، المملكة العربية السعودية.

11.

درء تعارض العقل والنقل -أحمد بن عبد الحليم بن تيمية- تحقيق د/ محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض، المملكة العرببة السعودية.

12.

الرد على المنطقيين -شيخ الإسلام ابن تيمية- إدارة ترجمان السنة، لاهور، باكستان.

13.

الرسالة التدمرية -شيخ الإسلام ابن تيمية- تحقيق محمد السعوي، ط: 1، 1405هـ.

14.

رسالة العقل والروح -شيخ الإسلام ابن تيمية- (مطبوعة ضمن الرسائل المنبرية) .

15.

الروح -ابن قيم الجوزية- تحقيق بسام العموش، دار ابن تيمية، ط1.

16.

شرح حديث النزول -ابن تيمية- تحقيق: د/ محمد الخميس، دار العاصمة، الرياض.

17.

شرح العقيدة الأصفهانية -شيخ الإسلام ابن تيمية- دار الكتب الإسلامية، مصر.

ص: 478

18.

شرح العقيدة الطحاوية -ابن أبي العز الحنفي- تحقيق جماعة من العلماء، تخريج محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان، ط6، 1400هـ.

19.

شرح القصيدة النونية لابن القيم -محمد خليل هراس- دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1406.

20.

صحيح مسلم بشرح النووي -مسلم بن الحجاج القشيري- دار الفكر، بيروت، لبنان، ط2، 1399هـ.

21.

الصفات الإلهية في الكتاب والسنة -محمد أمان الجامي- المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، ط 1، 1408هـ.

22.

الصفدية -شيخ الإسلام ابن تيمية- تحقيق محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض، المملكة العرببة السعودية.

23.

علاقة صفات الله تعالى بالذات -راجح الكردي- دار العدوي، عمان، الأردن.

24.

فتح الباري -ابن حجر العسقلاني- دار الفكر، بيروت، لبنان.

25.

الفتوى الحموية الكبرى -شيخ الإسلام ابن تيمية- المكتبة السلفية، القاهرة، مصر، ط3، 1398هـ.

26.

القواعد المثلى -محمد بن صالح العثيمين- مكتبة الكوثر.

27.

الكواشف الجلية عن معاني الواسطية -عبد العزيز المحمد السلمان- ط 18، 1413هـ.

28.

لوامع الأنوار البهية -محمد بن أحمد الفارييني- مطبعة المدني.

29.

مجموع الفتاوى -شيخ الإسلام ابن تيمية- جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، دار العربية، بيروت، لبنان.

30.

مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لابن قيم الجوزية -محمد ابن الموصلي- دار الفكر.

31.

معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله الحسنى -د/ محمد ابن خليفة التميمي- دار إيلاف الدولية، الكويت، ط1، 1417هـ.

32.

منهاج السنة -شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية- تحقيق محمد رشاد سالم، طبع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، المملكة العربية السعودية.

33.

منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات - محمد الأمين الشنقيطي- طبعة الجامعة الإسلامية.

ص: 479

34.

المواقف في علم الكلام -عضد الدين الإيجي- عالم الكتب، بيروت، لبنان.

ص: 480

تفسير أسماء الله الحسنى

للشيخ عبد الرحمن السعدي

جمعا ودراسة

إعدادك

د. عبيد بن علي العبيد

الأستاذ المساعد في كلية القرآن الكريم في الجامعة الإسلامية

المقدمة

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) .

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (2) .

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (3)(4) .

أما بعد:

فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النّار.

(1) آل عمران (102) .

(2)

النساء (1) .

(3)

الأحزاب (70،71) .

(4)

هذه خطبة الحاجة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمها أصحابه، وأخرج الحديث أبو داود في سننه (2/591) كتاب النكاح باب خطبة النكاح، والنسائي (6/89) كتاب النكاح باب مايستحب من الكلام عند النكاح، وابن ماجه في سننه (1/609) كتاب النكاح باب في خطبة النكاح، والترمذي وحسنه (3/404) كتاب النكاح باب ماجاء في خطبة النكاح، وقد توسع الألباني في تخريج الحديث في رسالته خطبة الحاجة.

ص: 481

اعلم - وفقني الله وإياك - أنّ الله أمر المؤمنين بالإيمان به في غير موضع في كتابه، فقال سبحانه وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} (1) .

وإنّ من أهم مايتضمنّه الإيمان بالله تعالى -الذي هو أول أركان الإيمان- التعرف عليه سبحانه بأسمائه وصفاته معرفة تثمر الخشية والعمل بآثارها على منهاج أهل السنة والجماعة.

وإن مما يبين أهمّيّة موضوع أسماء الله الحسنى أموراً كثيرة منها:

1-

إنّ العلم بالله، وأسمائه، وصفاته أشرف العلوم، وأجلها على الإطلاق لأنّ شرف العلم بشرف المعلوم، والمعلوم في هذا العلم هو الله سبحانه، وتعالى بأسمائه، وصفاته وأفعاله، فالاشتغال بفهم هذا العلم اشتغال بأعلى المطالب، وحصوله للعبد من أشرف المواهب.

2-

إن معرفة الله تعالى تدعو إلى محبته، وخشيته، وخوفه، ورجائه، ومراقبته، وإخلاص العمل له، وهذا هو عين سعادة العبد، ولا سبيل إلى معرفة الله إلا بمعرفة أسمائه الحسنى، والتفقه في معانيها.

3-

إن معرفة الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسني مما يزيد الإيمان كما قال الشيّخ ابن سعدي رحمه الله: "أنّ الإيمان بأسماء الله الحسنى، ومعرفتها يتضمّن أنواع التوحيد الثلاثة، توحيد الربوبيّة، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء، والصفات، وهذه الأنواع هي رَوح الإيمان وروحه، وأصله وغايته فكلّما ازداد العبد معرفة بأسماء الله، وصفاته ازداد إيمانه، وقوي يقينه.

أهم أسباب اختيار الموضوع:

1-

عظم أمر الإيمان بأسماء الله الحسنى إذ إن معرفتها هو أصل الإيمان، والإيمان يرجع إليها. وذلك لشرف متعلقها، وعظمته، ووجوب معرفته تعالى كما وصف نفسه ووصفه نبيه صلى الله عليه وسلم كما سبق.

2-

ندرة الكتابة في هذا الموضوع على منهج سلف الأمة.

(1) النساء (136) .

ص: 482

3-

لما يتّسم به شرح الأسماء الحسنى للسّعديّ من شمول، ودقة في الفهم على منهج سلف الأمة، مع غوص في بيان المعاني الإيمانيّة للأسماء الحسنى، وبيان آثار الإيمان بها، قلّ أن تجده عند غيره رحمه الله تعالى.

4-

من خلال مطالعتي لتفسير السعدي رحمه الله، وجدته عقد فصلاً في شرح الأسماء الحسنى بعد تفسيره لسورة النحل.

ووجدت في نفسي رغبة في إخراجه، وطباعته مستقلاً عن التفسير لتعمّ الفائدة ويسهل حصوله لمريده، حيث إن موضعه في التفسير ليس مظنّة لقاصده، وبعد العزم، والتصميم على ذلك، استشرت بعض المشايخ، والزملاء، فوجدت منهم استحساناً للأمر، وأشاروا عليَّ بأن أزيد على هذا الفصل كل ما يتعلق بشرح الأسماء الحسنى من كتب الشيخ عبد الرحمن السّعديّ رحمه الله وجمعها، وترتيبها، وإخراجها.

وكان ممن له أثر كبير في ذلك الأخ الدكتور/ عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد وفقه الله تعالى، حيث أتحفني بفهرس لمواطن الأسماء الحسنى من كتب ابن سعدي رحمه الله تعالى فجزاه الله خير الجزاء.

ولهذه الأسباب وغيرها رغبت في إخراج هذا المجموع، والله الهادي لسواء السبيل.

خطة البحث:

وتشتمل على مقدمة وقسمين:

المقدمة: وذكرت فيها:

1-

أهمية الموضوع.

2-

أسباب اختيار الموضوع.

3-

خطة البحث.

4-

منهجي في البحث.

القسم الأول: الدراسة وتشتمل على أربعة مباحث:

المبحث الأول: ترجمة موجزة للشيّخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله.

المبحث الثاني: منهج الشيخ ابن السعدي - رحمه الله تعالى - في الأسماء الحسنى.

المبحث الثالث: أسماء الله تعالى توقيفية.

المبحث الرابع: حديث لله تسعة وتسعون اسما والكلام عليه.

القسم الثاني: عرض شرح أسماء الله الحسنى للسعدي جمعاً ودراسة.

منهجي في البحث:

أولاً: جمع المادة العلمية من كتب الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله وهى من الكتب الآتية:

1-

تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان.

ص: 483

2-

تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن، وقد أشرت إليه في العزو باسم الخلاصة.

3-

توضيح الكافية الشافية.

4-

الحق الواضح المبين في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين من الكافية الشافية.

5-

المواهب الربانية من الآيات القرآنية.

6-

بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار.

7-

مجموع الفوائد واقتناص الأوابد.

ثانياً: النظر فيما قاله عن كل اسم من أسماء الله الحسنى، وتأليفه، وترتيبه، وحذف ما تكرر منه.

ثالثاً: ترتيب الأسماء الحسنى حسب حروف الهجاء مع ترقيمها ترقيماً تسلسلياً ثم عرض ما قاله الشيخ عن الاسم وجعله بين علامتي تنصيص.

رابعاً: الاستدلال للاسم الذي لم يستدل له الشيخ من الكتاب أو السنة إن وجد، وأجعله في الحاشية.

خامساً: أعلق على ما يحتاج إلى تعليق.

سادساً: عزو الآيات إلى سورها وأرقامها.

سابعاً: تخريج الأحاديث.

ثامناً: جعلت في خاتمة البحث ملخّصاً يبيّن أهم النتائج التي توصلت إليها من خلال البحث.

تاسعاً: وضع الفهارس اللازمة للبحث.

هذا وإن الحمد لله تعالى على التمام، وله الشكر على كل حال أحمده سبحانه أن يسر لي إخراج هذا المجموع عسى الله أن ينفع به جامعه، وقارئه، وكل من سمعه.

كما أسأله سبحانه أن يكون هذا العمل متقبلاً عنده وسائر أعمالي إنه سميع مجيب.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

القسم الأول: الدراسة وتشتمل على:

المبحث الأول

ترجمة موجزة عن الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله

أولاً: اسمه ونسبه:

هو الشيخ العلامة أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن ناصر بن حمد آل سعدي، من بني تميم.

ثانياً: مولده:

ولد في عنيزة في القصيم في الثاني عشر من محرم سنة ألف وثلاثمائة وسبع من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم.

ثالثاً: نشأته:

ص: 484

نشأ الشيخ يتيماً فقد توفيت أمه وله أربع سنين، وتوفى والده وله سبع سنين، ولكنه نشأ نشأة صالحة وقد أثار الإعجاب فقد اشتهر منذ حداثته بفطنته، وذكائه، ورغبته الشديدة في طلب العلم وتحصيله، فحفظ القرآن عن ظهر قلب وعمره أحد عشر سنة ثم اشتغل بالعلم على يد علماء بلده فاجتهد في طلب العلم وجَدّ فيه وسهر الليالي وواصل الأيام حتى نال الحظ الأوفر من كل فن من فنون العلم ولما بلغ من العمر ثلاثاً وعشرين سنة جلس للتدريس فكان يَتَعلم ويُعلِّم.

رابعاً: نبذة من أخلاقه:

كان على جانب كبير من الأخلاق الفاضلة، متواضعاً للصغير، والكبير، والغني، والفقير، وكان يقضي بعض وقته بالاجتماع بمن يرغب حضوره فيكون مجلسهم مجلساً علمياً حيث إنه يحرص على أن يحتوي على البحوث العلمية، والاجتماعية، ويحصل لأهل المجلس فوائد عظمى من هذه البحوث، وكان يتكلم مع كل فرد بما يناسبه، وكان ذا شفقة على الفقراء، والمساكين، والغرباء مادًّا يد المساعدة لهم بحسب قدرته، ويستعطف لهم المحسنين ممن يُعْرف عنهم حب الخير في المناسبات.

وكان على جانب كبير من الأدب، والعفّة، والنّزاهة، والحزم في كل أعماله، وكان من أحسن الناس تعليماً، وأبلغهم تفهيماً.

خامساً: مكانته العلميّة:

كان رحمه الله ذا معرفة فائقة في الفقه وأصوله، وكان أول أمره متمسكاً بالمذهب الحنبليّ تبعاً لمشايخه، وحفظ بعض المتون من ذلك.

ص: 485

وكان أعظم اشتغاله وانتفاعه بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وحصل له خير كثير بسببهما في علم الأصول والتوحيد، والتفسير، ولغته، وغيرها من العلوم النافعة. وبسبب استنارته بكتب الشيخين المذكورين صار لا يتقيد بالمذهب الحنبلي، بل يرجح ما تَرَجّح عنده بالدليل الشرعي، ولا يطعن في علماء المذاهب. وله مكانة مرموقة في علم التفسير إذ قرأ عدة تفاسير وبرع فيه وألف تفسيراً جليلاً، في ثمان مجلدات، فسره بالبديهية من غير أن يكون عنده وقت لتصنيف كتاب تفسير ولا غيره.

دائماً يقرأ تلاميذه في القرآن الكريم ويفسره ارتجالاً، ويستطرد، ويبين من معاني القرآن، وفوائده، ويستنبط منه الفوائد البديعة والمعاني الجليلة، حتى أن سامعه يودّ أن لا يسكت، لفصاحته، وجزالة لفظه، وتوسعه في سياق الأدلة، والقصص، ومن اجتمع به وقرأ عليه وبحث معه عرف مكانته العلمية، وكذلك من قرأ مصنفاته وفتاويه.

سادساً: مصنفاته:

كان رحمه الله تعالى ذا عناية بالغة بالتأليف فشارك في كثير من فنون العلم فألّف في التوحيد، والتفسير، والفقه، والحديث، والأصول، والآداب، وغيرها، وأغلب مؤلفاته مطبوعة إلا اليسير منها، وإليك سرد لهذه المؤلفات:

1-

الأدلة والقواطع والبراهين في إبطال أصول الملحدين.

2-

الإرشاد إلى معرفة الأحكام.

3-

انتصار الحق.

4-

بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخيار.

5-

التعليق وكشف النقاب على نظم قواعد الإعراب.

6-

توضيح الكافية الشافية.

7-

التوضيح والبيان لشجرة الإيمان.

8-

التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة.

9-

تنزيه الدين وحملته ورجاله مما افتراه القصيمي في أغلاله.

10-

تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان.

11-

تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن.

12-

الجمع بين الإنصاف ونظم ابن عبد القوي.

ص: 486

13-

الجهاد في سبيل الله، أو واجب المسلمين وما فرضه الله عليهم في كتابه نحو دينهم وهيئتهم الاجتماعية.

14-

الحق الواضح المبين في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين من الكافية الشافية.

15-

حكم شرب الدخان.

16-

الخطب المنبرية على المناسبات.

17-

الدرة البهية شرح القصيدة التائية في حل المشكلة القدرية.

18-

الدرة المختصرة في معان دين الإسلام.

19-

الدلائل القرآنية في أن العلوم النافعة العصرية داخلة في الدين الإسلامي.

20-

الدين الصحيح يحل جميع المشاكل.

21-

رسالة في القواعد الفقهية.

22-

رسالة لطيفة جامعة في أصول الفقه المهمة.

23-

الرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة في العقائد والفنون المتنوعة الفاخرة.

24-

سؤال وجواب في أهم المهمات.

25-

طريق الوصول إلى العلم المأمول بمعرفة القواعد والضوابط والأصول.

26-

الفتاوى السعدية.

27-

فتح الرب الحميد في أصول العقائد والتوحيد.

28-

فوائد مستنبطة من قصة يوسف.

29-

الفواكه الشهية في الخطب المنبرية.

30-

القواعد الحسان لتفسير القرآن.

31-

القواعد والأصول الجامعة والفروق والتقاسيم البديعة النافعة.

32-

القول السديد في مقاصد التوحيد.

33-

مجموع الخطب في المواضيع النافعة.

34-

مجموع الفوائد واقتناص الأوابد.

35-

المختارات الجلية من المسائل الفقهية.

36-

المواهب الربانية من الآيات القرآنية.

37-

منهج السالكين وتوضيح الفقه في الدين.

38-

المناظرات الفقهية.

39-

منظومة في أحكام الفقه.

40-

منظومة في السير إلى الله والدار الآخرة.

41-

وجوب التعاون بين المسلمين وموضوع الجهاد الديني وبيان كليات من براهين الدين.

42-

الوسائل المفيدة للحياة السعيدة.

43-

يأجوج ومأجوج. طبع دار لينا، مصر، دمنهور، الطبعة الأولى 1418هـ.

ص: 487

سابعاً: وبعد عمر دام تسعاً وستين سنة قضاها في التعلم والتعليم والتأليف وخدمة الأمة الإسلامية وافاه الأجل المحتوم فتوفى سنة 1376هـ في مدينة عنيزة من بلاد القصيم رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.

منهج الشيخ ابن السعدي رحمه الله في الأسماء الحسنى

من خلال مطالعتي، وجمعي للأسماء الحسنى للسعدي رحمه الله تبين لي من منهجه ما يأتي:

أولاً: بالنسبة لمنهجه في الأسماء الحسنى فإن السعدي رحمه الله لم يتقيّد بمن سبقه ممن ألف في الأسماء الحسنى. لأنني وجدت بعض الأسماء التي أوردها لا توجد في هذه الكتب فأحياناً يزيد عليها، وأحياناً ينقص عنها في بعض الأسماء.

كما أنه لم يعتمد على حديث أبي هريرة في سرد الأسماء الحسنى فمثلاً أورد اسم الله تعالى «الستار» وهذا الاسم لم يرد في حديث أبي هريرة ولا في أي رواية من رواياته الواردة، والله أعلم.

فقد يكون رحمه الله اعتمد على ما ظهر له أنها أسماء الله تعالى من نصوص الكتاب، والسنة، والله أعلم.

ثانياً: من الأمور الذي تميز بها هذا المجموع ما ظهر لي من منهج الشيخ - رحمه الله تعالى - من العناية، والاهتمام بقواعد الأسماء، والصفات كما يتبين ذلك من خلال إيراده لهذه القواعد في هذا المجموع ومن ذلك:

القاعدة الأولى: أسماء الله كلها حسنى.

القاعدة الثانية: الإيمان بأسماء الله، وصفاته، وأحكام الصفات.

القاعدة الثالثة: دلالة الأسماء على الذات، والصفات تكون بالمطابقة، والتضمن، والالتزام.

القاعدة الرابعة: من أسماء الله ما يرد مفرداً، ومنها ما يرد مقروناً مع غيره لأن الكمال الحقيقي من اجتماعهما.

ثالثاً: من منهج الشيخ رحمه الله أنه أدخل في الأسماء الحسنى الأسماء المضافة مثل «بديع السموات والأرض» و «ذو الجلال والإكرام» و «الفعال لما يريد» وغيرها.

ص: 488

وكذلك ما أخذ بطريق الإشتقاق ولم أقف على نص ينص على تسميته لله مثل «الستار» و «الهادي» و «الرشيد» وغيرها. وقد بينت في الدراسة ما ترجّح لي في الأسماء المضافة، والاشتقاق.

رابعاً: اتسم منهج الشّيخ - رحمه الله تعالى - لشرحه أسماء الله الحسنى ببيان المعنى الظاهر للاسم مع الغوص في بيان المعاني الإيمانية للأسماء الحسنى، وبيان آثار الإيمان بها.

وهذه السمة مما ميّزت شرحه على كثير من شروح الأسماء الحسنى مع إغفاله للأوجه اللغوية للاسم، وهذا ظاهر في أغلب الأسماء التي شرحها رحمه الله تعالى.

المبحث الثالث: أسماء الله تعالى توقيفية

مذهب جمهور أهل السنة والجماعة أن أسماء الله تعالى توقيفية، فلا يجوز تسميته سبحانه بما لم يرد به السمع.

وذلك أن أسماء الله تعالى من الأمور الغيبية التي لا يمكن لنا معرفة شيء منها إلا عن طريق الرسل الذين يطلعهم الله على ما يشاء من الغيب ثم هم يبلغونه للناس فلا يجوز القياس فيها أو الإجتهاد لأن هذا الباب ليس من أبواب الاجتهاد.

قال أبو إسحاق الزجاج: "لا ينبغي لأحد أن يدعو الله بما لم يصف به نفسه".

وقال أبو إسحاق القشيري: "الأسماء تؤخذ توقيفياً من الكتاب، والسنة، والإجماع، فكل اسم ورد فيهما وجب اطلاقه في وصفه، وما لم يرد لا يجوز ولو صح معناه".

وقال أبو سليمان الخطابي: "ومن علم هذا الباب؛ أعني الأسماء، والصفات، ومما يدخل في أحكامه، ويتعلق به من شرائط أنه لا يتجاوز فيها التوقيف، ولا يستعمل فيها القياس، فيلحق بالشيء نظيره في ظاهر، وضع اللغة، ومتعارف الكلام، فالجواد: لا يجوز أن يقاس عليه السخي، وإن كانا متقاربين في ظاهر الكلام، وذلك أن السخي لم يرد به التوقيف كما ورد بالجواد، ثم إن السخاوة موضوعة في باب الرخاوة واللين، يقال: أرض سخية وسخاوية إذا كان فيها لين ورخاوة، وكذلك لا يقاس عليه السمح لما يدخل السماحة من معنى اللين، والسهولة.

ص: 489

وأما الجود فإنما هو سعة العطاء من قولك جاد السحاب إذا أمطر فأغزر، وفرس جواد إذا بذل ما في وسعه من الجري.

وقد جاء في الأسماء القوى، ولا يقاس عليه الجلد، وإن كان يتقاربان في نعوت الأدميين لأن باب التجلد يدخله التكلف، والإجتهاد.

ولا يقاس على القادر المطيق، ولا المستطيع لأن الطاقة، والاستطاعة إنما تطلقان على معنى قوة البنية، وتركيب الخلقة.

وفي أسمائه العليم، ومن صفته العلم فلا يجوز قياساً عليه أن يسمى عارفاً لما تقتضيه المعرفة من تقديم الأسباب التي بها يتوصل إلى علم الشيء وكذلك لا يوصف بالعاقل.

وهذا الباب يجب أن يراعى، ولا يغفل فإن عائدته عظيمة، والجهل به ضار، وبالله التوفيق. اهـ.

وقال السفاريني في نظمه للعقيدة:

لكنها في الحق توقيفية

لنا بذا أدلة وفية

ثم شرح البيت فقال:

لكنها: أي الأسماء الحسنى، في القول الحق المعتمد عند أهل الحق توقيفية بنص الشرع، وورود السمع بها.

ومما يجب أن يُعلم أنّ علماء السنة اتفقوا على جواز إطلاق الأسماء الحسنى، والصفات العلى على الباري جل وعلا إذا ورد بها الإذن من الشارع، وعلى امتناعه على ما ورد المنع عنه. اهـ.

فالحق أن: أسماء الله تعالى توقيفية؛ لأنها من الأمور الغيبية التي لا تُعلم إلا بما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.

فلا مجال للقياس، وإعمال العقل فيها إثباتاً أو نفياً لأن العقل لا يمكنه إدراك ما يستحقه الله من الأسماء لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا نحصى ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك"(1) .

فإذا تبين أنّ أسماء الله تعالى توقيفية فلا يجوز أن يشتق من الفعل أو من الصفة اسماً لله تعالى.

فباب الأفعال أوسع من باب الأسماء.

(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1/352) كتاب الصلاة باب مايقال في الركوع والسجود.

ص: 490

وما ورد مقيداً أو مضافاً من الأسماء في القرآن أو السنة فلا يكون اسماً بهذا الورد مثل اسم (المنتقم) فلم يرد إلا مقيداً في قوله تعالى: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} (1) .

وما ورد مضافاً مثل: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} (2) .

فلا يؤخذ هذا الاسم من هذا الورود المضاف لكن يؤخذ من آيات أُخر.

وإذا ورد في الكتاب، والسنة اسم فاعل يدل على نوع من الأفعال ليس بعام شامل فهذا لا يكون من الأسماء الحسنى لأن الأسماء الحسنى معانيها كاملة الحسن تدل على الذات، ولا تدل على معنى خاص مثل مجرى السحاب، هازم الأحزاب، الزارع، الذاري.

المبحث الرابع: حديث "لله تسعة وتسعون اسماً"

أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لله تسعة وتسعون اسماً مائة إلا واحدة لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر"

وفي رواية: "من أحصاها دخل الجنة" وهذا الحديث متفق على صحته.

وقد وردت روايات أخرى للحديث بطرق أخرى مختلفة تزيد على الحديث السابق بذكر أسماء من أسماء الله تعالى، والحديث ورد بثلاث طرق عند الترمذي وابن ماجه والحاكم (3) ، وهذه الطرق ضعفت من جهة الإسناد، ومن جهة المتن كما بينه جمع من العلماء، والمحققين، وإليك أقوالهم.

قال البيهقي رحمه الله في حديثه عن رواية عبد العزيز بن الحصين: يحتمل أن يكون التفسير وقع من بعض الرواة، وكذلك في حديث الوليد ابن مسلم.

(1) السجدة (22) .

(2)

الرعد (9) .

(3)

وقد جمع هذه الطرق وبين أقوال أهل العلم عليها وحكم عليها الشيخ/ محمد بن حمد الحمود في كتابه النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى (1/50) وكذلك الشيخ/ عبد الله بن صالح الغصن في كتابه أسماء الله الحسنى (ص 155) .

ص: 491

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "قد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أن هاتين الروايتين - يعني روايتي الترمذي من طريق الوليد وابن ماجه من طريق عبد الملك بن محمد - ليستا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإنما كل منهما من كلام بعض السلف".

وقال أيضاً: أن التسعة والتسعين اسماً لم يرد في تعيينها حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأشهر ما عند الناس فيها حديث الترمذي الذي رواه الوليد بن مسلم عن شعيب بن أبي حمزة، وحفاظ أهل الحديث يقولون: هذه الزيادة مما جمعه الوليد بن مسلم عن شيوخه من أهل الحديث وفيها حديث ثان أضعف من هذا، رواه ابن ماجه، وقد روى في عددها غير هذين النوعين من جمع بعض السلف.

وقال ابن كثير رحمه الله: "الذي عول عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء في هذا الحديث - أي حديث الوليد عند الترمذي - مدرج فيه وإنما ذلك كما رواه الوليد بن سلم، وعبد الملك بن محمد الصنعاني عن زهير بن محمد أنه بلغه عن غير واحد من أهل العلم أنهم قالوا ذلك أي أنهم جمعوها من القرآن

".

وقال ابن حجر رحمه الله: "والتحقيق إنّ سردها إدراج من الرواة".

ونقل ابن حجر عن ابن عطية رحمهما الله قوله: "حديث الترمذي ليس بالمتواتر وبعض الأسماء التي فيه شذوذ" والله أعلم.

ص: 492

تابع لتفسير أسماء الله الحسنى

القسم الثاني: عرض شرح أسماء الله الحسنى للسعدي

جمعاً ودراسة

1-

الإله:

قال رحمه الله تعالى:

"والإله هو الجامع لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال، فقد دخل في هذا الاسم جميع الأسماء الحسنى، ولهذا كان القول الصحيح إن الله أصله الإله وأن اسم الله هو الجامع لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلى والله أعلم".

2-

الله:

قال رحمه الله تعالى: "الله: هو المألوه المعبود، ذو الألوهية، والعبودية على خلقه أجمعين، لما اتصف به من صفات الألوهية التي هى صفات الكمال، وأخبر أنه الله الذي له جميع معاني الألوهية وأنه هو المألوه المستحق لمعاني الألوهية كلها، التي توجب أن يكون المعبود وحده المحمود وحده المشكور وحده المعظم المقدس ذو الجلال والإكرام.

واسم الله هو الجامع لجميع الأسماء الحسنى، والصفات العلى، والله أعلم.

فإذا تدبر اسم الله عرف أن الله تعالى له جميع معاني الألوهية، وهي كمال الصفات والإنفراد بها، وعدم الشريك في الأفعال لأن المألوه إنما يؤله لما قام به من صفات الكمال فيحب ويخضع له لأجلها، والباري جل جلاله لا يفوته من صفات الكمال شيء بوجه من الوجوه، أو يؤله أو بعبد لأجل نفعه وتوليه ونصره فيجلب النفع لمن عبده فيدفع عنه الضرر، ومن المعلوم أنَّ الله تعالى هو المالك لذلك كله، وأنَّ أحداً من الخلق لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشورا فإذا تقرر عنده أنَّ الله وحده المألوه أوجب له أن يعلق بربه حبه وخوفه ورجاءه، وأناب إليه في كل أموره، وقطع الإلتفات إلى غيره من المخلوقين ممن ليس له من نفسه كمال ولا له فعال ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وقد سئل الشيخ رحمه الله عن الاسم الأعظم من أسماء الله هل هو اسم معين معروف أو اسم غير معين ولا معروف.

ص: 493

فأجاب: "بعض الناس يظن أن الاسم الأعظم من أسماء الله الحسنى لا يعرفه إلا من خصه الله بكرامة خارقة للعادة، وهذا ظن خطأ، فإن الله تبارك وتعالى حثنا على معرفة أسمائه وصفاته، وأثنى على من عرفها، وتفقه فيها، ودعاء الله بها دعاء عبادة وتعبد ودعا مسألة، ولا ريب أنّ الاسم الأعظم منها أولاها بهذا الأمر، فإنه تعالى هو الجواد المطلق الذي لا منتهى لجوده وكرمه، وهو يحب الجود على عباده، ومن أعظم ما جاد به عليهم تعرفه لهم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، فالصواب أنّ الأسماء الحسنى كلها حسنى، وكل واحد منها عظيم، ولكن الاسم الأعظم منها كل اسم مفرد أو مقرون مع غيره إذا دل على جميع صفاته الذاتية والفعلية أو دل على معاني جميع الصفات مثل:

الله، فإنه الاسم الجامع لمعاني الألوهية كلها، وهي جميع أوصاف الكمال، ومثل الحميد المجيد، فإن الحميد الاسم الذي دل على جميع المحامد والكمالات لله تعالى، والمجيد الذي دل على أوصاف العظمة والجلال ويقرب من ذلك الجليل الجميل الغني الكريم.

ومثل الحي القيوم، فإن الحي من له الحياة الكاملة العظيمة الجامعة لجميع معاني الذات، والقيوم الذي قام بنفسه، واستغنى عن جميع خلقه، وقام بجميع الموجودات، فهو الاسم الذي تدخل فيه صفات الأفعال كلها.

ومثل اسمه العظيم الكبير الذي له جميع معاني العظمة والكبرياء في ذاته وأسمائه وصفاته، وله جميع معاني التعظيم من خواص خلقه.

ومثل قولك: يا ذا الجلال والإكرام، فإن الجلال صفات العظمة، والكبرياء، والكمالات المتنوعة، والإكرام استحقاقه على عباده غاية الحب وغاية الذل وما أشبه ذلك.

ص: 494

فعلم بذلك أن الاسم الأعظم اسم جنس، وهذا هو الذي تدل عليه الأدلة الشرعية والاشتقاق، كما في السنن أنه سمع رجلاً يقول:"اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، فقال: "والذي نفسي بيده، لقد سألت الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى".

وكذلك الحديث الآخر حين دعا الرجل، فقال:"اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، المنان، بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام، ياحي! يا قيوم! فقال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى" (1) .

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (2) {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (3) رواه أبو داود والترمذي، فمتى دعا الله العبد باسم من هذه الأسماء العظيمة بحضور قلب ورقة وانكسار، لم تكد ترد له دعوة، والله الموفق".

3-

الأحد: (الواحد (4) الأحد)

قال رحمه الله:

(1) أخرجه أحمد (3/158) وأبو داود (1495) والنسائي (3/52) وابن ماجه (3858) والترمذي (3544) والحاكم (1/504) وصححه الألباني في صحيح أبي داود 1/279 ح (1326) .

(2)

البقرة (163) .

(3)

البقرة (255) .

(4)

ودليل هذا الإسم قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص: 1) .

ص: 495

"الواحد الأحد هو الذي توحّد بجميع الكمالات، وتفرّد بكل كمال، ومجد وجلال، وجمال، وحمد، وحكمة، ورحمة، وغيرها من صفات الكمال فليس له فيها مثيل ولا نظير، ولا مناسب بوجه من الوجوه فهو الأحد في حياته، وقوميته، وعلمه، وقدرته، وعظمته، وجلاله، وجماله، وحمده، وحكمته، ورحمته، وغيرها من صفاته، موصوف بغاية الكمال، ونهايته من كل صفة من هذه الصفات فيجب على العبيد توحيده، عقداً، وقولاً، وعملاً، بأن يعترفوا بكماله المطلق، وتفرده بالوحدانية، ويفردوه بأنواع العبادة".

4-

الأعلى: (العلي الأعلى)

قال رحمه الله تعالى: "من أسمائه الحسنى (العلي الأعلى) وذلك دال على أن جميع معاني العلو ثابتة لله من كل وجه، فله علو الذات.

وهو أنه مستو على عرشه، فوق جميع خلقه، مباين لهم، وهو مع هذا مطلع على أحوالهم، مشاهد لهم، مدبر لأمورهم الظاهرة والباطنة متكلم بأحكامه القدرية، وتدبيراته الكونية، وبأحكامه الشرعية.

وأما علو القدر فهو علو صفاته، وعظمتها فلا يماثله صفة مخلوق، بل لا يقدر الخلائق كلهم أن يحيطوا ببعض معاني صفة واحدة من صفاته، قال تعالى:{وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} (1) وبذلك يعلم أنه ليس كمثله شيء في كل نعوته وله علو القهر فإنه الواحد القهار الذي قهر بعزته وعلوه الخلق كلّهم، فنواصيهم بيده، وما شاء كان لا يمانعه فيه ممانع، وما لم يشأ لم يكن فلو اجتمع الخلق على إيجاد ما لم يشأه الله لم يقدروا، ولو اجتمعوا على منع ما حكمت به مشيئته لم يمنعوه، وذلك لكمال اقتداره، ونفوذ مشيئته وشدة افتقار المخلوقات كلها إليه من كل وجه.

فهو الذي على العرش استوى وعلى الملك احتوى، وبجميع صفات العظمة والكبرياء، والجلال والجمال وغاية الكمال اتصف وإليه فيها المنتهى".

5-

الأول: (الأول، والآخر، والظاهر، والباطن)

(1) طه (110) .

ص: 496

قال رحمه الله تعالى: "فسرها النبي صلى الله عليه وسلم تفسيراً كاملاً واضحاً فقال: "أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء" (1) إلى آخر الحديث.

ففسر كل اسم بكل معناه، ونفى عنه كل ما يضاده وينافيه فمهما قدر المقدرون وفرض الفارضون من الأوقات السابقة المتسلسلة إلى غير نهاية فالله قبل ذلك، وكل وقت لاحق مهما قدر وفرض الله بعد ذلك.

ولهذا لا يستحق اسم واجب الوجود إلا هو، فمن خصائصه أنه لا يكون إلا موجوداً كاملاً فلا يشاركه في وجوب الوجود أحد فوجوب وجوده بنعوته الكاملة في جميع الأوقات، وهو الذي أوجد الأوقات وجميع الموجودات، وكلها مستندة في وجودها وبقائها إلى الله.

فالأول: يدل على أن كل ما سواه حادث كائن بعد أن لم يكن، ويوجب للعبد أن يلحظ فضل ربه في كل نعمة دينية أو دنيوية، إذ السبب والمسبب منه تعالى.

والآخر: يدل على أنه هو الغاية، والصمد الذي تصمد إليه المخلوقات بتأهلها، ورغبتها، ورهبتها، وجميع مطالبها.

والظاهر: يدل على عظمة صفاته، واضمحلال كل شيء عند عظمته من ذوات وصفات وعلى علوه.

والباطن: يدل على اطلاعه على السرائر، والضمائر، والخبايا، والخفايا، ودقائق الأشياء، كما يدل على كمال قربه ودنوه، ولا يتنافى الظاهر، والباطن لأن الله ليس كمثله شيء في كل النعوت فهو العلي في دنوه القريب في علوه.

6-

الآخر:

7-

الباري: (الخالق، الباري، المصور)

قال رحمه الله تعالى: "الخالق، البارئ، المصور، الذي خلق جميع الموجودات وبرأها، وسواها بحكمته، وصورها بحمده وحكمته، وهو لم يزل ولا يزال على هذا الوصف العظيم".

8-

الباسط: (القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، المانع، المعطي، الضار، النافع)

(1) أخرجه مسلم (4/2084) كتاب الذكر والدعاء باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع.

ص: 497

قال رحمه الله تعالى: "القابض الباسط، الخافض الرافع، المعز المذل، المانع المعطي، الضار النافع".

"هذه الأسماء الكريمة من الأسماء المتقابلات التي لا ينبغي أن يُثنى على الله بها إلا كل واحد مع الآخر لأن الكمال المطلق من اجتماع الوصفين، فهو القابض للأرزاق والأرواح والنفوس، والباسط للأرزاق، والرحمة، والقلوب، وهو الرافع للأقوام القائمين بالعلم والإيمان الخافض لأعدائه، وهو المعز لأهل طاعته، وهذا عز حقيقي، فإن المطيع لله عزيز وإن كان فقيراً ليس له أعوان، المذل لأهل معصيته، وأعدائه ذلاً في الدنيا والآخرة فالعاصي وإن ظهر بمظاهر العز فقلبه حشوه الذل وإن لم يشعر به لانغماسه في الشهوات فإن العز كل العز بطاعة الله، والذل بمعصيته {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} (1){مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} (2){وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (3) وهو تعالى المانع المعطي فلا معطي لما منع ولا مانع لما أعطى وهو تعالى النافع لمن شاء من عباده بالمنافع الدينية والدنيوية، الضار لمن فعل الأسباب التي توجب ذلك.

وهذه الأمور كلها تبع لعدله، وحكمته، وحمده، فإن له الحكمة في خفض من يخفضه، ويذله، ويحرمه، ولا حجة لأحد على الله، كما له الفضل الخفي على من رفعه وأعطاه ويبسط له الخيرات.

فعلى العبد أن يعترف بحكمة الله، كما عليه أن يعترف بفضله ويشكره بلسانه وجنانه وأركانه.

(1) الحج (18) .

(2)

فاطر (10) .

(3)

المنافقون (8) .

ص: 498

وكما أنه هو المنفرد بهذه الأمور كلها جارية تحت أقداره، فإن الله جعل لرفعه وعطائه وإكرامه أسباباً، ولضد ذلك أسباباً من قام بها ترتبت عليه مسبباتها، وكل ميسر لما خلق له أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، وهذا يوجب للعبد القيام بتوحيد الله، والاعتماد على ربه في حصول ما يحب، ويجتهد في فعل الأسباب النافعة فإنها محل حكمة الله".

9-

الباطن:

10-

بديع السموات والأرض:

قال رحمه الله تعالى: "بديع السموات والأرض: أي خالقها على وجه قد أتقنهما، وأحسنهما على غير مثال سبق، ومبدعها في غاية ما يكون من الحسن، والخلق البديع، والنظام العجيب المحكم".

11-

البرّ: (البر، الوهاب، الكريم)

قال رحمه الله تعالى: "من أسمائه تعالى: البر الوهاب الكريم الذي شمل الكائنات بأسرها ببره، وهباته، وكرمه، فهو مولى الجميل، ودائم الإحسان، وواسع المواهب، وصفه البر وآثار هذا الوصف جميع النعم الظاهرة، والباطنة، فلا يستغني مخلوق عن إحسانه وبره طرفة عين، وتدل هذه الأسماء على سعة رحمته، ومواهبه التي عم بها جميع الوجود بحسب ما تقتضيه حكمته. وإحسانه عام وخاص:

فالعام المذكور في قوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً} (1) و {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء} (2){وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (3) .

وهذا يشترك فيه البر، والفاجر، وأهل السماء، وأهل الأرض، والمكلفون، وغيرهم.

والخاص: رحمته ونعمه على المتقين حيث قال: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ} الآية.

وقال: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (4) .

(1) غافر (7) .

(2)

الأعراف (156) .

(3)

النحل (53) .

(4)

الأعراف (56) .

ص: 499

وفي دعاء سليمان: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} (1) .

وهذه الرحمة الخاصة التي يطلبها الأنبياء وأتباعهم، تقتضي التوفيق للإيمان والعلم والعمل وصلاح الأحوال كلها، والسعادة الأبدية، والفلاح، والنجاح، وهي المقصود الأعظم لخواص الخلق.

12-

البصير:

قال المؤلف رحمه الله:

"البصير الذي أحاط بصره بجميع المبصرات في أقطار الأرض والسماوات، حتى أخفى ما يكون فيها فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، وجميع أعضائها الباطنة، والظاهرة، وسريان القوت في أعضائها الدقيقة، ويرى سريان المياه في أغصان الأشجار، وعروقها وجميع النباتات على اختلاف أنواعها، وصغرها، ودقتها، ويرى نياط عروق النملة، والنحلة، والبعوضة، وأصغر من ذلك، فسبحان من تحدث العقول في عظمته، وسعة متعلقات صفاته، وكمال عظمته، ولطفه، وخبره بالغيب، والشهادة والحاضر، والغائب، ويرى خيانات الأعين، وتقلبات الأجفان، وحركات الجنان، قال تعالى:{الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (2){يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (3){وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (4) أي مطلع، ومحيط علمه، وبصره، وسمعه بجميع الكائنات.

يبصر ما تحت الأراضين السبع، كما يبصر ما فوق السماوات السبع وأيضاً سميع بصير بمن يستحق الجزاء بحسب حكمته، والمعنى الأخير يرجع إلى حكمته.

(1) النمل (19) .

(2)

الشعراء (218-220) .

(3)

غافر (19) .

(4)

البروج (9) .

ص: 500